فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآية صفتي النبوة والرسالة لمحمد بن عبد اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه. ووصفت أصحابه بثماني صفات هي:
1- 2: الشدة والصلابة والعنف على الأعداء الكفار، والرحمة والرأفة والرفق والبر بالمؤمنين، فهم أسود غضاب عبوسون في وجه الكفار الذين يعادونهم، ضحوكون بشوشون في وجوه إخوتهم المؤمنين.
3- 4: يمتازون بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، مع وصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، واحتساب جزيل الثواب وهو الجنة عند اللَّه تعالى المشتملة على فضل اللَّه وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، فهم يطلبون بعملهم المخلص الجنة ورضا اللَّه تعالى.
5- علامتهم المميزة لهم النور والضياء في الدنيا والآخرة، والسمت الحسن، والخشوع والتواضع لله تعالى.
6- تلك الأوصاف وصفوا بها في كل من التوراة والإنجيل والقرآن.
7- كثرة الخير والبركة والنماء فيهم، فإنهم كانوا قلة ضعافا، ثم صاروا كثرة أشداء أقوياء، كمثل الزرع الذي ينبت من حوله الفراخ، ثم تقوى وتشتدّ وتكبر. ولقد فعل اللَّه هذا لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.
8- وعدهم اللَّه تعالى جميعا وأمثالهم المتبعين لهم بإحسان وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة بمغفرة الذنوب والثواب الذي لا ينقطع وهو الجنة. وقد وردت آيات أخرى وأحاديث كثيرة في فضل الصحابة، والنهي عن التعرض لهم بالإساءة، والصحابة كلهم عدول، وهم أولياء اللَّه تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. وفيما سبق ذكرت بعض الأحاديث، ومن قرأ الآية(26/209)
السابقة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [18] والآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب 33/ 23] وآيات سورة الحشر: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ.. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [8- 9] من قرأ ذلك عرف مدى ثناء اللَّه عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» .
وقد استدل الإمام مالك رحمه اللَّه بهذه الآية وَالَّذِينَ مَعَهُ.. على تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي اللَّه عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة رضي اللَّه عنهم، فهو كافر لهذه الآية، قال ابن كثير: ووافقه طائفة من العلماء رضي اللَّه عنهم على ذلك. والظاهر أنهم فسّاق.
قال بعض العلماء عن خلافات الصحابة والاقتتال الذي حدث بينهم:
«تلك دماء قد طهّر اللَّه منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته» .(26/210)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
مدنيّة، وهي ثماني عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الحجرات لأن اللَّه تعالى ذكر فيها تأديب أجلاف العرب الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات وهي حجرات (بيوت) نسائه المؤمنات الطاهرات رضي اللَّه عنهن، وكانت تسعا، لكل واحدة منهن حجرة، منعا من إيذاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوفيرا لحرمة بيوت أزواجه.
وتسمى أيضا سورة «الأخلاق والآداب» فقد أرشدت إلى آداب المجتمع الإسلامي وكيفية تنظيمه، وأشادت بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، ونودي فيها بوصف الإيمان خمس مرات، وأصول تلك الآداب خمسة وهي:
طاعة اللَّه والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعظيم شأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتثبت من الأخبار المنقولة، وتحريم السخرية بالناس، وتحريم التجسس والغيبة وسوء الظن.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الفتح من نواح ثلاث، هي:
1- في السورة المتقدمة حكم قتال الكفار، وفي هذه حكم قتال البغاة (أهل الثورة الداخلية) .(26/211)
2- ختمت السابقة بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وافتتحت هذه ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تذكيرا لهم بحرمتهم عند اللَّه عند ما وصفهم بكونهم أشداء رحماء، مما يقتضي محافظتهم على هذه الدرجة بطاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
3- في كلتا السورتين تشريف وتكريم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، خصوصا في مطلع كل منهما، والتشريف يقتضي من المؤمنين الرضا بما رضي به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلح الحديبية، وألا يتركوا شيئا من احترامه قولا وفعلا.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسابقتها أحكام شرعية لكونهما مدنيتين، وهي أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من التربية القوية، والأخلاق الرصينة، حتى إنها سميت «سورة الأخلاق» فهي في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وآدابها نوعان: خاص وعام.
أما الآداب الخاصة: فهي ماله علاقة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته. وقد ابتدأت السورة بها، فأوجبت طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وحذرت من المخالفة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا.. ثم أمرت بخفض الصوت أثناء خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إجلالا له وهيبة منه وتعظيما لقدرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ.. ثم طالبت المؤمنين بخطاب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفة النبوة والرسالة، لا باسمه وكنيته تعظيما واحتراما له، وجعلت خفض الصوت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من التقوى، وذمّت من يناديه من وراء حجرات نسائه كعيينة بن حصن وأشباهه، وذكرت السورة في آخرها ذمّ الامتنان على اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإيمان: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ...(26/212)
ثم تحدثت عن الآداب الاجتماعية العامة: وهي المتصلة بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، مما فيه تقرير فضيلة وذم رذيلة، لإقامة دعائم المجتمع الفاضل.
فأمرت المؤمنين بالتثبّت من الأخبار وعدم الإصغاء للإشاعات التي يروجها الفسّاق ويتناقلونها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ.. وأشادت بمقتضى الإيمان، وكرّهت الكفر والفسوق والعصيان.
ثم أبانت طريق فض المنازعات الداخلية بين فئتين متقاتلتين من المؤمنين وهو الإصلاح، وقتال الفئة الباغية (البغاة) حتى تعود لصف الجماعة والوحدة:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وأعلنت قيام رابطة الإخاء والود بين المؤمنين، وحذرت من تفكك الجماعة المؤمنة وإثارة النزاع بين أفرادها، وتوليد الأحقاد والضغائن والكراهية بسبب السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، سواء بين الرجال أو النساء، أو بسبب سوء الظن بالمسلم والتجسس (تتبع العورات) والغيبة والنميمة.
ثم أعلنت مبدأ الإخاء الإنساني، والمساواة بين الشعوب والأفراد من مختلف الأجناس والألوان والعناصر، فلا عداوة ولا طبقية ولا عنصرية، وإنما التفاضل بالتقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق.
وختمت السورة بالكلام عن الأعراب، فميّزت بين الإيمان والإسلام، وذكرت غرر صفات المؤمنين وشروط المؤمن الكامل (الإيمان بالله ورسوله، والجهاد بالمال والنفس في سبيل اللَّه) وعابت المنّ على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإسلام، ووضعت ضابط احترام القيم الدينية والأخلاقية، وهو رقابة اللَّه جل جلاله لعباده، وعلمه بغيب السموات والأرض وأهلهما، وبصره بجميع أعمال الخلق.(26/213)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والتأدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الإعراب:
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ الكاف: في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: جهرا كجهر بعضكم. وأَنْ تَحْبَطَ: في موضع نصب: بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأن تحبط، ويجوز أن يكون في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف.
أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ.. أُولئِكَ: إما خبر إِنَّ، أو مبتدأ، وخبره لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والجملة منهما خبر إِنَّ. ويجوز أن يكون أُولئِكَ صفة الَّذِينَ ويكون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.. خبر إِنَّ. ومَغْفِرَةٌ: إما مرفوع بالظرف، أو مبتدأ، والظرف خبر مقدم عليه، وهذا أوجه.
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أَكْثَرُهُمْ: مبتدأ، ولا يَعْقِلُونَ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ.
البلاغة:
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ استعارة تمثيلية، شبّه حال الذين يبدون آراءهم أمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحال من تقدم للسير أمام ملك أو حاكم عظيم، وكان عليه أدبا أن يسير خلفه.(26/214)
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ تشبيه مرسل مجمل، لوجود أداة التشبيه.
المفردات اللغوية:
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تقدّموا أمرا أو حكما أو رأيا دونهما، أو لا تتقدموا، مأخوذ من مقدّمة الجيش: من تقدم منهم، والمراد: لا تقولوا بخلاف القرآن والسنة، والمراد ب بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أمامهما وَاتَّقُوا اللَّهَ خافوه واحذروا مخالفة أمره ونهيه في التقديم أو مخالفة الحكم وغيرهما سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم.
لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي إذا كلمتموه، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أي إذا ناجيتموه، فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا إجلالا له، وخاطبوا ب «يا أيها النبي» أو «يا رسول اللَّه» . وتكرير النداء بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لمزيد الاستبصار وضبط النفس، وزيادة الاهتمام به والتعظيم له أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي لئلا «1» أو كراهة وخشية أن تحبط، أي يبطل ثواب أعمالكم، لأن في رفع الصوت والجهر استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط إذا ضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة.
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها ويلينونها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب أو مخافة مخالفة النهي امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ اختبرها، والمراد: طهرها ونقّاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة لِلتَّقْوى أي مرّنها على التقوى، وأعدها لها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب عظيم لغضهم الصوت وسائر طاعاتهم، وتنكير أَجْرٌ للتعظيم.
مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أي من خلف وخارج غرف نسائه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جمع حجرة: وهي قطعة من الأرض تحجّر بحائط ونحوه مثل الغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة أمام منصب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي لو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال، لما فيه من الأدب وتعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
(1) قال الزجاج: التقدير: لأن تحبط، فاللام المقدّرة لام الصيرورة.(26/215)
سبب النزول:
نزول الآية (1) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا..: أخرج البخاري والترمذي وغيرهما عن ابن أبي مليكة أن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنه أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر:
بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر:
ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي أن الآيات نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن البصري: أن أناسا ذبحوا قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحا، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ...
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة: أن أناسا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
نزول الآية (2) :
لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل اللَّه: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية.
وروي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس كان في أذنه وقر، وكان(26/216)
جهوري الصوت، وكان إذا كلّم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيتأذّى بصوته، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
نزول الآية (3) :
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ:
أخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عدي بن العجلان، فقال:
ما يبكيك؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعا به، فقال: أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية.
والقصة مروية أيضا في الصحيحين عن أنس بن مالك.
وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كأخي السّرار «1» ، فأنزل اللَّه تعالى في أبي بكر: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
نزول الآية (4) :
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ..: أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعلوا ينادون:
يا محمد، يا محمد، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية.
__________
(1) السرار: المسارّة، أي كصاحب السرار، أو كمثل المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف.(26/217)
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة: أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذاك هو اللَّه، فنزلت:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ الآية. وهو خبر مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء وغيره عند الترمذي، بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن.
وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات، فلم يجبه، فقال: يا محمد، إن حمدي، لزين، وإن ذمي لشين، فقال «ذلكم اللَّه» .
وقال محمد بن إسحاق وغيره: نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم.
التفسير والبيان:
هذه باقة من الآداب الخاصة في معاملة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل المؤمنين على أساس من التوقير والاحترام والتعظيم.
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يا أيها المؤمنون إيمانا صحيحا، لا تتقدموا ولا تتعجلوا بقول أو حكم أو قضاء في أمر ما أو فعل قبل قضاء اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لكم فيه، فربما تقضون بغير حق، واتقوا اللَّه في كل أموركم، وراقبوه في عدم تخطي ما لم(26/218)
يأذن به اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن اللَّه سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم، لا يخفى عليه شيء منكم.
وهذا نهي واضح عن مخالفة كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر الرسول، لأنه مبلّغ عن اللَّه تعالى شرعه ودينه. قال ابن عباس في الآية:
لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من شرائع دينكم.
والآية شاملة أيضا ترتيب مصادر الاجتهاد،
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه، حيث قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟ قال: بكتاب اللَّه تعالى، قال فإن لم تجد؟
قال: بسنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرضي رسول اللَّه»
وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي اللَّه ورسوله. والخلاصة: هذا أدب شامل القول والفعل والاجتهاد، ثم ذكر اللَّه تعالى أدبا في القول فقال:
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله إذا تكلمتم مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن رفع الصوت يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، وخفض الصوت وعدم رفعه من التعظيم والتوقير. وهذا أدب ثان أدّب اللَّه تعالى به المؤمنين، وهو أدب محمود مع كل الناس أيضا.
3- وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي وإذا كلمتموه فخاطبوه بالسكينة والوقار، خلافا لما تعتادونه من الجهر بالقول الدائر بينكم، ولا تقولوا: يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له،(26/219)
وتقديرا لمهمته ورسالته التي يبلغكم بها في سكون وهدوء وعدم انزعاج وتبرم نفسي. وهذا أدب ثالث.
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي نهاكم اللَّه عن الجهر غير المعتاد وعن رفع الصوت خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو أن يؤدي الاستخفاف به إلى الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك، كما
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن بلال بن الحارث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» .
وبعد أن حذر من خطر المخالفة، رغّب اللَّه تعالى في خفض الصوت وحث عليه قائلا:
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يخفضون أصواتهم في أثناء كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مجالسه، أخلص اللَّه قلوبهم للتقوى، ومحّصها، وجعلها أهلا ومحلا، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه، فكذلك هؤلاء المتأدبون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، طهر اللَّه قلوبهم من كل قبيح، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. ونحو الآية: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح 48/ 9] .
روى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي اللَّه عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.(26/220)
ثم ذم اللَّه تبارك وتعالى الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلف أو قدام الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال تعالى مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي إن الذين ينادونك من بعيد، من وراء حجرات (بيوت) نسائك، وهم جفاة بني تميم أكثرهم جهال لا يعقلون الأصول والآداب والأشياء، ولا يدركون ما يجب لك من التعظيم والاحترام. وقوله: أَكْثَرُهُمْ إما أن يراد به الكل، لأن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام، أو يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورعاية جانبه الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب. وهذا حث على التوبة والإنابة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجوب طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتقديم حكم القرآن والسنة على ما سواهما.
2- تعليم العرب وغيرهم مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، إذ كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتلقيب الناس.
3- قال القرطبي وابن العربي: قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإيجاب اتباعه والاقتداء(26/221)
به. وربما احتج نفاة القياس بهذه الآية، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشريعة، فليس فيه تقديم بين يديه «1» .
4- الأمر بالتقوى وإيجابها عام في كل الأوامر والنواهي الشرعية، ومنها التقدم بين يدي اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم المنهي عنه، واللَّه يراقب الناس، فهو سميع لأقوالهم، عليم بأفعالهم.
5- يجب خفض الصوت أثناء مخاطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والامتناع من الجهر بالأصوات أعلى من صوته، وإلا لم يتحقق من المؤمنين الاحترام الواجب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وليس المراد النهي عن الجهر مطلقا بحيث يلزم الهمس، وإنما النهي عن جهر مخصوص مقيد بصفة، وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب عنها.
6- ويجب أيضا على المؤمنين ألا يخاطبوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقولهم: يا محمد، ويا أحمد، ولكن: يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له.
والهدف من هذين الواجبين تعظيم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته.
7- قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه اللَّه تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 302 وما بعدها، أحكام القرآن: 4/ 1701 وما بعدها.(26/222)
[الأعراف 7/ 204] وكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه «1» .
8- إن النهي المذكور عن رفع الصوت هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ويوقّر الكبراء. أما الصوت المرفوع الذي يقصد به الاستخفاف والاستهانة، فلا شك أنه كفر. وأما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو ونحو ذلك، فليس منهيا عنه، لأنه لمصلحة، ففي الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما، فصاح العباس:
يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته.
9- إن مخالفة النهي في الآية برفع الصوت أكثر من الحالة المتوسطة المعتادة يؤدي إلى إحباط الأعمال وإبطال الثواب. وليس قوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ويكون قوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به.
10- إن الذي يخفضون أصواتهم عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له، أولئك الذين اختص اللَّه قلوبهم للتقوى، وطهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من اللَّه والتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم وهو الجنة.
11- إن أعراب بني تميم الذين وفدوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا مسجد المدينة، ونادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين،
__________
(1) أحكام القرآن: 4/ 1703. [.....](26/223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وذمّنا شين، هم قوم جهلة ذوو طباع جافة قاسية. وكانوا سبعين رجلا، وكان المنادي منهم الأقرع بن حابس، في رواية الترمذي عن البراء بن عازب، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نام للقائلة، جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر، فأعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفهم، وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء.
وقال مقاتل: كانوا تسعة عشر: منهم قيس بن عاصم، والزّبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن، وهو الأحمق المطاع.
12- لو انتظروا خروجه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.
13- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حث على التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى.
الآداب العامة
- 1- وجوب التثبت من الأخبار
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)(26/224)
الإعراب:
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أَنْ تُصِيبُوا: في تقديره وجهان: إما كراهية أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا. وبِجَهالَةٍ: حال من فاعل تبينوا، أي جاهلين.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أن وما بعدها سادّ مسدّ مفعولي اعْلَمُوا.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ إما مفعول لأجله، أو مصدر مؤكد لما قبله.
البلاغة:
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ التفات عن الخطاب للغيبة بعد قوله: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.
بين حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وبين وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ما يسمى بالمقابلة.
المفردات اللغوية:
فاسِقٌ خارج عن حدود الدين أو الشرع، مأخوذ من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج من قشره، والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه بِنَبَإٍ خبر فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا بيان الحقيقة ومعرفة الصدق من الكذب، وقرئ: فتثبتوا من الثبات أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً أي خشية ذلك أو كراهة إصابتكم فَتُصْبِحُوا تصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ من الخطأ بالقوم نادِمِينَ مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي فلا تقولوا الباطل، فإن اللَّه يخبره بالحال لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ الذي تخبرون به على خلاف الواقع لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك والإثم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.. استدراك ببيان عذرهم، وهو أنهم من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم الكفر، حملهم على ذلك لما سمعوا قول الفاسق وَزَيَّنَهُ حسّنه الْكُفْرَ تغطية نعم اللَّه تعالى بجحودها الْفُسُوقَ الخروج عن الحد الْعِصْيانَ المخالفة أُولئِكَ البعض المتبينون هُمُ الرَّاشِدُونَ الثابتون على دينهم، وهذه جملة معترضة، والخطاب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مأخوذ من الرشاد: وهو إصابة الحق واتباع طريق الاستقامة.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل لقوله: حَبَّبَ وَكَرَّهَ فإن التحبيب والرشد فضل من اللَّه وإنعام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ في إنعامه عليهم بالتوفيق.(26/225)
سبب النزول: نزول الآية (6) :
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة.
أخرج ابن جرير وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن أبي الدنيا وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس: أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني المصطلق مصدّقا «1» ، وكان بينهما إحنة «2» ، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال: إن القوم همّوا بقتلي، ومنعوا صدقاتهم، فهمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغزوهم، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم، وقالوا: يا رسول اللَّه، سمعنا برسولك، فخرجنا نكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاتهمهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف علي رضي اللَّه عنه، فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد، فوجدهم منادين بالصلاة، متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع.
ولا خلاف في أن الشخص الذي جاء بالنبإ هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، قال الحسن البصري: فو اللَّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
وأكد الرازي ذلك بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع: المراد به
__________
(1) المصدّق: الذي يأخذ صدقات (زكوات) الغنم.
(2) الإحنة: الحقد، جمع إحن.(26/226)
من خرج عن ربقة الإيمان، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [المنافقون 63/ 6] وقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف 18/ 50] وقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة 32/ 20] «1» .
لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمي فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة.
المناسبة:
بعد أن أمر اللَّه تعالى المؤمنين بأمرين: وهما طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخفض الصوت عند الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لبيان وجوب احترامه، أردفه بأمر ثالث وهو وجوب التثبت من الأخبار، والتحذير من الاعتماد على مجرد الأقوال، منعا من إلقاء الفتنة بين أفراد المؤمنين وجماعتهم. وهذا أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينها.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أي يا أيها الذين صدقوا باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، إن أتاكم فاجر لا يبالي بالكذب بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في الأمر والخبر لتتضح الحقيقة وتظهر، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك، مغتمين له، متمنين عدم وقوعه.
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 119(26/227)
وفي تنكير فاسِقٌ وبِنَبَإٍ دلالة على العموم في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ، فتوقفوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه «1» .
والآية دالة على أن خبر الواحد العدل حجة، وشهادة الفاسق لا تقبل.
ثم ذكّرهم بوجود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينهم ليعظموه ويسألوه، فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي اعلموا أن معكم رسول اللَّه، فعظموه ووقروه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبين حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار، وتشيرون عليه من الآراء غير الصائبة، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت، وهو التعب والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل اتضاح الأمور، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر والتأمل فيه.
وإنما قال: يُطِيعُكُمْ بلفظ الاستقبال دون: أطاعكم، للدلالة على استمراره في التثبت والتحقق مما ينقل إليه من الأخبار، بدليل قوله: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء، فلو أرادوا منه الاستمرار في طاعته لهم، لوقعوا في الإثم والهلاك.
وفي قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب، وإشارة إلى تصويب رأي بعضهم، ولهذا استدرك مشيرا إلى رأي بعضهم في ضرورة التريث إلى أن يتبين أمر بني المصطلق، فقال:
__________
(1) الكشاف: 3/ 149(26/228)
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي ولكن اللَّه حبّب أي قرّب الإيمان إلى بعضكم، وإلا لم يحسن الاستدراك ب لكِنَّ فلم يقع في ورطة التسرع في الأخبار، وعدم التثبت فيها، وكانوا أبرياء من اتهام الآخرين، لأن اللَّه جعل الإيمان أحب الأشياء إليكم، وحسّنه بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبكم، وجعل كلا من الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) مكروها عندكم.
وهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين استقاموا على طريق الحق، ومقتضى الشرع، وأدب الدين، فلم ينزلقوا في اتهام غيرهم دون تثبت.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي إن اللَّه حبّب إليكم الإيمان، وكرّه إليكم الأمور الثلاثة المتقدمة تفضلا منه عليكم، وإنعاما من لدنه، واللَّه عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
1- وجوب التثبت من الأخبار المنقولة والروايات المروية، أخذا بالحيطة والحذر، ومنعا من إيذاء الآخرين بخطإ فادح، فيصبح المتسرع في الحكم والتصديق نادما على العجلة وترك التأمل والتأني. لذا
كان نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان» «1» .
2- في هذه الآية: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ دليل على قبول خبر الواحد إذا
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن انس بن مالك، وهو ضعيف.(26/229)
كان عدلا، لأنه إنما أمر المسلم في الآية بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه، بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، فالفسق علة التبين، فإن لم يوجد لم يكن علة. واستثنى الإجماع والدعاوي والإنكار والإقرار لغيره بحق على نفسه وإثبات حق مقصود على الغير أي أمور المعاملات، كأن يقال: أرسل فلان إليك كذا أو هذا مالي، ولو كان المخبر كافرا. أما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون الكافر وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها، فيلي تزويجها، وإذا ولي المال فالنكاح أولى، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفّرة، وبها يحمي الحريم. ويرى الحنفية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. والخلاصة: أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق وإثبات أحكام الدين في غير الاعتقاد.
3- استدل بعضهم بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، كما قال الألوسي. ومذهب الحنفية: أن الفاسق لا تقبل شهادته، وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه «1» .
4- استدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأن الآية دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول.
5- في الآية أيضا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم (أي اليقين) بدليل وجوب التثبت فيه، إذ لو كان يوجب العلم بحال، لما احتيج فيه إلى التثبت «2» .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 398
(2) المرجع السابق: ص 399(26/230)
6- قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوّز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبّة مال، كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين؟! ومن صلّى خلف الفاسق تجب عليه الإعادة سرا في نفسه، ولكن لا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة خلف من لا يرضى من الأئمة «1» .
7- إذا كان الفاسق واليا ينفذ من أحكامه ما وافق الحق، ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال.
8- لا خلاف في قبول قول الفاسق إذا كان رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله أو إذن يعلمه، وهذا جائز للضرورة الداعية إليه. لكن لا يقبل قوله فيما إذا تعلق بقول الفاسق حق للغير.
9- استدل بعضهم بالآية على أن من الصحابة من ليس بعدل، لأن اللَّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنها نزلت فيه، ولا يمكن إخراج سبب النزول من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق. وقال أكثر العلماء:
الصحابة كلهم عدول.
10- الفاسق نوعان: فاسق غير متأول، وهذا لا خلاف في أنه لا يقبل خبره. وفاسق متأول كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وفي هذا خلاف، فمن الأصوليين كالشافعي: من ردّ شهادته وروايته معا، ومنهم من قبلهما وهم جمهور الفقهاء والمحدثين، لأن رد شهادته لتهمة الكذب، والفسق اعتقاد لا يمنع الصدق، وأما الرواية فمن احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهو على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد تحرزا.
11- إن قضى الفاسق بما يغلب على الظن، كالقضاء بالشاهدين العدلين، لم
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1703 وما بعدها.(26/231)
يكن ذلك عملا بجهالة، وإنما العمل بجهالة: قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقوله.
12- إن وجود الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن، فيمنع التسرع في إصدار الأحكام، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه، لكان خطأ، ووقع في العنت (الإثم والمشقة والهلاك) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ويكون المراد من قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ألا تكذبوا، فإن اللَّه تعالى يعلم رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أنباءكم، فتفتضحون.
13- ذكر اللَّه الإيمان وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم وهي الكفر والفسوق والعصيان، والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح (الأعضاء) . والكفر: هو الإنكار وهو يقابل الإذعان بالجنان، والفسوق يقابل الإقرار باللسان، والعصيان يقابل العمل البدني، فهو ترك العمل بالطاعات والأحكام الشرعية ويشمل جميع المعاصي وهذا يعني أن المؤمن المتثبت لا يكذب.
14- استدلت الأشاعرة بقوله حَبَّبَ وَكَرَّهَ على مسألة خلق الأفعال، أي أن اللَّه تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم، لا شريك له، لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 96] .
وهذا رد على القدرية «1» والإمامية والمعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق
__________
(1) الجبرية والقدرية: فرقتان شاذتان في العقيدة خرجا عما عليه جمهور العلماء، تقول الأولى:
إن اللَّه تعالى مجبر للعبد على فعله، وليس لإرادة الإنسان واختياره دخل حقيقي فيها وتقول الثانية: إن العبد خالق لأفعاله، دون أن يكون لله عليه سلطان فيها (الشافي شرح أصول الكافي للشيخ عبد اللَّه المظفر: 2/ 236، والكافي تأليف العلامة محمد بن يعقوب الكليني الرازي) .(26/232)
أفعال نفسه. ويؤولون آية حَبَّبَ ... وَكَرَّهَ على اللطف والتوفيق.
15- إن الذين وفقهم اللَّه، فحبّب إليهم الإيمان، وكرّه إليهم الكفر، أي قبّحه عندهم هم الراشدون، واللَّه فعل ذلك بهم فضلا منه ونعمة من لدنه، والفضل: ما في خزائن اللَّه من الخير، وهو مستغن عنه، والنعمة: ما يصل من الفضل إلى العبد، وهو ما يحتاج إليه.
وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتزموا إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد، وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
16- إن اللَّه تعالى عليم بكل شيء، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، ويأمره بما تقضي به الحكمة، فيجب الوقوف عند أمره، واجتناب الاقتراح عليه.
17- كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه يدعو دائما بمضمون الآية [7] أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.(26/233)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
اللهم أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا.
اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق» .
- 2- وسائل فض المنازعات الداخلية حكم البغاة
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
الإعراب:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا طائِفَتانِ: مرفوع بفعل مقدر، تقديره: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، ولا يجوز أن يحذف الفعل مع كلمات الشرط العاملة إلا مع «إن» لأنها الأصل في حروف الشرط، ويثبت للأصل ما لا يثبت للفرع.(26/234)
والقياس: اقتتلتا، كما قرأ ابن أبي عيلة، أو اقتتلا كما قرأ عبيد بن عمير، على تأويل الرهطين أو النفرين، وإنما قال: اقتتلوا في قراءة حفص حملا على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، فكل طائفة جماعة، والطائفة أقل من الفرقة.
البلاغة:
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بينهما طباق.
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ بينهما جناس الاشتقاق.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، وأصله المؤمنون كالإخوة في التراحم.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتحضيض.
المفردات اللغوية:
طائِفَتانِ تثنية طائفة: الجماعة من الناس اقْتَتَلُوا جمع الفعل، لأن الطائفتين في معنى القوم أو الناس، أو لأن أقل الجمع اثنان. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعوة إلى حكم اللَّه، وامنعوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب بَغَتْ تعدت وتجاوزت الحد وجارت، من البغي: الظلم تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أزيلوا آثار النزاع بضمان المتلفات بالإنصاف وَأَقْسِطُوا اعدلوا في كل الأمور من الإقساط: إزالة القسط وهو الجور، والقاسط: الجائر، كما في آية: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن 72/ 15] يقال: أقسط: عدل، وقسط: أخذ حق غيره، والمقسط: العادل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، أي يحمد فعلهم بحسن الجزاء.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين والعقيدة والإيمان الموجب للحياة الأبدية، فالأخوة في الدين أقوى وأدوم من أخوة النسب والصداقة، وهو تعليل للأمر بالإصلاح، لذا كرر الإشارة إلى الإخاء مرتبا عليه الأمر بالإصلاح، فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا تنازعا، وخص الاثنين بالذكر، لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق، وقرئ: إخوتكم وإخوانكم وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة حكمه والإهمال فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم.(26/235)
سبب النزول: نزول الآية (9) :
وَإِنْ طائِفَتانِ..: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: «أنه قيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا نبي اللَّه، لو أتيت عبد اللَّه بن أبيّ، فانطلق إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فبال الحمار فقال: إليك عني، فو اللَّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد اللَّه بن رواحة: واللَّه، إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللَّه رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنّعال، فأنزل اللَّه فيهم: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..» .
وقيل: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد اللَّه بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد اللَّه بن رواحة، فتعصب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبيّ أوسيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها، وجعلها في علّية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، وأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر اللَّه تعالى.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعون إلى الحكم، فيأبوا أن يجيبوا، فأنزل اللَّه: وَإِنْ طائِفَتانِ ...(26/236)
وأخرج ابن جرير أيضا عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مدارأة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر:
لآخذنه عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعا ليحاكمه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأبى، فلم يزل الأمر، حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
والخلاصة: يمكن أن تتعدد أسباب النزول، والوقائع المذكورة متشابهة.
المناسبة:
بعد أن حذر اللَّه تعالى المؤمنين من نبأ الفاسق، أبان هنا ما يترتب على خبره من الفتنة والنزاع، وربما الاقتتال، فطلب تعالى الإصلاح بالوسائل السلمية بين المتنازعين كالنصيحة والوعظ والإرشاد والتحكيم، فإن بغت إحدى الفئتين على الأخرى، فتقاتل الباغية الظالمة. ثم علل الأمر بالصلح بوجود رباط الأخوة بين الفريقين، ثم أمر الوسطاء والأطراف المتنازعة بتقوى اللَّه وطاعة أوامره.
التفسير والبيان:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم اللَّه والإرشاد وإزالة الشبه وأسباب الخلاف.
والتعبير بإن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع، فإنما هو نادر قليل. والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب.
وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تخرج من(26/237)
الإيمان، خلافا للمعتزلة والخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار.
وثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيّد، ولعل اللَّه تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» .
فكان كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم أصلح اللَّه تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تذعن لحكم اللَّه وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم اللَّه وما أمر به من عدم البغي. والقتال يكون بالسلاح وبغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة.
فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي رجعت الفئة الباغية عن بغيها، بعد القتال، ورضيت بأمر اللَّه وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم اللَّه، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى.
واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن اللَّه يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور.
أخرج ابن أبي حاتم والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: إن(26/238)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا» «1» .
وأخرج مسلم والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المقسطون عند اللَّه تعالى يوم القيامة على منابر من نور، على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولّوا» .
ثم أمر اللَّه تعالى بالإصلاح في غير حال القتال ولو في أدنى اختلاف، فقال:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي تتميما للإرشاد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر اللَّه بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى اللَّه وخشيته والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي.
ويلاحظ أنه قال: اتقوا اللَّه عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل.
وكلمة إِنَّمَا للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام، لا بين الكفار. فإن كان
__________
(1) إسناده جيد قوي، ورجاله على شرط الصحيح.(26/239)
الكافر ذميا أو مستأمنا وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقا إن كان خصمه حربيا.
وجاءت أحاديث كثيرة تؤيد أخوة الدين،
جاء في الصحيح: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه»
وفي الصحيح أيضا: «واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»
وفي الصحيح كذلك: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضا، وشبّك بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
وأخرج أحمد عن سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن المؤمن من أهل الأديان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- يجب على ولاة الأمور وحكام الدول الإسلامية الإصلاح بين فئتين متقاتلتين مسلمتين، بالدعوة إلى كتاب اللَّه لهما أو عليهما، وبالنصح والإرشاد، والجمع والتوفيق بين وجهات النظر.
2- فإن تعدّت إحدى الفئتين ولم تستجب إلى حكم اللَّه وكتابه، وتطاولت وأفسدت في الأرض، فيجب قتالها باستعمال الأخف فالأخف حتى الفيئة إلى أمر اللَّه، أي الرجوع إلى كتابه، فإن رجعت وجب حمل الفئتين على الإنصاف والعدل، فإن اللَّه يحب العادلين المحقين، ويجازيهم أحسن الجزاء.
والفئة الباغية في اصطلاح الفقهاء: فرقة خالفت الإمام بتأويل سائغ في(26/240)
الظاهر، باطل بطلانا مطلقا بحسب الظن لا القطع. أما المرتد فتأويله باطل قطعا، فليس باغيا، وكذا الخوارج في الاعتقاد دون قتال المسلمين وهم صنف من المبتدعة يكفّرون من أتى بمعصية كبيرة، ويسبّون بعض الأئمة، ليسوا بغاة، وكذلك مانع حق الشرع للَّه أو للعباد ليس باغيا، لأنه لا تأويل له.
ولا بد أن يكون للبغاة شوكة وعدد وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي.
وأكثر العلماء على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة، لقوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. وقال علي رضي اللَّه عنه: إخواننا بغوا علينا، ولكنهم يخطئون فيما يفعلون، ويذهبون إليه من التأويل، مثل الخوارج الذين خرجوا على عليّ رضي اللَّه عنه، ومثل معاوية وأتباعه كانوا بغاة للحديث المشهور أن عمارا تقتله الفئة الباغية، ومثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر.
3- في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دليل على أن المؤمن بارتكاب المعصية الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين وأكل الربا وأكل مال اليتيم لا يخرج عن كونه مؤمنا، لأن الباغي جعل من إحدى الطائفتين، وسماهما تعالى مؤمنين.
4- إن قتال الفئة الباغية لدفع الصائل. وفصل العلماء الحكم في البغاة فقالوا: إن اقتتلت فئتان على البغي منهما جميعا، أصلح بينهما، فإن لم يصطلحا وأقامتا على البغي، قوتلتا.
وإن كانت إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن ترضى بالصلح، فإن تم الصلح بينها وبين المبغي عليها، وجب عقده بالقسط والعدل. فإن أثيرت شبهة أزيلت بالحجة النيّرة والبرهان القاطع الدال على الحق. وفي الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم(26/241)
يقاتلوا، لأنه تعالى قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا.. «1» .
5- في الآية دليل واضح على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى إبطال قول من منع من قتال المؤمنين، محتجا بحديث أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود:
«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» . ونص الآية صريح في الرد على هذا، 6- قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإياها عنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
بقوله: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» «2»
أي عمار بن ياسر.
7- لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة.
8- الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلّف قوم من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن هذا الأمر، كسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمرو، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، وصوّب ذلك علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عملهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.
9- قوله تعالى: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ يدل على أن من العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستمرار في البغي.
10- ما يبدأ به البغاة: إذا خرجت على الإمام العدل فئة خارجة باغية
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 317، أحكام القرآن للجصاص: 3/ 401
(2) أحكام القرآن: 4/ 1705(26/242)
ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، وهو الحق الذي دعا اللَّه إليه قبل القتال، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم، ولا يذفّف «1» على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم «2» ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليّه لم يتوارثا، ولا يرث قاتل عمدا على حال. وأما الذين لهم تأويل بلا شوكة فيلزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال كقطاع الطرق إذا قاتلوا.
11- ما استهلكه البغاة: إن ما استهلك أثناء تجمع البغاة والخوارج للقتال والتفرق عند انتهاء الحرب من دم أو مال، لا ضمان فيه بالإجماع.
12- أموال البغاة وأسراهم وجرحاهم: اختلف الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فقال محمد بن الحسن: لا تكون أموالهم غنيمة، وإنما يستعان بسلاحهم وكراعهم (خيولهم) على حربهم، فإذا انتهت الحرب رد المال إليهم.
وروي عن أبي يوسف أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح، فهو فيء يقسم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.
وقال مالك والأوزاعي والشافعي: ما استهلكه الخوارج من دم أو مال، ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ إليهم.
وقال أبو حنيفة: يضمنون.
وأما أسراهم وجرحاهم فلا يقتلون.
__________
(1) تذفيف الجريح: الإجهاز عليه.
(2) الذراري: النساء والأطفال. [.....](26/243)
والقول الأصح: ما فعله الصحابة في حروبهم، لم يتبعوا مدبرا، ولا ذفّفوا على جريح، ولا قتلوا أسيرا، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة في ذلك،
قال ابن عمر قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا عبد اللَّه أتدري كيف حكم اللَّه فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: اللَّه ورسوله أعلم، فقال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها» وأخرج الحاكم مثل ذلك عن ابن مسعود، وروي مثله عن ابن عباس.
أما ما كان قائما رد بعينه.
13- أقضية البغاة وأحكامهم: لو تغلب البغاة على بلد، فأخذوا الصدقات، وأقاموا الحدود، وحكموا فيهم بالأحكام، لم تثنّ عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة.
وأما أقضيتهم في الخصومات، فقال أبو يوسف ومحمد: لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه، إلا أن يوافق رأيه، فيستأنف القضاء فيه «1» .
14- لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذا كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوا وأرادوا اللَّه عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد أمرنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بخير، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن سبّهم، وأن اللَّه غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة 2/ 134] . وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: «تلك دماء قد طهّر اللَّه منها يدي، فلا أخضّب بها لساني» أي
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 403(26/244)
تحرزا من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. وقال ابن فورك: إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات، كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف.
15- إنما المؤمنون إخوة في الدين والحرمة، لا في النسب، ذكر القرطبي:
أخوّة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوّة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب «1» .
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا «2» ، وكونوا عباد اللَّه إخوانا» .
وقد سبق إيراد أحاديث كثيرة في تآخي المسلمين، فالمسلمون إخوة، وكأن الإسلام أب لهم، ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
16- في آية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ والتي قبلها دليل كما تقدم على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن اللَّه تعالى سماهم إخوة مؤمنين، مع كونهم باغين، قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- وهو القدوة- عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفّين: أمشركون هم؟
قال: لا، من الشرك فرّوا، فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون اللَّه إلا قليلا، قيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
وفي هذه الآية دليل على جواز إطلاق لفظ الإخوة بين المؤمنين من جهة
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 322
(2) التحسس: الاستماع لحديث القوم، والتجسس: تتبع العورات والمعايب، والتناجش: أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها.(26/245)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
الدين. وقوله: فَأَصْلِحُوا دليل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما «1» .
- 3- آداب المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة
[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
الإعراب:
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ الْفُسُوقُ: بدل من الِاسْمُ، لإفادته أنه فسق.
وَلا تَجَسَّسُوا أصله: تتجسسوا، فحذف منه إحدى التاءين.
لِتَعارَفُوا أصله لتتعارفوا، حذف منه إحدى التاءين.
البلاغة:
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ تشبيه تمثيلي، مثّل المغتاب بمن يأكل لحم الإنسان الميت، وفيه تقبيح التشبيه بأقبح الصور.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 404.(26/246)
المفردات اللغوية:
لا يَسْخَرْ لا يهزأ ولا يحتقر ولا يعيب، والسّخرية والسخرى: الازدراء والاحتقار، ويقال: سخر به وسخر منه. وقد تكون السخرية: بمحاكاة القول أو الفعل أو الإشارة. قَوْمٌ هم الرجال دون النساء، فالقوم مختص بالرجال، لأنهم قوّامون على النساء. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا، ولا تعيبوا، فتعابوا، واللمز: الطعن والتنبيه إلى المعايب بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا، ومنه: يا فاسق، ويا كافر. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الاسم والصيت، وهو المذكور من السخرية واللمز والتنابز، بأن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به، والمراد تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق أي ذكره وشهرته. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من ذلك المنهي عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فهم لا غيرهم ظلمة، بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
اجْتَنِبُوا تباعدوا وكونوا بمنأى عنه أو على جانب منه. كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الظَّنِّ حد وسط بين العلم (اليقين) والشك أو الوهم، وهو ما يطرأ للنفس بسبب شبهة أو أمارة قوية أو ضعيفة. وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل من أي نوع، فبعض الظن واجب الاتباع كالاجتهاد في الأحكام العملية وحسن الظن بالله، وبعضه حرام كالظن في الإلهيات والنبوات، أو عند مصادمة الدليل القاطع، وظن السوء بالمؤمنين، وبعضه مباح كالظن في الأمور المعاشية.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب مؤثم موجب العقوبة عليه، وهو كثير كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين، وهو تعليل مستأنف للأمر بالاجتناب. وَلا تَجَسَّسُوا التجسس: البحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس. وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، وإن كان العيب فيه. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ أي لا يحسن به، وهو تمثيل لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفحش وجه، مع مبالغات الاستفهام المقرّر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم، وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا وميتا، وتعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ أي تقريرا وتحقيقا لذلك، أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته، وقد عرض عليكم أكل لحوم البشر فكرهتموه، فاكرهوا الغيبة التي هي مثل الأكل المذكور. وَاتَّقُوا اللَّهَ عقاب اللَّه في الاغتياب، بأن تتوبوا منه. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قابل توبة التائبين بكثرة، رحيم بهم، فيجعل صاحب التوبة كمن لم يذنب.(26/247)
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام، أو من أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب ما دام أصلهم واحدا شُعُوباً جمع شعب: وهم الجماعة من الناس التي لها وطن خاص، أو من أصل واحد كربيعة ومضر، وهو يجمع القبائل وأعم منها. وَقَبائِلَ جمع قبيلة: وهي ما دون الشعب. وطبقات النسل عند العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، مثاله: خزيمة: شعب، وكنانة: قبيلة، وقريش:
عمارة، وقصي: بطن، وعبد مناف: فخذ، وهاشم: فصيلة، والعباس: عشيرة.
لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضا، لا للتفاخر بالآباء والقبائل، فلا تتفاخروا بعلو النسب، وإنما الفخر بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ بالتقوى تكمل النفوس وتتفاضل الأشخاص، والتقوى: التزام المأمورات واجتناب المنهيات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي عليم بكم وبكل شيء، خبير ببواطنكم وأسراركم كجهركم.
سبب النزول:
نزول الآية (11) :
لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللَّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللَّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية، فنكس الرجل استحياء، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت.(26/248)
والخلاصة: لا مانع من تعدد وقائع النزول، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
نزول الآية (11) أيضا:
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ:
قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي:
يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللَّه هذه الآية.
وقيل: نزلت في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيّرن أم سلمة بالقصر.
نزول الآية (11) كذلك:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال الترمذي: حسن.
وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول اللَّه، إنه يكرهه، فأنزل اللَّه: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ولفظ أحمد عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يغضب من هذا، فنزلت «1» .
نزول الآية (12) :
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا
__________
(1) ورواه أيضا البخاري في الأدب وأهل السنن.(26/249)
أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.
نزول الآية (13) :
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح، رقي بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه هذا يغيّره أو إن يرد اللَّه شيئا يغيره، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية، فدعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
وقال ابن عساكر في مبهماته: وجدت بخط ابن بشكوال أن أبا بكر بن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللَّه: نزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، وإساءة الظن وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتمييز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد(26/250)
على أنباء الفاسقين، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع، ثم أعلن وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة اللَّه في كل مكان.
التفسير والبيان:
هذه أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين وهي:
1- النهي عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المسخور بهم عند اللَّه خيرا من الساخرين بهم، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، فهذا حرام قطعا، ذكر فيه علة التحريم أو النهي، كما قال بعضهم:
لا تهين الفقير علّك أن ... تركع يوما، والدهر قد رفعه
فقوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة- «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين «1» تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على اللَّه لأبرّه»
ورواه أحمد ومسلم بلفظ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه» .
وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن، وأكد معنى النهي للنساء أيضا، وذلك بالأسلوب نفسه، فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء،
__________
(1) الطّمر: الثوب الخلق البالي.(26/251)
بصيغة الجمع، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس، فقال: ولا يسخر نساء من نساء، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات.
ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء، وإنما يشمل الأفراد، لأن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة.
أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير، ونقاء القلب، وإخلاص الأعمال لله عز وجل، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس.
2- النهي عن الهمز واللمز، أي التعييب بقول أو إشارة خفية:
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل اللَّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه، وهذا مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا.
أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» .
والهماز اللماز مذموم ملعون، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة 104/ 1] . والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب اللَّه من اتصف بذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم 68/ 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال «1» .
__________
(1) انظر الفروق للقرافي: الفرق بين قاعدة الغيبة وقاعدة النميمة والهمز واللمز: 4/ 209(26/252)
والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معايبه، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
3- التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي أو يا نصراني، أو يقول لأي إنسان: يا كلب، يا حمار، يا خنزير، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به.
ويستثني من ذلك: أن يشتهر بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي:
أبو تراب «1» ، ولخالد: سيف اللَّه، ولعمرو بن العاص: داهية الإسلام.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق: هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد: ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز
__________
(1) لما عليه من التراب عند ما أيقظه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نومه تحت نخيل في أرض بني مدلج.(26/253)
بالألقاب مع الإيمان، وذلك تغليظ وتنفير شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وهو تعليل للنهي السابق.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يتب عما نهى اللَّه عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
وسبب وصف العصاة بالظلم: أن الإصرار على المنهي كفر، إذ جعل المنهي كالمأمور، فوضع الشيء في غير موضعه.
4- النهي عن سوء الظن وتحريمه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فيشمل بعض الظن، وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، وهذا هو الظن القبيح، وهو متعلق بمن ظاهره الصلاح والخير والأمانة.
أما أهل السوء والفسوق المجاهرون بالفجور، كمن يسكر علانية أو يصاحب الفاجرات، فيجوز ظن السوء به لتجنبه والتحذير من سلوكه، دون تكلم عليه، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم.
ثم علل اللَّه تعالى النهي بأن بعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم أي موقع في الإثم، لنهي اللَّه عنه، كما قال تعالى:
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح 48/ 12] أي هلكى.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم سوء الظن بالمؤمن، منها
ما رواه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يطوف بالكعبة(26/254)
ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند اللَّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا» .
قال ابن عباس في الآية: نهى اللَّه المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيرا.
ومنها
ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا» .
وفي رواية أخرى لمسلم والترمذي: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»
والتدابر: الهجر والقطيعة.
5- تحريم التجسس:
وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم، فالتجسس: البحث عما هو مكتوم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم. أما التجسس: فهو البحث عن الأخبار، والاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم.
أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، فضحه اللَّه في قعر بيته» .
وأخرج الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي اللَّه عنه قال: قال(26/255)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة «1» والحسد وسوء الظن، فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول اللَّه ممن هن فيه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا حسدت فاستغفر اللَّه، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيّرت فامض» .
وأخرج أبو داود أيضا عن أبي أمامة وآخرين من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم» .
قال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك اللَّه عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
6- تحريم الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، سواء أكان الذكر
__________
(1) الطيرة: ما يتشاءم به من الفأل الرديء، والأدق أن يقال: التطير: هو الظن السيء الكائن في القلب، والطيرة: هو الفعل المرتب على هذا الظن من فرار أو غيره، وكلاهما حرام، لأنه «كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب الفأل الحسن، ويكره الطيرة» ولأنها من باب سوء الظن بالله تعالى.
والفأل: هو ما يظن عنده الخير، عكس الطيرة والتطير، والفأل الحسن: كالكلمة الحسنة والتسمية بالاسم الحسن، والفأل الحرام: كأخذ الفأل من المصحف وضرب الرمل والقرعة والضرب بالشعير، وجميع هذا النوع حرام، لأنه من باب الاستقسام بالأزلام. والأزلام:
أعواد كانت في الجاهلية: مكتوب على أحدهما: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، وعلى الآخر:
غفل، فيخرج أحدها، فإن وجد عليه: افعل، أقدم على حاجته، أو لا تفعل، أعرض عنها واعتقد أنها ذميمة، أو خرج المكتوب عليه: غفل، أعاد الضرب، فهو طلب قسمة الغيب بتلك الأعواد، ويسمى استقساما، أي طلب القسم الجيد من الرديء (انظر الفروق للقرافي، الفرق بين قاعدة التطير وقاعدة الطيرة وما يحرم منهما وما يحرم منهما وما لا يحرم، والفرق بين قاعدة الطيرة وقاعدة الفأل الحلال والفأل الحرام: 4/ 238، 240) .(26/256)
صراحة أم إشارة أم نحو ذلك، لما فيه من الأذى بالمغتاب. وهو يتناول كل ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، في خلقه أو خلقه، في ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو لباسه ونحو ذلك.
وقد فسر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الغيبة فيما رواه أبو داود والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه»
أي فإن كان الوصف موجودا فيه فهو الغيبة، وإن كان مفترى والمغتاب خال من ذلك، فذلك هو البهتان.
وروى أبو داود أيضا عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
حسبك من صفية كذا وكذا- أي قصيرة- فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»
قال معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت: هذا أقطع كان غيبة.
ثم شبّه اللَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو أيحب أحدكم أن يتناول لحم أخيه بعد موته؟ فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا، فإنه تعالى مثّل الغيبة بأكل جثة الإنسان الميت، وهذا من التنفير، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، فضلا عن كونه محرّما شرعا، وفي الآية أنواع من المبالغات: منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، وإسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ للإشعار بأن لا أحد يحب ذلك، وتقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، وتقييد الإنسان بالأخ، وجعل الأخ أو اللحم ميتا، فيه مزيد تنفير للطبع.
وهذا دليل على تحريم الغيبة وعلى قبحها شرعا، لذا كانت الغيبة محرّمة بالإجماع وعلى المغتاب التوبة إلى اللَّه والاستحلال ممن اغتابه، ولا يستثني من(26/257)
ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر فيما رواه البخاري عن عائشة: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة» .
وكقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له» «1» .
وتحريم الغيبة مرتبط بحماية الكرامة الإنسانية، ثبت في الأحاديث الصحيحة من غير وجه
أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» .
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» .
وروى أبو داود أيضا عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع اللَّه عورته، ومن يتبع اللَّه عورته، يفضحه في بيته» .
وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي واتقوا اللَّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، وأكرهوا الغيبة وتباعدوا عنها، إن اللَّه تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه واعتمد عليه.
قال جمهور العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، وأن يعزم على ألا يعود، ويندم على ما فعل، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك، ربما تأذى أشد مما إذا لم
__________
(1) سبل السلام: 3/ 129 ط البابي الحلبي.(26/258)
يعلم بما كان منه، فطريقه إذن أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس الجهني رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث اللَّه تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه، حبسه اللَّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» .
7- المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ، والتفاضل بالتقوى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ كان النداء السابق لأهل الإيمان لتأديبهم بالأخلاق الفاضلة، ونادى هنا بصفة الناس الذي هو اسم الجنس الإنساني، ليناسب بيان المطلوب، ويؤكد ما نهى عنه سابقا، وليعمم الخطاب للناس جميعا منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية.
والمعنى: أيها البشر، إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، من نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة، فلا موضع للتفاخر بالأنساب، فالكل سواء، ولا يصح أن يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا، وأنتم إخوة في النسب.
وقد جعلناكم شعوبا (أمة كبيرة تجمع قبائل) وقبائل دونها لتتعارفوا لا لتتناكروا وتتحالفوا، والمقصود أن اللَّه سبحانه خلقكم لأجل التعارف، لا للتفاخر بالأنساب.
وإن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن اتصف بها كان هو الأكرم والأشرف والأفضل، فدعوا التفاخر، إن اللَّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير ببواطنكم وأحوالكم وأموركم.(26/259)
والآية دليل للمالكية الذين لم يشترطوا الكفاءة في الزواج، سوى الدين، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على اللَّه تعالى من الجعلان» .
وروى ابن أبي حاتم والترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخا في المسجد، حتى نزل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل، فأنيخت، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبهم على راحلته، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
«يا أيها الناس، إن اللَّه تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقي كريم على اللَّه تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على اللَّه تعالى، إن اللَّه عز وجل يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم» «1» .
وروى الطبري في آداب النفوس قال: «خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال:
يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلّغ الشاهد الغائب» .
__________
(1) فيه راو ضعيف، وهو عبد اللَّه بن جعفر، والد علي بن المديني.(26/260)
وقد تقدم ذكر حديث مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
وعند الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللَّه عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- حرّم اللَّه تعالى بدلالة النهي في الآية الأولى ثلاثة أشياء: هي السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ومن فعل ما نهى اللَّه عنه منها فذلك فسوق، وهو لا يجوز، وهو من الظالمين أنفسهم بتعريضها بسبب ظلمه غيره إلى العذاب والعقاب إن لم يتب. والعلة واضحة وهي احتمال أن يكون المسخور منه والملموز والملقّب خيرا ممن عابه.
واستثني من التنابز بالألقاب المكروهة من غلب عليه اللقب في الاستعمال والشهرة، فلم يعد يعرف إلا بها، كالأعرج والأحدب والأعمش.
أما الألقاب الحسنة كالصدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذي النورين لعثمان، وتلقيب خزيمة بذي الشهادتين، وأبي هريرة بذي الشمالين، والخرباق بن عمرو بذي اليدين، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، فذلك جائز مقبول مألوف بين العرب والعجم. لهذا كانت التسمية بالأسماء الحسنة مطلوبة.
ذكر الزمخشري: روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه. وكانت التكنية من السنة والأدب الحسن»
قال عمر رضي اللَّه عنه: «أشيعوا الكنى فإنها منبّهة، وقد لقّب أبو بكر بالعتيق(26/261)
والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير» .
2- كذلك حرّم اللَّه سبحانه بدلالة النهي أيضا في الآية الثانية ثلاثة أشياء:
هي سوء الظن بأهل الخير والصلاح والإيمان، والتجسس، والغيبة.
والظن أنواع «1» :
الأول- ظن واجب أو مأمور به: كحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين، كما
جاء في الحديث القدسي فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا عند ظن عبدي بي»
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»
وقال أيضا فيما رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «حسن الظن من حسن العبادة»
ومثل قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات غير المقدرة شرعا.
الثاني- ظن محظور أو حرام: كسوء الظن بالله، وبأهل الصلاح، وبالمسلمين مستوري الحال، ظاهري العدالة،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السوء» ذكره القرطبي والألوسي
،
وقال أيضا عن عائشة مرفوعا: «من أساء بأخيه الظن فقد أساء الظن بربه، إن اللَّه تعالى يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن» .
روى أبو داود عن صفية قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معتكفا. فأتيته أزوره ليلا، فحدثته وقمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني «2» ، وكان مسكنها في دار
__________
(1) انظر وقارن وراجع عمدة القاري شرح البخاري للعيني: 22/ 137، الطباعة المنيرية، 18/ 179 ط البابي الحلبي.
(2) أي فانصرفت فقام معي ليصرفني.(26/262)
أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، قالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو سوءا» «1» .
أما من يجاهر بالخبائث أو يتعاطى الريب، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر اللَّه أن يتجنب الإنسان مواضع الريبة ومواقف التهم.
الثالث- ظن مندوب إليه: كإحسان الظن بالأخ المسلم، وإساءة الظن إذا كان المظنون به ظاهر الفسق،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من الحزم سوء الظن»
وقال أيضا فيما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس، وهو ضعيف: «احترسوا من الناس بسوء الظن» .
فإذا كان الظن لاتقاء الشر ولا يتعدى إلى الغير، فهو من هذا النوع، محمود غير مذموم، وعليه يحمل هذان الحديثان، وما جاء في الحكم:
«حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة» .
وحرمة سوء الظن بالناس: إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير.
الرابع- ظن مباح: كالظن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية العملية بالاجتهاد، والعمل بغالب الظن في الشك في الصلاة، كم صلّى ثلاثا أو أربعا.
وأما التجسس فهو من الكبائر وهو البحث عن الأمور المكتومة أو السرية، ومنه الجاسوس، وكذلك التحسس وهو الاستماع لحديث القوم وهم له كارهون حرام أيضا، لكنه قد يستعمل في البحث عن الخير، كما قال تعالى: فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف 12/ 87] .
والغيبة أيضا حرام، وهي من الكبائر بالإجماع كما ذكر القرطبي، وأن من
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 406 [.....](26/263)
اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى اللَّه عز وجل، مع استحلال المغتاب في رأي جماعة، ودون استحلاله في رأي آخرين كما تقدم.
والفرق بين الغيبة والإفك والبهتان: أن الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، والإفك: أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه. واللَّه تعالى نفرّ من الغيبة أشد تنفير، مشبها الاغتياب بأكل لحم الإنسان ميتا.
وقد ذكر العلماء أشياء ليس لها حكم الغيبة، فالغيبة لا تحرم إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا به وهي ستة أمور «1» :
الأول- التظلم: فلمن ظلم تقديم شكوى للحاكم لإزالة ظلمه،
لحديث أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا»
وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «مطل الغني ظلم» أو «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الشريد.
الثاني- الاستعانة على تغيير المنكر: بأن يذكره لمن يظن قدرته على تغييره، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] .
الثالث- الاستفتاء: كأن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟
لقول هند للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن عائشة:
«إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم فخذي» .
الرابع- التحذير من الفسّاق: فلا غيبة لفاسق فاجر كمدمن خمر وارتياد أماكن الفجور،
للحديث الذي رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي عن بهز بن حكيم: «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
وفي رواية للبيهقي
__________
(1) انظر الإحياء للغزالي: 3/ 132(26/264)
عن أنس، وهو ضعيف: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له، واتقوا اللَّه فيما نهاكم، وتوبوا فيما وجد منكم» «1» .
الخامس- التحذير من سر عام: كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، ونصح الخاطب والشريك ونحو ذلك.
السادس- التعريف بلقب مشهور إذا لم تمكن المعرفة بغيره، كالأعور والأعمش والأعرج. وصنف القرافي ما استثناه العلماء من الغيبة المحرمة وهي ست صور كما يلي: النصيحة، والتجريح والتعديل في الشهود، والمعلن بالفسوق، وأرباب البدع والتصانيف المضلة، ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها، والعلم السابق بالمغتاب به بين المغتاب والمغتاب عنده، والدعوى عند ولاة الأمور «2» .
3- ذكرت الآية الثالثة ثلاثة أشياء: المساواة، وتعارف المجتمع الإنساني، وحصر التفاضل بالتقوى والعمل الصالح.
أما المساواة: فالناس سواسية كأسنان المشط في الأصل والمنشأ الإنساني، فهم من أب وأم واحدة، وفي الحقوق والواجبات التشريعية، وهذه أصول الديمقراطية الحقة.
وقد أبان اللَّه أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، ولو شاء لخلقه من غيرهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء، أو دون أب كخلقه عيسى عليه السلام.
وأما التعارف: فإن اللَّه خلق الخلق أنسابا وأصهارا، وقبائل وشعوبا من أجل التعارف والتواصل والتعاون، لا للتناكر والتقاطع، والمعاداة واللمز والسخرية والغيبة المؤدية إلى التنازع والعداوة، ولا للتفاخر بالأنساب والأعراق
__________
(1) أما حديث «لا غيبة لفاسق» فلم يصح.
(2) الفروق: الفرق بين الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم: 4/ 205- 208(26/265)
والأصول، فكل ذلك اعتبارات وهمية مصطنعة تتعارض مع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني.
وأما التقوى: فهي ميزان التفاضل بين الناس، فالأكرم عند اللَّه، الأرفع منزلة لديه تعالى في الدنيا والآخرة هو الأتقى الأصلح لنفسه وللجماعة، فإن حدث تفاخر فليكن بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات.
أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الحسب المال، والكرم التقوى»
وفي حديث آخر: «من أحب أن يكون أكرم الناس، فليتق اللَّه» .
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع وأنسابكم، أين المتقون، أين المتقون؟!» .
وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نسب أقرب من نسب، يأتي الناس بالأعمال، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، فأقول: هكذا وهكذا»
وأعرض في كل عطفيه.
4- احتج مالك بآية إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج إلا الدين، فيجوز زواج الموالي بالعربية، وقد تزوج سالم مولى امرأة من الأنصار هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، فالكفاءة إنما تراعى في الدّين فقط.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الذي رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) : «تنكح المرأة لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدّين، تربت يداك» .
وقال الجمهور: يراعى الحسب والمال، عملا بالأعراف، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.(26/266)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
أصول الإيمان الصحيح
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
الإعراب:
لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يَلِتْكُمْ: من لات يليت، مثل باع يبيع، وقرئ:
لا يألتكم، من ألت يألت، والقراءتان بمعنى واحد، يقال: لات يليت، وألت يألت: إذا نقصه.
لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ منصوب بنزع الخافض أي بإسلامكم، أو يضمن الفعل معنى الاعتداد.
البلاغة:
آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا بينهما طباق السلب.
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ استفهام إنكاري للتوبيخ.(26/267)
المفردات اللغوية:
الْأَعْرابُ سكان البادية. آمَنَّا صدّقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا الأوامر، والإيمان: التصديق بالقلب مع الثقة والطمأنينة. أَسْلَمْنا انقدنا ظاهرا، والإسلام: الاستسلام والانقياد الظاهري وإظهار الشهادتين وترك المحاربة. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ لم يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن، لكنه يتوقع منكم. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق.
لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم. مِنْ أَعْمالِكُمْ من ثواب أعمالكم. وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المؤمنين. رَحِيمٌ بالتفضل عليهم.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الصادقو الإيمان، بدليل ما بعده. لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا في شيء من الإيمان. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعة اللَّه ورضوانه. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ هم الذين صدقوا في إيمانهم، لا من قالوا: آمنا ولم تؤمن قلوبهم، ولم يوجد منهم غير الإسلام الظاهري.
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ أتخبرونه بقولكم: آمنا؟. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ..
لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. يَمُنُّونَ يمتنون ويعدون إسلامهم عليك منّة ونعمة مسداة لك. لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تمتنوا علي بإسلامكم. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي بحسب زعمكم، علما بأن الهداية لا تستلزم الاهتداء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فلله المنة والفضل عليكم.
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما غاب فيهما. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سركم وعلانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟.
سبب النزول: نزول الآية (14) :
قالَتِ الْأَعْرابُ: نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية «1» .
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 225(26/268)
وقال السّدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا: آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا «1» .
المناسبة:
بعد أن حث اللَّه تعالى على التقوى، قالت الأعراب: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم اللَّه تعالى، وأبان ضعف إيمانهم، وحدد أصول الإيمان الصحيح: وهي التصديق بالله ورسوله، والإخلاص في القلب، والجهاد بالنفس والمال في سبيل اللَّه وطاعته وإعلاء دينه، وأخبر بأن اللَّه يعلم ما في السرائر والعلانية، فيعلم ما هم عليه من ضعف الإيمان وقوته، وأفاد بأنه لا ينبغي لمؤمن أن يمتن على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بإيمانه، بل اللَّه يمن عليه بتوفيقه للهداية على يد رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي قالت جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام مدعين لأنفسهم مقام الإيمان: صدقنا بالله ورسوله وتمكن الإيمان في قلوبنا، فرد اللَّه تعالى عليهم مبينا لهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل، ولم يصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة وثقة تامة بالله عز وجل، وأمرهم بأن يقولوا: انقدنا لك يا رسول اللَّه واستسلمنا، وسالمناك فلا نحاربك. وأعلمهم بأنه لن يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد، بل كان مجرد قول باللسان، دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، لذا جاء النفي ب لَمَّا حرف الجزم الدال على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار. وقوله: لَمْ تُؤْمِنُوا لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 16/ 348(26/269)
وقد دلت الآية الكريمة على أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب، فهو تصديق القلب مع الطمأنينة والثقة باللَّه، والإسلام أعم، فهو مجرد نطق باللسان بالشهادتين وإظهار الانقياد والخضوع لما جاء به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وهذا لا يمنع أن المؤمن والمسلم واحد عند بعض أهل السنة «1» ، بدليل قوله تعالى عن لوط عليه السلام ومن آمن معه: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات 51/ 35- 36] .
ثم حرضهم اللَّه تعالى على الإيمان الصادق بقوله:
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وإن تطيعوا اللَّه ورسوله إطاعة تامة، وتخلصوا العمل وتصدقوا تصديقا صحيحا، لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، واللَّه تعالى غفور ستار لمن تاب إليه وأناب وأخلص العمل، رحيم به فلا يعذبه بعد التوبة. وفيه حث على التوبة من الأعمال السالفة، وتسلية لقلوب من تأخر إيمانه، فالله تعالى يغفر لكم في كل وقت ما قد سلف، ويرحمكم بما أتيتم به.
ونظير الآية: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور 52/ 21] .
ثم أبان اللَّه تعالى صفات المؤمنين وحقيقة الإيمان بقوله:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي إنما المؤمنون إيمانا صحيحا خالصا وهم المؤمنون الكمّل هم الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم تصديقا
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 141(26/270)
تاما بالقلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكّوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة اللَّه وابتغاء مرضاته، قاصدين بجهادهم إعلاء كلمة اللَّه ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون بالاتصاف بصفة الإيمان، والدخول في عداد المؤمنين، لا كبعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام، ولم يطمئن الإيمان في قلوبهم.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه، والذي يأمنه الناس على أموالهم بأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه اللَّه عز وجل» .
ثم عرفهم اللَّه تعالى بأنه عالم بحقيقة أمرهم قائلا:
قُلْ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قل لهم أيها الرسول: أتخبرون اللَّه بما في ضمائركم من الدين، ليعلم بذلك حيث قلتم: آمنا؟ واللَّه عالم لا يخفى عليه شيء، يعلم كل ما في السموات وما في الأرض من جمادات ونباتات وحيوانات وإنس وجن، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟ واللَّه لا تخفى عليه خافية من ذلك، يعلم بكل شيء، فاحذروا أن تدّعوا شيئا خلاف ما في قلوبكم.
وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون للَّه، وأنتم أظهرتموه لنا، لا لله، فلا يقبل ذلك منكم.
ثم أوضح اللَّه تعالى أن إسلامهم لم يكن لله، فقال:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها(26/271)
النبي، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فرد اللَّه تعالى عليهم قائلا:
قُلْ: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل أيها الرسول: لا تعدوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، فهو سبحانه الذي يمن عليكم، إذ أرشدكم إلى الإيمان وأراكم طريقه، ووفقكم لقبول الدين، إن كنتم صادقين فيما تدعونه. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.
وذلك كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للأنصار يوم حنين: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم اللَّه بي؟ وكنتم متفرقين فألّفكم اللَّه بي؟ وكنتم عالة فأغناكم اللَّه بي؟ قالوا: بلى، اللَّه ورسوله أمنّ وأفضل» .
ثم أكد اللَّه تعالى علمه بكل شيء، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي إن اللَّه عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السموات والأرض، ومن جملة ذلك:
ما يسّره كل إنسان في نفسه، واللَّه مطّلع على كل شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم بالخير خيرا، وبالشر شرا. والآية تكرار وتأكيد الإخبار بعلم اللَّه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، ليترسخ ذلك في الأذهان، ويستقر في أعماق القلوب، ويتمثل دائما في النفوس.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- موضوع الآيات توبيخ من في إيمانه ضعف بعد الآيات السابقة التي فيها حث عموم الناس على تقوى اللَّه تعالى.(26/272)
فلا يكفي الإسلام الظاهري، وإنما لا بد من الإيمان والإذعان القلبي، ولا يكفي الإسلام اللغوي، وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل، ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم.
2- إن أخلص الناس الإيمان لله تعالى وفّر لهم ثوابا عظيما لأعمالهم، ولم ينقصهم شيئا من أجورهم.
3- لا حرج على من تأخر إيمانه، فالله سبحانه غفار لذنوب عباده كلها بمشيئته، رحيم بهم فلا يعذبهم بعد التوبة.
4- إن عناصر الإيمان الجوهرية في الآية: هي الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإيمان بأن محمدا رسول اللَّه وخاتم الأنبياء والرسل، وعدم الارتياب في شيء، بل لا بد من عقيدة ثابتة ويقين كامل لا يتزعزع أبدا، والجهاد في سبيل اللَّه بالأموال والأنفس محكّ الإيمان ودليله، والمؤمنون هم الذين صدّقوا ولم يشكّوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة، وهم الذين صدقوا في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب.
ويجب أن يكون الجهاد من أجل نصرة دين اللَّه والدعوة إلى سبيله، أو لاسترداد الحقوق المغتصبة والبلاد المحتلة، لذا
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري: «من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه» وقال تعالى في الدفاع عن البلاد: وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران 3/ 167] .
5- لا حاجة لإعلام اللَّه تعالى بأن الإنسان مؤمن، فهو سبحانه يعلم بالدين الذي يكون الناس عليه، ويعلم كل شيء في الكون، والآية تجهيل لهم في قوله:
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟.
6- إن نفع الإيمان يعود للمؤمن نفسه، فلا يصح لأحد أن يمتن بإسلامه على(26/273)
أحد، بل المنة والفضل والنعمة لله عز وجل الذي وفق عباده للإيمان، وأرشدهم إليه ودلّهم عليه.
والصادقون هم الذين يعترفون بهداية اللَّه لهم، والهداية هنا بمعنى الدلالة.
وقوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريض بأن الأعراب سبب النزول كاذبون، ولهذا قال تعالى: قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وذلك تأديب لهم.
7- ظاهر الآية يدل على أن أولئك الأعراب لم يكونوا مؤمنين إيمانا صحيحا، بل كانوا مسلمين إسلاما ظاهريا، والإيمان أخص، والإسلام أعم، كما تقدم، ولم يكونوا منافقين، فلو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما فعل اللَّه تعالى في سورة براءة.
8- إن اللَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك ما في الضمائر والقلوب، فهو تعالى يعلم الإيمان الحقيقي من الإيمان الكاذب، ويعلم المقاصد والغايات، والمخاوف والأطماع، والبواعث التي تدفع إلى الدخول في الإسلام.(26/274)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
مكيّة، وهي خمس وأربعون آية.
تسميتها:
سميت سورة ق تسمية لها بما افتتحت به من أحرف الهجاء، كقوله تعالى: ص، ن، الم، حم، طس قال الشعبي:
ق: فاتحة السورة.
مناسبتها لما قبلها:
أخبر اللَّه تعالى في آخر سورة الحجرات المتقدمة أن أولئك الأعراب الذين قالوا: آمنا، لم يكن إيمانهم حقا، وذلك دليل على إنكار النبوة وإنكار البعث، فافتتح هذه السورة بوصف إنكار المشركين نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنكار البعث، ثم رد عليهم بالدليل القاطع.
ما اشتملت عليه السورة:
بما أن هذه السورة مكية بالإجماع، فموضوعها مثل موضوعات سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد، والبعث، والنبوة والرسالة، ولكنها عنيت بالأصل الثاني وهو البعث وإثباته والرد على منكريه.
لذا ابتدأت بالكلام عن إنكار مشركي العرب وقريش أمر البعث والنشور، وأمر النبوة ورسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعجبهم من إرسال رسول منذر منهم، ومن(26/275)
إعادة الحياة بعد الممات، فأقسم اللَّه بالقرآن المجيد قائلا: ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ...
ومن أجل الاستدلال على قدرة اللَّه الباهرة على البعث وغيره، حثّت الآيات بعدئذ على التأمل في صفحة الكون، والنظر في السماء وبنائها وزينتها، وفي الأرض وجبالها وزروعها ونباتاتها وأمطارها: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ..
الآيات.
ثم أثارت دواعي التفكر وأقامت العبر والعظات في إهلاك الأمم السابقة المكذبة بالرسل، كقوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود وعاد وفرعون ولوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب وقوم تبّع، تحذيرا لكفار مكة أن يصيبهم مثلما أصاب غيرهم: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ.. الآيات.
وانتقلت الآيات للحديث عن الإنسان ومسئوليته وملازمة الملكين له لرصد أعماله وأقواله ومراقبة أحواله، وطيّ صحيفته بسكرة الموت، وتعرضه لأهوال الحشر وأهوال الحساب: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ الآيات، وأعقبت كل ذلك بضرورة العبرة والتذكر بتلك الأحداث الكبرى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ...
وختمت السورة الكريمة بمشاهد عظيمة، من خلق السموات والأرض وما بينهما، وسماع صيحة الحق للخروج من القبور، وتشقق الأرض عن الأموات سراعا، وتخلل ذلك أمر الرسول وأتباعه بالصبر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وعدم المبالاة بإنكار المشركين البعث وتهديدهم عليه، والتذكير بالقرآن من وعيد اللَّه وعقابه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ.. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ.. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. الآيات.(26/276)
فضل السورة:
تقرأ هذه السورة في الأحداث الكبرى والمجامع العامة، كالجمع والعيدين، لتذكير الناس ببدء الخلق، ومظاهر الحياة، وعقوبات الدنيا، والبعث والنشور، والجنة والنار، والثواب والعقاب.
وأدلة سنّية قراءتها في تلك المناسبات أحاديث، منها حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وكانت صلاته بعد تخفيفا.
وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا عن لسان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأضحى والفطر؟
فقال: كان يقرأ فيهما ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
والسبب أن العيد يوم الزينة والفرح، فينبغي ألا ينسى الإنسان خروجه إلى ساحات الحساب، فلا يكون فرحا فخورا، ولا فاسقا فاجرا، فيتذكر بالقرآن كما في بداية السورة: ق وَالْقُرْآنِ ونهايتها: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ويتأمل في قوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وقوله تعالى:
كَذلِكَ الْخُرُوجُ وقوله سبحانه: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ.
أوجه الشبه بين سورة ق وسورة ص:
لاحظ العلماء وجهي شبه بين سورتي ص وق وهما «1» :
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 145 بتصرف.(26/277)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
أولا- تشترك السورتان في افتتاح أولها بحرف واحد من حروف الهجاء، والقسم بالقرآن، وقوله: بَلْ والتعجب. كما أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، ففي أول ص: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ وفي آخرها: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وفي أول ق: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وفي آخرها:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فافتتح بما اختتم به. أي أن السورتين تبدأ ان بحرف هجاء، وتبتدئان وتنتهيان بالتحدث عن القرآن.
ثانيا- عنيت سورة ص بتقرير الأصل الأول وهو التوحيد، في قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، وعنيت سورة ق بتقرير الأصل الثاني وهو الحشر، في قوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
وبدئت وختمت كل سورة بما يناسبها، فكان افتتاح سورة ص في تقرير المبدأ، ثم قال تعالى في آخرها: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ لحكاية بدء الخلق، لأنه دليل الوحدانية، وكان افتتاح سورة ق لبيان الحشر، ثم قال سبحانه في آخرها: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ فاتفق بدء كل سورة مع خاتمتها.
إنكار المشركين البعث والرّد عليهم
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)(26/278)
الإعراب:
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم، وجوابه: إما محذوف تقديره: «ليبعثن» أو جوابه قَدْ عَلِمْنا أي لقد علمنا، فحذفت اللام كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس 91/ 9] أو يكون ما قبل القسم قام مقام الجواب على رأي من يرى أن معنى ق: قضي الأمر، وهو الذي قام مقام الجواب، ودلّ ق عليه. والمعنى: أقسم بالقرآن أنك جئتهم منذرا بالبعث، فلم يقبلوا، بل عجبوا، وهو إضراب إبطالي.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً عامل إِذا فعل مقدر دلّ عليه الكلام، تقديره: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا، ولا يعمل فيه مِتْنا لأنه محل مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
وَالْأَرْضَ معطوف على موضع إِلَى السَّماءِ.
تَبْصِرَةً وَذِكْرى منصوبان على المفعول لأجله.
وَحَبَّ الْحَصِيدِ تقديره: وحبّ الزرع الحصيد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
باسِقاتٍ حال.
رِزْقاً لِلْعِبادِ منصوب إما مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر.
البلاغة:
فَقالَ الْكافِرُونَ إظهار في موضع مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً استفهام إنكاري لاستبعاد البعث.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إضراب عن الكلام السابق لبيان ما هو أشنع من التعجب، وهو التكذيب بآيات اللَّه وبرسوله.(26/279)
كَذلِكَ الْخُرُوجُ تشبيه مرسل مجمل، شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة.
المفردات اللغوية:
ق حرف هجاء، يقرأ هكذا: قاف، بإسكان القاف. للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة ما يتلى بعده من الأحكام والأحداث. قال أبو حيان: ق: حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها، فاطّرحت نقلها في كتابي هذا.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم من اللَّه تعالى بالقرآن ذي المجد والشرف على سائر الكتب، ولكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي، قال الراغب: المجد: السعة في الكرم. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم ويخوفهم بالنار بعد بعث رسول من أنفسهم ومن جنسهم. فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي هذا الإنذار، وهو حكاية لتعجبهم، قال البيضاوي: وهذا إشارة إلى اختيار اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم للرسالة، وإضمار ذكرهم، ثم تسجيل الكفر عليهم بذلك.
أَإِذا مِتْنا أي أنبعث أو نرجع إذا متنا. ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي ذلك البعث بعث أو رجوع بعد الموت في غاية البعد عن التصديق والإمكان والعادة. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ تأكل من أجسادهم بعد موتهم، وهو ردّ لاستبعادهم. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ هو اللوح المحفوظ، والحافظ لجميع الأشياء المقدرة وتفاصيلها كلها، وهو تأكيد لعلمه بما يحدث.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات وبالقرآن. فَهُمْ في شأن القرآن والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب، وهو قولهم تارة: إنه شاعر وشعر، وتارة: إنه ساحر وسحر، وتارة: إنه كاهن وكهانة.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللَّه تعالى في خلق العالم. كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَزَيَّنَّاها بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ شقوق وفتوق تعيبها.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها أي بحسب نظر الإنسان الجزئي إلى الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، لا بالنظرة الكلية الشاملة للأرض، فهي كروية، كما أثبت العلم القديم والحديث، وبخاصة بعد غزو الفضاء وإطلاق الصواريخ ورؤية روّاد الفضاء أنها كرة معلّقة في هذا الكون.
رَواسِيَ أي جبالا ثوابت لحفظ الأرض من الاضطراب. زَوْجٍ صنف من النبات.
بَهِيجٍ حسن مبهج.(26/280)
تَبْصِرَةً وَذِكْرى تبصيرا منا وتذكيرا. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجّاع إلى طاعة اللَّه وتوّاب، متفكر في بدائع صنع اللَّه تعالى. ماءً مُبارَكاً كثيرا الخير والبركة والمنافع.
جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار وأثمار. وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حبّ الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير وغيرهما، والْحَصِيدِ المحصود.
باسِقاتٍ طوالا. طَلْعٌ ما ينمو ويصير بلحا، ثم رطبا، ثم تمرا. نَضِيدٌ منضود، متراكب بعضه فوق بعض. رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل فَأَنْبَتْنا، أو مصدر فإن الإنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدباء لانماء فيها، والميت: يستوي فيه المذكر والمؤنث. كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي من القبور، والمعنى كما أحييت هذه البلدة بالماء، يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
التفسير والبيان:
ق عرفنا أنها حرف هجاء، لتحدي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن أو آية منه ما دام القرآن مكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها، وهي أيضا للتنبيه إلى أهمية ما يأتي بعدها. وأكثر ما جاء القسم بحرف واحد إذا أتى بعده وصف القرآن، كما أن أغلب القسم بالحروف ذكر بعده القرآن أو الكتاب أو التنزيل.
وذكر الرازي تصنيفا دقيقا للقسم من اللَّه بالحروف الهجائية وغيرها، وهو بإيجاز ما يأتي «1» :
أ- وقع القسم من اللَّه بأمر واحد، مثل وَالْعَصْرِ وَالنَّجْمِ، وبحرف واحد مثل: ص، ون.
ب- ووقع بأمرين، مثل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وبحرفين مثل: طه، طس، يس، حم.
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 146 وما بعدها.(26/281)
ج- ووقع بثلاثة أمور، مثل: والصافات، فالزاجرات، فالتاليات، وبثلاثة أحرف، مثل: الم، طسم، الر.
د- وبأربعة أمور، مثل: والذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسمات، وفي: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ.. وفي: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ..، وبأربعة أحرف، مثل: المص أول الأعراف المر أول الرعد.
هـ- وبخمسة أمور، مثل: وَالطُّورِ..، وفي وَالْمُرْسَلاتِ..،
وفي: وَالنَّازِعاتِ..، وفي وَالْفَجْرِ..، وبخمسة أحرف، مثل:
كهيعص، حم عسق. ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول، منعا من الاستثقال.
وفي القسم قد يذكر حرف القسم وهي الواو، مثل: وَالطُّورِ، وَالنَّجْمِ، وَالشَّمْسِ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم، فلم يقل وق، حم لأن القسم لما كان بالحروف نفسها كان الحرف مقسما به.
وأقسم اللَّه بالأشياء كالتين والطور، وأقسم بالحروف من غير تركيب.
وأقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة، ولم يوجد القسم بالحروف إلا في أوائل السور، وأقسم في أربع عشرة سورة عدا وَالشَّمْسِ بأشياء عددها عدد الحروف، في أوائل السور وفي أثنائها، مثل كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ.
ووقع القسم بالحروف في نصفي القرآن، بل في كل سبع، وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير والسبع الأخير غير وَالصَّافَّاتِ.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ القرآن مقسم به، والمقسم عليه محذوف، أي أقسم(26/282)
بالقرآن الكريم كثير الخير والبركة، أو الرفيع القدر والشرف، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث. دلّ على جواب القسم المذكور مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النّبوة، وإثبات المعاد، وهذا كثير في القرآن، مثل: ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي عجب كفار قريش، لأن جاءهم منذر، هو واحد منهم أي من جنسهم، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يكتفوا بمجرد الشّك والرّد، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، فقالوا: كون هذا الرسول المنذر بشرا مثلنا شيء يدعو إلى العجب، وهو كقوله جلّ جلاله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس 10/ 2] ، أي وليس هذا بعجيب، فإن اللَّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
وتعجبوا أيضا من البعث فقالوا كما حكى القرآن:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض وبلينا وصرنا ترابا، كيف يمكن الرجوع بعدئذ إلى هذه البنية والتركيب؟ إن ذلك البعث والرجوع بعيد الوقوع عن العقول، لأنه غير ممكن في زعمهم، وغير مألوف عادة.
فردّ اللَّه تعالى عليهم مبيّنا قدرته على البعث وغيره، فقال:
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أي علمنا علما يقينيّا ما تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى، ولا يخفى علينا شيء من ذلك، فإنا ندري أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أي شيء صارت؟ وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها، وهو اللوح المحفوظ(26/283)
الذي حفظه اللَّه من التغيير ومن الشياطين.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلّ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ومنه خلق ومنه يركّب» .
والأصح في تقديري أن هذا تقريب لأذهاننا وتمثيل لإحاطة علم اللَّه تعالى بجميع الأشياء والكائنات، وإحصائه كل الوقائع والأعمال، كمن عنده سجل حسابات لكل شاردة وواردة. ولا يمنع ذلك وجود اللوح المحفوظ الذي نؤمن به لوروده في آيات كثيرة أخرى. والآية إشارة إلى جواز البعث وقدرته تعالى عليه.
ثم أبان اللَّه تعالى سبب كفرهم وعنادهم وما هو أشنع من تعجبهم من البعث، وهو تكذيبهم بآيات اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي إن كفار قريش في الحقيقة كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الثابتة بالمعجزات، إنهم كذبوا (بالقرآن وبالنبوة) بمجرد تبليغهم به من قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر، فهم في أمر دينهم في أمر مختلط مضطرب، يقولون مرة عن القرآن والنّبي: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة، فهم في قلق واضطراب ولبس، لا يدرون ماذا يفعلون، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات 51/ 8- 9] .
ثم أقام اللَّه تعالى الدليل على قدرته العظيمة على البعث وغيره، على حقيقة المبدأ والمعاد، فقال:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي أفلم ينظر هؤلاء الكفار بأم أعينهم، المكذبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا العظمى، إلى هذه السماء بصفتها العجيبة، فهي مرفوعة بغير أعمدة تعتمد عليها، ومزيّنة بالكواكب المنيرة كالمصابيح، وليس فيها شقوق وفتوق(26/284)
وصدوع، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك 67/ 3- 4] أي يرجع كليلا عن أن يرى عيبا أو نقصا. وقوله: فَوْقَهُمْ مزيد توبيخ لهم، ونداء عليهم بغاية الغباوة.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي وكذلك، أولم ينظروا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد بأهلها وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف ذي بهجة وحسن منظر، من جميع الزروع والثمار والأشجار والنباتات المختلفة الأنواع، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات 51/ 49] .
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي فعلنا ذلك لتبصرة العباد وتذكيرهم، فيتبصر بكل ما ذكر ويتأمل العبد المنيب الراجع إلى ربّه وطاعته، ويفكر في بدائع المخلوقات.
ثم أوضح اللَّه تعالى كيفية الإنبات، فقال:
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي ولينظروا إلى قدرتنا كيف أنزلنا من السحاب ماء المطر الكثير المنافع، المنبت للبساتين الكثيرة الخضراء والأشجار المثمرة، وحبات الزرع الذي يحصد ويقتات كالقمح والشعير ونحوهما.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أي وأنبتنا به أيضا النخيل الطوال الشاهقات، التي لها طلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) منضّد متراكم بعضه على بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه الدال على كثرة التمر.(26/285)
وفائدة إعادة هذا الدليل بعد المذكور في الآية السابقة: هو أن قوله:
فَأَنْبَتْنا بِهِ استدلال بالنبات نفسه، أي الأشجار تنمو وتزيد، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد، بأن يرجع إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.
رِزْقاً لِلْعِبادِ، وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي أنبتنا كل ما ذكر للرزق، أي إن إنبات النباتات والأشجار والنخيل، ليكون أرزاقا وأقواتا للعباد. وأحيينا بالماء بلدة مجدبة، لا ثمار فيها ولا زرع، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحياء اللَّه به الأرض الميتة، فكما أن هذا مقدور لله، فذلك أيضا مقدور له. وهذا تشبيه قريب الإدراك، ومن واقع الحياة الملحوظة المجاورة للإنسان، وهو أيضا تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث في مقدور القدرة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- القرآن كثير الخير والمنفعة عظيم المجد والقدر والرفعة، وقد أقسم اللَّه به للدلالة على ما فيه من الخيرات.
2- لقد تعجب الكفار من قريش من أمرين: إرسال رسول بشر يخوفهم من عذاب اللَّه من جنسهم وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإمكان حدوث البعث والمعاد والرجوع إلى الحياة بعد الموت مرة أخرى.
3- إن اللَّه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وعالم بكل شيء، فهو سبحانه قادر على إحياء الموتى، عالم بما تؤول إليه الأجساد من ذرأت متفتتة وعظام بالية، ولا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على جمعها وتأليفها(26/286)
وإحيائها مرة أخرى، كما خلق الناس جميعا في مبدأ الأمر من التراب: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه 20/ 55] .
4- إن سبب تكذيب الكفار بالبعث وبالمعاد وعنادهم: هو تكذيبهم بالحق الثابت الذي لا شكّ فيه، وهو القرآن الكريم المنزل من عند اللَّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنبوة الثابتة بالمعجزات، فصاروا في أمر دينهم في قلق واضطراب.
5- الأدلة على قدرة اللَّه تعالى العظيمة لإثبات البعث وإمكانه كثيرة، منها خلق الكون المشتمل على السموات المبنية بغير أعمدة، المزينة بالكواكب المنيرة، الخالية من الشقوق والصدوع، والمتضمن الأرض البديعة الجميلة التي بسطها اللَّه لتصلح للعيش الهنيء المريح، وثبتها بالجبال الراسخات الشامخات، وأنبت فيها النباتات والأشجار ذات الألوان المختلفة والأشكال العجيبة والروائح العطرة والثمار الطيبة اليانعة.
فعل اللَّه ذلك تبصيرا وتنبيها للعباد على قدرته، وتذكيرا لكل عبد راجع إلى اللَّه تعالى، مفكّر في قدرته.
6- ومن أدلة القدرة الفائقة لله تعالى إنزال المطر الكثير البركة والنفع من السحاب، الذي أنبت به البساتين، والحبوب المحصودة زروعها، المقتاتة على مدار العام، والنخيل الطوال الشاهقات ذات الطلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) .
7- وكما أحيا اللَّه هذه الأرض الميتة، فكذلك يخرج الناس أحياء بعد موتهم. وهذا دليل الإبقاء للأشياء المخلوقة بعد ذكر دليل الإحياء، فأبان تعالى أولا أنه يحيي الموتى، ثم بيّن أنه يبقيهم.(26/287)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
والخلاصة: أن الآيات اشتملت على أدلة أربعة على جواز البعث وإمكانه، وهي علم اللَّه تعالى الشامل بمصير الأجساد بعد موتها، وخلقه السموات وتزيينها بالكواكب وتسويتها دون شقوق أو صدوع، وخلقه الأرض وما فيها من جبال وأنهار ونباتات وحيوانات، وإنزاله المطر من السحاب وإخراج النبات، وهذا دليل مما بين السماء والأرض.
ويلاحظ أنه تعالى ذكر في كل آية ثلاثة أمور متناسبة، ففي آية السماء ذكر البناء والتزيين وسدّ الفروج، وفي آية الأرض ذكر المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فيها، وكل واحد هنا في مقابلة واحد مما سبق، فالمدّ في مقابلة البناء، لأن المدّ وضع والبناء رفع، والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزيّنة لها، والإنبات في الأرض شقّها. وفي آية المطر ذكر إنبات الجنات والحبّ والنخل، وهذه الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة: وهي ما له أصل ثابت يستمر مكثه في الأرض سنين وهو النخيل، وما ليس له أصل ثابت مما لا يطول مكثه في الأرض وهو الحبّ ويتجدد كل سنة، وما يجتمع فيه الأمران وهو البساتين، وهذه الأنواع تشمل مختلف الثمار والزروع «1» .
التذكير بحال المكذبين الأولين
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 165، 158.(26/288)
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أنث الفعل كَذَّبَتْ لمعنى قوم وَأَصْحابُ الرَّسِّ أصحاب بئر لم تطو أي لم تبن، كانوا مقيمين عليها بمواشيهم، يعبدون الأصنام، وهم قوم باليمامة، وقيل:
أصحاب الأخدود، ونبيهم المزعوم: حنظلة بن صفوان أو غيره وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ الغيضة الكثيفة الملتفة الشجر، وهم قوم شعيب عليه السلام وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري ملك اليمن، أسلم ودعا قومه إلى الإسلام، فكذّبوه كُلٌّ من المذكورين، أي كل واحد أو قوم منهم، أو جميعهم كَذَّبَ الرُّسُلَ إفراد الضمير لإفراد لفظه فَحَقَّ وَعِيدِ وجب نزول العذاب على الجميع، وحل عليهم وعيدي. وفيه تسلية للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتهديد لهم، أي فلا يضيق صدرك من كفر قريش بك.
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ لم نعي به، فلا نعيا بالإعادة، من العيّ عن الأمر: العجز عنه بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ بل هم في شك وحيرة من البعث، أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف، لما فيه من مخالفة العادة. وتنكير كلمة بِالْخَلْقِ لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.
المناسبة:
بعد بيان تكذيب مشركي قريش والعرب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكّرهم اللَّه تعالى وهددهم بما عاقب به أمثالهم من المكذبين قبلهم في الدنيا كقوم نوح وغيرهم، تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم ذكر تعالى دليلا جديدا على البعث وهو خلق الأنفس في بداية أمر الخلق.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، وَأَصْحابُ الرَّسِّ، وَثَمُودُ، وَعادٌ، وَفِرْعَوْنُ، وَإِخْوانُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ وَعِيدِ أي إن اللَّه سبحانه هدد كفار قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم، الذين كذبوا رسلهم، فعذبهم اللَّه إما بالطوفان كقوم نوح عليه السلام، أو بالغرق في البحر كقوم فرعون، أو بريح صرصر عاتية كعاد قوم هود، أو(26/289)
بالريح الحاصب التي تأتي بالحصباء وخسف الأرض وهم قوم لوط، أو بالصيحة وهم ثمود وأهل مدين وأصحاب الرس وأصحاب الأيكة قوم شعيب، أو بالخسف وهو قارون وأصحابه.
والسبب أن كلا من هذه الأمم كذب رسوله الذي أرسله اللَّه إليه، فوجب عليهم ما أوعدهم اللَّه تعالى، وحقّت عليهم كلمة العذاب على التكذيب، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام، لاشتراكهم في العلة، وتكذيبهم رسولهم كما كذب أولئك رسلهم.
ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا على إمكان البعث من الأنفس، فقال:
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا، أو بابتداء الخلق، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟! الحق أننا لم نعجز، والإعادة أسهل من الابتداء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] وقال جل جلاله: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] .
وجاء في الحديث القدسي الصحيح: «يقول اللَّه تعالى: يؤذيني ابن آدم، يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» .
وإنما هم في شك وحيرة واختلاط من خلق مبتدأ مستأنف، وهو بعث الأموات، فهم معترفون بأن اللَّه هو مبدئ الخلق أولا، فلا وجه لإنكارهم البعث. وهذا توبيخ للكفار وإقامة الحجة الواضحة عليهم.(26/290)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا تهديد لكفار قريش وأمثالهم بأحوال الأمم السابقة، وقد تكرر ذلك في القرآن مرارا، لتأكيد العبرة والعظة، فإن من كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استحق مثل عقاب الأمم الذين كذبوا رسلهم، فهو تذكير بأنباء من قبلهم من المكذبين، وتخويف بما أصابهم من العذاب الأليم في الدنيا.
وفيه أيضا تسلية للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لا يضيق صدره بتكذيب قومه له، وكفرهم برسالته. وفي الآيات إشارة إلى أن الرسل جميعا جاؤوا بالتوحيد وبإثبات البعث.
ثم وبّخ اللَّه تعالى منكري البعث، وأجاب عن قولهم: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ بأنه هل عجز اللَّه عن ابتداء الخلق حتى يعجز عن إعادته؟ وهذا دليل من الأنفس مضاف إلى الأدلة السابقة من الآفاق على صحة البعث وإمكانه عقلا وعادة، فالذي لم يعجز عن الخلق الأول، كيف يعجز عن الإعادة؟! والحقيقة أنهم في حيرة من البعث والحشر، منهم المصدّق، ومنهم المكذّب، وليس تكذيب المكذبين إلا كفرا وعنادا.
تقرير خلق الإنسان وعلم اللَّه بأحواله
[سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)(26/291)
الإعراب:
وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ نَعْلَمُ: في محل حال، أي نحن نعلم. وما: اسم موصول بمعنى الذي، وتُوَسْوِسُ: صلته، وبِهِ: في موضع نصب متعلق بصلة الموصول، وهاء بِهِ تعود على ما.
إِذْ يَتَلَقَّى إِذْ: ظرف، منصوب باذكر مقدرا.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ قَعِيدٌ: إما خبر عن الأول أو عن الثاني، فإن كان عن الأول فأخّر اتساعا، وحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وإن كان عن الثاني، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. أو هو خبر عن الاثنين، ولا حذف في الكلام، في قول الفراء.
مَعَها سائِقٌ سائِقٌ: إما مبتدأ، وخبره مَعَها والجملة في موضع جر، لأنها صفة ل نَفْسٍ أو مرفوع بالظرف.
البلاغة:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ استعارة تمثيلية، مثّل اللَّه تعالى علمه بأحوال العبد بحبل الوريد القريب من القلب، للدلالة على القرب بطريق الاستعارة.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ حذف بالإيجاز، أصله عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. وبين الْيَمِينِ والشِّمالِ طباق.
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ استعارة تصريحية، استعار لفظ السكرة لهول الموت وشدته.
الْوَرِيدِ، قَعِيدٌ، عَتِيدٌ، تَحِيدُ، الْوَعِيدِ، شَهِيدٌ، حَدِيدٌ توافق فواصل وسجع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
تُوَسْوِسُ تحدث، من الوسوسة: الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي والمراد: ما يخطر بالبال أو حديث النفس حَبْلِ الْوَرِيدِ العرق في صفحة العنق، ولكل إنسان وريدان، والإضافة للبيان إِذْ أي اذكر حين يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان ما يعمله قَعِيدٌ مقاعد، كجليس بمعنى مجالس.
رَقِيبٌ ملك يرقب قوله وعمله ويكتبه ويحفظه عَتِيدٌ حاضر مهيأ لكتابة الخير(26/292)
والشر، فملك اليمين يكتب الخير، وهو أمير على كاتب السيئات، وملك الشمال يكتب الشر سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته التي تذهب بالعقل بِالْحَقِّ بحقيقة الأمر ذلِكَ الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تهرب وتفزع وتميل عنه، والخطاب للإنسان.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الوعيد وتحققه للكفار بالعذاب وَجاءَتْ فيه كُلُّ نَفْسٍ إلى المحشر سائِقٌ وَشَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقها إلى أمر اللَّه، والآخر يشهد على النفس بعملها.
لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الذي ينزل بك غِطاءَكَ الغطاء الحاجب لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في ملذات الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حادّ نافذ تدرك به ما أنكرته في الدنيا.
المناسبة:
بعد أن أقام اللَّه تعالى الأدلة الساطعة على إمكان البعث في الآفاق والأنفس، شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم اللَّه تعالى، وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. ثم أخبر عن انكشاف الحقيقة بالموت، وإتيان ملكين بكل نفس يوم القيامة للسوق إلى المحشر والشهادة عليها، ورفع حجاب الغفلة عن كل إنسان، وإدراكه أحوال المعاد والحشر.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي تالله لقد أوجدنا الإنسان (وهو اسم جنس) ونعلم بجميع أموره، حتى ما يختلج في سره وقلبه وضميره من الخير والشر، ونحن أقرب إليه من حبل وريده، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه، فقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ معناه أن اللَّه تعالى لا يحجب عنه شيء، وقال ابن كثير: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده.
فهذا إخبار من اللَّه تعالى بأنه خلق الإنسان، وأن علمه محيط بجميع أموره،(26/293)
حتى ما يجول في خاطره، وحتى حديث النفس، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله. لكن لا عقاب على حديث النفس،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصحيح: «إن اللَّه تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به» «1» .
والآية لإقامة الحجج على الكفار في إنكارهم البعث.
ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه بما في قلب ابن آدم وكّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله، إلزاما للحجة، فقال:
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي ونحن أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به، فيأخذان ذلك ويثبتانه، عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، والقعيد: من يقعد معك. فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات.
جاء في الحديث عن أبي أمامة: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يسبّح أو يستغفر» . «2» .
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي ما يتكلم ابن آدم من كلمة إلا ولها من يرقبها، وهو حاضر معدّ لذلك، يكتبها، لا يترك كلمة
__________
(1) أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) عن أبي هريرة، وأخرجه الطبراني عن عمران بن حصين رضي اللَّه عنه.
(2) ذكره الزمخشري والقرطبي والبيضاوي، وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس مثل ذلك، فقال: صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر اللَّه تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها.(26/294)
ولا حركة، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار 82/ 10- 12] . والرقيب: المتبع للأمور، والحافظ لها، والعتيد: الحاضر الذي لا يغيب والمهيأ للحفظ والشهادة.
وظاهر الآية أن الملك يكتب كل شيء من الكلام، وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب. يؤيد الأول
الحديث الحسن الصحيح: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللَّه عزّ وجلّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللَّه تعالى عليه بها سخطه إلى يوم القيامة» «1»
فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. قال الحسن البصري وقتادة: يكتبان جميع الكلام، فيثبت اللَّه تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك.
وقال الحسن البصري، وتلا هذه الآية: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ، طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ثم يقول: عدل، واللَّه، فيك من جعلك حسيب نفسك.
وبعد بيان إنكارهم للبعث والردّ عليهم بإخبارهم عن قدرته وعلمه، أخبرهم
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وله شاهد في الصحيح.(26/295)
اللَّه تعالى عن ملاقاة صدق ذلك حين الموت وحين القيامة، وعن قرب القيامتين: الصغرى والكبرى، فقال عن الأولى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي يا أيها الإنسان، جاءت شدة الموت وغمرته التي تغشي الإنسان، وتغلب على عقله ببيان اليقين الذي يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الأخبار بالبعث والوعد والوعيد، والذي كنت تمتري فيه، ذلك الموت أو ذلك الحق الذي كنت تميل عنه وتفرّ منه. والخطاب للإنسان على طريق الالتفات في قوله:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إذا فسر ب: ذلك الموت، والخطاب للفاجر إذا فسر ب: ذلك الحق.
والباء في بِالْحَقِّ للتعدية، أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلية الحال، من تحقق وقوع الموت، أو من سعادة الميت أو ضدها، كما نطق بها الكتاب والسّنة.
جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه لما تغشاه الموت، جعل يمسح العرق عن وجهه، ويقول: «سبحان اللَّه، إن للموت لسكرات» .
ثم قال اللَّه تعالى مخبرا عن القيامة الكبرى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي ونفخ في الصور نفخة البعث، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد اللَّه به الكفار بالعذاب في الآخرة.
جاء في الحديث الثابت: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا:
يا رسول اللَّه، كيف نقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، فقال القوم: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل» .(26/296)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ أي وأتت كل نفس من نفوس البشر، بالبدن والروح، معها ملك يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها أو لها بالأعمال من خير أو شرّ.
ويقال للإنسان حينئذ:
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي يقال للكافر أو لكل أحد من برّ وفاجر: لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا المصير وهذا اليوم، فرفعنا عنك الحجاب الذي كان لديك، والذي كان بينك وبين أمور الآخرة، فبصرك اليوم قوي نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في حياتك، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا مصيره، ومدركا ما أنكره في الدنيا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن خلق اللَّه تعالى الإنسان، وعلمه بكل ما يصدر منه حتى حديث النفس، دليل على قدرته تعالى على البعث، وإعادة الناس أحياء يوم القيامة.
2- إن علم اللَّه بالإنسان وغيره شامل، لا يخفى عليه شيء، ولا يحجب عنه شيء، وقد مثّل تعالى قربه من الإنسان بأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وهو مجاز يراد به قرب علمه منه، وشمول معلومه عنه، وليس المراد قرب المسافة.
قال القشيري في آية: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ: في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.
3- إن اللَّه تعالى أعلم بأحوال الإنسان من غير وساطة ملك، فهو لا يحتاج إلى ملك يخبر، ولكن توكيل ملكي اليمين والشمال بكل إنسان للإلزام بالحجة، وتوكيد الأمر عليه.(26/297)
4- يحصي الملكان كل شيء من أقوال الإنسان وأعماله، فما يتكلم بشيء إلا كتب عليه، وما يفعل من شيء إلا دوّن عليه، قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه.
5- ما دام الإنسان حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت ويدرك الحق: وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان اللَّه تعالى وعده وأوعده، ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك ما كنت تفر منه وتهرب.
6- إذا نفخ في الصور النفخة الآخرة للبعث، فذلك اليوم الذي وعده اللَّه للكفار أن يعذبهم فيه.
7- يصحب كل إنسان يوم القيامة ملكان: سائق يسوقه إلى المحشر، وشاهد يشهد له وعليه بأعماله. قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس، فالسائق ملائكة موكلون بذلك، والشهيد: الحفظة وكل من يشهد.
8- يقال للإنسان البر والفاجر يوم القيامة: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من عواقب الأمور، فاليوم تتيقظ وتبصر ما لم تكن تبصره من الحقائق، وما لم تكن تصدّق به في الدنيا، وتتغافل عن النظر فيه، كالإيمان بالله وحده لا شريك له، والتصديق برسوله، وبالبعث والحشر والحساب.(26/298)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة.
[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 30]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
الإعراب:
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا: مبتدأ، وخبره: ما التي هي نكرة موصوفة بمعنى شيء. وعَتِيدٌ: إما خبر ثان، أو صفة ل ما أو بدل من ما.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أَلْقِيا: الخطاب للسائق والشهيد، فهو خطاب لاثنين، أو الخطاب لملك واحد هو مالك خازن النار، لأن من عادة العرب مخاطبة الواحد بلفظ الاثنين، أو تثنية ما يقال له: ألق ألق، أو ألقين بنون التوكيد الخفيفة، لكنه ضعيف، لأن مثل هذا يكون في الوقف على الكلام لا في الوصل.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي: إما مرفوع على أنه مبتدأ ضمّن معنى الشرط، وخبره:
فَأَلْقِياهُ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو منصوب على أنه بدل من قوله تعالى: كُلَّ كَفَّارٍ أو منصوب بفعل مقدّر يفسره فَأَلْقِياهُ.
يَوْمَ نَقُولُ يَوْمَ: ناصبه ظلّام.
البلاغة:
بين قوله عَتِيدٌ وعَنِيدٍ جناس ناقص لتغاير حرفي النون والتاء.(26/299)
المفردات اللغوية:
قَرِينُهُ الملك الموكّل به أو الشيطان الذي قيض له، والثاني أصح بدليل قوله: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ... عَتِيدٌ مهيأ معدّ لجهنم، حاضر لدي عَنِيدٍ معاند للحق. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمفروض كالزكاة، وقيل: المراد بالخير: الإسلام. مُعْتَدٍ ظالم متعد للحق.
مُرِيبٍ شاك في اللَّه وفي دينه وأخباره.
فَأَلْقِياهُ تكرار للتأكيد. قالَ قَرِينُهُ الشيطان المقيض له في قوله تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] . رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أضللته، كأن الكافر قال:
هو أطغاني، فقال: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بعيد عن الحق، أي فأعنته على ضلاله، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي، مائلا إلى الفجور، كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم 14/ 22] .
لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ لا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فلا ينفع الخصام والجدال هنا.
وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أخبرتكم في الدنيا وتقدمت إليكم في الكتب بالرسل بوعيدي بالعذاب في الآخرة إذا لم تؤمنوا. ما يُبَدَّلُ بغير. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فلا أعذب بغير جرم، وظلام: ذو ظلم، لقوله تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر 40/ 17] .
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ زيادة، وهذا سؤال وجواب جيء بهما لتصوير ملء النار بالناس والجن، وهي من السعة بحيث يدخلها من يدخلها، ويبقى فيها فراغ بعدئذ.
سبب النزول: نزول الآيات (24- 26) :
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ..: قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، لما منع بني أخيه عن الخير وهو الإسلام.
المناسبة:
بعد بيان أحوال الناس يوم القيامة وعند الموت، ذكر اللَّه تعالى صورة حوار بين الكافر وقرينه الشيطان، في يوم القيامة، لمعرفة مدى جناية الإنسان على(26/300)
نفسه، وزجّها في نيران جهنم، وإصغائه لوساوس الشيطان وإغراءاته، وتأثره بها بسبب خلل رأيه، وضعف عقله، وميله إلى الفجور.
التفسير والبيان:
وَقالَ قَرِينُهُ: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي قال الملك الموكل به بابن آدم:
هذا ما عندي من كتاب عملك معدّ محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد:
هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته، واختار ابن جرير: أنه يعم السائق والشهيد.
وفسر الزمخشري القرين هنا بأنه هو الشيطان الذي قيض للإنسان في قوله تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] ويشهد له قوله تعالى بعدئذ: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ يقول الشيطان: هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم، والمعنى: أن ملكا يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطانا مقرونا به يقول: قد اعتدته لجهنم وهيّأته لها بإغوائي وإضلالي.
وقد رجحت الرأي الثاني، لأن الشيطان هو قرين كل فاجر، يقول لأهل المحشر، أو لسائر القرناء: قد هيّأت قريني لجهنم.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أي يقول اللَّه تعالى للسائق والشهيد:
اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر، مكابر معاند للحق وأهله، كثير الكفر والتكذيب بالحق، معارض له بالباطل مع علمه بذلك.
وهو أيضا كثير المنع للخير كالزكاة، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق، ولا يبذل خيرا لأحد من قريب أو فقير بصلة رحم أو صدقة، ويمنع أقاربه عن الدخول في الإسلام، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كما تقدم، كان يمنع بني(26/301)
أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم في الإسلام، لم أنفعه بخير ما عشت.
وهو متعد على الناس بالفحش والأذى والبطش، متجاوز الحد في الإنفاق من ماله، ظالم لنفسه لا يقر بتوحيد اللَّه، شاكّ في الحق وفي أمره وفي دين اللَّه، ومشكك غيره.
لكل هذا أكد اللَّه تعالى إلقاءه في جهنم فقال للملكين، أو لمالك خازن النار جريا على عادة الكلام في مخاطبة الواحد بخطاب الاثنين: فألقياه في النار ذات العذاب الشديد.
جاء في الحديث: أن عنقا من النار يبرز للخلائق، فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكّلت بثلاثة: بكل جبّار عنيد، ومن جعل مع اللَّه إلها آخر، وبالمصوّرين، ثم تنطوي عليهم.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «يخرج عنق من النار، يتكلم يقول: وكّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع اللَّه إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير نفس، فتنطوي عليهم، فتقذفهم في غمرات جهنم» .
ثم ذكر اللَّه تعالى صورة من الحوار بين الكافر والشيطان قرينه، فقال:
قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي يقول الشيطان عن قرينه الذي وافى القيامة كافرا، متبرئا منه: يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان، بل كان هو في نفسه ضالا، مؤثرا الباطل، معاندا للحق بعيدا عنه، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه، أي وكأن الكافر يريد الاعتذار قائلا: يا ربّ إن قريني الشيطان أطغاني، فأجاب القرين الذي قيض له وهو الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ.(26/302)
وهذا اعتراف بالحقيقة، كما قال الشيطان في آية أخرى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم 14/ 22] .
قالَ: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي قال الرب عز وجل لهما- للكافر وقرينه الشيطان: لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بالإنذار والوعيد، وأعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج والبراهين، والمراد أن اعتذاركم الآن غير نافع لدي.
وأضاف اللَّه تعالى برد آخر قائلا:
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي قضيت ما أنا قاض، ولا يغير حكمي وقضائي، ولا خلف لوعدي، بل هو كائن لا محالة، وقد قضيت عليكم بالعذاب بسبب كفركم، فلا تبديل له، ولا أعذب أحدا ظلما بغير جرم اجترمه أو ذنب اقترفه أو أذنبه بعد قيام الحجة عليه.
ثم أكد اللَّه تعالى حلول العذاب في جهنم قائلا:
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ أي اذكر يا محمد لقومك وأنذرهم حين يقول اللَّه تعالى لجهنم: هل امتلأت بالأفواج من الجنّة والناس؟ فتنطق جهنم وتجيبه قائلة: هل بقي شيء من زيادة تزيدونني بها؟
والمراد أنها اكتفت وامتلأت بما ألقي فيها، أي لا أسع أكثر من ذلك فإني قد(26/303)
امتلأت «1» ، ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة، وتضييقا للمكان عليهم.
قال أهل المعاني: سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل والتصوير الذي يقصد به تقرير وتصوير المعنى في النفس وتثبيته، وفيه معنيان كما تقدم:
أحدهما- أنها تمتلئ مع اتساعها، حتى لا يزاد عليها شيء، والثاني- أنها من السعة حيث يدخلها من يدخلها، وفيها موضع للمزيد «2» .
وقد أورد ابن كثير عدة أحاديث تؤيد مدلول الآية بالمعنى الأول وهو استكثارها الداخلين، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود 11/ 119] منها:
ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها، فتقول: قط قط»
أي كفى كفى.
وأخرج مسلم في صحيحة عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «احتجّت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبّارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضي بينهما، فقال للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحد منكما ملؤها» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- يقدّم الملك الموكّل بالإنسان ما عنده من كتابة عمله المعدّ المحفوظ.
__________
(1) وعلى هذا يكون الاستفهام الأول للتقرير، فالله يقررها بأنها امتلأت، أي يجعلها تقر بذلك، والاستفهام الثاني بمعنى النفي، أي لا أسع غير ذلك، وهو جواب الاستفهام الأول.
(2) الكشاف: 3/ 163 [.....](26/304)
ويقدّم الشيطان قرناءه فيقول: هذا العاصي معدّ عندي لجهنم، أعددته بالإغواء والإضلال.
2- إن من كبائر الأعمال الموجبة لعذاب جهنم: الكفر بالله والشرك به، ومعاندة الحق ومكابرته، وإيثار الباطل وأهله، ومنع المال عن حقوقه، أو منع الناس عن الإسلام، وتجاوز الحد المعتدل في الإنفاق، والتكذيب بالحق، والشك في دين اللَّه، وتشكيك الآخرين، وجعل شريك آخر معبود مع اللَّه.
3- يؤمر الملكان: السائق والشهيد بإلقاء الكافر العنيد المتصف بما ذكر في نار جهنم ذات العذاب الأليم الشديد، ويؤكد اللَّه تعالى أمره بإلقاء الكفار.
4- كل من الشيطان والفاجر الكافر يلقي التبعة في كفره على الآخر ويتبرأ الشيطان من الكافر ويكذبه يوم القيامة، وينسب الطغيان والكفر له، لا لنفسه، والحق أن كلا الفريقين في النار، وقد أعذر من أنذر، واللَّه تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الإنس والجن، فاختار كل منهما ما يحلو له.
5- يستحيل الظلم على اللَّه تعالى، فهو سبحانه لا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يعذب من لا يستحق العذاب، ولا يغير قضاءه المبرم، وحكمه العادل الذي حكم به.
6- يملأ اللَّه تعالى جهنم بالكفار والمشركين والملحدين والماديين والعصاة حتى لا يبقى فيها موضع لزيادة، أو أنها تطلب الزيادة تغيظا على الكفار، وتضييقا للمكان عليهم.(26/305)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
حال المتقين
[سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
الإعراب:
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ.. مَنْ: إما بالجر على البدل من أَوَّابٍ حَفِيظٍ وإما بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره قوله تعالى: ادْخُلُوها على تقدير، يقال لهم: ادخلوها.
ولِكُلِّ أَوَّابٍ: بدل من قوله: لِلْمُتَّقِينَ، بإعادة الجارّ.
المفردات اللغوية:
وَأُزْلِفَتِ قرّبت لهم. غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد منهم، بل هو بمرأى منهم، فهي منصوبة على الظرف، ويجوز أن تكون غَيْرَ حالا، وذكّرت كلمة بَعِيدٍ لأنها صفة لشيء محذوف، أي شيئا غير بعيد، أو لأن الجنة بمعنى البستان، أو على زنة المصدر كالزفير والصهيل، كما تقرر في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] .
هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم: هذا ما توعدون، والإشارة إلى الثواب، أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل، ويقرأ أيضا بالياء: يوعدون. أَوَّابٍ كثير الرجوع إلى اللَّه تعالى وطاعته. حَفِيظٍ كثير الحفظ أي حافظ لحدود اللَّه وشرائعه.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ من خاف عقاب اللَّه، وهو غائب عن الأعين، فلم يره أحد.
مُنِيبٍ مقبل على طاعة اللَّه. ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي يقال لهم: أدخلوها سالمين من كل خوف أو مسلّما عليكم من اللَّه وملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ذلك اليوم الذي حصل فيه الدخول يوم الخلود في الجنة، إذ لا موت فيها، أي يوم تقدير الخلود، كقوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر 39/ 73] .(26/306)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي زيادة، وهو ما لا يخطر ببالهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
المناسبة:
بعد بيان الحوار الذي يحصل يوم القيامة بين الكافر وقرينه من الشياطين، بيّن اللَّه تعالى حال المتقين، جريا على عادة القرآن بالمقارنة بين الأضداد، وإيراد الشيء بعد نقيضه، فيحذر الإنسان ويخاف، ويطمع ويتأمل ويرجو رحمة اللَّه تعالى، وبه تم الجمع بين الترهيب والترغيب وبين الخوف والرجاء أو الطمع.
التفسير والبيان:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي أدنيت وقرّبت لأهل التقوى تقريبا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد، بل هي بمرأى منهم، يشاهدونها في الموقف، وينظرون ما فيها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هذا ما تُوعَدُونَ، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي تقول الملائكة لهم: هذا النعيم الذي ترونه من الجنة هو ما وعدتم به في كتب ربكم وعلى ألسنة الرسل الذين أرسلهم اللَّه لكم، وهذا الثواب بعينه هو لكل رجّاع إلى اللَّه تعالى وطاعته بالتوبة عن المعصية، والإقلاع عن الذنب، كثير الحفظ لحدود اللَّه وشرائعه، ويحفظ العهد، فلا ينقضه ولا ينكثه ولا يهمل شيئا منه.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي ذلك المحافظ على الحدود، فلا يقربها: هو من خاف اللَّه ولم يكن رآه، وخاف اللَّه في سره حيث لا يراه أحد إلا اللَّه عز وجل،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في السبعة الذين يظلهم في ظله يوم القيامة فيما أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «ورجل ذكر اللَّه تعالى خاليا، ففاضت عيناه»
أي: بالدموع.(26/307)
وهو أيضا من رجع إلى اللَّه بقلب مخلص في طاعة اللَّه، ولقي اللَّه عز وجل يوم القيامة بقلب سليم إليه، خاضع لديه.
ادْخُلُوها بِسَلامٍ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ويقال لهم: ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب، ومن زوال النعم، ومن كل المخاوف، أو مسلّما عليكم من اللَّه وملائكته، ذلك اليوم الذي تدخلون فيه هو يوم الخلود الدائم أبدا، الذي لا موت بعده، ولا تحوّل عنه.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها، وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر كل ما يريدون في الجنة، وتشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، من أنواع الخير، وأصناف النعم بحسب رغبتهم، فمهما اختاروا وجدوا ومن أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. ولدينا مزيد من النعم التي لم تخطر لهم على بال، ولا مرت لهم في خيال، كقوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] جاء في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه اللَّه الكريم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن في وصف جهنم الملأى بالكفار والفجار والعصاة، وفي وصف الجنة المقربة المرئية للمتقين تثبيتا للإيمان بالبعث وتقوية له، وتحذيرا وتخويفا من عمل أهل النار، وترغيبا في اقتفاء آثار وأعمال المؤمنين الذين يدخلون الجنة، كما أن في تقريب الجنة للمتقين وإدنائها لهم غير بعيدة عنهم إشعارا لهم بتيسير الوصول إليها.
2- يؤكد اللَّه تعالى الشعور بالنعمة والاطمئنان في الجنة للمتقين، فتقول(26/308)
الملائكة لهم: هذا الجزاء الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الرسل.
3- أهل الجنة هم كل أوّاب رجاع إلى اللَّه عن المعاصي، حافظ لحدود اللَّه وشرائعه، فيعمل بها ولا يتجاوزها ولا يتخطاها إلى غيرها، خائف من اللَّه رب العزة، وإن لم يره، وجل منه في سره وعلانيته، يجيء إلى ربه يوم القيامة بقلب منيب أي مقبل على الطاعة، محبّ لها، مرتاح بفعلها، غير متضجّر بها.
4- تقول الملائكة للمتقين أهل الجنة: ادخلوها بسلام من العذاب ومن زوال النعم، وبسلام من اللَّه وملائكته عليكم.
5- في الجنة للمتقين ما تشتهيه أنفسهم وتلذّ أعينهم، ويجدون لدى ربهم مزيدا من النعم، مما لم يخطر على بالهم، زيادة على النعم: وهو النظر إلى وجه اللَّه تعالى بلا حصر ولا كيف ولا تجسيد.
ذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة، فإن اللَّه تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة، كل يوم جمعة، في كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في القرب.
وروى الإمام الشافعي في مسنده عن أنس بن مالك قريبا من ذلك، وجاء فيه: «.. فإذا كان يوم الجمعة أنزل اللَّه تعالى ما شاء من الملائكة، وحوله منابر من نور، عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول اللَّه عز وجل: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة» .(26/309)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
تهديد منكري البعث وإثباته لهم مرة أخرى وأوامر للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
الإعراب:
يَوْمَ يَسْمَعُونَ يَوْمَ: بدل من يوم في قوله: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً يَوْمَ: منصوب من وجهين:
أحدهما: أنه منصوب على البدل من يَوْمَ في قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.. أي واستمع حديث يوم ينادي المنادي، فحذف المضاف، وهو مفعول به.
والثاني: أنه منصوب لتعلقه بقوله تعالى: وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ وتقديره: وإلينا يصيرون في يوم تشقق.
وسِراعاً: حال من الهاء والميم في عَنْهُمْ وعوامله: إما تَشَقَّقُ أو فعل مقدر، أي فيخرجون سراعا.(26/310)
المفردات اللغوية:
وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا. قَبْلَهُمْ قبل قومك كفار قريش. مِنْ قَرْنٍ القرن: الأمة والجماعة والجيل من الناس، أي أهلكنا قبل كفار قريش أمما وقرونا وجماعات كثيرة من الكفار. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة، كعاد وفرعون. فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ بحثوا وفتشوا وساروا في الأرض يطلبون الرزق والمكسب. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب لهم من اللَّه أو من الموت.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر في هذه السورة لتذكرة وعظة وعبرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ عقل يعي به ويتفكر في الحقائق. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أصغى بسمعه للوعظ. وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر الذهن ليفهم المعاني. وفي تنكير كلمة قَلْبٌ وإبهامه إشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كأنه غير موجود.
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها الأحد وآخرها الجمعة. لُغُوبٍ تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فالله منزه عن صفات المخلوقين، لا يتعرض لتعب حتى يستريح منه، وإذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها النبي على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قادر على بعثهم والانتقام منهم، واصبر أيضا على ما يقول اليهود وغيرهم من التشبيه للخالق والتكذيب لك، والكفر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه عن العجز وعن كل نقص، مصحوبا بالحمد والشكر. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أي صلاة الفجر والعصر والظهر.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي سبحه بعض الليل، وصل العشاءين. وَأَدْبارَ السُّجُودِ أعقاب الصلوات، جمع دبر، وقرئ بالكسر: وَأَدْبارَ مصدر أدبر، أي صل النوافل المسنونة عقب الصلوات الفرائض المكتوبة، وسبح التسبيح المعروف في هذه الأوقات مع الحمد.
وَاسْتَمِعْ أيها المخاطب لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفي هذا تهويل وتعظيم للمخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ هو إسرافيل، فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن اللَّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي كما ذكر الزمخشري: من صخرة بيت المقدس «1» ، وهي أقرب الأرض من السماء، وهي وسط الأرض، أو من أقرب الأماكن إلى الناس بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء.
__________
(1) هذا- كما قال قتادة- منقول عن كعب الأحبار. وفي تقديري كما ذكر الرازي أن المراد ظهور النداء لكل مخلوق، وليس المراد من المكان القريب المكان نفسه.(26/311)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ يسمع الخلق كلهم. الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ صيحة البعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل بالبعث والحشر للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي ذلك يوم النداء والسماع هو يوم الخروج من القبور. الْمَصِيرُ المرجع والمآب للجزاء في الآخرة.
تَشَقَّقُ تتشقق، وقرئ بتشديد الشين، أي تشقّقّ. سِراعاً مسرعين، جمع سريع.
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي ذلك بعث وجمع هيّن علينا، وتقديم الظرف: عَلَيْنا للاختصاص، لأن الإحياء بعد الإفناء، والجمع للعرض والحساب لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته، الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي كفار قريش، وهو تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتهديد لهم.
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط عليهم تقسرهم أو تجبرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنما أنت داع. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي يخاف وعيدي، وهم المؤمنون، فإنه لا ينتفع بالقرآن غيرهم.
سبب النزول: نزول الآية (38) :
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ..:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: أن اليهود أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: خلق اللَّه الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة.
قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: استراح، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غضبا شديدا، فنزل:(26/312)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول اللَّه، لو خوفتنا؟
فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
وقال الحسن وقتادة: قالت اليهود: إن اللَّه خلق الخلق في ستة أيام، واستراح يوم السابع، وهو يوم السبت، يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أنذر اللَّه تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة، عاد إلى التهديد والإنذار بعذاب الدنيا المهلك والدمار الشامل، وتوسط الإنذارين بيان حال المتقين في الجنان للجمع بين الترهيب والترغيب كما تقدم، ثم أبان تعالى أن الإهلاك عظة وتذكير وعبرة لكل ذي عقل واع، مفكر بالربط بين الأسباب والنتائج.
ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث من خلق السموات والأرض مرة أخرى مع تنزيه نفسه عن العناء والتعب في الخلق، ثم أمر تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث ومن حديث التعب بالاستلقاء، وبتنزيه اللَّه عن كل نقص منتظرا المنادي، ولا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة، فقد اقترب يوم البعث، وسمع صوت الداعي إليه، فالله هو المحيي والمميت وإليه المصير، يوم تتشقق الأرض سراعا ويخرج الناس من القبور، ثم أخبر سبحانه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بعلمه بما يقول المشركون في البعث، فلست عليهم بجبار مصيطر، وتابع مهمتك في الإنذار وتبليغ الدعوة بالتوحيد، وذكّر بهذا القرآن من يخاف عقابي ويخشى وعيدي.(26/313)
التفسير والبيان:
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟ أي وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم، من أمم وجماعات، كانوا أكثر منهم، وأشد قوة، وآثارا في الأرض، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم، وقد أثروا في البلاد، فساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب، أكثر مما طفتم بها، فهل لهم من مفر أو مهرب يهربون إليه، يتخلصون به من العذاب، ومن قضاء اللَّه وقدره، وهل نفعهم ما جمعوه من أموال، وردّ عنهم عذاب اللَّه لما جاءهم لتكذيبهم الرسل، فأنتم أيضا لا مفر لكم، ولا محيد، ولا مناص، ولا مهرب.
ثم ذكر اللَّه تعالى أن تلك الإنذارات والتهديدات والزواجر لا ينتفع بها إلا المفكرون، فقال:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ أي إن فيما ذكر من قصة هؤلاء الأمم، وما ذكر في هذه السورة وما قبلها من الآداب والمواعظ، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات، لتذكرة وموعظة وعبرة لمن يعتبر بها، من كل ذي عقل واع، يتأمل به، ويتدبر الحقائق والأسباب والنتائج.
ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى، فقال:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي وتالله لقد أوجدنا من غير مثال سبق السموات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات، في أيام ستة، وما أصابنا أي إعياء ولا تعب ولا نصب.
وهذا رد على اليهود، فإنهم- كما قال قتادة- قالوا: خلق اللَّه السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد، وآخرها الجمعة، ثم استراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه.(26/314)
والآية تقرير للمعاد، لأن من قدر على خلق السموات والأرض، ولم يتعب بخلقها، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى في آية أخرى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] وكما قال عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] .
ذكر الرازي أن المراد بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار، لا الأيام المعروفة في وضع اللغة، لأن اليوم عبارة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب، وقبل خلق السموات لم يكن شمس ولا قمر، لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت أو الحين «1» .
ثم أوضح اللَّه تعالى لنبيه الموقف الذي يتخذه في مواجهة منكري البعث واليهود المشبّهة للخالق بالمخلوق، فقال آمرا له بعدة أوامر هي:
1- فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون المكذبون بالبعث، وعلى ما يقوله اليهود من حديث التعب والاستلقاء، فتلك أقوال باطلة لا دليل عليها.
2- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ أي ونزّه دائما اللَّه ربك عن كل عجز ونقص، واحمده دائما، قائلا: سبحان اللَّه وبحمده، وقت الفجر ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب الصلوات.
وقال ابن عباس: المراد بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان، وأدبار
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 183- 184(26/315)
السجود: النوافل بعد الفرائض أو التسبيح بعد الصلاة. ومن قال: إن المراد بالتسبيح الصلاة، فلأن الصلاة تسمى تسبيحا، لما فيها من تسبيح اللَّه تعالى.
وقد جاء الأمر بالتسبيح بعد الصلاة في أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: «جاء فقراء المهاجرين، فقالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدّثور «1» بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما ذاك، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون كما نتصدق، ويعتقون كما نعتق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فقالوا:
يا رسول اللَّه، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» [المائدة 5/ 54] .
وجاء في صحيح الحديث: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ»
أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة.
3- وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي واستمع أيها الرسول صيحة القيامة وهي النفخة الثانية في الصور من إسرافيل عليه السلام، يوم ينادي نداء يسمعه كل فرد من أفراد المحشر، قائلا: هلموا إلى الحساب، فيخرجون من قبورهم.
ولا مانع من عطف وَاسْتَمِعْ على فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ مع أن الصبر والتسبيح يكون في الدنيا، والاستماع يكون يوم القيامة، لأن المراد كما في
__________
(1) المراد بهم: الأغنياء أصحاب الثراء، من الدّثار: وهي الثياب الخارجية.(26/316)
قولهم: صل وادخل الجنة، أي صل في الدنيا، وادخل الجنة في العقبى. ويحتمل أن يقال: بأنّ اسْتَمِعْ بمعنى انتظر.
قال الرازي: وقوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد، بل يستوي في استماعه كل أحد، وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على اللَّه تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب المكان نفسه، بل ظهور النداء، وهو من اللَّه تعالى أقرب «1» .
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ يعني أن صيحة البعث كائنة حقا، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على الأعمال، وذلك اليوم يوم الخروج من القبور.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي إننا نحن نحيي في الدنيا والآخرة، ونميت في الدنيا حين انقضاء الآجال، لا يشاركنا في ذلك مشارك، وإلينا المرجع في الآخرة للحساب والجزاء، فنجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا تقرير القدرة الإلهية على الإحياء ابتداء وإعادة، وعلى الإماتة، وإجراء الحساب، وأكد ذلك بقوله:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي وإلينا المصير وقت أن تتصدع الأرض عنهم، فيخرجون من القبور، ويساقون إلى المحشّر، مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم، ذلك بعث وجمع هيّن لدينا وعلينا، لا مشقة فيه ولا عسر، كما قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] وقال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان 31/ 28] .
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 188.(26/317)
ثم هدد المشركين بقوله:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون، من التكذيب فيما جئت به، ومن إنكار البعث والتوحيد، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم، ويقسرهم على الإيمان، إنما أنت مبلّغ، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقوله سبحانه:
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] .
4- فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي فذكّر أيها الرسول بهذا القرآن العظيم، وبلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر به من يخاف اللَّه ويخشى عقابه ووعيده للعصاة بالعذاب، ويرجو وعده وفضله ورحمته، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تعبر عن التحدي لدعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكيفية مواجهة التحدي والصمود أمامه، أو ما يعبر عنه اليوم الفعل ورد الفعل. ويفهم منها ما يأتي:
1- هدد اللَّه المشركين من كفار قريش وأمثالهم وأنذرهم وحذرهم بعذاب الآخرة الأليم، وبعذاب الدنيا المدمر الذي أوقعه بمن قبلهم من الأمم والشعوب المكذبة رسلها، مع أنهم كانوا أقوى وأصلب وأغنى وأكثر مالا وأرقى مدنية وحضارة من أهل مكة.
فلم يجدوا مهربا ولا مفرا من الإهلاك والتدمير، وكذلك لا يجد أمثالهم ملجأ ولا محيدا من إيقاع العذاب المماثل بهم.
2- إن في هذا الإنذار والتهديد والتخويف والمذكور في هذه السورة تذكرة وموعظة لكل ذي قلب أي عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل، لأنه(26/318)
موضعه في رأي القرطبي وغيره من المتقدمين.
3- بالرغم من هذا التذكير العام بما سبق، أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى للرد على منكريه، وللرد على اليهود الذين زعموا أن اللَّه تعالى بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، فأكذبهم اللَّه تعالى في ذلك.
4- علّم اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم في مواجهة هذه التحديات لرسالته بأربعة أوامر: هي الصبر على ما يقولون، والاستعانة على ذلك بالتسبيح والصلاة، لتقوية الإرادة والعزيمة بالصبر، وتقوية الروح بالتسبيح والصلاة، ففي ذلك لقاء مع خالق الوجود، وتفويض له، واستلهام منه، واستعانة واستغاثة به وبقدرته الفائقة الباهرة.
والأمر الثالث: الاشتغال بتنزيه اللَّه تعالى مدى الدهر، كقوله سبحانه:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر 15/ 99] أي الموت، والاستماع لما يخبره اللَّه به من أهوال القيامة، وتحذيره أن يكون مثل هؤلاء المعرضين.
والأمر الرابع: التذكير بالقرآن، ومتابعة تبليغ الرسالة ودعوة اللَّه، لمن يخاف عقاب اللَّه ويخشى وعيده. كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بارّ يا رحيم. ونحن نقول معه ذلك إلى الأبد.
وتخلل هذه الأوامر الأربعة إخبار بأمور أربعة تساعد على امتثال الأوامر واستهلاك طاقات التحدي واستيعابها وإنهائها: وهي التذكير بسماع صيحة القيامة وصيحة البعث والحشر للجزاء والحساب يوم خروج الناس من القبور، وإعلان حقيقة كون اللَّه هو المحيي والمميت وإليه مصير الخلائق للحساب والجزاء، وإظهار كيفية تصدع الأرض وتشققها لخروج الناس الموتى منها أحياء مسرعين لإجابة نداء المنادي إلى المحشر، علما بأن ذلك الحشر والجمع هيّن يسير على اللَّه،(26/319)
وإعلام الكفار وغيرهم بأن علم اللَّه محيط شامل لكل ما يقولون، وما يعملون من تكذيب وشتم.
وهذه الأمور الأربعة في غاية التهويل والتفخيم والتهديد لأهل التحدي ودعاة التحدي وأعوانهم وسلالاتهم وأشياعهم في كل عصر.
انتهى الجزء فلله الحمد والمنة(26/320)
[الجزء السابع والعشرون]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
مكيّة، وهي ستون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها، وأنها من جند الله تعالى.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
1- ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى:
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق، وأن الجزاء واقع.
2- ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة، كقوم نوح، وعاد وثمود، ولوط وشعيب، وتبّع، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم السلام.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي(27/5)
التوحيد والرسالة والبعث، ونفي أضدادها وهي الشرك، وتكذيب النبوة، وإنكار المعاد.
وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء، والسحب التي تحمل الأمطار، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية، وتدبّر أمر الخلق.
ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر، ليدرك العاقل الفرق بينهما، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة.
وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها، فكان مصيرهم الدمار والهلاك، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى، وعاد وثمود، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه.
ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا، والفرار إلى الله من مخاطرها، والنهي عن الشرك بالله، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن قومه، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة الله تعالى وعبادته والإخلاص له، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين.(27/6)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
القسم على وقوع البعث
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
الاعراب:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً الواو: واو القسم، وَالذَّارِياتِ صفة لموصوف محذوف تقديره:
ورب الرياح الذاريات، فحذف الموصوف، وجواب القسم: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ.
فَالْحامِلاتِ وِقْراً وِقْراً مفعول الحاملات.
فَالْجارِياتِ يُسْراً يُسْراً صفة لمصدر محذوف، تقديره: جريا يسرا، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه، أو مصدر في موضع الحال، أي ميسرة.
إِنَّما تُوعَدُونَ ما: مصدرية أو موصولة، وهو جواب القسم.
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ مبتدأ وخبر.
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يَوْمَ في موضع رفع على البدل من يَوْمَ الأول، إلا أنه بني، لأنه أضيف إلى غير متمكن.
البلاغة:
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ في قوله: قُتِلَ استعارة تبعية، حيث استعار القتل للدعاء عليهم باللعن، لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك.(27/7)
المفردات اللغوية:
وَالذَّارِياتِ الرياح تذرو التراب وغيره. فَالْحامِلاتِ السحب تحمل الأمطار.
وِقْراً ثقلا. فَالْجارِياتِ السفن التي تجري على سطح الماء. يُسْراً بسهولة أو جريا سهلا. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة التي تقسّم أمور العباد والأمطار والأرزاق وغيرها.
إِنَّما تُوعَدُونَ أي إن وعدكم بالبعث وغيره. لَصادِقٌ لوعد صادق. وَإِنَّ الدِّينَ الجزاء بعد الحساب. لَواقِعٌ لحاصل لا محالة. استدل تعالى باقتداره على هذه الأشياء على اقتداره على البعث الموعود.
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرق جمع حبيكة، إما الطرق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو الطرق المعقولة التي يتوصل بها إلى المعارف. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ إنكم يا أهل مكة في شأن القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم في قول متناقض مضطرب، فتقولون تارة: سحر وساحر، وتارة: شعر وشاعر، وتارة: كهانة وكاهن، وتقولون أحيانا: الله خالق السموات والأرض، ثم تقولون بعبادة الأوثان معه، وفي شأن الحشر: تارة تقولون: لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون:
الأصنام شفعاؤنا يوم القيامة عند الله.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يصرف عن الرسول أو القرآن أو الإيمان من صرف عن الهداية في علم الله تعالى، إذ لا صرف أشد منه.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف. فِي غَمْرَةٍ جهل يغمرهم. ساهُونَ غافلون عما أمروا به. يَسْئَلُونَ النبي سؤال استهزاء. أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ متى مجيء يوم الجزاء؟ وجوابهم محذوف، أي يجيء. يُفْتَنُونَ يحرقون، يقال:
فتنت الذهب: أحرقته وأذبته ليعرف غشه، فاستعمل في الإحراق والتعذيب. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي يقال لهم: ذوقوا تعذيبكم. هذَا التعذيب. الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وقوعه في الدنيا استهزاء.
التفسير والبيان:
لما بيّن الله تعالى في آخر سورة ق المتقدمة أن المشركين مصرّون على إنكار الحشر بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم، لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان، فافتتحت هذه السورة بذلك:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً،(27/8)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ
أقسم الله سبحانه هنا لإثبات الحشر بالمتحركات، لأن الحشر فيه جمع وموج وتفريق، وهو بالحركة أليق، فأقسم بالرياح التي تذرو وتفرّق التراب وكل ما شأنه أن يتطاير متجاوزة قانون الجاذبية الأرضية، وبالسحب التي تحمل الماء بكميات ثقيلة، وبالسفن التي تجري فوق وجه الماء، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد، وكل ملك مخصص بأمر، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء، وميكائيل الموكل بالرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصّور، وعزرائيل لقبض الأرواح.
أقسم سبحانه بتلك المظاهر الكونية المرئية وغير المرئية العجيبة التأثير على أن ما وعد به الناس من الحشر إلى الله تعالى، ووقوع المعاد، لصادق غير كاذب، وأن الجزاء من الثواب والعقاب لكائن حاصل لا محالة.
وكان هذا القسم تأكيدا لإخباره بوقوع الحشر ويسره وسهولته في السورة السابقة ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وفيه إشارة إلى إنكار مشركي مكة وأمثالهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان عليه.
والحكمة من القسم هنا وفي غير ذلك من السور أن العرب كانت تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قوي الحجة، غالب في المجادلة والبرهان، فأقسم الله لهم بكل شريف ليعلموا صدقه، ويؤكد حجته، كما أنهم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها، فحلف الله لهم للتصديق والثقة التامة، وهم يعلمون أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلف كاذبا، ولم يصب بسوء بعد أيمانه، بل ازداد رفعة وثباتا، مما يدل على كونه صادقا فيما يقول.
ثم إن هذه الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل على كامل قدرته على البعث وغيرها، فمن أوجد هذه الأشياء وصرّفها كيفما يشاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق مرة أخرى يوم القيامة.(27/9)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي والسماء ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء، فكل شيء أحكمته وأحسنت عمله، فقد حبكته واحتبكته، أو ذات الشدة مثل قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ [الطارق 86/ 11] أو ذات الطرائق والممرات المحكمة وهي ممرات الكواكب، والبناء المتقن، مثل قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج 85/ 1] .
والخلاصة: والسماء ذات البنيان المتقن والجمال والحسن والطرائق المحكمة إنكم يا كفار قريش لفي قول مضطرب متناقض غير متلائم في أمر القرآن والرسول، فمرة تقولون في القرآن: شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، وحينا تقولون في الرسول: شاعر وساحر وكاهن ومجنون، وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به من كذّب به، ويروج على من هو ضال في نفسه، جاهل غمر لا فهم له، لأنه قول باطل، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول متناقض، إذ الشاعر أو الساحر أو الكاهن يحتاج إلى عقل وذكاء وفطنة، أما المجنون فلا عقل عنده.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ لعن وقبح الكذابون أصحاب القول المختلف المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين هم في جهل يغمرهم، غافلون في الكفر والشك عما أمروا به وعما هم قادمون عليه.
وهذا في الأصل دعاء عليهم بالقتل والهلاك، كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس 80/ 17] ثم جرى مجرى: لعن وقبح.
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء، قائلين: متى يوم الجزاء؟ فقل لهم: إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم، يقال: فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره.(27/10)
ويقال لهم من الخزنة:
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي يقال لهم: ذوقوا عذابكم أو حريقكم، هذا العذاب الذي كنتم تتعجلون به أو تطلبون تعجيله استهزاء منكم، وظنا أنه غير كائن.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
1- تعظيم المقسم به وهو الرياح الشديدة التأثير التي لا تخضع لقانون الجاذبية، والسحب المحملة بأحمال ثقيلة وهي الأمطار سبب الرزق والخيرات، والسفن الجارية فوق سطح الماء، والملائكة التي تقسّم الأمطار وأرزاق العباد وأمورهم. ولله أن يقسم على ما يشاء، في أي وقت يشاء، ولكل أمر يشاء.
ويلاحظ أن جميع السور التي بدئت بغير الحروف، كهذه السورة، كان المقسم عليه أحد أصول الاعتقاد: التوحيد، والرسالة، والبعث، فسورة الصافات أقسم فيها على التوحيد، فقال: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) وفي سورة النجم والضحى أقسم على صدق الرسول، حيث قال: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (1- 3) وبقية السور كان المقسم عليه هو البعث والجزاء.
كما يلاحظ أيضا أن الله تعالى أقسم بمجموع المؤنث السالم في سور خمس، ففي سورة والصافات لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات، وفي السور الأربعة الباقية أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر، فقال: وَالذَّارِياتِ وَالْمُرْسَلاتِ وَالنَّازِعاتِ وَالْعادِياتِ لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق، كما تقدم.(27/11)
2- إن المقسم عليه هو صدق وعد الله بالحشر والبعث والمعاد، ووقوع الجزاء والحساب والثواب والعقاب.
3- أقسم الله تعالى مرة ثانية في مطلع هذه السورة بالسماء ذات البنيان المتقن والجمال البديع، والاستواء، والطرائق المحكمة على أن المشركين في قول متخالف متناقض في شأن الله عز وجل، حيث قلتم: إنه خالق السموات والأرض، وتعبدون معه الأصنام، وفي شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قلتم تارة: إنه مجنون، وتارة أخرى: إنه ساحر، والساحر لا يكون إلا عاقلا، وفي أمر الحشر قلتم: لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وزعمتم أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة، ونحو ذلك من الأقوال المتناقضة.
3- يصرف عن الإيمان بالقرآن والرسول من صرف عنه في سابق علم الله تعالى، وقضائه السابق، لعلمه بأنه ضال في نفسه.
4- لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف المتناقض، المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين يقولون: لسنا نبعث، ويتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذّاب ساحر شاعر، علما بأنهم في جهل، غافلون عما أمروا به. وهذا دعاء عليهم، لأن من لعنه الله، فهو بمنزلة المقتول الهالك.
5- كان مشركو مكة وغيرهم من العرب متجبرين معاندين مصرين على كفرهم، مما جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا: متى يوم الحساب؟
فأجابهم ربهم بأنه اليوم الذي يحرقون فيه في نار جهنم، ثم وبخهم الله وتهكم بهم قائلا لهم أو تقول الخزنة لهم: ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم، ذلك العذاب الذي كنتم تستعجلون به في الدنيا، وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.(27/12)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
جزاء المتقين وأوصافهم
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
الاعراب:
آخِذِينَ حال من الضمير في حبر إِنَّ.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قَلِيلًا إما صفة مصدر محذوف، أي يهجعون هجوعا قليلا، أو صفة لظرف محذوف، أي كانوا يهجعون وقتا قليلا، وما زائدة، ويجوز أن تكون ما مع ما بعدها مصدرا في موضع رفع على البدل من ضمير. كان وقَلِيلًا خبر كان، وتقديره: كان هجوعهم من الليل قليلا. وقال السيوطي: يهجعون: خبر كان، وقَلِيلًا ظرف.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ مبتدأ، وَفِي الْأَرْضِ خبره.
ولا يجوز أن يتعلق فِي أَنْفُسِكُمْ بقوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ على تقدير: أفلا تبصرون في أنفسكم، لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما في حيّز الاستفهام على حرف الاستفهام.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مِثْلَ حال من الضمير في حَقٌّ وما زائدة، ويقرأ بالرفع على أنه صفة حَقٌّ لأنه نكرة: لأنه لا يكتسي التعريف بالإضافة إلى المعرفة وهي أَنَّكُمْ لأن وجوه التماثل بين الشيئين كثيرة غير محصورة.
البلاغة:
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ مجاز مرسل، أطلق الرزق، وأراد المطر، لأنه سبب الأقوات.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فيه تأكيد الخبر بالقسم وإنّ واللام، وهذا النوع من التأكيد الإنكاري، لأن المخاطب منكر لذلك.(27/13)
المفردات اللغوية:
فِي جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ ينابيع تجري فيها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم، راضين به، وهو ما أعطاهم ربهم من الثواب، والمعنى: أن كل ما آتاهم ربهم حسن مرضي، متلقّى بالقبول إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي إنهم قبل دخولهم الجنة قد أحسنوا أعمالهم في الدنيا، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي ينامون في زمن يسير من الليل، ويصلون أكثره، والهجوع: النوم، والهجعة: النومة الخفيفة. وَبِالْأَسْحارِ أواخر الليل، جمع سحر: وهو الجزء الأخير من الليل قبيل الفجر. يَسْتَغْفِرُونَ يقولون: اللهم اغفر لنا، أي إنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا، أخذوا في الاستغفار.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ نصيب يوجبونه على أنفسهم، تقربا إلى الله، وإشفاقا على الناس.
لِلسَّائِلِ المستعطي المستجدي. وَالْمَحْرُومِ الذي حرم من المال، والمراد به المتعفف الذي يظن كونه غنيا، فيحرم الصدقة.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أي في كرة الأرض من الجبال والبحار والأشجار والثمار والمعادن والنبات والإنس والجن والحيوان وغير ذلك دلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته. لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الذين أيقنوا بالله، وسلكوا الطريق الموصل إلى رضوان الله. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في تركيب أنفسكم وخلقكم من العجائب آيات أيضا. أَفَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظرة متأمل معتبر، يستدل بذلك على الصانع وقدرته. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي في السحاب أسباب الرزق وهو المطر الذي ينشأ عنه النبات الذي هو رزق مسبب عن المطر. وَما تُوعَدُونَ أي والذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب. إِنَّهُ لَحَقٌّ أي ما توعدون حق ثابت. مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، فكما أنه لا شك في أنكم تنطقون، لا شك في تحقق ذلك.
سبب نزول الآية (19) :
وَفِي أَمْوالِهِمْ ... : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة-، فنزلت: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية(27/14)
شاملة لما بعدها «1» . قال ابن عباس: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلّا، أو يغني محروما. وقال ابن العربي: لأن السورة مكية، وفرضت الزكاة بالمدينة.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى حال الفجار الأشقياء الذين كذبوا بالبعث، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبدوا مع الله إلها آخر من وثن أو صنم، أراد تعالى أن يبين حال المؤمنين الأتقياء وأوصافهم وجزاءهم في الآخرة.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي إن الذين اتقوا ربهم، وتجنبوا ما يعرضهم لعذاب الله، من التزام أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم المعاد في بساتين فيها عيون جارية، قابلين قبول رضا لكل ما أعطاهم ربهم، راضين به، فرحين بعطائه وفضله، بخلاف ما يتعرض له أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلاق. فقوله: آخِذِينَ كما ذكر الزمخشري:
قابلين قبول راض، كما قال تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة 9/ 104] أي يقبلها. وقيل: الأخذ بمعنى التملك، يقال: بكم أخذت هذا؟ كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. وعلى كل: الأخذ في هذا المقام إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية، لما أسلفوا من حسن العبادة، ووفور الطاعة، ولهذا علله بقوله:
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون الله فيها، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 235(27/15)
ثم أبان الله تعالى وجوه إحسانهم في العمل، فقال:
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، فتكون ما زائدة وهو القول المشهور، وقَلِيلًا ظرف، ويجوز أن تجعل ما صفة للمصدر، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون ما نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه، وقال: لا يجوز أن تكون نافية، لأن ما بعد ما لا يعمل فيما قبلها، تقول: زيدا لم أضرب «1» .
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يقولون في الجزء الأخير من الليل:
اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، وكأنهم باتوا في معصية، وهذا سيرة الكريم، يأتي بأبلغ وجوه الكرم، ثم يستقله ويعتذر، واللئيم بالعكس، يأتي بأقل شيء، ثم يمنّ به، ويستكثر. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.
ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من تائب، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر، فأغفر له؟ هل من سائل، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر» .
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه:
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف 12/ 98] : أخرهم إلى وقت السحر.
وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية، وصفهم بأداء العبادة المالية، فقال:
__________
(1) الكشاف: 3/ 168(27/16)
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين على سبيل البرّ والصلة، والسائل: هو الفقير الذي يبتدئ بالسؤال، والمحروم: هو الذي يتعفف عن السؤال، فيحسبه الناس غنيا، فلا يتصدّقون عليه.
أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بالطواف الذي تردّه اللّقمة واللقمتان، والتّمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه»
وفي لفظ آخر أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه، فيتصدق عليه، فذلك المحروم» .
وللسائل حق،
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق، وإن جاء على فرس» .
والمشهور في الحق: أنه هو القدر الذي علم شرعا، وهو الزكاة، وهذا ما رجحه ابن العربي والجصاص الرازي وغيرهما أخذا بقول ابن عباس: نسخت الزكاة كل صدقة. وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا: الزكاة المفروضة.
قال القرطبي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة المعارج:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [24- 25] والحق المعلوم:
هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به، فليس بمعلوم، لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت «1» .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 412، أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1718، تفسير الرازي:
28/ 205، تفسير القرطبي: 17/ 38(27/17)
ويؤيد ذلك
ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أدّيت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك فيه» .
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت الحق الذي يجب عليك»
قال الجصاص «1» : فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة، وأنه لا حق على صاحب المال وغيرها.
وقال منذر بن سعيد: هذا الحق: هو الزكاة المفروضة.
وبالرغم من أن هذا صحيح، وأنه قول الجمهور، فإن السورة مكية، وفرض الزكاة بالمدينة، وإذا فسر الحق بأنه الزكاة لم يكن صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك يؤدي زكاة ماله، فالظاهر أن المراد بالآية هنا صدقات التطوع غير الزكاة، وهي أي الصدقات التي تعطى على سبيل البر والصلة، عن ابن عمر: أن رجلا سأله عن هذا الحق، فقال: الزكاة، وسوى ذلك حقوق، فعمم.
واحتج من أوجب في المال حقا سوى الزكاة بما
روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... الآية [البقرة 2/ 177] فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ «2» .
ثم أكد الله تعالى وقوع الحشر والدلالة على قدرته بالأدلة الأرضية، فقال:
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار وأنهار وبحار وأصناف نبات وحيوان وناس مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وتفاوت المعقول والفهوم وما في تركيب أجسادهم
__________
(1) الجصاص، المرجع السابق: ص 411
(2) الجصاص، المرجع والمكان السابق.(27/18)
من عجائب الصنع، دلائل واضحة وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، للموقنين بالله، لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه، فينتفعون به.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق، المتفرد بالألوهية، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء، وعلى البعث وإعادة الحياة.
ففي النفس والدماغ ذي الملايين من الخلايا، وحواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق، ودورة الدم، وأجهزة التنفس والهضم والبول، كل ذلك أدلة مقنعة لمن يعقلها، ولا يعقلها حقيقة إلا المؤمنون المتقون الله، أما غيرهم فيفسرها على أنها حقائق طبيعية مادية فقط.
ثم ذكر الله تعالى ضمانه الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال:
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ أي، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير أو شر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السماء التي هي السحاب المطر، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول، التي يكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها نور القمر قوة ونموا ونضجا.
ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق، فقال:
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي فورب العزة والجلال، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة(27/19)
والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه، حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكّوا في نطقكم حين تنطقون، فهو كمثل نطقكم، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا، كما تقول: إنه لحق، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك هاهنا.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال:
بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم، ثم لم يصدقوا» .
قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة، فطلع أعرابي على قعود، فقال:
من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليّ، فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فقال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على الناس، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وولّى. فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلّم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح، فقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه «1» .
وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع
__________
(1) أسنده الثعلبي، راجع غرائب القرآن: 27/ 10- 11، تفسير القرطبي: 17/ 42(27/20)
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود 11/ 6] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن مآل المتقين في بساتين فيها عيون جارية، على نهاية ما يتنزه به، قابلين قبول رضا، قريرة أعينهم بما أعطاهم ربهم من الثواب وأنواع الكرامات.
وهذا في مقابل مآل الكفار في نار جهنم في الآيات السابقة.
2- أوصاف المتقين المذكورة في هذه الآيات تنحصر في هذه الآيات تنحصر في هذه إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم ثلاثة أشياء: تهجدهم بالليل بعد نومهم زمنا قليلا، واستغفارهم من ذنوبهم بالأسحار (أواخر الليل قبيل الفجر) وأداء حقوق أموالهم من الزكاة المفروضة وصدقات التطوع على سبيل البر والصلة. وإنما أضاف المال إليهم، وفي مواضع أخرى قال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس 36/ 27] لأن هذه الآية للحث على الإنفاق، وأما الآية التي في هذه السورة فهي مدح على ما فعلوا، مما يدل على أنهم في غير حاجة إلى التذكير بالحرص المانع من النفقة.
3- من أدلة قدرة الله على البعث والنشور: خلق الأرض والسماء والأنفس، ففي الأرض علامات على با هر قدرته، منها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدّر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة، ولا ينتفع بتلك العلامات ولا يتدبر بها إلا الموقنون، وهم العارفون ربهم الموحّدون إلههم، المصدّقون بنبوة نبيهم.(27/21)
وفي الأنفس البشرية آيات أيضا للمتأملين المؤمنين الموقنين، من تركيب الجسم العجيب، وتلازم الروح والجسد، والعقل والفؤاد، والقوى والإرادات، لذا عقبه تعالى بقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرة الله تعالى. وهذا إشارة إلى دليل الأنفس، وهو كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت 41/ 53] .
وفي السماء أسباب الرزق من مطر وثلج ينبت به الزرع، ويحيا به الخلق، وفيها تقدير ما يوعد به البشر من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب. وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن، فذكر الأرض وهي المكان، ثم عمرها وآنسها بالإنسان، ثم ذكر ما به بقاؤه وهو الرزق.
4- أكد رب العزة ما أخبر به من البعث، وما خلق في السماء من الرزق، وما قدّر من أقوات الحيوانات والنفوس البشرية، فأقسم عليه بأنه لحق، ثم أكده بقوله: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، أي إن ذلك ثابت حسّا، كما يدرك الإنسان يسر نطقه وكلامه. وخص النطق من بين سائر الحواس: لأن ما سواه من الحواس يحدث فيه اللبس والتشبيه.
وهذا قسم ثالث: فبعد أن أقسم تعالى بالأمور الأرضية وهي الرياح، ثم أقسم بالسماء في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أقسم هنا بالذات العلية، وهذا ترتيب منطقي سليم، يقسم المتكلم أولا بالأدنى، فإن لم يصدق به، يرتقي إلى الأعلى.(27/22)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قصة ضيف إبراهيم ومهمتهم في إهلاك قوم لوط
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
الاعراب:
فَقالُوا: سَلاماً قالَ: سَلامٌ سَلاماً: منصوب على المصدر أو بوقوع الفعل عليه.
وسَلامٌ: إما مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: سلام عليكم، وجاز الابتداء، لأنه في معنى الدعاء أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمري سلام عليكم. وقَوْمٌ مُنْكَرُونَ خبر مبتدأ، أي هؤلاء.
فِي صَرَّةٍ متعلق بمحذوف حال، أي كائنة.
وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ لم يقل: عقيمة، لأن عَقِيمٌ فعيل بمعنى مفعول، وهذه الصيغة لا تثبت فيها الهاء، تقول: عين كحيل، وكف خضيب، ولحية دهين، أي عين مكحولة، وكف مخضوبة، ولحية مدهونة، وذلك للتفرقة بين فعيلة بمعنى مفعولة، وفعيلة بمعنى فاعلة، نحو:
شريفة وظريفة ولطيفة، وعقيم بمعنى معقومة، لا بمعنى فاعلة، فلم تثبت فيها الهاء.(27/23)
قالُوا: كَذلِكَ قالَ: رَبُّكِ الكاف في كَذلِكَ صفة مصدر محذوف، تقديره: قال ربك قولا كذلك، أي مثل ذلك.
البلاغة:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أسلوب التشويق والتفخيم، لتفخيم شأن الحديث.
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ عَجُوزٌ عَقِيمٌ إيجاز بالحذف، أي أنتم قوم منكرون، وأنا عجوز عقيم.
المفردات اللغوية:
هَلْ أَتاكَ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيوف، وضيف في الأصل، مصدر، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة، كالزّور والصوم، وكانوا اثني عشر ملكا، أو تسعة عاشرهم جبريل، أو ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وسماهم ضيفا، لأنهم كانوا في صورة الضيف. الْمُكْرَمِينَ لأنهم في أنفسهم مكرمون، كما قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 21/ 26] أو لأن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف لحديث ضيف، أو للضيف أو المكرمين. فَقالُوا: سَلاماً قالوا هذا اللفظ أو نسلم عليكم سلاما. قالَ: سَلامٌ أي عليكم سلام، عدل به إلى الرفع بالابتداء، لقصد الثبات حتى تكن تحيته أحسن من تحيتهم. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم قوم غير معروفين، قال ذلك في نفسه، أو صرح به للتعرف عنهم أو بهم.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ذهب إليهم في خفية من ضيفه، أو مال إليهم سرا، قال الزمخشري:
ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ممتلئ شحما ولحما لأنه كان عامة ماله البقر، وفي سورة هود: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) أي مشوي.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وضعه بين أيديهم. قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ منه؟ أي عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أضمر في نفسه منهم خوفا، لما رأى إعراضهم عن طعامه، لظنه أنهم جاءوه لشرّ. قالُوا: لا تَخَفْ إنا رسل الله. وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي عليم كثير، هو إسحاق عليه السلام، كما ذكر في هود.
امْرَأَتُهُ هي سارّة رضي الله عنها لما سمعت بشارتهم له، وكانت في زاوية تنظر إليهم.
فِي صَرَّةٍ في صيحة، أي جاءت صائحة. فَصَكَّتْ وَجْهَها لطمته بأطراف أصابعها عجبا(27/24)
وحياء، بأن ضربت بيدها على جبهتها. وَقالَتْ: عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي أنا عجوز كبيرة السن، عاقر لم ألد قط، فكيف ألد؟ وكان عمرها تسعا وتسعين سنة (99) وعمر إبراهيم مائة أو مائة وعشرين.
قالُوا: كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي بشرنا به. قالَ رَبُّكِ هو قول الله، وإنما نخبرك به عنه. الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ذو الحكمة في صنعه، والعلم الواسع بخلقه. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم الخطير، قال ذلك لما علم أنهم ملائكة، وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط. حِجارَةً مِنْ طِينٍ مطبوخة بالنار وهو السجيل: الطين المتحجر. مُسَوَّمَةً معلمة من السّومة: وهي العلامة.
لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور، بإتيانهم الذكور، مع كفرهم.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط، وأضمرت ولم تذكر سابقا، لكونها معلومة.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط، بقصد إهلاك الكافرين. غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي غير أهل بيت من المسلمين، وهم لوط وابنتاه وأتباعه إلا امرأته، أي مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات. واستدل به على اتحاد الإسلام والإيمان، لكنه- كما قال البيضاوي- استدلال ضعيف، لأن المراد اجتماع الصفتين فيهم، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهومهما. وَتَرَكْنا فِيها بعد إهلاك الكافرين. آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من الهلاك. لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ لمن خافوا عذاب الله المؤلم، فلا يفعلون مثل فعلهم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى إنكار مشركي مكة للبعث والنشور، سلّى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، فقد أوذوا من أقوامهم، وأعرض هؤلاء عن دعوة رسلهم. وبدأ تعالى بقصة إبراهيم بعد إيرادها في سورة هود والحجر، لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته، وإنذارا لقومه بما جرى من الضيف، وبيانا لإنزال الحجارة على المذنبين المضلين، حتى يتعظ أو يعتبر كفار قريش وأمثالهم إلى يوم القيامة. ثم سألهم إبراهيم عن شأنهم وسبب مجيئهم، فأخبروه بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لهم.(27/25)
التفسير والبيان:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي هل بلغك خبر قصة إبراهيم عليه السلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله سبحانه الذين جاؤوا إليه في صورة بني آدم، وهم في طريقهم إلى قوم لوط، فدخلوا عليه وسلموا بقولهم:
سلاما، أي نسلم عليك سلاما، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات، فقال: سلام عليكم، إنكم قوم لا أعرفكم من قبل، فمن أنتم؟ وقيل: إنه قال دلك في نفسه، ولم يخاطبهم به، لأن هؤلاء الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة.
ابتدأ الله تعالى بالاستفهام التقريري تفخيما لشأن الحديث، ولفتا للنظر والانتباه، مع تهديد العرب ووعيدهم ووعظهم، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجري عليه من قومه، وأطلق عليهم صفة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام، والضيافة سنة، وذهب أحمد وجماعة إلى وجوب الضيافة للنزيل، وحيّوه بصيغة سَلاماً التي هي دعاء، فردّ عليهم الخليل مختارا الأفضل من التسليم، فقال: سَلامٌ لأن الرفع أقوى وأثبت من النصب، لدلالته على الثبات والدوام. والظاهر الذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لم يقل لهم: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ولم يخاطبهم بذلك، بل أسرّها في نفسه، فقال:
هؤلاء قوم منكرون، أو قال ذلك لمن معه من أتباعه وخدمه وجلسائه، لأن التصريح بمثل هذا فيه إيحاش للضيف وعدم إيناس.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ أي عدل أو ذهب إلى أهله خفية من ضيوفه في سرعة، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا، كما في سورة هود: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(27/26)
(69) أي مشوي على الرّضف (الحجارة المحماة) . وبعد أن أدناه منهم ووضعه بين أيديهم دعاهم بتلطف وأدب، وعرض حسن قائلا مستحثا: أَلا تَأْكُلُونَ؟
وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، دون سابق عرض، لأن إبراهيم عليه السلام كان جوادا كريما، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتيّ سمين مشوي، لأن جلّ ماله كان البقر، ووضعه بين أيديهم، ودعاهم على سبيل التلطف في العرض قائلا: ألا تأكلون؟
فأعرضوا، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون:
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي فلما أعرضوا عن الطعام ولم يأكلوا، أحسّ في نفسه خوفا منهم، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام لشرّ مبيت، وأن من أكل من طعام إنسان، صار آمنا منه، فظن إبراهيم عليه السلام أنهم جاؤوا للشر، ولم يأتوا للخير، كما في سورة هود: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (70) .
قالُوا: لا تَخَفْ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي قالت الملائكة لإبراهيم: إننا ملائكة رسل من الله تعالى، كما في آية أخرى: قالُوا: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود 11/ 70] .
وبشروه «1» بغلام يولد له، كثير العلم بعد البلوغ، وهو إسحاق عليه السلام، كما قال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود 11/ 71] وتضمنت البشارة شيئين مفرحين، هما كونه غلاما ذكرا، وكونه عالما، والعلم أكمل الصفات.
__________
(1) وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ أي بواسطة الملائكة.(27/27)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ، فَصَكَّتْ وَجْهَها، وَقالَتْ: عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي فلما سمعت امرأته سارّة بشارتهم، وكانت في ناحية من البيت تسمع كلامهم، أقدمت صائحة صارخة، وضربت بيدها على وجهها، كما هي عادة النساء عند التعجب، وقالت: كيف ألد، وأنا كبيرة السن، وعقيم لا تلد، حتى في عهد شبابها، كما جاء في آية أخرى: قالَتْ: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود 11/ 72] .
قالُوا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي كما قلنا لك وأخبرناك قال ربّك، فلا تشكّي في ذلك، ولا تعجبي منه، فنحن رسل الله، والله على كل شيء قدير، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون، كما جاء في آية أخرى: قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود 11/ 72] .
وهذه المفاوضة لم تكن مع سارّة فقط، بل كانت مع إبراهيم أيضا، حسبما تقدم في سورة الحجر (53- 54) وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود (72) .
ويكون استبعادها الولد لسببين: كبر السن، والعقم، فكأنها قالت:
يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم، مثلما يصدر من الضيف من مجاملات الأدعية، كقوله: الله يعطيك مالا ويرزقك ولدا، فقالوا: هذا منا ليس بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى: قالُوا: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكِ ثم دفعوا استبعادها بقولهم: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ «1» .
والسبب في اختلاف تذييل الآيتين حيث قال هنا: الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وفي هود قال: حَمِيدٌ مَجِيدٌ: أنهم في سورة هود نبهوها إلى القيام بشكر نعم الله،
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 215(27/28)
فناسب قولهم: حَمِيدٌ مَجِيدٌ لأن الحميد: هو الذي يستحق الحمد والشكر لصدور الأفعال الحسنة منه، والمجيد: الممجد الذي يستحق الحمد بنفسه وبمجده.
وأما هنا فأرادوا التنبيه إلى الحكمة العامة من الولادة في الكبر وبعد العقم طوال الحياة. وهي الدلالة على حكمته وعلمه، فهو حكيم في فعله يضع الأمور في نصابها، عليم بشؤون خلقه «1» .
وبعد بشارة الملائكة إبراهيم عليه السلام بالغلام، سألهم عن شأنهم وسبب مجيئهم:
قالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي فما شأنكم الخطير، وفيم جئتم، وما قصتكم المثيرة، وما سبب إرسالكم من جهة الله؟ فأجابوه:
قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي قالت الملائكة رسل العذاب ورسل البشرى:
إنا بعثنا إلى قوم لوط الذين أجرموا بالكفر وارتكاب الفواحش، لنرجمهم بحجارة من طين متحجر، مطبوخ بالنار، كالآجرّ، معلمة بعلامات تعرف بها، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة، المجاوزين الحد في الفجور.
ثم أخبر الله تعالى عن أن هذا العذاب ليس عشوائيا يصيب الصالح والطالح، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين، فقال:
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي لما أردنا إهلاك قوم لوط، أخرجنا من كان في تلك القرى من قومه المؤمنين به، تنجية لهم من العذاب، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط بن هاران- أخي إبراهيم- بن تارح، أي كان لوط ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام، آمن
__________
(1) المرجع والمكان السابق.(27/29)
بعمّه، وتبعه في رحلاته إلى مصر، ثم تركه عن تراض، ونزل إلى سدوم في الأردن.
وكان أولئك المؤمنون هم لوط وأهل بيته إلا امرأته، قال سعيد بن جبير:
كانوا ثلاثة عشر.
ونحو الآية: قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [العنكبوت 29/ 32] .
وقد احتج بهذه الآية المعتزلة الذين لا يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. قال ابن كثير: وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ومسلمين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا، لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال.
والدليل على التفرقة بين الإسلام والإيمان الآية السابقة: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات 49/ 14]
وحديث الصحيحين عن عمر رضي الله عنه: «أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه، قال: صدقت» .
ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة قوم لوط، فقال:
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي وأبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه وهم المؤمنون، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم، فإنها ظاهرة مبيّنة، جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال(27/30)
وحجارة السجيل، وقلبنا ديارهم عاليها سافلها، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، وهي بحيرة طبرية. ونظير الآية: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت 29/ 35] .
وهذا دليل على أنه إذا غلب الشر والكفر والفسق، كان الدمار والهلاك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي فيما تضمنته من قصتين: قصة البشارة بإسحاق، والإخبار بإهلاك قوم لوط، فمن القصة الأولى يستفاد ما يلي:
1- ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته، كما فعل بقوم لوط.
2- وصف الله سبحانه الملائكة بكونهم ضيوفا، ولم يكونوا كذلك، إكراما لإبراهيم عليه السلام في حسابه وظنه، فلم يكذبه الله تعالى في ذلك.
وهم أيضا عباد مكرمون عند الله عز وجل، وعند إبراهيم عليه السلام، إذ خدمهم بنفسه وزوجته، وعجّل لهم القرى، ورفع مجالسهم، كما في بعض الآثار.
3- السنة التحية لكل قادم على غيره، وهي السلام، فقال الملائكة: نسلم عليك سلاما، والمراد من السلام هو التحية وهو المشهور، فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأحسن من تحيتهم، فقال: سلام عليكم، أي سلام دائم ثابت لا يزول، لقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء 4/ 86] .
4- أنكرهم إبراهيم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام والذي لم يكن شائعا في قومه الكفرة، ولأنهم عليهم السلام غرباء غير معروفين، ولأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، ولإمساكهم عن الكلام.(27/31)
5- بادر إبراهيم عليه السلام إلى إكرامهم، لما اشتهر عنه من الكرم، ولأن الضيافة من آداب الدين، وكان في إعداده الطعام لهم في غاية الأدب والتكريم والسمو، يقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام.
واختار الأجود، فقدّم إليهم الطعام الدسم وهو عجل سمين مشوي على الحجارة المحماة، وعرض عليهم الأكل بتلطف وعرض حسن دون أمر، فقال:
أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل: كلوا. وأظهر السرور بأكلهم، وكان غير مسرور بتركهم الطعام، كما يوجد من بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا، ثم يترقبون إمساك الضيف عن الأكل.
6- أحسّ إبراهيم منهم الخوف في نفسه، على عادة الناس أن من يمتنع من مؤاكلة المضيف يضمر شرا مبيتا، فطمأنوه وقالوا له: لا تخف، وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله، وبشروه بولد يولد له من زوجته سارّة.
7- لما سمعت زوجته بالبشارة، تعجبت وصاحت كما جرت عادة النساء، حيث يسمعن شيئا من أحوالهن، يصحن عند الاستحياء أو التعجب، وكان تعجبها لأمرين: كبر السن والعقم.
8- أجابها الملائكة بأن ما قالوه وأخبروا به هو قول الله وحكمه، فلا يصح أن تشك فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارّة لم تلد قبل ذلك، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، والله حكيم فيما يفعله، عليم بمصالح خلقه.
وأما القصة الثانية ففيها ما يأتي:
1- أدرك أبو الأنبياء إبراهيم أن وراء وفد الملائكة الجماعي شيئا خطيرا،(27/32)
فبعد أن علم وتيقن أنهم ملائكة أرسلوا لأمر خطير، قال لهم: فما شأنكم وقصتكم أيها الملائكة المرسلون سوى البشارة؟
وإنما عرف كونهم مرسلين لقولهم هنا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ فهذا يدل على كونهم منزلين من عند الله، حيث حكوا قول الله.
2- أجابوه بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط، لرجمهم بحجارة معروفة بأنها حجارة العذاب، قيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وإنما قال: مِنْ طِينٍ لإفادة أن الحجارة من طين متحجر وهو السجّيل، ولدفع توهم كونها بردا، فإن بعض الناس يسمي البرد حجارة.
3- كانت الحاجة إلى قوم من الملائكة، مع أن الواحد منهم يقلب المدائن بريشة من جناحه، إظهارا لقدرة الله وتعظيمه وشدة سلطانه وغلبة جنده.
4- جرت سنة الله تعالى في إنزال الهلاك والدمار العام بإنجاء المؤمنين وتمييزهم، فلما أراد إهلاك قوم لوط أمر نبيه لوطا بأن يخرج هو مع المؤمنين من أهل بيته إلا امرأته، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود 11/ 81] .
5- دلّ قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على فائدتين «1» :
إحداهما- بيان القدرة والاختيار، لتمييز الله المجرم عن المحسن.
الثانية- بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، فلما خرج من القرية آل لوط المؤمنون، نزل العذاب بالباقين.
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 218 [.....](27/33)
6- دل قوله تعالى: فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ على أن الكفر إذا غلب، والفسق إذا عمّ وفشا، لا تنفع معه عبادة المؤمنين. أما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون، فلا عذاب.
7- المؤمنون والمسلمون من آل لوط سواء، لكن في الحقيقة: الإيمان:
تصديق القلب، والإسلام: هو الانقياد بالظاهر لأحكام الله، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فسمّاهم تعالى في الآية الأولى مؤمنين، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. قال الرازي مؤيدا التفرقة بين الإيمان والإسلام: والحق أن المسلم أعم من المؤمن، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.
8- إن في تعذيب قوم لوط على الكفر وفاحشة اللواط عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم، غير أن المنتفعين بالعظة والعبرة هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه، والمنتفع بها هو الخائف. وقد عبر عن ذلك في آية أخرى بأبلغ وجه حيث قال تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت 29/ 35] فقد وصف الآية بالظهور، وقال: مِنْها لا (فيها) المفيدة للتبعيض، فكأنه تعالى قال: من نفسها لكم آية باقية، وذكر أن المنتفع هو العاقل، والعاقل أعم من الخائف، فكانت الآية في العنكبوت أظهر، لأن القصد هناك تخويف القوم، وهاهنا تسلية القوم، ويؤكده أنه قال هناك: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم، وقال هنا: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.(27/34)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
الإعراب:
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ.. معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وتقديره:
وفي موسى آيات. هُوَ مُلِيمٌ
الجملة حال من ضميرأَخَذْناهُ.
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا ...
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ ...
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ.. عند من قرأ بالجر، ومن قرأ بالنصب فهو منصوب بفعل مقدر، تقديره: أهلكنا قوم نوح، أو اذكر قوم نوح.
البلاغة:
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ استعارة، استعار الركن للجنود والجموع، لأنه يتقوى بهم، ويعتمد عليهم كما يعتمد على الركن في البناء.
هُوَ مُلِيمٌ
مجاز عقلي، أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول، أي ملام على طغيانه.
الرِّيحَ الْعَقِيمَ استعارة تبعية في قوله: الْعَقِيمَ شبه استئصالهم بعقم النساء، ثم أطلق المشبه به على المشبه، واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.(27/35)
المفردات اللغوية:
وَفِي مُوسى معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قال الزمخشري وابن عطية:
وهذا بعيد جدا ينزّه القرآن عن مثله. والأصح العطف على قوله: وَتَرَكْنا فِيها والمعنى:
وجعلنا في قصة موسى آية. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي مصحوبا متلبسا بسلطان مبين، أي بحجة واضحة هي معجزاته، كاليد والعصا. فَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان. بِرُكْنِهِ أي كقوله: نأى بجانبه، أو فتولى عن الإيمان مع جنوده وأتباعه، لأنهم له كالركن، والأصل في الركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا: جنوده وأعوانه، كما في آية: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود 11/ 80] .
وَقالَ لموسى. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي هو ساحر أو مجنون، كأنه نسب الخوارق إلى الجنّ. نَبَذْناهُمْ
طرحناهم. ي الْيَمِ
في البحر.. هُوَ مُلِيمٌ
آت بما يلام عليه من الكفر والعناد وتكذيب الرسل ودعوى الربوبية.
وَفِي عادٍ أي وفي إهلاك عاد آية. إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ حين أرسلنا عليهم الريح العقيم، سماها عقيما، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أو لأنها لا خير ولا منفعة فيها، فلا تحمل المطر ولا تلقح الشجر، وهي الدّبور أو الجنوب أو النكباء. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي ما تترك شيئا مرّت عليه. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالرماد، أو كالشيء البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، مأخوذ من الرم: وهو البلى والتفتت.
وَفِي ثَمُودَ أي وفي إهلاك ثمود آية. إِذْ قِيلَ لَهُمْ بعد عقر الناقة. تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ إلى انقضاء آجالكم. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثال أمره. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي العذاب بعد الثلاثة أيام، كما في آية: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود 11/ 65] والصاعقة: نار نازلة بسبب احتكاكات كهربية، وهي الصيحة المهلكة التي صعقتهم. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها، فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب، وهو كقوله تعالى:
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود 11/ 67] . وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب وعلى من أهلكهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم نوح، ومن قرأ بالجر فهو عطف على ثمود، أي وفي إهلاكهم آية. مِنْ قَبْلُ قبل إهلاك هؤلاء المذكورين. فاسِقِينَ خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده.(27/36)
المناسبة:
بعد بيان العظة والعبرة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام، من أجل الإيمان بقدرة الله، عطف تعالى على ذلك قصص أقوام آخرين، عذبوا على تكذيب الرسل بعذاب الاستئصال، وهم فرعون موسى وأتباعه، وعاد وثمود، وقوم نوح، وقد تبين في تعذيبهم نهاية الطغاة والمكذبين والكفار الظالمين، ليثوب الناس إلى رشدهم، ويؤمنوا بالله وبالبعث، ويكفّوا عن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر برسالته.
التفسير والبيان:
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي وتركنا في قصة موسى عليه السلام آية وعبرة، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا بحجة ظاهرة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وما معها من الآيات.
فأعرض استكبارا وعنادا ونأى عن آياتنا بجانبه، واعتز بجنده وجموعه وقوته، وقال محقرا شأن موسى: هو إما ساحر أو مجنون، إذ لم يستطع تفسير ما رآه من الخوارق، إلا بنسبته إلى السحر أو الجنون، كما في آية أخرى: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء 26/ 34] وآية: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء 26/ 27] .
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ، وَهُوَ مُلِيمٌ
أي فأخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر، فألقيناهم في البحر، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية والعناد والفجور.
وهذا دليل آخر على عظمة القدرة الإلهية على إذلال الجبابرة، جزاء عتوهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.(27/37)
ثم ذكر الله تعالى قصة عاد، فقال:
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي وتركنا أيضا في قصة عاد آية وعبرة، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية، لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب، فلا تترك شيئا مرّت عليه من الأنفس البشرية والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
ثم أبان الله تعالى قصة ثمود، فقال:
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي وتركنا في قصة ثمود آية، حين قلنا لهم: عيشوا متمتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك، كما قال تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] .
فتكبروا عن امتثال أمر الله، فنزلت بهم صاعقة من السماء أهلكتهم، والصاعقة: هي كل عذاب مهلك، وهم يرونها عيانا بالنهار، أو هم ينتظرون ما وعدوه من العذاب، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، جزاء وفاقا لما اقترفوا من آثام ومعاص.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ، وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي لم يقدروا على القيام والهرب من تلك الصرعة، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
ثم أعقبه بقصة قوم نوح، فقال:
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي وأهلكنا بالطوفان قوم نوح من قبل هؤلاء، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، متجاوزين حدوده.(27/38)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه نهاية الطغاة الظالمين وعاقبة الكفار المكذبين، أخبر بها تعالى للعظة والعبرة، وهي تذكّر بحال أربعة أقوام.
- فإن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام مؤيدا بالدليل الباهر والحجة القاطعة والمعجزات كالعصا واليد، إلى فرعون الطاغية الجبار، فأعرض عن الإيمان بجنوده وجموعه، وكذبوا برسالته، ووصف فرعون موسى بأنه ساحر يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم، والجن يقربونه ويقصدونه إن لم يقصدهم، فيصير كالمجنون، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن، غير أن الساحر يأتيهم باختياره، والمجنون يأتونه من غير اختياره.
فكان عاقبتهم الإغراق في البحر لكفرهم وتوليهم عن الإيمان، وإتيان فرعون بما يلام عليه من ادعاء الربوبية والطغيان والعناد.
- كذلك أرسل الله هودا عليه السلام إلى قبيلة عاد، فكذبوه واستكبروا عن دعوته، وعكفوا على عبادة الأصنام، فاستأصلهم الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية، لا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة، وهي كما قال مقاتل: الدّبور، كما
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور»
وقيل: هي الجنوب، لما
روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الريح العقيم: الجنوب»
وقال ابن عباس: هي النكباء.
وكان تأثير تلك الريح شديدا مرعبا، فلم تمر بشيء من الأنفس والأموال والديار إلا جعلته كالشيء الهشيم، أو كالشيء الهالك البالي، كما قال تعالى:
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف 46/ 25] .
- وأرسل الله أيضا نبيه صالحا عليه السلام إلى قبيلة ثمود الذين متعهم الله تعالى بالخيرات في الدنيا، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فخالفوا أمر(27/39)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
الله، واستكبروا عن الامتثال به، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون إليها نهارا، وهي كل عذاب مهلك، وهي نار من السماء، أو صيحة منها، أي صوت شديد، فهلكوا، ولم يتمكنوا من النهوض فضلا عن الهرب والفرار، وما كان لهم ناصر ينصرهم ويمنعهم من العذاب حين أهلكوا.
- وقبل هؤلاء أرسل الله نوحا عليه السلام إلى قومه، فأمرهم بترك عبادة الأصنام، والاتجاه إلى عبادة الله الواحد الأحد، فأبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم، فأهلكهم الله بالطوفان، جزاء على كفرهم وبغيهم ووثنيتهم.
وأنواع العذاب في إهلاك الأقوام السابقة تدل على أن الله قادر على أن يعذب ويحقق الفناء بما به البقاء والوجود أو عناصر الحياة الأربعة: وهي التراب والماء والهواء والنار، فعذب قوم لوط بالتراب، وعذب قوم نوح وقوم فرعون بالماء، وعذب عادا بالهواء، وثمود بالنار.
إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته
[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
الاعراب:
فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نعم: فعل ماض للمدح، والْماهِدُونَ فاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فنعم الماهدون نحن، فحذف المقصود بالمدح.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ متعلق بقوله بعده: خَلَقْنا.(27/40)
البلاغة:
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ سجع رصين غير متكلف يزيد في جمال الأسلوب، وبين السماء والأرض طباق.
المفردات اللغوية:
بِأَيْدٍ بقوة، مثل الآد. لَمُوسِعُونَ لقادرون على خلقها وخلق غيرها، من الوسع:
بمعنى الطاقة، والموسع: القادر على الإنفاق، يقال: آد الرجل يئيد: قوي، وأوسع الرجل: صار ذا سعة وقوة. فَرَشْناها مهدناها وبسطناها كالفراش لتستقروا عليها، يقال: مهد الفراش: إذا بسطه ووطّأه، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الأجناس. زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين: ذكر وأنثى، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وسهل وجبل، وصيف وشتاء، وحلو وحامض، ونور وظلمة.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون، فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات، أما الواجب بالذات خالق الأزواج فهو فرد واحد لا يقبل التعدد والانقسام.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فروا من عقابه إلى ثوابه ورضاه بالإقرار بالتوحيد وملازمة الطاعة وتجنب المعصية. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إني من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى بيّن الإنذار والتخويف. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد وتوحيد لمن يفرّ إليه ويلجأ لجنابة، أي وقل لهم: لا تجعلوا.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير الجملة للتأكيد.
المناسبة:
بعد إثبات وقوع البعث أو الحشر والمعاد لا محالة، أقام الله تعالى الأدلة على الوحدانية وعظيم القدرة، من خلق السماء محكمة البنيان، والأرض ممهدة كالفراش للاستقرار عليها، وخلق الجنسين كالذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوان، والصنفين المتضادين من بقية الأشياء، عدّد الحسن البصري أشياء كالسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثيل له.(27/41)
التفسير والبيان:
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي ولقد بنينا السماء بقوة وقدرة، وإنا لذوو قدرة وسعة على خلقها وخلق غيرها، فنحن قادرون، لا نعجز عن ذلك، ولا يمسنا تعب ولا نصب. وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان. وقوله: بِأَيْدٍ تأكيد لذلك، وقوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مزيد تأكيد.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش لتصلح للعيش والاستقرار عليها، فنعم الماهدون نحن الذين جعلناها مهدا لأهلها، ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها، برها وبحرها وجوها، فعلى سطحها يعيش الإنسان والحيوان، وفي جوفها الثروة المعدنية الجامدة والسائلة كالنفط، وفي برها مختلف النباتات والأزهار والأشجار، وفي بحرها آلاف الأنواع من الأسماك، واللآلئ والمرجان وتسير فيها السفن، وفي جوها الطير والهواء والسحب الزاخرة بالمطر، وتحليق الطائرات وغيرها.
وإنما أطلق الفرش على الأرض، ولم يطلق البناء، لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى. وقوله: بَنَيْناها أدل على الاستقلال وعدم الشريك في التصرف.
والآية تشير إلى أن دحو الأرض وبسطها كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون أولا قبل الفرش، وهذا هو المعروف الآن علميا. قال الرازي: في الآية دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 227(27/42)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين أو نوعين ضدين أو متقابلين: ذكر وأنثى، وحلو ومرّ، وسماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وخير وشر، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، لذا قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي خلقنا ذلك على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له، وتستدلوا بذلك على التوحيد.
ثم رتب على دليل الوحدانية والقدرة أمرين: اللجوء إلى الله وتجنب الشرك إتماما للتوحيد، فقال:
- فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي الجؤوا إلى الله، واعتمدوا عليه في أموركم كلها، وتوبوا من ذنوبكم، وأطيعوا أوامره، فإني لكم منذر بيّن الإنذار، ومخوّف من عذابه وعقابه. وهذا أمر بالإقبال على الله، والإعراض عما سواه. وقوله: فَفِرُّوا ينبئ عن سرعة الإهلاك، كأنه يقول: الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا.
- وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي لا تشركوا بالله شيئا آخر سواه، فإن الإله المعبود بحق هو الذي لا تصلح العبادة لغيره، ثم كرر التذكير بمهمة الإنذار البيّنة للنبي صلى الله عليه وسلم للتأكيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إثبات وحدانية الله وقدرته بآيات الكون الكبرى، من خلق السماء التي تدل بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها وتوابعهما على أن الإله الصانع قادر على الكمال، وكذا خلق الأرض الممهدة المبسوطة الممدودة كالفراش بما فيها من خيرات(27/43)
ظاهرة وباطنة، وأيضا خلق الصنفين والنوعين المختلفين من ذكر وأنثى، وحلو وحامض ونحو ذلك، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، ونور وظلام، وسهل وجبل، وجنّ وإنس، وخير وشر، وبكرة وعشيّ، والأشياء المختلفة الطعوم والروائح والأصوات.
فهذا كله دليل على قدرة الله، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة، وهو إشارة إلى أن ما سوى الله تعالى مركب من أجزاء، وهو دليل على الانتقال من المركب إلى البسيط، ومن الممكن إلى الواجب، ومن المصنوع إلى الصانع، فإن خالق الأزواج فرد وإلا لكان ممكنا، فيكون مخلوقا، ولا يكون خالقا، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ ليس كمثله شيء.
2- إن الإله المتصف بالوحدانية والقدرة الباهرة يجب في حقه أمران أساسيان: اللجوء إليه وحده، والتوبة إليه من الذنوب، والفرار من معاصيه إلى طاعته، واجتناب الشرك أو عبادة شيء آخر معه. قال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله.
3- إن النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته بما تركه من بيان وسنة دائم الإنذار، بيّن التخويف، ينذر الناس من عقاب الله على الكفر والمعصية.(27/44)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم
[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
الاعراب:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في كَذلِكَ في موضع رفع، لأنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك.
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْمَتِينُ بالرفع: صفة ل ذُو وقرئ بالجر على أنه صفة للقوة، وذكّر، لأنه تأنيث غير حقيقي، ولأن فعيل يصلح صفة للمذكر والمؤنث، والرفع أشهر في القراءة، وأقوى في القياس.
البلاغة:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إطناب بتكرار فعل أُرِيدُ للمبالغة والتأكيد.
ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ تشبيه مرسل مجمل، لأنه حذف منه وجه الشبه، أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والألم.
المفردات اللغوية:
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم إياه ساحرا(27/45)
أو مجنونا. ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية كالتفسير له، أي مثل تكذيبهم لك بقولهم: إنك ساحر أو مجنون تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك.
أَتَواصَوْا بِهِ أي هل أوصى أولهم آخرهم؟ استفهام بمعنى النفي على سبيل التعجب، أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول، حتى قالوه كلهم. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول طغيانهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم وعن مجادلتهم بعد الإصرار والعناد. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لست ملوما على الإعراض عنهم، لأنك بلّغتهم الرسالة وبذلت الجهد في التذكير. وَذَكِّرْ داوم على التذكير والموعظة بالقرآن. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ: من علم الله تعالى أنه يؤمن، فإن التذكير يزيده بصيرة.
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلا لنأمرهم بالعبادة ويعبدوا الله بالفعل لا لاحتياجي إليهم، فإن أعرض أو قصر بعضهم أو أكثرهم فعليه تبعة فعله. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ.. لا أريد منهم الاستعانة بهم على تحصيل أرزاقهم ومعايشهم لأنفسهم أو غيرهم وهو أولى. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أن يطعموا أنفسهم أو غيرهم. والمراد بيان أن شأن الله مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم يملكونهم للاستخدام في حوائجهم الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل محتاج، وفيه إيماء باستغنائه عن الرزق. الْمَتِينُ الشديد القوة.
ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم. ذَنُوباً نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب في اللغة: الدّلو العظيمة المملوءة ماء. مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظائرهم من الأمم السالفة، الهالكين قبلهم. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة، وهو جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك 67/ 25] . فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي هلاك لهم وشدة عذاب. مِنْ يَوْمِهِمُ في يومهم وهو يوم القيامة.
سبب النزول نزول الآيتين (54، 55) :
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.. وَذَكِّرْ..: أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال: لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم، فنزلت:
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا.(27/46)
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الآية، اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله تعالى: وَذَكِّرْ، فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.
المناسبة:
بعد بيان الأدلة على الحشر، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله، لا لتحصيل المعايش والأرزاق، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم، والعذاب واقع بهم، لا شك فيه، ولا مردّ له.
التفسير والبيان:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي كما كذبك قومك من العرب، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه، وحمله على الصبر وتحمل الأذى.
أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي، فهو تعجيب من حالهم يراد به: كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكن هم قوم طغاة، جمعهم الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الكفر، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي أعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن(27/47)
جدالهم، فقد فعلت ما أمرك الله به، وبلّغت رسالته، وما أنت بملوم عند الله بعد هذا، لأنك قد أدّيت ما عليك، وما على الرسول إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي ولكن تابع التذكير، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك، فإن التذكير ينفعهم، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى، لا يوجب ترك البعض الآخر.
ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين: وهي العبادة، مع أن المشركين كذبوا الرسول، وتركوا عبادة الخالق، فقال:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ما خلقت الثقلين: الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة 9/ 31] وكما
ورد: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» «1» .
والعبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة.
وقال مجاهد: المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها.
وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس.
ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق، فقال:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، كما
__________
(1) قال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف.(27/48)
تريده السادة عادة من عبيدهم، فإن الله هو الغني المعطي، الرزاق المعطي، الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، وهو ذو القدرة والقوة، والشديد القوة، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة.
وما في قوله: ما أُرِيدُ.. للنفي في الحال، ولا: للنفي في الاستقبال، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة.
والخلاصة: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك» .
وورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء» .
ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله:
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه، وواقع لا محالة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] .
وهذا جواب قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك 67/ 25] وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود 11/ 32] .(27/49)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فهلاك وشدة عذاب للكافرين في يوم القيامة الذي يوعدون به، وقيل: اليوم يوم بدر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن تكذيب الرسل شأن الأمم قديمها وحديثها، فكما كذب محمدا قومه، وقالوا: ساحر أو مجنون، كذّب من قبلهم رسلهم، وقالوا مثل قولهم، وكأن أولهم أوصى آخرهم بالتكذيب، والتواطؤ عليه، والواقع ليس كذلك، فلم يوص بعضهم بعضا، بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر.
والغرض من الخبر تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.
2- أمر الله نبيه بالإعراض عن جدال قومه، وطمأنه ربه بأنه غير ملوم.
ولا مقصر، فقد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. وهذه تسلية أخرى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كرم أخلاقه وشدة حساسيته ينسب نفسه إلى تقصير في التبليغ، فيجتهد في الإنذار والتبليغ.
3- لكن التولي عن القوم ليس مطلقا، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة التذكير، فإنه ينفع المؤمنين، وهم من علم الله سابقا أنهم يؤمنون.
4- وغاية التذكير: توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة، فيكون التذكير بها ضروريا، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان، وفائدة العبادة: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله.
ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين: عبادة الله، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية: وهو بيان سوء صنيع الكفار، حيث تركوا(27/50)
عبادة الله، مع أن خلقهم ما كان إلا للعبادة.
وقال مجاهد وغيره «إلا ليعبدون» أي إلا للعبادة، وهذا كما قال الثعلبي قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم، لما عرف وجود الله وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 9] . وهذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك.
5- لم يكن خلق الناس للعبادة لحاجة من الخالق، فالله عز وجل غني عن عبادة العباد، ولم يكن خلقهم للتسخير للخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه، كما يفعل السادة مع العبيد، وهو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره، وهو القدير الشديد القوي، الذي لا يتقوى بأحد.
وقوله: هُوَ الرَّزَّاقُ تعليل لعدم طلب الرزق، وقوله: ذُو الْقُوَّةِ تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقا، يكون فقيرا محتاجا، ومن يطلب عملا من غيره، يكون عاجزا لا قوة له.
6- إن للذين ظلموا أنفسهم وهم كفار مكة وأمثالهم نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة، فلا داعي لاستعجالهم نزول العذاب بهم، فإنه آتيهم لا محالة.
وهذا تهديد للكفار الذين وصفهم الله بأنهم ظلمة، لأن من وضع نفسه في موضع عبادة غير الله، يكون قد وضع الشيء في غير موضعه، فيكون ظالما.
وإذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة، فإن الذين ظلموا بعبادة غير الله، لهم هلاك مثل هلاك من تقدم.
ومناسبة الذّنوب التي هي في الأصل: الدلو العظيمة: هي كأنه تعالى قال:
نصبّ من فوق رؤوسهم ذنوبا كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك.(27/51)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
مكيّة، وهي تسع وأربعون آية.
تسميتها:
سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم الله تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار، كالذي كلّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال.
مناسبتها لما قبلها:
تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه:
1- تشابه الموضوع: فإن كلتا السورتين مكية، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة، والرسالة النبوية، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة.
2- تماثل الابتداء والانتهاء: ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات 51/ 15] . إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور 52/ 17] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات 51/ 60] . فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور 52/ 42] .
3- اتحاد القسم بآية كونية: ففي الذاريات أقسم الله بالرياح الذاريات(27/52)
النافعة في المعاش، وفي الطور أقسم الله بالجبل الذي حظي بالنور الإلهي بتكليم موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه لنفع الناس في المعاش والمعاد.
4- تطابق الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين: ففي الذاريات: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [54] وَذَكِّرْ.. [55] وفي الطور: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ.. [29] : فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ..
[45] .
ما اشتملت عليه السورة:
لما ختم الله تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود، أقسم على ذلك بالطور، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه السلام، والكتاب المسطور: التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ، والبيت المعمور: الكعبة المشرفة، والسقف المرفوع: السماء، والبحر المسجور: المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه.
ثم وصف الله تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون، وما يلقونه من الذل والإهانة، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين.
وأعقب هذا الوصف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة التذكير، وتبليغ الرسالة، وإنذار الكفرة، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه: إنه شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو مفتر على الله، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام البراهين والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية، ونعى على المشركين قولهم: الملائكة بنات الله، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الكفار في ضلالهم حتى(27/53)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
الهلاك، وبالصبر في تبليغ رسالته وبالتسبيح والتحميد ليل نهار، والإخبار بأن الله حارسه وعاصمه وحافظه، وبأن للظالمين عذابين: في الدنيا والآخرة.
فضلها:
أخرج البخاري وغيره عن أم سلمة: «أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور» .
وعن جبير بن مطعم: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلّمه في الأسارى، فألفيته في صلاة الفجر، يقرأ سورة والطور، فلما بلغ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب» . فلما انتهى إلى هذه الآية:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ كاد قلبي أن يطير.
وقوع القيامة وإثبات العذاب في اليوم الموعود
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)(27/54)
الاعراب:
وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الواو الأولى واو القسم، والثانية واو العطف، وجواب القسم:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ.
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً العامل في الظرف هو لَواقِعٌ أي يقع في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يعمل فيه. دافِعٍ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النافي.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ويل: مبتدأ مرفوع، وخبره لِلْمُكَذِّبِينَ. وجاز الابتداء بكلمة فَوَيْلٌ النكرة، لأن في الكلام معنى الدعاء، كقولهم: سلام عليكم. والفاء في فَوَيْلٌ جواب الجملة المتقدمة، لأن الكلام متضمن معنى الشرط، أي إذا كان الأمر كذلك فويل.. يَوْمَ يُدَعُّونَ.. يَوْمَ بدل من قوله: يَوْمَئِذٍ.
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا في موضع رفع مبتدأ، وسحر: خبر مقدم وتقديم الخبر لأنه مقصود بالإنكار والتوبيخ. وأم هنا: منقطعة لا متصلة، لمجيء جملة اسمية تامة بعدها، فلو لم يكن بعدها جملة تامة لكانت متصلة. والمتصلة بمعنى (أي) والمنقطعة بمعنى (بل والهمزة) وتقديره: أفسحر هذا، بل أنتم لا تبصرون. وسَواءٌ عَلَيْكُمْ مبتدأ، خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر.
البلاغة:
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً جناس اشتقاق، وكذا قوله: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً. أَفَسِحْرٌ هذا؟ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. اصْلَوْها، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا اصْلَوْها للإهانة والتوبيخ. وبين قوله: فَاصْبِرُوا وقوله: أَوْ لا تَصْبِرُوا طباق السلب. وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ.. الآيات فيها سجع لطيف، وكذا في قوله إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ.
المفردات اللغوية:
وَالطُّورِ هو الجبل المشجر الذي كلم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وغير المشجر لا يقال له: طور، وإنما يسمى جبلا. وموقع الطور في صحراء سيناء ببلاد مدين، وهو طور سينين. والطور بالسريانية: الجبل. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب، تم فيه ترتيب الحروف المكتوبة على وجه منتظم، والسطر: ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من الكتب السماوية، كالتوراة وألواح موسى والزبور والإنجيل والقرآن.
رَقٍّ مَنْشُورٍ الرّق: جلد رقيق يكتب فيه، وقد أستعير هنا لما كتب فيه الكتاب،(27/55)
والمنشور: المبسوط المفتوح، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الكعبة المعمورة بالحجاج والزوار والمجاورين. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ هو السماء. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ البحر المملوء ماء، وهو المحيط، أو الموقد المحمى المملوء نارا، من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير 81/ 6] من سجّر النار: أوقدها، روي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا تسجر بها جهنم.
لَواقِعٌ لنازل بالمستحقين. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه أو يمنعه عن المستحقين. والمراد بهذه الأمور المقسم بها على وقوع عذاب الله يوم القيامة أنها تدل على كمال قدرة الله وحكمته، وصدق أخباره، وضبط أعمال العباد للمجازاة.
تَمُورُ تتحرك وتضطرب وتدور وترتجّ في مكانها. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تسير عن وجه الأرض، فتصير هباء منثورا، وذلك في يوم القيامة الذي يقع فيه العذاب. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي إذا وقع ذلك فويل لهم، أي شدة عذاب. فِي خَوْضٍ باطل.
يَلْعَبُونَ يتشاغلون بكفرهم.
يُدَعُّونَ يدفعون دفعا شديدا بعنف. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك. أَفَسِحْرٌ هذا؟ أي أسحر هذا العذاب الذي ترون، كما كنتم تقولون في الوحي: هذا سحر. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ بل أنتم لا تبصرون هذا أيضا، كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدل عليه، وهو تقريع وتهكم. اصْلَوْها ادخلوها وقاسوا شدائدها. فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه وهو الجزع، فإنه لا محيص لكم عنها. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران: الصبر والجزع سواء، لأن صبركم لا ينفعكم. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء، لأنه لما كان الجزاء واجب الوقوع، كان الصبر وعدمه سببين في عدم النفع.
التفسير والبيان:
يقسم الله تعالى بمخلوقاته الدالة على كمال قدرته في إيقاع العذاب بأعدائه دون أن يكون هناك دافع له عنهم، فيقول:
وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ أقسم الله سبحانه بجبل طور سيناء الذي فيه أشجار، تشريفا له وتكريما، لما حدث فيه من حادث عظيم وهو تكليم الله موسى فيه، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بحروف منتظمة، في جلد رقيق مبسوط. وكانت الجواد أكثر ما يكتب فيها قبل اختراع الورق.(27/56)
فقوله: وَكِتابٍ مَسْطُورٍ يشمل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن. وقيل: هو اللوح المحفوظ.
وقرن الكتاب بالطور، لإنزاله على موسى وهو فيه، وقوله: مَنْشُورٍ إشارة إلى الوضوح.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي والكعبة المشرفة التي تعمر بالحجاج والزوار والمجاورين الذين يقصدونها للعبادة والدعاء والتبرك بها. والسماء العالية التي هي كالسقف للأرض وما حوتها من شموس وأقمار وكواكب ثابتة وسيّارة وعوالم لا يحصيها إلا الله تعالى.
والبحر المملوء ماء، المحبوس عن الأرض اليابسة، والموقد نارا كالتنّور المحمى الذي يتفجر بالنار الملتهبة يوم القيامة، كما قال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير 81/ 6] روي: أن البحار تسجر يوم القيامة، فتكون نارا.
ومن المعروف أن النفط يستخرج من قاع البحار كالأرض اليابسة، وتتصاعد منه بين الحين والآخر الزلازل والبراكين.
وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم شأن الكعبة، وأماكن شعائر الإسلام، وعظمة قدر النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي ناجى ربه فيه قائلا: «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك» . كما أن يونس عليه السلام كلّم ربه في البحر قائلا: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] .
وتنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء لتعظيمه وشهرة معرفته، حتى إنه ما احتاج إلى تعريف، أما بقية الأشياء فاحتاجت إلى التعريف.
ثم ذكر الله تعالى جواب القسم قائلا:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ هذا هو المقسم عليه أو جواب القسم، أي أقسم بتلك المخلوقات العظيمة على أن عذاب الآخرة لواقع كائن لا محالة(27/57)
لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل، ليس له دافع يدفعه ويردّه عن أهل النار. وقوله: لَواقِعٌ فيه إشارة إلى الشدة. وقوله:
عَذابَ رَبِّكَ ليأمن النبي وكل مؤمن حين يسمع لفظ الرب، فإن اسم الله منبئ عن العظمة والهيبة، واسم الرب ينبئ عن اللطف.
ثم بيّن الله تعالى ما يصاحب وقوع العذاب يوم القيامة، فقال:
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي إن العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا ويموج بعضها في بعض موجا، وتتحرك في مكانها، وتزول الجبال من مواضعها كسير السحاب، وتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا.
والحكمة في مور السماء وسير الجبال: الاعلام بألا عودة إلى الدنيا، لخرابها وعمارة الآخرة، لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها، فإن لم يؤمل العود إليها، لم يبق فيها نفع.
ثم ذكر الله تعالى من يقع عليه العذاب وينزل عليه يوم القيامة، فقال:
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي ويل- وهي كلمة تقال للهالك- لأولئك الذين كذبوا الرسل، ذلك اليوم، من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم، فمن لا يكذّب لا يعذّب بنحو دائم، والمكذبون الذين كانوا في الدنيا في تردد وخوض في الباطل، واندفاع فيه، لا يذكرون حسابا، ولا يخافون عقابا، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا، ويخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء. والفاء في قوله: فَوَيْلٌ لاتصال المعنى وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان. أما أهل الكبائر فلا يستمر تعذيبهم ولا يخلّدون في النار، لأنهم لا يكذّبون الرسل.
وأسلوب إلقاء المكذبين في النار هو ما ذكره تعالى بقوله:(27/58)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا شديدا.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا:
1- هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي تقول الزبانية لهم تقريعا وتوبيخا: هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا.
والتكذيب بها تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.
2- أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ أي أهذا الذي ترون وتشاهدون سحر كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه لحق ولكنكم أنتم عمي عن هذا، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا، أي لا شك في المرئي، ولا عمى في البصر، فالذي ترونه حق.
3- اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إذا لم يمكنكم إنكار ما ترون من نار جهنم، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل، فالآن ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته، وقاسوا حرها وشدتها، ثم يستوي الأمران: الصبر على العذاب وعدم الصبر وهو الجزع، فلا ينفعكم شيء، وافعلوا ما شئتم، فالأمران سواء في عدم النفع، وإنما الجزاء بالعمل خيرا أو شرا، وبما أن العذاب واقع حتما، كان الصبر وعدمه سواء، فسواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها، ولا خلاص لكم منها، ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- أقسم الله تعالى بأشياء خمسة: هي الطور والكتب المنزلة، والبيت(27/59)
المعمور، والسقف المرفوع والبحر المسجور، تشريفا لها وتكريما. والحكمة في اختيار الأماكن الثلاثة: وهي الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور هي كونها أماكن ثلاثة أنبياء، انفردوا فيها للخلوة بربهم، والخلاص من الخلق، ومناجاة الله وخطابه. أما الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام، وخاطب ربه، فقال: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الأعراف 7/ 155] وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف 7/ 143] .
وناجى محمد صلى الله عليه وسلم ربه في البيت المعمور (الكعبة) فقال- كما تقدم-:
«السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .
ودعا يونس عليه السلام ربه في أعماق البحر، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] .
فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب، فحلف الله تعالى بها، ثم قرن بها الكتاب، لأن الله تعالى كلّم موسى عليه السلام في الطور، وأنزل عليه التوراة «1» ، وبقية الكتب مثل التوراة للهداية والنور.
2- كان المقسم عليه هو وقوع عذاب اليوم الموعود لا محالة، بلا أدنى شك، واستحالة قدرة أحد أن يدفعه عن المعذّبين المكذبين بالرسل.
3- يقع العذاب بالمكذبين يوم القيامة، وهو اليوم الذي تمور فيه السماء، أي ترتج بما فيها وتضطرب في مكانها، وتسير الجبال عن أماكنها حتى تستوي بالأرض، إعلاما بألا عودة إلى الدنيا.
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 239- 240(27/60)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
4- الويل: كلمة عذاب أو واد في جهنم، وتقال للهالك، والويل لكل من كذب الرسل الذين هم في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب.
5- يدفع أهل النار إليها يوم القيامة دفعا عنيفا شديدا، قال المفسرون:
إن خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وزجّا في أقفيتهم.
6- وإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة للتوبيخ والتقريع والتهكم:
أ- هذه النار التي كذبتم بها في الدنيا.
ب- أفسحر هذا الذي ترون الآن بأعينكم، كما كنتم تقولون عن الوحي: إنه سحر؟ بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون؟
ج- ذوقوا حر جهنم بالدخول فيها، وسواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن، فلا ينفعكم شيء، وإنما الجزاء بالعمل. وقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون:
سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم 14/ 21] .
جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)(27/61)
الاعراب:
فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ ما: مصدرية. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً هَنِيئاً منصوب على الحال من ضمير كُلُوا أو ضمير اشْرَبُوا. وقوله: بِما كُنْتُمْ.. الباء: سببية، أي بعملكم.
مُتَّكِئِينَ حال من الضمير المستكن في قوله: جَنَّاتٍ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا.. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الَّذِينَ في محل رفع مبتدأ، وخبره: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ في موضع نصب على الحال.
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ إِنَّهُ بالكسر: على الابتداء، وبالفتح: على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأنه.
البلاغة:
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل، مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ أي إن العاملين بالأوامر الإلهية، المبتعدين عن المحظورات الشرعية هم في بساتين خضراء نضرة تجري العيون والينابيع والأنهار من تحتهم، ويغمرهم نعم كثيرة من الله تعالى. فاكِهِينَ متلذذين مستمتعين مسرورين وقرئ «فكهين» أي طيبة نفوسهم.
آتاهُمْ أعطاهم. وَوَقاهُمْ حفظهم وحماهم، وهو معطوف على آتاهُمْ أي بإتيانهم ووقايتهم.(27/62)
كُلُوا وَاشْرَبُوا.. أي ويقال لهم ذلك. هَنِيئاً أي أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا: وهو ما لا تنغيص فيه ولا نكد، أو ما لا مشقة فيه ولا يؤدي إلى سقم أو عناء وتخمة.
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب عملكم. سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي متصلة ببعضها حتى تصير صفا واحدا. وَزَوَّجْناهُمْ قرناهم، معطوف على جَنَّاتٍ. بِحُورٍ عِينٍ حور: جمع حوراء:
وهي المرأة البيضاء، والعين: جمع عيناء، وهي المرأة العظيمة الواسعة العين، أي نساء بيض عظام الأعين حسانهن، وحور العين: اسوداد المقلة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا معطوف على بِحُورٍ أي قرناهم بأزواج ورفقاء مؤمنين كقوله تعالى:
إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر 15/ 47] ، ويصح جعله مبتدأ، وخبره: أَلْحَقْنا بِهِمْ.
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ اعتراض للتعليل، والذرية: لفظ يقع على الواحد والكثير، وقرئ:
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، والذرية: تشمل الصغار والكبار، وقوله: بِإِيمانٍ حال من ضمير: واتبعتهم، وتنكيره للتعظيم، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق:
المتابعة في أصل الإيمان. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في دخول الجنة، أو الدرجة، وإن لم يعملوا بعملهم، تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، ولما
روي مرفوعا: أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه ابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه» ثم تلا هذه الآية.
وَما أَلَتْناهُمْ وما نقصناهم بهذا الإلحاق. مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي فيزاد في عمل الأولاد بالتفضل عليهم، وهو اللائق بكمال لطف الله. بِما كَسَبَ من خير أو شر. رَهِينٌ مرهون بعمله عند الله، فيؤاخذ بالشر، ويجازى بالخير، والعمل الصالح يكفّه، والعمل الصالح يهلكه.
وَأَمْدَدْناهُمْ زدناهم وقتا بعد وقت. مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع النعم، وإن لم يصرحوا بطلبه.
يَتَنازَعُونَ فِيها يتجاذبون في الجنة ملاعبة وسرورا، أو يتعاطون بينهم. كَأْساً خمرا، فهي إناء الخمر ما دام مملوءا فإن كان فارغا لم يسم كأسا، وسماها باسم محلها، ولذلك أنت الضمير في قوله: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يتكلمون بسبب شربها بلغو الحديث (وهو ما لا خير فيه) ، ولا يفعلون ما يأثم به فاعله من فحش الكلام وغيره مما يغضب الله، كما هو عادة الشاربين في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات 37/ 47] .
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة بالكأس وغيرها. غِلْمانٌ لَهُمْ مماليك مخصوصون بهم.
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي كأن الغلمان حسنا ولطافة لؤلؤ مصون في الصدف، لأن فيها أحسن منها في غيرها، وذلك من صفائهم وبياضهم،
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن جرير وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .(27/63)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، استمتاعا وتلذذا واعترافا بالنعمة. قالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي كنا في الدنيا خائفين من عذاب الله، وهذا القول إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرحمة.
وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ حمانا من عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم، وقرئ:
وَوَقانا بالتشديد.
وقالوا أيضا إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في الدنيا. نَدْعُوهُ نعبده موحدين، أو نسأله الوقاية. إِنَّهُ بالكسر: استئناف، وإن كان تعليلا معنى، وقرئ بالفتح: أنه تعليلا لفظا. الْبَرُّ المحسن، الصادق في وعده. الرَّحِيمُ الكثير الرحمة.
المناسبة:
بعد بيان وقوع البعث والعذاب بالكافرين حتما وما يلاقونه من الشدائد والإهانات، ذكر الله تعالى حال المؤمن وجزاءه المتميز، أي أنه ذكر ما يتلقاه المؤمن في الآخرة بعد بيان حال الكافر، ثم ذكر الثواب عقب العقاب، جريا على الموازنة وعادة القرآن في إيراد الأضداد، والجمع بين الترغيب بالترهيب، حتى يتأمل الإنسان في المصير، فيرغب في الرحمة، ويرهب النقمة والعقاب.
ومما يزيد في الترغيب: أنه تعالى لم يقصر النعمة على المستحق، وإنما أفاضها أيضا على الذرية والأولاد، فلم يكتف بتعداد صنوف اللذات النفسية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والزواج، وإنما زاد في الفضل والإكرام، فألحق بالأصول الذرية المؤمنة في المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الجنان.
وأبعد اليأس والملل والوحشة عن أهل الجنة، وأحل محلها المتعة المتجددة والأنس، بتجاذب الكؤوس فرحا ولعبا، والتنذر بأطيب الأحاديث، والتحدث بأحوال الدنيا ومقارنتها بأحوال الآخرة، ونحو ذلك.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا باتباع أوامره واجتناب نواهيه يكونون(27/64)
في بساتين نضرة، ويتنعمون فيها بنعيم دائم، بضد ما أولئك الكفار فيه من العذاب والنكال، وهم يتفكهون بفواكه الجنة تفكها فيه غاية الطيبة واللذة والسرور، بما أعطاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والأزواج وغير ذلك، وحماهم الله من عذاب النار، ونجاهم من لظى السعير، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها، مع دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ يفيد أنهم يتنعمون في الجنان تنعما فعليا، لا كمجرد الناطور الذي يحرس البستان. وقوله: فاكِهِينَ للدلالة على أن التنعم في النفس والقلب أيضا، فقد يكون التنعم ظاهريا، والقلب مشغول، كحال كثير من أغنياء الدنيا.
وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي تهنئهم الملائكة وتقول لهم:
كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذ وصفا وطاب، لا تجدون في الأكل والشرب تنغيصا ولا نكدا ولا كدرا، وهذا معنى الهنيء، وذلك بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، فهذا بذاك تفضلا وإحسانا.
ونظير الآية: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] . قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها طلبت.
ثم ذكر الله تعالى تمتعهم بالفرش والبسط والأزواج، فقال:
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي والحال أنهم يجلسون ويستندون على أسرّة مصفوفة متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا(27/65)
واحدا، وهذا دليل الاطمئنان والراحة وعدم التكلف وفراغ البال من الشواغل.
وكذلك قرنّا كل واحد منهم بقرينات صالحات وزوجات حسان من نساء الجنة، وهن الحوريات الشديدات بياض العين، والشديدات سوادها، والواسعات الأعين. ويلاحظ أن كلمتي الحور والعين جمع للمذكر والمؤنث، أي أحور حوراء وأعين عيناء.
روى ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة، ما يتحول عنه ولا يملّه، يأتيه ما اشتهت نفسه، ولذّت عينه» .
ويلاحظ أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباب التنعيم الأربعة على الترتيب، فذكر أولا المسكن وهو الجنات، ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط، ثم الأزواج. وذكر في كل نوع ما يدل على الكمال فيه، وهو قوله فاكِهِينَ في الجنات، لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور، وقوله:
هَنِيئاً إشارة إلى خلو المأكول والمشروب عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا كالتخمة والمرض والغصة والانقطاع. وقوله: في السرر: مُتَّكِئِينَ للدلالة على عدم التكلف، والهيئة دليل خير. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنجاز لما وعدهم به ربهم في الدنيا، من غير من، وإنما كان المنّ في الدنيا بالهداية للإيمان والتوفيق للعمل الصالح، كما قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات 49/ 17] .
وقوله: مَصْفُوفَةٍ إشارة إلى أنها مخصصة لكل واحد، لا اشتراك فيها.
وقوله: وَزَوَّجْناهُمْ دليل على أن المزوج بأمانة هو الله تعالى، وأن المنفعة في التزويج لهم وأنه لم يقتصر على الزوجات، بل وصفهن بالحسن، واختار أحسن الحسن وهو جمال العيون «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 249(27/66)
ويلاحظ أيضا الفرق بين جزاء الكفار حيث قال تعالى في حقهم: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وبين جزاء المتقين حيث قال في حقهم: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فجزاء الكفار منحصر بكلمة إِنَّما للحصر، أي لا تجزون إلا ذلك، وأما المؤمنون فيضاعف ما عملوا ويزيدهم من فضله، ويجازى الكفار عين أعمالهم بقوله: بِما كُنْتُمْ إشارة إلى المبالغة في المماثلة، وقال في حق المؤمنين:
بِما كُنْتُمْ كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملهم الصالح، وذكر الله تعالى الجزاء في حق الكفار، وهو ينبئ عن الانقطاع، ولم يذكره في حق المؤمنين مما يدل على الدوام وعدم الانقطاع «1» .
ثم أخبر الله تعالى عن مزيد فضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه بإلحاق الذرية بالآباء في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقرّ عين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي إن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان أو بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء، يلحقهم الله بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما، والمعنى: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر عينه، وتطيب نفسه، بشرط كونهم مؤمنين. ومن باب أولى يلحق الآباء بالأبناء إن كان هؤلاء أحسن حالا من آبائهم، فيرفع ناقص العمل إلى منزلة كامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك. قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «2» وتنكير لفظة بِإِيمانٍ للدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة،
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 249
(2) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا، ورواه الثوري عن ابن عباس موقوفا.(27/67)
ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم «1» .
وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا ربّ، قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به» .
وقرأ ابن عباس:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ الآية.
وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وفضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء،
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربّ أنى لي هذه؟ فيقول:
باستغفار ولدك لك»
وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا.
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي كل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب آخر سواء كان أبا أو ابنا، كما أن الرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين، فإن كان العمل صالحا فكّه ونجاه، لأن الله يقبله، وإن كان صالحا أهلكه.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر 74/ 38- 39] أي كل نفس مرهونة بعملها، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين بعملهم الطيب.
__________
(1) تفسير الكشاف: 3/ 173(27/68)
ثم عدد الله تعالى أصناف النعم على المتقين، فقال:
1- وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به.
2- يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو والإثم، فلا يتكلمون بكلام لاغ، أي هذيان، ولا قول فيه إثم أي فحش، كما يتكلم شاربو الخمر في الدنيا، قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم، فيلغوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم.
وقد أخبر الله تعالى عن حسن منظر خمر الآخرة وطيب طعمها ومذاقها، فقال: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات 37/ 46- 47] وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19] .
3- وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي ويدور عليهم للخدمة بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصدف، لم تمسّه الأيدي.
ونحو الآية: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة 56/ 17- 18] .
روى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل: يا رسول الله، هذا الخادم مثل اللؤلؤ، فكيف بالمخدوم؟ فقال: والذي نفسي(27/69)
بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي ذلك أيضا عن الحسن.
4- وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبلوا يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وما كان فيها من متاعب ومخاوف. ونكد وكدر.
ثم ذكر الله تعالى أجوبتهم التي تومئ إلى علة الوصول إلى الجنان، فقال:
- قالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي أجابوا قائلين: إنا كنا في الدار الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله وعقابه، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة ووفقنا إلى العمل الصالح، وأجارنا مما نخاف من عذاب النار. وسموم جهنم: ما يوجد من حرّها.
- إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ أي إنا كنا في الدنيا نوحد الله ونعبده، ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا، إنه سبحانه الكثير الإحسان والكرم، الكثير الرحمة والفضل لعباده.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن جزاء المتقين دخول الجنان، والتمتع بأنواع النعيم المختلفة، فهم ذوو فاكهة كثيرة، طيبو النفس، مزّاحون، ناجون من عذاب النار، يقال لهم:
كلوا واشربوا هنيئا، والهنيء: ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر.
وهم متكئون على سرر موصولة بعضها ببعض حتى تصير صفا واحدا، ويتزوجون بما شاؤوا من الحور العين، أي بنساء بيض نجل العيون حسانها.(27/70)
2- يلحق الله الذرية الصغار والكبار بالآباء، والآباء بالذرية، في المنزلة والدرجة في الجنة تكريما من الله وتفضلا وإحسانا لتقر أعين الآباء بهم، ولا ينقص الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، ولا ينقص الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم، وذلك بشرط الإيمان بين الأصول والفروع.
قال الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم «1» .
وقال الرازي في الآية: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ..: تدل على أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولهم بأولادهم، بل يجمع بينهم «2» .
3- كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ، قال الزمخشري: عام في كل أحد، مرهون عند الله بالكسب، فإن كسب خيرا فك رقبته، وإلا أربق بالرهن «3» .
4- زيادة من الله وفضله يمد المؤمنين بأنواع الفاكهة واللحوم المختلفة حسبما يشتهون، غير الذي كان لهم، ويتناول بعضهم من بعض كأسا وهو إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره، وهم المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة.
ويطوف عليهم مماليك مخصوصون بالفواكه والتحف والطعام والشراب كما قال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف 43/ 71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الصافات 37/ 45] . وأولئك المماليك كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مستور مصون في الصدف، كما قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة 56/ 17] .
__________
(1) الكشاف: 3/ 173.
(2) تفسير الرازي: 28/ 250
(3) الكشاف: 3/ 174(27/71)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة منزلة من ينادي الخادم من خدمه، فيجيبه ألف كلّهم: لبّيك لبّيك» «1» .
5- يقبل أهل الجنة بعضهم على بعض. فيتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم، وامتنان الله عليهم بالجنة والمغفرة، وبالتوفيق والهداية، والنجاة من عذاب نار جهنم، نار السّموم، والسموم: الريح الحارّة.
6- يجد أهل الجنة ثواب ما عملوا في الدنيا، فإنهم كانوا في الدنيا يعبدون الله ويوحدونه، ويدعونه بأن يمنّ عليهم بالمغفرة من تقصيرهم، فيرون ثمرة ذلك في الآخرة، فإن الله تعالى كثير البر والجود والإحسان، اللطيف الصادق فيما وعد، الكثير الرحمة.
متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
الاعراب:
بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ بِكاهِنٍ خبر ما، ومَجْنُونٍ معطوف عليه.
أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ أَمْ هنا: منقطعة بمعنى بل والهمزة، وكذلك أَمْ في أوائل الآيات: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا إلى قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ (32- 43) كلها
__________
(1) تفسير الألوسي: 27/ 34(27/72)
منقطعة، بمعنى (بل والهمزة) وهي خمسة عشر موضعا. وبَلْ للإضراب الانتقالي والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ، أي ما كان ينبغي أن يحصل، أو بمعنى ما حصل هذا.
البلاغة:
رَيْبَ الْمَنُونِ استعارة تصريحية، أستعير لفظ الريب (وهو الشك) لنوائب الدهر وحوادثه، بتشبيه حوادث الدهر بالريب بجامع التقلب وعدم الاستمرار على حالة واحدة.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أسلوب تهكمي للتهكم بعقولهم والسخرية منهم، وأمر الأحلام بأقوالهم مجاز عن أدائها إليه.
المفردات اللغوية:
فَذَكِّرْ فاثبت على التذكير والموعظة، ولا تكترث بقولهم، ولا تتراجع لاتهامات باطلة كالقول بأنك كاهن أو مجنون. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بحمد ربك وإنعامه عليك. بِكاهِنٍ الكاهن: هو المخبر عن الماضي بالظن، والعرّاف: هو المخبر عن المستقبل، بالاعتماد على الجن.
نَتَرَبَّصُ ننتظر. رَيْبَ الْمَنُونِ أي حوادث الدهر ليهلك كغيره، والريب في الأصل:
الشك، وأطلق على الحوادث، والمنون: الدهر، سمي بذلك، لأنه يقطع الأجل، وقيل: المنون:
الموت.
تَرَبَّصُوا انتظروا هلاكي. فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، فعذبوا بالقتل يوم بدر. أَحْلامُهُمْ عقولهم، جمع حلم: وهو العقل. بِهذا التناقض في القول، فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر، والمجنون عديم العقل، والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق نابع من الخيال، ولا يتأتى ذلك من المجنون. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ بل هم مجاوزون الحد في العناد والمكابرة.
تَقَوَّلَهُ اختلق القرآن وافتراه من تلقاء نفسه. بَلْ لا يُؤْمِنُونَ بل يكفرون. فيرمون بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم، إذ فيهم كثير من الفصحاء، فهذا رد لأقوالهم المذكورة بالتحدّي.
سبب النزول: نزول الآية (30) :
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ: أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أن(27/73)
قريشا لما اجتمعوا في دار النّدوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة والأعشى، فإنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
المناسبة:
بعد قسم الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أحوال المعذبين والناجين، أمر تعالى نبيه بالتذكير إنذارا للكافر، وتبشيرا للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون باعتبارهما طريقين إلى الإخبار ببعض المغيّبات، بالاعتماد على الجن. وكان شيبة بن ربيعة ممن ينسبه إلى الكهانة، وعقبة بن أبي معيط ممن ينسبه إلى الجنون. ثم بيّن الله تعالى ما في هذا الاتهام من التناقض والاضطراب، ثم أمره ربه بتهديدهم بمثل صنيعهم، ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل أقصر سورة من هذا الكلام المفترى، وفيهم الفصحاء والبلغاء، بل هم قوم طاغون متجاوزون الحد، جاحدون كافرون لا يؤمنون بالوحي، فقالوا بأهوائهم مثل تلك الأقاويل.
التفسير والبيان:
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أي إذا كان في الوجود قوم يخافون الله، ويشفقون في أهليهم من عذاب الله كما تقدم في الآيات السابقة، فوجب عليك أيها الرسول الإتيان بما أمرت به من التذكير، فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبّطنك قولهم: كاهن أو مجنون، فلست بحمد الله وإنعامه بكاهن كما يقول جهلة كفار قريش، ولا مجنون، والكاهن:
هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، ويخبر عن الماضي بالأخبار الخفية، وليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله(27/74)
بإبلاغه. والمجنون: هو الذي يتخبطه الشيطان من المس، في عرف العرب.
وممن قال: إنه كاهن كما تقدم: شيبة بن ربيعة، وممن قال: إنه مجنون عقبة بن أبي معيط.
لا تبال بهذا، فإنه قول باطل متناقض، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله، ولست بما عرف عنك من رجاحة العقل أحد هذين.
ثم أنكر الله تعالى عليهم قولا آخر في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال:
أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام، فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، فنستريح منه ومن شأنه وينقضي ما جاء به من هذا الدين.
ثم هددهم الله وتهكم بهم قائلا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
- قُلْ: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي قل لهم أيها الرسول:
انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين لعاقبة الأمر، وقضاء الله فيكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، وأنا واثق من نصر الله تعالى.
- أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي أأنزل عليهم ذكر أم أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ وهي دعوى أن القرآن سحر أو كهانة أو شعر، وقولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: كاهن وشاعر مع قولهم: مجنون، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون، فالأول ينطق بالحكمة، والثاني يذكر الخرافات، والثالث زائل العقل، وكانت عظماء قريش توصف بأنهم أهل الأحلام والنهى والعقول، فتهكم الله بعقولهم التي لا تميز بين الحق والباطل.(27/75)
أم إنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد في العناد والعصيان والضلال عن الحق، واغتروا وقالوا ما لا دليل عليه سمعا، ولا مقتضى له عقلا.
وعلى هذا تكون أَمْ متصلة، كما ذكر الرازي، وذكر غيره «1» أن أم في الموضعين منقطعة، أي بل أتأمرهم عقولهم، بل أطغوا وجاوزوا الحد؟ أي لكن عقولهم تأمرهم بهذه الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور، وهم قوم طاغون ضلّال معاندون.
أَمْ يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي أتقولون: كاهن، أم تقولون: شاعر، أم تقوله أي اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن. فرد الله تعالى عليهم: بل إن كفرهم وكونهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون بما جاء به رسوله هو الذي يحملهم على هذه الأقوال المتناقضة، والمطاعن المفتراة الكاذبة.
ثم رد عليهم ردا آخر فيه تحدّ لهم، فقال:
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي إن صدقوا في قولهم: إن محمدا تقوله وافتراه من عند نفسه، فليأتوا «2» بمثل هذا القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه، مع أنه كلام عربي، وهم أساطين البيان، وفرسان البلاغة والفصاحة، والممارسون لجميع أساليب العربية من نظم ونثر.
والحقيقة أنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس، ما جاؤوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله.
__________
(1) قال أبو حيان في (البحر المحيط: 8/ 151) : والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة، وقد تقدم في الإعراب أن أم كلها في الآيات منقطعة بمعنى (بل والهمزة) وهو رأي ابن الأنباري وغيره من النحاة.
(2) الفاء للتعقيب، أي إذا كان الأمر كذلك، فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم، ويبطل كلامه.(27/76)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالثبات على التذكير والوعظ لقومه بالقرآن، دون مبالاة بمطاعن كفار قريش، فليس هو بالكاهن ولا بالشاعر ولا بالمجنون، وإنما هو صادق النبوة، وقد عرف بين قومه أنفسهم برجاحة العقل، وأصالة الرأي.
2- لقد انتظر الكفار المعاندون سوءا أو هلاكا بالنبي صلى الله عليه وسلم تخلصا منه ومن دينه، فعجل الله لهم الهلاك في معركة بدر وغيرها. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا، فربما يموت كما مات أبوه.
3- وفي حال حياتهم أورد القرآن عدة تقريعات وتوبيخات لهم بأسلوب التهكم:
أولها- أنه لا عقل لهم بنحو سليم، إذ لو كان لهم عقل سليم لميزوا بين الحق والباطل، والمعجز وغيره، ولما أوقعوا أنفسهم في تناقضات حين وصفوا محمدا صلى الله عليه وسلم بأوصاف متناقضة، فقالوا: إنه كاهن، شاعر، مجنون. والجنون لا يتفق مع الكهانة ونظم الشعر اللذين يتطلبان حذاقة وذكاء وإبداعا وقوة خيال.
ثانيها- أنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد بغير عقول.
ثالثها- زعمهم أن محمدا تقوّل القرآن، أي اختلقه وافتراه من تلقاء نفسه، والتقول يراد به الكذب.
رابعها- أنهم لم يؤمنوا بالله ورسوله جحودا وعنادا واستكبارا، وقد صح عندهم إعجاز القرآن، وإلا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي بقرآن يشبهه من تلقاء(27/77)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
أنفسهم إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن محمدا صلى الله عليه وسلم افتراه.
فإن كان شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص، فليأتوا بمثل ما أتى به.
إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق
[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
البلاغة:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم.
المفردات اللغوية:
مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق، فلذلك لا يعبدونه. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ الذين خلقوا أنفسهم؟ وبما أنه لا يعقل مخلوق بغير خالق، ولا معدوم يخلق، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه الكريم؟! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهم لا يستطيعون ذلك، فلا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق القادر، فلم لا يعبدونه؟! بَلْ لا يُوقِنُونَ به، وإلا لآمنوا بنبيه، ولو أيقنوا بأن الخالق هو الله لما أعرضوا عن عبادته.(27/78)
خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه، حتى يرزقوا النبوة والرزق وغيرهما، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. الْمُصَيْطِرُونَ القاهرون الغالبون على الأشياء المسلطون عليها يدبرونها كيف شاؤوا، من سيطر على كذا: إذا تسلط عليه وأقام عليه، مثل بيطر وبيقر. سُلَّمٌ مرتقى إلى السماء، والسلم: كل ما يتوصل به إلى غيره من الأماكن العالية. يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يستمعون عليه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن، وينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم إن ادعوا ذلك. بِسُلْطانٍ بحجة قوية. مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدّق استماعه.
أَمْ لَهُ الْبَناتُ بزعمكم. وَلَكُمُ الْبَنُونَ الذكور، فيه تسفيه آرائهم وإشعارهم بأن من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا عن الاطلاع على الغيوب. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أم تطلب منهم أجرة على تبليغ الرسالة. مَغْرَمٍ من التزام غرامة أو غرم: وهو التزام الإنسان ما ليس عليه.
مُثْقَلُونَ محملون الثقل، فلذلك زهدوا في اتباعك ولم يسلموا.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب. فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذلك ويحكمون بناء عليه. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً تدبير مكيدة وشر، وهو كيدهم في دار الندوة. فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم والخصوص، فيشمل جميع الكفار، أو كفار قريش، فيكون ذلك تسجيلا للكفر عليهم.
الْمَكِيدُونَ المغلوبون المهلكون، الذين يحيق بهم الكيد، أو يعود وبال كيدهم عليهم، وهو قتلهم يوم بدر. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله، وهو اسم علم للتسبيح. عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو شركة ما يشركون به وعن الذين يشركون.
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على ما زعم كفار قريش من أن محمدا كاهن أو شاعر أو مجنون، ذكر الدليل من الأنفس والآفاق على صدقه، وإبطال تكذيبهم لرسالته، وإنكارهم للخالق، وإثبات التوحيد بخلقهم وخلق السموات والأرض، علما بأن إثبات الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.
ثم طمأن الله نبيه بأن كيدهم له لا يضره شيئا، وأن الله ناصره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون.(27/79)
التفسير والبيان:
هذه الآيات لإثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ هذا رد على إنكار الخالق الواحد، فهل وجدوا من غير موجد، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ وإذا كان الأمران منتفيين بشهادة العقل والحس والواقع وبإقرارهم، فالله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ وهل خلقوا السموات والأرض وما فيهما من العجائب والغرائب وأسباب الحياة والمعيشة؟ إنهم في الواقع لا يستطيعون ادعاء ذلك، والحقيقة أن عدم إيقانهم من قولهم بأن الله هو الخالق هو الذي حملهم على التكذيب وإنكار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو أيقنوا حقا بأن الله هو الخالق ما أعرضوا عن عبادته.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي هل هم يملكون خزائن الله من النبوة والرزق وغيرهما، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك، بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء يصعدون به، أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟
فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالبرهان الدال على صدقه. الواقع ليس لهم سبيل إلى ذلك، فليس لهم دليل ولا حجة على ما يقولون.(27/80)
وبعد الرد على إنكار الألوهية، رد الله تعالى على من قال: الملائكة بنات الله، فقال:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أي بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فمن كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، ولا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد.
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغك الرسالة، فهم من التزام غرامة تطلبها منهم محمّلون غرما ثقيلا، فلا يسلمون ولا يجيبون دعوتك؟ الواقع لست تسألهم على ذلك شيئا، ولا تطلب منهم أدنى شيء يشق عليهم ويثقلهم. وهذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب؟ ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال قتادة: لما قالوا: نتربص به ريب المنون، قال الله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حتى علموا متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى ما يؤول إليه أمره.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي إن كنتم تعلمون الغيب فأنتم كاذبون، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه، فأنتم غالطون، فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم، فإن كنتم تريدون تدبيرا أو مكرا برسول الله صلى الله عليه وسلم لإهلاكه، فالكافرون هم الممكور بهم، المجزيون بكيدهم. ولام فَالَّذِينَ كَفَرُوا لهؤلاء الكفار أو للجنس، فيشملهم وغيرهم. وتنكير الكيد إشارة إلى وقوع العذاب بغتة من حيث لا يشعرون. وصرح بقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا للدلالة على كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره، لا في مقابلة إرادته الكيد.(27/81)
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدونه سواه. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله، وتنزيه الله نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن إثبات وجود الله ووحدانيته وقدرته على الحشر هو خلق الأنفس والآفاق، أي خلق الإنسان والحيوان والنبات من غير سابق وجود، وخلق السموات والأرض بعد العدم، فالخلق دليل على وجود الله تعالى، وهو الدليل الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم، كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] .
والانفراد بالخلق دليل على وحدانية الخالق، لأن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. والخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.
وإذا أقر الكفار بأن ثمّ خالقا، فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث.
وهم يقرون بأنه لا يعقل وجودهم من غير رب خلقهم وقدّرهم، كما يقرون إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض بأنه هو الله، فلم لا يوقنون بالحق، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] .
2- أنكر القرآن على الكفار اعتراضهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه هل عندهم خزائن الرحمة والغيب والرزق حتى يختاروا للنبوة من أرادوه، أو أنهم المصيطرون على العالم الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم؟(27/82)
3- ثم أنكر القرآن على الكفار قدرتهم على شيء من علم الغيب، ومضمون ذلك: أيدّعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا يستمعون الأخبار، ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي، فإذا صح ذلك فليأت مستمعهم على صحة ادعائه بحجة بيّنة أن هذا الذي هم عليه حق.
وهذا تتميم للدليل السابق لإثبات النبوة.
4- سفّه القرآن أحلام كفار قريش وأمثالهم وقرّعهم ووبخهم في قولهم:
الملائكة بنات الله، وهذا إشارة إلى نفي الشرك. فهل يعقل أن يكون لله البنات، وللبشر البنون؟ ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث.
5- ثم أكد الحق سبحانه صدق نبوة عبده محمد صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، فهم من المغرم الذي يطالبهم به مجهدون لما كلفهم به. ثم أضاف دليلا آخر وهو أنه ليس عندهم علم بالغيب يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيب.
6- أخبر الله تعالى بأنه عاصم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من السوء والشر ومكائد أعدائه، فإنهم إن أرادوا به شرا ومكيدة ومكرا كما دبروا في دار الندوة، فإنهم المهزومون المغلوبون الممكور بهم الذين يعود عليهم وبال الكيد: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] وذلك أنهم قتلوا ببدر، وأظهر الله دين الإسلام.
7- أعاد الله تعالى إثبات التوحيد ونفي الشرك، فقال موبخا: هل لهم إله غير الله يخلق ويرزق ويمنع، تنزّه الله وتعالى وتقدس عن نسبة الشرك له أو أن يكون له شريك، فإن الشريك دليل العجز، والإله الحق يتميز بالقدرة المطلقة التي تشمل الكون كله وما فيه من مخلوقات حتى تصح الدينونة والخضوع والانقياد والعبادة له دون غيره.(27/83)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
وهذا تصريح بالمقصود الكلي من الآيات، لذا وبخهم على إشراكهم، ونزه نفسه عن ذلك بقوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم وعن الذين يشركون.
الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
الاعراب:
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ساقِطاً إما مفعول به ثان، أو حال.
يَوْمَهُمُ مفعول يُلاقُوا. ويَوْمَ لا يُغْنِي منصوب على البدل من يَوْمَهُمُ وليس بمنصوب على الظرف.
وَإِدْبارَ النُّجُومِ إدبار بكسر الهمزة: مصدر أدبر يدبر إدبارا، وتقديره: وسبّحه وقت إدبار النجوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ بفتح الهمزة، على أنه جمع دبر: وهو منصوب لأنه ظرف زمان.
البلاغة:
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً أسلوب الفرض والتقدير، أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا.
بِأَعْيُنِنا مجاز عن الحفظ.(27/84)
المفردات اللغوية:
كِسْفاً قطعة. يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم. سَحابٌ مَرْكُومٌ أي هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، نرتوي به، ثم لا يؤمنون. والآية جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] .
فَذَرْهُمْ اتركهم وأعرض عنهم. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون أو يقتلون. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي لا يفيد شيئا من الإغناء في ردّ العذاب. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله تعالى في الآخرة. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بكفرهم، وهو يحتمل العموم والخصوص فإن كان العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم، وإن كان العذاب هو عذاب يوم بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة. عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي دون عذاب الآخرة، أي في الدنيا قبل موتهم، كعذاب الجوع والقحط سبع سنين، والقتل يوم بدر، أو عذاب القبر.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وتبليغ الرسالة، ولا يضق صدرك بعنائهم وإعراضهم وجدالهم. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا بمرأى منا، نراك ونحفظك ونكلؤك، وجمع مبالغة بكثرة أسباب الحفظ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قارنا التسبيح بالتحميد، فقل: سبحان الله وبحمده حِينَ تَقُومُ من منامك أو من مجلسك أو إلى الصلاة، أي من أي مكان قمت. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ نزهه بقولك: سبحان الله، وخصه بالليل وقدمه على الفعل، لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عقب غروبها سبحه أيضا، أي إذا أدبرت النجوم من آخر الليل.
المناسبة:
بعد تفنيد مزاعم المشركين في الحشر والمعاد، والألوهية والوحدانية، والنبوة والشرك، وإثبات المعاد والتوحيد وصدق النبوة ونفي الشرك، أجاب الله تعالى عن بعض مقترحاتهم بإسقاط قطعة من السماء تعذيبا لهم، وبين مدى مكابرتهم في إنكار المحسوسات، فضلا عن المعقولات، ثم أمر نبيه بالإعراض عنهم، والصبر على مساوئهم ومكائدهم، فإن الله ناصرك عليهم وحافظك، وأخبره بأن العذاب واقع بهم في الدنيا قبل الآخرة، وقوّى معنوية نبيه بالاعتصام بالله، والإقبال على طاعته، وذكره صباحا ومساء، نهارا وليلا حين يقوم من منامه أو من مجلسه أو بعد غياب النجوم، وإصباح الصباح.(27/85)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عناد المشركين ومكابرتهم للمحسوس، فيقول:
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ أي إن ير هؤلاء المشركون قطعة من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم، لما صدقوا ولما أيقنوا، ولما انتهوا عن كفرهم، بل يقولون: هذا سحاب متراكم ملقى بعضه على بعض، نرتوي به. وهذه غاية المكابرة، لأنهم ينكرون ما تبصره الأعين وتشاهده النفوس.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14- 15] .
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أي إذا كان هذا شأنهم وتبين أنهم لا يرجعون عن كفرهم، فدعهم يا محمد ولا تأبه بهم حتى يلقوا أو يأتي يوم مجازاتهم بأعمالهم السيئة الذي يحدث فيهم هلاكهم السريع، وهو يوم موتهم أو قتلهم وهو يوم بدر، وهو الظاهر في الآية كما قال البقاعي، لأنهم عذبوا فيه، أو يوم النفخة الأولى يوم القيامة، لأن صعقته تعم جميع الخلائق، وهو قول الجمهور، كما ذكر أبو حيان.
وإسقاط كلمة الإشارة قبل كلمة سَحابٌ أي هذا سحاب لوضوح الأمر وظهور العناد، كما أن كلمة يَقُولُوا تدل على العناد.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ذلك اليوم يوم لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ولا ينصرهم ناصر، بل هو واقع بهم لا محالة.(27/86)
والكيد: هو فعل يسوء من نزل به، وإن حسن ممن صدر منه. وإنما قال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي ... للرد على ما كانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي وكيد النبي وعبادة الأوثان عذابا في الدار الدنيا وهو قتلهم يوم بدر، أو هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد، والقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر الذي حدث في السنة الثانية من الهجرة، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من عذاب الله وبأسه وبلاياه، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد، ولو كشف عنهم العذاب لعادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه. والمراد بالأكثر الكل على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر، أو هم في أكثر أحوالهم لم يعلموا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة 32/ 21] .
وجاء في الحديث لبيان عودة الكفار بعد جلاء العذاب إلى كفرهم: «إن المنافق إذا مرض وعوفي، مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه، ولا فيما أرسلوه» .
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي إلى أن يحكم الله أو لقضاء الله، والمعنى: واصبر أيها الرسول على أذى هؤلاء القوم، ولا تبال بهم، إلى أن يقع بهم العذاب الذي وعدناهم به، فإنك بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس، ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك تنزيها مصحوبا بالحمد، حين تقوم من مجلسك، أي من كل مجلس جلسته، فتقول: (سبحان الله وبحمده) أو (سبحانك اللهم وبحمدك) أو حين تقوم إلى الصلاة، كما قال الضحاك:
«سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك» .(27/87)
روى مسلم في صحيحة عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك.
وقال أبو الجوزاء: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير، ويتأيد هذا القول
بما رواه الإمام أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل «1» ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي- أو قال: ثم دعا- استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته» .
ويتأيد الرأي الأول في كون التسبيح والتحميد بعد كل مجلس بما
أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن مردويه وابن أبي شيبة عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس:
«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وإذا قمت من نومك فسبّحه واذكره واعبده في بعض الليل، وفي آخر الليل حين أفول النجوم، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وقال مقاتل: أي صلّ المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر. قال الرازي: والظاهر أن المراد من وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقت الصبح حيث يدبر النجم، ويخفى، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله: حِينَ تَقُومُ المراد به النهار، وقوله:
وَمِنَ اللَّيْلِ ما عدا وقت النوم.
__________
(1) تعارّ الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت [.....](27/88)
ونظير الآية: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسرار 17/ 79] وهذا يتفق مع
الحديث الصحيح: «خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- شأن الكفار وديدنهم العناد ومكابرة المحسوسات، حتى إنهم لو رأوا بأعينهم أمارات العذاب النازل عليهم من السماء كالشهب والصواعق، لما أيقنوا وظلوا على كفرهم، وزعموا أنه سحاب محفّل بالمطر متراكم بعضه على بعض، وليس صواعق. وهذا جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء 17/ 92] .
2- هددهم الله تعالى بالهلاك السريع وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتركهم والإعراض عنهم حتى يوم بدر، أو يوم يموتون أو يوم النفخة الأولى في يوم القيامة حيث يأتيهم فيه من العذاب ما تشيب منه الرؤوس وتزول به العقول. وليس قوله:
فَذَرْهُمْ للتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام، والقول بأن ذلك منسوخ بآية القتال ضعيف كما ذكر الرازي، وإنما المراد التهديد.
3- في ذلك اليوم الذي يلاقونه لا ينفعهم فيه شيء من مكرهم وما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وما تآمروا به عليه، ولا يجدون فيه ناصرا ينصرهم من الله، أو مانع يمنعهم من عذاب الله. وقوله: يَوْمَ لا يُغْنِي فيه تمييز يوم الكفار والفجار عن يوم المؤمنين حيث قال تعالى فيه: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة 5/ 119] .(27/89)
4- للكفار عذابان: عذاب جهنم في الآخرة، وهو الأدهى والأمر، لأنه عذاب خالد دائم، وعذاب في الدنيا قبل موتهم وهو أخف من عذاب الآخرة بالتعرض لمصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد، والجوع والجهد والقحط سبع سنين، وقد عذب به أهل مكة، والقتل في المعارك كمعركة يوم بدر الذي قتل فيه زعماء قريش، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون أن العذاب نازل بهم، ولا ما يصيرون إليه في الآخرة أو الدنيا.
5- الصبر مفتاح الفرج، لذا أمر الله نبيه وكل مؤمن بالصبر على قضاء ربه فيما حمّله من رسالته، وأعلمه بأنه بمرأى ومنظر من الله يراه ويسمع ما يقول ويفعل، والله حافظه وحارسه وراعيه.
6- إن الإقبال على طاعة الله والاعتصام بقوته وقدرته وتفويض الأمور إليه يقوي النفس البشرية، وينفخ فيها روح الجدّ والعزيمة والإقدام والجرأة على أداء رسالة الحياة، لذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن بتسبيح الله وحمده كل وقت وعقب كل مجلس، وبالصلاة، والتهجد ليلا. وقد سبق إيراد الآيات والأحاديث الآمرة والمرغبة بكل ما ذكر، ومنها
حديث الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»
وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: «كنا نعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور» «1» .
وفي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض
__________
(1) قال الترمذي عن كل من الحديثين: حديث حسن صحيح غريب.(27/90)
ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقّ، ووعدك الحق، وقولك الحقّ، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حقّ، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك» .
وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل، مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة [آل عمران] أي من قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (190) إلى آخر السورة.(27/91)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
مكيّة، وهي اثنتان وستون آية.
تسميتها:
سميت سورة النجم، لأن الله تعالى افتتحها بالقسم بالنجم، وأل للجنس، أي بنجوم السماء وقت سقوطها وغربها، لأن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري، لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات، والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر، لأن الناظر إليه يستدل بغروبه على الجهة.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط هذه السورة بما قبلها بوجوه أربعة:
1- إن سورة الطور ختمت بقوله: وَإِدْبارَ النُّجُومِ وافتتحت هذه السورة بقوله: وَالنَّجْمِ.
2- في سورة الطور ذكر تقوّل القرآن وافتراؤه، وهذه السورة بدئت بذلك وردت عليه.
3- ذكر في الطور ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم، وفي هذه السورة ذكرت ذرية اليهود في آية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ (32) .(27/92)
4- في حق الآباء المؤمنين قال تعالى في الطور: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (21) أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين، مع نفعهم بعمل آبائهم، وقال في النجم في حق الكفار أو أبناء الكفار الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) .
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السورة المكية المعنية بأصول العقيدة، وهو إثبات الرسالة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تلقي القرآن بالوحي عن الله، والتوحيد والكلام على الأصنام وبيان عدم جدواها، والتحدث عن قدرة الله عز وجل، وعن البعث والنشور.
افتتحت السورة بإثبات ظاهرة الوحي بوساطة جبريل عليه السلام، والكلام عن (المعراج) وقرب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، ورؤيته عجائب ملكوت الله تعالى، ومشاهدته جبريل على صورته الحقيقية الملكية مرتين.
ثم قرّعت المشركين على عبادة الأوثان والأصنام، ووصفتها بأنها عبادة باطلة لآلهة مزعومة لا وجود لها، ووبختهم أيضا على جعل الملائكة إناثا، وتسميتهم إياها: بنات الله، وبيان أن الملائكة لا تملك الشفاعة إلا بإذن الله تعالى.
ثم وصفت الجزاء العادل يوم القيامة، حيث يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وذكرت أوصاف المحسنين، ونددت بإعراض الكافرين عن الإسلام، وأعلمت الناس جميعا أن المسؤولية فردية شخصية، فيسأل كل إنسان عن سعيه وعمله، ولا تتحمل نفس إثم أو وزر نفس أخرى، ولا تقبل تزكية المرء نفسه.(27/93)
وأبانت السورة إحاطة علم الله بما في السموات والأرض ومظاهر قدرة الله تعالى في الإحياء والإماتة، والإغناء والإفقار، وخلق الإنسان من النطفة، والبعث والحشر والنشر.
وهددت المشركين الذين أنكروا الوحدانية والرسالة والبعث بالإهلاك كإهلاك أقوام أخرى أشداء، كعاد وثمود وقوم نوح ولوط.
وختمت بالتعجب من استهزاء المشركين بالقرآن وإعراضهم عنه، وأمر المؤمنين بالعبادة الخالصة لله تعالى.
فضلها:
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن سورة النجم أول سورة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود أيضا قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة: وَالنَّجْمِ فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف.
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب، وقال: يكفي هذا.
فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك.(27/94)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
إثبات النبوة وظاهرة الوحي
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
الاعراب:
إِذا هَوى ظرف لفعل «أقسم» المقدر، والمراد ب إِذا هنا مطلق زمان.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الواو في وَهُوَ: واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر: في موضع نصب على الحال من ضمير فَاسْتَوى أي استوى عاليا، يعني جبريل.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى كذب بالتخفيف، فتكون ما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ما كذب الفؤاد فيما رأى. وما: إما بمعنى الذي، ورَأى الصلة، والهاء المحذوفة العائد، أي رآه، فحذف الهاء تخفيفا، وإما مصدرية. وقرئ كَذَبَ بالتشديد، فتكون ما مفعولا به، من غير تقدير حذف حرف جر، لأنه متعد بنفسه.
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى نَزْلَةً: منصوب على المصدر في موضع الحال، كأنه قال: رآه نازلا نزلة أخرى، وذهب الفرّاء إلى أنه منصوب على الظرف، إذ معناه: مرة أخرى.(27/95)
البلاغة:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
إبهام الموحى به للتعظيم والتهويل، ومثله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم 53/ 16] وكذلك فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم 53/ 54] .
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى بين هوى والهوى جناس، فالأول بمعنى خرّ وسقط، والثاني بمعنى هوى النفس.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة يوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء.
المفردات اللغوية:
وَالنَّجْمِ جنس النجوم، أو الثريا، فإنه غلب فيه إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، والواو للقسم. هَوى غرب وسقط. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية المستقيم. وَما غَوى ما وقع في الغي: وهو الجهل مع الاعتقاد الفاسد، وهو الجهل المركب، والمراد: ما اعتقد باطلا قط، والخطاب في هذا لقريش. والمراد: نفي ما ينسبون إليه.
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ما يتكلم بالقرآن عن الهوى أي بالباطل. إِنْ هُوَ أي ما القرآن أو الذي ينطق به. إِلَّا وَحْيٌ يُوحى وحي يوحيه الله إليه.
عَلَّمَهُ إياه ملك. شَدِيدُ الْقُوى صاحب القوى الشديد، وهو جبريل عليه السلام. ذُو مِرَّةٍ ذو قوة وحصافة في عقله ورأيه. فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، ورآه عليها محمد صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في السماء، ومرة في الأرض عند غار حراء في بدء النبوة.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق السماء وهو الجهة العليا بالنسبة للناظر، والضمير لجبريل. ثُمَّ دَنا قرب من النبي صلى الله عليه وسلم. فَتَدَلَّى زاد في القرب ونزل وتعلق به، وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى الله عليه وسلم. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي فكان جبريل على مقدار قوسين أو أقرب من ذلك، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس والسّية: وهي ما عطف من طرفيها، ولكل قوس قابان: طرفان. والخلاصة: فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه، بنفي البعد الموقع في اللبس والغموض.
فَأَوْحى
الله تعالى. إِلى عَبْدِهِ
جبريل. ما أَوْحى
جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه، أو فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما أنكر فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أفتجادلونه وتغلبونه وتكذبونه على ما يراه معاينة، من المراء:(27/96)
وهو الجدال بالباطل. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أعلى مكان في السماء، ينتهي إليها علم الخلائق وأعمالهم، شبّهت بالسدرة: وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين المتقين. إِذْ حين. يَغْشَى يغطي ويستر. ما يَغْشى تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يحيط بها وصف ولا عدد. ما زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه.
وَما طَغى وما تجاوز ما أمر به تلك الليلة. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى في تلك الليلة- ليلة المعراج- بعض آيات ربه العظمى، وعجائب الملكوت، كرؤية جبريل حينما سدّ أفق السماء بما له من ست مائة جناح.
التفسير والبيان:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى أي أقسم بالنجم أي بالنجوم عند ما تميل للغروب، إذ بالميل إلى الأفق تعرف الجهات، ما عدل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية والحق، وما صار غاويا متكلما بالباطل، وقيل:
النجم: الثريا إذا سقطت مع الفجر. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي وغيره قال:
الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق.
وقد عرض الرازي مقارنة في المقسم به والمقسم عليه بين هذه السورة والسور المتقدمة، فذكر أن السور التي تقدمت وهي والصافات والذاريات والطور وهذه السورة كان القسم فيها بالأسماء دون الحروف، أقسم الله في الأولى لإثبات الوحدانية: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وفي الثانية لإثبات الحشر والجزاء: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وفي الثالثة لإثبات دوام العذاب بعد وقوعه يوم القيامة:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ. وفي هذه السورة لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فاكتملت الأصول الثلاثة: الوحدانية، والحشر، والنبوة «1» .
ويلاحظ أن القسم على الوحدانية والنبوة قليل في القرآن، والقسم على إثبات البعث كثير، كما في سورة الذاريات، والطور، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى،
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 277(27/97)
وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وغير ذلك، لأن دلائل الوحدانية كثيرة، وكلها عقلية كما قيل:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ودلائل النبوة والرسالة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة، أما البعث فإمكانه يثبت بالعقل، وأما وقوعه فلا يثبت إلا بالأدلة السمعية أو النقلية وهي القرآن والحديث، لذا أكثر الله تعالى في القرآن بالقسم عليه ليؤمن به الناس.
ونظير الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة 56/ 75- 80] .
والحكمة في القسم بالنجوم أنه عالم رهيب، سواء في السرعة أو في الحجم، أو في النوع، فسرعة نور الكواكب 300 ألف كيلومتر في الثانية، أي أن النور يجري حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاث مائة ألف مرة، وهي وا؟ حد من ثلاثين ألف مليون شمس، والنظام الشمسي والكواكب السيارة الإحدى عشرة جزء من عالم المجرّة، والمجرّة ذات نجوم بنحو 30 ألف مليون نجم، منها ما هو أكبر من الشمس، والمجرة عادة تشبه قرصا مفرطحا، ويبلغ قطر المجرّة التي تنتمي إليها 100 ألف سنة ضوئية «1» ، وإن
__________
(1) السنة الضوئية تساوي 6 ملايين ميل. وقد أشار تقرير حول أعمال الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لعلم الفلك في مدينة (أوستن) - (ولاية تكساس) إلى أن علماء الفلك الأمريكيين رصدوا مجرتين هما الأقدم والأبعد عن الأرض بين كل تلك التي رصدت إلى اليوم.
وأوضح التقرير أن هاتين المجرتين تقعان على بعد 17 مليار سنة ضوئية عن الأرض، وأنهما تكونتا إبان الانفجار الكبير (بيج بانج) الذي يقال: إنه أسفر عن نشوء الكون، والمجرتان على حد ما جاء في التقرير هما أبعد وأقدم من إشعاعات (كازار) التي تشبه النجوم، وتبعث إشعاعا كهربائيا ومغناطيسيا قويا.(27/98)
التحام قوة الجاذبية بين المجرّات بالكميات الهائلة من الغازات والمواد الموجودة فيها يحوّل ما يعرف بالفجوات السوداء في وسط هذه المجرّات الفضائية إلى شهب مشتعلة، تحدث نادرا في ظروف مئات الملايين من السنين. والشهب أشبه بالنجوم إلا أنها تصدر إشعاعات مغناطيسية تفوق في طاقتها ما يصدر عن النجوم العادية المعروفة بالإشعاعات، وبعد الشهب عن الأرض بمسافة عشرة آلاف مليون سنة ضوئية.
وقد أوضحت سابقا أن الشمس على مدار السنة تتنقل في اثني عشر برجا، وتوجد في كل برج لمدة شهر حيث تتم دورتها السنوية في اثني عشر شهرا (365 يوما وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان) . ويطلق على هذه السنة: السنة النجمية التي تبدأ في 21 آذار (مارس) . وللقمر بروج أيضا تسمى منازل القمر، يقيم فيها كل يوم في منزل جديد، ويستمر بالتنقل على مدار الشهر ما بين 29 أو 30 منزلا، يسمى المنزل الأخير محاقا، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 5] وتدل آية لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] على أن الإعجاز القرآني في الفلك أكبر من الإعجاز القرآني في الطب والإنسان، وقد طلب الله منا أن نمعن النظر في آياته الكونية، ونكتشف ظواهر الكون «1» .
__________
(1) في يوم الأربعاء الموافق 12 نيسان (أبريل) لعام 1961 قامت أول مركبة فضائية تحمل بشرا وتدور حول كوكب الأرض، بقيادة رائد الفضاء جاجارين من الاتحاد السوفييتي، وكان أول سؤال وجهه إليه الصحفيون الروس هو: هل وجدت الله؟ فأجاب بمنطق الإلحاد المطلق المعروف بأنه لم يجد الله. ثم تلاه رائد فضاء سوفييتي آخر اسمه (تيتوف) استمر في الفضاء لمدة أطول من رفيقه (جاجارين) فلما عاد إلى الأرض، سئل: هل وجدت الله؟ فأجاب:
«نعم، لقد وجدت عظمة الخالق، وفي عمله الجبار بالسيطرة على قوانين الجاذبية بين الأرض والقمر والشمس» .(27/99)
لهذه الأهمية للنجوم أقسم الله بها على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بضال تائه عن الحق، ولا غاو يعدل عن الحق، وسبب رشده وعدم ضلاله وغوايته ما قال تعالى:
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما يقول قولا عن هوى وغرض، وما ينطق بالقرآن عن هواه الشخصي، إنما ينطق بوحي من الله أوحاه إليه، ويبلّغ ما أمر به كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق» .
وأخرج الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله، فهو الذي لا شك فيه» .
وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: إني لا أقول إلا حقا» .
ثم أخبر الله تعالى عن معلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام:
فقال:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي علّم القرآن النبيّ جبريل الذي هو شديد قواه العلمية والعملية، وهو ذو قوة وشدة في الخلق، وذو حصافة في العقل، ومتانة في الرأي، وقد استقام جبريل على(27/100)
صورته التي خلقه الله عليها، حين أحب النبي صلى الله عليه وسلم رؤيته كذلك، فظهر له في الأفق الأعلى أي في الجهة العليا من السماء، وهو أفق الشمس، فسدّ الأفق عند ما جاء بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه بالوحي.
ونظير الآيات عن جبريل قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير 81/ 19- 23] .
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى أي استوى واعتدل جبريل بالأفق الأعلى أولا، ثم قرب من الأرض، وازداد في القرب والنزول، حتى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم من المسافة مقدار قوسين أو أقل من قوسين، فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحاه من القرآن في تلك النزلة، من شؤون الدين. وقيل: فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبده ما أوحى، وفيه تفخيم لشأن الوحي.
وهذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال تعالى بعده: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى.
روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود، قال في هذه الآية: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل له ست مائة جناح» .
وقال عن رؤية جبريل حقيقة لا تخيلا:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي ما أنكر فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه من صورة جبريل، وإنما كان فؤاده صادقا، فتكون عينه أصدق، فكيف تجادلونه وتكذبونه فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة من صورة جبريل عليه السلام؟! والأشهر أن لام الْفُؤادُ للعهد، وهو فؤاد(27/101)
محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقل فؤاده لما رآه: لم أعرفك، وصدّق فؤاده ما عاينه، ولم يشك في ذلك، ولم يقل: إنه جن أو شيطان.
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، وذلك ليلة الإسراء، عند سدرة المنتهى التي هي في رأي الأكثرين وهو المشهور: شجرة في السماء السابعة، وجاء في الصحيح أنها في السماء السادسة، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين. والصحيح كما تقدم في سورة الإسراء: أن المعراج كان بالروح والجسد، وليس بالروح فقط كما يرى بعضهم، وإلا لما كان المعراج معجزة.
فتكون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين:
مرة في الأرض ومرة في السماء، وأما في غير هاتين المرتين، فكان يراه في صورة إنسان، لأن عليه أيسر وأهون وأكثر أنسا.
وعلى هذا يكون ضمير رَآهُ ليس راجعا إلى الله تعالى، بل إلى جبريل عليه السلام، فالآية تنفي أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا، ويؤكده قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام 6/ 103] وقوله سبحانه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى 42/ 51] .
وقال بعضهم: الضمائر في دَنا، وفَتَدَلَّى و (كان) و (أوحى) وكذا في رَآهُ: لله عز وجل، ويشهد لهذا ما أخرجه البخاري عن أنس:
«ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» . والراجح هو الرأي الأول بدليل
ما أخرجه مسلم عن أبي ذر أنه(27/102)
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: «رأيت نورا» «1»
وأما سدرة المنتهى فنؤمن بها كما جاء في ظاهر القرآن، دون تعيين مكانها وأوصافها إلا بما
جاء في الحديث الصحيح، روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها..» .
ورواية مسلم في صحيحة عن ابن مسعود: «.. وهي في السماء السادسة» .
وفي رواية أخرى لمسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى، في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة..»
والنّبق: ثمر السّدر، الواحدة: نبقة «2» .
وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وقد ذكر له سدرة المنتهى- قال: «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة، أو يستظل بظلها مائة راكب «3» ، فيها فراش «4» الذهب، كأن ثمرها القلال» .
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى أي تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير.
__________
(1) تفسير الألوسي: 27/ 52 وما بعدها.
(2) ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء، وهي لغة المصريين، وكسر الباء أفصح.
(3) شك من الراوي.
(4) الفراش: دويبة ذات جناحين، تتهافت في ضوء السراج، واحدتها فراشة.(27/103)
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه، وما تجاوز ما رأى، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر ملكوت الله رؤية عين، وليست من خدع البصر، وهذا يؤكد أن المعراج كان بالروح والجسد.
لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، وهو جبرائيل على صورته، وسائر عجائب الملكوت. وهذا كقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء 17/ 1] دون تحديد المرئي للإشارة إلى تعظيمه وتفخيمه وأهميته. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال في الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق «1» . وعن ابن زيد: أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لله تعالى أن يقسم بما شاء، على ما شاء، في أي وقت يشاء، وقد أقسم بالنجوم (على أن اللام للجنس) أو بالثريا (على أن اللام لتعريف العهد) والعرب تسمي الثّريا نجما، وإن كانت في العدد نجوما. وأقسم به وقت هويّه وغروبه لأنه الوقت الذي يستفاد منه لمعرفة الجهات، أما إذا كان في وسط السماء، فيكون بعيدا عن الأرض، لا يهتدي به الساري، فإذا مال إلى الغروب تبين جانب المغرب من المشرق، والجنوب من الشمال.
2- المقسم عليه الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال، والضال: الذي يسير على غير هدى بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، والضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد. وبه نزّه
__________
(1) قال ابن عباس أيضا: رأي رفرفا أخضر سدّ أفق السماء.(27/104)
الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كاليهود والنصارى.
3- القرآن الكريم ليس كلاما للرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو وحي صادر من الله عز وجل.
4- قد يحتج بقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى من لا يجوّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث، وهذا خطأ، لأن المراد بالآية إثبات كون القرآن وحيا من عند الله، والقرآن ذاته أمره بالاجتهاد، وقد اجتهد صلى الله عليه وسلم في الحروب فيما لم يحرمه الله، وأذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فعاتبه ربه بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 9/ 43] .
5- كان الوحي من الله تعالى على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بوساطة جبريل، لقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل في قول سائر المفسرين، سوى الحسن، فإنه قال: هو الله عز وجل.
وقد وصف الله جبريل بأنه ذو قوة فائقة علما وعملا وحصافة في العقل ومتانة في الرأي.
6- رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين: مرة بدأت في أفق السماء، حينما استوى واستقام كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي العلوي، فسد المشرق لعظمته.
ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، من الأرض، فنزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. وهذه هي المرة الأولى للرؤية، والنبي على الأرض. وكان جبريل قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار مسافة قوسين عربيتين أو أقل من ذلك.
7- لقد أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ما أوحى، ولم يبين الموحى به تفخيما لشأن الوحي، أو أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم،(27/105)
أو أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله إليه وكلمه به. وعلى كل حال مصدر الوحي الأصلي هو الله تعالى، وجبريل واسطة، ومحمد صلى الله عليه وسلم الموحى إليه.
والوحي: إلقاء الشيء بسرعة.
8- لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ما رآه من جبريل على صورته الحقيقية وآيات الله الإلهية العجيبة، وهي رؤية حقيقية بالبصر، وقيل: إنه رأى ما رآه بقلبه.
9- أنكر الله على كفار قريش ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقال:
كيف تجادلونه وتوردون شكوكم عليه، مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟! 10- لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى (وهي شجرة النّبق، وهي في السماء السادسة، أو في السماء السابعة، التي لا يحيط بها وصف) عند جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح الملائكة والشهداء والمتقين، وينتهي إليها علم الأنبياء، ويعزب علمهم عما وراءها، كما قال ابن عباس.
قال ابن مسعود فيما ذكره المهدوي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى، له ست مائة جناح، يتناثر من ريشه الدر والياقوت» .
والذي يغشى السدرة مبهم للتفخيم والتعظيم، مثل أنوار الله تعالى، والملائكة، والخلائق الدالة على عظمة الله تعالى.
11- لم يعدل بصر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا عما رأى بعينه يقينا، ولا تجاوز الحد الذي رأى.
12- لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات، قال الرازي معقبا على قول من قال: إنه رأى جبريل عليه السلام في صورته: الظاهر أن هذه الآيات غير تلك.(27/106)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 26]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
الاعراب:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى اللَّاتَ وَالْعُزَّى: المفعول الأول، والمفعول الثاني: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ضِيزى: أصلها ضوزى بوزى فعلى فقلب إلى (فعلى) وإنما كان أصلها (فعلى) لأن (فعلى) ليست من أبنية الصفات، وفعلى من أبنيتها، نحو حبلى، ونظير قِسْمَةٌ ضِيزى: «مشية حيكى» فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ.. كَمْ: خبرية، في موضع رفع بالابتداء، ولا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ: خبره، وجمع ضمير كَمْ عملا بالمعنى، لأن المراد بها الجمع.
وقوله: لِمَنْ يَشاءُ أي يشاء شفاعته، فحذف المضاف الذي هو المصدر، فصار: لمن يشاؤه، ثم حذف الهاء العائدة إلى (من) فصار يشاء.
البلاغة:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى استفهام توبيخي مع احتقار عقولهم.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى مراعاة الفواصل وتوافق رؤوس الآيات الذي له وقع على السمع، ويسمى بالسجع.
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى بينهما طباق.(27/107)
المفردات اللغوية:
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ أصنام العرب التي كانوا يعبدونها، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة، سمي به، لأنه صورة رجل كان يلتّ السويق بالسمن ويطعم الحاج. والعزّى كانت لغطفان، وهي شجرة ببطن نخلة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح خالد بن الوليد ليقطعها، فجعل يضربها بفأسه ويقول:
يا عز، كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وكانت دماء النسائك تمنى عندها، أي تراق.
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لتأكيد الذم، والأخرى: المتأخرة الوضيعة القدر، من التأخر في الرتبة، كما في قوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف 7/ 38] أي قال أدنياؤهم أو وضعاؤهم لأشرافهم.
قِسْمَةٌ ضِيزى قسمة جائرة، من ضاز يضيز ضيزا، أي جار وظلم جورا. إِنْ هِيَ الأصنام المذكورة. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها، أي إن إطلاق اسم الآلهة عليها مجرد تسميات لا مضمون لها، فليس فيها شيء من معنى الألوهية. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ما أنزل الله بعبادتها من حجة وبرهان. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في عبادتها إلا مجرد الظن غير القائم على الدليل، وإلا توهم أن ما هم عليه حق، فالمراد بالظن هنا التوهم. وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ما تشتهيه أنفسهم مما زين لهم الشيطان أنها تشفع لهم عند الله تعالى. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى البرهان القاطع وهو الرسول والكتاب، فتركوه.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة، والهمزة فيها للإنكار، والمعنى بل ألكل إنسان منهم ما تمنى من أن الأصنام تشفع لهم؟ أي ليس له كل ما يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة المزعومة. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ أي وكثير من الملائكة. لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفع شفاعتهم شيئا. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ من عباده. وَيَرْضى عنه ويراه أهلا كذلك، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] وقوله:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ [البقرة 2/ 255] .
المناسبة:
بعد أن قرر الله تعالى الرسالة وصدق النبوة، ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد، ومنع الإشراك، وبيان عدم جدوى الأصنام في الشفاعة عند الله تعالى بأسلوب فيه إنكار وتهكم وتوبيخ وإهدار لحرمة العقل الذي يدين(27/108)
لغير الخالق الرازق، ويعبد أحجارا أو أشجارا أو معادن صماء لا تنفع ولا تضر.
التفسير والبيان:
يقرع الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فيقول:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أنظرتم إلى اللات: صنم ثقيف، والعزى: شجرة غطفان بين مكة والطائف، تعظمها قريش، ومناة:
صخرة لهذيل وخزاعة، وللأوس والخزرج بين مكة والمدينة، ثالثة الصنمين والمتأخرة الوضيعة القدر، قال ذلك عنها للتحقير والذم؟ إنها أحجار صماء أو أشجار تستنبت، فكيف تشركونها بالله، وهي مصنوعة لكم أو مخلوقة غير خالقة؟! والله عز وجل الذي تعرفون عظمته في الكون، أليس هو الأجدر والأحق بالعبادة؟! وهذا تقريع شديد، وذم وتوبيخ، لوضع الشيء في غير محله، فكانت ثقيف ومن تابعها يفتخرون باللات التي كانت صخرة بيضاء منقوش عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائفة، وهي في الأصل صورة رجل كان يلت السويق للحجيج في الجاهلية، فلما مات عكفوا على قبره، فعبدوه.
وكانت العزّى شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، لغطفان، وكانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزّى ولا عزّى لكم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» .
وكانت مناة بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وتذبح عندها القرابين. وكانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم(27/109)
الكعبة غير هذه الثلاثة التي نصت عليها الآية، وإنما أفردت هذه بالذكر، لأنها أشهر من غيرها.
وبعد بيان سخف عقولهم بعبادة الأصنام، وبخهم الله تعالى على شرك من نوع آخر وهو جعل الملائكة بنات الله، فقال:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي أتجعلون لله ولدا، ثم تجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم فيما بينكم هذه القسمة، لكانت قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟! ونظير الآية:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ [الطور 52/ 39] .
ثم أنكر الله تعالى عليهم ما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر بعبادة الأصنام، وتسميتها آلهة، فقال:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما تسمية هذه الأصنام آلهة، مع أنها لا تبصر ولا تسمع، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع إلا مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، وليس لها مسميات حقيقية، اتخذتم ذلك أنتم وآباؤكم، قلّد الآخر فيها الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء، ولم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تحتجون به على أنها آلهة، كما قال تعالى في آية أخرى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [يوسف 12/ 40] .
ثم بيّن الله تعالى منشأ عبادتها، فقال:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي ما يتبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتميل إليه وتشتهيه، من غير التفات(27/110)
إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه، مع أنه قد أتاهم من الله البيان الواضح الظاهر بأنها ليست آلهة، وهو هذا القرآن الذي هو الحجة والبرهان من عند الله، على لسان رسوله الذي بعثه الله إليهم، فأعرضوا عنه، ولم يتبعوا ما جاءهم به، ولا انقادوا له.
ثم أوضح الله تعالى أن القضية ليست بالتمنيات والأماني، وأن هذه الأصنام لا تفيدهم في شفاعة عند الله ولا في غيرها، فقال:
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي بل أيمكن «1» أن يكون للإنسان ما يتمنى؟ ليس كل من تمنى خيرا حصل له، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، فسلطان الدنيا والآخرة وملكهما والتصرف فيهما لله عز وجل، وليس للأصنام معه أمر في الدنيا ولا في الآخرة «2» : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء 4/ 123] .
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» .
ثم بيّن الله طريق قبول الشفاعة، فقال:
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي وكثير من الملائكة الكرام في السموات، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع لأحد إلا لمن أذن الله أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة العقل والفهم؟! أي إن الملائكة لا تشفع إلا بعد الإذن لها بالشفاعة، وإلا لمن يشاء الله أن يشفعوا له، لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظ. قال
__________
(1) أم المنقطعة كما تقدم: بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التي تفيد الإنكار.
(2) جملة فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن.(27/111)
ابن كثير: فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها، ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه «1» ؟. وهذا توبيخ لعبدة الملائكة والأصنام.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- حاجّ الله المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل، فإن تلك الأصنام التي يعبدونها كاللات والعزى ومناة لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، فكيف تجوز عبادتها؟ علما بأن العبادة في رأي المشركين للمنفعة، وهذه عديمة النفع، فهل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء؟ وقد عرفتم جلال الله وعظمته، فهو الأحق بالعبادة.
2- قرّع الله المشركين ووبخهم أيضا ورد عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله، وبين لهم أنه لا يعقل جعل البنات الإناث لله، ويختارون هم الذكور، فهذه القسمة قسمة جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق.
3- ما هذه الأوثان إلا أسماء وضعتموها ونحتموها وسميتموها آلهة، وقد قلدتم آباءكم في ذلك، وما أنزل الله بها من حجة ولا برهان، وما تتبعون في ذلك إلا الظن أو الوهم وأهواء النفس وما تميل إليه، بالرغم من أنه جاءكم البيان الشافي من جهة الرسول أنها ليست بآلهة، فهم اختاروا العمل بالظن مع قدرتهم على العمل باليقين الذي نزل به الوحي.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 255(27/112)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
4- الواقع أنه ليس للمشركين في عبادة الأصنام إلا مجرد التمنيات والأماني المعسولة المبنية على وهم لا واقع له، فلن تتمكن من الشفاعة لهم كما يحلمون فقد تمنوا الشفاعة عند من ليس لهم شفاعة، وإن الملك والتصرف والسلطان في الدنيا والآخرة لله عز وجل، فهو يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا ما تمنى أحد.
5- وبّخ الله تعالى من عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقرّبه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له.
توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله
[سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
الإعراب:
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَعْلَمُ: إما على أصلها في التفضيل في العلم، أي هو أعلم من كل أحد بهذين الصنفين، وإما أنها بمعنى (عالم) . ومثله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيها الوجهان.
البلاغة:
بين ضَلَّ واهْتَدى طباق.(27/113)
المفردات اللغوية:
لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ يسمون كل واحد منهم. تَسْمِيَةَ الْأُنْثى حيث قالوا: هم بنات الله.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ بهذا القول من دليل يقيني. إِنْ يَتَّبِعُونَ ما يتبعون فيه. إِلَّا الظَّنَّ مجرد التوهم. وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي إن الظن لا يفيد في مجال الحق:
الذي هو حقيقة الشيء، فإن ألحق لا يدرك إلا بالعلم، أي اليقين، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية أو اليقينيات وإنما العبرة به في العمليات والوسائل المؤدية إليها.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أعرض عمن تولى عن القرآن وعن تذكيرنا وانهمك في الدنيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي طلب الدنيا وأمرها نهاية علمهم، فلا يتجاوزه علمهم لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراضية مقررة لقصر همهم على الدنيا.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. تعليل للأمر بالإعراض، أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد بلغت، والله عالم بالفريقين فيجازيهما.
المناسبة:
بعد أن وبخ الحق سبحانه المشركين على عبادتهم الأصنام والأوثان، وأبان عدم جدوى تلك العبادة في مجال الشفاعة وغيرها، وبخهم مرة أخرى وقرّعهم على قولهم: الملائكة بنات الله، وأوضح أنها دعوى لا تستند إلى دليل مقبول، وأن عقولهم قاصرة، وأنهم لا يهتمون إلا بالدنيا وحطامها، وأن الله سيجازيهم على مزاعمهم ومعتقداتهم الفاسدة.
التفسير والبيان:
أنكر الله تعالى على المشركين تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وقولهم: إنهم بنات الله، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي إن هؤلاء المشركين الكافرين الذين لا يصدقون بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والمراد أنهم يسمون كل واحد من الملائكة أنثى، لأنهم إذا جعلوا الكل بنات، فقد(27/114)
جعلوا كل واحدة بنتا. كما جاء في آية أخرى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ، وَيُسْئَلُونَ [الزخرف 43/ 19] .
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي وليس لهم بذلك علم صحيح بصدق ما قالوه، ولا معرفة ولا برهان، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم، ولا أخبرهم به مخبر مقبول الخبر، بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة، وكذبا وزورا وافتراء وكفرا شنيعا.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي ما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة، وإن مثل هذا الظن لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق.
جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» .
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير الله، ولم يكن همّه إلا الدنيا، وترك النظر إلى الآخرة، أي فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم، فقد بلّغت ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يشير إلى إنكارهم الحشر، كما قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام 6/ 29] وقال تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 9/ 38] .
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي إن أمر الدنيا وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين.
روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له»
وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا» .(27/115)
والعلة أو سبب الأمر بالإعراض عنهم ما قال تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي أعرض عن هؤلاء، لأن الله هو الخالق لجميع المخلوقات، وهو عالم بمن ضل عن سبيله، سبيل الحق والهدى، وعالم بمن اهتدى إلى الدين الحق، وسيجازي كل فريق أو أحد على عمله.
وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله، وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم، ولازموا الباطل دون الحق، إذ كان من خلقه صلى الله عليه وسلم الحرص على إيمانهم. وفي ذلك أيضا وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات ما يأتي:
1- وصف الله الكفار الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله بأنهم كافرون بالبعث والحشر أو بالآخرة على الوجه الحق الذي جاءت به الرسل.
2- وبخ الله المشركين الذين يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى.
3- ليس لهم بما وصفوا به الملائكة هذا الوصف علم صحيح، فإنهم لم يشاهدوا خلق الله الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب، وإنما يتبعون التوهم في أن الملائكة إناث، وإن التوهم أو الظن الذي لا يقوم على أساس علمي صحيح لا يفيد شيئا في مجال التعرف على الحقيقة.
4- إذا كان هذا شأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين لا همّ لهم إلا الدنيا فاترك أيها الرسول مجادلتهم، فقد بلغت الرسالة، وأتيت بما كان عليك. قال(27/116)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
الرازي- وما أصوب ما قال-: وأكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال، وهو باطل، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له:
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع قال له ربه: فأعرض عنهم، ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، ولا يتبعون الحق، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة، فكيف يكون منسوخا «1» ؟! 5- شأن الكفار غالبا الاهتمام بالدنيا فقط، وجهل أمر الدين والآخرة، فهم قوم ماديون، كما نشاهد اليوم، لذا أخبر الله تعالى عنهم بأن طلب الدنيا هو قدر عقولهم، ونهاية علمهم، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر 76/ 27] .
6- ختمت الآيات بالوعيد والتهديد، فالله تعالى أعلم بالضالين، وأعلم بالمهتدين، فلا داعي للمعاناة، وسيجازي كلّا بأعمالهم خيرها وشرها.
جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
__________
(1) تفسير الرازي: 28/ 311(27/117)
الإعراب:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ.. لِيَجْزِيَ.. لام لِيَجْزِيَ إما لام (كي) والتقدير: واستقر لله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، أو تكون لام القسم.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الَّذِينَ: في موضع نصب على البدل من الَّذِينَ في قوله تعالى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.
إِلَّا اللَّمَمَ اللَّمَمَ: استثناء منقطع: وهو صغائر الذنوب.
البلاغة:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بينهما ما يسمى بالمقابلة، وتكرار لفظ لِيَجْزِيَ من قبيل الإطناب.
المفردات اللغوية:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي هو الخالق والمالك والمتصرف. بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء كالشرك وغيره. وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الذين أحسنوا بالتوحيد والطاعة يجزيهم بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
كَبائِرَ الْإِثْمِ ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو كل ذنب توعد الله عليه صاحبه بالعذاب الشديد كالشرك وعقوق الوالدين. وَالْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر خصوصا، وهو الذنب الذي عاقب الله عليه بالحد كالقتل العمد والزنى والقذف وشرب الخمر وسائر المسكرات. إِلَّا اللَّمَمَ استثناء منقطع، أي لكن اللمم إذا اجتنب الكبائر تغفر، مثل النظرة إلى المحرّمات والقبلة واللمسة. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ كثير الغفران للذنوب، قابل التوبة منها، فله أن يغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، قال البيضاوي: ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ عالم بأحوالكم. إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خلق أباكم آدم من التراب. وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حينما صوّركم في الأرحام، والأجنّة: جمع جنين: وهو الولد ما دام في بطن أمه، سمي بذلك لاجتنانه أي استتاره.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، ولا تمدحوها على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي عالم يعلم التقي وغيره قبل الخلق.(27/118)
سبب نزول الآية (32) :
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ..:
أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
«كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» ، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بما في السموات والأرض، وأنه يجازي عباده بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار، ذكر أنه قادر على ذلك، فهو مالك العالم العلوي والسفلي يتصرف فيهما بما شاء، وهو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء، ثم ذكر أوصاف المحسنين، وأخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده.
التفسير والبيان:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، لِيَجْزِيَ «1» الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي إن الله تعالى مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وقد خلق الخلق بالحق، وجعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي كلّا بعمله، بحسب علمه المحيط بكل شيء، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فإن كان العمل خيرا، كان الجزاء خيرا، وإن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام لِيَجْزِيَ لام العاقبة.
__________
(1) قال الواحدي: اللام للعاقبة أو الصيرورة، كما في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدوا. [.....](27/119)
قال ابن الجوزي في تفسيره: والآية إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى، وبين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن، جازى كلّا بما يستحقه، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين المحسنين، فقال:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم، وعن الفواحش كالزنى، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، والفواحش:
ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر، مما كان فيه الحد. ولكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظرة الحرام والقبلة.
أخرج أحمد والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» .
فإن اقترفوا اللمم تابوا ولم يعودوا إلى مثله.
ونحو الآية قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء 4/ 31] .
وقد ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه تحديد الكبائر بسبع: «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»
وقد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. وروى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع،(27/120)
فقال: هي إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل ومنع اليأس بقوله:
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي إن رحمة الله وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كما قال تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53] .
ثم أكد الله تعالى علمه بالأشياء كلها، فقال:
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي إن الله بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر منكم، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب، واستخرج ذريته من صلبه، وحين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم، وتعهدكم بالنمو والتكوين في أطوار مختلفة. والجنين: هو الولد ما دام في البطن، وفائدة قوله: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ التنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي لا تمدحوا أنفسكم، ولا تبرّئوها عن الآثام، ولا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي، بل احمدوا الله على الطاعة، واحذروا المعصية، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي.
ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء 4/ 49] .(27/121)
وروى مسلم في صحيحة عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: «سمّيت ابنتي (برّة) فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، فقال: لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟
قال: سموها زينب» .
وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك قطعت عنق صاحبك- مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكّي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك» .
وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن همّام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان، فأثنى عليه في وجهه، فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا، وهذا دليل القدرة الإلهية، وسعة الملك الإلهي، وهذا معترض في الكلام.
2- إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى، فيجازي كلّا بما يستحقه. وإذا كانت اللام للعاقبة فالمعنى: ولله ما في السموات وما في الأرض، لتكون عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء، فللمحسن المثوبة أو العاقبة الحسنى وهي الجنة، وللمسيء السوأى وهي جهنم.
3- إن نعت المحسنين أنهم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك، لأنه أكبر الآثام، ونحوه من الكبائر المذكورة آنفا وهي كل ما أوعد الله عليه بالنار،(27/122)
ويبتعدون عن الفواحش المتناهية في القبح، كالزنى، وهي كل ذنب فيه الحدّ.
لكن اللمم، وهي كما ذكر القرطبي: الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، فإن أمرها سهل مغفور، يتوب الله فيها على من تاب وأناب. وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه»
وقد أعدت الحديث بهذا اللفظ، لأنه أوضح، والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحدّ في الدنيا والعقوبة في الآخرة، هو في الفرج، وغيره له حظّ من الإثم.
4- إن الله عز وجل واسع المغفرة من الصغائر والكبائر لمن تاب من ذنبه واستغفر، أما من لم تصل إليهم المغفرة فهم الذين أصروا على الإساءة، وماتوا من غير توبة، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ [التوبة 9/ 84] .
5- أكد الله تعالى لعباده علمه بجميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فذكر أنه أعلم بهم من أنفسهم وقت الإفشاء حين خلق أباهم آدم من الطين، وتسلسلوا في بطون الأمهات، معتمدين في تكوين نشأتهم على الغذاء الذي يعتمد على التراب والماء، فكل أحد أصله من التراب، فإنه يصير غذاء، ثم يصير نطفة. وفي هذا تقرير لكونه عالما بمن ضل.
6- نهى الله تعالى الإنسان عن تزكية نفسه ومدحها والثناء عليها، فإنه أبعد(27/123)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
من الرياء، وأقرب إلى الخشوع، ولأن الله عالم بمن أخلص العمل، واتقى عقوبة الله. قال ابن عباس: ما من أحد من هذه الأمة أزكّيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 54]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
الإعراب:
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى حذف مفعولي يَرى وتقديره: فهو يراه حاضرا.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ.. أَمْ هنا: إما منقطعة بمعنى (بل والهمزة) أو متصلة بمعنى (أي) لأنها معادلة للهمزة في قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ.
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ.. أَلَّا تَزِرُ في موضع جر على البدل من: (ما) في قوله تعالى:
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ.. أو في موضع رفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: ذلك ألا تزر، وتقديره: أنه لا تزر. وكذلك قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ.. فتكون أَنْ مخففة من الثقيلة.(27/124)
سَوْفَ يُرى نائب الفاعل ضمير مستتر فيه، ومن قرأ بالفتح (يرى) كان التقدير فيه:
سوف يراه، فحذف الهاء، كما يقال: إن زيدا ضربت، أي ضربته.
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى الهاء في يُجْزاهُ في موضع نصب مفعول به، والْجَزاءَ الْأَوْفى منصوب على المصدر.
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أراد: أنه إلى ربك، وهو معطوف على أَلَّا تَزِرُ وكل ما بعده من قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى إلى قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [الآيات 43- 50] معطوف على أَلَّا تَزِرُ.
وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثَمُودَ منصوب بفعل دال عليه. فَما أَبْقى تقديره: وأهلك ثمودا، فما أبقى. وإنما لم يجز نصبه ب أَبْقى لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله. قرأ عاصم وحمزة ثَمُودَ بلا تنوين، والوقوف بغير ألف، والباقون بالتنوين ويقفون بالألف.
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى الْمُؤْتَفِكَةَ مفعول به منصوب ل أَهْوى.
فَغَشَّاها ما غَشَّى أي ما غشاه إياها، فحذف مفعولي غَشَّى والأول ضمير ما والثاني ضمير الْمُؤْتَفِكَةَ.
البلاغة:
فَغَشَّاها ما غَشَّى الإبهام للتعظيم والتهويل.
بين أَضْحَكَ وَأَبْكى وبين أَماتَ وَأَحْيا وبين أَغْنى وَأَقْنى ما يسمى بالطباق.
بين أَغْنى وَأَقْنى جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
المفردات اللغوية:
تَوَلَّى أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه. وَأَعْطى قَلِيلًا من المال.
وَأَكْدى قطع العطاء ولم يتممه، يقال: حفر فأكدى، أي بلغ كدية أي أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر من مواصلة العمل وإتمامه. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى يعلم أن غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة، وهو الوليد بن المغيرة أو غيره كما سيأتي. وجملة أَعِنْدَهُ عِلْمُ.. المفعول الثاني لرأيت بمعنى: أخبرني.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل لم يخبر. صُحُفِ مُوسى أسفار التوراة، وإنما قدم تعالى ذكر صحف موسى، لأنها أقرب وأشهر وأكثر. وَإِبْراهِيمَ أي وصحف إبراهيم: وهي ما نزل عليه من(27/125)
الشرائع. وَفَّى أتم ما أمر به، وذلك مثل قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة 2/ 124] . أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حمل أي ذنب غيرها. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي وأنه ليس لإنسان إلا ما سعى من خير، فليس له من سعي غيره للخير شيء. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى يبصر في الآخرة، ويراه أهل القيامة تشريفا للمحسن، وتوبيخا للمسيء.
يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأكمل أو الأوفر. الْمُنْتَهى المرجع والمصير والنهاية بعد الموت يوم القيامة. أَضْحَكَ أي من شاء أفرحه. وَأَبْكى ومن شاء أحزنه. أَماتَ في الدنيا. وَأَحْيا للبعث. خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الصنفين. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى من مني إذا تدفق وصب في الرحم، فقوله: تمنى أي تصبّ في الرحم. النَّشْأَةَ الْأُخْرى الخلقة الأخرى للبعث بعد الخلقة الأولى، بإعادة الأرواح في الأجساد حين البعث.
أَغْنى وَأَقْنى أعطى المال من شاء، وأفقر من شاء. رَبُّ الشِّعْرى الكوكب المضيء خلف الجوزاء، يسمى العبور، كانت طائفة من العرب تعبده في الجاهلية. وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى القدماء وهم قوم هود: وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى:
من ولد عاد الأولى، وهم ثمود قوم صالح كما قال المبرد. وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثمود: قوم صالح، فما أبقى أحدا منهم، وَثَمُودَ بلا صرف: اسم للقبيلة، وهو معطوف على عاداً وبالصرف:
اسم للأب. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي قبل عاد وثمود أهلكناهم. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من عاد وثمود، لأنهم مع عدم إيمانهم بنوح عليه السلام على مدى ألف سنة إلا خمسين عاما كانوا يؤذونه ويضربونه. وَالْمُؤْتَفِكَةَ قرى قوم لوط، سميت بذلك، لأنها ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بهم، ومنه الإفك، لأنه قلب الحق. أَهْوى أسقطها وقلبها في الأرض بعد أن رفعها إلى السماء، بأمر جبريل بذلك. فَغَشَّاها غطّاها بالحجارة وغيرها: ما غَشَّى ما غطّى، أبهم ذلك تهويلا وتعميما لما أصابهم.
سبب النزول:
سبب نزول الآيات (33- 41) :
قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيّره بعض المشركين، وقال:
لم تركت دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمل(27/126)
عنه عذاب الله سبحانه وتعالى، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدّي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.
وقال محمد بن كعب القرظيّ: نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، فذلك قوله تعالى: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة، فجاء رجل يريد أن يحمل- أي يركب-، فلم يجد ما يخرج عليه، فلقي صديقا له، فقال:
أعطني شيئا، فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي، فقال له: نعم، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآيات.
سبب نزول الآية (43) :
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى:
أخرج الواحدي عن عائشة قالت: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، فنزل عليه جبريل عليه السلام بقوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه السلام، فقال:
ائت هؤلاء، وقل لهم: إن الله عز وجل يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله سبحانه سعة علمه وقدرته الفائقة على إيقاع الجزاء يوم القيامة بأهل الإساءة والإحسان، وبيّن جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر على سبيل التعجيب والتقريع نبأ واحد معين منهم بسوء فعله، أعرض عن الايمان(27/127)
والدخول في الإسلام، بالرغم من سماع ما أنزل، وظن أن غيره يتحمل عنه أوزاره، مع أن جميع الشرائع كشريعة إبراهيم وموسى تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية أو الفردية، وأن لا تتحمل نفس آثمة وزر أو ذنب نفس أخرى، وأن ليس لكل إنسان إلا سعيه بالخير.
التفسير والبيان:
ذمّ الله تعالى ووبخ كل من تولى عن طاعة الله، فقال:
أَفَرَأَيْتَ «1» الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي أعلمت وأخبرت شأن الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق، وأعطى قليلا من المال، ثم أحجم عن العطاء في سبيل أن يتحمل عنه غيره وزره، أو كما قال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه، أفعند هذا الكافر الذي آثر الكفر على الإيمان علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره يوم القيامة؟ ليس الأمر كما يظن.
وهذا كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة 75/ 31- 32] ثم ذكّره تعالى بما أجمعت عليه الشرائع من أن المسؤولية شخصية، فقال: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي.
بل أنّه لم يخبر بما جاء في أسفار التوراة، وصحف إبراهيم الذي تمم وأكمل ما أمر به، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل، كما جاء في آية أخرى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة 2/ 124] فإنه قام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلّغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله.
__________
(1) أَفَرَأَيْتَ: معناها المراد: أخبرني، ومفعولها الأول: الَّذِي، والثاني: جملة الاستفهام.(27/128)
واكتفى بذكر صحف إبراهيم وموسى، لأن المشركين يدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وأهل الكتاب يتمسكون بالتوراة، وإنما قدم هنا صحف موسى خلافا للترتيب الزمني، ولما جاء في سورة الأعلى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [18- 19] ، لأن صحف إبراهيم كانت بعيدة، وكانت المواعظ فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى التي هي أقرب وأشهر وأكثر.
ثم أوضح الله تعالى ما تقرر في صحف موسى وإبراهيم، فقال:
1- أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو أي ذنب، فعليها وحدها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية أو لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره، كما جاء في آيات أخرى منها: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر 35/ 18] .
2- وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله، وهذا المبدأ وهو ألا يثاب أو يكافأ امرؤ إلا بعمله يقابل المبدأ السابق، فكما لا يتحمل أحد مسئولية أو وزر غيره، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. والمراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به. وعبر بصيغة الماضي في قوله: إِلَّا ما سَعى لزيادة الحث على العمل الصالح.
ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. والمعتمد في المذاهب الأربعة أن ثواب القراءة يصل إلى الأموات، لأنه هبة ودعاء بالقرآن الذي تتنزل الرحمات عند تلاوته، وقد ثبت في السنة النبوية وصول الدعاء والصدقة للميت، وذلك مجمع عليه،
روى مسلم في صحيحة والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن(27/129)
ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره «1» .
3- وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي إن عمله محفوظ يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء، وسيعرض عليه وعلى أهل المحشر يوم القيامة إشادة به ولو ما للمقصرين، كما قال تعالى: وَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة 9/ 105] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
4- ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى الإنسان سعيه، ويجازى عليه جزاء كاملا غير منقوص، فيجازى بالسيئة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
5- وَأَنَّ «2» إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي أن المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله سبحانه، لا إلى غيره، فيجازي الخلائق بأعمالهم على الصغير والكبير، وهذا ترهيب وتهديد للمسيء، وترغيب وحث للمحسن، يستدعي التأمل في عودة العباد إلى الله يوم المعاد، وتعرضهم للجزاء على أعمالهم، كما جاء في آيات أخرى مثل: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس 36/ 83] .
وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.
__________
(1) تفسير القرطبي: 17/ 114
(2) أَنْ هذه: تحتمل الفتح والكسر.(27/130)
6- وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه، وأبكى من شاء بأن غمّه، وخلق في عباده الضحك والبكاء والفرح والحزن وسببهما، وهما مختلفان، والمراد أن الله خلق ما يسر من الأعمال الصالحة، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة. وهذا دليل القدرة الإلهية. وإنما خص بالذكر هذان الوصفان، لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد تعليل خاصية الضحك والبكاء في الإنسان دون الحيوان.
7- وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي وأنه تعالى خلق الموت والحياة، كما في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك 67/ 2] فهو سبحانه قادر على الإماتة وعلى الإحياء والإعادة.
8- وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي والله هو الذي خلق الصنفين: الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان، من مني أو ماء قليل يصب في الرحم، ويتدفق فيه، ثم ينفخ الله الروح في النطفة، فتصير بنية إنسانية، أو حيوانية، وهذا من جملة المتضادات التي ترد على النطفة، فبعضها يخلق ذكرا، وبعضها يخلق أنثى.
9- وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث، فكما خلق الله الإنسان من البداءة، هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. فهذا إشارة إلى الحشر.
10- وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي وأنه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده، وأفقر من يشاء منهم، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة للخلائق، فالإغناء والإفقار أو الإعطاء من المال والمنع منه، كلاهما بيد الله تعالى وفي سلطانه وتصرفه.
11- وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى أي وأنه تعالى رب هذا النجم الوقاد المضيء(27/131)
الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر، ويقال له: مرزم الجوزاء أو العبور، كانت خزاعة وحمير تعبده. وفي النجوم شعريان: إحداهما يمانية والأخرى شامية، والظاهر- كما قال الرازي- أن المراد اليمانية، لأنهم كانوا يعبدونها، لذا خصت بالذكر. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب، وكانت قريش تطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم «ابن أبي كبشة» تشبيها له به، لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أمه. قال أبو سفيان يوم فتح مكة حين شاهد عساكر المسلمين تمرّ عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وقال مشركو قريش: ما لقينا من ابن أبي كبشة!! 12- وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى أي وأنه تعالى أفنى قوم هود عليه السلام، وهم عاد القدماء، وهي أول أمة أهلكت بعد نوح، ويقال لهم: عاد بن إرم بن سام بن نوح، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر 89/ 6- 8] وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على رسول الله ورسوله، فأهلكهم الله بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 6- 7] . قال المبرد: وعاد الأخرى:
هي ثمود قوم صالح.
13- وَثَمُودَ فَما أَبْقى أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا، ودمرهم وأخذهم بذنوبهم فما أبقى أحدا من الفريقين، كما قال تعالى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 8] .
14- وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء الفريقين: عاد وثمود، إنهم كانوا أظلم من عاد وثمود، وأطغى منهم، وأشد تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم، لأنهم بدؤوا بالظلم، والبادئ أظلم:
«ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» «1»
وأما
__________
(1) حديث صحيح رواه مسلم عن أبي عمر وجرير بن عبد الله.(27/132)
كونهم أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ أمدا طويلا، وعتوا على الله بالمعاصي، مع طول مدة دعوة نوح لهم، وأصروا على الكفر واستكبروا استكبارا، مما ألجأه إلى الدعاء عليهم بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] .
15- وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى أي وأسقط وقلب مدائن قوم لوط، بجعل عاليها سافلها، أهواها جبريل بعد أن رفعها، ثم أمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود، فغطّاها ما غطّاها من الحجارة والعذاب على اختلاف أنواعه، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء 26/ 173] . وسميت المؤتفكة، لأنها ائتفكت أي انقلبت بهم، وصار عاليها سافلها.
وهذا الأسلوب من الإبهام فيه تهويل وتفخيم للأمر الذي غشاها، وتعميم للذي أصابهم. قال قتادة: كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان (أي 16000 ألفا) فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- خصص الله سبحانه واحدا من المشركين عينه بسوء فعله للعبرة والعظة واستهجان ما فعل من معاوضة غيره في الدنيا بمال قليل، أعطى اليسير منه، ثم منع الباقي، على أن يتحمل عنه آثامه يوم القيامة.
2- إن نقطة الضعف الأساسية عند هذا، عدا سذاجة عقله الجاهلي البدائي، هو جهله بالغيب، لذا أنكر الله تعالى عليه مبيّنا: أعنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟!(27/133)
3- ذكّره الله تعالى بما جاء في صحف إبراهيم وموسى من مبادئ عشرة هي:
الأول- المسؤولية الفردية أو ألا يسأل أحد عن ذنب غيره، وهو مبدأ:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
الثاني- كل إنسان وعمله، وكل امرئ وعطاؤه، ولا ثواب إلا بالعمل والنية الصالحة.
الثالث- العمل ذو أثر دائم، محفوظ في ميزان العامل، لا يضيع منه شيء، خيرا كان أو شرا.
الرابع- يجازى كل إنسان على عمله وسعيه جزاء أوفر، السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
الخامس- إن مصير أو مردّ جميع الخلائق إلى الله عز وجل، فيعاقب المسيء، ويثيب المحسن.
السادس- خلق الله تعالى الضحك والبكاء، والسرور والحزن، وإن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان.
السابع- إن الله تعالى خلق الموت والحياة وأسبابهما.
الثامن- خلق الله سبحانه الصنفين المتضادين: الذكر والأنثى من شيء واحد هو النطفة: وهي الماء القليل.
التاسع: الله تعالى هو القادر على إعادة الأرواح إلى الأجساد للبعث، وهذا هو الحشر.(27/134)
العاشر- أوجد الله تعالى التفاوت في الأرزاق بين الناس، فأغنى من شاء وأفقر من شاء.
والمبادئ الخمسة الأخيرة دالة على قدرة الله عز وجل، وقد أكّدها تعالى بإيراد أمثلة أو نماذج خمسة أخرى دالة على القدرة وهي:
الأول- الله سبحانه هو رب الشّعرى: وهو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وهما الشعريان: العبور التي في الجوزاء، والشّعرى الغميصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى، وإن كان ربا لغيره من سائر النجوم، لأن العرب كانت تعبده وهم حمير وخزاعة.
الثاني- أهلك الله تعالى قوم عاد العتاة الأشداء الجبارين بريح صرصر عاتية.
الثالث- أهلك الله عز وجل أيضا ثمود قوم صالح بالصيحة لتمردهم وبغيهم.
الرابع- أهلك الله سبحانه قوم نوح من قبل عاد وثمود، الذين كانوا أظلم وأطغى، لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه، فينطلق إلى نوح عليه السلام، فيقول: احذر هذا، فإنه كذّاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي مثل ما قلت لك، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه.
الخامس- دمّر الله مدائن قوم لوط عليه السلام، ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها، وألبسها ما ألبسها من الحجارة، قال الله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر 15/ 74] .(27/135)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول والتحذير من أهوال القيامة
[سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 62]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
الإعراب:
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ كاشِفَةٌ: إما أن الهاء فيه للمبالغة، كعلامة ونسّابة، أو تكون كاشفة بمعنى كشف، كخائنة بمعنى خيانة.
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ قرئ بإدغام الثاء في التاء لقربهما في المخرج، وأنهما مهموسان من حروف طرف اللسان، وأدغمت الثاء في التاء، لأنها أزيد صوتا، والأنقص صوتا يدغم فيما هو أزيد صوتا.
البلاغة:
تَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ بينهما طباق.
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ جناس الاشتقاق.
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ مراعاة الفواصل أو ما يسمى بالسجع.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا عطف العام على الخاص.
المفردات اللغوية:
آلاءِ نعم، جمع إلى (بالفتح والكسر) وإلي. تَتَمارى تتشكك وتمتري ومعنى الآية: بأي أنعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإنسان؟ والخطاب للإنسان، فالخطاب عام، وهو ابتداء كلام، كأنه يقول: بأي النعم أيها السامع تشكّ أو تجادل؟(27/136)
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين، أي إنه رسول كالرسل قبله، أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم.
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت القيامة أو دنت الساعة، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر 54/ 1] . لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لها نفس من غير الله قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو، كقوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] إذ لا يطلع عليها سواه، فقوله: كاشِفَةٌ أي نفس تكشف وقت وقوعها وتبيّنه، لأنها من المغيبات. والتاء للتأنيث، لتأنيث الموصوف المحذوف، أي نفس قادرة على كشفها إذا وقعت، لكنه سبحانه لا يكشفها.
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ القرآن. تَعْجَبُونَ إنكارا وتكذيبا. وَتَضْحَكُونَ استهزاء.
وَلا تَبْكُونَ حزنا على ما فرطتم، وعند سماع وعد الله ووعيده. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون وغافلون ومعرضون عما يطلب منكم. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خلقكم، أي إذا اعترفتم لله بالعبودية، فاخضعوا له. وَاعْبُدُوا اعبدوه دون الآلهة المزعومة كالأصنام، وأقيموا وظائف العبادة.
المناسبة:
لمّا عدّ الله تعالى نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه، ثم ذكر أمثلة على قدرته بإهلاك من كفر بتلك النعم، وأن الإحياء والإماتة بيد الله، وبّخ الإنسان على جحد شيء من نعم الله، فيصيبه مثل ما أصاب الشاكّين المتمارين المجادلين بالباطل. ثم ذكّره بإنذار القرآن والرسول. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة، ختم السورة ببيان اقتراب الحشر: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ وحذّر من إنكار القرآن وتكذيبه، ومن التفريط بما جاء فيه، والغفلة والإعراض عن مواعظه وحكمه، ودعا إلى الانقياد التام لله عز وجل، وعبادته وحده لا شريك له بإتقان وإخلاص.
التفسير والبيان:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب(27/137)
تتشكك وتمتري؟ مثل قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 13] . وهذا ابتداء كلام والخطاب عام لكل إنسان. والمراد بالنعم ما عدده سابقا من الخلق والإغناء وخلق السماء والأرض وما فيهما من نعم مخلوقة للإنسان.
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن أو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نذير محذوف محذّر من جملة النذر المتقدمة، فالقرآن منذر كالكتب السماوية السابقة، والنبي صلى الله عليه وسلم رسول إليكم كالرسل المتقدمين قبله، فإنه أنذركم كما أنذروا أقوامهم، كما قال تعالى: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 9] وقال سبحانه:
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ 34/ 46]
وفي الحديث الثابت: «أنا النذير العريان» «1»
أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا، وبادر إلى إنذار قومه، وجاءهم عريانا مسرعا.
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت ودنت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر 54/ 1] وقوله: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة 56/ 1] وقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء 21/ 1] وقوله:
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى 42/ 17] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم، وأنها تكاد تقوم، فالآية إشارة إلى القيامة لإثبات الأصول الثلاثة على الترتيب: الأصل الأول وهو الله ووحدانيته بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى، ثم الرسول والرسالة بقوله تعالى: هذا نَذِيرٌ ثم الحشر والقيامة بقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ.
وجاء في الحديث الذي رواه أحمد عن سهل بن سعد: «مثلي ومثل الساعة كهاتين»
وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام.
وروى أحمد أيضا والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت
__________
(1) شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بهذا الرجل، قال ابن السّكيت: هو رجل من خثعم حمل عليه يوم ذي الخلصة عوف بن عامر، فقطع يده ويد امرأته (النهاية لابن الأثير: 3/ 225) .(27/138)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا»
وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى.
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس هناك على الإطلاق نفس قادرة على كشفها وإظهارها والاعلام بها إلا الله تعالى، لأنها من أخفى المغيبات، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة وأنتم لا تشعرون، فهو كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان 31/ 34] وقوله سبحانه: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] .
أو: ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها غير الله، والأولى أن يقال: ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها، كما ذكر القرطبي.
ثم أنكر الله على المشركين وأمثالهم ووبخهم لإنكار القرآن وتكذيبه، فقال:
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي كيف تعجبون من أن يكون القرآن صحيحا، تكذيبا منكم، وتضحكون منه استهزاء، وتسخرون من آياته، مع كونه غير محل لذاك، ولا تبكون كما يفعل الموقنون، وأنتم لاهون عنه، غافلون معرضون، أو مستكبرون عنه؟! فهذا استفهام توبيخ.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي اسجدوا أيها المؤمنون شكرا على الهداية واخضعوا له، واشتغلوا بالعبادة، وأخلصوا ووحدوا، فإنه تعالى المستحق لذلك منكم.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه المسلمون والكفار، أخرج البخاري عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة(27/139)
النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي، فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- يستنكر الحق سبحانه على الإنسان المكذّب في أي زمان كان تشككه ومماراته وجداله في آلاء الله ونعمه العديدة، بعد أن أبان القرآن الكريم بعضا منها كالخلق والرزق والإغناء والصحة وتسخير الكون كله لمصالح الإنسان، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 29] .
2- إن القرآن العظيم نذير بما أنذرت به الكتب الأولى، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطاعه الناس أفلحوا ونجوا. وهذا مطابق أيضا لما في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما.
3- لقد قربت الساعة ودنت القيامة: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ يعني القيامة، سماها آزفة لدنّوها من الناس، وقربها منهم، ليستعدوا لها، لأن كل ما هو آت قريب.
وليس للآزفة أو القيامة من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها.
4- وبّخ الله المشركين تعجبهم تكذيبا بالقرآن، وضحكهم استهزاء بآياته، وعدم بكائهم انزجارا وخوفا من الوعيد، ولهوهم وإعراضهم عن كتاب الله تعالى.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسّما، وقال أبو هريرة فيما ذكره القرطبي: لما نزلت: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ قال(27/140)
أهل الصّفّة: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم، بكى معهم، فبكينا لبكائه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية الله، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم، إنه هو الغفور الرحيم» .
وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم.
5- أمر الله بالسجود له والخضوع لجلاله وعظمته شكرا على الهداية، وبالاشتغال بالعبادة. قال ابن مسعود، وبه أخذ أبو حنيفة والشافعي: المراد بقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا سجود تلاوة القرآن. وقد تقدم أول السورة وفي تفسيرها من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقال ابن عمر: المراد سجود الفرض في الصلاة، أي إنه كان لا يراها من عزائم السجود، وبه قال مالك، قال القرطبي: والأول أصح.(27/141)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
مكيّة، وهي خمس وخمسون آية.
تسميتها:
سميت سورة القمر، لافتتاحها بالخبر عن انشقاق القمر، معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم.
مناسبتها لما قبلها:
تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث هي:
1- اتفاق خاتمة السورة السابقة وفاتحة هذه السورة حول إعلان قرب القيامة، فقال تعالى في سورة (النجم) : أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) وقال في هذه السورة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب، وهو قوله: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
جاء في الصحيحين عن أنس: «أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر مرتين» .
2- تناسب التسمية وحسن التناسق، لما بين النجم والقمر من تقارب، كما في توالي سورة الشمس، والليل، والضحى، ومن قبلها سورة الفجر.
3- فصلت هذه السورة أحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم بسبب تكذيب رسلهم في السورة المتقدمة في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى، وَثَمُودَ فَما(27/142)
أَبْقى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى
(50- 53) . وهذا يشابه الأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان، والصافات بعد يس.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية لتقرير أصول العقيدة الإسلامية، بدءا من إنزال القرآن بالوحي وتهديد المكذبين بآياته، وانتهاء بالجزاء الحتمي يوم القيامة ومشاهد عذاب الكفار، وأنواع ثواب المتقين وتكريمهم.
أخبرت السورة أولا بقرب وقت القيامة ودليل ذلك وهو انشقاق القمر الذي هو أحد المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وموقف المشركين من تلك المعجزة ووصفها بأنها سحر مفترى، وغفلتهم عما في القرآن من الزواجر.
وتلا ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، وإنذارهم بحشرهم أذلة مسرعين كالجراد المنتشر، بعبارات تهز المشاعر، وتثير المخاوف، وتملأ النفس رعبا وفزعا من أهوال القيامة.
ثم أنذرت كفار مكة بعذاب مشابه لعذاب الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون جزاء على تكذيبهم الرسل، وأفردت كل قصة عن الأخرى، وعقبتها بعبارة مخيفة تدعو للعجب وهي: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! وقرنها بقوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
ثم وبخت مشركي قريش على غفلتهم عن هذه النذر، وحذرتهم مصرعا مماثلا لمصارع أولئك الأقوام، وهو القتل والهزيمة في الدنيا، وعذاب الآخرة الأدهى والأمرّ، الذي يصاحبه الذل والمهانة بالسحب على وجوههم في النار، فهم في ضلال وسعر.(27/143)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
وختمت السورة ببيان ظاهرة التوازن في خلق الأشياء، وسرعة نفاذ أمر الله ومشيئته كلمح البصر، وضرورة العظمة والتذكر بهلاك الطغاة، ورصد جميع أعمال البشر في سجلات محفوظة، وتبشير المتقين بالجنات والكرامات عند ربهم المليك المقتدر.
والخلاصة: أن السورة حافلة بالوعد والوعيد، والعظات والعبر بأخبار الماضين، وتهديد الكفار بعقاب مماثل، وإكرام المتقين في جنات ونعيم.
فضل السورة:
تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
انشقاق القمر وموقف المشركين منه
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)(27/144)
الإعراب:
ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أصله «مزتجر» بوزن مفتعل من الزجر، وإنما أبدلت التاء دالا، لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة، فأبدلوا من التاء دالا، لتوافق الزاي في الجهر. وهو اسم مصدر أو اسم مكان. وما اسم موصول أو نكرة موصوفة. والجار والمجرور: مِنَ الْأَنْباءِ متعلق بمحذوف حال مقدم من ما. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ: حِكْمَةٌ: إما بدل مرفوع من ما في قوله تعالى: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ وما: مرفوعة فاعل: «جاء» ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي حكمة بالغة. وفَما في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ: إما استفهامية استفهام إنكاري، في موضع نصب ب تُغْنِ أي، أيّ شيء تغني النذر، أو نافية على تقدير حذف مفعول تُغْنِ وتقديره: فما تغني النذر سيئا. وحذفت ياء «تغني» وواو «يدعو» اتباعا لخط المصحف، لأنه كتب على لفظ الوصل، لا على لفظ الوقف. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ناصب يوم: يخرجون الآتي بعده.
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ خُشَّعاً: حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ في قوله تعالى:
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وكذلك قوله تعالى: مُهْطِعِينَ حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ.
البلاغة:
يَدْعُ الدَّاعِ بينهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت القيامة ودنت. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ روى الشيخان أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر، أي انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان. وَإِنْ يَرَوْا أي كفار قريش. آيَةً معجزة له صلى الله عليه وسلم دالة على نبوته. وَيَقُولُوا: سِحْرٌ أي هذا سحر. مُسْتَمِرٌّ محكم قوي، من المرّة وهي القوة، أو دائم مطرد. وَكَذَّبُوا النّبي صلى الله عليه وسلم.
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيّن لهم الشيطان من الوساوس ورد الحق بعد ظهوره. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكل أمر من الخير والشر منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، وبعبارة أخرى: كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وقرئ بفتح القاف.
مُسْتَقِرٌّ أي ذو استقرار، أو له زمان استقرار أو موضع استقرار، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.
الْأَنْباءِ أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من عذاب أو إهلاك لتكذيبهم الرسل.
مُزْدَجَرٌ ما يزجرهم ويكفيهم، يقال: زجرته وازدجرته: نهيته بغلظة، أو كففته فانكف.(27/145)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ تامة، واصلة غاية الإحكام والإبداع، لا خلل فيها. تُغْنِ تفيد وتنفع.
النُّذُرُ المنذرون، جمع نذير بمعنى منذر، أو الأمور المنذرة لهم، جمع المنذر منه، أو مصدر بمعنى الإنذار.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم ولا تجادلهم، لعلمك أن الإنذار لا ينفع ولا يغني فيهم. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ يوم ينادي إسرافيل. إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ إلى شيء شديد الهول تنكره النفوس إذ لا عهد لها مثله. خُشَّعاً أذلة، جمع خاشع، أي ذليل، ويقرأ خشعا بضم الخاء وفتح الشين، أي مشددة. الْأَجْداثِ القبور جمع جدث. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة، والجراد: حيوان طائر معروف يأكل النبات، والمنتشر: الكثير.
مُهْطِعِينَ مسرعين، مادّين أعناقهم، منقادين. هذا يَوْمٌ عَسِرٌ يوم صعب شديد على الكافرين، كما في قوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر 74/ 9- 10] .
سبب النزول: نزول الآية (1- 2) :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ... : أخرج الشيخان والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج الترمذي عن أنس قال: سأل أهل مكة النّبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة، مرتين، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، سحركم، فاسألوا السّفّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.(27/146)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن اقتراب القيامة وانتهاء الدنيا، فيقول:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت القيامة ودنت، واقترب موعد انقضاء الدنيا، أي قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] وقال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] .
وروى أبو بكر البزّار عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه، وقد كادت الشمس أن تغرب، فلم يبق منها إلا سفّ يسير، فقال:
«والذي نفسي بيده، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا» .
ويعضده ما أخرجه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا»
وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى. وقيل: المراد تحقق وقوع الساعة.
ثم أخبر الله تعالى عن انشقاق القمر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي وقد انشق القمر معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها. قال ابن كثير: قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات «1» . وقرب القيامة بالرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا باعتبار أن كل ما هو آت قريب.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس أن أهل مكة سألوا
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 261(27/147)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء (جبل مشهور بمكة) بينهما.
وأخرجا أيضا عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» .
وقيل: المراد الإخبار عن أنه سينشق القمر.
ثم أخبر الله تعالى عن موقف الكفار وعنادهم أمام هذه المعجزة، فقال:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي وإن ير المشركون علامة على النبوة ودليلا على صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولوا مكذبين بها قائلين: هذا سحر قوي شديد يعلو كل سحر، مأخوذ من قولهم: استمرّ الشيء: إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمر، أي دائم مطرد.
وهذا ردّ على المشركين الذين طالبوا بآية، قال المفسرون: لما انشق القمر، قال المشركون: سحرنا محمد، فقال الله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يعني انشقاق القمر. ثم أكد تعالى موقفهم هذا بقوله:
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أملته عليه أهواؤهم وآراؤهم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاهن، بسبب جهلهم وسخافة عقولهم. ثم هددهم تعالى وأخبرهم بأن كل أمر منته إلى غاية مماثلة له، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشرّ، فقوله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ
استئناف للرد على الكفار في تكذيبهم، ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك، لأن كل أمر له غاية حتما، وسينتهي أمر النّبي صلى الله عليه وسلم إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وهم على باطل.
وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبشير له بأن النصر سيكون حليفه في الدنيا، وأن له ولأتباعه الدرجة العالية والجنة في الآخرة.(27/148)
ثم وبخهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم، فقال: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي ولقد جاء كفار مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها، وما حل بهم من العقاب والنكال في هذا القرآن ما فيه كفاية لكفهم عن السوء، وزجر وردع ووعظ عما هم فيه من الشرك والوثنية والعصيان والتمادي في التكذيب.
ووصف الله تعالى تلك الأنباء بقوله:
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ، فَما تُغْنِ النُّذُرُ أي إن هذه الأنباء في القرآن وما تضمنته من عبرة وعظة وهداية حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، ولا تفيد النذر أو الإنذارات شيئا للمعاندين، فإن عنادهم يصرفهم عن الحق، فتكون «ما» نافية، ويصح أن تكون استفهاما إنكاريا، بمعنى أي غناء أو شيء تغني النذر أي الإنذارات لهؤلاء الكفار الطغاة؟ فإنك أيها النّبي أتيت بما عليك من الإخبار بالنبوة مقرونة بالآية الباهرة، وأنذرتهم بأحوال الأقدمين، فلم يفدهم شيئا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] .
ثم أمر الله نبيه بالإعراض عن مجادلتهم بعدئذ، فقال:
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي أعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وانتظرهم واذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يدعو فيه إسرافيل إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب وما فيه من البلاء والأهوال.(27/149)
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي يوم يكون أولئك الكفار في ذلك اليوم ذليلة أبصارهم من الذل والهوان، يخرجون من القبور على هذه الحال من الذل، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وانتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر منبثّ في الآفاق، مختلط بعضه ببعض.
وهذا كقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة 101/ 4] .
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، يَقُولُ الْكافِرُونَ: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، يقول الكفار: هذا يوم صعب شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين.
ونظير الآية: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر 74/ 9- 10] . وهذا يدل بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- اقتراب موعد يوم القيامة، فكل آت قريب، وإن مرور عشرات القرون بعد نزول هذه الآية وأمثالها لا يعد شيئا في حساب عمر الدنيا الذي قدّر بخمسة مليارات سنة.
2- حدوث انشقاق القمر بمكة في عهد النّبي صلى الله عليه وسلم معجزة له، قال القرطبي: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت(27/150)
باستدعاء النّبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي «1» .
وقال الرازي: وأما المؤرخون فتركوه، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر، فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدل دليل، وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه «2» .
والقائلون بأن الأخبار الواردة بشأن انشقاق القمر أخبار آحاد غير متواترة يرون أن منكر ذلك لا يكفر، لعدم التواتر في السنة، وكون الآية ليست نصا في ذلك.
3- دلّ قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا على أن المشركين رأوا انشقاق القمر.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:
إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: «يا فلان، يا فلان اشهدوا» .
ويؤيده حديث ابن مسعود المتقدم في سبب النزول.
4- لم يجد المشركون طريقا لتكذيب آية الانشقاق إلا بأن يصفوه بأنه سحر محكم قوي شديد، من المرّة وهي القوة، أو دائم نافذ مطرد، أو ذاهب، من قولهم: مرّ الشيء واستمر: إذا ذهب.
__________
(1) تفسير القرطبي: 17/ 126
(2) تفسير الرازي: 29/ 28(27/151)
5- لقد كذبوا نبيهم واتبعوا ضلالاتهم واختياراتهم وآراءهم الباطلة في أن انشقاق القمر خسوف عرضي للقمر.
6- هددهم الله تعالى بأن كل أمر مستقر، أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة، والشرّ مستقرّ بأهله في النار، وكل أمر صائر إلى غاية، وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى حدّ يعرف منه حقيقته، وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان.
7- لقد أعذر من أنذر، وجاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه، وأخبرهم الرسول باقتراب القيامة، وأقام الدليل على صدقه، ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة.
8- الأنباء التي في القرآن الكريم أو القرآن نفسه حكمة بالغة النهاية في الكمال والبيان.
9- إذا كذّب الكفار وخالفوا وعاندوا وأصروا على كفرهم، فليست تغني عنهم النذر، فتكون «ما» نافية في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ. ويجوز أن تكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم، وهم معرضون عنها؟! والنذر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير.
10- إذا كان هذا شأن الكفار، فأعرض يا محمد عن مجادلتهم ومحاجتهم، ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، واذكر يوم يدع الداعي: إسرافيل إلى شيء فظيع عظيم شديد تنكره نفوسهم لشدة أهواله، وهو موقف الحساب ويوم القيامة.
11- في يوم القيامة يخرج الكفار من قبورهم ذليلة أبصارهم، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وتموجهم جراد منتشر مبثوث في كل مكان. وقال تعالى في آية أخرى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة 101/ 4] . قال القرطبي: فهما صفتان في وقتين مختلفين:(27/152)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
أحدهما- عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض، لا جهة يقصدها.
الثاني- فاذا سمعوا المنادي قصدوه، فصاروا كالجراد المنتشر، لأن الجراد له جهة يقصدها.
وهم في سيرهم مهطعون، أي مسرعون، ويقولون: إن يوم القيامة يوم صعب عسر، لما ينالهم فيه من الشدة.
إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل
- 1- قصة قوم نوح عليه السلام
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
الإعراب:
فَالْتَقَى الْماءُ أراد بالماء الجنس، ولو لم يرد ذلك لقال: الماءان: ماء السماء، وماء الأرض. والأصل في الماء: موه، لقولهم في تكسيره: أمواه، وفي تصغيره: مويه، لأن التصغير(27/153)
والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأبدلت من الهاء همزة، فصار: «ماء» .
جَزاءً منصوب بفعل مقدر، أي أغرقوا انتصارا، أو عقابا.
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أصل مُدَّكِرٍ مذتكر بوزن مفتعل، من الذكر، إلا أن الذال مجهورة والتاء مهموسة، فأبدلوا من التاء حرفا من مخرجها يوافق الذال في الجهر، وهي الدال، وأدغمت الذال في الدال لتقاربها، فصار مدكر. ويجوز أن تدغم الدال في الذال، فيقال: مذّكر، وقد قرئ به.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ فَكَيْفَ: إما خبر كانَ إن كانت ناقصة، وعَذابِي: وهو مصدر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير، كرغيف ورغف.
البلاغة:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ استعارة تمثيلية، شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ كناية عن السفينة التي تتركب من الأخشاب والمسامير.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ بالرسل. قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش. قَوْمُ نُوحٍ تأنيث الفعل المعنى قَوْمُ. فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا، وهو تفصيل بعد إجمال. وَازْدُجِرَ أي زجر عن التبليغ بأنواع الأذى من السبّ وغيره.
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني. مَغْلُوبٌ غلبني قومي. فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم، وذلك بعد يأسه منهم، فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه، حتى يخرّ مغشيا عليه، فيفيق، ويقول: اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون.
مُنْهَمِرٍ منصب، كثير. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون، وأصله: فجرنا عيون الأرض، أي جعلناها تنبع، فغيّر للمبالغة. فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء وماء الأرض. عَلى أَمْرٍ على حال قَدْ قُدِرَ قضي به في الأزل، وهو هلاكهم غرقا.
وَحَمَلْناهُ حملنا نوحا. عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ حملناه على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير، والدسر: جمع دسار مثل كتب وكتاب، والمراد أن السفينة ذات دفع شديد. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا، والمراد بحراستنا وحفظنا. جَزاءً أي أغرقوا عقابا. لِمَنْ كانَ كُفِرَ جحد به، وهو نوح عليه السلام، أي أغرقوا عقابا لهم، وقرئ: كُفِرَ أي جزاء للكافرين.(27/154)
وَلَقَدْ تَرَكْناها أبقينا السفينة أو الفعلة. آيَةً علامة ودليلا لمن يعتبر بها.
مُدَّكِرٍ أي متذكر معتبر ومتعظ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله، وهو استفهام تعظيم ووعيد، وتقرير، والمعنى: حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذاب الله تعالى بالمكذبين لنوح موقعه. يَسَّرْنَا سهلنا. لِلذِّكْرِ للعظة والاعتبار. مُدَّكِرٍ متعظ بمواعظه.
المناسبة:
بعد أن أجمل الله تعالى الزجر بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، أعاد بعض الأنباء وفصلها، وهي قصص أربع: قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط لهدفين: بيان أن حال الرسول صلى الله عليه وسلم كحال الرسل المتقدمين مع أقوامهم، ووعيد المشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي كذبت قبل قومك يا محمد بالرسل قوم نوح، فإنهم كذبوا عبدنا نوحا عليه السلام، واتهموه بالجنون، وانتهروه وزجروه وتواعدوه عن تبليغ الدعوة بمختلف أنواع الإيذاء والسبّ والتخويف، قائلين: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء 26/ 116] .
وفائدة قوله: فَكَذَّبُوا «1» عَبْدَنا بعد قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ هي التخصيص بعد التعميم، أي كذبت الرسل أجمعين، فلذلك كذبوا نوحا. وقوله: عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ، ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه، فكذبوه.
__________
(1) الفاء: فاء تفصيل وتفريع.(27/155)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي فدعا نوح الله ربّه قائلا: إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء، فانتصر أنت لدينك، وانتقم لي منهم بعقاب من عندك.
وقد طلب النصرة عليهم، بعد أن علم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على الضلال. فأجاب الله دعاءه قائلا:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ «1» مُنْهَمِرٍ أي صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وهذا التعبير مجاز عن كثرة انصباب الماء من السماء، كما يقال في المطر الوابل: جرت ميازيب السماء، وفتحت أبواب القرب.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة وينابيع متدفقة، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم، أي على أمر مقدر عليهم من الأزل، لما علم الله من حالهم.
وهذا دليل على عقابهم والانتقام منهم، ثم ذكر تعالى كيفية إنجاء نوح، فقال:
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أي وحملنا نوحا على سفينة ذاتِ أَلْواحٍ: وهي الأخشاب العريضة، وَدُسُرٍ: وهي المسامير التي تشد بها الألواح. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.
ونظير الآية قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت 29/ 15] .
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي تسير بمنظر ومرأى منا وحفظ وحراسة لها، جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارا لنوح عليه السلام، لأنه نعمة من الله، وتكذيبه كفران أو جحود لتلك النعمة.
__________
(1) الباء للآلة نحو فتحت الباب بالمفتاح، يفتح الله لك بخير.(27/156)
وهذا دليل على أن اتخاذ الأسباب لتحقيق النتائج أمر ضروري، وهو أيضا محتاج إلى رعاية الله وعنايته وحفظه.
ثم ذكر الله تعالى أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم، فقال:
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي لقد أبقينا السفينة عبرة للمعتبرين، أو لقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة، فهل من متعظ ومعتبر، يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها.
قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، وعقب عليه الحافظ ابن كثير قائلا: والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفينة، كقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ [يس 36/ 41- 42] ، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] «1» ولهذا قال ها هنا:
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟! فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذّب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري المرسلون، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر، أو كيف كانت إنذاراتي؟ والاستفهام للتوبيخ والتخويف، وإنما أفرد العذاب فلم يقل: أنواع عذابي، وجمع النذر، إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، لأن الإنذار إشفاق ورحمة.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي لقد سهلناه
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 264(27/157)
للحفظ، وسهلنا لفظه للنطق، ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس، فهل من متعظ بمواعظه، ومعتبر بعبره؟! والأولى أن يقال: سهلناه للتذكر والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية.
وفي الآية الحث على درس القرآن، والاستكثار من تلاوته، والمسارعة في تعلّمه، كما قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص 38/ 29] ، وقال سبحانه: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم 19/ 97] . قال ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزّ وجلّ.
والحكمة في تكرير قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ... هي تجديد التنبيه على الادّكار والاتعاظ والتعرف على تعذيب الأمم السالفة، للاعتبار بحالهم.
وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عدّ كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية، لتكون مصوّرة للأذهان، محفوظة في كل أوان. وهذه القصص نفسها كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب، لأن التكرير يوجب التقرير في النفوس، والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لم يعرف من غيره «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كان نوح عليه السلام في وقته ومبدأ دعوته العابد الوحيد لله عزّ وجلّ، وكان قومه أول المكذبين للرسل، لذا شرفه الله تعالى بقوله:
عَبْدَنا فالإضافة إلى الله تشريف منه، واختيار لفظ العبد أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله: رسولنا.
__________
(1) غرائب القرآن للنيسابوري: 27/ 52(27/158)
2- وصفوه بأنه مجنون إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه، حيث رأوا ما عجزوا عنه. وأخبر تعالى عنه: وَازْدُجِرَ دليل على الحجر عليه ومنعه من تبليغ دعوته بالسبّ والوعيد بالقتل. ويصح أن يكون ذلك حكاية قولهم، وتقديره: قالوا: مجنون مزدجر، ومعناه ازدجره الجن، قال الرازي:
والأول أصح.
3- لما زجروه وانزجر عن دعوتهم دعا ربّه: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي غلبوني بتمردهم فانتصر لي.
4- أجاب الله دعاءه، وأمره باتخاذ السفينة، ثم أغرقهم بالطوفان بماء كثير منصب متدفق من السحب، وماء نابع من الأرض فالتقى الماءان: ماء السماء وماء الأرض على حال قدرها الله وقضى بها من الأزل، لعلمه بتكذيبهم.
5- ونجى الله نوحا عليه السلام ومن آمن معه بحملهم على سفينة ذات ألواح شدت بمسامير، وفي حفظ الله ورعايته وكلاءته، وقد جعل الله ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه الذين جحدوا برسالته، وعقابا للكافرين على كفرهم بالله تعالى.
6- لقد ترك الله هذه الغفلة أو السفينة عبرة، فهل من متعظ خائف؟! قال قتادة: أبقاها- أي السفينة- الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها، فصارت رمادا.
7- عقب الله تعالى على القصة بأمرين: أولهما- فكيف كان العذاب والإنذار؟ تنبيها عاما للخلق. وثانيهما- لقد سهل الله القرآن الكريم للاتعاظ والادّكار، أو للحفظ وأعان عليه من أراد حفظه. قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.(27/159)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
وهذا يدل على أن الله تعالى يسّر على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكّروا ما فيه، فهل من قارئ يقرؤه، ومتذكر متعظ يتذكّر به ويتعظ؟ وكرر ذلك في هذه السورة للتنبيه والإفهام، كما تقدم.
- 2- قصة عاد قوم هود عليه السلام
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
الإعراب:
رِيحاً صَرْصَراً صرصر: أصله صرّر، إلا أنه اجتمعت ثلاث راءات، فأبدلوا من الراء الثانية صادا، كما قالوا: رقرقت، وأصله رققت، فاجتمع فيه ثلاث قافات، فأبدلوا من القاف الوسطى راء، هربا من الاستثقال.
أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ إنما ذكر مُنْقَعِرٍ لأن النخل يذكر ويؤنث، ولهذا قال في موضع آخر: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة 69/ 7] . والقاعدة: كل ما كان الفرق بين واحده وجمعه من أسماء الأجناس الهاء، نحو النخل والشجر والسدر، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث.
البلاغة:
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ عادٌ نبيّهم هودا عليه السلام، فعذبوه. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذاري لمن بعدهم في تعذيبهم. صَرْصَراً شديدة الصوت والبرد.
نَحْسٍ شؤم. مُسْتَمِرٍّ دائم شؤمه حتى أهلكهم. تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم من أماكنهم،(27/160)
وتصرعهم على رؤوسهم، فتدق رقابهم. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أصول نخل مقتلع من مغارسه، أو مؤخر الشيء، وشبّهوا بالنخل لطولهم، والمنقعر: المنقطع من أصله.
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرره للتهويل، أو أنه ذكر مرتين في قصة عاد، لأن الاستفهام الأول للبيان، كما يقول المعلم لمن لا يعرف: كيف المسألة الفلانية؟ ليتنبه الطالب المسؤول للجواب الذي سيذكره المعلم، والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. أما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار، وفي قصة نوح اقتصر على الثاني للاختصار أيضا، ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم، وقولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت 41/ 15] .
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي متعظ، والمعنى كما تقدم: سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية، وقيل: للحفظ. والأول أنسب بالمقام، وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى تكذيب قوم نوح الذي بدأ به، لأن تكذيبهم كان أبلغ وأشد، حيث دعاهم قريبا من ألف سنة، وأصروا على التكذيب، أعقبه بقصة عاد قوم هود، تأكيدا للعظة والعبرة، وتبيانا للمشركين المكذبين في مكة وأمثالهم أن عاقبة المكذبين الهلاك والدمار، دون تفاوت بين الأقوام. وإنما قال عادٌ ولم يقل (قوم هود) كما قال (قوم نوح) لأن التعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ عادٌ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي كما صنع قوم نوح في تكذيبهم رسولهم، كذبت قبيلة عاد قوم هود عليه السلام رسولهم، فانظروا واسمعوا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم.
وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لفت للأنظار، وتنبيه للأسماع لما سيذكر.(27/161)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ أي إنا سلّطنا عليهم «1» ريحا شديدة البرد والصوت في يوم شؤم عليهم، دائم الشؤم حتى أهلكهم ودمرهم، لأنه اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، أما ذات اليوم بمجرده فلا يصح وصفه بالنحس أو الشؤم، وإنما الأيام والليالي كلها سواء، لذا كان التشاؤم بالعدد (13) غير صحيح شرعا ودينا.
ونظير الآية: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت 41/ 16] وقوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 7] أي متتابعة.
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي إن تلك الريح الصرصر كانت تقتلعهم من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها، قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم، فتدقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم.
والمعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها فلا فروع، مُنْقَعِرٍ: منقلع عن مغارسه.
وقد شبهوا في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح. وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس.
والآية تومئ إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم، فتصبح الأجسام من غير رؤوس ولا هامات، وتشير أيضا إلى عظمة أجسادهم وطول قاماتهم، وإلى محاولتهم الثبات في الأرض والتشبث بها لمقاومة الريح، كما تشير أيضا إلى يبسهم وجفافهم بالريح التي كانت تقتلهم ببردها المفرط، فتجعلهم كأنهم أخشاب يابسة.
__________
(1) هذه الجملة استئنافية، لبيان ما أجمل أولا في قوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ.(27/162)
ثم أعاد الله تعالى ما يفيد تهويل العذاب، فقال:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فانظروا كيفية بطشي وعقابي وإنذاري.
ثم كرر التصريح بسهولة التعرف على ذلك بالقرآن، فقال:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي لقد سهلنا القرآن للادكار والاتعاظ، بما أوردنا فيه من المواعظ الشافية، وبينا ما فيه من الوعد والوعيد، فهل من متعظ معتبر؟! وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه «1» ؟
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كذبت قبيلة عاد قوم هود برسولهم هود عليه السلام، فاستحقوا العقاب، لذا بادر الله تعالى إلى التخويف والتهويل بقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وقد وقعت كلمة نُذُرِ في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين: حال الوقف والوصل، وقرأها ورش بالياء في الوصل لا غير.
2- كان عقابهم بإرسال ريح شديدة البرد، شديدة الصوت، في يوم كان مشؤوما عليهم، قال ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر، أفنى صغيرهم وكبيرهم. والمراد أنه يوم نحس على الفجار والمفسدين، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحسات على الكفار من قوم عاد، لا على نبيهم والمؤمنين به منهم.
3- وصف الله الريح بأنها تقلعهم من مواضعهم، قيل: قلعتهم من تحت
__________
(1) الكشاف: 3/ 184 [.....](27/163)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها، وقال مجاهد كما تقدم: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم، فتندقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم عن أجسادهم.
وكانت الريح تنزع الناس، فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر. والأعجاز:
جمع عجز: وهو مؤخر الشيء، وكانت أشخاص عاد موصوفين بطول القامة، فشبّهوا بالنخل انكبت لوجوهها.
4- كانت العاقبة على قوم عاد سوءا وشرا مستطيرا، يستدعي التفكير بكيفية عذاب الله وإنذاراته. وطريق فهم ذلك ميسر، فإن القرآن بما اشتمل عليه من العظات والعبر سهل يسير الاعتبار والاتعاظ، فهل من متعظ معتبر؟!
- 3- قصة ثمود قوم صالح عليه السلام
[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)(27/164)
الإعراب:
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ بَشَراً منصوب بتقدير فعل دل عليه نَتَّبِعُهُ تقديره:
أنتبع بشرا منا واحدا؟
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِتْنَةً: إما مفعول لأجله، أو مصدر، منصوب على المصدرية. وقوله: وَاصْطَبِرْ أصله: اصتبر، على وزن: افتعل من الصبر، إلا أنهم أبدلوا من التاء طاء لتوافق الصاد في الإطباق.
فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كَهَشِيمِ: في موضع نصب، لأنه خبر كان، والْمُحْتَظِرِ:
بكسر الظاء وهو المشهور، أي المتخذ الحظيرة، وقرئ بفتحها الْمُحْتَظِرِ أي مكان الحظيرة.
البلاغة:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ صيغة مبالغة على وزن فعال وفعل، أي كثير الكذب، عظيم البطر.
فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالرسل جمع نذير بمعنى منذر أو بالإنذارات والمواعظ، فإنهم كذبوا بالأمور التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام، وتكذيبه تكذيب لجميع الرسل، لاتفاقهم على أصول الدين. أَبَشَراً مِنَّا أي من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا. واحِداً منفردا لا تبع له، والاستفهام بمعنى النفي، المعنى: كيف نتبعه ونحن جماعة كثيرة، وهو واحد منا، وليس بحاكم ولا ملك؟ أي لا نتبعه. إِنَّا إِذاً أي إنا إن اتبعناه. لَفِي ضَلالٍ خطأ وبعد عن الصواب. وَسُعُرٍ جنون، ومنه: ناقة مسعورة أي مجنونة.
الذِّكْرُ الوحي. عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي وفينا من هو أحق منه بذلك. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ في أنه أوحي إليه. أَشِرٌ متكبر بطر، حمله بطره على الترفع علينا بادّعائه.
سَيَعْلَمُونَ غَداً أي عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ هو أو هم، أي الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق، وطلب الباطل.
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها وباعثوها. فِتْنَةً لَهُمْ اختبارا أو امتحانا لهم.
فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم يا صالح وتبصر ما يصنعون. وَاصْطَبِرْ اصبر على أذاهم. قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم بينهم وبين الناقة، يوم لهم ويوم لها. كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء.
مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته.(27/165)
صاحِبَهُمْ قدار بن سالف أحيمر ثمود. فَتَعاطى اجترأ على تعاطي قتلها غير مبال بما يفعل، والتعاطي: تناول الشيء بتكلف. فَعَقَرَ ضرب قوائم الناقة بالسيف، فقتلها موافقة لهم. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ أي كيف كان عقابي وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، المعنى: أن العذاب وقع موقعه.
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام، والجملة بيان للعذاب المشار إليه في الجملة السابقة. كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي مثل المتهشم اليابس، المتكسر من الشجر، الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء، أي كهشيم الحظيرة. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ سهلنا القرآن للاتعاظ به. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ.
المناسبة:
هذه قصة ثالثة أو أنموذج من تكذيب الأمم الخالية رسلها، فإن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم، فكذبوا نوحا وهودا وصالحا عليهم السلام فيما يدعيه من الوحي عن ربه، وكل من كذب رسولا كذب جميع الرسل لاتحادهم في أصول الاعتقاد والدين. وكانت معجزة صالح عليه السلام ناقة فريدة تشرب ماء نهير كله يوما، وتدر لبنا يكفي جميع القبيلة، بل يفيض عنهم، فقتلوها، فعاقبهم الله بعذاب الصيحة: صيحة جبريل عليه السلام، فبادوا عن آخرهم.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كذبت قبيلة ثمود قوم صالح برسل الله الكرام، بتكذيبهم لرسولهم، وهو صالح، ومن كذب واحدا من الأنبياء، فقد كذب سائرهم، لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع وأصولها العامة، كتوحيد الله تعالى، وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويلاحظ أنه في قصة نوح وقصة عاد قال: كَذَّبَتْ ولم يقل بالنذر، وفي هذه القصة وقصة قوم لوط قال: بِالنُّذُرِ والأمر سواء، لأن عادتهم التكذيب.
ثم أبان الله تعالى مظاهر تكذيبهم، فقال:(27/166)
1- فَقالُوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي إنهم قالوا فيما بينهم: كيف نتّبع بشرا من جنسنا، منفردا وحده، لا تبع له، ولا متابع له على ما يدعو إليه، لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا، وإنا إذا اتبعناه نكون في خطأ واضح وبعد عن الحق والصواب، واتصفنا بالجنون أو أصابنا العذاب والعناء والشدة.
2- أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوة، وفينا من هو أحق بذلك منه، بل هو متجاوز في حد الكذب فيما يدعيه من نزول الوحي الإلهي عليه، ومتكبر بطر، حمله تكبره على الترفع علينا بادعائه الوحي.
فوجّه الله تعالى إليهم تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا بقوله:
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا، أو يوم القيامة، وسيتبين لهم من هو المفتري الكذب، الأبلغ في الشرارة، أصالح في تبليغ رسالة ربه، أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.
ثم وصف الله تعالى جرمهم مخاطبا صالحا فقال:
- إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ أي إنا مخرجو الناقة العظيمة العشراء من صخرة صماء، كما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به، ولتكون امتحانا واختبارا لهم، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم وما يصنعون واصبر عليهم وعلى ما يصيبك من الأذى منهم، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة.
- وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي وأخبرهم أن ماء البئر أو النهير مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل حظ أو نصيب(27/167)
من الماء يحضره صاحبه، ليأخذه في نوبته، فتشرب الناقة في يوم، ويشربون هم في يوم آخر، أو كل شرب محتضر فيه، يوم لها ويوم لهم، قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. وقال أيضا: إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن.
ونحو الآية: قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء 26/ 155] .
- فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، فَتَعاطى فَعَقَرَ أي ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة، وبادروا إلى التخلص من هذا الوضع كفرا وعنادا، فنادوا نداء المستغيث قدار بن سالف، وكان أشقى قومه، وأشجع وأهجم على الأمور، وحرضوه على عقر الناقة، فاجترأ على الأمر العظيم، وتعاطى أسباب العقر، فأهوى بسيفه على قوائم الناقة، فكسر عرقوبها، ثم نحرها.
- فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فعاقبتهم، فانظر كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي الذي ينذرهم ويخوفهم عذاب الله. ويلاحظ أن هذه الآية ذكرت في قصة ثمود قبل بيان العذاب للبيان، وفي قصة نوح بعد بيان العذاب للتهويل والتعظيم، وفي قصة عاد قبل بيان العذاب وبعد بيانه، للجمع بين الأمرين.
- إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل، فصاح بهم، فبادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وجمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات، وصاروا كالعشب أو فتات الشجر اليابس الذي جمعه الراعي المحتظر في الحظيرة إذا داسته الغنم بعد سقوطه.
والهشيم: الشجر اليابس المتهشم، أي المتكسر، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة ليحفظ الغنم من الذئاب. ووجه التشبيه: أن ما يحتظر به ييبس بطول(27/168)
الزمان وتطؤه البهائم فيتكسر، وأنهم صاروا موتى جاثمين، ملقى بعضهم فوق بعض، كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع.
- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ، والاعتبار بالأحداث والوقائع، فهل من متعظ؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- كذبت قبيلة ثمود كغيرها الرسل ونبيهم، وكذبوا بالآيات التي جاء بها، وأنكروا أن ينبأ بشر كائن منهم منفرد لا أتباع له، وزعموا أنهم إن اتبعوه كانوا في خطأ وذهاب عن الصواب، وجنون وعناء.
2- وقالوا على طريق الاستفهام المراد به الإنكار: كيف خصص بالرسالة من بين آل ثمود، وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟ بل هو كذاب فيما يدّعيه، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق.
3- هددهم الله بأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، والعذاب يوم القيامة.
وقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً.. على التقريب، على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا. وهذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أو أنه تهديد بالتعذيب يوم القيامة. وسيتبين لهم من هو الكذاب الأشر، أهو صالح عليه السلام أم هو؟
4- أخرج الله لهم ناقة عظيمة من الهضبة التي سألوها، روي أن صالحا صلى ركعتين، ودعا، فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء. وكان ذلك ابتلاء واختبارا لهم. ومعنى قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ:(27/169)
إنا نرسل، وهو بمعنى المستقبل في ذلك الزمان الذي تم فيه الإرسال. وكون الناقة فتنة: أن أوضاعها الغريبة اختبار.
5- أمر الله تعالى نبيه صالحا عليه السلام بأوامر ثلاثة: انتظر ما يصنعون، واصبر على أذاهم، وأخبرهم أن الماء مقسوم بين آل ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم. قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء، وتسقيهم لبنا، وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه، فلم تبق لهم شيئا.
أي أنهم يوم شربها أو وردها الماء يحتلبون منها ما شاؤوا.
6- ملّوا هذه القسمة، فحرضوا صاحبهم قدار بن سالف أشقى ثمود على عقرها، فعقرها، بأن رماها بسهم، ثم ضرب قوائمها بالسيف، ثم نحرها.
7- عاقبهم الله جزاء تكذيبهم وكفرهم برسولهم صالح، واعتدائهم على الناقة، فأرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل عليه السلام، فلما سمعوا الصيحة ماتوا، وبادوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد، وأصبحوا كهشيم المحتظر، قال ابن عباس: المحتظر: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. وعنه: كحشيش تأكله الغنم، أو كالعظام النخرة المحترقة. وقوله: فَكانُوا فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال.
8- المتأمل ينظر بما آل إليه هؤلاء القوم من إبادة وعذاب أصبحوا مثلا وعبرة للتاريخ.
9- يسهل على كل إنسان إدراك هذه الحقيقة من القرآن الذي أخبر عن هذه المحنة الأليمة، فهو كتاب سهل المأخذ، يسر الله به فهم المواعظ والعبر، فهل من متعظ معتبر؟! والتكرار للتذكار والتأكيد.(27/170)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
- 4- قصة قوم لوط عليه السلام
[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
الإعراب:
إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا آلَ لُوطٍ: منصوب على الاستثناء، وبِسَحَرٍ في موضع نصب، لأنه متعلق ب نَجَّيْناهُمْ وصرفه أي نونه، لأنه أراد به سحرا من الأسحار. ولو أراد به التعريف لكان ممنوعا من الصرف، أي التنوين للتعريف والعدل عن لام التعريف. ونِعْمَةً: مفعول لأجله.
المفردات اللغوية:
بِالنُّذُرِ بالرسل والأمور المنذرة على لسانهم، وتكذيب نبي واحد كتكذيب جميع الأنبياء، لاتفاقهم على أصول الشرائع كما تقدم. حاصِباً ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم بالحصباء: وهي صغار الحجارة، الواحد دون ملء الكف. إِلَّا آلَ لُوطٍ أهله وابنتاه معه.
بِسَحَرٍ أي بسحر من الأسحار، من يوم غير معين، والسحر: السدس الأخير من الليل قبيل طلوع الفجر. نِعْمَةً مصدر، أي إنعاما. كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمنا، وكان مؤمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مطيعا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي خوّفهم لوط عليه السلام. بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب. فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي شكّوا في الإنذارات وكذبوا بها. راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ قصدوا الفجور بضيوفه، وطلبوا منه تمكينهم منهم وأن يسلمهم أضيافة الذين كانوا ملائكة. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أعميناهم، أو(27/171)
جعلنا أعينهم مطموسة لا شق لها، وأزلنا أثرها. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا إنذاري وتخويفي، أي ثمرته وفائدته.
بُكْرَةً أول النهار. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ دائم يستقر بهم إلى أن يهلكوا، أو يتصل بعذاب الآخرة. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال البيضاوي:
كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، واستماع كل قصة مستدع للادّكار والاتعاظ، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ، لئلا يغلبهم السهو والغفلة، وهكذا تكرير قوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وفَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ونحوهما.
وإنما لم يقل هنا فَكَيْفَ كانَ عَذابِي كما قال في القصص الثلاث الأخرى، لأن التكرار ثلاث مرات بالغ كاف، ويحصل التأكيد بالثلاث.
المناسبة:
هذه قصة رابعة هي قصة قوم لوط، ذكرها الله تعالى لبيان السبب وهو تكذيب الرسل وارتكاب الفواحش، وبيان العقاب الشديد وهو التدمير والإهلاك، ليعتبر كل الناس، ويعلموا أنه ما من هلاك إلا بعد إنذار بالعذاب على لسان رسول، ثم تكذيبه.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ هذا حال قوم آخرين، وهم قوم لوط الذين كذبوا رسولهم وخالفوه، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها، واقترفوا الفاحشة.
ثم بيّن الله تعالى عذابهم وإهلاكهم، فقال:
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي إننا أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى والحجارة، فأهلكتهم ودمرتهم إلا لوطا عليه السلام ومن آمن به واتبعه، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل أو في قطعة من الليل وهو السدس الأخير، نجوا مما أصاب قومهم.(27/172)
هذا ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء.
وكان سبب نجاتهم شكرانهم النعمة، فقال تعالى:
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا، كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي لقد أنجيناهم إنعاما منا عليهم، وتكريما لهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن، نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها، بأن آمن وأطاع أمرنا، واجتنب نهينا.
ثم بين الله تعالى عدله في العقاب وهو مجيئه بعد إنذار، فقال:
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي ولقد أنذرهم نبيهم بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد، وعقوبته البالغة، قبل حلوله بهم، إن لم يؤمنوا، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكوا في الإنذار ولم يصدقوه، وكذبوه.
ثم ذكر الله تعالى جرما آخر لهم عدا الكفر والتكذيب، فقال:
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي لقد أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الضيوف الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان، ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، إذ قد بعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب عشية الليل، ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، وأرشدهم إلى نسائهم الذين هم بمثابة بناته، وهو لهم كالأب.
فلما اشتد الخلاف، وأبوا إلا الدخول، طمس الله أبصارهم، فأصبحوا لا يرون شيئا، فرجعوا على أدبارهم، يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا عليه السلام، إلى الصباح.(27/173)
وقلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي.
ثم ذكر تعالى نوع العذاب العام الذي أصابهم ووقته، فقال:
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي لقد أتاهم صباحا عذاب مستقرّ بهم، نازل عليهم، لا يفارقهم ولا ينفك أو يحيد عنهم، كما قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] والعذاب المستقر: الثابت الذي لا محيد عنه أو الذي استقر عليهم إلى الاستئصال الكلي.
ثم أوضح تعالى العبرة وحكى ما قيل لهم، فقال:
- فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فذوقوا جزاء أفعالكم ومقتضى إنذاركم السابق.
- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي ولقد سهلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر، فهل من متعظ معتبر. وهذه الجملة الواردة عقب القصص الأربع للتأكيد والتنبيه والاتعاظ والزجر، كما تقدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لما كذب قوم لوط نبيهم، أرسل الله عليهم ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى، فلا عقاب دون جريمة، ولا عذاب قبل إنذار.
2- نجّى الله تعالى نبيه لوطا عليه السلام ومن تبعه على دينه، ولم يكن إلا بنتاه، وتمت النجاة في وقت السحر آخر الليل، إنعاما من الله على لوط وبنتيه، ومثل ذلك الجزاء يجازي الله كل من آمن بالله وأطاعه، أي أن ذلك الإنجاء كان فضلا من الله ونعمة، كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا. وفيه فائدة وهي الدلالة(27/174)
على الثواب في الدار الآخرة، كما تحققت النجاة في الدنيا، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب.
3- لا عقاب أيضا إلا بعد إنذار، فلقد أنذر لوط عليه السلام قومه، وخوّفهم عقوبة ربهم، وأخذه إياهم بالعذاب الدنيوي والأخروي، فشكّوا فيما أنذرهم به الرسول، ولم يصدقوه. وفي هذا تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه.
4- اقترن مع كفرهم جريمة كبري أخرى هي اقترافهم الفواحش، بل إنهم أرادوا من لوط عليه السلام تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف، طلبا للفاحشة.
5- لما أصرّوا على الاعتداء على الملائكة، واقتحام منزل لوط عليه السلام، أعماهم الله مع صحة أبصارهم، فلم يروهم. ويروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت، فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم.
6- قال الله لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي الذي أنذركم به لوط، والمراد بذوق العذاب مجازاة الفعل وموجبه.
7- لقد صبّحهم أول النهار، وقت الصبح عذاب دائم عام، استقر فيهم، حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وفائدة قوله: بُكْرَةً تبيين حدوث العذاب في أول النهار، لأن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار، فإذا قال: بُكْرَةً أفاد أنه كان أول جزء منه.
8- كرر الله تعالى للتأكيد ما قالته الملائكة لهم: ذوقوا العذاب الذي نزل بكم من طمس الأعين، غير العذاب الذي أهلكوا به، لأن العذاب كان مرتين:
أحدهما- خاص بالمراودين، والآخر عام.(27/175)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
9- إن الهدف من القصة هو العبرة والعظة، والقرآن الكريم سهّله الله للاتعاظ والاعتبار، ولكن ما أكثر المواعظ والعبر، وأقل الاعتبار. وقد كرر تعالى بيان ذلك للتنبيه والتأكيد.
- 5- قصة آل فرعون
[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
المفردات اللغوية:
آلَ فِرْعَوْنَ قومه معه، واكتفى بذكرهم دونه للعلم بأنه القائد وأنه أولى بذلك.
النُّذُرُ الإنذارات على لسان موسى وهارون، فلم يؤمنوا. كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها أي بل كذبوا بالآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام. فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب. أَخْذَ عَزِيزٍ قوي لا يغالب ولا يغلب. مُقْتَدِرٍ قادر لا يعجزه شيء.
التفسير والبيان:
هذه قصة خامسة بإيجاز، أخبر الله بها عن تكذيب فرعون وقومه بالرسل، فقال:
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ أي والله لقد جاءت الإنذارات والبشائر فرعون وقومه من طريق موسى وهارون، الإنذار بالعذاب إن كفروا، والبشارة بالجنة إن آمنوا. والفرق بين الآل والقوم: أن القوم أعم من الآل، فالقوم: كل من يقوم الرئيس بأمرهم ويأتمرون بأمره، والآل: كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم، أو يؤول إليهم خيره وشره.(27/176)
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها، فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أي إننا أيدنا موسى وهارون بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، منها الآيات التسع كالعصا واليد، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب في انتقامه، قادر على إهلاكهم قاهر لا يعجزه شيء، أي أبادهم الله ولم يبق منهم أحدا، وعاقبهم بتكذيبهم وبكفرهم بالله.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا خبر موجز عن فرعون وقومه: القبط، يتضمن بيان الجريمة والعقاب، فإن الله أرسل لهم موسى وهارون بالإنذارات والبشائر، فكذبوا بجميع الآيات أو المعجزات الدالة على توحيد الله ونبوة الأنبياء، وهي تسع: العصا، واليد، والسّنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، فعاقبهم الله بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسل الله، وكان العقاب شديدا لصدوره من إله غالب في انتقامه، قادر على ما أراد.
ويلاحظ أن القصص الخمس المذكورة في هذه السورة: قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وآل فرعون مشتركة في السبب أو الجريمة، وفي الجزاء أو العقاب، والسبب أو الجريمة يكاد يكون واحدا وهو الكفر بالله وتكذيب الرسل، مع معاص أخرى، والعقوبة وإن اختلفت بين طوفان، وريح صرصر عاتية، وصيحة جبريل، وريح حاصب، وإغراق، فنتيجتها واحدة وهي الإبادة والاستئصال التام، وتلك عبرة وعظة لكفار قريش وأمثالهم.(27/177)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
توبيخ المشركين من كفار قريش وبيان جزاء المجرمين والمتقين
[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
الإعراب:
أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ نَحْنُ: مبتدأ، جَمِيعٌ: خبره، ومُنْتَصِرٌ: خبر لمحذوف تقديره: أمرنا أو جمعنا.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ كُلَّ: بالنصب بتقدير (خلقنا) وذلك يدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء، ولا يجوز أن يكون (خلقنا) صفة شَيْءٍ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. وتقرأ كُلَّ بالرفع على الابتداء، وخَلَقْناهُ: خبره، لكن لا يكون كُلَّ حينئذ متمحضا للعموم، لأن المعنى: إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيحتمل أن يكون هاهنا ما ليس بمخلوق من الأشياء، بخلاف حالة النصب، فإنه لا يحتمل إلا العموم. وبِقَدَرٍ: حال من كُلَّ، أي مقدرا.
البلاغة:
أَكُفَّارُكُمْ أَمْ يَقُولُونَ الاستفهام إنكاري يقصد به النفي.
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ إطناب بتكرار لفظ الساعة لزيادة التخويف.(27/178)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ المس مجاز مرسل عن الألم، وعلاقته السببية، فإن مسها سبب للألم، ويراد بالذوق الإحساس.
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ بينهما طباق.
في أواخر الآيات كلها سجع غير متكلف له وقع وجرس وجمال في اللفظ.
المفردات اللغوية:
أَكُفَّارُكُمْ يا قريش. مِنْ أُولئِكُمْ المذكورين في القصص السابقة من قوم نوح إلى آل فرعون. بَراءَةٌ وثيقة مكتوبة بالنجاة من العذاب. الزُّبُرِ الكتب السماوية، جمع زبور، المعنى: أم أنزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم، فهو في أمان من العذاب. والاستفهام في الموضعين بمعنى النفي، أي ليس الأمر كما تزعمون أو تتصورون.
أَمْ يَقُولُونَ كفار قريش. نَحْنُ جَمِيعٌ جمع. مُنْتَصِرٌ على محمد، قال أبو جهل يوم بدر: إنا جمع منتصر، فنزلت الآية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يرجعون إلى الأدبار هاربين، فقد هزموا ببدر، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وهو من دلائل النبوة. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ بالعذاب الأصلي. وَالسَّاعَةُ أي وعذاب الساعة. أَدْهى أعظم وأشد بلية وداهية، والداهية: أمر فظيع لا يهتدى لعلاجه. وَأَمَرُّ أشد مرارة ومذاقا من عذاب الدنيا، والمراد: أصعب على النفس وأكثر شدة وهولا.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكفار والمشركين. فِي ضَلالٍ خطأ وبعد عن الحق. وَسُعُرٍ نيران مستعرة في الآخرة. يُسْحَبُونَ يجرّون على وجوههم. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي يقال لهم: ذوقوا حر النار وألمها، فإن مسّها أي إصابتها سبب للتألم بها، وسَقَرَ اسم جهنم، ولذلك كان ممنوعا من الصرف. بِقَدَرٍ أي مقدّرا بمقدار معلوم مكتوب في اللوح قبل وقوعه.
أَمْرُنا شأننا، أو أمرنا بإيجاد الشيء الذي نريده. إِلَّا واحِدَةٌ أي كلمة واحدة، وهي قول (كن) فيوجد، أو فعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معاناة. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في اليسر والسرعة. أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ، والاستفهام بمعنى الأمر، أي اذكروا واتعظوا. فِي الزُّبُرِ مكتوب في سجل أو كتب الحفظة.
مُسْتَطَرٌ مسطور أو مكتوب في اللوح المحفوظ.
فِي جَنَّاتٍ بساتين. وَنَهَرٍ أنهار، المراد به الجنس. وقرئ بضم النون وسكون الهاء كأسد وأسد. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، والمراد(27/179)
به أيضا الجنس، وقرئ: مقاعد أي في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم، بخلاف مجالس الدنيا، قل أن تسلم من ذلك. عِنْدَ مَلِيكٍ أي مقربين عند الله تعالى، ومَلِيكٍ صيغة مبالغة، أي عزيز الملك وواسع السلطان. مُقْتَدِرٍ قادر لا يعجزه شيء، وهو الله تعالى.
والعندية ليست عندية مكان، وإنما إشارة إلى الرتبة والقربة من فضل الله تعالى.
سبب النزول:
نزول الآية (45) :
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ..: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
نزول الآية (47) :
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ..: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وروى ابن حبان عن أبي أمامة الباهلي قال: أشهد بالله لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه الآية نزلت في القدرية «1» : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
وذكر أبو بكر بن الحارث عن أبي زرارة الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ.. ثم قال: أنزلت هذه الآية في أناس من آخر هذه الأمة يكذبون بقدر الله تعالى.
__________
(1) القدرية: هم الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.(27/180)
المناسبة:
بعد بيان إهلاك بعض الأمم السابقة وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط بسبب تكذيبهم الرسل، خاطب الله أهل مكة موبخا لهم بطريق الاستفهام الإنكاري، ليبين لهم أن ما أصاب غيرهم من العذاب والهوان سيصيبهم، لأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله، إن استمروا على كفرهم، وأصروا على ضلالهم، وأنهم أيضا سيهزمون في الدنيا، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأدهى.
ثم أبان الله تعالى نوع عذاب المجرمين أي المشركين في الآخرة، وأن كل شيء مخلوق لله سبحانه، وأن أمره تعالى سريع النفاذ بكلمة (كن) التكوينية، وختم السورة بذكر ثواب المتقين الأبرار.
التفسير والبيان:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي أكفاركم يا مشركي قريش خير من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب السماوية، أم معكم من الله براءة فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟! والمعنى: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب، خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فلستم بأفضل منهم، حتى تكونوا بمأمن مما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم لرسلهم، وليست لكم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء.
وهذا تهديد وتوبيخ لمن أصرّ على الكفر من مشركي العرب، فالمراد بعض العرب لا كلهم، فليس كفارهم خيرا ممن سبقهم، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط، بل هم مثلهم أو شر منهم.(27/181)
أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي بل هم يقولون: نحن جماعة أو جمع كثير والعدد، شديد والقوة، ولنا النصر على الفئة القليلة المستضعفة من أعدائنا، فهم يعتقدون ويثقون أنهم يتناصرون مع بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. والاستفهام: إنكاري، وإفراد المنتصر مع أن نَحْنُ ضمير الجمع، لأن المراد بالجميع كالجنس، لفظه لفظ واحد، ومعناه جمع فيه الكثرة.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.
عن أبي جهل: أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف، فقال: نحن ننصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار.
وأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو في قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك، فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول: «سيهزم الجمع، ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرّ» .(27/182)
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فعرفت تأويلها يومئذ.
ثم بيّن الله تعالى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم، بل الأمر أعظم منه، فإن الساعة موعدهم، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد إن بقوا مصرين على الكفر، فقال:
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة من عذاب الدنيا، كما أنه عذاب دائم خالد.
قال الرازي: هذا قول أكثر المفسرين، والظاهر أن الإنذار بالساعة لكل من تقدم، كأنه قال: أهلكنا الذين كفروا من قبلك، وأصرّوا، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا بخير منهم، فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة، فإتمام المجازاة بالأليم الدائم» .
ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الأخروي، فقال:
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي إن المشركين بالله الذين كذبوا رسله وكل كافر ومبتدع كافر ببدعته من سائر الفرق في حيرة وتخبط في الدنيا وبعد عن الحق والصراط المستقيم، وفي نيران مستعرة في جهنم يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الرازي: 29/ 68(27/183)
وجاء إطلاق المجرمين على (المشركين) في قوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن 55/ 41] .
وأكثر المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نازلة في القدرية، روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «1» .
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مجوس هذه الأمة: القدرية» «2»
وهم المجرمون الذين سماهم الله في قوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ وهو نيران في الآخرة.
وبيّن الإمام الرازي رحمه الله معنى القدرية الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية فيهم، فذكر أن كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه، فالجبري يقول: القدري من يقول: الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره، فهم قدرية، لأنهم ينكرون القدر. والمعتزلي يقول: القدري: هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق: الله قدرني، فهو قدري لإثباته القدر، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذين يعترفون بخلق الله، وليس من العبد: إنه قدري.
والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية: هو الذي ينكر القدر، وينكر قدرة الله تعالى، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها، ويدل عليه قوله: جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فإن مذهبهم ذلك. وأما المراد من
قوله صلى الله عليه وسلم: «مجوس هذه الأمة هم القدرية»
فهم القدرية
__________
(1) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.
(2)
رواه ابن ماجه عن جابر بلفظ «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى..»
وهو ضعيف.(27/184)
في زمانه، وهم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة، ونسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة «1» .
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي إن المجرمين الكفار يعذبون في النار، ويجرّون فيها على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها.
ثم أبان الله تعالى أن كل ما يحدث في الكون، ومنه أفعال العباد كلهم، هو مخلوق لله، فقال:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي إن كل شيء من الأشياء، وكل فعل من الأفعال في هذا الكون أو هذه الحياة خيرا كان أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر محكم مرتّب على حسب ما اقتضته الحكمة، وعلى وفق ما هو مقدر مكتوب في اللوح، معلوم لله ثابت في سابق علم الله الأزلي، قبل وجوده أو كونه، يعلم حاله وزمانه. والقدر: التقدير.
ونظير الآية قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان 25/ 2] وقوله سبحانه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 1- 3] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه.
وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه:
وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته (أي تسجيله) لها قبل حدوثها.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكسل» .
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة: «استعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل:
__________
(1) تفسير الرازي: 29/ 69- 70(27/185)
قدّر الله، وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن: لو تفتح عمل الشيطان» .
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف» .
ومن المعلوم أن الكتابة لا تغني الجبر والفرض على العباد، والعلم السابق بالأشياء لا يدل على الإلزام، وإنما يدل على أن جميع ما في الكون معلوم سابقا لله تعالى.
ثم أوضح الله تعالى نفاذ مشيئته في خلقه، ونفاذ قدره فيهم، فقال:
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء إنما يكون مرة واحدة، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان، فيكون الذي نأمر به بكلمة واحدة حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته، لا يتأخر طرفة عين. ولمح البصر: إغماض البصر، ثم فتحه. وهذا تمثيل وتقريب لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الأشياء، فهو كلمح البصر أو أقرب، كما قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
ثم أعاد تعالى التنبيه للحق والاتعاظ بهلاك السابقين، فقال:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي وتالله لقد أهلكنا أمثالكم وأشباهكم في الكفر يا معشر قريش، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل(27/186)
من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب، وهل من يتذكر ويتعظ بالمواعظ، ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة التي حلت بالأمم السابقة؟
وهذا كما قال تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ 34/ 54] .
وأتبع ذلك الإخبار عن إحصاء جميع أعمالهم ورقابة الله عليهم، فقال:
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أي إن جميع ما فعلته وتفعله الأمم والشعوب والأفراد من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي كتب (أو سجلات) الملائكة الحفظة، وما من شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ، وفي دواوين الملائكة وصحائفهم، صغيرة وكبيرة، وجليلة وحقيرة، كما قال تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 18] .
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة، إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا» .
ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء المؤمنين المتقين لمقارنته بجزاء الكافرين، ومقابلة الثواب بالعقاب وبالعكس، فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي إن المتقين، بعكس ما يكون الأشقياء فيه من النار والسحب على الوجوه فيها، مع التوبيخ والتقريع والتهديد، هم في بساتين غنّاء مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة بمختلف أنواع الأشربة من ماء وعسل ولبن وخمر غير مسكرة، وفي الجنة دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه، وفي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وفي منزلة وكرامة عند ربهم القادر على ما يشاء، والذي لا يعجزه شيء، فهو(27/187)
الملك العظيم، الخالق للأشياء كلها ومقدّرها، والمقتدر على ما يشاء، مما يطلبون ويريدون.
أخرج أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كل من ارتكب جرما وعوقب بعقاب معين، فإن ذلك العقاب مستحق لأمثال أولئك المجرمين، فليس كفار العرب أو قريش خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم، وليس لهم صك براءة أو وثيقة بالسلامة من العقوبة في الكتب المنزلة على الأنبياء.
2- زعم كفار قريش أنهم منتصرون على المؤمنين بسبب كثرة عددهم وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، غير أن موازين القوى البشرية تختل في ميزان القدرة والحكمة والتوفيق الإلهي: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 249] .
لذا قال تعالى هنا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيهزم جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وهذا من دلائل صدق النبوة، قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية، بل والسورة كلها مكية كما تقدم. أخرج البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ. وقد تقدم حديث ابن عباس وقصة أبي بكر يوم بدر.(27/188)
3- إن تعذيب الكفار لا يقتصر على الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة والذل والهوان، وإنما لهم عذاب آخر في الآخرة أشد وأعظم، وأدهى وأمرّ، وأدوم وأخلد..
4- إن الكفار والمشركين في حيدة عن الحق واحتراق في نار جهنم، ويجرّون على وجوههم في النار بقصد الإذلال والإهانة.
5- الله تعالى خالق كل شيء وخالق أفعال العباد كلها دون جبر ولا إكراه عليها: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 96] وقوله تعالى هنا: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فالله قادر، غير أنه لم يجبر أحدا على ما يفعله بل تركه لاختياره وحريته.
ويعد المشركون قدرية لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب، وطائفة القدرية من المسلمين يوصفون بهذا الوصف لقولهم: لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة، كالصلاة والزنا، وإنما العبد يخلق أفعال نفسه.
قال القرطبي: والذي عليه أهل السنة: أن الله سبحانه قدّر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى بقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا، والآجال بيد غيرنا.
قال أبو ذرّ رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب(27/189)
ويعذبنا؟ فقال: «أنتم خصماء الله يوم القيامة» «1» .
6- إن نفاذ أمر الله في خلقه سريع أسرع من لمح البصر، وما هي إلا كلمة واحدة، وهو قوله للأمر: «كن» .
7- كرر الله تعالى تحذيره وتوبيخه للمشركين، ونبّههم إلى أنه أهلك أشباههم في الكفر من الأمم الخالية، فهل من يتذكر؟! 8- جميع ما فعلته الأمم قبل المشركين وجميع ما تفعله بعدهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم في اللوح المحفوظ أو في كتب الحفظة، وكل ذنب صغير أو كبير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله، ومكتوب على الكفار إهلاكهم العاجل في الدنيا، وعذابهم الآجل المعد لهم في الآخرة على ما فعلوه، ومكتوب ما يفعله غيرهم.
9- وصف الله المؤمنين بعد وصف الكفار للمقارنة والموازنة والترغيب والترهيب، فالمؤمنون الأتقياء في جنان الخلد التي تجري أنهار الماء والخمر والعسل واللبن من تحت قصورهم، وهم في كرامة ومنزلة عند ربهم المالك القادر على ما يشاء، في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة.
والعندية هنا كما تقدم: عندية القربة والزلفى والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 17/ 148(27/190)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرّحمن جلّ ذكره
مكيّة أو: مدنيّة، وهي ثمان وسبعون آية.
مكيتها:
سورة الرحمن: في رأي ابن مسعود ومقاتل: مدنية كلها، وقد كتب في بعض المصاحف أنها مدنية، والأصح كما ذكر القرطبي وابن كثير والجمهور أنها مكية كلها، وهو قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. وهي ثمان وسبعون (78) آية. وعدها بعضهم (76) آية.
ودليل الجمهور والرأي الأصح: ما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ، فمن رجل يسمعوه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى، ثم قام عند المقام، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ ثم تمادى رافعا بها صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أمّ عبد؟ قالوا:
هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه، حتى أثّروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلّي الصبح بنخلة، فقرأ سورة (الرحمن) ومرّ النفر من الجن، فآمنوا به.(27/191)
وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب، فلك الحمد» «1» .
وفي هذا دليل على أنها مكية.
تسميتها:
سميت سورة الرحمن، لافتتاحها باسم من أسماء الله الحسنى وهو (الرحمن) وهو اسم مبالغة من الرحمة، وهو أشد مبالغة من (الرحيم) وهو المنعم بجلائل النّعم ولجميع الخلق، أما الرحيم: فهو المنعم بدقائق النعم، والخاص بالمؤمنين.
قال الإمام الطبري: الرحمن: لجميع الخلق، والرحيم: بالمؤمنين.
وتسمى أيضا في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا (عروس القرآن) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء عروس، وعروس القرآن: سورة الرحمن» .
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه:
1- هذه السورة بأسرها شرح وتفصيل لآخر السورة التي قبلها، ففي سورة القمر بيان إجمالي لأوصاف مرارة الساعة وأهوال النار وعذاب المجرمين، وثواب المتقين ووصف الجنة وأهلها، وفي هذه السورة تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال وعلى النحو المذكور من وصف القيامة والنار والجنة.
2- ذكر الله تعالى في السورة السابقة أنواع النقم التي حلت بالأمم السابقة
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث غريب.(27/192)
قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، وهنا ذكر أنواع الآلاء والنعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق على الناس جميعا. وافتتح السورة السابقة بما يدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر، وافتتح هذه السورة بما يدل على الرحمة والرحموت وهو إنزال القرآن.
3- ختمت السورة السابقة ببيان صفتين لله عز وجل يدلان على الهيبة والرهبة والعظمة وهما (المليك المقتدر) أي ملك عظيم الملك، قادر عظيم القدرة، وابتدئت هذه السورة بصفة أخرى بجوار ذلك وهي صفة (الرحمن) وبيان مظاهر رحمته وفضله ونعمه على الإنسان وفي الكون كله سمائه وأرضه، فهو سبحانه عزيز شديد مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار، رحمن منعم غافر للأبرار.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة الرحمن كسائر السور المكية المتميزة بقصر آياتها، وشدة تأثيرها ووقعها، ومزيد رهبتها، والمتعلقة بأصول الاعتقاد وهي التوحيد وأدلة القدرة الإلهية، والنبوة والوحي، والقيامة وما فيها من جنة ونار، وآلاء ونعم، وشدائد وأهوال.
عدّد الله تعالى في مطلع السورة آلاءه ونعمه العظمى، وأولها نعمة الدين والوحي، وإنزال القرآن وتعليمه عباده به، فهو النعمة الكبرى، وسنام الكتب السماوية ومصداقها. ثم أتبعه ببيان خلق الإنسان ليعلم أنه إنما خلقه للدين، والإفادة من الوحي وكتاب الله، ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان:
وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
ثم أحصى الله تعالى أصول النعم الظاهرة الكبرى في الكون من الشمس والقمر، والنجم (النبات) والشجر، والسماء القائمة على التوازن الدقيق،(27/193)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
والأرض ذات الفواكه والثمار والأشجار، والزروع والرياحين، مع الإشارة إلى خلق عالم آخر غير مادي ولا ملموس وهو الجنّ.
وأضاف إلى ذلك آية على قدرته الباهرة بالفصل بين البحر المالح والعذب، وإخراج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح، كإخراج الحب والعصف والريحان من التراب، وتسيير السفن في أعالي البحار.
ثم يطوى عالم الكون البديع بالفناء الحتمي، ولا يبقى سوى الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، ويبدأ بعدئذ عالم القيامة وما فيه من أهوال جسام، ومصير عصيب للمجرمين، وزجّ في نيران الجحيم.
ويقابل ذلك المشهد المؤلم مشهد النعيم في جنان الخلد لأهل الإيمان واليمين، والخوف من مقام الله، وفي تلك الجنان أنواع الأغصان، والعيون والأنهار، والفواكه، والفرش الحريرية الوثيرة والأرائك الخضر، والحور والولدان، والخيرات الحسان.
وناسب كل ذلك ختم السورة بتمجيد الله عزّ وجلّ، والثناء عليه، على ما تفضل به وأنعم على عباده: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.
أعظم النعم الإلهية الدنيوية والأخروية
- 1- نعمة القرآن والأشياء الكونية والأرضية
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)(27/194)
الإعراب:
الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ.. الرَّحْمنُ: مبتدأ، وجملة عَلَّمَ الْقُرْآنَ وما بعدها:
أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف، لأنها بقصد التعداد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلّ، كثّرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ الشَّمْسُ: مبتدأ، وَالْقَمَرُ: عطف عليه، وخبره:
إما قوله بِحُسْبانٍ وإما محذوف تقديره: يجريان بحسبان.
وَالسَّماءَ رَفَعَها.. السَّماءَ منصوبة بتقدير فعل، أي ورفع السماء، وتقرأ بالرفع على الابتداء، كقولهم: زيد لقيته، وعمرو كلّمته. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أن: إما ناصبة مع تقدير حذف حرف الجر، أي لئلا تطغوا، وإما مفسرة بمعنى «أي» فتكون «لا» الناهية، وتَطْغَوْا على الأول منصوب بأن، وعلى الثاني مجزوم ب «لا» .
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ الْحَبُّ: بالرفع معطوف على المرفوع قبله، ويقرأ بالنصب بفعل مقدر، أي وخلق، وَالرَّيْحانُ: بالرفع معطوف، وبالنصب معطوف على الْحَبُّ إذا نصب، وبالجر بالعطف على الْعَصْفِ.
البلاغة:
الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ سجع مرصع غير متكلف.
وَالسَّماءَ رَفَعَها ووَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
المفردات اللغوية:
الرَّحْمنُ هو الله تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية، وهو اسم من أسماء الله الحسنى. عَلَّمَ الْقُرْآنَ قدم ذلك لأن أصل النعم الدينية وأجلها هو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوحي، وأجلّ الكتب والمهيمن عليها والمصدّق(27/195)
لها. خَلَقَ الْإِنْسانَ الجنس الإنساني. الْبَيانَ التعبير عما في النفس، وإفهام الغير لما يدركه من تلقي الوحي، وتعرف الحق، وتعلم الشرع.
بِحُسْبانٍ يجريان بحساب دقيق منظم، مقدر في بروجهما ومنازلهما. وَالنَّجْمُ النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض، ولا ساق له كالحنطة والمقاثي. وَالشَّجَرُ الذي له ساق كالنخل وأشجار الفاكهة. يَسْجُدانِ ينقادان أو يخضعان لله فيما يريد بهما طبعا، كما ينقاد الساجد من المكلفين اختيارا أو طوعا. رَفَعَها خلقها مرفوعة المحل والرتبة. وَوَضَعَ الْمِيزانَ أثبت العدل والنظام والتوازن في الأشياء الكونية كلها،
قال صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السموات والأرض» .
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لئلا تجوروا فيما يوزن به، ولا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف.
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي قوّموا الوزن بالعدل. وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ تنقصوا الموزون، والتكرار مبالغة في التوصية به، وزيادة الحث على استعماله، وقرئ: «ولا تخسروا» بفتح التاء، وضم السين وكسرها وفتحها. وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي أثبتها وبسطها للخلق من الإنس والجن وغيرهم.
فِيها فاكِهَةٌ أنواع ما يتفكه به. الْأَكْمامِ أوعية الطلع والثمر، جمع كم: بالكسر.
وَالْحَبُّ كالحنطة والشعير والذرة وسائر ما يتغذى به. ذُو الْعَصْفِ ورق الزرع الجاف، وهو التبن. وَالرَّيْحانُ الورق المشموم الطيب الرائحة من النبات. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجن تكذبان؟ والاستفهام للتقرير، ذكرت في السورة إحدى وثلاثين مرة، فكلما ذكر تعالى نعمة وبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره معاتبا ومذكرا ومؤنبا: ألم أحسن إليك بكذا بالمال، ألم أحسن إليك بأن أنقذتك من كذا وكذا؟ ويكون التكرار لاختلاف ما يقرر به، وهذا شيء كثير مألوف في كلام العرب، كقول مهلهل يرثي كليبا:
على أنّ ليس عدلا «1» من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاة من الدّبور «2»
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب ... غداة تأثل الأمر الكبير
__________
(1) عدلا: أي مثلا ونظيرا.
(2) العضاة: كل شجر يعظم وله شوك، والدّبور: الريح التي تقابل الصّبا.(27/196)
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جاش «1» المستجير
وأنشد قصائد أخرى على هذا النمط.
التفسير والبيان:
الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ أي إن الله الواسع الرحمة لخلقه في الدنيا والآخرة أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم القرآن لتعليم أمته وجعله حجة على الناس قاطبة، ويسّر حفظه وفهمه على من رحمه. وهذا جواب لأهل مكة القائلين: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل 16/ 103] ولما كانت هذه السورة لتعداد نعم الله التي أنعم بها على عباده، قدّم بيان أجل النعم قدرا، وأكثرها نفعا وهي نعمة تعليم القرآن عباده، فإنها مدار سعادة الدارين. ثم امتن بنعمة خلق الإنسان أداة إعمار الكون، فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ أي أوجد جنس الإنسان، وعلّمه النطق والتعبير عما في نفسه، ليتخاطب مع غيره، ويتفاهم مع أبناء مجتمعة، فيتحقق التعاون والتآلف والأنس، وبذلك اكتملت عناصر التعليم: الكتاب والمعلم وهما القرآن والنّبي، والمتعلم وهو الإنسان، وطريق التعلم وكيفيته وهو البيان.
ثم ذكر الله تعالى أمورا علوية هي مجال التعلم، فقال:
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي إن الشمس المشرقة المضيئة للنهار، والقمر نور الليل يجريان بحساب دقيق منظم مقدر معلوم في بروج ومنازل معلومة، لا يعدوانها، ويدلان بذلك على اختلاف الفصول وعدد الشهور والسنين، ومواسم الزراعة، وآجال المعاملات وأعمار الناس، ويحققان الفوائد الكثيرة للإنسان والنبات والحيوان، ويتعاقبان بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب، كما
__________
(1) مخفف جأش وهو العزيمة، وقد تطلق على النفس مجازا.(27/197)
قال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام 6/ 96] .
ثم أورد الله تعالى بعض عوالم الأرض السفلى، فقال:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ أي أن النبات الذي لا ساق له، والشّجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله تعالى فيما أراد، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا، فإن ظهورهما من الأرض في وقت معين ولأجل محدد، وجعلهما غذاء للإنسان، ومتعة له شكلا ولونا ومقدارا وطعما ورائحة، انقياد لقدرة الله تعالى.
ثم نبّه الله تعالى إلى ظاهرة التوازن بين الأشياء، وضرورة التعادل في المبادلات، فقال:
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة فوق الأرض، وأقام التوازن في العالمين العلوي والسفلي الأرضي، وأثبت في الأرض العدل الذي أمر به، لئلا تتجاوزوا العدل والإنصاف في آلة الوزن أثناء مبادلة الأشياء، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 57/ 25] فهذا نهي عن الطغيان في الوزن.
وأكّد على التزام العدل أو التعادل، فقال:
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي قوّموا وزنكم بالعدل، ولا تنقصوه ولا تبخسوه شيئا، بل زنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى:
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء 26/ 182] .
وهذا التكرير لتأكيد الأمر بالعدل، ويلاحظ أنه سبحانه أمر أولا(27/198)
بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحدّ بالزيادة، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس.
ثم ذكر نعمته في الأرض مقابل السماء، فقال:
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي إنه تعالى كما رفع السماء، وضع الأرض ومهدها وبسطها لينتفع بها، وأرساها بالجبال الراسخات الراسيات ليستقر الأنام على وجهها، وهم الخلائق المختلفة الأنواع والألوان والأجناس والألسنة في سائر الأقطار، ثم أبان تعالى طرق معايش الناس فيها، فقال:
فِيها فاكِهَةٌ، وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ أي إن في الأرض كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح، وأشجار النخيل ذات أوعية الطلع الذي يتحول بعدئذ إلى تمر، وجميع ما يقتات من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة ونحوها، ذات العصف وهو بقل الزرع:
وهو أول ما ينبت منه، أو هو التبن، وكل مشموم من النبات ذي الورق الذي تطيب رائحته. وتنكير كلمة الفاكهة وتعريف النخل، لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص، أما ثمر النخيل فهو قوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان وعند جميع الأشخاص.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ أي فبأي النعم المتقدمة تكذبان يا معشر الجن والإنس. فالخطاب مع الثقلين: الإنس والجن. وقد عرفنا أن هذه الآية كررت في السورة إحدى وثلاثين مرة بعد كل خصلة من النعم، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، لتأكيد التذكير بالنعم، ولتقريرهم بها، وللتنبيه على أهميتها، والنعم محصورة في دفع المكروه وتحصيل المقصود. وقوله: رَبِّكُما لبيان أن مصدر هذه النعم من الله المربي الذي يتعهد عباده بالتربية والتنمية، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على ما أنعم.(27/199)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على ما يأتي:
1- عدد الله تعالى في سورة الرحمن نعمه العظمى الدينية والدنيوية والأخروية، وذكر بعد كل نعمة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ للتذكير بالنعمة والتنبيه عليها، مع إشاعة جو الرهبة والتخويف، والتوبيخ لمن أنكرها.
روي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة الرحمن فقال: أعدها، فأعادها ثلاثة، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
2- النعمة الأولى وهي أعظم النعم وأجلها: نعمة إنزال القرآن الذي بدّل حياة البشرية، وسيظل صوت الحق الأبلج إلى يوم القيامة.
3- النعمة الثانية والثالثة خلق جنس الإنسان لإعمار الكون، وتعليمه البيان أي الكلام والنطق والفهم، وهو مما فضّل به الإنسان على سائر الحيوان.
4- النعمة الرابعة والخامسة: خلق الشمس والقمر اللذين يجريان بحساب معلوم دقيق في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها، وبهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار.
5- النعمة السادسة: خلق النبات الشامل للنجم: وهو ما لا ساق له، والشجر الذي له ساق، وجعل ذلك منقادا لإرادة الله تعالى، وتوجيهه لنفع الإنسان.
6- النعمة السابعة والثامنة: جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة عن الأرض، ووضع العدل الذي أمر الله به في الأرض، وأقام التوازن في عالم السماء والأرض.(27/200)
7- النعمة التاسعة: خلق آلة الميزان لإقامة العدل في المعاملات، ومنع المنازعات وكفالة استقرار الناس وإبقاء ظاهرة الودّ والصفاء والوئام بينهم.
لذا نهى الله تعالى عن الطغيان في الوزن وهو تجاوز الحد أو الزيادة بعد الأمر بالتسوية والتعادل، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس في الوزن والكيل، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين 83/ 1- 3] ، وقال سبحانه: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود 11/ 84] .
قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا ابن آدم، كما تحبّ أن يعدل لك، وأوف كما تحبّ أن يوفّى لك، فإن العدل صلاح الناس.
8- النعمة العاشرة: خلق الأرض ممهدة مبسوطة للناس.
9- النعمة الحادية عشرة: اشتمال الأرض على متعة الحياة وأقوات الإنسان والحيوان، وهو كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار، وإنبات النخيل مصدر التمور، وإخراج الحبّ كالحنطة والشعير ونحوهما، والعصف: وهو التبن، أو ورق الشجر والزرع، والرياحين.
10- بعد إيراد هذه النعم، خاطب الله تعالى- كما تقدم- الجنّ والإنسان بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لتقرير النعمة وتأكيد التذكير بها. وقد تقدم
حديث الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: «ما لي أراكم سكوتا؟! للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد» .(27/201)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
- 2- توضيح أحوال بعض النعم
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
الإعراب:
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مرفوع إما بدل من ضمير خَلَقَ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو ربّ المشرقين.
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي يخرج من أحدهما، لأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرج من العذب، وإنما يخرج من الملح، فحذف المضاف وهو «أحد» وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] أي من إحدى القريتين، فحذف المضاف.
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير في الْمُنْشَآتُ.
البلاغة:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ بينهما مقابلة.
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ تشبيه مرسل مجمل، أي كالجبال في العظم والضخامة والثبات فوق الشيء.(27/202)
المفردات اللغوية:
خَلَقَ الْإِنْسانَ أصل الإنسان وهو آدم صَلْصالٍ طين يابس له صلصلة أي صوت، إذا نقر كَالْفَخَّارِ وهو الخزف: وهو ما طبخ من طين أو الطين المطبوخ حتى يتحجر. وَخَلَقَ الْجَانَّ أصل الجن وهو إبليس مارِجٍ لهب خالص لا دخان فيه مِنْ نارٍ بيان لمارج: فإنه في الأصل الشيء المضطرب.
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي مشرقي الشتاء والصيف، ومغربهما. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلها وأجراهما، يقال: مرجت الدابة في المرعى، أي أرسلتها فيه، والبحران: العذب والملح.
يَلْتَقِيانِ يتجاوران في المصب دون فصل مرئي بينهما. بَرْزَخٌ حاجز من قدرة الله تعالى.
لا يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على الآخر، فيختلط به أو يمتزج.
يَخْرُجُ مِنْهُمَا أي يخرج من أحدهما وهو الملح اللُّؤْلُؤُ صغار الدرّ المخلوق في الأصداف. وَالْمَرْجانُ كبار الدرّ أو الخرز الأحمر. الْجَوارِ السفن، جمع جارية.
الْمُنْشَآتُ المصنوعات المحدثات، أو الرافعات أشرعتها. كَالْأَعْلامِ كالجبال عظما وارتفاعا، جمع علم: وهو الجبل العالي الطويل.
المناسبة:
بعد تعداد أصول النعم على بني الإنسان وخلق العالم الكبير من السماء والأرض، أراد الله تعالى إيضاح أحوال بعضها، وهي أصل خلق الإنسان والجانّ وهو العالم الصغير، وبيان مشرق الشمس ومغربها وسلطانه عليهما، وعلى البحار وما فيها من لآلئ ومرجان، وما يسير على سطحها من مراكب عظيمة كالجبال، مما يدلّ على وحدانية الله وقدرته.
التفسير والبيان:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ أي خلق الله تعالى أصل الإنسان من طين يابس يسمع له صلصلة، أي صوت إذا نقر، يشبه الفخار، أي الخزف:
وهو الطين المطبوخ بالنار، للدلالة على صلابة الإنسان وتماسك أجزائه.(27/203)
وقد تنوعت عبارات القرآن في بيان هذا، باعتبار مراتب الخلق: مِنْ تُرابٍ، مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي طين متغير، أو مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لاصق باليد، من صلصال، فهذا إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولا من التراب، ثم صار طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم لازبا، ثم كالفخار، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك، ومن ذلك.
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ أي وأوجد الجنّ من طرف النار، وهو المارج، أي الشعلة الصاعدة ذات اللهب الشديد، التي لا لهب فيها، المختلط الألوان المضطرب، كالأصفر، والأحمر، والأخضر وغيرها.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله يا معشر الثقلين: الإنس والجن تكذبان أو تنكران مما هو واقع ملموس؟! رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي ربّ مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، وربّ مغربي الشمس في الصيف والشتاء، وبهما تتكون الفصول الأربعة، وتختلف أحوال المناخ من برد وحرّ واعتدال، وغير ذلك من المنافع العظيمة للإنسان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟
وأما قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج 70/ 40] فذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس.
وقوله سبحانه في آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل 73/ 9] ، فالمراد منه جنس المشارق والمغارب.
ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس(27/204)
قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ فالشمس تشرق صيفا من مدار السرطان في نصف الكرة الشمالي، ومن مدار الجدي في الجنوب صيفا، حيث يكون الشتاء في الشمال، فلو ثبتت الشمس في شروق وغروب واحد لتعطلت المواسم والزراعة في الصيف والشتاء.
وبعد بيان نعم الله في البر، ذكر نعمه في البحر، فقال:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ أي أرسل البحرين ملحا وعذبا متلاقيين، لا فصل بينهما في مرأى العين، ومع ذلك فبينهما حاجز يحجز بينهما، لا يبغي أحدهما على الآخر، بالامتزاج والاختلاط، وإنما يظلان منفصلين، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان 25/ 53] .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي هذه النعمة أو المنفعة تكذبان أيها الإنسان والجن؟ فالعذب للشرب وسقي النبات والحيوان، والملح لتطهير تجمع الماء من الجراثيم، وإصلاح طبقة الهواء، وإخراج اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي يخرج من أحدهما- على حذف مضاف- وهو الملح اللُّؤْلُؤُ: وهو الدّر الذي يتكون في الصدف، وَالْمَرْجانُ: الخرز الأحمر المعروف.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فبأي نعم الله الظاهرة لكم تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه، ولا يقدر على إنكاره.
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي والله الذي خلق وألهم صنع(27/205)
السفن الجارية في البحر التي رفع بعض خشبها على بعض وركّب، ورفعت سواريها وأشرعتها في الهواء كالجبال الشاهقة، فهي تنتقل في البحار بالركاب والحمولات والبضائع والأقوات والأرزاق والآلات من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر، حتى بلغت حمولة بعض ناقلات النفط خمس مائة ألف طن، بالإضافة لحاملات الطائرات والبوارج الحربية المدمرة، والغواصات الذرية الرهيبة.
ولو شاء تعالى لجعل البحر ساكنا ولما تمكنت السفن أن تطفو فوق الماء. فقوله:
الْمُنْشَآتُ إما المرفوعات، وإما المحدثات الموجودات. وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال، وإن كانت المنشآت تطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة. وإنما قال: وَلَهُ الْجَوارِ خاصة، مع أن له السموات وما فيها والأرض وما عليها، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى، حيث لا تصرف لأحد في الفلك.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجنّ؟
لقد خلقت هذه النعمة العديدة لكم، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة، أو كيفية إجرائها في البحر، أو دورها في تقريب المسافات والاتصال بين أجزاء العالم المتباعدة، ونقل تجاراته وصناعاته، للاستفادة منها في أقاليم أخرى.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- إن أصل خلق الإنسان من تراب، ثم طين، فحمأ مسنون، ثم لازب، ومرد غذائه إلى التراب والماء، ومصيره في النهاية إلى الأرض التي خلق منها، ثم يخرج منها يوم البعث والمعاد.
2- وإن خلق أصل الجن من لهب النار، أو من الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد، المختلط بعضه ببعض: أحمر وأصفر وأخضر.(27/206)
3- الله سبحانه ربّ المشرق والمغرب، وربّ المشرقين والمغربين في الصيف والشتاء، وربّ المشارق والمغارب، أي مطالع الشمس ومغاربها في كل يوم.
4- أرسل الله في البحار والمحيطات الكبرى البحرين: الملح والعذب، وجعل بينهما حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر، وتلك آية كبري على قدرة الله وعظمته.
5- أخرج الله للناس ومنافعهم من البحار المالحة اللؤلؤ والمرجان، كما أخرج من التراب الحبّ والعصف والريحان. وإنما قال: مِنْهُمَا وإنما يخرج ذلك من الملح لا العذب، لأن العرب تجمع الجنسين، ثم تخبر عن أحدهما، كقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الأنعام 6/ 130] ، وإنما الرسل من الإنس دون الجن، كما قال الكلبي وغيره. وقال الزجاج: قد ذكرهما الله، فإذا خرج من أحدهما شيء، فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 71/ 15- 16] والقمر في سماء الدنيا، ولكن أجمل ذكر السبع، فكأن ما في إحداهنّ فيهنّ.
وقال أبو علي الفارسي كما تقدم: هذا من باب حذف المضاف، أي من أحدهما، كقوله تعالى: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] ، أي من إحدى القريتين.
6- لا يملك الفلك في البحر في الحقيقة أحد سوى الله، إذ لا تصرف لأحد فيها، لذا امتن الله تعالى على الناس في تسيير السفن في البحار، وأموال وأرواح ركابها في قبضة قدرة الله تعالى فوق الماء، كما هو الحال في إقلاع الطائرات في أعالي الفضاء فوق الهواء.
والسفن في البحر كالجبال في البر، والطائرات في الجو كالطيور والشهب،(27/207)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
ومن المعلوم أن الطائرات في الفضاء كالسفن في البحار تحمل مئات الأطنان.
7- أردف الله تعالى بعد كل نعمة قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ للتقرير بالنعم المختلفة المتعددة، والتوبيخ على التكذيب بها، كما تقدم بيانه، ومجمل المذكور هنا وما قبله: هل يستطيع أحد إنكار بدء خلق الإنسان والجن، وسلطان الله تعالى على المشرق والمغرب والشمس والقمر، والنجم والشجر، والزرع والحب، والأنهار والبحار، والدر والمرجان، وخلق مواد السفن، والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر، بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى. والإنسان وإن كان هو الصانع في الظاهر، ولكن صنعه بإلهام الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده.
فناء النعم والكون كله وبقاء الله تعالى
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
البلاغة:
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ مجاز مرسل، أي ذاته المقدسة، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
المفردات اللغوية:
كُلُّ مَنْ عَلَيْها من على الأرض من إنسان وحيوان وموجودات ومصنوعات ومَنْ لتغليب العقلاء، أو المراد: من الثقلين: الإنس والجن، فالضمير على الصحيح يعود إلى الأرض.
فانٍ هالك. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته. ذُو الْجَلالِ العظمة. وَالْإِكْرامِ الإفضال العام بأنعمه على المؤمنين. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما ذكرنا قبل، ومن الإخبار بالفناء الذي يعقبه البقاء والحياة الأبدية.(27/208)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يطلبون منه صراحة أو بلسان الحال كل ما يحتاجون إليه من الحدوث والبقاء للذوات، والسعادة والرزق في الأحوال. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كل وقت هو في أمر من الأمور، يحدث أشخاصا، ويجدّد أحوالا على ما سبق به قضاؤه في الأزل، من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال، وإغناء وإعدام، وإجابة داع وإعطاء سائل، وغير ذلك.
المناسبة:
بعد تعداد النعم الدينية والدنيوية والأخروية، والاستدلال على قدرة الله وتوحيده في الأنفس والآفاق، نعى الحق سبحانه وتعالى الكون بأجمعه، وأخبر بأن جميع النعم الدنيوية والكائنات فانية، ولا يبقى إلا ذات الله تعالى.
التفسير والبيان:
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي جميع من على الأرض من الناس والحيوانات، وكذلك أهل السموات إلا من شاء الله، سيفنون ويموتون، وتنتهي حياتهم جميعا، ولا يبقى إلا ذات الله سبحانه ذو العظمة والكبرياء، والإفضال والإكرام الذي يكرم به المخلصين من عباده، وهذه الصفة (صفة الجلال والإكرام) من عظيم صفات الله، وأعظم النعمة مجيء وقت الجزاء عقب ذلك،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس: «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموا ذلك في الدعاء، ومرّ صلى الله عليه وسلم برجل، وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استجيب لك» .
وفي الدعاء المأثور: يا حيّ يا قيّوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.
ونظير الآية: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص 28/ 88] قال ابن كثير: وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية(27/209)
الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يجلّ فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف 18/ 28] وكقوله إخبارا عن المتصدقين: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الدهر 76/ 9] . وقال ابن عباس: ذو الجلال والإكرام: ذو العظمة والكبرياء «1» .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن، فالناس والمخلوقات جميعا يتساوون كلهم في الوفاة، ثم يصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل، والفناء طريق للبقاء، والحياة الأبدية، فكان في الفناء نعمة التساوي في الموت، ونعمة تعاقب الأجيال، ونعمة العدل المطلق، ونعمة الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الخالدة الباقية دار الجزاء والثواب، ذات النعيم المادي والروحي الشامل، فكيف يكون منكم التكذيب بهذه النعم العظيمة؟! يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي يطلب منه جميع أهل السماء والأرض كل ما يحتاجون إليه، فيسأله أهل السموات المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا (المغفرة والرزق) وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة، فلا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، والمادة تحتاج إلى ما يناسبها، والنبات يحتاج إلى ما يبقيه، والإنسان بحاجة إلى مقومات الحياة المادية والمعنوية، والحيوان مفتقر إلى عناصر البقاء.
وهذا إخبار عن غناه تعالى عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان الحال والمقال، وأنه سبحانه كل يوم ووقت في شأن، ومن شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويغني ويفقر، ويعزّ ويذلّ، ويمرض
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 273(27/210)
ويشفي، ويعطي ويمنع، ويغفر ويعاقب، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
أخرج ابن جرير والطبراني وابن عساكر عن عبد الله بن منيب الأزدي قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: «أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان؟ فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها، ولا يتيسر لمكذّب تكذيبها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات ما يأتي:
1- الفناء أمر حتمي لجميع الخلائق في السموات والأرض يوم القيامة، والبقاء بعدئذ لله ذي العزة والجبروت، والعظمة والكبرياء، والتكريم عن كل شيء لا يليق به من الشرك وغيره، والإكرام لعباده المخلصين.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ.. قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فنزلت: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
2- يطلب أهل السموات والأرض جميع ما يحتاجون إليه، فيسأل أهل السموات المغفرة، ويسأله أهل الأرض المغفرة والرزق، والله كل يوم في أمر أو شأن، ومن شأنه أن يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويرزق ويمنع.
روى البخاري في تاريخه وابن ماجه وابن حبان عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» .(27/211)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
3- لا مجال للتكذيب بشيء من نعم الله في التسوية بين الخلق في الموت والفناء، والانتقال إلى دار الجزاء والثواب، وإجابة دعائهم وتحقيق الخير والرزق والمغفرة لهم في الدنيا والآخرة.
الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
الإعراب:
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ نُحاسٌ بالرفع: معطوف على قوله شُواظٌ وقرئ بالجر، ولا يجوز عطفه على نارٍ لأن الشواظ لا يكون من النحاس، لأن النحاس هاهنا بمعنى الدخان، وإنما هو محمول على تقدير: شواظ من نار، وشيء من نحاس، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه.
البلاغة:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ استعارة تمثيلية، شبه محاسبة الخلائق وجزاءهم يوم القيامة بالتفرغ للأمر، والله تعالى لا يشغله عن شأن، وإنما ذلك على سبيل المثال، إذ شبه تعالى ذاته في المجازاة بحال من فرغ للأمر.
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا.. فَانْفُذُوا الأمر هنا للتعجيز، فقوله فَانْفُذُوا أمر تعجيزي.(27/212)
المفردات اللغوية:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، أو سنقصدكم بالفعل وفيه تهديد.
الثَّقَلانِ الإنس والجن. أَنْ تَنْفُذُوا إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض، هاربين من الله، فارّين من قضائه. أَقْطارِ جوانب جمع قطر. فَانْفُذُوا فاخرجوا، وهو أمر تعجيز. لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ. إِلَّا بِسُلْطانٍ بقوة وقهر. شُواظٌ لهب خالص لا دخان فيه. وَنُحاسٌ ودخان لا لهب. فيه. فَلا تَنْتَصِرانِ لا تمتنعان من ذلك العذاب، بل تساقون إلى المحشر.
المناسبة:
بعد بيان النعم التي أنعم الله بها على الإنسان من تعليم العلم وخلقه وخلق السماء والأرض وما أودع فيهما، والإخبار عن فنائها يوم القيامة، أخبر الله تعالى عن مجازاة الناس وحسابهم يوم القيامة، فيجازى كل عامل بما عمل، ويثاب على ما قدم من عمل صالح، ولا مناص ولا مهرب من العقاب، ولا من الامتناع منه.
التفسير والبيان:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم، أيها الثقلان: الإنس والجن. وسموا الثّقلين، لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا.
وهذا وعيد شديد من الله سبحانه للعباد، علما بأن الله لا يشغله شيء عن شيء.
جاء في الصحيح تفسير الثقلين بما ذكر: «يسمعه كل شيء إلا الثقلين»
وفي رواية: «إلا الإنس والجن»
وفي حديث الصور: «الثقلان: الإنس والجن» .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الثقلين؟
فإن من نعمه إنصاف الخلائق، بإثابة المحسنين، ومعاقبة المجرمين، فلا يظلم أحد شيئا.(27/213)
ولا إفلات من هذا الجزاء، فقال تعالى:
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فَانْفُذُوا، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي أيها الإنس والجن، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره، وأمره وسلطانه، فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم، لا تقدرون على التخلص والنفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، فلا يمكنكم الهرب. والمعشر: الجماعة العظيمة، والأدق أن المعشر: العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه.
ونظير الآية: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ، جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس 10/ 27] .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان؟ ومن ذلك تقديم التنبيه والتحذير، فذلك يرغّب المحسن، ويرهب المسيء، والله قادر على عقاب الجميع، فلا يفلت أحد، كما أنه تعالى يعفو مع كمال القدرة، وتلك نعمة أخرى. وإنما جمع اسْتَطَعْتُمْ فهو لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى.
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ، وَنُحاسٌ، فَلا تَنْتَصِرانِ أي لو خرجتم يسلّط عليكم أيها الإنس والجن سيل من النار أو لهب خالص لا دخان معه من النار، ودخان مع النار، أو يصب على رؤوسكم نحاس مذاب، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. فالنحاس: إما الدخان الذي لا لهب له، أو النحاس المذاب الذي يصب على الرؤوس. وإنما ثنى ضمير عَلَيْكُما فهو لبيان الإرسال على النوعين، لا على كل واحد منهما، ولا على جميع الإنس والجن. وكذلك(27/214)
تثنية فَلا تَنْتَصِرانِ أراد به النوعين أي لا ينصر بعضكم بعضا أيها الجن والإنس.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن، فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي، بإثابة الأول، والانتقام من الثاني من نعم الله سبحانه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لا بد من الحساب والجزاء على أعمال الناس والجن يوم القيامة، وسيتم القصد بالفعل للمجازاة أو المحاسبة. وهذا وعيد وتهديد من الله لعباده، ليحذروا يوم الحساب، ويرهبوا يوم الجزاء.
2- الحساب دليل واضح على أن الجن مخاطبون بالتكاليف الشرعية كالإنس تماما، فهم مكلفون مأمورون منهيون، مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.
3- لا مفرّ ولا مهرب ولا مناص من الجزاء والحساب على أعمال الإنس والجن، ولا يملكون إطلاقا التخلص والهروب من العذاب إلا بسلطان من الله يجيرهم، وإلا فلا مجير لهم.
والسبب في تقديم الجن على الإنس في هذه الآية: أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن. أما الإتيان بمثل القرآن فهو بالإنس أليق إن أمكن، لذا قدم الإنس على الجن في ذلك، في قوله تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء 17/ 88] .(27/215)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
4- لو خرجتم أيها الإنس والجن من ناحية ما، أرسل عليكم شواظ من نار (لهب خالص) ودخان أو نحاس مذاب يصب على رؤوسكم، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ أو الخروج، ولا ينصر بعضكم بعضا يا معشر الجن والإنس.
5- كيف يصح لأحد من الإنس والجن إنكار أو تكذيب شيء من هذه النعم؟ فإن الحساب حق والجزاء حق، يستهدف كل منهما إحقاق الحق التام، وإرسال العدل المطلق، والتخويف والتحذير أو الترهيب يحقق الزجر والامتناع من المخالفة والعصيان، والإذعان التام والإقرار بعظمة سلطان الله، وملكه وقدرته.
تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
الإعراب:
فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ الجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل، وليس في فَيُؤْخَذُ ضمير يعود على المجرمين وإنما يقدر ضمير في رأي البصريين، أي يؤخذ منهم أو يؤخذ بنواصيهم وأقدامهم. ويرى الكوفيون أن الألف واللام يقومان مقام الضمير، مثل:
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي أبوابها، وكقولهم: زيد أما المال فكثير، أي ماله. ويأتي البصريون ذلك، ويقدرون: مفتحة لهم الأبواب منها، وزيد أما المال فكثير له.(27/216)
البلاغة:
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً.. تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي كالوردة في الحمرة.
المفردات اللغوية:
انْشَقَّتِ تصدعت. وَرْدَةً حمراء، أي كالوردة في الحمرة. كَالدِّهانِ مذابة كالدهن، أو كالأديم (الجلد) الأحمر، على خلاف ما هي عليه الآن، وجواب فَإِذَا محذوف تقديره: فما أعظم الهول. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي الناس والجن، وعدم المسؤولية حينما يخرجون من قبورهم، ويحشرون إلى الموقف. وأما قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر 15/ 92] ونحوه فهو حين الحساب في موقف الحشر.
بِسِيماهُمْ علامتهم. بِالنَّواصِي جمع ناصية: وهي مقدّم الرأس. وَالْأَقْدامِ جمع قدم: وهي القدم المعروفة، ويؤخذ بهما مجموعا بينهما. يَطُوفُونَ يسعون. بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يترددون بين النار التي يحرقون بها، وبين ماء حارّ شديد الحرارة، يسقونه إذا استغاثوا من حرّ النار.
المناسبة:
هذه الآيات حلقة أخرى تتعلق بأحوال الآخرة والجزاء، فبعد أن ذكر الله تعالى رهبة الحساب وحتميته واستحالة التخلص منه أو الهرب من إيقاعه، ذكر تعالى ما يطرأ على العالم من تغير وتبدل واختلال النظام، حيث تتصدع السماء وتذوب كالدهن أو الزيت، ويتميز المجرمون عن غيرهم بعلامات خاصة، فلا حاجة لسؤالهم حينئذ، ثم يزجّ بهم في جهنم، بأخذهم بنواصيهم وأقدامهم، ويطاف بهم بين النار التي يحترقون بها، وبين الماء المغلي البالغ نهاية الشدة في الحرارة، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: هذه جهنم التي كذبتم بها.
التفسير والبيان:
عقب الله بقوله: فَإِذَا لأن الفاء للتعقيب، بعد قوله:(27/217)
فَلا تَنْتَصِرانِ أي في وقت إرسال الشواظ عليكما، والمعنى: فإذا انشقت السماء وذابت، وصارت الأرض والجو والسماء كلها نارا، فكيف تنتصران؟
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ أي فإذا جاء يوم القيامة، انصدعت السماء، وتبددت وصارت كوردة حمراء، وذابت مثل الدهن، أو تلونت كالجلد الأحمر، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء، أو صفراء، أو زرقاء، أو خضراء، وذلك من شدة الأمر، وهول يوم القيامة.
ونظائر الآية كثير، مثل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 84/ 1] ، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار 82/ 1] ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة 69/ 16] ، يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان 25/ 25] .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
فإن الخبر بذلك فيه رهبة ورعب يزجر السامع عن الشرّ، وبأي نعم الله تكذبان مما يكون بعد ذلك؟
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي يوم تنشق السماء، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم، ولأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال، وحفظها على العباد. وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين، بل يعرفون بسيماهم.
وهذا كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات 77/ 35- 36] ، ثم يسألون بعدئذ في حال أخرى يوم يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم في موقف الحساب، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا(27/218)
كانُوا يَعْمَلُونَ
[الحجر 15/ 92] ، وقال سبحانه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات 37/ 24] .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم، ومن هذا التخويف والإنذار المسبق، ليرتدع الناس عن الذنوب، ويثوبوا إلى رشدهم.
ثم أبان الله تعالى سبب عدم السؤال، فقال:
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ أي يعرف الكفار والفجار يوم خروجهم من القبور بعلاماتهم، وهي كونهم سود الوجوه، زرق العيون، يعلوهم الحزن والكآبة، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما، فتجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي، وتلقيهم الملائكة في النار. والناصية: مقدّم شعر الرأس. وإفراد فَيُؤْخَذُ مع أن المجرمين جمع، وهم المأخوذون، لأن فَيُؤْخَذُ متعلق بقوله تعالى: بِالنَّواصِي كما يقال: ذهب بزيد.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي النعم تتجرأان على تكذيبها، فقد أنذرتم وحذرتم مسبقا، وعرفتم المصير المنتظر في عالم الآخرة؟
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ها هنا إضمار، أي يقال لهم عند ذلك توبيخا وتأنيبا: هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها التي كنتم تكذبون بوجودها، وتنكرون حدوثها، ها هي حاضرة أمامكم ترونها عيانا.
وهم تارة يعذبون في الجحيم للاحتراق، وتارة يسقون من الحميم: وهو الشراب أو الماء المغلي الشديد الحرارة، الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، كقوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي(27/219)
الْحَمِيمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ
[غافر 40/ 71- 72] ، وقوله سبحانه: ... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ.. [الحج 22/ 19- 21] .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي بأي النعم تكذبان بعد هذا البيان والإنذار والاعلام المسبق؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن انشقاق أو تصدع السماء يحدث عقب إرسال الشواظ من النار، وإذا انصدعت السماء صارت في حمرة الورد وذوبان الدهن كالجلد الأحمر الصرف، فالتشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان، والتشبيه بالوردة في اللون.
2- إن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل الإنس والجن في وقت ولا يسألون في وقت آخر، فلا يسألون وقت خروجهم من القبور، وإذا استقروا في النار، ويسألون في موقف الحساب قبل الصيرورة إلى الجنة أو إلى النار. والمراد من السؤال على المشهور: أنهم لا يقال لهم: من المذنب منكم؟
3- يتميز الكفار المجرمون والفجار عن المؤمنين بعلامات بارزة، فهم سود الوجوه، زرق العيون، تعلوهم الكآبة والحزن كما تقدم، وتأخذ الملائكة بنواصيهم (أي بشعور مقدم رؤوسهم) وأقدامهم، فيقذفونهم في النار.
4- يقال للمجرمين تقريعا وتوبيخا، وتصغيرا وتحقيرا: هذه النار التي أخبرتم بها، فكذبتم، ويعذبون مرة في الحميم (الشراب الشديد الحرارة جدا) ومرة في الجحيم (النار) .
5- امتن الله على عباده بقوله بعد كل نعمة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(27/220)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
لأن معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك.
أنواع نعم الله على المتقين في الآخرة
- 1- وصف الجنات
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
الإعراب:
ذَواتا أَفْنانٍ ذَواتا تثنية (ذات) التي أصلها (ذوية) فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصارت (ذوات) إلا أنه حذفت الواو من الواحد للفرق بين الواحد والجمع.
ودل عود الواو في التثنية على أصلها في الواحد.
مُتَّكِئِينَ حال منصوب من المجرور باللام في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ أي ثبت لهم جنتان في هذه الحال، أو عامله محذوف أي يتنعمون.(27/221)
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ: في موضع نصب على الحال من قاصِراتُ الطَّرْفِ وتقديره: فيهن قاصرات الطرف مشبهات الياقوت والمرجان.
البلاغة:
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ جناس ناقص أو جناس الاشتقاق، لتغير الشكل والحروف. فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إيجاز بحذف الموصوف وإبقاء الصفة، أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن.
المفردات اللغوية:
لِمَنْ خافَ لكل من خاف، بأن كفّ عن المعاصي واتبع الطاعات، والأصل في الخوف:
توقع مكروه في المستقبل، وهو ضد الأمن. مَقامَ رَبِّهِ قيامه بين يدي ربه للحساب، فترك معصيته، أي خاف الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، أو قيامه على أحواله واطلاعه عليه.
جَنَّتانِ روحانية وجسمانية. أَفْنانٍ أغصان جمع فنن كطلل، أو أنواع من الأشجار والثمار، جمع فنّ. فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل، قيل: إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل.
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ من كل نوع من أنواع الفاكهة. زَوْجانِ صنفان أو نوعان:
رطب ويابس. فُرُشٍ جمع فراش للنوم والراحة. بَطائِنُها جمع بطانة وهي القماش الرقيق الداخلي. إِسْتَبْرَقٍ ما غلظ من الديباج وخشن، أي الحرير الثخين، والظهائر: من السندس.
وَجَنَى ثمر. دانٍ قريب التناول، يناله القائم والقاعد والمضطجع.
فِيهِنَّ أي في الجنتين وما اشتملتا عليه من الفرش والقصور والعلالي والحور ونحوها أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) . قاصِراتُ الطَّرْفِ أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن، لا ينظرن إلى غيرهم، وهن من الحور أو من نساء الدنيا. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يمسسهن أو لم يفتضهن، وفيه دليل على أن الجن يطمثون.
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ لا من الإنس ولا من الجن.
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ في صفاء الياقوت أو في حمرة الوجه، والياقوت: الحجر الأملس الصافي المعروف. (والمرجان) هو الخرز الأحمر، أو صغار اللؤلؤ والدر في بياض البشرة وصفائها، وتخصيص الصغار لأنهن أنصع بياضا من الكبار. هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل. إِلَّا الْإِحْسانُ في الثواب، وهو الجنة.(27/222)
سبب النزول: نزول الآية (46) :
وَلِمَنْ خافَ..: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة عن عطاء: أن أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم القيامة والموازين والجنة والنار، فقال: وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر، تأتي علي بهيمة تأكلني، وأني لم أخلق، فنزلت: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يلقاه المجرمون: المشركون وأمثالهم من الكفار والفجار العصاة من ألوان العذاب الأخروي، ذكر هنا ما أعدّه الله عز وجل للمؤمنين المتقين الذين يخافون ربهم في السر والعلن من أنواع النعيم الروحي والمادي في الجنة، من قصور، ورياض غنّاء، وبساتين خضراء، وأنهار جارية، وفواكه متنوعة، وفرش حريرية، ونساء حسان كالياقوت صفاء، واللؤلؤ أو الدر بياضا، بسبب ما قدموا من صالح الأعمال. والخلاصة: أنه لما ذكر أحوال أهل النار، ذكر ما أعدّ للأبرار.
التفسير والبيان:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي ولمن خشي الله وراقبه، فهاب الموقف الذي يقف فيه العباد بين يدي الله للحساب، وحسب الحساب لإشراف الله تعالى على أحواله، واطلاعه على أفعاله وأقواله جنتان:
روحية وجسمانية، أما الروحية فهي رضا الله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] وأما الجسمانية فهي متع مادية كمتاع الدنيا وأسمى، بسبب أعماله(27/223)
الصالحة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان، فإن نعيم الجنان لا مثيل له، فضلا عن الخلود والدوام فيه، ولا مانع أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة.
والصحيح- كما قال ابن عباس وغيره- أن هذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا.
أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي موسى الأشعري قال: «جنان الفردوس أربع جنات: جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء، على وجهه، في جنة عدن» .
وأخرج ابن جرير والنسائي عن أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟
فقال: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟
فقال: «وإن رغم أنف أبي الدرداء» .
ثم وصف هاتين الجنتين، فقال: ذَواتا أَفْنانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي ذواتا أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، أو ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس، فإن هذا الجمال وهذه النعمة لمما يحرص عليها العقلاء.
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، فهما عينان تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل. فبأي نعم الله يحدث التكذيب؟ فتلك حقيقة قطعية، ونعمة عظيمة.(27/224)
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في الجنتين من كل نوع يتفكه به ومن جميع أنواع الثمار صنفان ونوعان، يستلذ بكل نوع منهما، أحدهما رطب والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي شيء من هذه النعم تكذبان يا إنس ويا جن؟ قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني أن بين ذلك بونا عظيما، وفرقا واضحا.
وبعد ذكر الطعام ذكر الفراش، فقال:
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي إن أهل الجنة يضطجعون ويجلسون ويتنعمون على فرش بطائنها (وهي التي تحت الظهائر) من إستبرق (وهو ما غلظ من الديباج، أو الديباج الثخين) قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق، فما الظواهر؟ قال:
هذا مما قال الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] .
وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.
وثمر الجنتين قريب التناول منهم متى شاؤوا وعلى أي صفة كانوا، كما قال تعالى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة 69/ 23] وقال سبحانه: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [الإنسان 76/ 14] أي لا تمتنع ممن تناولها، بل تميل إليه من أغصانها. فبأي شيء من هذه النعم يحصل التكذيب والإنكار؟! ثم ذكر تعالى أوصاف الحور والنساء، فقال:
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما(27/225)
تُكَذِّبانِ
أي هناك نساء في الجنتين المذكورتين وما فيهما من أنهار وعيون وفرش وغيرها، أو في هذه الآلاء (النعم) المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) أو في الجنان، لأن ذكر الجنتين يدل عليه، ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات، وهن نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لم يمسسهن ولم يفتضهن ولم يجامعهن قبلهم أحد من الإنس والجن، لأنهن خلقن في الجنة، فبأي النعم تكذبان أيها الثقلان؟! والطمث: الافتضاض. ثم نعت (وصف) النساء بقوله:
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي كأن تلك النسوة الياقوت صفاء، وصغار اللؤلؤ بياضا، فبأي نعمة تكذبان؟
والياقوت: هو الحجر الصافي الكريم المعروف، والمرجان: حجر يؤخذ من البحر، وهو الأحمر المعروف. قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان. فجعلوا المرجان هنا اللؤلؤ.
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب درّي في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أغرب» .
ثم بيّن الله تعالى سبب هذا الثواب فقال:
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فهاتان الجنتان لأهل الإيمان وصالح الأعمال، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] .(27/226)
أخرج البغوي والبيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» .
وبما أن الذي ذكر هنا نعم عظيمة لا يقابلها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال تعالى بعد ذلك: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- لكل من خاف المقام بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية، أو خاف إشراف ربه واطلاعه عليه جنتان، أي لكل خائف جنتان على حدة،
ذكر المهدوي والثعلبي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنتان: بستانان في عرض الجنة، كل بستان مسيرة مائة عام، في وسط كل بستان دار من نور، وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت، وشجرها ثابت» .
2- تلك الجنتان: ذواتا ألوان من الفاكهة والأغصان والأشجار والثمار، وفي كل واحدة منهما عين جارية، تجريان بالماء الزلال، إحدى العينين: التسنيم، والأخرى السلسبيل، كما تقدم من قول الحسن.
وفيهما أيضا من كل ما يتفكه به صنفان أو نوعان، وكلاهما حلو يستلذ به، قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وثمر الجنة (الجنى) قريب التناول لكل إنسان، خلافا لجنة دار الدنيا.
3- أهل الجنة يضطجعون ويجلسون على فرش بطائنها (جمع بطانة: وهي(27/227)
التي تحت الظهارة) من إستبرق (ما غلظ من الديباج وخشن) وإذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة؟ كما قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهذا يدل على نهاية شرفها، وتمتع أهلها بالثواب والنعيم العظيم.
والظاهر أن لكل واحد فرشا كثيرة، لا أن لكل واحد فراشا واحدا. والاتكاء يدل على صحة الجسم وفراغ القلب والشعور بالمتعة والسرور البالغ.
4- في الجنات وما فيها من ألوان النعمة نساء قاصرات الأبصار على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، بكارى، لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد.
5- في قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة، ويكون لهم فيها جنيّات، ودليل على أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، والطمث: الافتضاض أو الجماع، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزّهن. قال ضمرة: للمؤمنين من الجن أزواج من الحور العين، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن.
6- من أوصاف تلك النساء: أنهن في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلّة، حتى يرى مخّها»
وذلك بأن الله تعالى يقول: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ. والياقوت كما تقدم: حجر أملس شديد الصفاء. والمرجان: صغار الدر أو اللؤلؤ.
7- ترتيب النعم في غاية الحسن، فإن الله تعالى ذكر أولا المسكن وهو الجنة، ثم بيّن ما يتنزه به من البساتين، فقال: ذَواتا أَفْنانٍ، ... فِيهِما عَيْنانِ ...
ثم ذكر ما يتناول من المأكول، فقال: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه من الحوريات.(27/228)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
8- أردف الله تعالى كل نعمة بتوبيخ من ينكرها أو يكذب بها، ومنها نعم تقابل بعمل، ونعم هي مجرد فضل وامتنان دون مقابلة عمل.
9- هذه النعم في الغالب جزاء أو ثواب العمل الصالح في الدنيا، وهل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة؟ وآية هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ.. فيها دلالات واضحة ثلاث: هي ما يأتي:
الأولى- رفع التكليف عن العوام والخواص في الآخرة، وأما الحمد والشكر فهو لذة زائدة على كل لذة سواها.
الثانية- إن العبد محكّم في أحوال نعيم الآخرة، كما قال تعالى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس 36/ 57] .
الثالثة- كل ما يتخيله الإنسان من أنواع الإحسان الإلهي، فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به، لأن عطاء الكريم لا يحد ولا يوصف، فالذي يعطي الله فوق ما يرجو العبد، وذلك على وفق كرمه وإفضاله.
- 2- وصف آخر للجنات
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)(27/229)
الإعراب:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ولهم من دونهما جنتان، فحذف «لهم» لدلالة الكلام عليه تخفيفا.
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ خَيْراتٌ: أصله: خيرات بالتشديد، وقد قرئ به على الأصل، إلا أنه خفف كتخفيف شيد وهين وميت.
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ حال، ورَفْرَفٍ وهي الوسائد: إما اسم جمع، كقوم ورهط، ولهذا وصف ب خُضْرٍ وهو جمع أخضر، كقولك: قوم كرام، ورهط لئام. أو مع «رفرفة» مثل عبقري جمع عبقرية. وعَبْقَرِيٍّ: منسوب إلى عبقر: وهو اسم موضع ينسج به الوشي الحسن، وجمع عبقر: عباقر، ومن قرأ «عباقريّ» فلا يصح أن ينسب إليه وهو جمع، لأن النسب إلى الجمع يوجب ردّه إلى الواحد، إلا أن يسمع بالجمع، فيجوز أن ينسب إليه على لفظه كمعافريّ وأنماريّ، ولا يعلم أن عباقر: اسم لموضع مخصوص بعينه.
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ يقرأ «ذو الجلال» وصف للاسم، ويقرأ بالجر على أنه وصف ل رَبِّكَ.
المفردات اللغوية:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ومن دون الجنتين المذكورتين الموعودتين للخائفين المقرّبين، أي ورائهما جنتان أقل منهما. مُدْهامَّتانِ شديدتا الخضرة من كثرة الري والعناية، كأنهما سوداوان، والدهمة في اللغة: السواد. ضَّاخَتانِ
فوارتان بالماء. فِيهِما فاكِهَةٌ، وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، وثمرة الرمان فاكهة ودواء، كما قال البيضاوي: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ في الجنتين وما فيهما أو في الجنان نساء خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، وخيرات مخففة
كقوله صلى الله عليه وسلم: «هينون لينون» .
حُورٌ جمع حوراء: بيضاء، شديدة سواد العين وبياضها. مَقْصُوراتٌ مخدّرات مستورات. فِي الْخِيامِ جمع خيمة: وهي التي تنصب على أعواد أربعة وتسقف بنبات الأرض، وأما الخباء: فهو ما يتخذ من شعر أو وبر.
وخيام الجنة شبيهة بالخدور، مصنوعة من الدّر. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يفتضهن أو يجامعهن.(27/230)
رَفْرَفٍ وسائد، جمع رفرفة. وَعَبْقَرِيٍّ طنافس منقوشة عجيبة الوشي نادرة. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تقدس وتنزه اسم الله الذي يطلق على ذاته. ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي ذي العظمة والكبرياء، أو ذي العظمة والتكريم عن كل ما لا يليق به، أو الإفضال والإنعام على عباده.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة بعض أوصاف الجنة التي هي ثواب المتقين الخائفين ربهم، ثم أردفه بأوصاف أخرى للجنة، مبينا أولا أن ثواب الخائفين جنتان، وثواب آخر مثله وهو جنتان أخريان.
التفسير والبيان:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُدْهامَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي وهناك جنتان أخريان للخائفين، أو هناك جنتان أخريان، دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة، لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة، تقدم
في الحديث: جنتان من ذهب آنيتهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقرّبين، والأخريان لأصحاب اليمين.
وفي الجنتين السابقتين أشجار وفواكه وغير ذلك، وكذا هاتان الجنتان خضراوان، فهما من شدة خضرتهما سوداوان في رأي العين، من شدة الري المائي. وقد فسر ابن عباس وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما من الصحابة والتابعين قوله تعالى:
مُدْهامَّتانِ بأنهما خضراوان، وذلك مروي في حديث عن أبي أيوب أخرجه الطبراني وابن مردويه.
فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فالجنتان في غاية المتعة والنضرة والخضرة، ولكنهما دون الجنتين المتقدمتين في الرتبة والفضيلة، فهناك جنتان ذواتا أفنان، أي أغصان وأشجار وفواكه، وهنا جنتان خضراوان.
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في الجنتين عينان(27/231)
فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنتان تجريان، وهنا جنتان فوّارتان، والجري أقوى من النضخ، قال البراء بن عازب: العينان اللتان تجريان خير من النضاختين. فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن؟
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في هاتين الجنتين فاكهة كثيرة متنوعة، ومنها ثمر النخيل والرمان، وإفرادهما بالذكر من بين سائر الفواكه ليس من عطف الخاص على العام كما ذكر البخاري وغيره، وإنما لمزيد حسنهما، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه، ولشرفهما على غيرهما، لدوامهما وكونهما غذاء ودواء، ولوجودهما في الخريف والشتاء.
وقد قال هناك: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وقال هنا: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع، من قوله: فاكِهَةٌ فهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم.
فبأي نعم الله تكذبان يا إنس ويا جن، فإن هذه النعم تستحق الحمد والشكر.
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في هاتين الجنتين نساء حسان الخلق والخلق، أو هن ذوات فضل، خيّرات فاضلات الأخلاق، حسان الوجوه، فالخيّرات جمع خيّرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق، الحسنة الوجه، وهو قول الجمهور، بدليل
ما روى الحسن عن أم سلمة قالت: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ؟ قال: خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه»
وفي حديث آخر أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام.
وقال قتادة: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة.(27/232)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي إن هؤلاء النساء الخيرات حور شديدات البياض، وفي عيونهن حور، أي واسعات الأعين، مع صفاء البياض، مخدرات محجبات مستورات في خيام الجنة المكونة من الدرّ المجوفة، فلسن مترددات في الشوارع والطرقات. وقد وصفت نساء الجنتين هناك بأنهن قاصِراتُ الطَّرْفِ فهن أعلى منزلة من هؤلاء المذكورات في هذه الآية: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ لأنه لا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، وإن كان الجميع مخدرات. والعرب يمدحون ويؤثرون النساء الملازمات للبيوت، لتوافر الصون، فبأي نعم الله هذه ونحوها تكذبان؟! لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي لم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟! وقد زاد في وصف نساء الجنتين السابقتين بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي وهم في الجنة متكئون مستندون على وسائد خضراء، وبسط منقوشة بديعة فاخرة متقنة الصنع، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! وقد وصف الله مرافق الجنتين الأوليين بما هو أرفع وأولى من هذه الصفة، فإنه تعالى قال هناك:
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.
وختمت الصفات المتقدمة بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى مراتب العبادة.
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي تقدس وتنزه الله صاحب العزة والعظمة والتكريم على ما أنعم به على عباده المخلصين، فهو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.(27/233)
ويلاحظ أنه قال سابقا بعد ذكر نعم الدنيا: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ للإشارة إلى فناء كل شيء من الممكنات، وقال بعد ذكر نعم الآخرة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ للإشارة إلى بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله متلذذين به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- هناك أربع جنان ذات منازل مختلفة لمن خاف مقام ربّه، فجنتان للمقربين، ودونهما في المكان والفضل جنتان لأصحاب اليمين، كما قال ابن زيد، وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقرّبين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وعَيْنانِ تَجْرِيانِ وجنتان لأصحاب اليمين فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ويهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
.
وقد ذكرت ما رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة، أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، أبنيتهما وما فيهما» .
2- لما وصف الله الجنتين لكل فريق أشار إلى الفرق بينهما:
أولا- فقال في الأوليين: ذَواتا أَفْنانٍ أي ذواتا ألوان من الفاكهة، وقال في الأخريين: مُدْهامَّتانِ مخضرتان في غاية الخضرة من الري.
ثانيا- وقال في الأوليين: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ وفي الأخريين:
هِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أي فوّارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري.
ثالثا- وقال في الأوليين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فعمّ ولم يخص، وفي الأخريين: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولم يقل: من كل فاكهة.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف(27/234)
على نفسه، إنما يعطف على غيره، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة 2/ 238] ، وقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة 2/ 98] .
وبناء على الرأي الأول قال أبو حنيفة: من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمّانا أو رطبا، لم يحنث. وخالفه صاحبه والجمهور.
رابعا- وقال في الأوليين: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ... وفي الأخريين:
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ يعني النساء، الواحدة خيرة، على معنى ذوات خير، وقرئ «خيّرات» والتي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، كما تقدم.
ووصفت الأوليان بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ.
ويلاحظ أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور: فِيهِنَّ وفي سائر المواضع: فِيهِما والسرّ في ذلك الإشارة إلى أن لكل حورية مسكنا على حدة، متباعدا عن مسكن الأخرى، متسعا يليق بالحال، وهذا ألذ وأمتع وأهنا للرجل الواحد عند تعدد النساء، فيحصل هناك متنزهات كثيرة، كل منها جنة، وكأن في ضمير الجمع إشارة لذلك. أما العيون والفواكه فلا حاجة فيها لهذا الاستقلال، فاكتفى فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط.
وهل الحور أكثر حسنا وأبهر جمالا من الآدميات؟ قيل: الحور، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة،
ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه على الميت في الجنازة:
«وأبدله زوجا خيرا من زوجه» .
وقيل:
الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، لحديث روي مرفوعا «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 17/ 187 وما بعدها.(27/235)
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هنّ مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.
خامسا- وقال في الأوليين: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ..
وفي الأخريين: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ويلاحظ أن الوصف الأول أرفع وأفخم.
3- كرر الله تعالى في هذه السورة قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه، وذكر المبدأ والمعاد، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها، استحق كلتا الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.
4- نزّه الله تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله، وختم السورة به، والاسم (اسم الجلالة) مقحم على المشهور للتبرك والتعظيم كالوجه في قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ، وهذا لتعليم العباد بأن كل ما ذكر من آلاء ونعم من فضله ورحمته، وأن من عدله تعذيب العاصين، وإثابة الطائعين، فإنه افتتح السورة باسم الرَّحْمنُ فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيهم، ثم قال في آخر السورة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلم عباده أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله من اسم الرحمن.(27/236)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
مكيّة، وهي ست وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الواقعة، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا قامت القيامة التي لا بدّ من وقوعها.
مناسبتها لما قبلها:
تتصل هذه السورة بسورة الرحمن، وتتآخى معها من وجوه:
1- في كل من السورتين وصف القيامة والجنة والنار.
2- ذكر تعالى في سورة الرحمن أحوال المجرمين وأحوال المتقين في الآخرة وبيّن أوصاف عذاب الأولين في النار، وأوصاف نعيم الآخرين في الجنان، وفي هذه السورة أيضا ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف: هم أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، فتلك السورة لإظهار الرحمة، وهذه السورة لإظهار الرهبة، على عكس تلك السورة مع ما قبلها.
3- ذكر تعالى في سورة الرحمن انشقاق السماء (تصدعها) وذكر هنا رجّ الأرض، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما في الموضوع سورة واحدة، ولكن مع عكس الترتيب، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك.(27/237)
فافتتح سورة الرحمن بذكر القرآن ثم الشمس والقمر، ثم النبات، ثم خلق الإنسان والجان من نار، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وابتدئت هذه السورة بوصف القيامة وأهوالها، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم النجوم التي لم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم القرآن، فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.
ما اشتملت عليه السورة:
ابتدأت السورة بالحديث عن اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة، ثم صنفت الناس عند الحساب أقساما ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقين، وأخبرت عن مآل كل فريق وما أعده الله لهم من الجزاء العادل يوم القيامة.
وأوضحت أن الأولين والآخرين من الخلائق مجتمعون في هذا اليوم.
ثم أقامت الأدلة على وجود الله الخالق ووحدانيته وكمال قدرته، وإثبات البعث والنشور والحساب، من خلق الإنسان، وإخراج النبات، وإنزال الماء، وخلق قوة الإحراق في النار.
ثم أقسم الله عزّ وجلّ بمنازل النجوم على صدق تنزيل القرآن من ربّ العالمين، وأنه كان في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، وندد بالتشكيك في صحته وصدقه.
ولفت الله تعالى النظر إلى ما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال. وختمت السورة ببيان عاقبة الطوائف الثلاث وما يجدونه من جزاء، وهم المقرّبون الأبرار، السابقون إلى خيرات الجنان، وأهل اليمين السعداء، والمكذّبون الضالون أهل الشقاوة، وأن هذا الجزاء حق ثابت متيقن لا شك فيه.(27/238)
وكل ذلك يستدعي الإقرار بوجود الخالق وتنزيهه عما لا يليق به من الشرك ونحوه، وتوبيخ المكذبين على إنكار وجود الله تعالى وتوحيده.
فضلها:
وردت أحاديث في فضل هذه السورة منها:
1-
أخرج الحافظ أبو يعلى وابن عساكر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا»
وفي رواية: «في كل ليلة» .
2-
أخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سورة الواقعة سورة الغنى، فاقرؤوها، وعلّموها أولادكم»
وأخرج الديلمي عنه مرفوعا: «علّموا نساءكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى» .
3- أخرج الإمام أحمد عن جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
4-
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبت قال: «شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يَتَساءَلُونَ، وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»
وقال: حسن غريب.
5-
أخرج الثعلبي وابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان، فقال:
ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال:
لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي(27/239)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا» .
قيام القيامة وأصناف الناس
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
الإعراب:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذا: في موضع نصب إما ب وَقَعَتِ لأن إِذا فيها معنى الشرط، فجاز أن يعمل فيها الفعل الذي بعدها، وإما أن العامل فيه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي وقوع الواقعة وقت رج الأرض، وإما العامل: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي ليس لوقعتها كذب، وكاذِبَةٌ بمعنى كذب، كالعاقبة والعافية، وإما العامل فعل مقدر، أي اذكر.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ خبر لمبتدأ محذوف، أي فهي خافضة رافعة، وهي جواب إِذا ويقرأ بالنصب على الحال من الواقعة، أي وقعت الواقعة في حالة الخفض والرفع.
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا بدل من قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ.
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ قيل: هو جواب إِذا وهو مبتدأ.
وما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ: مبتدأ وخبر، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، والعائد فيها محذوف: أي:
«ما هم» .
وكذلك قوله: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والاستفهام في هذين الموضعين معناه التعجب والتعظيم.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ السَّابِقُونَ الأول: مبتدأ، والثاني: صفة،(27/240)
وأُولئِكَ مبتدأ ثان، والْمُقَرَّبُونَ خبره. والأحسن أن يقال: السَّابِقُونَ مبتدأ، والثاني: خبر، وجملة أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ استئناف بياني.
البلاغة:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ جناس اشتقاق.
الْمَيْمَنَةِ.. والْمَشْئَمَةِ بينهما طباق، وكذا بين خافِضَةٌ رافِعَةٌ وإسناد الخفض والرفع إلى القيامة مجاز عقلي، لأن الخافض الرافع على الحقيقة هو الله وحده، ونسب إلى القيامة مجازا، مثل «نهاره صائم» .
المفردات اللغوية:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة، سماها واقعة لتحقق وقوعها. لَيْسَ لِوَقْعَتِها لوقوعها. كاذِبَةٌ كذب، أو نفس كاذبة، بأن تنفيها حين تقع كما تكذب الآن في الدنيا.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض قوما وترفع آخرين، بدخولهم النار ودخولهم الجنة، وهو تقرير لعظمتها، فإن الوقائع العظام تميز بين الناس.
رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا زلزلت وحركت تحريكا شديدا يؤدي إلى سقوط البناء والجبال وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فتتت وصارت كالسويق الملتوت، يقال: بسّ فلان السويق، أي لته هَباءً غبارا. مُنْبَثًّا متفرقا منتشرا.
وَكُنْتُمْ في القيامة. أَزْواجاً أصنافا، وكل ما يذكر مع صنف آخر: زوج، وكل قرينين ذكر وأنثى: زوج. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أهل اليمين، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة، فهم أصحاب المنزلة السنية. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أهل الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تحقير لشأنهم بدخول النار، فهم أصحاب المنزلة الدنية.
وَالسَّابِقُونَ هم الذين سبقوا إلى الخير في الدنيا، وهم الأنبياء. السَّابِقُونَ تأكيد، لتعظيم شأنهم، لأنهم سبقوا إلى الإيمان والطاعة من غير توان. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قرّبت درجاتهم، وأعليت مراتبهم في الجنة، فهم أهل الحظوة والكرامة عند ربهم.
التفسير والبيان:
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي إذا قامت القيامة، ليس(27/241)
لوقوعها صارف ولا دافع، ولا بد أن تكون، ولا يكون عند وقوعها تكذيب أصلا، ولا توجد نفس كاذبة منكرة لها كما كان الحال في الدنيا. والواقعة: اسم للقيامة كالآزفة والحاقة وغيرها، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما جاء في آية أخرى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة 69/ 15] . وقوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة.
خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، فتجعلهم في الجحيم، وهم الكفرة والفسقة، وترفع أقواما كانوا في الدنيا مغمورين، فتجعلهم في الجنة، وهم أهل الإيمان، لأن شأن الوقائع العظيمة إحداث تغيرات في موازين المجتمع، فترفع وتخفض.
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي إذا زلزلت وحركت الأرض تحريكا شديدا، فتهتز وترتج وتضطرب، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال.
وهذا كقوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزال 99/ 1] وقوله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج 22/ 1] .
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت الجبال فتا، وصارت كما قال تعالى:
كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل 73/ 14] .
فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي صارت غبارا متفرقا منتشرا، كالهباء الذي يطير من النار، أو الذي ذرته الريح وبثته.
وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها، وصيرورتها كالعهن المنفوش، بسبب نسفها من ربك.
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي وأصبحتم يوم القيامة منقسمين إلى ثلاثة أصناف: أهل اليمين أصحاب الجنة، وأهل اليسار أهل النار، والسابقون بين يدي الله عز وجل المقربون: وهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء.(27/242)
ثم أوضح هذه الأصناف بقوله:
1- فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي وأصحاب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذون إلى الجنة، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم!! وقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. والفاء:
تدل على التفسير، وبيان مورد التقسيم. وابتدأ بأهل اليمين ثم بأهل الشمال للترغيب بالثواب والترهيب بالعقاب، بعد التخويف من الواقعة.
2- وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي وأصحاب الشمال الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!!
أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فقبض بيده قبضتين، فقال: «هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي» .
3- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة وأعمال البر، وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام والشهداء والصدّيقون والقضاة العدول، هم السابقون إلى رحمة الله، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم. والإشارة بقوله: أُولئِكَ لعلو درجتهم، ورفعة مكانتهم.
أخرج الإمام أحمد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» .(27/243)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وقوع القيامة أمر حتمي وحق ثابت لا ريب فيه، لا يستطيع أحد تكذيبه عند حدوثه كما كان يحصل في الدنيا، ولا يملك أحد أن يرده أو يدفعه.
2- القيامة ترفع أقواما وهم أولياء الله إلى الجنة، وتخفض آخرين وهم أعداء الله إلى النار، لأن الوقائع الجسام تؤدي إلى التغيير الاجتماعي في تركيب المجتمع، فيعزّ قوم، ويذل آخرون.
3- إذا وقعت الساعة، زلزلت الأرض وحركت واضطربت، ودمرت من عليها وما فوقها من المباني والقصور والجبال، وتفتّتت الجبال، وأصبحت غبارا منتشرا متفرقا، وزالت من أماكنها.
4- يكون الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، والأولون أصحاب الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ويعطون كتبهم بأيمانهم، وأصحاب المشأمة: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ويعطون كتبهم بشمائلهم، والسابقون: الأنبياء والمرسلون والمجاهدون والحكام العدول الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة والقضاء بالحق، وهم المقربون بين يدي الله تعالى.
وقسمة الخلق إلى ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، فلم يجعل الله سبحانه قسما رابعا وهم المتخلفون المؤخرون عن أصحاب الشمال، لشدة الغضب عليهم، في مقابل المقربين.
وهذه القسمة كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر 35/ 32] ولم يقل: منهم متخلف عن الكل.(27/244)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
أنواع نعيم السابقين
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
الإعراب:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ثُلَّةٌ: إما مبتدأ مؤخر، وخبره: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ المتقدم عليه، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلة. وقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ: معطوف عليه، وعَلى سُرُرٍ: خبر ثان، ومُتَّكِئِينَ ومُتَقابِلِينَ حال من ضميره عَلى سُرُرٍ.
وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ حُورٌ: على تقدير:
ولهم حور، جمع أحور وحوراء، ويقرأ بالنصب على تقدير: ويعطى حورا، وبالجر بالعطف على ما قبله: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ. وعِينٌ: جمع أعين وعيناء، وكان قياسا أن يجمع على فعل بضم الفاء، إلا أنها كسرت، لأن العين ياء. وجَزاءً: إما مصدر مؤكد لما قبله، أو مفعول لأجله.
إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قِيلًا: منصوب على الاستثناء المنقطع، أو منصوب ب يَسْمَعُونَ. وسَلاماً منصوب بالقول، أو مصدر، أي يتداعون فيها، وسلمك الله سلاما، أو وصف ل (قيل) .
البلاغة:
الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ بينهما طباق.
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه.(27/245)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً تأكيد المدح بما يشبه الذم، لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم، ثم أثنى عليهم بإفشاء السلام.
المفردات اللغوية:
ثُلَّةٌ جماعة كثيرة أو قليلة. مِنَ الْأَوَّلِينَ من الأمم الماضية. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» «1»
لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه الأمة أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما.
مَوْضُونَةٍ منسوجة بإحكام، أو بقضبان الذهب والجواهر. وِلْدانٌ صبيان جمع ولد. مُخَلَّدُونَ باقون على صفتهم أبدا، لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ آنية لا عرى لها ولا خراطيم، جمع كوب. وَأَبارِيقَ أوان لها عرى وخراطيم، جمع إبريق. وَكَأْسٍ إناء شرب الخمر. مِنْ مَعِينٍ أي من خمر جارية من منبع لا ينقطع أبدا.
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا يحصل لهم منها صداع كما يحدث ذلك من خمر الدنيا.
وَلا يُنْزِفُونَ ولا تذهب عقولهم بالسكر منها، بخلاف خمر الدنيا، ويقرأ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: إذا ذهب عقله، ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. يَتَخَيَّرُونَ يختارون ويرضون.
وَحُورٌ عِينٌ أي ولهم حور أي نساء شديدات سواد العيون وبياضها، جمع حوراء وأحور، وعِينٌ ضخام الأعين واسعات، حسان، جمع أعين وعيناء. الْمَكْنُونِ المصون أو المستور الذي لم تمسه الأيدي، فهو مصون عما يضرّ به في الصفاء والنقاء. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم. لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة. لَغْواً فاحشا أو ساقطا من القول. وَلا تَأْثِيماً ما يؤثم. إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً أي لكن قولا: سلاما سلاما أي يقولون: سلّمك الله سلاما. وتكرار سَلاماً للدلالة على فشّو السلام بينهم.
سبب النزول: نزول الآية (13 و39) :
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ..: أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
__________
(1) تفسير الألوسي: 27/ 134(27/246)
شق ذلك على المسلمين، فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند فيه نظر، من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: «لما نزلت إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وذكر فيها ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ بكى عمر، وقال: يا رسول الله، آمنا بك، وصدقناك، ومع هذا كله، من ينجو منا قليل، فأنزل الله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، فقال: يا عمر بن الخطاب، قد أنزل الله فيما قلت، فجعل ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، فقال عمر: رضينا عن ربنا وتصديق نبينا» .
والخلاصة: أن كلتا الروايتين مشكوك فيهما.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الصنف الثالث من الناس يوم القيامة، وهم السابقون، ذكر ما يتمتعون به من أنواع النعيم في الفرش والخدم والطعام والشراب والنساء والأحاديث الخالية من اللغو والفحش والإثم، مع إفشاء السلام بينهم.
التفسير والبيان:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي إن السابقين السابقين المقربين هم جماعة كثيرة لا يحصر عددهم، من الأمم السابقة، من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقليل من هذه الأمة، وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم وهم كثيرون، لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم.
والدليل على أن (القليل) من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: «نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة»(27/247)
ويستأنس لهذا القول
بما رواه الإمام أحمد وأبو محمد بن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني» .
أما أصحاب اليمين كما يأتي وهم أهل الجنة، فإنهم كثيرون من هذه الأمة، لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا، فإنهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكوّن نصف أهل الجنة، كما في الحديث المتقدم.
والخلاصة: إن مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها، وإن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا، وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم. وإن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم، فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا كثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام «1» .
ثم وصف الله تعالى حال المقربين، فقال:
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي هم في الجنة حالة كونهم على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب، مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد، مستقرّين على السرر، متكئين عليها متقابلين مواجهة، لا ينظر بعضهم قفا بعض، فهم في بسط وسرور، وصفاء وحبور، لا يملّون ولا يكلون، ولا يتخاصمون ولا يتشاحنون، وهم مخدومون كما قال تعالى:
__________
(1) تفسير الآلوسي: 27/ 134 [.....](27/248)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي يدور عليهم للخدمة غلمان أو صبيان أو خدم لهم، مخلّدون على صفة واحدة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة، للقيام بهذه الخدمة.
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ أي يطوفون عليهم بأقداح مستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرى ولا خراطيم، وأباريق ذات عرى وخراطيم، وكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا، فهي صافية نقية، لا تتصدع رؤوسهم من شربها، ولا يسكرون منها، فتذهب عقولهم.
قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال.
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ويطوفون عليهم مما يختارونه من ثمار الفاكهة، وأنواع لحوم الطيور التي يتمنونها وتشتهيها نفوسهم، مما لذّ وطاب، علما بأن لحم الطير أفضل من غيره من اللحوم وألذ. والحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم: أنها ألطف، وأسرع انحدارا، وأيسر هضما، وأصح طبا، وأكثر تحريكا لشهوة الأكل وتهيئة النفس للطعام.
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي ولهم نساء حور بيض، مع شدة سواد سواد العين، وشدة بياض بياضها، وواسعات الأعين حسانها، مثل أنواع اللآلي والدرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة، وبياضا وحسن ألوان، كما في آية أخرى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات 37/ 49] . والكاف في قوله:
كَأَمْثالِ للمبالغة في التشبيه.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يفعل بهم ذلك كله، للجزاء على أعمالهم، أو مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.(27/249)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً أي لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا، أي عبثا خاليا من المعنى، أو مشتملا على معنى ساقط أو حقير أو مناف للمروءة، ولا كلاما فيه قبح من شتم أو مأثم، ولكن يسمعون أطيب الكلام، وأكرم السلام أو التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال سبحانه:
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم 14/ 23] . والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم كنعيم الدنيا، وإنما هو خال من الكدر والهم، واللغو، والقبح. والحكمة في تأخير ذكر ذلك عن الجزاء، مع أنه من النعم العظيمة: أنه من أتم النعم، فجعله من باب الزيادة والتمييز، لأنه نعمة اجتماعية تدل على نظافة الوسط الاجتماعي، بعد ذكر النعم الشخصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن فئة السابقين المقربين تشتمل على جماعة من الأمم الماضية، وقليل ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الأنبياء المتقدمين كثيرون، فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.
والأصح أن هذه الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ محكمة غير منسوخة، لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين، والنسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا غير جائز في الأرجح، فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة، لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه.
قال الحسن البصري: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، فلذلك قال:
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقال في أصحاب اليمين، وهم سوى السابقين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ولذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم: «إني لأرجو(27/250)
أن تكون أمتي شطر أهل الجنة» ثم تلا قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
2- للسابقين في الجنة ألوان من النعيم في المجلس والطعام والشراب والزواج والكلام، فمجالسهم على سرر منسوجة بقضبان الذهب، مشبكة بالدر والياقوت، ويخدمهم غلمان خدم لهم لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون. وأداة الشراب آنية براقة صافية لا عرى لها ولا خراطيم، وأباريق لها عرى وخراطيم، وكؤوس من ماء أو خمر، والمراد هنا: الخمر الجارية من العيون، ولا تنصدع رؤوسهم من شربها، فهي لذيذة لا تؤذي، بخلاف شراب الدنيا، ولا يسكرون فتذهب عقولهم.
وطعامهم مما لذّ وطاب من لحوم الطيور، ويتخيرون ما شاؤوا من الفواكه لكثرتها.
ويتزوجون بنساء حور بارعات الجمال، عيونهن شديدات السواد والبياض، واسعات حسان، مثل اللؤلؤ والدر صفاء وتلألؤا، متناسقات أجسادهن في الحسن من جميع الجوانب.
وكلامهم أطيب الكلام، ليس فيه باطل ولا كذب ولا لغو هراء ساقط، ولا موقع في الإثم، لا يؤثّم بعضهم بعضا، ولا يسمعون شتما ولا مأثما، وإنما يتبادلون التحيات والسلامات من بعضهم بعضا.
3- أتحفهم الله بهذه النعم الجزيلة جزاء حسنا على أعمالهم الصالحة، وما قدموا في دنياهم من خيّر الأفعال، وأحسن الأقوال. وقوله: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يدل على أن العمل عملهم، وحاصل بفعلهم.(27/251)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
أنواع نعيم أصحاب اليمين
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
الإعراب:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً هنّ: يعود على «الحور» المذكورات في نعيم السابقين، أو على أصحاب اليمين، أو على فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ واختار ابن الأنباري أن يكون الضمير غير عائد إلى مذكور على ما جرت به عادتهم إذا فهم المعنى، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن 55/ 26] وأراد به الأرض، ولم يسبق ذكرها، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
[القدر 97/ 1] وأراد به القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لأن هذا أول السورة، ولم يتقدم للقرآن ذكر فيه، وكقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص 38/ 32] أراد به الشمس، وإن لم يجر لها ذكر، فكذلك ها هنا أريد بالضمير «الحور» في هذه القصة، وإن لم يجر لهن ذكر، لما عرف المعنى.
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أَبْكاراً جمع بكر، وعُرُباً جمع عروب، لأن فعولا يجمع على فعل، كرسول ورسل، ويجوز «عربا» بضم العين وسكون الراء.
وأَتْراباً جمع ترب، يقال: هي تربه ولدته وقرنه، أي على سنّه. ولِأَصْحابِ الْيَمِينِ:
إما صله لما قبله أو خبر لقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ.
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة.
البلاغة:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ كرره بطريق الاستفهام للتفخيم والتعظيم.
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ.. بعد قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ.. تفنن في العبارة، كما في أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ وأَصْحابُ الشِّمالِ.(27/252)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ سجع لطيف غير متكلف، أو ما يسمى توافق الفواصل في الحرف الأخير، مما يزيد في تأثير الكلام وجماله.
المفردات اللغوية:
سِدْرٍ شجر النبق: وهو شجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه، إلا أن له شوكا.
مَخْضُودٍ لا شوك فيه، مقطوع الشوك، من خضد شوكة، أي قطع. وَطَلْحٍ شجر الموز.
مَنْضُودٍ متراكب الثمر، نضّد حمله من أسفله إلى أعلاه، فليست له سوق بارزة، بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام جميل. مَمْدُودٍ دائم باق، لا يزول، منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت. مَسْكُوبٍ جار دائم لا ينقطع، مصبوب يسكب لهم.
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس والكميات. لا مَقْطُوعَةٍ لا تنقطع في وقت.
وَلا مَمْنُوعَةٍ ولا تمتنع عن متناولها بوجه كثمن أو غيره، فهي مباحة سهلة التناول. وَفُرُشٍ جمع فراش كسرج وسراج. مَرْفُوعَةٍ عالية منضدة مرفوعة على السرر. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً خلقناهن خلقا جديدا من غير ولادة، وهن الحور العين. أَبْكاراً عذارى، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى. عُرُباً جمع عروب، وقرئ «عربا» متحبّبات إلى أزواجهن عشقا له.
أَتْراباً مستويات السن، جمع ترب.
سبب النزول:
نزول الآية (27) :
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ..: أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الآيات.
نزول الآية (29) :
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا(27/253)
يعجبون بوجّ- واد مخصب في الطائف- وظلاله وطلحة وسدره، فأنزل الله:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى حال السابقين وأوصاف نعيمهم، شرع في بيان حال أصحاب اليمين من الأصناف الثلاثة في الآخرة، وعدد أوصاف نعمهم من فواكه وظلال ومياه وفرش ونساء حسان عذارى في سن واحدة.
التفسير والبيان:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ هذا عطف على السابقين المقربين، وهم أصحاب اليمين الأبرار الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، منزلتهم دون المقربين، فهم أقل درجة في النعيم من السابقين، لأنهم كانوا في الدنيا أضعف إيمانا، وأقل إخلاصا وعملا، فأشجارهم وفواكههم وما يؤتون به من النعيم لا يبلغ درجة ما يناله أصحاب السبق.
ومع ذلك، فهم في درجة عالية ومنزلة رفيعة، لذا جاء الكلام في مدحهم على نحو هذا الأسلوب العربي لإفادة المبالغة في المدح، كما يقال: فلان ما فلان؟
والمعنى: وأما أصحاب اليمين السعداء، فما أدراك ما هم، وأي شيء هم، وما حالهم، وكيف مآلهم؟! وهذا يلفت النظر ويثير الانتباه للتعرف على مصيرهم. لذا جاء التفصيل لبيان ما أبهم من حالهم، فقال تعالى:
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي هم يتمتعون في جنات ذات شجر مورق كثير الورق، مقطوع الشوك، وشجر موز منضد متراكب الثمر بعضه فوق بعض،(27/254)
وظل دائم باق لا يزول، وماء منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا، لا تعب فيه، وفاكهة متنوعة وكثيرة، لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات، ولا تمتنع على من أرادها في أي وقت، على أي صفة، بل هي معدّة لمن أرادها. أما فاكهة السابقين فإنهم يتخيرونها تخيرا.
ويلاحظ أنه قدم الشجر المورق على الشجر المثمر، على طريقة الارتقاء من نعمة إلى نعمة فوقها، والفواكه أتم نعمة، وذكر الأشجار المورقة بأنفسها وذكر أشجار الفاكهة بثمارها، لأن حسن الأوراق عند كونها على الشجر، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة، سواء كانت عليها أو مقطوعة.
ووصف الفاكهة بالكثرة لا بالطيب واللذة، لأن طيبها معروف بالطبيعة، والمقصود بيان الكثرة والتنوع لإفادة التنعم الواسع، ووصفها بقوله:
لا مَقْطُوعَةٍ للدلالة على أنها ليست كفواكه الدنيا، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان، وفي كثير من المواضع والأماكن، كما أنه وصفها بكونها غير ممنوعة بثمن أو عوض أو غيره، خلافا لفاكهة الدنيا التي تمنع عن البعض، وقدم كونها غير مقطوعة على المنع، لأن القطع للموجود، والمنع بعد الوجود، لأنها توجد أولا، ثم تمنع.
ثم ذكر الله تعالى وسائل التمتع في المجالس، فقال:
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي وأهل اليمين يجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة، ورفيعة القدر والثمن. والفرش جمع فراش: وهو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقيل: الفرش مجاز عن النساء، والمعنى: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن.
ثم ذكر تمتعهم بالنساء، فقال:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ(27/255)
أي خلقنا الحور العين خلقا جديدا من غير توالد، وجعلناهن بكارى عذارى لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان، وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع، كما في حديث رواه الطبراني «1» ، ومتحببات إلى أزواجهن، وأنشأهن الله لأجل أصحاب اليمين الأبرار الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وكرر ذكر أَصْحابُ الْيَمِينِ للتأكيد. والإنشاء: هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق، وذلك مخصوص بالحور اللاتي لسن من نسل آدم عليه السلام.
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي إن أصحاب اليمين جماعة من الأولين، وهم مؤمنو الأمم الماضية، وجماعة من الآخرين، وهم المؤمنون بالنّبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
ولا تنافي بين قوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقوله قبل: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ لأن قوله: مِنَ الْآخِرِينَ هو من السابقين، وقوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هو في أصحاب اليمين «2» . وإنما لم يذكر هنا كون الجزاء مقابل العمل، كما فعل في حق السابقين، لأن عمل أصحاب اليمين أقل من عمل السابقين، فلم يحتج للتنويه به، وإشارة إلى أن الله غمر أهل اليمين بالفضل والرحمة والإحسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- أشاد الله تعالى بأهل اليمين وخصالهم ومنازلهم، ومدحهم مدحا عظيما.
__________
(1)
روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا» .
(2) البحر المحيط: 8/ 207(27/256)
2- ذكر الله تعالى أنواع نعيم أهل اليمين في البيئة والطعام والشراب والمجلس والزواج، فهم في ظل ناعم من شجر كثير الورق كشجر السدر أي النبق، ولكن قد خضد شوكة، أي قطع، وذلك الظل ممدود، أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس.
وهم يستمتعون بأشجار الموز وأنواع الفواكه الكثيرة الطازجة التي لم تقطع عن الشجر، ولا تنقطع في وقت من الأوقات، كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء، ولا تمنع ولا تحظر عن أحد كثمار الدنيا.
ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على السرر.
ولهم نساء حوريات رائعات الجمال خلقهن الله خلقا جديدا، وأبدعهن إبداعا فريدا لم يسبق، وجعلهن أبكارا عواشق لأزواجهن، متحببات إليهم، مستويات أو متماثلات متشابهات في السن والأخلاق، لا تباغض بينهن ولا تحاسد، وهن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن.
3- أصحاب اليمين في الجنة هم جماعة عظيمة من الأمم السابقة، وجماعة أخرى من الأمم اللاحقة. قال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان: نصف من الأمم الماضية، ونصف من هذه الأمة.(27/257)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
الإعراب:
لَمَبْعُوثُونَ أتى باللام المؤكدة مع أنها لا تذكر في النفي، لأن الصيغة ليست تصريحا بالنفي.
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ شُرْبَ بضم الشين: اسم، وهو منصوب على المصدر، وتقديره: فشاربون شربا مثل شرب الهيم، فحذف المصدر وصلته، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقام المصدر. وقرئ بالفتح، فهو مصدر. والْهِيمِ الإبل التي لا تروى من الماء، لما بها من داء وهو الهيام، وهو جمع أهيم وهيماء. وكان الأصل فيه أن يجمع على فعل بضم الفاء، إلا أنها كسرت لمكان الياء، كما تقدم في (عين) جمع (عيناء) .
البلاغة:
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ توافق الفواصل في الحرف الأخير، لزيادة جرس الكلام وجماله.
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ التفات من الخطاب إلى الغيبة، تحقيرا لشأنهم، بعد قوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ فالأصل أن يقول: هذا نزلكم.(27/258)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ فيه تهكم واستهزاء أيضا، أي هذا العذاب ضيافتهم يوم القيامة، لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة.
المفردات اللغوية:
سَمُومٍ ريح شديدة الحرارة تنفذ في المسام. وَحَمِيمٍ ماء شديد الحرارة. يَحْمُومٍ دخان أسود شديد السواد. لا بارِدٍ لا هو بارد كغيره من الظلال. وَلا كَرِيمٍ ولا هو نافع يدفع أذى الحر لمن يأوي إليه. قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا. مُتْرَفِينَ منعمين منهمكين في الشهوات. يُصِرُّونَ يقيمون. الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم وهو الشرك والوثنية.
.. أَإِذا مِتْنا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا وما قبله للاستبعاد، وفيه دلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم، ويقرأ بسكون الواو (أو) عطفا بأو، والمعطوف عليه محل إِنَّ واسمها لَمَجْمُوعُونَ وقرئ: لمجمعون. مِيقاتِ وقت، أي ما وقت به الشيء.
يَوْمٍ مَعْلُومٍ يوم القيامة، وسمي بذلك، لأنه وقتت به الدنيا.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى للابتداء، والثانية للبيان، والزقوم: شجر في غاية المرارة ينبت في أصل الجحيم. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ مالئون من الشجر البطون لشدة الجوع. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ على الزقوم المأكول، لغلبة العطش، وتأنيث ضمير مِنْهَا وتذكيره في عَلَيْهِ الأول لمراعاة المعنى، والثاني لمراعاة اللفظ. الْهِيمِ الإبل العطاش، جمع أهيم وهيمان للذكر، وهيمى للأنثى، كعطشان وعطشى، وهي المصابة بداء الهيام: وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل، فتشرب حتى تموت أو تمرض. نُزُلُهُمْ النزل: ما يعد للضيف أول نزوله تكرمة له. يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء والقيامة.
المناسبة:
بعد بيان أحوال فريقين من الأصناف الثلاثة يوم القيامة، وهما السابقون وأصحاب اليمين، بيّن الله تعالى عطفا عليهم حال أصحاب الشمال وما يلقونه في نار جهنم من أنواع العذاب والنكال، مع بيان سبب ذلك، وهو انهماكهم في الشهوات في الدنيا، وشركهم، وإنكارهم يوم البعث.(27/259)
التفسير والبيان:
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي وأصحاب الشمال أي شيء هم فيه، وأي وصف لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟! وهذا الحال والوصف ما قاله تعالى:
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي هم في ريح حارة من حر النار، وماء شديد الحرارة، وظل من دخان جهنم شديد السواد، ليس باردا كغيره من الظلال التي تكون عادة باردة، ولا حسن المنظر ولا نافعا. وكل ما لا خير فيه فهو ليس بكريم. والمشهور أن السموم: ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالبا، قال الرازي: والأولى أن يقال: هي هواء متعفن، يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتله.
وذكر السموم والحميم، وترك ذكر النار وأهوالها، إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإذا كان هواؤهم الذي يستنشقونه سموما، وماؤهم الذي يستغيثون به حميما، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء في الدنيا، فما ظنك بنارهم التي هي في الدنيا أحرّ شيء! وكأنه تعالى يقول: إذا كان أبرد الأشياء لديهم أحرها، فكيف حالهم مع أحرّها؟! ونظير الآية قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات 77/ 29- 33] .
وسبب عذابهم ما قال تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكانُوا(27/260)
يَقُولُونَ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا
«1» لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ أي إنهم كانوا في الدار الدنيا منعمين بما لا يحل لهم، منهمكين في الشهوات، مقبلين على لذات أنفسهم، لا يأبهون بما جاءت به الرسل، وكانوا في إصرار دائم على الذنب العظيم لا يتوبون عنه، وهو الشرك، أو الكفر بالله، واتخاذ الأوثان والأنداد أربابا من دون الله، وكانوا ينكرون ويستبعدون البعث بعد الموت، قائلين: كيف نبعث إذا متنا وصرنا أجسادا بالية وعظاما نخرة؟ بل كيف يبعث آباؤنا وأجدادنا الأولون لتقادم الزمن الطويل عليهم وتقدم موتهم؟
فهم أشد إنكارا واستبعادا لبعث أصولهم الأوائل. ويلاحظ أنهم حكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار.
ويلاحظ أنه تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة، لذا لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم، وعند إيقاع العقاب يذكر أعمال المسيئين، لأن الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلما، فقال تعالى: هم فيها بسبب ترفعهم.
فأجابهم الله تعالى على أسباب إنكارهم البعث وهي الحياة بعد الموت، وتحول الأجساد إلى تراب، وطول العهد على موت الآباء، فقال:
قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي قل لهم أيها الرسول: إن الأولين من الأمم الذين تستبعدون بعثهم، والآخرين منهم الذين أنتم ومن سيأتي في المستقبل من جملتهم، سيجمعون بعد البعث إلى ساحات القيامة في يوم محدود، معلوم الأجل، لا يتأخر ولا يتقدم، ولا يزيد ولا ينقص، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ
__________
(1) الهمزة في أَإِذا وأَ إِنَّا للإنكار والتعجب كما تقدم، وتكريرها لتأكيد الإنكار.(27/261)
[النازعات 79/ 13- 14] . وقال سبحانه: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود 11/ 103- 105] . وقوله: قُلْ إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور. وأما عدم تعيين يوم القيامة فلئلا يتكل الناس.
ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر العذاب في المأكل والمشرب، فقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي إنكم معشر الضالين عن الحق، الذين أنكرتم وجود الله ووحدانيته، وكذبتم رسله، وأنكرتم البعث والجزاء يوم القيامة: إنكم ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، حتى تملؤوا بطونكم، لشدة الجوع، ثم إنكم سوف تشربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار، لشدة العطش، ويكون شربكم منه شرب الإبل العطاش الظماء، التي لا تروى لداء يصيبها، أي لا يكون شربكم من الحميم شربا معتادا، بل مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى أبدا بشرب الماء حتى تموت، قال ابن عباس وجماعة من التابعين: الْهِيمِ الإبل العطاش الظماء. وقال السدي: الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت، فكذلك أهل جهنم، لا يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان: أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة، من غير أن يتنفس ثلاثا.
ثم أبان الله تعالى أن هذا عذابهم، فقال:
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي هذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب، من شجر الزقوم، وشراب الحميم هو على سبيل السخرية والاستهزاء ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، وهو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة. وفي رأي الرازي: أن هذا ليس كل العذاب، بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه.(27/262)
والنزل: ما يعد للضيف، ويكون أول ما يأكله، كما قال تعالى في حق المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف 18/ 107] أي ضيافة وكرامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن أصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم، عظّم الله تعالى بلاءهم وعذابهم، وأثار فينا العجب من حالهم وشأنهم.
2- إنهم يعذبون في ريح حارة تدخل مسام البدن، ويشربون من ماء حار قد انتهى حرّه، لشدة العطش، فإذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، فيجدونه حميما حارا في نهاية الحرارة، وإذا فزعوا من السّموم إلى الظل، كما يفزع أهل الدنيا، فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد.
فهو ليس باردا، بل حار، لأنه من دخان شفير جهنم، ولا حسن المنظر ولا عذب، ولا نافع ولا خير فيه، فهو ليس بكريم.
3- إن أعمالهم الموجبة لهذا العقاب أو سبب استحقاقهم هذه العقوبة: أنهم كانوا في الدنيا مترفين منعّمين بالحرام، متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص، وكانوا يقيمون على الذنب الكبير ويلازمونه ولا يتوبون منه وهو الشرك، وقيل: اليمين الغموس، لأنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكانوا يقسمون ألا بعث وأن الأصنام أنداد لله، فذلك حنثهم، وكانوا يقولون استبعادا منهم لأمر البعث، وتكذيبا له، لا حياة بعد الموت، ولا يمكن إعادة الحياة للأجساد التي بليت والعظام التي نخرت، وبعث آبائنا أبعد، فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا، والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات، فكيف يمكن البعث؟!(27/263)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
4- ومن ألوان عذاب هؤلاء الضالين عن الهدى، المكذبين بالبعث أكلهم من شجر الزقوم: وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، حتى يملئوا بطونهم منه، ثم شربهم على الزقوم من الحميم: وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه، وهو صديد أهل النار، وليس شربهم كالمعتاد، وإنما يشربون شرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها.
والمراد: أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم، ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحميم كالإبل الهيم.
5- هذا رزقهم الذي يعدّ لهم يوم الجزاء يَوْمَ الدِّينِ في جهنم، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمة لهم، وفي هذا الوصف تهكم، كما في قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة 9/ 34] .
أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)(27/264)
الإعراب:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَأَنْتُمْ ... نَحْنُ الْخالِقُونَ في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، ومستأنفة على أنها بصرية.
ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا، أو مهلكون، لهلاك رزقنا، من الغرم: وهو الهلاك.
المفعول الثاني.
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أصله: ظللتم، يقرأ بفتح الظاء وكسرها، فمن قرأ بالفتح حذف اللام الأولى بحركتها تخفيفا، ومن قرأ بالكسر نقل حركة اللام الأولى إلى الظاء، وحذفها، وهما لغتان.
المفردات اللغوية:
فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالخلق متيقنين، تقيمون الدليل على التصديق بالأعمال الدالة عليه، أو فلولا تصدقون وتقرون بالبعث والإعادة، كما أقررتم بالنشأة الأولى، وهي خلقهم، فإن من قدر على الإبداء قادر على الإعادة. ما تُمْنُونَ ما تقذفونه أو تصبونه من المني في الأرحام. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلون المني بشرا سويا تام الخلق. قَدَّرْنا قضينا وأقّتنا موت كل واحد بوقت معين. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت، أو لا يغلبنا أحد، فلسنا بعاجزين.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
نخلق أشباهكم وقوله: عَلى
إما متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنا أي نحن قادرون، قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي بموت طائفة، ونبدلها بطائفة قرنا بعد قرن، وهذا قول الطبري. وإما متعلق بمسبوقين، أي لا نسبق على أن نبدل أمثالكم جمع مثل، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من الصفات، أي نحن قادرون على أن نعدمكم أو نميتكم، وننشئ أمثالكم، وعلى تغيير أوصافكم، مما لا يحيط به فكركم «1» .
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
نخلقكم خلقا آخر لا تعلمونه وأطوارا لا تعهدونها، أو نخلق صفات لا تعلمونها.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي علمتم الخلقة الأولى، فهلا تتذكرون أن من قدر عليها، قدر على النشأة الأخرى، لسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس.
تَحْرُثُونَ تثيرون الأرض وتلقون البذور فيها. تَزْرَعُونَهُ تنبتونه، من الزرع:
الإنبات. الزَّارِعُونَ المنبتون. حُطاماً هشيما هالكا متكسرا. فَظَلْتُمْ أصله ظللتم،
__________
(1) البحر المحيط: 2/ 211(27/265)
أي أقمتم نهارا. تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله، وتندمون على اجتهادكم فيه. لَمُغْرَمُونَ ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا، أو مهلكون، لهلاك رزقنا، من الغرم: وهو الهلاك.
مَحْرُومُونَ ممنوعون رزقنا، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين) .
الْمُزْنِ السحاب، جمع مزنة. الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا. أُجاجاً ملحا لا يمكن شربه.
فَلَوْلا تَشْكُرُونَ فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. تُورُونَ تقدحون، أو تخرجونها نارا. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها الشجرة التي منها الزناد، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. جَعَلْناها جعلنا نار الزناد. تَذْكِرَةً أنموذجا لنار جهنم، أو تبصرة في أمر البعث، أو تذكيرا. وَمَتاعاً منفعة. لِلْمُقْوِينَ للمسافرين، مأخوذ من أقوى القوم:
الذين ينزلون القواء، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. فَسَبِّحْ نزّه. بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله تعالى، وقل: سبحان الله العظيم، وأحدث التسبيح بذكر اسمه، أو بذكره، فإن إطلاق اسم الشيء: ذكره، والْعَظِيمِ: صفة للاسم أو الرب.
المناسبة:
بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة، ومآل كل صنف، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة، وقرر المعاد، وأثبت البعث والجزاء.
التفسير والبيان:
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأنتم تعلمون ذلك، فهلا تصدقون بالبعث، كما تقرّون بالخلق، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟
وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه(27/266)
فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق، أم الله الخالق لذلك، المقدر المصور له؟! نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم، فمنكم من يموت كبيرا، ومنكم من يموت صغيرا، ولكن الكل سواء فيه، وما نحن بمغلوبين، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم، لتستمر الحياة البشرية، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم.
وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث، وصدق الرسل في الحشر، لأن قوله: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى، ولما كان قادرا على الخلق أولا، كان قادرا على الخلق ثانيا.
ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق، فقال:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من هيكل عظمي، ثم كساكم باللحم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] ، وقال سبحانه: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم 19/ 67] ، وقال عزّ وجلّ: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(27/267)
[يس 36/ 79] ، وقال عزّ اسمه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً! أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ [القيامة 75/ 36- 40] .
وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية، بالتذكير بالنشأة الأولى، ليكون تذكيرا بعد تذكير.
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته، فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم، فتطرحون فيه البذر، والحرث: شق الأرض وإلقاء البذر فيها، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ.
وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء، وفيه أمور ثلاثة: المأكول المذكور هنا أولا، لأنه هو الغذاء، ثم ذكر المشروب، لأن به الاستمراء، ثم النار التي بها الإصلاح.
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لأيبسناه، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون، والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك(27/268)
زرعنا، لسوء حظنا، والمحروم: الممنوع من الرزق، وهو ضدّ المرزوق.
ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب، فقال:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تقرّون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث؟
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا، فهو محض النعمة، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا، تشربون منه وتنتفعون به، كما قال تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل 16/ 10- 11] .
روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء، قال: «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» .
ثم ذكر النار أداة الإصلاح، فقال:
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران، ويحك أحدهما بالآخر، فيتناثر من بينهما شرر النار.(27/269)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أي نحن جعلنا هذه النار تذكركم حر نار جهنم الكبرى، ليتعظ بها المؤمن، ونفعا للمسافرين وأهل البادية النازلين في الأراضي المقفرة.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا:
يا رسول الله، إن كانت لكافية فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» .
وخصص المقوون، أي المسافرون بالذكر، لشدة حاجتهم إلى النار، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم، لما
رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء» .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة، فخلق الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق، ولم يفدهم الإيمان، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه، بعلمه بربّه، وعمله لربّه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا: دليل الخلق، ودليل الرزق.
أما دليل ابتداء الخلق: فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة، ثم من العلقة، ثم من المضغة، دون أن نكون شيئا، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى، والتقاء نطفتي الرجل(27/270)
والمرأة، ثم القرار في الأرحام، والمرور بأطوار الخلق إلى أن يكتمل الإنسان بشرا سويا تام الخلق. وإذا أقرّ الناس بأن الله هو خالقهم لا غيرهم، فعليهم الإقرار والاعتراف بالبعث.
والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث.
والله عزّ وجلّ قادر على خلق الأجيال، جيلا بعد جيل، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم، وصورهم وهيئاتهم، والقادر على ذلك قادر على الإعادة.
جاء في الخبر: «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى، وهو لا يسعى لدار القرار» «1» .
وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء، بطريق الاستفهام المراد به الطلب، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم، فتطرحون فيها البذر، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا، فيكون فيه السنبل والحبّ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد، والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وإنباته باختياره، لا باختيارهم.
أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان- وضعفه- وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت، فإن الزارع هو الله»
قال أبو هريرة: ألم
__________
(1) تفسير الألوسي: 27/ 148(27/271)
تسمعوا قول الله تعالى: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟. وهذا نهي إرشاد وأدب، لا نهي حظر وإيجاب.
والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجنّبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك.
والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع، وفي هذا تنبيه على أمرين: أحدهما- ما أولاهم به من النّعم في زرعهم، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه، الثاني- ليعتبروا بذلك في أنفسهم، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا.
وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض، فيعجب من ذهاب الزرع، ويندم مما حلّ به، ويقول: إنني لخاسر مغرم، أو لمعذب هالك، محروم مما طلبت من الريع والربح.
ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة، والتابع للمطعوم، فهو نعمة عظمي، والله هو الذي أنزله من السحاب، لإحياء النفوس، وإرواء العطش، وإذا عرف أن الله أنزله، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟
والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله، ونعمة أخرى.(27/272)
ثم ذكر الله تعالى النار التي بها الإصلاح، فهي أيضا نعمة، والله هو الذي أنشأ شجرتها التي يكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، وإذا عرف أن الله هو المخترع الخالق، وعرفت قدرته على خلق الأشياء، فليشكروه ولا ينكروا قدرته على البعث.
ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس.
وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده، فقال في الأولى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي الثانية: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً وفي الثالثة: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها، بل قال: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً تتعظون بها، ولا تنسون نار جهنم، كما
أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها» .(27/273)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
إثبات النبوة وصدق القرآن وتوبيخ المشركين على اعتقادهم
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
الإعراب:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ.. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ في الجمل تقديم وتأخير من وجهين: أحدهما- أنه فصل بين القسم والمقسم عليه بقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فقدمه على المقسم عليه وتقديره:
«أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم..» إلخ. الثاني- أنه فصل بين الصفة والموصوف بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ وتقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون، فقدمه على الصفة.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا نافية غير ناهية، ويَمَسُّهُ فعل مضارع مرفوع، ويكون المراد بقوله: الْمُطَهَّرُونَ الملائكة.
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تقديره: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم، ولولا: بمعنى «هلا» . فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أما: حرف تفصيل وشرط، بمنزلة(27/274)
(مهما) وجوابه: فَرَوْحٌ وتقديره: فله روح، وروح: مبتدأ، وله خبره، والتقدير: مهما يكن من شيء فروح وريحان إن كان من المقربين، فحذف الشرط الذي هو (يكن من شيء) وأقيم (أما) مقامه.
وهكذا الكلام على قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ وقوله تعالى:
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ.
البلاغة:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ جملة اعتراضية بين القسم والمقسم عليه لتأكيد القسم، وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ جملة اعتراضية بين الصفة والموصوف لبيان أهمية القسم.
المفردات اللغوية:
فَلا أُقْسِمُ هذا قسم في كلام العرب، و «لا» مزيدة للتأكيد، كما في قوله تعالى:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد 57/ 29] . واستعمال هذه الصيغة للدلالة على أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، أو المراد: فأقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ مساقط الكواكب ومغاربها، وتخصيص المغارب، للدلالة على وجود مؤثر، لا يزول تأثيره. وَإِنَّهُ أي القسم بها. لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته ألا يترك عباده سدى. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ إن المتلو عليكم لقرآن كثير النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ في مكتوب مصون عن التغيير والتبديل، وهو المصحف، أو اللوح المحفوظ.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا النافية، والْمُطَهَّرُونَ الملائكة، أي لا يقربه ولا يطلع عليه إلا المنزهون من الحظوظ النفسية، وهم الملائكة. أو هو خبر بمعنى النهي، أي لا يمس القرآن إلا المطهّرون من الأحداث، فيكون نفيا بمعنى نهي. وقرئ: «المتطهرون» . و «المطّهرون» بالإدغام، و «المطهرون» من أطهره، و «المطّهرون» ، أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام. تَنْزِيلٌ صفة رابعة للقرآن، أي منزّل من رب العالمين، أو وصف بالمصدر، لأنه نزّل مقسطا منجما من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل، لذا سمي به، ويقال: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل، أو هو تنزيل، على حذف المبتدأ، وقرئ: تنزيلا أي نزل تنزيلا.
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ القرآن. مُدْهِنُونَ متهاونون، كمن يدهن في الأمر، أي يلين جانبه، ولا يتصلب فيه، تهاونا به، ومنه يقال: المداهنة: الملاينة والمداراة. وهذا استعمال للفظ(27/275)
في الشيء المعنوي على سبيل المجاز، الذي صار لشهرته حقيقة عرفية. وأصله الادهان: أي جعل الأديم (الجلد) مدهونا بمادة زيتية ليلين لينا حسيا. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي شكر رزقكم، وهو المطر. أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بمانحه وساقيه حيث تنسبون المطر إلى الأنواء، وتقولون: مطرنا بنوء كذا. والنوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته، في كل ثلاثة عشر يوما، ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يوما، وكانت العرب تضيف الأمطار والرّياح والحرّ والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها، لأنه في سلطانه، وجمعه:
أنواء.
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي فلا إذا وصلت الروح وقت النزع الحلقوم، أي أعلى مجرى الطعام. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وأنتم يا من يكون حول المحتضر تنظرون إليه، والواو للحال.
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي ونحن أعلم بحال المحتضر منكم، ولكن لا تعلمون ذلك، أو لا تدركون كنه ما يجري عليه، عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى أسباب الاطلاع. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي فهلا إن كنتم غير مجزيين يوم القيامة، أي غير مبعوثين بزعمكم. تَرْجِعُونَها تردون الروح إلى الجسد، بعد بلوغ الحلقوم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما زعمتم. والمعنى: هلا ترجعون الروح إلى مقرّها إن نفيتم البعث، صادقين في نفيه، بأن تزيلوا الموت الذي يعقبه البعث.
ولولا الثانية تأكيد للأولى. وإذا ظرف لفعل: تَرْجِعُونَها.
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي إن كان المتوفى من السابقين. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فله استراحة، ورزق حسن طيب، وجنة ذات تنعم. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي وإن كان من أهل اليمين، فسلام من العذاب وتحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، من جهة أنه منهم.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ أي من أصحاب الشمال الذين كذبوا بالله ورسله وضلوا عن الهدى، وإنما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها، وإشعار بسبب وعيدهم. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي فالنزل المعدّ لك أول قدومك: ماء شديد الحرارة، والاصطلاء بنار الجحيم وإذاقة حرها. إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي إن هذا المذكور في السورة لهو حق الخبر اليقين، أي الحق الثابت الذي لا شك فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بعظمة شأنه.(27/276)
سبب النزول: نزول الآية (75) :
فَلا أُقْسِمُ..:
أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حزرة قال: نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار في غزوة تبوك نزلوا الحجر «1» ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحملوا من مائها شيئا، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر، وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام، فصلى ركعتين، ثم دعا، فأرسل الله سحابة، فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتهم بالنفاق: ويحك أما ترى ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمطر الله علينا السماء، فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا.
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين، يقول: الكوكب، وبالكوكب» .
المناسبة:
بعد بيان أدلة إثبات الألوهية والبعث والجزاء، أقام الله تعالى الأدلة على النبوة وصدق القرآن العظيم، وأقسم بمواقع النجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من رب العالمين، ثم وبخ المشركين على اعتقادهم الباطل بجحود الله وتكذيب
__________
(1) الحجر: ديار ثمود، واد بين المدينة والشام.(27/277)
رسوله، وإنكار المعاد، ثم أعاد الكلام على أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم السورة: السابقين المقربين، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وما يلقاه كل صنف من الجزاء يوم القيامة، ثم أخبر الله نبيه بأن هذا الخبر هو الحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وأمره أن ينزه ربه عن كل نقص وغيره مما لا يليق به.
التفسير والبيان:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي أقسم بمساقط النجوم وهي مغاربها، ولله في رأي الجمهور أن يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته. وإنما خص القسم بمساقط النجوم، لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره، لذا استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله، وكذلك لا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة.
وجاء القسم على هذا النحو: فَلا أُقْسِمُ بالنفي مريدا: أُقْسِمُ، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل أُقْسِمُ كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه، فيفيد التأكيد، والمراد أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما، فضلا عن هذا القسم العظيم. وورد القسم على مثال ذلك كثيرا في القرآن الكريم، مثل: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ [الانشقاق 84/ 16] وفَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير 81/ 15] ولا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة 75/ 1] وفَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ [الحاقة 69/ 38] وفَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج 70/ 40] ولا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد 90/ 1] ووَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة 75/ 2] .
ويرى بعض المفسرين أن (لا) ليست زائدة لا معنى لها، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي، كقول عائشة رضي الله عنها: «لا والله ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط» .(27/278)
وجاء القسم في القرآن على أنواع: إما قسم الله بنفسه أو بذاته مثل:
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات 51/ 23] وتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء 21/ 57] . وإما قسم من الله بأشياء من خلقه، دلالة على عظمة مبدعها، كالصافات، والطور، والذاريات، والنجم ومواقع النجوم، والشمس والقمر، والليل والنهار، ويوم القيامة، والفجر والبلد والتين والزيتون.
وقد يكون القسم بالقرآن: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس 36/ 1- 2] .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص 88/ 1] . ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق 45/ 1] .
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف 43/ 1- 2] [والدخان 90/ 1- 2] في الزخرف والدخان.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. والضمير يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام المتقدم.
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ هذا هو المقسم عليه، أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم، كثير المنافع والفوائد، لما فيه من الهدى والعلم والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذه الصفة الأولى للقرآن.
والمناسبة واضحة بين المقسم به وهو النجوم، وبين المقسم عليه وهو القرآن، لأن النجوم تضيء الظلمات، وآيات القرآن تنير الطريق، وتبدد ظلمات الجهل والضلالة، والأولى ظلمات حسية، والثانية ظلمات معنوية.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ هذه ثلاث صفات أخرى للقرآن العظيم: وهي أنه في اللوح المحفوظ مصون مستور لا يطلع عليه إلا الملائكة المقربون، وهم الكروبيون، ولا يمسه في السماء إلا الملائكة الأطهار، ولا يمسه في الدنيا إلا المطهرون من الحدثين: الأصغر(27/279)
والأكبر، أي الحدث والجنابة، وهو منزل من الله تعالى، فليس بسحر ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع.
ويدل فحوى الآية على أنه لا يمس القرآن كافر ولا جنب ولا محدث،
روى مالك في موطئه وابن حبان في صحيحة: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر.
وروى أبو داود في المراسيل وأصحاب السنن من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عبد أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يمس القرآن إلا طاهر»
وأسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، لكن في إسناد كل منهما نظر.
وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه العلماء، وأجاز بعض الفقهاء وهم المالكية مس المحدث له لضرورة التعلم والتعليم. لكن رجح العلماء أن المراد من الكتاب: الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس 80/ 13- 16] لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزل به الشياطين، ولأن السورة مكية، وأغلب عناية القرآن المكي في أصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة، وأما الأحكام الفرعية ففي القرآن المدني، ولأن قوله مَكْنُونٍ معناه مصون مستور عن الأعين لا تناله أيدي البشر، ولو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا فائدة كبيرة.
ثم وبخ الله تعالى المتهاونين بشأن القرآن، فقال:
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي أبهذا القرآن الموصوف بالأوصاف الأربعة السابقة متهاونون، تمالئون الكفار على الكفر، وتركنوا إليهم؟
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي وتجعلون شكر رزقكم من السماء وهو(27/280)
المطر، أو من الأرض وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة الله وبالبعث وبما دل عليه القرآن، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر!! ثم وبخ الله تعالى المشركين على ما يعتقدون، فقال:
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي فهلا إذا وصلت الروح أو النفس الحلق حين الاحتضار، وأنتم ترون المحتضر قد قارب فراق الحياة، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت، ونحن بالعلم والقدرة والرؤية وبملائكتنا أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبضه. وجواب فَلَوْلا سيأتي بعد وهو تَرْجِعُونَها.
ثم أكّد الله تعالى الحث والتحضيض، فقال:
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين ولا مبعوثين، تمنعون موته، وترجعون الروح التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا وأنكم غير مربوبين ولا مملوكين للخالق؟
والمعنى المراد: أنه إذا لم يكن لكم خالق، وأنتم الخالقون، فلم لا ترجعون الأرواح إلى أجسادها حين بلوغها الحلقوم؟! وإن صدقتم ألا بعث، فردوا روح المحتضر إلى جسده، ليرتفع عنه الموت، فينتفي البعث؟ أي إن تحقق الشرطان أو الوصفان منكم: إن كنتم غير مدينين، وإن كنتم صادقين فردوا روح الميت إليه.
ونظير الآية قوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ؟(27/281)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ
[القيامة 75/ 26- 29] .
ثم بيّن الله تعالى مصائر هؤلاء الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم، وجعلهم أقساما ثلاثة فقال:
1- فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي إن كان المحتضر أو المتوفى من فئة السابقين المقربين: وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وبعض المباحات، وهم الصنف الأول في مطلع السورة، فلهم راحة، واستراحة وطمأنينة من أحوال الدنيا، ورزق واسع ونعيم في الجنة، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. والروح:
الاستراحة، وهو يعم الروح والبدن، والريحان: الرزق، وهو للبدن، وجنة النعيم للروح، يتنعم بلقاء المليك المقتدر. يروى: أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه. فاللهم اجعلنا من هؤلاء يا ذا الجلال والإكرام.
2- وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي وأما إن كان المحتضر أو المتوفى من أهل اليمين: وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فتبشرهم الملائكة بذلك، وتقول لهم: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين، وذلك لأنك ستكون معهم، فيستقبلونك بالسلام.
وذلك كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت 41/ 30- 32] .(27/282)
3- وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي وإن كان المتوفى أو المحتضر من المكذبين بالحق والبعث، الضالين عن الهدى، وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم، فله ضيافة أو نزل يعد له من حميم: وهو الماء الشديد الحرارة، بعد أن يأكل من الزقوم، كما تقدم بيانه، ثم استقرار، وزج له في النار التي تغمره من جميع جهاته.
ثم حسم الله تعالى الأمر وأبان مدى صحة الخبر، فقال:
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي ن هذا الخبر والمذكور في هذه السورة من أمر البعث وغيره لهو محض اليقين وخالصة، والحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، ولا محيد لأحد عنه.
ثم أمر الله نبيه بما يكمل نفسه، فقال:
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله عما لا يليق بشأنه، لما علمت من أخبار علمه وقدرته. والباء في قوله: بِاسْمِ زائدة، أي سبّح اسم ربك، والاسم: المسمى.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال:
«اجعلوها في ركوعكم»
ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» .
والفرق بين العظيم والأعلى: أن العظيم يدل على القرب، والأعلى يدل على البعد، فهو سبحانه قريب من كل ممكن، وقريب من الكل، وهو أعلى من أن يحيط به إدراكنا، وفي غاية البعد عن كل شيء.
أخرج الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(27/283)
«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- أقسم الله تعالى بمساقط النجوم ومغاربها، وهو قسم عظيم لو يعلم الناس، على أن القرآن قرآن كريم، كثير النفع، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدروهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه.
قال القشيري عن صيغة القسم: فَلا أُقْسِمُ ... : هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.
2- وصف الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأربع صفات: هي أنه كريم، أي كثير الخير والنفع والفائدة، وفي كتاب مكنون، أي في اللوح المحفوظ، مصون عند الله تعالى، ومحفوظ عن الباطل والتغيير والتبديل، ولا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب، وهم الملائكة، ومنزل من رب العالمين.
والأصح أن المراد من الكتاب المكنون: اللوح المحفوظ. والضمير في لا يَمَسُّهُ للكتاب.
أما مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور ومنهم أئمة المذاهب الأربعة على المنع من مسّه،
لحديث عمرو بن حزم المتقدم: «لا يمس القرآن إلا طاهر»
وأجاز المالكية مسّ القرآن للمحدث لضرورة التعلم والتعليم.
وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي الظاهري: أنه لا بأس بحمل القرآن(27/284)
ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، ورد عليهم بأنه موضع ضرورة، فلا حجة فيه. فيكون المنع من مس المصحف للمحدث ثابتا بالسنة، وليس مأخوذا من صريح الآية.
3- بعد إثبات النبوة وصدق الوحي والقرآن الكريم وبّخ الله تعالى المتهاونين بالقرآن المكذبين به، وهذا قلب للأوضاع، فإن الجاحدين جعلوا شكر الرزق من الله والإنعام هو التكذيب، فوضعوا الكذب مكان الشكر، كقوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال 8/ 35] أي لم يكونوا يصلّون، ولكنهم كانوا يصفّرون ويصفّقون مكان الصلاة.
قال القرطبي: وفي هذا بيان أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها، تعبّدا له وتذللا «1» .
4- تحدى الله منكري البعث بأنهم إن كانوا صادقين في زعمهم ألا بعث، وأنهم غير مجزيين ولا محاسبين ولا مبعوثين يوم المعاد، فليمنعوا الموت عن الإنسان حين الاحتضار، وليردوا الروح إليه إذا بلغت الحلقوم، وإذا انتفى الموت انتفى البعث، والحق أنهم عاجزون عن ذلك، لا يقدرون على شيء من هذا، وهم ينظرون إلى المحتضر محزونين آيسين، والله سبحانه أقرب إلى المحتضر بالقدرة والعلم والرؤية، ولكن الحاضرين حوله لا يدركون ذلك، ولا يرون الملائكة الرسل الذين يتولون قبض الروح.
5- الناس عند الاحتضار ثم الوفاة أصناف ثلاثة: المقربون السابقون،
__________
(1) تفسير القرطبي: 17/ 228(27/285)
وأهل اليمين، وأهل الشمال. أما المقربون فلهم الرحمة والاستراحة، والرزق الواسع، والتنعم المطلق في الجنة، ورؤية الله عز وجل، فلا يحجبون عنه.
وأما أصحاب اليمين، فإنهم يسلمون من عذاب الله، ويسلم الله عليهم، وتسلّم الملائكة أيضا عليهم قائلين لهم: سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين.
قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وكذلك يسلم عليهم منكر ونكير عند المساءلة في القبر، وتسلم عليهم الملائكة عند البعث في القيامة، قبل الوصول إليها.
فالملائكة تسلم على صاحب اليمين في المواطن الثلاثة، ويكون ذلك إكراما بعد إكرام «1» .
وأما أصحاب الشمال المكذبون بالبعث، الضالون عن الهدى وطريق الحق، فلهم رزق من حميم: ماء تناهي حره، وإدخال في النار.
6- إن جميع هذا المذكور في هذه السورة محض اليقين وخالصة، وهو الحق الثابت الذي لا شك فيه، ولا محيد عنه. قال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين.
7- أمر الله نبيه والمؤمنين من بعده بأن ينزه الله تعالى عن السوء وعن كل ما لا يليق به، ما دام الحق قد ظهر، واستبان اليقين، وبطل زيف الكفار والمشركين.
__________
(1) المرجع السابق: ص 234(27/286)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
مكيّة، وهي تسع وعشرون آية.
مدنيتها:
هي كما ذكر القرطبي مدنية في قول الجميع، وهو الظاهر، وقيل: إنها مكية وهو رأي مرجوح.
تسميتها:
سميت سورة الحديد، للإشارة في الآية (25) منها إلى منافع الحديد، واعتماد مظاهر المدنية والعمران والحضارة عليه، سواء في السلم والحرب.
مناسبتها لما قبلها:
وجه اتصال هذه السورة بالواقعة من ناحيتين.
1- ختمت سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح، وبدئت هذه بذكر التسبيح من كل ما في السموات والأرض.
2- إن سورة الحديد واقعة موقع العلة للأمر بالتسبيح في الواقعة، فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لأنه سبح له ما في السموات والأرض، فالله أمر بالتسبيح، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله، والتزمه كل ما في السموات والأرض.(27/287)
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والإيمان، والجهاد والإنفاق في سبيل الله، والترفع عن مفاتن الدنيا، وبيان أصول الحكم الإسلامي، وكشف مخازي المنافقين، وشرائع الأنبياء في الحياة الخاصة والعامة.
ابتدأت بالحديث عن صفات الله وأسمائه الحسنى، وظهور آثار عظمته في خلق الكون. ثم دعت المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الإسلام، ورفع مجده وشأنه.
وقارنت أثر هذه الدعوة إلى البذل والجهاد بين المؤمنين المجاهدين الذين يتميزون بأنوارهم في الآخرة، وبين المنافقين الذين يبخلون ويجبنون، ويتخبطون في ظلمات الجهل والكفر.
ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء، وحضّت على العدل وعمارة الكون، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام، وأمرت بتقوى الله، واتّباع هدي الرسل والأنبياء.
وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل، وبقصة عيسى بن مريم، وموقف أتباعه من دعوته، وأوضحت ثواب المتقين، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من الله، وفضل يختص به من يشاء من عباده.(27/288)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
فضلها:
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية أنه حدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، وقال: «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وهي قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
التسبيح لله في جميع الأوقات وأسبابه
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
الإعراب:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ مَعَكُمْ ظرف متعلق بفعل مقدر، تقديره: وهو شاهد معكم.
البلاغة:
يُحْيِي وَيُمِيتُ بينهما طباق، وكذا بين الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وبين الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ووَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها بينهما مقابلة. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فيه رد العجز على الصدر.(27/289)
المفردات اللغوية:
سَبَّحَ لِلَّهِ أي نزهه كل شيء من كل نقص وعما لا يليق به من صفات الحوادث كالشريك والولد، وإنما عدّي باللام وهو معدّى بنفسه، مثل نصحت له ونصحته، إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. وذكر في القرآن: سَبَّحَ كما في آخر السورة السابقة الواقعة وأول الأعلى للأمر بالتسبيح، وذكر هنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع، إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، وكله يدل على الديمومة والاستمرار، وأن ذلك ديدن من في السموات والأرض، وجاء بلفظ المصدر سُبْحانَ أول الإسراء، إشعارا بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال.
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جيء ب ما وليس «من» تغليبا للأكثر من غير العقلاء.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي في ملكه فلا ينازعه فيه شيء، الحكيم في صنعه، والجملة حال يشعر بما يدل على أنه الأهل للتسبيح مع استغنائه. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي إن سبب التسبيح كونه تعالى مالكا السموات والأرض، وله تمام التصرف في الملك، وهو إيجاد ما شاء، وإعدام ما شاء بقدرته على الإحياء والإماتة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر تام القدرة على كل شيء من الإحياء والإماتة وغيرهما.
هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات، والموجود قبل كل شيء بلا بداية، لأنه موجد الأشياء ومحدثها. وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الموجودات، والموجود بعد كل شيء بلا نهاية.
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ الظاهر وجوده لكثرة دلائله، والباطن: حقيقة ذاته، فلا تحيط به العقول والحواس، وخفيت عنه ذاته، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بذاته. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الكرسي استواء يليق به. يَلِجُ يدخل. فِي الْأَرْضِ من كنوز ومعادن وبذور ومطر وأموات. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالنبات والمعادن لمنفعة الناس.
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالمطر والرحمة والملائكة والعذاب وغير ذلك. وَما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة والأعمال والدعوات. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بعلمه وقدرته، لا يفارقكم بحال، فليس المراد المعية بالذات. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه، وتقديم الخلق في الآية على العلم، لأنه دليل عليه.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الموجودات جميعها. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقص، فيزيد الليل وينقص النهار تارة، وعلى العكس تارة أخرى. وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما فيها من الأسرار والمكنونات، والنوايا والخفايا والمعتقدات.(27/290)
التفسير والبيان:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي نزّه الله تعالى عن كل نقص وعما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض من الجماد والنبات والإنسان والحيوان، تعظيما له وإقرارا بربوبيته، سواء بلسان المقال، كتسبيح الملائكة والإنس والجن، أو بلسان الحال، كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء 17/ 44] فتسبيح العقلاء: تنزيه وتقديس وعبادة، وتسبيح غيرهم إقرار واعتراف بالصانع.
والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء، ولا ينازعه أحد في ملكه، الحكيم في تدبيره وأمره وخلقه وشرعه، يتصرف على وفق الحكمة والصواب. وهذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها، تدل على أنه تعالى مبدأ التسبيح مع الاستغناء عنه.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي لله تعالى الملك المطلق للسموات والأرض، يتصرف فيهما وحده، وله السلطان التام، وهو نافذ الأمر، فلا ينفذ غير تصرفه، وهو المالك المتصرف في خلقه، فيحيي من يشاء، ويميت من يشاء، ويعطي من يشاء ما يشاء، وهو تام القدرة، لا يعجزه شيء، كائنا ما كان، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي الله هو الأول قبل كل شيء، قيل، وهو غير
حديث: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني»
وهو الآخر الباقي بعد كل شيء، بعد فناء خلقه، كما قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] .(27/291)
وهو الظاهر العالي فوق كل شيء، الغالب على كل شيء، والباطن العالم بما بطن، ولا تعرف العقول ذاته على حقيقتها، ولا تدركه الحواس، وهو ذو علم تام بكل شيء، لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر» .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي الله الذي أوجد وأبدع السموات والأرض في أيام ستة الله أعلم بمقدارها، وفي ستة أطوار مختلفة، وهو القادر على خلقها في لحظة، ولكن هذا العدد لتعليم العباد التأني والتثبت في الأمور، ثم استوى على العرش أي الكرسي استواء يليق به، على نحو يريده، مما لا يعلم به إلا هو، وهذا رأي السلف، وهو الأولى احتياطا، ورأي الخلف تأويل الاستواء على العرش بتدبير الأمر وتفصيل الآيات والاستيلاء على مقاليد السلطة.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي يعلم كل شيء، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك، ويخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن وغيرها، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد الصالحة والسيئة، والدعوات، والأبخرة المتصاعدة ونحو ذلك،
جاء في الحديث الصحيح: «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل» .
ونظير الآية: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] .(27/292)
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي والله سبحانه مع عباده بقدرته وسلطانه وعلمه، أينما كانوا في البر والبحر والجو، والله رقيب عليهم بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه شيء منها.
قال أبو حيان: وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها، مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها «1» .
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي هو المالك للدنيا والآخرة. كما قال تعالى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى [الليل 92/ 13] فلا راد لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص 28/ 70] ومرجع جميع الأمور إلى الله وحده لا إلى غيره يوم القيامة، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور، ولا يظلم مثقال ذرة.
وقوله: لَهُ مُلْكُ.. هذا التكرير للتأكيد، أو أنه وما بعده ليس بتكرار، لأن الكلام الأول في الدنيا لقوله: يُحْيِي وَيُمِيتُ والثاني في العقبى والآخرة لقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي إن الله سبحانه هو المتصرف في الخلق، يقلّب الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل، ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتتوالى الفصول الأربعة بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، وهو يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها، وإن خفيت، لا يخفى عليه من ذلك خافية، سواء الظاهر والباطن.
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 217(27/293)
وهذا حث على التأمل في ملكوت الله، وشكر على ما أنعم، وتنزيه على كل ما لا يليق به. والخلاصة: أن هذه الآيات إخبار بتسبيح كل شيء الله، وبيان موجبات التسبيح.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- مجّد الله ونزّهه عن السوء في الذات والصفات والأسماء والأفعال كلّ شيء في الأرض والسماء، سواء بالنطق والمقال الصريح، أم بلسان الحال والدلالة وظهور آثار الصنعة: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
2- إن موجبات التسبيح كون الله العزيز الغالب في ملكه، الحكيم في صنعه، المالك المتصرف في السموات والأرض، المستغني في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم، والنافذ الأمر، المالك القادر القاهر، الذي لا يعجزه شيء.
3- ومن موجباته أيضا أنه سبحانه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الغالب الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو تام العلم بما كان أو يكون، فلا يخفى عليه شيء.
وهذا دليل على أنه تعالى قبل كل شيء، ومتقدم على ما سواه تأثيرا وطبعا وشرفا ومكانا وزمانا، أي أنه سبحانه قبل المكان وقبل الزمان. وهو إله لجميع الممكنات والكائنات، وإله للعرش والسموات والأرضين، وعالم بظواهرنا وبواطننا.
4- ومما يوجب تسبيحه أنه خالق السموات والأرض ومبدعهما، صاحب(27/294)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
العرش الذي استوى عليه استواء يليق به، العالم بما يدخل في الأرض من مطر وغيره، وما يخرج منها من نبات وغيره، وما ينزل من السماء من رزق ومطر وملائكة، وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد، وهو مع خلقه بقدرته وسلطانه وعلمه، لا بذاته، أينما كانوا، ويبصر أعمالهم ويراها، ولا يخفى عليه شيء منها.
5- ومن موجبات التسبيح أنه سبحانه المالك للدنيا والآخرة، وترجع إليه أمور الخلائق في الآخرة. وهو يقلب الليل والنهار طولا وقصرا، ويأتي بالفصول الأربعة، ولا تخفى عليه الضمائر، فهو إذن المعبود على الحقيقة، فلا يجوز أن يعبد من سواه.
والخلاصة: أن هذه الآيات جامعة بين الدلالة على قدرة الله، وبين إظهار نعمه، والمقصود من إعادة بعض معانيها في رأي القائلين بالتكرار الحث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر على تلك النعم.
بعض التكاليف الدينية الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الإنفاق
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 12]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)(27/295)
الإعراب:
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لا تُؤْمِنُونَ في قراءة: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من معنى الفعل في ما لَكُمْ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال، والواو: واو الحال، وتقديره: ما لكم غير مؤمنين بالله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ.. والمعنى:
وأي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى كُلًّا: منصوب ب وَعَدَ والْحُسْنى: منصوب مفعول ثان ل وَعَدَ وقرئ: وكل على أنه مبتدأ، ووَعَدَ: خبره، وقدر في وَعَدَ هاء، أي وعده الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أي أولئك كل وعد الله، ووَعَدَ:
صفة ل كُلًّا.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ.. يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ويَسْعى نُورُهُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، لأن تَرَى بصرية لا قلبية.
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تقديره: دخول جنات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن البشارة إنما تكون بالأحداث، لا بالجثث.
البلاغة:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ فيه حذف بالإيجاز، تقديره: ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لدلالة الكلام عليه بعدئذ، ولوضوحه.(27/296)
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، حيث استعار الظُّلُماتِ للكفر والضلالة، والنُّورِ للإيمان والهداية.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً استعارة تمثيلية، مثل حال المنفق بإخلاص بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء.
المفردات اللغوية:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صدقوا بوحدانية الله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وداوموا على الإيمان بهما.
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أنفقوا في سبيل الله من الأموال التي جعلكم خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة له، لا لكم، وسيخلفكم بدلا عنها، وفيه حث على الإنفاق وتهوين له على النفس. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ هذا وعد فيه عدة مبالغات هي جعل الجملة اسمية، وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق، وبناء الحكم على الضمير، وتنكير كلمة الأجر، ووصفه بالكبر.
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ خطاب للكفار، أي لا مانع لكم من الإيمان. وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أخذه الله عليكم في عالم الذر حين أشهدكم على أنفسكم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وكذلك بعد وجودكم، إذ أقام الأدلة على وجوده وتوحيده في الأنفس والآفاق، ومكنكم من النظر بالعقل والتفكير. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم مريدين الإيمان به، فبادروا إليه.
آياتٍ بَيِّناتٍ هي آيات القرآن. لِيُخْرِجَكُمْ الله تعالى، أو عبده محمد صلى الله عليه وسلم. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبّهكم بالرسل والآيات، ولم يقتصر على الحج العقلية.
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي وما لكم بعد إيمانكم ألا تنفقوا في سبيل الجهاد وفيما يكون قربة إليه. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان الأمر كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى، وهو الثواب، كان أولى.
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا تساوي بين المنفق قبل فتح مكة وقاتل الأعداء، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوجود السبق في الإيمان، وقوة اليقين، وتحرّي المصالح العامة للمسلمين. وذكر القتال للاستطراد. والمراد بالفتح فتح مكة الذي أعز الله به الإسلام، وكثر أهله، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق والمقاتلة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وكلّا من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بأعمالكم الظاهرة والباطنة، فمجازيكم على حسبها.(27/297)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ... ؟ أي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه. قَرْضاً حَسَناً خالصا لله. فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعطي أجره أضعافا. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ مقترن بالرضا والقبول. يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمامهم. وَبِأَيْمانِهِمْ كتبهم، لأنهم يؤتون صحائف أعمالهم من الأمام واليمين. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي تتلقاهم الملائكة تبشرهم بدخول الجنات، وبشراكم أي ما تبشرون به.
سبب النزول:
نزول الآية (7) :
آمِنُوا بِاللَّهِ: نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك.
نزول الآية (10) :
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ..: ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وذكر أيضا
عن ابن عمر قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال، إذ نزل عليه جبريل عليه السلام، فأقرأه من الله السلام، وقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال؟ فقال: يا جبريل، أنفق ماله قبل الفتح عليّ، قال: فأقرئه من الله سبحانه وتعالى السلام، وقل له: يقول لك ربك:
أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال:
يا أبا بكر، هذا جبريل يقرئك من الله سبحانه السلام، ويقول لك ربك:
أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر، وقال: على ربي أغضب، أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض «1» .
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 230 وما بعدها، تفسير القرطبي: 17/ 240(27/298)
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أدلة إثبات وحدانيته وعلمه وقدرته، بمشاهد في السموات والأرض والأنفس، أتبعها ببعض التكاليف الدينية، فأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وباستدامته والإخلاص فيه، ثم طلب من المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، وأخبر بمضاعفة الأجر عليه، وأبان أن آياته تخرج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وفضّل السابقين الأولين إلى الإسلام الذين أسلموا وأنفقوا قبل فتح مكة، ثم أكد الحث على الإنفاق مرة أخرى.
التفسير والبيان:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي صدّقوا بالتوحيد وبصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، وداوموا واثبتوا على ذلك، وأنفقوا من مال الله الذي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه.
ثم رغب في الإيمان والإنفاق في الطاعة، مبينا أن الذين جمعوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين الإنفاق في سبيل الله، لهم ثواب كثير الخير والنفع وهو الجنة.
أخرج أحمد عن عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ألهاكم التّكاثر، يقول ابن آدم، مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» ورواه مسلم أيضا وزاد: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» .
ثم وبخهم الله تعالى على ترك الإيمان، فقال:(27/299)
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ أي، وأيّ شيء يمنعكم عن الإيمان، والرسول معكم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، بتلاوة القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة، وقد أخذ الله ميثاقكم بأن تؤمنوا في عالم الذر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، وبما أقام لكم في الكون والآفاق والأنفس من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان، وكذا ما ترشد إليه العقول السليمة، إن كنتم مريدين الإيمان، فبادروا إليه. فهذا توبيخ على ترك الإيمان بشرطين: أحدهما- أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني- أنه أخذ الميثاق عليهم.
أخرج البخاري في صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم أيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون، وهم عند ربهم؟ قالوا: فالأنبياء، قال: وما لهم لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم، قالوا: فنحن، قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» .
ثم أوضح الله تعالى الغاية من إنزال القرآن لقطع عذرهم، فقال:
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله أراد بإنزال الآيات البينات الواضحات التي هي القرآن وغيره من المعجزات أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة، إلى نور الهدى واليقين والإيمان، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث أنزل الكتب، وبعث الرسل، لهدايتهم، وأزال الموانع والشّبه، وأزاح العلل.
وبعد أن أمرهم بالإيمان والإنفاق، وحثهم عليهما، ووبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، فقال:(27/300)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي، أيّ عذر لكم وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد من أجله، فأنفقوا ولا تخشوا فقرا، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض، وهو متصرف فيهما وعنده خزائنهما، وكل الأموال صائرة إلى الله سبحانه، إن لم تنفقوها في حياتكم، كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لكم منه شيء، فالمال مال الله، والله يقول: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ 34/ 39] ويقول: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ، وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 16/ 96] . وهكذا أمر الله أولا بالإيمان والإنفاق، ثم أكد إيجاب الإيمان، ثم أكد في هذه الآية إيجاب الإنفاق.
وبعد أن بيّن الله تعالى أن الإنفاق فضيلة، بيّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة، وأن للمنفقين درجات بحسب أحوالهم، فقال:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أي لا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف، ولا يجدون من المال إلا قليلا، أما بعد الفتح فقد كثر المسلمون، وزاد الخير.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة، مع تفاوت الدرجات، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة، فيجازيكم بذلك، إذ لا يخفى عليه شيء مما أنتم عليه.
أخرج الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام(27/301)
سبقتمونا بها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوا لي أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد، أو مثل الجبال ذهبا، ما بلغتم أعمالهم» «1» .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم، ولا نصيفه» .
ثم بيّن الله تعالى ثمرة الإنفاق، فقال:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله، محتسبا أجره عند ربه، فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا، أي بلا منّ ولا أذى، طيبة به نفسه، فإن الله يضاعف له ذلك القرض، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع وجزاء كريم جميل، وهو الجنة.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي- بستاني- وله حائط فيه ست مائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال:
اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل.
وفي رواية: أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها
__________
(1) ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة.(27/302)
وصبيانها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كم من عذق «1» رداح في الجنة لأبي الدّحداح» .
ثم أخبر الله تعالى عن حال المؤمنين المتصدقين يوم القيامة، فقال:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي وله أجر كريم، أو اذكر تعظيما لذلك اليوم «2» حين تنظر المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم، وتكون كتبهم بأيمانهم، أي تكون أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم، وهدايتهم إلى الجنة، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق 84/ 8- 9] . وإنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن ذلك أمارة النجاة.
والناس كما قال ابن مسعود في هذه الآية على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه، يتّقد مرة، ويطفأ مرة «3» .
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء، فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه» .
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ويقال لهم من قبل الملائكة: لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، تكريما وجزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال،
__________
(1) العذق: النخلة بحملها، والرداح: المثمر.
(2) يوم: ظرف لقوله: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أو منصوب ب «اذكر» ، تعظيما لذلك اليوم.
(3) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. [.....](27/303)
ذلك النور والبشرى هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه. ونظير الآية: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 24] .
والخلاصة: أن الإيمان والإنفاق سبب لثلاثة أمور: النجاة يوم الحساب، وتبشير الملائكة بالجنة، والخلود في جنات النعيم. وقد دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال القيامة، لأنه تعالى بيّن أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- وجوب الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي التصديق بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي الاشتغال بطاعة الله تعالى.
2- وجوب الإنفاق في سبيل الله، والمراد بذلك الزكاة المفروضة، وقيل:
المراد غيرها من وجوه الطاعات والقربات. وهذا يعني الأمر بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله تعالى.
3- دل قوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ على أن أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له في ماله إلا التصرف الذي يرضي الله، فيثيبه على ذلك بالجنة.
فمن أنفق من ماله في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منه، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم.
وهذا دليل على أن الأموال ليست بأموال الناس في الحقيقة، وما هم إلا(27/304)
بمنزلة النواب والوكلاء، فليغتنم المؤمن الفرصة في الأموال بإقامة الحق قبل أن تزال عنه إلى من بعده.
4- للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، والذين أنفقوا في سبيل الّه أجر كبير وهو الجنة.
5- وبّخ الله على ترك الإيمان بالله تعالى، فأي عذر للناس في ألا يؤمنوا وقد أزيلت الموانع وأزيحت العلل؟ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالبرهان الصحيح والدليل المقنع إلى الإيمان بالله، والله سبحانه أخذ الميثاق الأول على الناس حينما كانوا في ظهر آدم بأن الله ربهم، لا إله لهم سواه، ومن ميثاقهم أيضا ما أودع الله لهم من العقول والأفكار، وأقام الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كنتم أيها الناس مؤمنين بالحج والدلائل، فبادروا إلى الإيمان.
6- أيّد الله نبيه بما يدل على صدقه وبما يؤدي إلى إنجاح دعوته بالقرآن والمعجزات، فيلزم الناس بعدئذ الإيمان، لأن آيات القرآن البينات تخرج من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإيمان، وإن الله بالناس لرؤوف رحيم إذ أنزل لهم الكتب وبعث الرسل وأزال الموانع والعلل التي تمنع من الإيمان.
7- وبخ الله تعالى أيضا على عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، وفيما يقرب من الله سبحانه، فالناس جميعا يموتون، ويخلفون أموالهم، وهي صائرة إلى الله تعالى، كرجوع الميراث إلى المستحق له.
وهكذا أمرت الآيات بالإيمان وبالإنفاق، ثم أكدت وجوب الإيمان وإيجاب الإنفاق، فهو ترتيب حسن بارع، انتقل فيه البيان من الأمر المفيد للوجوب إلى ذكر الرادع أو المؤيد، والتهديد على التقصير أو الإهمال.(27/305)
8- يكون ثواب الإنفاق أعظم إذا كانت الحاجة إليه أشد بسبب الأزمات والظروف الضيقة، لذا نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل الأعداء، وبين من أنفق من بعد الفتح وقاتل، كما قال تعالى:
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر 59/ 20] لأن المال كان أقل، والحاجة إلى النفقة أشد، والمسلمين قلة، أما بعد الفتح فكثر الخير، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق، وكثر المسلمون.
روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدّم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ. وقال الكلبي كما تقدم: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيهما دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. قال ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم.
والتقدم والتأخر يكون في أحكام الدنيا والدين، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم، وأعظم المنازل مرتبة الصلاة.
وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه فيما رواه الشيخان والترمذي وأ بن ماجه عن عائشة: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس»
وقال فيما رواه أحمد عن أنس: «يؤمّ القوم أقرؤهم للقرآن»
وقال فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث: «وليؤمّكما أكبركما»
وقال مالك: إن للسن حقا، وراعاه الشافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيّرين قدّم العلم. وأما أحكام الدنيا فهي مرتّبة على أحكام الدّين، فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا.
وفي الحديث الثابت الذي رواه الترمذي عن أنس: «ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه» .
وروى الترمذي أيضا عن أنس: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا»
وفي رواية لأحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمرو: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا»(27/306)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
وفي رواية أخرى لأحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت: «ليس منا من لم يجلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» .
9- وعد الله تعالى كلّا من المتقدمين المتناهين السابقين، والمتأخرين اللاحقين الجنة، مع تفاوت الدرجات.
10- ندب القرآن مرة أخرى في هذه الآيات إلى الإنفاق في سبيل الله، وأبان أن ثواب الصدقة التي يحتسب فيها المتصدق من قلبه بلا منّ ولا أذى مضاعف ما بين السبع إلى سبع مائة، إلى ما شاء الله من الأضعاف، بحسب الأحوال والأشخاص، ويكون للمنفق جزاء جميل، ورزق باهر، وهو الجنة يوم القيامة.
11- إن هذا الأجر الكريم والجزاء الجميل يكون للمؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا في سبيل الله، ويكون إيمانهم وعملهم الصالح سببا للنجاة واجتياز الصراط، وهو الضياء الذي يمرون فيه، ويكون أمامهم، وتكون كتب أعمالهم بأيمانهم، وتبشرهم الملائكة بدخول الجنة خالدين فيها أبدا، ولا تنالهم أهوال القيامة، ويدخلون الجنة، وذلك هو الفوز الأكبر.
حال المنافقين يوم القيامة
[سورة الحديد (57) : الآيات 13 الى 15]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)(27/307)
الإعراب:
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يَوْمَ: ظرف، وعامله ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أو بدل من يَوْمَ الأول.
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ وراء هنا: اسم ل ارْجِعُوا وليس بظرف ل ارْجِعُوا قبله، فلا يكون ظرفا للرجوع لقلة الفائدة فيه، لأن لفظ الرجوع يغني عنه، ويقوم مقامه.
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الباء: زائدة، وسور: في موضع رفع، لأنه نائب فاعل.
مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ مَوْلاكُمْ: إما مصدر مضاف إلى المفعول، ومعناه: تليكم وتمسكم، أو معناه: أولى بكم، وأنكر بعضهم هذا الوجه، وقال: إنه لا يعرف المولى بمعنى الأولى.
البلاغة:
مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أسلوب تهكمي، أي لا ولي لكم ولا ناصر إلا نار جهنم.
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
بِسُورٍ لَهُ بابٌ ... وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ سجع مرصع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
انْظُرُونا انتظرونا أو أبصرونا، لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، وقرئ:
«أنظرونا» ، أي أمهلونا أو انتظرونا. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نستضيء بنوركم، من الاقتباس:
طلب القبس، أي الجذوة من النار، والمراد هنا نأخذ القبس والإضاءة. قِيلَ لهم، استهزاء بهم. ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا. فَالْتَمِسُوا نُوراً أي إلى حيث شئتم، فاطلبوا نورا آخر، فإنه لا سبيل لكم إلى هذا، وهذا تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو من الملائكة. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ ضرب بحائط أو حاجز بين المؤمنين والمنافقين، قيل: هو سور الأعراف. لَهُ بابٌ يدخل فيه المؤمنون. باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ باطن السور أو الباب من جهة المؤمنين لأنه يلي الجنة. وَظاهِرُهُ من جهة المنافقين، لأنه يلي النار. مِنْ قِبَلِهِ من جهته.(27/308)
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي ألسنا على دينكم وعلى الطاعة؟ أي في الظاهر. بَلى أي كنتم معنا. فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق وأهلكتموها بالمعاصي. وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر.
وَارْتَبْتُمْ شككتم في دين الإسلام وفي أمر البعث. الْأَمانِيُّ الآمال والأطماع كامتداد العمر وانتكاس الإسلام. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الموت. الْغَرُورُ الشيطان. فِدْيَةٌ فداء يفتدي به، وهو ما يبذل من المال لحفظ النفس من الهلاك. مَأْواكُمُ النَّارُ منزلكم الذي تأوون إليه.
مَوْلاكُمْ التي تليكم أو أولى بكم. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة، وأن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة، فهو أمارة النجاة، بيّن حال المنافقين في ذلك اليوم، وأنهم يلتمسون عون المؤمنين لهم، فيجابون بالخيبة واليأس، وألا أمل لهم في النجاة، وأن النار هي مأواهم وأولى بهم، وذلك يدل على أنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا حقا، وعمل بما أمر الله به، وترك ما عنه زجر.
التفسير والبيان:
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي في ذلك اليوم يوم القيامة يقول المنافقون والمنافقات للمؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم: أيها المؤمنون الناجون انتظرونا لعلنا نستضيء بنوركم، ونخرج من هذا الظلام الحالك، والعذاب الأليم المنتظر.
قال جمع من العلماء: الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار، والمنافقون يطلبونها منهم قائلين: انْظُرُونا لأنهم إذا نظروا إليهم، والنور قدامهم، استضاؤوا بتلألؤ تلك الأنوار.
فيجابون بما يخيب آمالهم، كما قال تعالى:(27/309)
قِيلَ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ، فَالْتَمِسُوا نُوراً أي تقول لهم الملائكة أو المؤمنون: ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة. وفي هذا تهكم بهم واستهزاء بطلبهم، كما كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، حين كانوا يقولون: آمنا، وما هم بمؤمنين.
ثم يحسم الله الموقف وهذه المحاورة بقوله:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ، لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين حاجز، باطن ذلك السور، وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة، فيه الرحمة، وهي نعم الجنة، والجانب الذي يلي أهل النار، من جهته عذاب جهنم.
ثم يذكر الله تعالى حال المنافقين واستغاثاتهم، فيقول:
يُنادُونَهُمْ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا: بَلى، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ، وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم: ألم نكن معكم في الدار الدنيا، نوافقكم في أعمالكم، نشهد معكم الجمعات، ونصلّي معكم الجماعات في المساجد، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم معارك الجهاد، ونؤدي معكم سائر الواجبات، ونعمل بأعمال الإسلام كلها؟
فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى قد كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وإبطان الكفر، وأهلكتموها باللذات والمعاصي والشهوات، وأخرتم التوبة، وتربصتم الدوائر وحوادث الدهر بالمؤمنين، وبالحق وأهله، وشككتم في أمر الدين والبعث بعد الموت، ولم تصدّقوا ما نزل به القرآن، ولا آمنتم بالمعجزات الظاهرة.(27/310)
وغرتكم الأماني الباطلة حيث قلتم: سيغفر لنا، وغرتكم الدنيا وطول الأمل، حتى جاءكم الموت، وغرّكم أو خدعكم الشيطان، حتى قال لكم: إن الله غفور رحيم لا يعذبكم.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ، هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي ففي هذا اليوم لا تقبل منكم فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب، أيها المنافقون، كما قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [البقرة 2/ 123] ولا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا، منزلكم الذي تأوون إليه النار، هي أولى بكم من كل منزل، وبئس المصير الذي تصيرون إليه، وهو النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- يستنجد المنافقون (الذين أظهروا الإسلام في الدنيا وأبطنوا الكفر) بالمؤمنين الذين نجوا من العذاب، طالبين منهم انتظارهم أو إمهالهم وتأخيرهم ليأخذوهم معهم، والاستضاءة بنورهم. قال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.
2- تقول الملائكة أو المؤمنون لهم: ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور، فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا، فإنكم لا تقتبسون من نورنا.
3- لما رجعوا وانعزلوا في طلب النور ضرب حاجز بين الجنة والنار، باطنه فيه الرحمة، وهو ما يلي المؤمنين، وظاهره فيه العذاب وهو ما يلي المنافقين.
4- ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونجاهد كما تجاهدون، ونفعل مثلما تفعلون؟(27/311)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
فيجيبهم المؤمنون بقولهم: بلى، قد كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم استعملتم أنفسكم في الفتنة، وأهلكتموها بالنفاق والمعاصي والشهوات واللذات، وتربصتم بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر، وغرتكم الأباطيل، حتى حضركم الموت، وخدعكم بالله الشيطان.
5- أيأسهم الله تعالى من النجاة، وأخبرهم بأنه لا يقبل منهم يوم القيامة فدية يدفعون بها العذاب عن أنفسهم، ومقامهم ومنزلهم النار، هي أولى بهم من كل منزل، وساءت مرجعا ومصيرا.
خشية الله وجزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
الإعراب:
وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ما: اسم موصول بمعنى الذي في موضع جر بالعطف على قوله:
لِذِكْرِ اللَّهِ ويجوز أيضا أن تكون مصدرية، وتقديره: لذكر الله وتنزيل الحق ووَ لا يَكُونُوا معطوف على تَخْشَعَ.(27/312)
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَأَقْرَضُوا: إما معطوف على ما في صلة الألف واللام في قوله: الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ على تقدير: إن الذين تصدقوا وأقرضوا، وإما أن يكون:
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ اعتراضا بين اسم إِنَّ وخبرها، وهو يُضاعَفُ لَهُمْ وجاز هذا الاعتراض، لأنه يؤكد المعنى الأول من التصدق.
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ، وخبره: لَهُمْ أَجْرُهُمْ.
البلاغة:
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها استعارة تمثيلية، استعار إحياء الأرض بالنبات لإحياء القلوب القاسية بالقرآن وتلاوته.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ يَأْنِ ألم يأت وقته، يقال: أنى الأمر أنيا وأناء وإناء: إذا جاء أناه، أي وقته.
أَنْ تَخْشَعَ تخشى وتخاف. لِذِكْرِ اللَّهِ وعظه وإرشاده. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هو القرآن. أُوتُوا الْكِتابَ هم اليهود والنصارى، والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى الله عنهم بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الزمن، أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ صلبت ولم تلن لذكر الله. فاسِقُونَ خارجون عن حدود دينهم، مخالفون للأوامر والنواهي.
اعْلَمُوا خطاب للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة. أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يحييها بالماء والنبات بعد جدبها، فكذلك يفعل بقلوبكم يردها إلى الخشوع، وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أوضحنا لكم الآيات الدالة على قدرتنا بهذا البيان هنا وغيره، وهي الحجج. تَعْقِلُونَ تتدبرون.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي الذين تصدقوا واللاتي تصدقن بأموالهم على المحتاجين من التصدق: أدغمت التاء في الصاد، وفي قراءة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق: الإيمان.
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ راجع إلى الذكور والإناث معا بطريق التغليب. قَرْضاً حَسَناً صدقة مقرونة بالإخلاص ابتغاء مرضاة الله، بلا من ولا أذى ولا إرادة جزاء من المحتاج المعطى. يُضاعَفُ لَهُمْ يضاعف الله لهم ثواب عملهم، وفي قراءة يضعّف بالتشديد، أي قرضهم. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ثواب جميل ورزق باهر.
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ المبالغون في التصديق، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين وهم الذين كثر صدقهم وصار سجية لهم. وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ هم الذين قتلوا في سبيل الله، جمع(27/313)
شهيد، سمي بذلك، لأن الملائكة تشهد له بالجنة، أو القائمون بالشهادة لله أو لهم أو على الأمم يوم القيامة، والمراد بهم الأنبياء، لقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
[النساء 4/ 41] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا وجود الله ووحدانيته. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار، قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة.
سبب النزول: نزول الآية (16) :
أَلَمْ يَأْنِ..: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أبي رواد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية.
وأخرج أيضا عن السّدّي عن القاسم قال: ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملّة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ثم ملّوا ملّة، فقالوا حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية.
وأخرج ابن المبارك في الزهد عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فنزلت: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية. وروي مثل هذا عن ابن مسعود، وقال: ما كان بين(27/314)
إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين «1» . وقال ابن عباس: إنه عاتبنا على رأس ثلاث عشرة سنة.
المناسبة:
بعد بيان حال المؤمنين وحال المنافقين يوم القيامة، أتبعه بندب المؤمنين الذين فترت عزائمهم إلى الخشوع وخشية القلب ولينه بسماع مواعظ القرآن وإرشاداته، وحذرهم من مماثلة أهل الكتاب الذين قست قلوبهم لطول العهد بينهم وبين أنبيائهم، فأهملوا أوامر الدين ونواهيه، ثم ذكر الفرق بين جزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين.
التفسير والبيان:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي ألم يحن الوقت لأن تلين قلوب المؤمنين وترقّ عند سماع تذكير الله ووعظه وقرآنه، فتفهمه وتنقاد له وتسمع أوامره وتطيعه وتجتنب نواهيه؟
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية. والظاهر أن هذا القول أصح من غيره، لأن السورة مدنية.
ثم نهاهم عن مماثلة أهل الكتاب، فقال:
وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي ولا يتشبهوا بحملة الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن، حين طالب
__________
(1) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه والبزار.(27/315)
عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم بذلك السبب، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة ولا بالوعد والوعيد، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، واتبعوا الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلّدوا أحبارهم ورهبانهم في دين الله من غير دليل ولا برهان، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه، فصارت أعمالهم باطلة، وقلوبهم فاسدة، كما قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة 5/ 13] ولهذا نهى الله المؤمنين عن التشبّه بهم.
ثم ضرب الله تعالى المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن، فقال:
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالها، ببراهين القرآن ودلائله، قد أوضحنا لكم الآيات والحجج، كي تتدبروها، وتعقلوا ما فيها من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك.
ثم أبان الله تعالى ثواب المتصدقين والمتصدقات على البائسين، فقال:
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر والبؤس والمسكنة، ودفعوا المال بنية خالصة ابتغاء رضوان الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا، يقابل لهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعفها إلى سبع مائة ضعف إلى أكثر من ذلك، ولهم فوق ذلك ثواب جزيل حسن، ومرجع صالح، ومآب كريم معزّز.(27/316)
ثم وصف الله جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله، هم في منزلة الصدّيقين، قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله، فهو صدّيق، والذين استشهدوا في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله ودينه، ورفع راية الحق وأهله، لهم الثواب العظيم عند ربهم، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
وهذا إشارة إلى صنفين من أصناف المؤمنين المخلصين الأربعة، وهم الأنبياء، والصّدّيقون، والشهداء، والصالحون، المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء 4/ 69] . ومن الشهداء ما
ثبت في الحديث الذي أخرجه أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا: المقتول في سبيل الله، فقال: إن شهداء أمتي إذن لقليل، المقتول، شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد» الحديث.
وهؤلاء هم شهداء الآخرة الذين لهم ثواب خاص.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين أنكروا وجود الله، وجحدوا وحدانيته، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة، وصدق رسله، أولئك لا غيرهم هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا. وهذا بيان حال الأشقياء بعد بيان حال السعداء.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- إن خشية الله والخشوع لأوامره وأحكامه من صفات أهل الإيمان، وإن الإعراض عن آيات الله ومواعظه وشرائعه من خصال الفاسقين، وهم اليهود(27/317)
والنصارى الذين بدلوا كلام الله، واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وتركوا الدين الحق، ولم تكن قلوبهم لسماع تذكير الله ووعظه.
وهذا نهي صريح للمؤمنين عن مشابهة أهل الكتاب الذين قطعوا الصلة الحقيقية بينهم وبين هدي الله فيما نزل من التوراة والإنجيل والذي لا يخالف ما نزل في القرآن. ولو بقي هذان الكتابان على حالهما ولم يندثرا لظهر التطابق التام بينهما وبين القرآن في أصول الدين والاعتقاد وأصول الشرائع.
2- إن سماع مواعظ الله وآياته يحيي القلوب الميتة، ويلين النفوس القاسية، كما أن الله يحيي الأرض الجدبة الهامدة، ويلينها بالغيث، ويجعل فيها الحركة والحيوية والحياة البهيجة.
3- إن الذين أنفقوا شيئا من أموالهم، وتصدقوا به على الفقراء والبائسين بإخلاص ابتغاء رضاء الله، يضاعف لهم ثواب أعمالهم، ولهم الجنة.
4- المؤمنون بالله ورسله هم الصدّيقون الكاملون في الصدق، إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة، والصديقون يتلون الأنبياء، والشهداء يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، وهؤلاء جميعا لهم الأجر العظيم.
عند ربهم، وهم الناجون يوم الحساب، والخالدون في النعيم.
5- الكافرون بالله ورسله، المكذبون بالرسل والمعجزات، هم أصحاب النار المخلّدون فيها المعذبون فيها، فلا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة، لأنهم جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات.(27/318)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
حال الدنيا والحث على عمل الآخرة
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
الإعراب:
كَمَثَلِ غَيْثٍ.. الكاف في موضع رفع، إما وصف لقوله وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وإما خبر بعد خبر وهي الْحَياةُ في قوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ.
عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ ... كَعَرْضِ جار ومجرور في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ الذي هو عَرْضُها والجملة في موضع جر، لأنها صفة ل جَنَّةٍ.
البلاغة:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
إِلى مَغْفِرَةٍ مجاز مرسل علاقته المسببية، أي إلى سبب مغفرة.
المفردات اللغوية:
لَعِبٌ ما لا فائدة فيه. وَلَهْوٌ ما يشغل الإنسان عما يعنيه. وَزِينَةٌ تزيين أو ما يتزين به، كالمناصب العالية والمراكب البهية والمنازل الرفيعة والملابس الفاخرة. وَتَفاخُرٌ بالألقاب والأمجاد والأنساب. وَتَكاثُرٌ مباهاة بكثرة الأموال والأولاد. كَمَثَلِ أي أن الدنيا(27/319)
في إعجابها لكم واضمحلالها كمثل غَيْثٍ مطر. أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أعجب الزراع نباته الناشئ عنه. ثُمَّ يَهِيجُ ييبس بعد أن كان أخضر. حُطاماً هشيما متكسرا من الجفاف أو اليبس. وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن آثر عليها الدنيا. وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لمن آثر الآخرة، وهذا تنفير عن الانهماك في الدنيا، وحث على العمل للآخرة. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي وما التمتع في الدنيا. إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ متاع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة.
سابِقُوا سارعوا مسارعة السابقين في مضمار السباق. إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجبات المغفرة. وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي عرضها كعرضهما، وإذا كان العرض كذلك، فما ظنك بالطول؟ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود به من الجنة والمغفرة يتفضل الله به على من يشاء من عباده من غير إيجاب ولا إلزام. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والله واسع الفضل، لا يبعد منه التفضل بذلك.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال الفريقين: المؤمنين والكافرين في الآخرة، أردفه بما يدل على تحقير أمور الدنيا، وكمال حال الآخرة، فإن الدنيا قليلة النفع سريعة الزوال، والآخرة تامة الفائدة، خالدة باقية، ولا شك أن الأدوم الأخلد مفضل على المؤقت، لذا أعقبه بالحث على ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه والفوز بالنعيم الأبدي.
التفسير والبيان:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب لا جدّ، ولهو يتلهى به ثم يذهب، وزينة يتزيّن بها مؤقتا، ومفخرة يفتخر بها بعضكم على بعض بكثرة الأموال وعدد الأولاد.
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ(27/320)
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
[آل عمران 3/ 14] .
وهذا يدل على حقارة الدنيا، ثم شبهها في سرعة زوالها، مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث وربّاه إلى أن يتكامل نشوؤه ثم يزول، فقال:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي أن الدنيا مثل مطر، أعجب الزراع النبات الحاصل به، ثم يجف وييبس بعد خضرته، ثم يكون فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه، تعصف به الرياح. والكفار هنا: الزّراع، لأنهم يكفرون البذر في الأرض، أي يغطونه بالتراب.
ونظير الآية: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس 10/ 24] .
ثم حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير استعدادا للآخرة، فقال:
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي وليس في الآخرة الآتية إلا أمران: إما عذاب شديد لأعداء الله، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به، وخديعة لم يغتر بها، ولم يعمل لآخرته، حتى أعجبته واعتقد أنه لا دار سواها، ولا معاد وراءها، مع أنها حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور، إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه، فنعم المتاع ونعم(27/321)
الوسيلة. وهذا دليل على أن من استعان على الآخرة بطلب الدنيا، فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه.
روى ابن جرير، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» اقرؤوا:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ والزيادة الأخيرة في رواية ابن جرير فقط.
وأخرج البخاري وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك»
وهذا يدل على اقتراب الخير والشر من الإنسان.
ولما ذكر الله تعالى ما في الآخرة من المغفرة أمر بالمسابقة إليها:
أي إنه سبحانه حث على المبادرة إلى الخيرات، والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة، من فعل الطاعات، وترك المحرمات التي تكفّر الذنوب والزلّات، وتحصّل الثواب والدرجات، فقال:
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي بادروا أو سارعوا مسارعة المتسابقين بالأعمال الصالحة إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم، وسارعوا إلى التوبة الماحية للذنوب والمعاصي، وإلى ما يوصّل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها؟! تلك الجنة التي هيئت وخلقت للذين صدقوا بالله وبرسله، وعمل بما فرض الله عليه، واجتنب نهيه.
ثم بيّن الله تعالى أن المغفرة والجنة فضل منه ورحمة، لا إيجاب وإلزام،(27/322)
فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي إن هذا الجزاء الموعود به وهو الجنة والمغفرة مجرد فضل من الله ورحمة منه، وليس واجبا عليه.
جاء في الحديث الصحيح: «أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال: وما ذاك؟
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم، تسبّحون وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال: فرجعوا، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» .
فقه الحياة أو الأحكام:
1- إن المقصود الأصلي من الآية الأولى تحقير حال الدنيا، وتعظيم حال الآخرة، لذا وصف الله تعالى الدنيا بخمس صفات: أنها لعب وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدا، ثم تنقضي متاعبهم من غير فائدة، وأنها لهو وهو فعل الشبان، ولا يبقى غالبا بعده إلا الحسرة، وأنها زينة وهذا دأب النساء وهو تكميل الناقص، وتفاخر بين أهلها بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة المادية والقوة الجسدية والأتباع والمنصب، وكلها ذاهبة، وأنها تكاثر في الأموال والأولاد.
ثم شبهها في سرعة انقضائها وزوال جمالها بالزرع الذي يعجب الناظرين إليه، لحضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن. وقد ذكر هذا المثل في سورتي يونس (24) والكهف (45) .(27/323)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
ثم ذكر حال الآخرة، فالناس فيها إما إلى عذاب شديد دائم لأعداء الله، وإما إلى مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وهو أعظم درجات الثواب.
ثم ختم الآية تأكيدا لما سبق بأن الحياة الدنيا مجرد متاع يغرّ ويخدع من أقبل عليها، وهم الكفار، أما المؤمنون فالدنيا لهم متاع بلاغ إلى الجنة.
2- إذا كان هذا شأن الدنيا وحال الآخرة، فما على الناس إلا العمل للآخرة، لذا أمر الله بالمسارعة بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لهم من ربهم، وتبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والجنة كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض، وقد خلقت وهيئت للذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته وبرسله.
وفي هذا تقوية للرجاء، ودليل على أن الجنة مخلوقة جاهزة. لكن لا تنال الجنة ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله، والله صاحب الفضل الواسع الكثير.
والمراد بهذه الجملة: التنبيه على عظم حال الجنة، لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما.
تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)(27/324)
الإعراب:
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي الْأَرْضِ موضعه إما الجر على أنه صفة لمصيبة على اللفظ، أي كائنة في الأرض، وإما الرفع صفة لمصيبة على الموضع، وموضعها الرفع، لأن مِنْ زائدة، وفي الصفة ضمير يعود على الموصوف، وإما النصب على أنه متعلق ب أَصابَ أو ب مُصِيبَةٍ فلا يكون إذن فيه ضمير.
وإِلَّا فِي كِتابٍ في موضع نصب على الحال، أي إلا مكتوبا، وهاء نَبْرَأَها تعود على النفس أو على الأرض أو على المصيبة.
لِكَيْلا تَأْسَوْا.. تَأْسَوْا منصوب ب (كي) لا بتقدير (أن) بعدها، لأن اللام هنا حرف جر، وقد دخلت على (كي) فلا يجوز أن تكون (كي) حينئذ حرف جر، لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من كل مختال، أو مبتدأ، خبره محذوف دل عليه ما بعده: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأن معناه: ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غني عنه، وعن إنفاقه. وضمير هُوَ ضمير فصل.
المفردات اللغوية:
مُصِيبَةٍ هي في اللغة: كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وخصت في العرف بالشر، كالجدب والعاهة في الأرض، والمرض والآفة وفقد الولد في الأنفس. إِلَّا فِي كِتابٍ أي اللوح المحفوظ. نَبْرَأَها نخلقها. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إن إثباته في كتاب على الله سهل، لاستغنائه فيه عن العدّ والمدة. تَأْسَوْا تحزنوا. عَلى ما فاتَكُمْ من نعيم الدينا. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ فرح بطر، بل فرح شكر على النعمة، بما أعطاكم الله منها، فإن من علم أن الكل مقدّر، هان عليه الأمر. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ أي يعاقب. كُلَّ مُخْتالٍ متكبر بما أوتي.
فَخُورٍ متباه أو مباه على الناس بماله أو جاهه.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بما يجب عليهم. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بالبخل به، لهم وعيد شديد. وَمَنْ يَتَوَلَّ عما يجب عليه. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن غيره الْحَمِيدُ المحمود في ذاته، لا يضره الإعراض عن شكره، ولا ينتفع بالتقرب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق.(27/325)
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن كل ما في الآخرة من مغفرة وجنة من فضله ورحمته، أراد أن يبين أن كل ما في الدنيا من مصائب وأحداث بقضائه وقدره، لتهوين أمر المصيبة على المؤمنين.
ثم حذر الله تعالى من الحزن على ما فات من نعيم الدنيا، والبطر والاختيال والمباهاة عند مجيء النعمة، ثم أخبر أنه يعاقب المختالين الفخورين الذين يبخلون بما يجب عليهم شرعا، بل ويأمرون الناس بالبخل، وهؤلاء لا يجنون إلا على أنفسهم.
التفسير والبيان:
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي لا توجد مصيبة من هذه المصائب في الدنيا إلا وهي مكتوبة عند الله، فهي بقضاء وقدر، سواء أكانت مصيبة في الأرض مثل القحط والجدب أو قلة النبات، وفساد الزرع، ونقص الثمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوع، أم في الأنفس كالأمراض، والفقر وضيق المعاش، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود، فذلك كله مسطّر في اللوح المحفوظ، من قبل إيجاد هذه الخليقة.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها الأحسن عود الضمير على الخليقة والبرية أو النسمة، لدلالة الكلام عليها، كما قال ابن جرير.
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن إثباتها في الكتاب، مع كثرتها، وعلمه بالأشياء قبل وجودها، سهل يسير على الله، غير عسير، لأن الله هو الخالق، وهو أعلم بما خلق، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون. ورد في الخبر: (من عرف سر الله في القدر، هانت عليه المصائب) . وقد استدل العلماء بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.(27/326)
فالأشياء والأحداث والمصائب تنسب إلى الله الموجد لها، لا إلى أحد من البشر في الحقيقة، وأما ما يقال من التشاؤم (الطيرة) في المرأة والدابة والدار، فذلك بحسب عرف الناس وتصوراتهم ومقالاتهم، لا في واقع الأمر، كذلك السحر والعين والقتل كل ذلك يحدث بتأثير الله، فهو المؤثر والفعال الحقيقي، وأما فعل الناس فهو مجرد أمر أو سبب في الظاهر، فينسب إليه الشيء الحادث ظاهرا، لا حقيقة. وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لقصرها على أحوال الدنيا، لذا
قال صلى الله عليه وسلم: «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم الدين»
ولم يقل: إلى الأبد.
أخرج الإمام أحمد، والحاكم وصححه عن أبي حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا: «إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، ثم قرأت: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ الآية.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا، ولا تفرحوا فرح بطر بما هو آت، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك من قدر الله ورزقه لكم، لذا قال تعالى:
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي إن الله يعاقب كل مختال في نفسه، أي متكبر، فخور على غيره، أي مباه بماله أو جاهه.
وبه يتبين أن الحزن المذموم: هو الذي لا صبر لدى صاحبه، ولا رضا(27/327)
بقضاء الله وقدره، والفرح الممنوع: هو البطر الذي يحمل صاحبه على الطغيان، ويلهيه عن الشكر. قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا.
ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر كالفرح والحزن والغضب، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب وتعاطي أسبابه، أو على توابع الفرح والحزن وهو بطر النعمة وكفرانها، والسخط على القدر، والجزع.
وبما أن المختال الفخور يكون غالبا بخيلا، لأنه لا يرى لغيره حقا عليه، ذكر تعالى صفة البخل عندهم، فقال:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي إن المختالين الفخورين هم الذين يبخلون عادة بأموالهم، فلا يؤدون حق الله فيها، ولا يواسون بائسا فقيرا، ولا معدما عاجزا، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال، ويحسّنون للناس أن يبخلوا بما يملكون، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا. ولكن من يعرض عن الإنفاق وعن أمر الله وطاعته، فإن الله غني عنه، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه، لا يضره ذلك، ولا يضرن البخيل إلا نفسه، كما قال موسى عليه السلام لقوم فيما حكى القرآن: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كل ما في الكون بأمر الله تعالى، وكل المصائب معلومة لله تعالى، مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخليقة، وحفظ ذلك وعلمه هيّن يسير على الله تعالى.(27/328)
2- إذا كان الكل مكتوبا مقدرا لا مرد له، هانت المصائب على الناس، وكان عليهم امتثال الأمر، فلا يحزنوا على ما فاتهم من الرزق، ولا يفرحوا بما أوتوا من الدنيا. روى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا «1» . والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما المرء إلى ما لا يجوز. وقد تقدم أن الفرح المذموم: هو الموجب للبطر والاختيال، أي التكبر. وأن الحزن الممنوع: هو الذي يخرج صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين.
3- إن الله يبغض كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس ولا يرضى عنه، ويعاقبه.
4- إن الله لا يحب المختالين الذين يبخلون أو يضنون بالمال عما أوجب الله عليهم من الإنفاق في سبيله، والصدقة به على الفقراء والمساكين، ويأمرون الناس بالبخل مثلهم.
5- من يعرض عن الإنفاق وعن طاعة الله والإيمان بما قدر وقضى فإن الله غني عنه وعن إنفاقه، والله سبحانه هو الغني المطلق الغنى الذي يرزق عباده، والمحمود في ذاته في السماء والأرض، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر 35/ 15] ولا يضره الإعراض عن شكره، بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله.
__________
(1) أخرجه الحاكم وصححه وغيره.(27/329)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
الغاية من بعثة الرسل
- 1- دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
الإعراب:
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ جملة مركبة من مبتدأ وخبر، في موضع نصب على الحال من الْحَدِيدَ.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ وَلِيَعْلَمَ معطوف على لِيَقُومَ النَّاسُ وَرُسُلَهُ منصوب بالعطف على هاء يَنْصُرُهُ وتقديره: وينصر رسله، مثل: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر 59/ 8] . ولا يجوز نصبه ب لِيَعْلَمَ لأنه يصير فصلا بين الصلة والموصول أي بين يَنْصُرُهُ وقوله: بِالْغَيْبِ وذلك لا يجوز. وبِالْغَيْبِ حال من هاء.
يَنْصُرُهُ أي غائبا عنهم في الدنيا.
البلاغة:
أَرْسَلْنا رُسُلَنا جناس ناقص لتغير الشكل وبعض الحروف. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ سجع مرصع محبب إلى النفس.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أرسلنا الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ الحجج والمعجزات.
الْكِتابَ أراد به الجنس، أي كتب الشرائع. وَالْمِيزانَ العدل. بِالْقِسْطِ الحق.(27/330)
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ خلقناه وأخرجناه من المعادن. فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة والمباني الضخمة ونحو ذلك، والبأس: القوة. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ علم مشاهدة وظهور في الواقع الحاصل. مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ من ينصر دينه وينصر رسله باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد وغيره في مجاهدة الكفار الأعداء. بِالْغَيْبِ غائبا عنهم في الدنيا، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه.
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على إهلاك من أراد إهلاكه. عَزِيزٌ لا حاجة له إلى نصرة عباده، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وينالوا ثواب الامتثال فيه.
المناسبة:
بعد بيان حال الدنيا وحال الآخرة، أراد الله تعالى أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات والحجج القاطعات، ويرشد إلى مقومات الرسالات والشرائع الإلهية لتنظيم حياة المجتمعات، وإعزاز دين الله ونصرة رسله.
وأما وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد في الآية، فإن العلماء ذكروا وجوها سبعة أظهرها: أن الدين إما اعتقادات أو معاملات أو أصول وفروع، والاعتقادات أو الأصول لا تتم إلا بالكتاب السماوي، لا سيما إذا كان معجزا، والمعاملات أو الفروع لا تصلح ولا تنتظم إلا بالميزان وهو العدل، ولا بد من مؤيد يحمي نظم الشرائع، وذلك المؤيد هو الحديد لتأديب من ترك الأصلين أو الطريقين، وهما الاعتقاد ونظام التعامل «1» .
وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع، والعدل يمثل سلطة القضاء، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية.
التفسير والبيان:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي تالله لقد أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي، والأنبياء إلى أممهم
__________
(1) تفسير الرازي: 29/ 240 وما بعدها، غرائب القرآن للنيسابوري: 27/ 101 وما بعدها.(27/331)
لتبليغ الوحي، بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة والحجج والبراهين القاطعة، وأنزلنا معهم الكتاب أي جنسه الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وأنزلنا معهم الميزان، أي العدل في الأحكام، أي أمرناهم به، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل، وتقوم حياتهم عليه، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، فهم الحراس على تنفيذ الأحكام واحترام الشرائع واتباع الرسل.
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي وخلقنا الحديد مع المعادن، وعلّمنا الناس صنعته، وجعلناه رادعا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ففيه قوة رادعة، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير من حاجاتهم ومعايشهم، كأدوات الطعام ومرافق المنازل وإقامة المباني والعمارات، ومرافق الحياة الاقتصادية وآلات الزراعة، وأدوات الصناعة السلمية والحربية، الخفيفة والثقيلة من آلات وأسلحة وفطارات وبواخر وطائرات وسيارات وغيرها. فكلمة الحديد إشارة إلى القوة الرادعة لتنفيذ أحكام الشريعة بين المسلمين ومن يتعايش معهم في داخل الدولة، ولجهاد الأعداء الدين يعتدون على حرمات الدين وبلاد الإسلام ويعرقلون انتشاره في العالم.
لهذا أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية لإصلاح العقيدة والأخلاق وجدال المشركين وإيضاح أصل التوحيد وإثبات النبوة بالمعجزات الباهرات، فلما قامت الحجة على الناس المخالفين، شرع الله الهجرة، وأذن بالقتال دفاعا عن استقرار العقيدة وكرامة المسلمين وعزتهم، وكفالة احترام تعاليم القرآن.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم» .(27/332)
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إنما فعل الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة، باستعمال الحديد، في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء، إن الله قوي قادر عزيز قاهر غالب، يستطيع دفع عدوان الظالمين، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وبثوابه، ويحققوا لأنفسهم العزة والمنعة والهيبة في قلوب الناس، فإن حماية القيم والمبادئ تحتاج دائما إلى حماة أشداء، ذوي بأس وإباء.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم في الإسلام، فهو مجتمع يحكم بشريعة سماوية، على منهج الحق والعدل والمساواة، وفي ظل من القوة الحامية لمبادئ التشريع الرادعة الزاجرة كل من يتجرأ على انتهاكها أو النيل من قدسيتها، أو محاولة القضاء عليها، أو عرقلة مسيرة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.
أساس هذه الشريعة: المعجزات البيّنة والشرائع الظاهرة التي تضمنتها الكتب السماوية، واحتواها وصاغها خاتم هذه الكتب وهو القرآن العظيم دستور الحياة البشرية.
ومنهج الحكم في شريعة الله تعالى هو التزام الحق والعدل في المعاملات فبالعدل قامت السموات والأرض، وهو المعبر عنه بالميزان، الذي دل عليه قوله تعالى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن 55/ 7- 9] .
والحديد رمز القوة الرادعة لكفالة احترام الأحكام في دار الإسلام، ولتأديب المعتدين والمعادين لشرع الله ودينه وحرمات أهله ودياره.
روى عمر رضي الله(27/333)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه في الفردوس عن ابن عمر: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح» .
وفي الحديد أيضا منافع كثيرة للناس في شؤون معايشهم وتحقيق حاجياتهم في المنازل والمصانع والمعامل والمباني والأسلحة وآلات الزراعة ووسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية.
وقد أنزل الله الحديد وخلقه للناس ليعلم علم مشاهدة حسية من ينصر شرعه ودينه وينصر رسله، وهم غائبون عنه لم يروه، إن الله قوي على الأمور في أخذه، منيع غالب لا يمانع، والنصر الصحيح: هو ما كان عن إخلاص بالقلب، وهو المراد بِالْغَيْبِ.
- 2- وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(27/334)
الإعراب:
... وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها.. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ رَهْبانِيَّةً منصوبة بفعل مقدر، أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها. وابْتِغاءَ مستثنى ب إلا من غير الجنس، أو بدل من الضمير المنصوب في كَتَبْناها.
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. لِئَلَّا بكسر اللام على القراءة المشهورة، وقرئ بفتحها وهي لغة لبعض العرب، ولا: إما زائدة، وهو الظاهر، أو غير زائدة بمعنى: لئلا يعلم أهل الكتاب أن يفعل بكم هذه الأشياء من إيتاء الرحمة والمغفرة وجعل النور، ليبين جهل أهل الكتاب، وأن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على إزالته وتغييره. وبعبارة أخرى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله، ولا ينالونه.
المفردات اللغوية:
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ جعلنا النبوة في ذرية نوح وإبراهيم، والكتاب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والفرقان. فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ من الذرية أو من المرسل إليهم.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم.
قَفَّيْنا اتبعنا أو جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان، يقال: قفّى أثره، وقفّى على أثره: أتبعه. الْإِنْجِيلَ الكتاب الذي أنزل الله على عيسى عليه السلام. رَأْفَةً هي دفع الشر باللطف واللين. وَرَحْمَةً جلب الخير والمودة بالحسنى. وَرَهْبانِيَّةً أو هبنة: هي الانقطاع للعبادة عن الناس، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب والزواج. ابْتَدَعُوها استحدثوها وليست في دينهم. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم، أو ما أمرناهم بها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أي لكنهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله. فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي لم يرعها الجميع، فتركها كثير منهم، وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين ملكهم. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح والمحافظة على حقوقه. مِنْهُمْ من أتباعه. فاسِقُونَ خارجون عن حال الاتباع.(27/335)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرسل المتقدمة. اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم. كِفْلَيْنِ نصيبين، الكفل: الحظ والنصيب. مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بالنبيين.
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ أي نورا تمشون به على الصراط، يكون أساس النجاة، وهو المذكور في قوله تعالى المتقدم في السورة: يَسْعى نُورُهُمْ. وَيَغْفِرْ لَكُمْ الكفر والمعاصي.
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي ليعلم، ولا: زائدة، ويؤيده أنه قرئ: (ليعلم، ولكي يعلم، ولأن يعلم) . وأهل الكتاب هنا: اليهود وأصحاب التوراة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. أَلَّا يَقْدِرُونَ أن: مخففة من الثقيلة، أي أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله، ولا يتمكنون من نيله، ولا يستطيعون التصرف في أعظم فضله وهو النبوة، فيخصونها بمن أرادوا. يُؤْتِيهِ يعطيه.
سبب النزول:
نزول الآية (28) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا الآية [القصص 28/ 54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.
نزول الآية (29) :
لِئَلَّا يَعْلَمَ..: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت:
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي، فيقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا، فأنزل الله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. الآية، يعني بالفضل النبوة.(27/336)
المناسبة:
بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة النبوة تقتضي وحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة، فما جاء أحد بعد نوح وإبراهيم بالنبوة إلا من سلالتهما وعلى منهجهما، وتلك نعمة شرف الله بها نوحا وإبراهيم عليهما السلام.
ثم أوضح الله تعالى أن الأجر والثواب واحد لكل من آمن بالرسل المتقدمة، وأكمل إيمانه بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن النبوة فضل من الله ورحمة، لا تختص بقوم دون قوم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يصح قول اليهود: إن الرسالة فينا دون غيرنا، ونحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن شعب الله المختار.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي تالله لقد بعثنا نوحا أب البشر الثاني إلى قومه وإبراهيم خليل الرحمن أبا الأنبياء وأبا العرب إلى قوم آخرين، وجعلنا الرسالة والنبوة في ذريتهما، فكل الأنبياء من سلالتهما، فلم يرسل الله بعدهما رسولا ولا نبيا إلا من ذريتهما، وكذلك جعلنا الكتب المنزلة فيهما، فلم ينزل الله كتابا ولا أوحى إلى بشر وحيا إلا من سلالتهما.
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي كان مصير الذرية الانقسام إلى فريقين، فمنهم جماعة مهتدون إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وطاعته، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا.
وهذا دليل على أن الانحراف والخروج عن جادة الحق كان بعد التمكن من معرفته والوصول إليه وقيام الحجة عليهم.(27/337)
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي ثم بعثنا بعدهم رسلا تترى، رسولا بعد رسول، وبعضهم بعد بعض، مع مرور العصور، وذلك إلى أن انتهى الأمر إلى أيام عيسى عليه السلام، فخصه بالذكر لشهرته في عصر التنزيل، فقال:
وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي وأتبعنا سلسلة الرسل بعيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل: وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، متضمنا أصول شرعه، ومكملا لما في التوراة، وموضحا حقيقة الشريعة وحكمتها، ومخففا بعض أحكامها القاسية التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل لظلمهم وفحشهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء 4/ 160] .
ثم ذكر الله تعالى بعض صفات أتباع عيسى، فقال:
وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي وجعلنا في قلوب أتباعه وهم الحواريون وأنصارهم رقة في الطبع ورحمة بالخلق، خلافا لليهود القساة، وابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم، ولم يشرعها الله لهم، ولم يأمرهم بها، بل ساروا عليها غلوا في العبادة، وحمّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع عن المطعم والمشرب والزواج، وانعزلوا عن الناس وانقطعوا إلى العبادة في الكهوف والصوامع، ولبسوا الملابس الخشنة، تقربا إلى الله تعالى.
ولكنهم ابتدعوا الرهبانية بقصد مرضاة الله، غير أنهم لم يراعوها حق الرعاية، ولم يحافظوا على أصولها، بل ضيّعوها، واستعملها كثير منهم في الفساد.
وهذا- كما قال ابن كثير- ذمّ لهم من وجهين:
أحدهما- الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله تعالى.(27/338)
والثاني- أنهم لم يقوموا بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن مسعود، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منهم إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت، فصبرت، ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكر الله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ «1» .
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته، يأكلون أموال الناس بالباطل، وسلوكهم منحرف.
روى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشدّدوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم، فشدّد عليه، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» .
__________
(1) ورواه ابن جرير بلفظ آخر.(27/339)
وروى الإمام أحمد عن إياس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل» .
ثم ذكر الله تعالى ثواب المؤمنين بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يا أيها الذين صدقوا بوجود الله تعالى ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم من مؤمني أهل الكتاب: اليهود والنصارى، خافوا الله تعالى، بترك ما نهاكم عنه، وأداء ما أمركم به، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته، بسبب إيمانكم برسوله صلى الله عليه وسلم، بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط، تهتدون به في الآخرة، وهدى تبصرون به العمى والجهالة في الدنيا، ويغفر لكم ما سلف من ذنوبكم، والله بليغ المغفرة والرحمة.
فهذا وعد للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بجميع الأنبياء قبله يتضمن ثلاثة أمور: مضاعفة الثواب، وجعل النور لهم على الصراط للنجاة، ومغفرة الذنوب والسيئات.
أخرج الشيخان صاحبا الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، فله أجران، ورجل أدّب أمته، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران» .
ثم رد الله على اليهود الذين زعموا اختصاص النبوة فيهم، فقال: لِئَلَّا يَعْلَمَ»
أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
__________
(1) أي ليعلم كما تقدم، وقرأها ابن مسعود وغيره: لكي يعلم، قال ابن جرير: لأن العرب تجعل(27/340)
أي اتقوا الله وآمنوا يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة، ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب على رد ما أعطاه الله، ولا إعطاء ما منع الله، فإنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقدرون أن يمنعوا ذلك الفضل الذي تفضل به على المستحقين له، كالنبوة والرسالة وغيرهما، وأن الفضل ومنه النبوة والعلم والتقوى بيد الله، يعطيه من يشاء، كما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته منه نصيبا أوفر من دين الإسلام، والله واسع الفضل، كثير العطاء والخير لمن يشاء من عباده.
والخلاصة: أن إيمان أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل وبموسى وعيسى لا يكفي، ولا ينفع شيئا، ما لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تفصيل ما أجمل في الآيات السابقة من إرسال الرسل بالكتب، وقد دلت على ما يأتي:
1- أخبر الله أنه أرسل نوحا وإبراهيم، وجعل النبوة في نسلهما، فجعل بعض ذريتهما الأنبياء، وأوحى إليهم الكتب المنزّلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
2- بعض تلك الذرية آمن وائتم بإبراهيم ونوح واهتدى، وكثير منهم كافرون خارجون عن طاعة الله تعالى.
__________
(لا) صلة زائدة مؤكدة في كل كلام، دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف 7/ 12] . وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بالله [الأنعام 6/ 109] . وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء 21/ 95] .(27/341)
3- أتبع الله سبحانه على آثار تلك الذرية رسلا كثيرين كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم، وعيسى ابن مريم، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه، وآتاه الله الإنجيل، وهو الكتاب المنزل عليه.
4- جعل الله تعالى في قلوب الذين اتبعوا عيسى على دينه، وهم الحواريون وأتباعهم، رأفة ورحمة، أي مودّة، فكان يوادّ بعضهم بعضا، والرأفة: اللين، والرحمة: الشفقة.
وهذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس، وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم، وحرّفوا الكلمة عن مواضعه.
قال مقاتل: المراد من الرأفة والرحمة: أنهم كانوا متوادّين بعضهم مع بعض، كما وصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
واستدل أهل السنة بقوله: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ... على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وكسب للعبد، لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.
5- لقد ابتدع أتباع عيسى الرهبانية (الفعلة المنسوبة إلى الرهبان) من قبل أنفسهم، ولم يفرضها الله عليهم ولا أمرهم بها، لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فما قاموا بها حق القيام، وتسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة مع الناس، وأكل أموالهم، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة 9/ 34] .
والمراد من الرهبانية كما ذكر الرازي وغيره: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، ومتحملين كلفا زائدة على العبادات(27/342)
التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن، والاعتزال عن النساء، والتعبد في المغاور والكهوف.
عن ابن عباس: أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام غيّر الملوك التوراة والإنجيل، فساح قوم في الأرض، ولبسوا الصوف.
6- آتى الله الذين آمنوا من أتباع عيسى والذين ابتدعوا الرهبانية أولا ورعوها أجرهم المستحق لهم، وكان كثير من المتأخرين بعدئذ فاسقين خارجين عن حدود الله وطاعته، كافرين بما جاء به عيسى وموسى عليهما السلام، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصوامع والمغاور، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
7- هذه الآية: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده، فيدخل في الآية.
وفيها أيضا دليل على أن العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت مندوب إليه عند فساد الزمان وتغيّر الأصدقاء والإخوان.
8- أمر الله تعالى صراحة مؤمني أهل الكتاب (الذين آمنوا بموسى وعيسى) أن يتقوا الله حق تقاته باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وأن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فعلوا كان لهم مثلان من الأجر على إيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص 28/ 54] .
ويجعل الله لهم أيضا نورا، أي بيانا وهدى إلى الحق في الدنيا، وضياء يمشون به على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم. وهذا وعد من الله منجز في أمور ثلاثة كما تقدم: مضاعفة الثواب، وجعل النور، وغفران الاثام.(27/343)
9- رد الله تعالى بقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ.. بما يأتي على بني إسرائيل الذين كانوا يقولون: الوحي والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلا لنا، والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جمع العالمين.
إن النبوة ليست مختصة بهم، وغير حاصلة إلا في قومهم، فهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر النبوة والرسالة في قوم مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده، ولا اعتراض عليه في ذلك.
وهذا المفهوم على القول المشهور عند أكثر المفسرين بأن (لا) في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ صلة زائدة مؤكدة، أي ليعلم أهل الكتاب أنهم عاجزون عن منح أحد شيئا من فضل الله تعالى.
وعلى قول أبي مسلم الأصفهاني وجمع آخرين: أن هذه الكلمة ليست بزائدة، يكون المفهوم والمستفاد من الآية: لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه «1» ، وليعلموا أن الفضل بيد الله، ويكون تقدير الآية:
إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله، فيكون في هذا القول تقدير محذوف وهو: وليعتقدوا أن الفضل بيد الله. وأما القول الأول فاحتاج إلى حذف شيء موجود، ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف «2» .
__________
(1) لأن نفي النفي إثبات، كما تقول: لا تصدّق فلانا أنه ما قال كذا، أي قال.
(2) تفسير الرازي، 29/ 247- 248(27/344)
10- دل قوله: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ.. على أن الفضل الإلهي في ملك الله وتصرفه، يؤتيه من يشاء، لأنه قادر مختار يفعل ما يريد، ودل قوله:
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على أنه لا بد وأن يكون إحسانه عظيما، والمراد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته وشرعه وكتابه، وأمر أهل الكتاب بالمبادرة إلى الإيمان برسالته خاتمة الشرائع الإلهية.(27/345)
[الجزء الثامن والعشرون]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
مدنيّة، وهي اثنتان وعشرون آية.
مدنيتها:
هذه السورة مدنية على الصحيح، وروي عن الكلبي أنه قال: نزلت كلها بالمدينة إلا قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ.. فإنها نزلت بمكة. وعن عطاء: العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي.
تسميتها:
سميت سورة المجادلة، لافتتاحها بقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. وهذه المرأة هي خولة امرأة أوس بن الصامت.
مناسبة السورة لما قبلها:
تتضح صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي:
1- ذكر في مطلع سورة الحديد صفات الله الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، والعالم بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو مع خلقه أينما كانوا، وذكر في مطلع هذه السورة ما يدل على ذلك وهو سماع قول المجادلة التي تشتكي إلى الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها حين نزلت: «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني في ناحية البيت لا أعرف ما تقول» «1» أي المجادلة.
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور والبخاري تعليقا، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، بلفظ «الحمد لله..» .(28/5)
2- ختمت السورة السابقة ببيان فضل الله، وافتتحت هذه السورة بما يشير إلى بعض الفضل.
3- ذكر في المجادلة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. الآية (7) وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى في السورة السابقة:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) .
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام التشريعية، وقد تضمنت حكم الظهار وكفارته، وحكم التناجي، وأدب المجالس، وتقديم الصدقة في بدء الأمر قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم المنافقين وجزائهم وتكذيبهم ووصفهم بأنهم حزب الشيطان، وموادة أعداء الله وموالاتهم. وتميزت الآيات كلها في هذه السورة باشتمال كل آية على لفظ الجلالة: (الله) لتربية المهابة منه في النفوس، وعدم التجرؤ على مخالفة أحكامها.
بدئت السورة ببيان سماع الله صوت امرأة هي خولة بنت ثعلبة، تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مصيرها من زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهر منها قائلا لها: «أنت علي كظهر أمي» وحكم الظهار في الجاهلية تحريم الزوجة تحريما مؤبدا، فبدّل الله ذلك الحكم، وجعل حكم الظهار التحريم المؤقت الذي يزول بإخراج كفارة الظهار المنصوص عليها في الآيات الأولى من هذه السورة: عتق رقبة، فصيام شهرين متتابعين، فإطعام ستين مسكينا (الآيات: 1- 4) وأعقبت ذلك بالحكم بإذلال وخزي الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإحصاء أعمالهم وشهادته عليهم (الآيتان: 5- 6) .
ثم ذكرت أدب التناجي في المجالس: وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين، وحرّمته إذا كان تناجيا بالإثم والعدوان، كما كان يفعل اليهود(28/6)
والمنافقون، وأخبرت بأن الله يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر، وفضحت خبث اليهود ومكرهم وخداعهم حينما كانوا يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية ظاهرها السلام، وباطنها الأذى والسب، قائلين: السام عليك يا محمد، أي الموت (الآيات: 7- 10) .
وأردفت ذلك ببيان أدب التفسح في المجالس، وطلب مغادرتها، وأشادت بالمؤمنين الذين يمتثلون أوامر الله وأوامر رسوله، وامتدحت العلماء منهم خاصة، وأوجبت تقديم الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفعت الحكم تخفيفا على المؤمنين وتيسير لقاء نبيهم، وجعلت محله الاشتغال بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله (الآيات: 11- 13) .
ثم أبانت مخازي المنافقين الذين يوالون اليهود ويحبونهم، ويفشون أسرار المؤمنين لهم، ويحلفون الأيمان الكاذبة، ويعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالفون أمرهما، فهم مخذولون مهزومون، والمؤمنون أعزة منصورون (الآيات: 14- 21) .
وختمت السورة الكريمة بأمر المؤمنين بتجنب الخونة الذين يوالون أعداء الأمة ولو كانوا أقرب الناس إليهم، وينافقون ويتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء، لإضعاف كيان أمتهم وتفريق جمعهم، أما الأمة المتماسكة المتحابّة، فهي أمة الإيمان الحق، وأهل الجنة خالدين فيها أبدا.
والتفريق بين الموقفين: موقف الإيمان وموقف الكفر والنفاق يبين أن الحب ينبغي أن يكون لله، والبغض لله، وأن اكتمال الإيمان يتطلب معاداة أعداء الله (الآية: 22) .(28/7)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
الظهار وكفارته
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
الإعراب:
قَدْ سَمِعَ قال النحاة: إن قد الداخلة على الماضي لا بد فيها من معنى التوقع، فلا يقال:
قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل أو يسأل عنه.
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ الَّذِينَ: مبتدأ، وخبره:
ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أو دليل خبره المحذوف أي الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، وما: نافية حجازية تعمل عمل ليس، وهُنَّ: اسمها، وأُمَّهاتِهِمْ: خبرها المنصوب على لغة أهل الحجاز، وتقرأ بالرفع على لغة بني تميم. وتعدى فعل الظهار بمن لتضمنه معنى التبعيد.
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً مُنْكَراً وَزُوراً: منصوب على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره: وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا.(28/8)
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا الجار والمجرور في موضع نصب، متعلق ب يَعُودُونَ وما:
مصدرية، أي يعودون لقولهم، والمصدر في موضع المفعول، كقولك: هذا الثوب نسج اليمن، أي منسوجة، ومعناه: يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلّق الزوج.
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ.. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الَّذِينَ: مبتدأ، وتحرير: مبتدأ ثان خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر المبتدأ الأول.
البلاغة:
قَدْ سَمِعَ السماع هنا مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية.
سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ خَبِيرٌ أَلِيمٌ صيغ مبالغة.
ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إطناب بذكر الأمهات، لزيادة التقرير والبيان.
المفردات اللغوية:
سَمِعَ اللَّهُ أجاب وقبل، كما في التسميع: «سمع الله لمن حمده» أي أجابه. الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها تراجعك الكلام أيها النبي في أمرها وأمر زوجها الذي ظاهر منها، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة، وكان قد ظاهر منها قائلا:
أنت علي كظهر أمي، فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال تأثرا بالعرف: حرمت عليه
، لأن الظهار كان عند العرب موجبا حرمة مؤبدة، فقالت: ما طلقني، فقال: حرمت عليه، فاغتمت لصغر أولادها، وشكت إلى الله تعالى، فنزلت هذه الآيات الأربع. وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ تبث شكواها وغمها وهمها إلى الله، متوقعة أن الله يسمع مجادلتها وشكواها، ويفرج عنها كربها. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما تراجعكما الكلام، بطريق تغليب الخطاب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ للأقوال والأحوال، وهذا يدل على إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى.
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ الذين يقولون لنسائهم مثلا: أنت علي كظهر أمي، أي في الحرمة، وكالأم سائر المحارم، وقد كان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار: تشبيه المرأة أو عضو منها بأحد محارمه نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم، وقوله: مِنْكُمْ تهجين لعادتهم فيه، فإنه كان من أيمان الجاهلية. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي ما أمهاتهم إلا اللاتي ولدن الأولاد، فلا تشبه بالمحارم في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن، كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم.
وَإِنَّهُمْ أي بالظهار. لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي قولا منكرا أنكره الشرع، والمنكر:
كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع. وَزُوراً كذبا وبهتانا، فإن الزوجة لا تشبه بالأم.(28/9)
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يعفو عن المظاهر ويغفر له إذا تاب وأدى الكفارة، كما أنه سبحانه غفور لكل من أذنب وعصى مطلقا إذا تاب وأناب.
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي عدلوا عن قصد التحريم، وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر منها في الزواج زمانا يمكنه مفارقتها فيه، وعند أبي حنيفة: باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة، وعند مالك: بالعزم على الجماع، وعند الحسن البصري وأحمد: بالجماع. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليهم، أو فالواجب إعتاق رقبة: عبد أو أمة، والفاء للسببية الدالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار. ويجب أن تكون الرقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية قياسا على كفارة القتل الخطأ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي من قبل استمتاع أحدهما بالآخر، لعموم اللفظ، وفيه دليل على حرمة المتعة أو الزواج قبل التكفير.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة أو ثمنها. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فالواجب صوم شهرين متواليين، فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف، وإن أفطر بعذر ففيه خلاف، وإن جامع المظاهر منها ليلا لم ينقطع التتابع عند الشافعية، خلافا لأبي حنيفة ومالك.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط إلى النساء. فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين عند الشافعية: مدّ من غالب قوت البلد، وهو رطل وثلث، كالفطرة، وعند الحنفية: نصف صاع من برّ أو صاع من تمر أو شعير، وذلك من قبل التّماس أو الاستمتاع، وإنما لم يذكر التّماس مع الإطعام اكتفاء بذكره مع الخصلتين الأخريين: العتق والصيام.
ذلِكَ البيان أو التعليم للأحكام، والتخفيف في الكفارة. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي فرض ذلك لتصدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في قبول شرائعه، ورفض أعراف الجاهلية. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أحكام شريعته، لا يجوز تعدّيها. وَلِلْكافِرِينَ أي الذين لا يقبلون تلك الأحكام.
عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب مؤلم، كما قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 97] .
سبب النزول: نزول الآية (1) وما بعدها:
قَدْ سَمِعَ..:
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني(28/10)
أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وهو أوس بن الصامت.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقا عن عائشة قالت:
«الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. الآية» .
وجاء في السنن كابن ماجه والبيهقي والمسانيد أن أوس بن الصامت قال لزوجته: خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه: «أنت علي كظهر أمي» وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك، حرمت عليه، فندم من ساعته، فدعاها فأبت وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني، وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني، ونثرت بطني (كثر ولدي) ، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه، فحدثني بها.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» . قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا.
ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك فاقتي وشدة حالي، وروي أنها قالت: إن لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك.
وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة أبشري، قالت:
خيرا، فقرأ صلى الله عليه وسلم عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها..
الآيات.(28/11)
وروى البخاري في تاريخه أنها- أي المجادلة- استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه: وما يمنعني أن أستمع إليها، وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ.. الآيات.
التفسير والبيان:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي قد قبل الله شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها، قائلا لها: «أنت علي كظهر أمي» أي في الحرمة، وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام، إن الله يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر على أتم وجه وأكمله، ومن ذلك: محاورة هذه المرأة معك.
والمجادلة هنا: بمعنى التحاور، وهي المراجعة في الكلام لتبين المخرج من الأزمة. والشكوى: أن تخبر عن مكروه أصابك. والسمع: صفة يدرك بها الأصوات، غير صفة العلم. والمرأة: خولة بنت ثعلبة، والزوج: أوس بن الصامت أحد الأنصار.
أخرج البخاري والنسائي وغيرهما كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة، تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في كسر البيت، يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي.. الآيات.
وقوله: قَدْ معناه التوقع، كما تقدم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنها.
وقوله: سَمِعَ اللَّهُ مجاز عن القبول والإجابة، لعلاقة السببية.(28/12)
ثم شنّع الله تعالى على المظاهرين ووبخهم، فقال:
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي الذين يشبّهون أزواجهم بأمهاتهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي ونحوه، أي إنك علي حرام كحرمة أمي، ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ لهم وتبكيت، فليست أمهاتهم في الحقيقة إلا النساء اللائي ولدنهم.
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا قولا منكرا، أي فظيعا ينكره الشرع ويقبّحه ولا يجيزه، كما لا يقره عقل، وَزُوراً، أي كذبا، وإن الله كثير العفو والمغفرة، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر، كما أن الله غفور لمن أذنب وتاب، وغفور من غير توبة لمن يشاء، كما قال: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
يتبين منه أن الله وصف الظهار بأنه منكر وزور، لتشبيه الزوجة بالأم، فهو خبر زور كذب، وإنشاء منكر ينكره الشرع ولا يعرفه، وهو يدل على أن الظهار محرّم، وهو أيضا عند الشافعية معصية كبيرة، لأن فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه سبحانه، ولأن المقدم على ذلك كاذب معاند للشرع.
والظهار كان طلاقا في الجاهلية، يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه.
وضابط المظاهر عند الشافعية والحنابلة: كل من صح طلاقه صح ظهاره، وهو البالغ العاقل، سواء أكان مسلما أم كافرا، فعلى هذا ظهار الذمي عندهم صحيح، لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ولأن الذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره، وهو أهل للزجر بالكفارة كالمسلم. وضابطه عند(28/13)
الحنفية والمالكية: كل زوج مسلم عاقل بالغ، فلا يصح ظهار الذمي ولا يلزم ولا يترتب عليه حكم، لظاهر قوله تعالى: مِنْكُمْ وهو خطاب للمؤمنين، فيدل على أن الظهار خاص بالمؤمنين، ولأن من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق، وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع «1» .
وقال الجمهور غير أحمد: لا يصح ظهار المرأة من زوجها، وهو أن تقول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي. وقال الأوزاعي: هو يمين تكفر، قال الرازي:
وهذا خطأ، لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين، وهو الأصل، فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريما بالقول، والمرأة لا تملك ذلك، بدليل أنها لا تملك الطلاق.
وقال الإمام أحمد في رواية راجحة عنه: يجب عليها كفارة الظهار، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية كالأوزاعي: تجب كفارة اليمين، وهذا أقيس على مذهبه.
وأما المظاهر منها فهي عند الحنفية: كل امرأة يحرم على الرجل نكاحها على التأبيد، بالنسب أو بالرضاع أو بالمصاهرة كزوجة الأب، أو أي عضو منها لا يحل له النظر إليه، كالظهر والبطن. وهذا مذهب الشافعية إلا أنهم استثنوا مرضعة المظاهر وزوجة الابن، لأنهما كانتا حلالا له في وقت، فيحتمل إرادته.
ورأي المالكية: أن المشبه به: هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي- ذكر أو أنثى، أو غيره كالبهيمة، ويصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها، ولو حكما كالشعر والريق بالأم.
وكذا قال الحنابلة: يصح التشبيه سواء كان بكل المشبه به، أو بعضو منه كاليد والوجه والأذن، فيشمل كل محرّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 3/ 417 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1738(28/14)
مصاهرة، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات. كما يشمل كل محرم من النساء تحريما مؤقتا كأخت المرأة أو عمتها، وكل محرّم من الرجال أو البهائم أو الأموات ونحوهم.
ثم أبان الله تعالى كفارة الظهار، فقال:
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي والذي يحدث منهم الظهار، ثم يريدون نقضه والعودة لما كانوا عليه من إرادة الجماع، فعليهم تحرير رقبة، أي أمة أو عبد مملوك، من أجل ما قالوا، من قبل التماس، وهو الجماع، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر، ذلكم الحكم المذكور أو تشريع الكفارة تؤمرون به أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، فهو مجازيكم عليها.
واختلف العلماء في تفسير العود: فقال الظاهرية وأبو العالية: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار، وهو قول باطل. ورأى الحنفية والمالكية على المشهور أن العود: هو العزم على الوطء أو الجماع. وذهب الشافعي إلى أن العود: أن يمسك المظاهر منها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه، فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة.
فالآراء ثلاثة أو أربعة: تكرار لفظ الظهار، والعزم على الوطء أو إرادة الوطء، والوطء في الفرج، والإمساك زمنا يمكن طلاقها فيه. وأجاب الجمهور عن رأي الظاهرية بأنه يقتضي أن الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلى الله عليه وسلم.(28/15)
وقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فإعتاق رقبة كاملة، أو فعليهم رقبة، والرقبة هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق رقبة مؤمنة أو كافرة، وبهذا الظاهر قال الحنفية والظاهرية، لأنه لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحانه كما بيّنه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله، ويقيد ما قيده، فيعمل بكل منهما في موضعه، ورأى الحنفية بناء على قواعدهم أن اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو الخبر المتواتر أو المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة.
واشتراط الجمهور الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل الخطأ بنص القرآن، ويحمل المطلق على المقيد، أي يحمل ما أطلق هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب: وهو عتق الرقبة، واعتضد في ذلك بما رواه مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السّلمي في قصة الجارية السوداء،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» «1» .
وضمير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للمظاهر والمظاهر منها المعلومين من الكلام السابق، والتّماس: كناية عن الجماع، فيحرم الجماع قبل التكفير، ومقدمات الجماع كالتقبيل ونحوها حرام أيضا عند الحنفية، لأن طريق الحرام حرام، وليست بحرام في الأظهر عند الشافعية، لأن تحريم الجماع لا صلة له بعقد الزواج، فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه، ولا تمكّن من ثمنها أو قيمتها زائدا عن قدر كفايته، أو لم يجد
__________
(1) ورواه أيضا أحمد في مسنده ومسلم في صحيحة.(28/16)
رقبة يشتريها لعدم وجود الرقيق في عصرنا، فعليه قبل التماس (أي الجماع) صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما عملا بظاهر النص القرآني، وإجماع العلماء على وجوب التتابع، فإن أفطر يوما أو أكثر لغير عذر، أو جامعها ليلا أو نهارا عمدا، استأنف في رأي الجمهور. وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يستأنف إذا وطئ ليلا، لأنه ليس محلا للصوم.
ولا ينقطع التتابع لدى المالكية بالمرض، وبالفطر سهوا، وبالإكراه على الفطر، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل، فأكل أو شرب، وبحيض ونفاس.
وينقطع التتابع عند الحنفية، والشافعية في المذهب الجديد بالإفطار بعذر كمرض مسوغ للفطر، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض أو نفاس أو جنون.
ورأى الحنابلة أن المظاهر إن أفطر في الشهرين بعذر، بنى على ما مضى، وإن أفطر بغير عذر ابتدأ من جديد.
واختلف العلماء في بيان قدر الكفاية، وفي وقت اعتبار اليسار والإعسار، فذهب مالك، والشافعي في الأظهر إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأن الكفارة عبادة لها بدل من غير جنسها كالوضوء والتيمم، والقيام في الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها. وذهب أحمد إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة في الكفارة.
ومن المعلوم أن الأشهر تعتبر بالأهلّة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر، كمّل الشهرين بالهلال، ولو كانا ناقصين، ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر، فقال الشافعية: يحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من شهر آخر ثلاثين يوما لتعذر الهلال فيه. وقال الحنفية: لا بد من ستين يوما.(28/17)
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين لكبر سن أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، فعليه أن يطعم ستين مسكينا، لكل مسكين عند الحنفية مدان، أي نصف صاع من القمح، وصاع «1» من تمر أو شعير، كالفطرة قدرا ومصرفا، من قبل التّماسّ أيضا، سواء بالإباحة أو بالتمليك، عملا بظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام، وحقيقة الإطعام هو التمكين، وذلك يتأدى بالإباحة والتمليك.
ويجب عند المالكية التمليك لكل مسكين مد «2» وثلثان من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما، فإن اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعا لا كيلا، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مدا وثلثين.
وأوجب الشافعية والحنابلة التمليك أيضا، وقدر ما يعطى كل مسكين: مدّ من قمح، أو نصف صاع من تمر أو شعير، ودليلهم على التمليك القياس على الزكاة وصدقة الفطر.
وظاهر قوله تعالى: فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أنه لا بد من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم ينجزه عند الجمهور غير الحنفية إلا عن واحد، لظاهر الآية، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينا، فوجب رعاية ظاهر الآية. ويجزئه ذلك عند الحنفية، لأن المقصود سد خلة المحتاج، والحاجة تتجدد كل يوم، فالدفع إليه مع مرور الأيام إطفاء للحاجة المتكررة بتكرر الأيام.
وهذا معارض لظاهر النص على ستين مسكينا، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا، فالتعليل بسد خلة المحتاج مبطل لمقتضى النص، فلا يجوز.
__________
(1) الصاع: 2751 غم.
(2) المد: 675 غم.(28/18)
واتفق العلماء على أن خصال كفارة الظهار مرتبة، فالإعتاق أولا، ثم الصيام، ثم الإطعام، للأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.
واتفق الفقهاء أيضا على أن من وطئ قبل أن يكفّر عصى ربه وأثم، لمخالفة أمره تعالى، وتستقر الكفارة في ذمته، ويظل تحريم زوجته عليه باقيا حتى يكفر، وذلك شامل جميع خصال الكفارة: العتق والصوم والإطعام. فإن وطئ أثناء التكفير فاختلف الفقهاء:
فذهب المالكية إلى أن الوطء في أثناء التكفير يحرم ويبطل ما تم، ويبتدئ الكفارة أيا كانت خصلتها من جديد.
ورأى الشافعية: أن المظاهر إن جامع أثناء الصوم ليلا قبل أن يكفّر، أثم، لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل تتابع الصيام، لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض، فلم يقطع التتابع، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام، لا يبطل ما مضى.
وفصل الحنفية والحنابلة فقالوا: إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم، أفسد ما مضى من صيامه، واستأنف الصوم من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام، فلا تلزمه إعادة ما مضى، عملا بعدم تقييد الإطعام في النص القرآني بكونه قبل التّماس، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التّماسّ.
ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ذلك الحكم الذي بيناه من وجوب الكفارة بسبب الظهار، لتصدقوا بشرع الله تعالى وأمره، وتصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تتعدّوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور، وتلك الأحكام المذكورة(28/19)
حدود الله أي محارمه، فالزموها ولا تتجاوزوا حدوده التي حدّها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عند حدود الله عذاب مؤلم على كفرهم وهو عذاب جهنم في الآخرة، كما لهم عذاب في الدنيا.
وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، كما قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 97] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- الشكوى إلى الله من الهم والحزن والضيق أنجع طريق، فقد أجاب الله شكوى خولة بنت ثعلبة وقبل استغاثتها، وحقق ما توقعته من ربها، لثقتها بفضل الله وإحسانها. والإجابة والقبول هو المقصود من قوله سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ.
والسماع في الأصل إدراك المسموعات، والسمع والبصر صفتان لله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات، لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. والسميع: المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، لأن الأصوات لا تخفى عليه.
2- الظهار معصية وحرام ومنكر شرعا من القول وزور (كذب) وليست النساء بأمهات، فما أمهاتهم إلا الوالدات. وأصل الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فمن قال ذلك فهو مظاهر بالإجماع، كما أن من قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فهو مظاهر.(28/20)
والظهار نوعان: صريح وكناية، فالصريح: أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي، وأنت مني، وأنت معي كظهر أمي، أو أنت علي حرام كظهر أمي، وكذا: أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي، ففي ذلك كله يكون مظاهرا.
والكناية: أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإنه يعتبر فيه النية، فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار، لم يكن مظاهرا عند أئمة المذاهب الأربعة، لأنه أطلق تشبيه امرأته بأمه، فكان ظهارا.
والظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها، على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه.
ويلزم عند مالك الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها، ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ وهذه ليست من نسائه.
والذميّ لا يلزم ظهاره عند أبي حنيفة ومالك، لقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني من المسلمين، وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. ويلزم ظهاره عند الشافعي وأحمد، لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ...
ولا ظهار للمرأة من الرجل في قول الجمهور، لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ولم يقل: اللائي يظاهرن منكن من أزواجهم، إنما الظهار على الرجال. وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي فلانة، فهي يمين تكفّرها. وقال أحمد: يجب عليها كفارة الظهار، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور.(28/21)
وظهار السكران صحيح كطلاقه، ويلزمه حكم الظهار والطلاق إذا عقل، بالاتفاق، ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وكذا يلزم الغضبان حكم الظهار. ومن كان به لمم، أي إلمام بالنساء وشدة حرص وتوقان إليهن، كأوس بن الصامت الذي ظاهر من زوجته خولة بنت ثعلبة، لزمه ظهاره.
وليس معنى اللمم: الجنون والخبل كما قال الخطابي، إذ لو كان به ذلك، ثم ظاهر في تلك الحالة، لم يكن يلزمه شيء.
ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفّر في رأي الجمهور، ورأى الشافعي أن المباشرة ليلا لا تقطع الصوم ولا تحرم.
ومن وطئ قبل أن يكفّر: عليه كفارة واحدة في رأي الجمهور، وقال بعضهم (مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن مهدي) : عليه كفارتان، ودليل الجمهور: أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود، وهنا فاتت صفة القبلية، فيبقى أصل وجوب الكفارة، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى.
وإذا كظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي، كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطئ إحداهن، وأجزأته كفارة واحدة في قول الجمهور، وقال الشافعي في الأظهر: تلزمه أربع كفارات.
وإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي، فتزوج إحداهن، لم يقربها حتى يكفّر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن.
وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة «1» ، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر، ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفّر. والمبتوتة عند المالكية لا يلحقها طلاق ولا ظهار.
__________
(1) يريد ب (البتة) هنا: الطلاق الثلاث. [.....](28/22)
3- كفارة الظهار واجبة على الترتيب: الإعتاق، ثم الصيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكينا، وذلك قبل التّماس، أي الجماع ومقدماته عند الحنفية، والجماع فقط عند الشافعية، فإن جامع قبل أن يكفر، لم يجب عليه إلا كفارة واحدة في قول أكثر العلماء كما تقدم.
4- العود لما قال المظاهر في الظهار: معناه عند الحنفية والمالكية: العزم على الوطء أو إرادة الوطء، والوطء في الفرج عند الحنابلة، وإمساك الزوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق في مذهب الشافعية.
والأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها، ويجبره على التكفير.
5- يجزئ عند الحنفية إعتاق الرقبة الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها، ولا يجزئ إعتاق غير الرقبة المؤمنة عند بقية المذاهب، ولا يجزئ عند الشافعي رحمه الله إعتاق المكاتب.
ومن لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة:
لا يصوم وعليه عتق، ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم، لزمه العتق، فإن عجز عن الرقبة، صام شهرين متتابعين.
6- تتابع الصيام شرط، وينقطع تتابع صوم الشهرين إن أفطر بغير عذر، ويستأنف. فإن أفطر بعذر من سفر أو مرض، بنى وأكمل عند المالكية والحنابلة، واستأنف أو ابتدأ الصيام من جديد عند الحنفية والشافعية، لفوات التتابع، ولكن لا ينقطع عند هؤلاء بحيض أو نفاس أو جنون.(28/23)
وينقطع التتابع بالوطء ليلا أو نهارا عند الجمهور، لقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ولا يبطل التتابع عند الشافعية بالوطء ليلا، لأنه ليس محلا للصوم.
7- لا يجزئ عند مالك والشافعي وأحمد أن يطعم أقل من ستين مسكينا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد، أجزأه.
8- إن كفارة الظهار إيمان بالله سبحانه وتعالى، لقوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لتكونوا مطيعين لله سبحانه، واقفين عند حدود الكفارة لا تتعدّوها، فسمى التكفير طاعة، ومراعاة الحد إيمانا. وتلك حدود الله تعالى بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة، ولمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.
وهذا دليل على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، لأن الله أمر بهذه الأعمال، وبيّن أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان. وأنكر بعضهم ذلك وقال: إنه تعالى لم يقل: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ بعمل هذه الأشياء، ورد الرازي عليهم بأن المعنى: ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام.
ودل قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ على أنه لا بد لهم من الطاعة، وأن العذاب لمن جحد هذا وكذب به.(28/24)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
الإعراب:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يَوْمَ: ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مُهِينٌ في قوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي لهم عذاب مهين في هذا اليوم، أو بإضمار: اذكر.
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ: مجرور بالإضافة، ويكون نَجْوى مصدرا، أو مجرور على البدل، بمعنى (متناجين) وتقديره: ما يكون من متناجين ثلاثة.
البلاغة:
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ بينهما طباق، لأن معنى أَدْنى أقل، فصار الطباق بينها وبين أكثر.
المفردات اللغوية:
يُحَادُّونَ يعادون ويخالفون، وأصل المحادّة: الممانعة، يقال للبواب: حداد. كُبِتُوا خذلوا وأذلوا وأهينوا. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ في مخالفتهم رسلهم، وهم كفار الأمم الماضية.(28/25)
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وَلِلْكافِرِينَ بالآيات. عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة، وإذلال، يذهب عزهم وتكبرهم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يبعثهم كلهم، لا يدع أحدا غير مبعوث، أو مجتمعين. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بأعمالهم أمام الناس، تشهيرا لحالهم، وتقريرا لعذابهم وتوبيخا وتقريعا لهم.
أَحْصاهُ اللَّهُ أحاط به عددا، لم يغب عنه شيء. وَنَسُوهُ لكثرته، أو تهاونهم به. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه شيء.
أَلَمْ تَرَ تعلم. ما يَكُونُ ما يوجد. نَجْوى تناجي ومسارّة، أو أصحاب نجوى، مأخوذ من النجوة: وهي ما ارتفع من الأرض، لأن المتسارّين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض.
إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي محيط بهم بعلمه. وَلا خَمْسَةٍ ولا نجوى خمسة. إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ تخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأن التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. وَلا أَكْثَرَ من هذا العدد. إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم. أَيْنَ ما كانُوا علم الله شامل لكل شيء، لا يتحدد بمكان. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ يخبرهم بأعمالهم، فضحا لهم وتقريرا لجزائهم. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عالم بكل شيء على سواء.
المناسبة:
بعد بيان أحكام الظهار في شريعة الإسلام، وتوبيخ المتورطين في الظهار، ومدح المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر تعالى ما يلحق المخالفين لشرع الله والمعادين لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من خزي وهوان في الدنيا، وعذاب في غاية الذل والمهانة في الآخرة، وأيد ذلك بالوعيد الشديد لهم، فأخبر أن الله مطلع عليهم وعلى أعمالهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم في السر والعلن، وسيخبرهم بذلك يوم الحساب، ويجازيهم على ما قدموا من عمل.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويخالفون شرع ربهم ويعاندونه، أذلّوا وأخزوا وأهينوا ولعنوا، وينكل بهم في الدنيا، كما أذل الذين من قبلهم من(28/26)
كفار الأمم المتقدمة، بسبب معاداتهم شرع الله سبحانه، وقد تحقق هذا الإنذار بإذلال المشركين بالقتل والأسر والقهر يوم بدر والخندق. وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم، ووعيد لكل الحكام المسلمين الذين يهجرون شريعتهم الإلهية، ويعملون بالقوانين الوضعية، ونظير الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى.. الآية [النساء 4/ 115] وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر 59/ 4] .
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي وقد أنزلنا للناس آيات واضحات، لا يخالفها إلا كل كافر فاجر مكابر، وللجاحدين بتلك الآيات، المستكبرين عن اتباع شرع الله والانقياد له، عذاب يهين صاحبه، ويذله، بسبب كفرهم وتكبرهم عن حكم الله، وذلك العذاب: هو الخزي والهوان في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا يوم يحسرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب، مجتمعين في حالة واحدة، لا يبقى منهم أحد لا يبعث، فيخبرهم الله بأعمالهم القبيحة التي عملوها في الدنيا، لإقامة الحجة وتكميلها عليهم، كما يخبرهم بكل ما صنعوا من خير وشر، ضبطه الله وحفظه عليهم، في صحائف كتبهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، والله مطلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئا.
وفي هذا أيضا وعيد شديد لكل من قدم الأعمال المنكرة والأفعال القبيحة.
ثم أخبر الله تعالى تأكيدا لما سبق بإحاطة علمه بخلقه واطلاعه على كل شيء، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ(28/27)
إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، أَيْنَ ما كانُوا
أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل محيط بكل شيء في الأرض والسماء، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، فما يوجد من تناجي أشخاص ثلاثة أو خمسة إلا هو معهم بعلمه، ومطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ولا يوجد من نجوى أقل من ذلك العدد أو أكثر منه مهما كان الرقم عشرات ومئات أو ألوفا أو ملايين إلا وهو عليم بهم، في أي زمان وفي أي مكان، يعلم السر والجهر، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء من تناجيهم في السر والعلن، لأن علم الله تعالى محيط بكل شيء، لا يحده زمان ولا يحجبه مكان، يسمع كلامهم، ويبصر ويرى مكانهم حيثما كانوا، وأينما كانوا، ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله به، وسمعه له.
والسبب في ذكر الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الاثنين والأربعة: هو إما تصوير الحالة الواقعية التي نزلت الآية بسببها، فإنها نزلت في قوم منافقين، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين. عن ابن عباس: أن ربيعة وحبيبا ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما ما يتحدثون، فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا، فهو يعلم كله، فنزلت.
وإما أن طبيعة المشاورة، تتطلب وجود عدد وتر، فيكون الاثنان أو الأربعة متنازعين، والثالث أو الخامس كالمتوسط الحكم بينهم، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد والمجموعات الباقية.
ونظير الآية كثير في القرآن، نحو قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة 9/ 78] وقوله سبحانه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف 43/ 80] .(28/28)
ولهذا أجمع المفسرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك.
ومع علم الله وسمعه وبصره بكل شيء، هو سبحانه وتعالى مطلع على جميع أمور خلقه، كما قال: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي ثم يخبر الله عباده المتناجين وغيرهم بجميع أعمالهم يوم القيامة، ليعلموا أن الله عالم بهم، وليكون إعلامه لمن يتناجون بالسوء والمكر توبيخا لهم وتكبيتا، وإلزاما للحجة، والله تعالى واسع العلم بكل الأشياء والأعمال، لا تخفى عليه خافية من الأمور، ويجازيهم عليها.
قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- إن كل من خالف شرع الله أو عاداه، أو تجاوز حدوده، له الخزي والذل والهوان في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة. وهذا بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، ووعيد وإنذار للكافرين بالعقاب الشديد.
2- يوم يبعث الله الرجال والنساء من أول عمر الدنيا إلى آخرها، من قبورهم في حالة واحدة، يخبرهم بما عملوا في الدنيا، وقد أحصاه الله عليهم في صحائف أعمالهم، بالرغم من نسيانهم له، ليكون أبلغ في الحجة عليهم، والله مطّلع وناظر لا يخفى عليه شيء.
3- لا يخفى على الله سر ولا علانية في السموات والأرض، فكل ما يكون من تناجي أو سرار اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أقل أو أكثر من ذلك العدد، يعلم به الله ويسمع نجواهم، كما دل عليه افتتاح الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ..(28/29)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
بالعلم، ثم ختمها بالعلم، وسمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها، وعلمه شامل كل شيء، لأن علمه علم قديم، فهو عالم بجميع المعلومات.
4- أكد الله تعالى المذكور في الآية السابقة بأنه سيخبر يوم القيامة خلقه بما عملوا من حسن وسوء، لأن الله عليم بجميع الأشياء، والمراد به أنه يحاسب الناس على أعمالهم، ويجازيهم على قدر استحقاقهم. ودل قوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ على التحذير من المعاصي، والترغيب في الطاعات.
5- المراد من كونه تعالى رابعا للثلاثة، وسادسا للخمسة وكونه معهم:
كونه تعالى عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم، مع تنزيهه تعالى عن المكان والمشاهدة.
عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْيُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)(28/30)
الإعراب:
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر، ويَصْلَوْنَها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من جَهَنَّمُ وبئس المصير: حذف المقصود بالذم، وتقديره: جهنم.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تنظر. الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى هم اليهود والمنافقون كانوا يتناجون فيما بينهم، أي يتحدثون سرا للتآمر على المؤمنين وإيقاع الريبة في قلوبهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا لمثل فعلهم. بِالْإِثْمِ بما هو معصية وذنب. وَالْعُدْوانِ الاعتداء على غيرهم.
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ التواصي بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي إذا جاؤوك أيها النبي قالوا: السام عليك، أي الموت، أو أنعم صباحا..، والله تعالى يقول:
وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل 27/ 59] . وحَيَّوْكَ خاطبوك بالتحية، والتحيات لله: أي البقاء. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهميُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ هلا يعذبنا بسبب ذلك، أي بالتحية لو كان محمد نبيا. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذاب جهنم كاف لهم.
يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرّها. فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم.
فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.. كما يفعله المنافقون. وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خير المؤمنين واتقاء معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تأتون وتذرون، فإنه مجازيكم عليه، وتُحْشَرُونَ تجمعون.
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان، فإنه المزين لها والدافع إليها. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ليوقعهم بتوهمه في الحزن. وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أي وليس الشيطان بضارّ المؤمنين. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليفوضوا الأمر إليه، ولا يبالوا بنجواهم.
سبب النزول:
نزول الآية (8) :
أَلَمْ تَرَ ... :
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا(28/31)
يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى الآية.
وأخرج أحمد والبزار والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم: يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ، فنزلت الآية: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.
وقال ابن عباس ومجاهد: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
نزول قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ:
عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، يا عائشة، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ألست أدري ما يقولون؟ قال: ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول:
وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «2» .
__________
(1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 233
(2) المرجع والمكان السابق، والحديث رواه ابن أبي حاتم.(28/32)
نزول الآية (10) :
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ الآية.
المناسبة:
بعد بيان علم الله بكل شيء، ومنه السر والنجوى، أبان الله تعالى حال أولئك الذين نهوا عن النجوى وهم اليهود والمنافقون، ثم عودتهم إلى المنهي عنه، وتحيتهم بالسوء للنبي صلى الله عليه وسلم، قائلين له: السام عليك، أي الموت، وتهديد بدخول جهنم.
ثم ذكر تعالى آداب المناجاة من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان، أي بالمعصية والقبيح والاعتداء وكل ما يؤدي إلى ظلم الغير، وضرورة التناجي بالبر والتقوى، أي بالخير وما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي ألم تنظر إلى الذين نهيتهم عن التناجي والمسارة بالسوء، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه، وهم اليهود والمنافقون كما ذكر في سبب النزول.
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي ويتسارّون أو يتحدثون فيما بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب، واعتداء وظلم للآخرين وعدوان على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي وإذا أتى إليك اليهود حيّوك بتحية سوء لم يحيّك بها الله إطلاقا، فيقولون: السام عليك، يريدون(28/33)
بذلك السلام ظاهرا، وهم يعنون الموت باطنا،
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: وعليكم.
روي في الصحيح لدى البخاري ومسلم عن عائشة: أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم يا أبا القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليكم، وقالت عائشة: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وأما سمعت ما أقول:
وعليكم، فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل 27/ 59] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ.
وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي يفعلون هذا، ويقولون فيما بينهم: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به، فأجاب الله تعالى عن قولهم: بأن جهنم تكفيهم، كما قال سبحانه:
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي يكفيهم عذاب جهنم عن الموت الحاضر، يدخلونها، فبئس المرجع والمآل، وهو جهنم.
ثم ذكر الله تعالى آداب المناجاة حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِذا تَناجَيْتُمْ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي يا أيها المؤمنون الذين يقتضي إيمانكم امتثال أمر الله، والابتعاد عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح، إذا تحدثتم سرا فيما بينكم، فلا تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين، من التناجي بالمعصية والذنب. والاعتداء على الآخرين وظلمهم، ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم قائد الأمة ومنقذها من الضلالة.
وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي وتحدثوا بالطاعة وترك المعصية، وبالخير واتقاء الله فيما تفعلون وتتركون، فإنكم إليه(28/34)
تجمعون يوم القيامة والحساب، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم، ويحاسبكم عليها، ويجازيكم بما تستحقون،
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، فإن ذلك يحزنه» «1» .
ثم ذكر الله تعالى بواعث مناجاة الكفار بالسوء، فقال:
إِنَّمَا النَّجْوى «2» مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إنما التناجي أو المسارّة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم من تزيين الشيطان وتسويله ووسوسته ليسوء المؤمنين، ولأجل أن يوقعهم في الحزن بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها، وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا، إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فلا يأبه المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله ربهم، بأن يكلوا أمرهم إليه، ويفوضونه في جميع شؤونهم، ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن شأن اليهود وديدنهم معاداة القيم والأنبياء، والتآمر والمكايد، فتراهم يتناجون سرا بالإثم والعدوان، أي بالكذب والظلم، ويتواصون بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخرجون عن الآداب الاجتماعية المعروفة، فيحيون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا، وهم يعنون الموت باطنا، فيجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «عليكم» أو «وعليكم» وكانوا يقولون: لو كان محمدا
__________
(1) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وعبد الرزاق عن ابن مسعود.
(2) اللام للعهد، وهو التناجي بالإثم والعدوان، زينه الشيطان لأجلهم.(28/35)
نبيا لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم، لا يعاجل من سبّه، فكيف من سبّ نبيه؟!
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد، وهو يعافيهم ويرزقهم» .
واختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة، هل هو واجب كالرد على المسلمين، فذهب ابن عباس والشعبي وقتادة إلى الوجوب، للأمر بذلك. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بواجب، فإن رددت فقل عليك. قال القرطبي: وما قاله مالك أولى اتباعا للسنة،
أخرج الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت» .
2- أمر الله المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم بالبر والتقوى، أي بالطاعة والعفاف عما نهى الله عنه، ونهاهم عن التناجي أي التسارر بالمعصية والذنب، والاعتداء على الآخرين والظلم، فإنهم مجموعون في الآخرة إلى الله الذي يجازيهم على ما قالوا وما عملوا.
3- إن الباعث على نجوى السوء من تزيين الشيطان، ليوقع المؤمنين في الهمّ والحزن، وليوهمهم أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو أنهم متعرضون لمكايدة الأعداء، والوقوع فريسة الأقوياء، ومحنة السوء، مع العلم بأن الشيطان لا يضر أحدا بشيء إلا بمشيئة الله وتدبيره، وعلى المؤمنين أن يكلوا أمرهم إلى الله ربهم القاهر القادر، ويفوضوا جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذوا به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلّط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا، ولو شاء لصرفه عنه.
4- من أدب الإسلام، كما
جاء في حديث عبد الله بن مسعود المتقدم: «إذا كنتم ثلاثة ... »
ألّا يتناجى أو يتحدث سرا اثنان أمام ثالث، حتى يجد الثالث(28/36)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجيه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة «1» . ويستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أوقع، فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب الجمهور، وسواء أكان التناجي في مندوب أم مباح أم واجب، فإن الإساءة تشمله «2» .
أدب المجالسة في الإسلام
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
البلاغة:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ الجملة الأخيرة عطف خاص على عام تنويها بشرف العلماء، مع أنهم داخلون في المؤمنين.
المفردات اللغوية:
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيها، وليفسح بعضكم عن بعض، يقال: افسح عني، أي
__________
(1) أخرجه الموطأ.
(2) تفسير القرطبي: 17/ 295(28/37)
تنّح، وقرئ: «في المجلس» ، والمراد به الجنس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ يوسع الله لكم في رحمته، من المكان والصدر والرزق والجنة وغيرها. انْشُزُوا انهضوا للتوسعة على القادمين، أو ارتفعوا في المجلس، أي تنحوا من الموضع، ويقال: امرأة ناشز، أي منتحية عن زوجها. فَانْشُزُوا فانهضوا دون تباطؤ. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعلي منزلتهم بالنصر وحسن السمعة في الدنيا، والإيواء في غرف الجنان في الآخرة. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي ويرفع العلماء منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة، لجمعهم بين العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به زيادة رفعة،
جاء في الحديث: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «1» .
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم مطلع على جميع أعمالكم، وهو تهديد لمن لم يمتثل الأمر.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا، ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر، وفي المكان ضيق، فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام صلى الله عليه وسلم نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن التناجي سرا في المجتمعات، والتناجي بالإثم والعدوان، لكونه سبب التباغض والتنافر، أمرهم تعالى بما يكون سببا لزيادة المحبة والمودة من التوسع في المجالس، والانصراف عنها عند الطلب لمصلحة ما، ثم أخبر عن رفع منازل المؤمنين والعلماء درجات في الجنان وفي الدنيا أيضا.
__________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية عن معاذ، وهو ضعيف.(28/38)
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس، وعدم التضايق فيها، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في الجنة، أي إن الجزاء من جنس العمل.
والآية عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم، أو يوم جمعة أو عيد، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه.
جاء في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» «1» .
قال: الرازي: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ: هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه، من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.
والآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم، وإدخال السرور في قلبه، لذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» «2» .
__________
(1) رواه مالك والشافعي وأحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الشيخان في الصحيحين.
(2) تفسير الرازي: 29/ 269، والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.(28/39)
وهذا الأدب له تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله.
وفي الحديث المروي في السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس، يكون صدر ذلك المجلس، فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان علي، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك
، روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»
وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخص في ذلك، محتجا
بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري: «قوموا إلى سيدكم»
وهو سعد بن معاذ حينما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة.
ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان: «من أحب أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» .
ومنهم من فصّل، فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد المتقدمة، ليكون أنفذ لحكمه، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من(28/40)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك «1» .
وَإِذا قِيلَ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من أماكنهم، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين، وأهل العلم بشرع الله، فليقوموا.
وهذا يشمل أيضا ما إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا، ينبغي أن يجاب.
وبعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء، وعدهم على الطاعات، فقال:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم على أعمالهم جميعا، خيرا أو شرا.
روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما، ويضع به آخرين» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 325(28/41)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
1- التوسع في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر مطلوب شرعا، وأدب حسن، سواء كان مجلس النبي في عصره، أو عالم بعده أو مجلس حرب أو ذكر أو شورى أو مجلس يوم الجمعة أو العيد أو العلم ونحوه، وليس ذلك واجبا وإنما هو مندوب شرعا، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه،
لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به» «1»
ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك، فيخرجه الضيق عن موضعه.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر كما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه»
وعن ابن عمر أيضا فيما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا»
وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه.
2- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما
روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا» .
وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع، فيأخذ له مكانا يقعد فيه، لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع. ومثل ذلك إرسال بساط أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد.
والجالس يختص بموضعه إلى أن يغادره نهائيا، لما
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم- أو من قام من مجلسه- ثم رجع إليه، فهو أحق به» .
__________
(1) حديث صحيح رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب بلفظ: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم، فهو له» .(28/42)
3- إن للتوسع في المجالس ثوابا، لقوله تعالى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع عليكم في الدنيا والآخرة.
4- إذا قيل: انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، يجاب القائل، وإذا دعي الشخص إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجب القيام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في وظائف تخصه لا تتأتى ولا تكمل بدون الانفراد.
وإذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: (قوموا) ينبغي أن يجاب، ويفعل ذلك لحاجة، إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها، مما لا نزاع في جوازه.
5- يرفع الله درجات المؤمنين والعلماء في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم. قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية.
وتدل هذه الآية: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... أيضا على أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان، لا بالسبق إلى صدور المجالس، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العلماء، منها
الحديث السابق عند أبي نعيم عن معاذ- وفيه ضعف-: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»
ومنها
حديث حسن رواه ابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك، فاختار العلم، فأعطي المال والملك معه.(28/43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
البلاغة:
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً استعارة، استعار اليدين لما يكون قبل الشيء، أي قبل نجواكم، وهي استعارة بالكناية، حيث شبه النجوى بالإنسان، وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو اليدان. ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية.
أَأَشْفَقْتُمْ استفهام معناه التقرير.
المفردات اللغوية:
ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أردتم مناجاته والتحدث معه. فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي قدموا قبل المناجاة صدقة للفقراء، قال البيضاوي: وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والنهي عن الإفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، واختلف في أنه للندب أو للوجوب، لكنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ وهو إن اتصل به تلاوة، لم يتصل به نزولا.
وَأَطْهَرُ أي أزكى للنفوس وأبعد عن الريبة وحب المال، وهو يشعر بالندب، لكن قوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أدل على الوجوب، أي إن لم تجدوا ما تتصدقون به، يرخص لكم في المناجاة بلا صدقة. والله غفور لمناجاتكم، رحيم بكم، فلا حرج عليكم في المناجاة.
أَأَشْفَقْتُمْ خفتم، والمعنى: أخفتم الفقر في تقديم الصدقة؟ وجمع صدقات لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا الصدقة. وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم ألا تفعلوه، أو رجع بكم عنها، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي(28/44)
دوموا عليهما ولا تفرطوا في أدائهما. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
سبب نزول الآيتين (12، 13) :
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: أَأَشْفَقْتُمْ الآية.
وأخرج الترمذي وحسّنه، وغيره عن علي قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
ما ترى، دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت:
لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية
، فبي خفف الله عن هذه الأمة.
وقال مقاتل بن حيان: نزلت الآية في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، وأمر بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل العسرة، فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ كان لي دينار فبعته، وكنت إذا ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟.(28/45)
المناسبة:
بعد بيان أدب الإسلام في المناجاة والمجالسة، أمر الله تعالى المؤمنين بتقديم صدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع أحاديثه، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة، فكان ذلك يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يستثقله الحاضرون، فأراد الله أن يحد من هذه المناجاة، ويخفف عن نبيه، فأمر بتقديم الصدقة قبل المناجاة، تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وإعظام مناجاته، ولنفع الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة، ولتمييز المنافقين الذين يحبون المال عن المؤمنين المخلصين. قال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت هذه الآية، شحّ كثير من الناس، فكفّوا عن المسألة.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي يا أيها الذين أقروا بوجود الله ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا أردتم مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم أو مساررته في أمر من أموركم، فقدموا قبل المناجاة صدقة، تصدقوا بها، لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والتخفيف عنه، ونفع الفقراء، وتمييز المؤمن الحق والمنافق.
ثم أبان الله تعالى حكمة الصدقة، فقال:
ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إن تقديم الصدقة قبل النجوى خير لكم، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره، والثواب الأخروي، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشح والبخل وحب المال، ونفع الفقراء، وتضامن الأمة، وإعزاز شأنها ورفعة قدرها، فإن لم يجد أحدكم تلك(28/46)
الصدقة، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة، وقد رخص الله لكم في المناجاة بلا تقديم صدقة، لأن المأمور بها هو القادر عليها الغني.
وظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبا، لأن الأمر للوجوب، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن ذلك لا يقال إلا لترك الوجوب.
وقال بعضهم: إن الأمر هنا للندب والاستحباب، بقرينة ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض، ولأنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به، وهو: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا. والجواب:
أن الواجب يوصف أيضا بأنه خير وأطهر كالمندوب، وأنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة، كونهما متصلتين في النزول، فتكون آية أَأَشْفَقْتُمْ ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر.
وأنكر أبو مسلم الأصفهاني وقوع النسخ، وقرر أن الأمر بتقديم الصدقة على النجوى لتمييز المؤمن المخلص من المنافق، فلما تحقق الغرض، انتهى الحكم، أي أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه بانتهاء تلك الغاية، فلا يكون هذا نسخا. قال الرازي: وهذا الكلام حسن ما به بأس، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ.
ثم رفع الله تعالى الحكم السابق، فقال:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟ أي أخفتم تقديم الصدقات، لما فيه من إنفاق؟ قال مقاتل: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ(28/47)
وَرَسُولَهُ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أي حين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم، ورخص الله لكم في الترك، والمناجاة من غير صدقة، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله خبير محيط بأعمالكم كلها ظاهرها وباطنها، فمجازيكم عليها. والإشفاق: الخوف من المكروه.
قال قتادة ومقاتل بن حيان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك.
وليس في الآية إشارة إلى وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة، فقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا. ولا يدل أيضا قوله: تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ على أنهم قصروا، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
1- أوجب الله تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تعظيما لنبيه وتخفيفا عنه من كثرة الأسئلة، ثم خفف الله عن الأمة، ورفع التكليف.
والظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة، فقد تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما تقدم، ولم يوجد مقتض للمناجاة لدى بقية الصحابة الذين تريثوا وفهموا علة التكليف.
وكان التكليف مقصورا على الأغنياء، لأنه تعالى جعل الصدقة بالمال خيرا(28/48)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
من إمساكها، وأطهر لقلوبهم من المعاصي والذنوب، فإن لم يجد الواحد ما يتصدق به، فإن الله غفور له، رحيم به.
2- علم الله تعالى ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل، مع كثرة المسائل، لو دام الوجوب، فخفف الله عنهم، وأمر بمتابعة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله تعالى في فرائضه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سننه، والله محيط بأعمال عباده ونياتهم.
حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 19]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
الإعراب:
ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ جملة حالية من فاعل تَوَلَّوْا أو استئنافية، والمعنى واحد، ويصح جعلها صفة لقوم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً جَمِيعاً منصوب على الحال من الهاء والميم في يَبْعَثُهُمُ وهو عامل الحال.(28/49)
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استفهام يراد منه التعجيب. يَعْلَمُونَ ويَعْمَلُونَ جناس ناقص لتغير الرسم.
أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وأُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
أَلا الشَّيْطانُ عَلَيْهِمُ في الجملتين السابقتين، تأكيدات متنوعة تفيد التقبيح في الأولى، والتحلية في الثانية.
يَعْمَلُونَ، خالِدُونَ، الْكاذِبُونَ، الْخاسِرُونَ، توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر أو أخبرني، وهو أسلوب يراد به التعجيب للمخاطب من حال هؤلاء المنافقين. الَّذِينَ تَوَلَّوْا والوا وودّوا وأحبوا، وهم المنافقون. قَوْماً هم اليهود. غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سخط. ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ادعاء الإسلام وأنهم من المؤمنين. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون فيه أي في المحلوف عليه.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من المعاصي التي تمرنوا عليها وأصروا على فعلها. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوا بها. جُنَّةً وقاية وسترا على أنفسهم من المؤاخذة. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدوا بأيمانهم الناس عن دين الله بالتحريش والتثبيط. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف أخر لعذابهم، وهو أنه ذو إهانة.
مِنَ اللَّهِ من عذابه. شَيْئاً من الإغناء. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي اذكر لهم ذلك اليوم. فَيَحْلِفُونَ لَهُ أنهم مؤمنون. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من نفع حلفهم في الآخرة كالدنيا. اسْتَحْوَذَ استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم. حِزْبُ الشَّيْطانِ أعوانه وأتباعه وأنصاره.(28/50)
سبب النزول:
نزول الآية (14) :
أَلَمْ تَرَ..:
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً الآية، قال: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره، إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلت، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (18) :
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ..:
أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة، وقد كاد الظل يتقلص، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم، لا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية.
المناسبة:
بعد أمر المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفا عنه في طول مجالسته وكثرة التردد عليه، ذكر الله تعالى حال جماعة من المنافقين كانوا يتولون اليهود(28/51)
ويودونهم، ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، وهم في الواقع لا مع الكفار ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء 4/ 143] .
وقد أنذرهم الله بالعذاب، وأبان بواعث أفعالهم واستيلاء الشيطان على عقولهم، فهم أتباع الشيطان وأنصاره.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود ومالئوهم في الباطن، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين، فموقفهم يستدعي التعجب، لذا سخط الله عليهم، وهم في الواقع، لا مع المؤمنين ولا مع اليهود، أي ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم، وهم اليهود.
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي واتخذوا الأيمان الكاذبة ستارا لهم، فهم يحلفون أنهم مسلمون، أو ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له.
ثم أنذرهم تعالى بالعذاب الشديد، فقال:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هيأ الله لهم، وأرصد لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشّهم، وساء ما فعلوا من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي، مصرّين على سوء العمل.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، واتخذوها وقاية وسترا(28/52)
لدمائهم، فخدع بهم بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة أمرهم، وظنوا صدقهم، فحصل بهذا صدّ عن سبيل الله، بأن منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، فلهم عذاب يلازمه الذل والهوان في نار جهنم بسبب أيمانهم الكاذبة بالله تعالى، وفي مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم ذكر الله تعالى مدى إفلاسهم يوم القيامة، فقال:
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله، شيئا من الإفادة، وأولئك الموصوفون بهذه الصفات هم أهل النار، لا يفارقونها، وماكثون فيها، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي اذكر لهم أيها النبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم، فلا يغادر منهم أحدا، فيحلفون بالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه، وبعث عليه، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله، كما كان ينفعهم عند الناس.
وهذا من شدة شقاوتهم، فإن الحقائق يوم القيامة قد انكشفت.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أي ويظنون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا، كما كانوا يظنون ذلك في الدنيا، ألا إنهم بهذا التصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه.
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ(28/53)
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
[الأنعام 6/ 23- 24] .
ثم ذكر الله تعالى سبب ضلالهم، فقال:
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم، فتركوا أوامره والعمل بطاعاته، أولئك جنود الشيطان وأتباعه ورهطه، إلا إن أعوان الشيطان هم الخاسرون الهالكون، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه، وحلفوا الأيمان الفاجرة، فسوف يخسرون في الدنيا والآخرة، وليس العاقل من يقبل هذا ويرتضيه لنفسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- تحرم موادّة الكافرين أعداء المؤمنين، واطلاعهم على أسرار المسلمين، ومؤازرتهم ونصحهم.
2- ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين، بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم.
3- لهؤلاء المنافقون عذاب شديد في جهنم، وهو الدّرك الأسفل من النار، وبئست الأعمال أعمالهم.
4- اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم جنّة أو ساترا ووقاية لهم من القتل، فلهم عذاب ذو إهانة في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.(28/54)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
5- لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.
6- لهم عذاب مهين يوم بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة.
7- إنهم يغالطون باليمين مغالطة ظاهرة، ظانين أن الأيمان الكاذبة تنفعهم في الآخرة كما تنفعهم في الدنيا، وهم يحسبون أنهم على شيء من النفع بإنكارهم وحلفهم، وهم في الواقع كاذبون، والمراد: أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف.
8- لقد غلب الشيطان عليهم بوسوسته في الدنيا، مما أدى بهم إلى ترك أوامر الله والعمل بطاعته، وهم رهط الشيطان وطائفته، وحزب الشيطان هم الخاسرون في بيعتهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
جزاء المعادين لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم والوعد بنصر المؤمنين وتحريم موالاة الأعداء
[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(28/55)
الإعراب:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ.. كَتَبَ: أجري مجرى القسم، لذا أجيب بجواب القسم في قوله: لَأَغْلِبَنَّ. وَرُسُلِي: في موضع رفع بالعطف على الضمير في لَأَغْلِبَنَّ. وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستتر لتأكيده بقوله: أَنَا. وإذا أكد الضمير المنفصل أو المستتر، جاز العطف عليه.
فِي الْأَذَلِّينَ هي أفعل التفضيل.
البلاغة:
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ مجاز مرسل، لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية.
المفردات اللغوية:
يُحَادُّونَ يعادون ويخالفون ويشاقون، فهم في حد، والشرع والهدى في حد. فِي الْأَذَلِّينَ في جملة المغلوبين أذل خلق الله. كَتَبَ اللَّهُ قضى وحكم. لَأَغْلِبَنَّ بالحجة والقوة. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُوادُّونَ يصادقون، أي لا ينبغي أن تجدهم وادّين أعداء الله، والمراد: أنه لا ينبغي لهم أن يوادّوهم.
وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ولو كان المحادّون أقرب الناس إليهم.
أُولئِكَ أي الذين لم يوادّوهم. كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبت الإيمان في قلوبهم، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، لأن أعمال الأعضاء لا تثبت في القلب.
وَأَيَّدَهُمْ قواهم. بِرُوحٍ مِنْهُ أي بنور من عند الله يقذفه في القلوب، لتطمئن وتسكن. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه الذي وعدهم به. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده وأنصار دينه، يتبعون أمره ويجتنبون نهيه. هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين.
سبب النزول:
نزول الآية (21) :
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ.. قال مقاتل: لما فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا: نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم(28/56)
لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك؟ فنزلت: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.
نزول الآية (22) :
لا تَجِدُ قَوْماً: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ الآية.
وأخرجه الطبراني والحاكم في المستدرك بلفظ: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر، قصده أبو عبيدة، فقتله، فنزلت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدّثت أن أبا قحافة سبّ النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فصكّه أبو بكر صكّة، فسقط، فذكر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريبا مني لضربته به:
لا تَجِدُ قَوْماً.. الآية.
وقال الرازي: إن الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً ... نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي صلى الله عليه وسلم إليهم، لما أراد فتح مكة.
المناسبة:
بعد بيان سوء حال المنافقين في الآخرة وخسارتهم الكبرى، أبان الله تعالى سبب خسارتهم وهو مشاقّة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة أوامرهما، ثم أخبر عن قضائه المبرم في نصر الرسل وهزيمة أعدائهم، ثم ذكر أن الإيمان لا يجتمع مع وداد أعداء الله وموالاتهم، لأن من أحبّ أحدا، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه.(28/57)
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي إن الكفار المعاندين المخالفين أوامر الله ونواهيه، والذين يجانبون الحق ويعادون الإسلام، فيجعلون أنفسهم في حد، وشرع الله ورسوله في حد آخر، هم في جملة المغلوبين وفي جملة من هم أذلّ خلق الله تعالى، لا ترى أحدا أذلّ منهم، سواء في الدنيا بالقتل والأسر والطرد من الديار، كما حصل للمشركين واليهود، وفي الآخرة بالخزي والنكال والعذاب، كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران 3/ 192] . وهذا إنذار بهزيمة أعداء الله، والآية جملة استئنافية لتعليل خسرانهم.
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي حكم الله وقضى في سابق علمه الأزلي أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة والسيف ونحوهما، إن الله قوي على نصر رسله، غالب لأعدائه، وهذا- كما قال ابن كثير- قدر محكم، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة. وهذا بشارة بنصر المؤمنين على الكافرين، وقد تحقق ذلك مرارا، فنصر رسله الكرام على أقوامهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ممن مضى، ونصر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه على المشركين في الجزيرة العربية، وعلى دولتي الروم والفرس.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [37/ 171- 173] .
ثم بيّن الله تعالى شأن المؤمنين في أنهم لا يوادون أعداء الله، فقال:
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي لا ينبغي للمؤمنين بالله واليوم الآخر أن يحبوا ويصادقوا ويوالوا من عادى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم(28/58)
وشاقهما، ولو كان المحادّون المعادون لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إليهم، كالآباء الذين يجب برّهم وطاعتهم، والأبناء فلذات الأكباد، والإخوان الناصرين لهم، والعشيرة أو القبيلة التي ينتمون إليها ويتآزرون بها.
أخرج الترمذي والحاكم والطبراني مرفوعا: «يقول الله تبارك وتعالى:
وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي، ويعاد أعدائي» .
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا: «أوثق الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله» .
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية: ولا لفاسق- علي يدا ولا نعمة، فيودّه قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إلي: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .
ثم بيّن الله تعالى سبب الامتناع من موادّة الأعداء وجزاء الممتنعين، فقال:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أي أولئك الذين لا يوادّون من حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم، وقواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمي نصره لهم روحا، لأن به يحيا أمرهم، ويدخلهم الجنان التي تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها، ماكثين فيها على الأبد، وقد قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة، وفرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا.
أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي أولئك أنصار الله وجنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، ألا إن هؤلاء الأنصار هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.(28/59)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي من الموضوعات الأربعة:
1- إن الكفار المعاندين الذين يشاقون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعادون شرع ربهم، وسنة رسولهم، من جملة الأذلّاء، فلا أذلّ منهم.
2- قضى الله وحكم في اللوح المحفوظ أنه سيغلب أعداءه بالحجة والسيف ونحوهما، فمن تهيأ للحرب غلب بالحرب، ومن استعد للحجة والبيان غلب بالحجة.
3- لا يجتمع الإيمان الحق مع وداد أعداء الله، لأن من أحب أحدا، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، حتى ولو كان الأعداء من الأقربين، ومن أنعم الله عليه بنعمة الإيمان العظمى، كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله؟! 4- وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين المجتنبين مصادقة الأعداء بأن الله غرس الإيمان في قلوبهم، وأيدهم بنصر من عنده، ثم بيّن جزاءهم الأخروي وهو دخول الجنان مع الخلود فيها، والحظوة برضوان الله وثوابه، والفرح بما أمدهم الله به من النعم في الدنيا والآخرة من نصر ورزق وخير، ونور وإيمان وبرهان وهدى، وجنان، ثم وصفهم الله بأنهم حزب الله الغالب، وحزب الله هم المفلحون الفائزون، وهذا المعنى الأخير بيان لاختصاص هؤلاء بسعادة الدنيا والآخرة.
والخلاصة: ذكر الله أربع نعم على من ترك موادة الأعداء وهي:
أولا- إثبات الإيمان في قلوبهم.
ثانيا- تأييدهم بروح من عند الله، أي بنصرهم على عدوهم، وبروح من الإيمان.(28/60)
ثالثا- إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها.
رابعا- ينعمون بنعمة الرضوان، ويفرحون بما أعطاهم الله تعالى.
وذكر الله تعالى أيضا أربعة أمور توجب ترك المودة وهي:
أولا- إن الإيمان ومودة الأعداء لا يجتمعان في القلب.
ثانيا- نفورهم من موادة الأعداء، ولو كانوا من الأقربين: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ ... إلخ.
ثالثا- إنه تعالى عدّد نعمه على المؤمنين، وهي توجب ترك مودة أعداء الله: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ إلخ.
رابعا- وصفهم بأنهم حزب الله الغالب: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.(28/61)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
مدنيّة، وهي أربع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحشر، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.. أي الحشر الأول وهو الجمع الأول الذي حشروا فيه وأخرجوا في عهد النبوة من المدينة إلى بلاد الشام، والحشر الثاني:
إجلاؤهم وإخراجهم في عهد عمر من خيبر إلى الشام.
وتسمى أيضا سورة بني النضير، لاشتمالها على قصة إجلاء يهود بني النضير، في غزوة بني النضير، وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلاهم عن المدينة المنورة.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة:
1- ذكر في السورة السابقة من حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قتل من الصحابة أقرباءه يوم بدر، وفي أول هذه السورة ذكر من شاقّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما جرى بعد غزوة بني النضير من إجلاء اليهود، وقد حدثت الغزوة بعد بدر.
2- أخبر الله في آخر السابقة عن نصر الرسل: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وأفاد في أول هذه إنجاز النصر على اليهود: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ(28/62)
يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
3- كشف الله في السورة المتقدمة حال المنافقين واليهود وموادة بعضهم بعضا، وذكر في هذه السورة ما حلّ بيهود بني النضير.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة الحشر كسائر السور المدنية عنيت بالأحكام التشريعية، مثل إجلاء يهود بني النضير من المدينة، وأحكام الفيء والغنائم، والأمر بالتقوى. كما أن فيها تحليلا لعلاقة المنافقين باليهود، وبيان عظمة القرآن، وإيراد بعض أسماء الله الحسنى.
افتتحت السورة بتنزيه الله نفسه عن كل نقص، وتمجيده من جميع ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وشهادتهم بوحدانيته وقدرته، والنطق بعظمته.
وأردفت ذلك بالإشادة بالنصر على أعداء الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة المنورة، وتهديم قلاعهم وحصونهم.
ثم أبانت حكم الفيء وهو الأراضي والدور والأموال الآيلة من العدو للمسلمين من غير قتال، ببيان مصارفه وتوزيعه على مختلف فئات المسلمين، وحكمة ذلك التوزيع.
وفي ثنايا آيات الفيء امتدح الله تعالى مواقف المهاجرين، وأشاد بمآثر الأنصار، وانتدب الذين جاؤوا من بعدهم للثناء على من سبقهم والدعاء لهم بالمغفرة.
وقارن ذلك بعلاقة المنافقين باليهود، وتحالفهم على الباطل، وكشف أخلاق الفريقين، ومنها خذلان المنافقين من يحالفونهم وقت الأزمة، وجبن(28/63)
اليهود وخوفهم من مواجهة المؤمنين، وتشبيه المنافقين بالشيطان الذي يغري الإنسان بالسوء والضلال، ثم يتخلى عنه في الوقت العصيب.
ثم أمر الله المؤمنين بالتقوى، والاستعداد ليوم القيامة وما فيه من أهوال جسام، والاعتبار بأحوال الماضين، وتذكر الفرق العظيم بين أهل الجنة وأهل النار، ومصير السعداء والأشقياء في دار الخلود.
وختمت السورة ببيان عظمة القرآن الكريم، وعظمة من أنزله واتصافه بأوصاف الجلال، وتسميته بالأسماء الحسنى.
سبب نزول السورة:
روى سعيد بن منصور والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: أنزلت في بني النضير، وفي رواية: سورة بني النضير.
وقال ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة، هادنهم وأعطاهم عهدا وذمّة على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحلّ الله بهم بأسه، الذي لا مرد له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصدّ، فأجلاهم النّبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئا، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله تعالى، وخالف رسوله صلى الله عليه وسلم،(28/64)
وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم «1» .
فضل السورة:
أخرج الثعالبي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحشر، لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوامّ والريح والسحاب والطير والدوابّ والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلّوا عليه، واستغفروا له، فإن مات من يومه أو ليلته، مات شهيدا» .
وأخرج الثعالبي أيضا عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ آخر سورة الحشر: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ... - إلى آخرها- فمات من ليلته، مات شهيدا» «2» .
وأخرج أحمد والترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، وإن مات في يومه، مات شهيدا، ومن قرأها حين يمسي، فكذلك»
قال الترمذي: حديث حسن غريب.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 330
(2) تفسير القرطبي: 18/ 1(28/65)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
إجلاء يهود بني النضير
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
الإعراب:
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ في الجملة فعل الظن مكرر، وإنما أتى ب أَنْ الخفيفة والثقيلة بعد الظن، لأن الظن يتردد بين الشك واليقين، فتارة يحمل على الشك، فيؤتى بالخفيفة، وتارة يحمل على اليقين، فيؤتى بالثقيلة. وحُصُونُهُمْ: مرفوعة باسم الفاعل: مانِعَتُهُمْ لأن اسم الفاعل جرى خبرا ل أَنْ فوجب أن يرفع ما بعده.
البلاغة:
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ بين ما ظَنَنْتُمْ وظَنُّوا ما يسمى بطباق السلب.(28/66)
المفردات اللغوية:
سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه وقدسه، ولام لِلَّهِ مزيدة. ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أتى ب ما تغليبا للأكثر. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب في ملكه. الْحَكِيمُ في صنعه، يضع الأشياء في موضعها المناسب لها.
الَّذِينَ كَفَرُوا يهود بني النّضير، وهم إحدى قبائل اليهود الثلاثة الكبرى في المدينة بجوار بني قريظة وبني قينقاع. مِنْ دِيارِهِمْ مساكنهم في المدينة. لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي عند الحشر الأول أو أول حشرهم، والحشر الأول: الجمع والإخراج والجلاء من المدينة ونفيهم إلى بلاد الشام، والحشر الآخر: إجلاء عمر إياهم في خلافته من خيبر إلى الشام. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ما ظننتم أيها المؤمنون خروجهم، لشدة بأسهم ومنعتهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي وتأكدوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وعذابه، والحصون: القصور الشاهقة والقلاع المشيدة، جمع حصن.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي جاءهم عذابه وأمره. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا من حيث لم يخطر لهم ببال، لقوة وثوقهم بأنفسهم.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَذَفَ: ألقى بقوة، والمراد هنا: أثبت فيها الخوف الذي يرعبها، أي يملؤها رعبا بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. يُخْرِبُونَ وقرئ: يخرّبون، أي يهدمون، والغاية من الهدم: نقل ما استحسنوا منها من خشب وغيره. فَاعْتَبِرُوا فاتعظوا بحالهم، أو فانظروا في حقائق الأشياء ما تدل عليه من دلالة وعبرة. واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، وحملها عليها في حكم، لما بينها من العلة المشتركة المقتضية التساوي في الحكم.
كَتَبَ قضى. الْجَلاءَ الخروج الجماعي من الوطن مع الأهل والولد، أما الإخراج فيكون لواحد وجماعة، ومع بقاء الأهل والولد. لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ كلام مستأنف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا، لم ينجوا من عذاب الآخرة.
ذلِكَ المذكور الذي حاق بهم. شَاقُّوا خالفوا وعادوا، حتى كأنهم في شق، ومن عادوه في شق آخر. لِينَةٍ نخلة مطلقا أو النخلة الكريمة، وجمعها أليان. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علة لمحذوف، أي وفعلتم، أو: وأذن لكم في القطع ليخزيهم على فسقهم بما غاظهم من العدو. واستدل به على جواز هدم دبار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم.(28/67)
سبب النزول:
نزول الآية (1) :
سَبَّحَ لِلَّهِ: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: سورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة وهي السلاح، فأنزل الله فيهم:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة، صالح بني النضير على ألا يكونوا له ولا عليه، فلما ظهر على المشركين يوم بدر، قالوا: إنه النبي المبعوث- في التورية بالنصرة- فلما هزم المسلمون يوم أحد، ارتابوا ونكثوا، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة أخا كعب من الرضاعة، فقتله غيلة، ثم صبّحهم بالكتائب، وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر والحيرة، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ويوضح ذلك ما قاله المفسرون: نزلت هذه الآية في بني النضير، وذلك أن النّبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، صالحه بنو النضير على ألا يقاتلوه ولا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وظهر على المشركين، قالت بنو النضير: والله، إنه النّبي الذي وجدنا نعته في التوراة، لا تردّ له راية، فلما غزا أحدا، وهزم المسلمون، نقضوا العهد، وأظهروا العداوة(28/68)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة «1» . وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول السنة الرابعة من الهجرة.
نزول الآية (5) :
ما قَطَعْتُمْ ... :
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق بني النضير، وقطع وديّ «2» البويرة، فأنزل الله:
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها الآية.
وأخرج ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير، تحصنوا منه في الحصون، فأمر بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه، فما بال قطع النخل وتحريقها، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن قتادة ومجاهد مثله.
التفسير والبيان:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء ينزّه الله عن كل نقص، ويمجده ويقدسه، ويصلي له، ويوحده، إما تصريحا باللسان، وإما بالقلب، وإما بلسان الحال والمقال، إذعانا لعظمته، وانقيادا وخضوعا لجلاله، وهو المنيع الجناب القوي الغالب القاهر في ملكه، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه، يضع الأشياء في موضعها الصحيح، وإن لم يدرك الإنسان في الحال حكمة الله وتدبيره.
ونظير الآية قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 236 [.....]
(2) الوديّ بوزن فعيل: صغار الفسيل، والواحدة: ودية.(28/69)
ومن مظاهر قدرة الله تعالى وحكمته ما قال سبحانه:
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي إنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج يهود بني النضير من ديارهم في المدينة، في الحشر الأول، أي الجمع والإخراج والجلاء، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم من خيبر إلى الشام.
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ما توقعتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم، لعزتهم ومنعتهم، وكانوا أهل حصون مانعة، وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة، وفي هذا بيان عظمة النعمة، وتوقعوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وألا يتعرضوا لسوء.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي جاءهم أمر الله وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون مثل هذا الحدث، بل كانوا يرون أنفسهم أعزّ وأقوى، وألقى الله الخوف الذي يملأ الصدر،
قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» .
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي لما أيقنوا بالجلاء، دمّروا منازلهم من الداخل لكيلا يستفيد منها المسلمون، ودمرها المؤمنون من الخارج، قال الزهري وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها.
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا أيها العقلاء بما حدث، واعلموا أن الله يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.(28/70)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي ولولا أن قضى الله عليهم بالخروج والجلاء من أوطانهم على هذا النحو المهين، لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة، بعد غزوة الخندق، وكما فعل مع المشركين يوم بدر في السنة الثانية، ومع يهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر، ولهم في القيامة عذاب شديد في جهنم.
أما سبب إجلائهم في التاريخ: فهو أن النّبي صلى الله عليه وسلم خرج مع عشرة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر وعلي، إلى بني النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ، وهما من بني عامر حلفائهم، فقد كان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فوعدوا خيرا في الظاهر، وأضمروا الغدر والاغتيال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله على يد عمرو بن جحاش بن كعب اليهودي، بإلقاء صخرة عليه من فوق السطح، مكان جلوسه بجوار الجدار.
فأطلعه الله تعالى بالوحي على مؤامرتهم، فقام ورجع إلى المدينة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وإجلائهم من المدينة، وعاد إليهم في شهر ربيع الأول سنة أربع للهجرة، فحاصرهم ست ليال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فقبل. ثم خرج بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام.
وفي أثناء الحصار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخلهم وإحراقه، حتى لا يبقى لهم تعلق بأموالهم، ونادوا يا محمد: قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى كما تقدم: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها.. الآية.(28/71)
وهنا أبان الله تعالى سبب جلائهم قائلا:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي إنما فعل الله بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء، وتسليط المؤمنين عليهم، لأنهم خالفوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين، من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
ومن يعادي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بعدم الطاعة، والميل مع الكفار، ونقض العهد، فإن الله يعاقبه أشد العقاب، ويعذبه في الدنيا والآخرة.
ثم عذر الله تعالى المؤمنين فيما أقدموا عليه مما تقضي به الضرورة الحربية، فقال: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه، أو تركه قائما دون قطع، فهو بأمر الله ومشيئته، وقد أذن بذلك ليعز المؤمنين، وليذل الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم في القطع والترك، فإنهم إذا رأوا المؤمنين يفعلون في أموالهم ما شاؤوا، ازدادوا غيظا وحنقا. واللينة: أنواع التمر سوى العجوة.
والنخيل الذي قطع وأحرق هو البويرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم، أمر بقطع نخيلهم، إهانة لهم، وإرهابا وإرعابا لقلوبهم. وقد تمّ قطع النخل بأمر الله ومشيئته، ولإذلال اليهود الذين كفروا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- إن تسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به هو شأن جميع المخلوقات في السموات والأرض، نباتا وحيوانا وجمادا، وملكا وكوكبا، إما بلسان الحال(28/72)
أو بلسان المقال، اعترافا بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته.
2- تعرض اليهود في العصر الإسلامي الأول بأمر الله لحشرين في الدنيا، والحشر: الجمع والإخراج والجلاء، والحشر الأول من المدينة إلى الشام، والحشر الآخر: إجلاء عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى الشام، بكفرهم ونقضهم العهد. ولهم حشر في الآخرة كبقية الناس للحساب والجزاء.
3- كان إجلاء اليهود من المدينة ومن خيبر أمرا غير متوقع من الناس، لقوتهم ومنعتهم وتحصنهم في حصونهم واجتماع كلمتهم، فأتاهم أمر الله وعذابه من حيث لم يظنوا، وألقى الله الرعب والخوف في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والذي قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر.
وكانوا يخربون بيوتهم لئلا يسكنها المسلمون بعدهم، وأتم المؤمنون تخريبها، لمحو آثارهم وتصفية وجودهم من الجزيرة العربية.
وفي ذلك نصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتشريف له، وإعزاز لمكانة المسلمين، وإذلال لليهود الذين عاثوا الفساد في الأرض.
4- إن في إجلاء اليهود على هذا النحو عبرة وعظة، يتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول، جاء في الأمثال الصحيحة: «السعيد: من وعظ بغيره» .
5- تمسك علماء أصول الفقه بآية: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ على أن القياس حجة، لأن الله تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.(28/73)
6- استدل العلماء بالآية: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ.. إلخ على جواز هدم ديار الكفار الأعداء، وقطع أشجارهم، وإحراق زروعهم في أثناء الحرب، للضرورة الحربية، فلا بأس من الهدم والحرق والتغريق والرمي بالمجانيق، وقطع الأشجار، مثمرة كانت أو غير مثمرة.
ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرّق.
وهذا هو الرأي الصحيح، ويرى الشافعية أنه إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن ييأسوا فعلوا.
7- قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. وهذا محل نظر في تقديري.
8- كان قضاء الله تعالى بجلاء يهود بني النضير من المدينة وخيبر رحمة بهم، ولولا ذلك لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والسّبي، كما فعل ببني قريظة. والجلاء:
مفارقة الوطن، والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما لغة واحدا من وجهين كما ذكر القرطبي:
أحدهما- أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني- أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة.
9- إن سبب ذلك التخريب والجلاء هو مشاقة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي معاداة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الله، ثم عمم الله الإنذار، فقال بقصد الزجر: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
10- كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النضير في ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه بالحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودسّ عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه من المنافقين(28/74)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
إلى بني النضير: إنّا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغترّوا بذلك.
ولما لزم الأمر واقتضت الحرب معاونتهم خذلوهم وأسلموهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّ عن دمائهم ويجليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا ذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
11- قال الماوردي في آية: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ..: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب، لأن بعض الناس كان يقطع، وبعضهم لا يقطع، فصوّب الله الفريقين. والحق أن المصيب في الاجتهاد واحد، وغيره مخطئ لا إثم عليه، كما أن الآية ليست من محل النزاع، لأن اجتهاد الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، قال ابن العربي معلقا على قول الماوردي: وهذا باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النّبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه، أخذا بعموم الأذيّة للكفار، ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى:
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «1» .
حكم الفيء
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
__________
(1) احكام القران: 4/ 1757(28/75)
الإعراب:
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الجملة حال.
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ.. الَّذِينَ: في موضع جر، لأنه معطوف على قوله: لِلْفُقَراءِ. والْإِيمانَ: منصوب بتقدير فعل، وتقديره: وقبلوا الإيمان. ويُحِبُّونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ. ويجوز أن يكون يُحِبُّونَ في موضع رفع، على أن يجعل الَّذِينَ مبتدأ، ويُحِبُّونَ خبره.
البلاغة:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا بينهما ما يسمى بالمقابلة.
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الضمير دِيارِهِمْ بين المبتدأ، والخبر لإفادة الحصر.
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ استعارة، شبّه الإيمان المستقر في نفوسهم بمنزل للإنسان نزل فيه وتمكن منه.
المفردات اللغوية:
وَما أَفاءَ رد وأعاد، أي صيّره إليه، والفيء شرعا: ما أخذ من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال، أو بلا إيجاف خيل ولا ركاب أو صلحا كأموال بني النضير، أما الغنيمة: فهي(28/76)
ما أخذ بحرب وقتال، ورأى بعضهم أن الفيء: العقارات، والغنيمة: المنقولات. مِنْهُمْ من بني النضير أو من الكفرة أو أهل الكتاب المذكورين في أول السورة. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أسرعتم أيها المسلمون، من الوجيف: وهو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ مِنْ زائدة، والركاب: ما يركب من الإبل، والمراد: أنكم لم تبذلوا في تحصيله مشقة، ولم تقاسوا فيه شدة.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بإلقاء الرعب في قلوبهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الله القادر على ما يريد، تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، بحرب أو بغير حرب.
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأول، أي من أهل البلدان المفتوحة بلا قتال، كالصفراء ووادي القرى وينبع. فَلِلَّهِ الأمر فيه لله يأمر فيه بما يشاء، قيل: تكون قسمة الغنائم أسداسا، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل: يخمّس، وذكر الله للتعظيم، ويصرف الآن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإمام أو إلى الجيش، أو في مصالح المسلمين.
وَلِذِي الْقُرْبى صاحب قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب. وَالْيَتامى أطفال المسلمين الذين فقدوا آباءهم، وهم فقراء. وَالْمَساكِينِ ذوي الحاجة من المسلمين. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره من المسلمين. كَيْ لا يَكُونَ أي لئلا يكون الفيء، أو المال، وهو علة لقسمه على النحو المذكور. دُولَةً بالضم: متداولا، فالدولة: ما يتداول من المال، والدّولة بالفتح: ما ينتقل من الحال. آتاكُمُ أعطاكم. وَما نَهاكُمْ عَنْهُ ما منعكم عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف.
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من قوله: لِذِي الْقُرْبى وما عطف عليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى فقيرا، والمهاجرون: هم الذين هاجروا في صدر الإسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم.
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الجملة حال مقيدة لصفة إخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم.
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ينصرون دينه بأنفسهم وأموالهم. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في إيمانهم وجهادهم.
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ أي والذين سكنوا المدينة ولزموها، ولزموا الإيمان وألفوه وتمكنوا فيه، والمراد بالدار: دار الهجرة، وهم الأنصار. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين.
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم. حاجَةً أي شيئا نفسيا كالحزازة والحسد والغيظ.
مِمَّا أُوتُوا مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره دون الأنصار. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ويقدمون المهاجرين على أنفسهم، من الإيثار: وهو تقديم مصلحة الغير على النفس في أعراض الدنيا. خَصاصَةٌ حاجة إلى ما يؤثرون به، من خصاص البناء: فرجته. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ(28/77)
نَفْسِهِ
أي ومن يمنع ويحمى من بخل نفسه، وهو حب المال وبغض الإنفاق، والشح: بخل مع حرص. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل.
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المهاجرين والأنصار، وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فلذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. غِلًّا حقدا وحسدا لهم.
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بالغ الرأفة والرحمة، فحقيق بأن تجيب دعاءنا.
سبب النزول: نزول الآية (9) :
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا..: أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم: أن الأنصار قالوا: يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال:
لا، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم، قالوا: رضينا، فأنزل الله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئا، فقال: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله، أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.
وأخرج مسدّد في مسنده وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي أن رجلا من المسلمين، فذكر نحوه، وفيه: أن الرجل الذي أضاف: ثابت بن قيس بن شماس، فنزلت فيه هذه الآية.(28/78)
وأخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر، حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الآية.
المناسبة:
بعد بيان ما حل ببني النضير في الدنيا من تخريب بيوتهم، وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم إلى الشام، ثم الإخبار عن عذابهم في الآخرة، ذكر الله تعالى حكم الأموال التي أخذت منهم، فهي فيء، ثم ذكر تعالى حكم الفيء بصفة عامة، لبيان الفرق بين الغنيمة التي تؤخذ بقتال، والفيء الذي يؤخذ صلحا بغير قتال.
وإنما أخذت أموال بني النضير بغير قتال يذكر، بالرغم من حصارهم، لأنه لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشيا، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان راكب جمل، فلما كانت المقاتلة قليلة، ولم يكن خيل ولا ركاب، أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا، وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأموال، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة.
التفسير والبيان:
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ أي ما ردّه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير، فهو للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يحصل فيه قتال ولا حرب ولا تجشم مشقة، ولم(28/79)
تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا، وإنما كانت من المدينة على ميلين، وافتتحت ديارهم صلحا، وأخذت أموالهم بعد جلائهم عنها، ولذا لم تقسم بين الغانمين، وإنما جعل الله أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة لهذا السبب، يصرفه على مصالحه كيف يشاء.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته- أو قال: قوت سنته- وما بقي جعله في الكراع «1» والسلاح عدّة في سبيل الله عز وجل» . وإنما قال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ لأنه الطائع لربه فيما يأمره به، وجدير بالمال أن يكون للمطيعين.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ولكن الله بقدرته يسلط رسله على من يشاء من أعدائه، كما سلط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير، فأخذ أموالهم دون قتال، والله قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء بمن يشاء، فإنه سبحانه هو الذي مكّن رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير.
ثم ذكر الله حكم الفيء، فصارت أموال الأعداء ثلاثة أنواع: الغنائم المنقولة المأخوذة قهرا التي توزع أخماسا بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ..
[الأنفال 8/ 41] والأموال المنقولة التي تؤخذ صلحا بلا إيجاف خيل ولا ركاب، فهي للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، يصرفها كيف شاء بقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ.. وأموال الفيء العقارية التي توزع على المصالح العامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى هنا:
__________
(1) الكراع: الخيل أو الدواب التي تصلح للحرب.(28/80)
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ ففي هذه الآية بيان مصارف الفيء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن كل ما رده الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من كفار أهل القرى، كقريظة والنضير وفدك وخيبر، صلحا من غير قتال، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، يحكم به الله بما يشاء، ثم يكون ملكا للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم في مصالح المسلمين من بعده، فينفق منه على قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب الممنوعون من أخذ الصدقة أو الزكاة، فجعل لهم حقا في الفيء.
كما ينفق منه على اليتامى وهم الصغار الذين مات آباؤهم قبل البلوغ، والمساكين الفقراء ذوي الحاجة والبؤس، وأبناء السبيل المنقطعين في أثناء السفر، وهم الغرباء الذين نفدت نفقتهم في سفرهم.
فيكون الفيء مقسوما خمسة أقسام: سهم الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، هو للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته، وسهم ذوي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل، والأربعة أخماس الباقية لمصالح المسلمين العامة.
أما الغنيمة: فيصرف خمسها لهؤلاء الخمسة المذكورين في هذه الآية وآية الغنائم: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.. والأربعة أخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة.
وعلة هذا التقسيم ما قال الله تعالى:
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي حكمنا بهذه القسمة بين هؤلاء المذكورين، لئلا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء، ولا يصيب الفقراء منه شيء، فيغلب الأغنياء الفقراء، ويقسمونه بينهم. وهذا مبدأ إغناء الجميع، وتحقيق السيولة للكل.(28/81)
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أي ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه، وما منعكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر، فإذا أعطاكم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا من الفيء مثلا، فخذوه، فهو حلال، وإذا منعكم شيئا منه، فلا تقربوه، فإنه يعمل بالوحي ولا ينطق عن الهوى. والآية توجب امتثال أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ونواهيه أيضا.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»
وأخرج أحمد والشيخان صاحبا الصحيحين أيضا وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلجات للحسن «1» ، المغيّرات لخلق الله عز وجل» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد في البيت، يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن، فجاءت إليه، فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى، فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه، فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه، فقد وجدتيه أما قرأت:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه» .
وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي خافوا الله بامتثال أوامره، وترك زواجره ونواهيه، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره وأباه، وارتكب ما زجر عنه ونهاه. والآية تتناول كل ما يجب فيه التقوى، وتحث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
__________
(1) الوشم: غرز الإبرة في الجلد تم حشوه بالكحل، والواشمة: فاعلة الوشم، والمستوشمة: طالبة الوشم، والمتنمصات جمع متنمصة: وهي التي تنتف الشعر من وجهها، والمتفلجات جمع متفلجة: وهي التي تتكلف التفريق بين أسنان الثنايا والرباعيات.(28/82)
وبعد بيان مصارف الفيء، بيّن الله تعالى حال الفقراء المستحقين له، فقال:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي إن هؤلاء الأصناف الأربعة (وهم ذوو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل) هم فقراء المهاجرين والأنصار والتابعين. وفقراء المهاجرين: هم الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج منها، وإلى ترك أموالهم وديارهم فيها، طلبا لمرضاة الله وفضله ورزقه في الدنيا، وثوابه ورضوانه في الآخرة، ونصرة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار، وإعلاء كلمة الله ودينه، أي إن الخمس يصرف للمذكور في الآية: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وتكون الأخماس الأربعة الباقية للفقراء المهاجرين ومن جاء بعدهم «1» .
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي هؤلاء المهاجرون هم الكاملون في الصدق، الراسخون فيه، الذين صدّقوا قولهم بفعلهم، وقرنوا إيمانهم بالعمل المخلص.
ثم مدح الله تعالى الأنصار، وأبان فضلهم وشرفهم، وعدم حسدهم، وإيثارهم المهاجرين مع الحاجة، ورضاهم بإعطاء الفيء لهم، فقال:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي والذين سكنوا المدينة دار الهجرة، وتمكّن الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، قبل هجرة المهاجرين، وهم الأنصار، يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حسدا أو غيظا أو حزازة للمهاجرين مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك، مع أنهم كانوا في دور الأنصار، وقدّموا المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا، ولو
__________
(1) تفسير الألوسي: 28/ 56(28/83)
كان بهم حاجة وفقر. ويلاحظ أن كل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته، فهو حاجة. والإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، والرغبة في الحظوظ الدينية.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من كفاه الله حرص نفسه وبخلها، وحفظ من ذلك، فأدى ما أوجبه الشرع عليه في مال من زكاة أو حق، فقد فاز ونجح، وظفر بكل المنى والمطلوب.
أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس بن مالك مرفوعا: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا»
وروي أيضا عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع ... » .
وأخرج أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» .
وأخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» .
والآية دليل على اتصاف الأنصار بصفات خمس: هي استيطانهم دار الهجرة مسبقا وجعل الإيمان مستقرا ووطنا لهم، ومحبتهم إخوانهم المهاجرين، وترفعهم عن الجشع والطمع والحسد والحزازة، وإيثارهم المحتاجين على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة، واتصافهم بالجود والبعد عن الشح، لذا وصفوا بأنهم المفلحون الظافرون بما أرادوا.(28/84)
ثم وصف الله القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم متابعون بإحسان، فقال:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار، وهم التابعون لهم بإحسان، كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة 9/ 100] يقولون أي قائلين: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا السلف الصالح من المهاجرين والأنصار، وانزع من قلوبنا الغش والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة، فإنك يا ربنا بالغ الرأفة كثير الرحمة، فاقبل دعاءنا.
والتابعون لهم بإحسان: هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية.
والآية دليل على تضامن وتكافل آخر الأمة وأولها وأجيالها، وعلى وجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وتقدير أخوتهم في الدين والسبق إلى الإيمان، والحث على الدعاء لهم بخير، وعلى صفاء القلوب من أمراض الحقد والحسد لأي مؤمن.
قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وقرى عرينة وكذا وكذا مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم،(28/85)
والذين جاؤوا من بعدهم، فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق «1» .
وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة 9/ 60] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ... الآية [الأنفال 8/ 41] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى حتى بلغ لِلْفُقَراءِ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي، وهو بسرو حمير، نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه «2» .
قال الرازي: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين، لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار، أو الذين جاؤوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء، كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية «3» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
1- كانت أموال بني النضير ونحوها التي ردها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من
__________
(1) رواه أبو داود، وفيه انقطاع.
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 339- 340
(3) تفسير الرازي: 29/ 288(28/86)
غير قتال ولا حرب ولا مشقة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصّة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين لشدة حاجتهم. ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين، هم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمّة.
2- أموال الفيء: هي- كمال قال ابن عباس- قريظة والنضير، وهما بالمدينة، وفدك وهي على ثلاثة أيام من المدينة، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها الله تعالى، لرسوله صلى الله عليه وسلم.
3- الأموال التي للدولة فيها حق التدخل ثلاثة أنواع: الصدقات والزكوات: وهي ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم. والثاني- الغنائم:
وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث- الفيء: وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف (إسراع) خيل ولا ركاب، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام، ولا وارث له.
أما الزكاة (أو الصدقة) فتصرف إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها وهم الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...
[براءة 9/ 60] .
وأما الغنائم الحربية: فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة الأنفال: قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ثم نسخ بقوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية [الأنفال 8/ 41] فيكون الخمس لمن ذكر الله تعالى، والأربعة أخماس الباقية للغانمين.
وأما الفيء وهو العقار: فالأمر فبه عند المالكية للإمام، يفعل ما يراه(28/87)
مصلحة، من قسمته كالغنائم أو ترك قسمته وجعله لمصالح المسلمين العامة، كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق ومصر وغيرهما، واحتج على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم الذين طالبوا بالقسمة بهذه الآية آية الفيء: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ... إلى قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها (أهل أراضي العراق) ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية «1» . وتكون آية الحشر في رأي المالكية ناسخة في شأن العقارات لآية الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.... وذكروا أنه يقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر رضي الله عنه عام الرمادة، وقال الحنفية: تقسم الغنائم- أي المنقولات- على النحو الذي ذكره الله في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... الخمس لمن ذكرت الآية، والباقي للغانمين، وأما حكم الفيء أي الأرض فهو أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمس، بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. لكن الغنيمة تقسم على ثلاثة أسهم فقط:
سهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم أبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى، في الخمس فهو لافتتاح الكلام، تبركا باسمه تعالى، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته، فالحنفية والمالكية يتركون الخيار للإمام في قسمة العقار، فهو مخير في قسمته أو جعله وقفا على مصالح المسلمين.
وتكون آية الحشر الثانية: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار. روى مالك أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 430(28/88)
وذهب الشافعية إلى أن حكم الفيء والغنيمة واحد، فيخمس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص القرآني: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ بجامع أن كلّا منهما مال الكفار استولى عليه المسلمون، وأما اختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره، فلا تأثير له، فعلى الإمام قسمة العقار، ومن طاب نفسا عن حقه، فللإمام أن يجعله وقفا على المسلمين.
وتقسم الغنيمة في رأي الشافعية والحنابلة على خمسة أسهم، أولها- سهم المصالح (سهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم) أي يصرف لمصالح المسلمين العامة كالثغور وقضاة البلاد وعلماء الشرع والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ونحوهم وثانيها- سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.
4- علة قسمة الفيء: إن تقسيم الفيء على النحو السابق كيلا يختص به الأغنياء، كما كانوا يستأثرون بالغنيمة، وكانوا يغترون به، وبذلك قضى الإسلام على الطبقية وتجمع الثروة في يد فئة قليلة، وحرمان الأكثرية من سيولة المال.
5- قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ ... دليل واضح على وجوب امتثال جميع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب جميع نواهيه، فإنه لا يأمر إلا بصلاح، ولا ينهى إلا عن فساد.
وقد استدل الصحابة كابن مسعود وغيره بتحريم أشياء عملا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، كتحريم الوشم والتنمص (نتف شعر الوجه) وتفليج الأسنان، وجواز قتل الزّنبور في الإحرام، اقتداء فيه بعمر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في
قوله: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر»
وأمر الله سبحانه بقبول قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤكده
قوله صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه ابن ماجه عن أبي هريرة-: «ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا» .(28/89)
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80]
وعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» «1»
6- دل قوله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ على وجوب اتقاء عذاب الله، فإنه شديد على من عصاه، وعلى وجوب تقوى الله في أوامره ونواهيه، فلا تضيّع، فإن الله شديد العقاب لمن خالف ما أمره به.
7- المقصود بأولئك الأصناف الأربعة الذين يصرف لهم الفيء: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هم هؤلاء الأصناف من الفقراء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان.
8- وصف الله تعالى المهاجرين بأوصاف ستة: أولها- أنهم فقراء، وثانيها- أنهم مهاجرون، وثالثها- أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ورابعها- أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، والفضل: ثواب الجنة، والرضوان قوله تعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] ، وخامسها- وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم، وسادسها- أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في دينهم، لهجر هم لذات الدنيا، وتحملهم شدائدها.
وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فقال:
هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.
9- أثنى الله على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ أعطي
__________
(1) أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.(28/90)
للمهاجرين دونهم، ووصفهم أيضا بأوصاف ستة: أولها- أنهم استوطنوا المدينة قبل وصول المهاجرين إليها، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه، وثانيها- محبتهم الخالصة للمهاجرين، وثالثها- لا يحملون في نفوسهم حقدا ولا حسدا ولا حزازة بسبب ما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، ورابعها- إيثارهم غيرهم ولو كان بهم حاجة، وخامسها- وقاهم الله من مرض الشح، وسادسها- هم المفلحون الفائزون الظافرون بما أرادوا.
10- استدل الإمام مالك على تفضيل المدينة على غيرها من الآفاق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الآية. وقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف.
11- الأولى أن يقال: إن الآيات متعلقة ببعضها، معطوف بعضها على بعض، فتكون آية: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا معطوفة على قوله: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وآية: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي التابعون ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل:
المهاجرون، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل.
12- آية: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه تعالى جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبّهم أو سب واحدا منهم، أو اعتقد فيه شرا، فإنه لا حق له في الفيء.
13- آيات الحشر هذه في الفيء تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض حقا عاما للمسلمين جميعا أو وقفا دائما على(28/91)
مصالحهم، كما فعل عمر رضي الله عنه في سواد العراق ومصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة عنوة، لأن الله تعالى أخبر عن الفيء، وجعله لثلاث طوائف:
المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، فقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين.
جاء في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم حقون، وددت أن رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض»
أي متقدمهم حتى يردوا، فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم.
14- دل قوله تعالى: يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ على أن المؤمنين المتأخرين مع مرور الأجيال مأمورون أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، فتجسّروا الناس عليهم.
أما من يلعن أو يسب بعض الصحابة فهو فاسق، بعيد عن أدب الإسلام وأخلاقه، وروح الدين وصفائه، متنكر لأهل الفضل والسبق، مبتدع ضال، فإن القرآن الكريم أمر بالاستغفار للصحابة، ونهى عن الحقد والحسد لجميع المؤمنين والمؤمنات. وإذا بلغ القدح ببعض الأصحاب أو أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما يصادم نصا قرآنيا أو حديثا ثابتا مقطوعا به، أدى ذلك إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى.(28/92)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
تواطؤ المنافقين واليهود وجزاؤهم
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
الإعراب:
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ... لم يجزم يَخْرُجُونَ ويُنْصَرُونَ لأنهما جوابا قسمين قبلهما، وتقديره: والله لا يخرجون معهم ولا ينصرونهم، فلذلك لم ينجزما بحرف الشرط.
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَثَلِ: جار ومجرور في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم. وقَرِيباً لا يبعد أن يتعلق بصلة الَّذِينَ.
وكذلك كَمَثَلِ الشَّيْطانِ ... تقديره: مثلهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، فحذف المبتدأ.(28/93)
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها عاقِبَتَهُما: منصوب لأنه خبر كان، و (أن) واسمها وخبرها في موضع رفع، لأن الجملة اسم (كان) . وخالِدَيْنِ حال من المضمر في الظرف في قوله: فِي النَّارِ وتقديره: كائنان في النار خالدين فيها، وكرر فِي تأكيدا كقولهم: زيد في الدار قائم فيها. ويجوز رفع خالِدَيْنِ على خبر (أن) .
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا.. استفهام يراد به الإنكار والتعجيب.
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى بين جَمِيعاً وشَتَّى طباق.
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر. نافَقُوا أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر. لِإِخْوانِهِمُ المراد بذلك أخوة الكفر، أو الصداقة والموالاة أي أصدقائهم. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم بنو النضير وإخوانهم في الكفر. لَئِنْ اللام لام القسم في الحالات الأربع. أُخْرِجْتُمْ من المدينة. وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي لا نطيع أحدا من الرسول والمؤمنين في قتالكم، ولا نسمع أمر أحد في خذلانكم.
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ حذف من إِنْ اللام الموطئة للقسم. لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعاوننكم. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك.
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ثبت في التاريخ أنهم كانوا على هذا النحو، فإن ابن أبي وأصحابه المنافقين راسلوا بني النضير بذلك، ثم أخلفوهم. وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ جاؤوا لنصرهم على الفرض والتقدير. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ليفرنّ هاربين منهزمين. واستغني بجواب القسم المقدر عن جواب الشرط في المواضع الخمسة. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد أي اليهود، بل نخذلهم، ولا ينفعهم نصرة المنافقين.
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي إن المنافقين يخافونكم خوفا أشد من خوفهم الله، وقوله: رَهْبَةً خوفا، أي أشد مرهوبية، وقوله: فِي صُدُورِهِمْ لتأكيد استقرار الخوف في نفوسهم، فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. وقوله: مِنَ اللَّهِ لأنهم يظهرون النفاق مع أنه لا يخفى على الله تعالى، ولتأخير عذاب الله. لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حق خشيته.
لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود. جَمِيعاً مجتمعين. مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق(28/94)
جُدُرٍ حيطان وأسوار، جمع جدار، وذلك لفرط رهبتهم. بَأْسُهُمْ حربهم، فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، وليس ذلك لضعفهم وجبنهم، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم.
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً تظنهم مجتمعين متفقين. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة لافتراق عقائدهم، واختلاف مقاصدهم، جمع شتيت. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم.
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل اليهود لا سيما يهود بني النضير كالمشركين الذين قتلوا وعذبوا في معركة بدر، أو كالمهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب. ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا من القتل وغيره. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب مؤلم في الآخرة.
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان. إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك. والمراد بالإنسان: الجنس، فيشمل أبا جهل الذي قال له إبليس يوم بدر: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ الآية [الأنفال 8/ 48] . إِنِّي أَخافُ اللَّهَ.. كذبا منه ورياء. فَكانَ عاقِبَتَهُما أي الغاوي والمغوي. الظَّالِمِينَ الكافرين.
سبب النزول: نزول الآية (11) :
أَلَمْ تَرَ..: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، فنزلت هذه الآية فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ.
وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن نبتل وقوم من منافقي أهل المدينة كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الآيات.
المناسبة:
بعد بيان مصير يهود بني النضير، وحكم مصارف الفيء الذي يشمل أموال(28/95)
هؤلاء اليهود، ذكر الله تعالى أحوال العلاقات المشبوهة بين المنافقين واليهود، فقد كان المنافقون في الظاهر من الأنصار، ولكنهم كانوا يوالون اليهود في السر، فصاروا إخوانهم في الكفر، وأصدقاءهم في معاداة المؤمنين. ومثل هذا الارتباط يتكرر في كل زمان، حيث نجد ضعاف الإيمان والنفوس وخونة الأمة الإسلامية يوالون أعداءهم، كما يعد بعض الناس غيرهم على المؤازرة في شيء، ثم يتخلون عنهم وقت الأزمة.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي ألم تنظر إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد ووديعة بن مالك وسويد وداعس وأمثالهم حين بعثوا إلى يهود بني النضير: أن اثبتوا وتحصنوا، أو تمنّعوا، فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، ولا نطيع في شأنكم، ومن أحلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد وأتباعه، وإن طال الزمان، وإن قوتلتم لننصرنكم على عدوكم. فكذبهم الله بقوله:
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج معهم، والنصرة لهم، إما لنيتهم ألا يفوا بما وعدوا به، وإما لأنهم لا يقع منهم ما قالوا.
وقوله في مطلع الآية: أَلَمْ تَرَ أسلوب يراد به التعجيب من حال المخبر عنه، وأن أمره في غاية الغرابة. وقد تبين لليهود كذب المنافقين، فلم ينصروهم وقت الحصار، وقذف الله الرعب في قلوب أولئك اليهود، فطلبوا من(28/96)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، ففعل، فكان الرجل منهم يهدم بيته، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
ثم أكد الله تعالى تكذيبهم مفندا على سبيل التفصيل مواقفهم الخادعة، فقال:
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي وتالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم، لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم، ولئن آزروهم وقاتلوا معهم لفرّوا هاربين منهزمين، ثم لا يصير المنافقون واليهود منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله ويخذلهم، ولا ينفعهم نفاقهم. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا، وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 8/ 23] .
وكان الواقع مطابقا لما أخبر به القرآن، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود، وهم بنو النضير ومن معهم، ولم ينصروا اليهود الذين قوتلوا، وهم بنو قريظة وأهل خيبر، ثم بشر الله تعالى بنصر المؤمنين على كلا الفريقين:
المنافقين واليهود، وتحقق وعد الله، وتطهرت جزيرة العرب من اليهود بفضل من الله وتوفيقه.
وسبب عدم نصرتهم لليهود ما قال تعالى:
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي إنكم أيها المسلمون أشد خوفا وخشية في صدور المنافقين أو في صدور اليهود من رهبة الله، فهم يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، وذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه أحق بالرهبة منه دونكم.(28/97)
ونظير الآية قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء 4/ 77] .
ثم ذكر تعالى أسلوب اليهود والمنافقين في مقاتلة المؤمنين، فقال:
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ أي إن اليهود والمنافقين من جبنهم وهلعهم لا يواجهون جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة، ولا يقاتلونهم مجتمعين، بل يقاتلونهم إما وراء الحصون والدروب والخنادق، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها، لجبنهم ورهبتهم، فيقاتلون للدفاع عنهم ضرورة، وقد لمس العرب هذا الأسلوب في حروب اليهود في فلسطين في عصرنا.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي إن عداوتهم وجربهم فيما بينهم شديدة، وقاسية، تظنهم متوحدين وهم متفرقون، فاجتماعهم إنما هو في الظاهر، مع اختلاف نواياهم وأهوائهم وآرائهم وشهاداتهم في الواقع، لما بينهم من أحقاد وعداوات، ولأنهم قوم لا يعقلون الحق وأمر الله، ولا يدركون سر النجاح في الحياة وهو الوحدة، ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه، فتوحدوا ولم يختلفوا.
وهذا دليل على أن ضعفهم ناشئ من التفرقة والخلاف، فجدير بالمسلمين الذين يقاتلونهم في هذا العصر أن يكونوا متوحدين صفا واحدا كالبنيان المرصوص، وأن يعتمدوا على أنفسهم دون التماس حلول واهنة ضعيفة من شرق أو غرب.
ثم ذكر الله تعالى أحوالا مشابهة لهم، فقال:
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي إن هؤلاء اليهود بني النضير أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، في السنة(28/98)
الثانية من الهجرة، ومثل من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أذرعات بالشام بعد سنة ونصف من الهجرة، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، وذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، ولهم عذاب مؤلم في الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى مثلا آخر للمنافقين ورابطتهم باليهود، فقال:
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي إن مثل هؤلاء المنافقين في وعودهم اليهود بالمناصرة والمؤازرة في القتال والخروج، كمثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشر، وأغراه بالكفر، وزيّنه له، وحمله عليه، فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان، تبرأ الشيطان منه وتنصل يوم القيامة، وقال على وجه التبري من الإنسان: إني أخاف عذاب الله رب العالمين إذا ناصرتك.
وهذا مثل في غاية السوء وشدة الوقع على النفوس، لذا أبان الله تعالى بعده ما يوجبه من العقاب، فقال:
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي فكان عاقبة الشيطان الآمر بالكفر، والإنسان الذي كفر واستجاب أنهما صائران إلى نار جهنم خالدين فيها على الدوام، وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا، ومنهم اليهود والمنافقون.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- إن هناك مصادقة وموالاة ومعاونة في الظاهر بين المنافقين واليهود، بسبب أخوة الكفر، ورابطة الاشتراك في العداوة والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول(28/99)
المنافقون ليهود قريظة والنضير: نحن معكم في الإقامة والقتال والخروج، ولا نطيع محمدا في قتالكم، والله شاهد على أنهم كاذبون في قولهم وفعلهم.
وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخبار الغيب، لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم.
2- كذب الله المنافقين أولا على سبيل الإجمال، ثم أتبعه بالتفصيل، فأخبر بأن اليهود لو أخرجوا من ديارهم، لم يخرج المنافقون معهم، وأنهم لو قاتلهم المؤمنون ما نصروهم ولا عاونوهم، ولئن نصر المنافقون اليهود لفروا هاربين منهزمين.
3- إن بني النضير في خوفهم من المسلمين أشد خوفا وخشية من رهبة الله، فهم يخافون منهم أكثر مما يخافون من ربهم، ذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.
4- لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلة المسلمين مجتمعين إلا في حصون محصنة بالخنادق والدروب، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم، وإلقاء الله الرعب في قلوبهم، وتفرقهم، وتأييد الله ونصرته لعباده المؤمنين.
وسبب ذلك التفرق والتشتت والكفر أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله، ويدركون به نظم الحياة، ويعرفون أن الوحدة أساس النجاح.
5- إن ما أصاب يهود بني النضير من الطرد والجلاء عن المدينة والعذاب مشابه لما أصاب بني قينقاع وكفار قريش يوم بدر، من العقاب، فقد كان بين النضير وقريظة سنتان، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، ولهؤلاء الكفار في الآخرة عذاب مؤلم.(28/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
6- إن مثل المنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم مثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الكفر، فلما كفر تبرأ منه، مدعيا أنه يخاف عذاب الله.
فكانت عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان، حيث صارا إلى النار خالدين فيها على الدوام.
الأمر بالتقوى والعمل للآخرة
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
البلاغة:
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ كناية في كلمة لِغَدٍ كنى بها عن القيامة لقربها.
الْجَنَّةِ والنَّارِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
نَفْسٌ تنكيرها للتقليل أي تقليل الأنفس النواظر، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك. ما قَدَّمَتْ أي الذي قدمته من الأعمال الصالحة. لِغَدٍ هو يوم القيامة، سمي به لقربه وتحقق وقوعه وتنكيره للتعظيم وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه. نَسُوا اللَّهَ نسوا حق الله، فتركوا طاعته. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أنساهم أن يقدموا لها خيرا.
الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسق.(28/101)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أي لا يتساوى أصحاب النار الذين لم يعملوا ما ينقذهم منها، فاستحقوا النار، والذين استكملوا نفوسهم، فاستأهلوا الجنة، واحتج به الشافعية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.
المناسبة:
بعد بيان أحوال المنافقين واليهود، أمر الله تعالى بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات، وأمر بالعمل في الدنيا للآخرة، ورغب في الإعداد للجنة، وحذر من عمل أهل النار، ووصف أهل الجنة المستحقين لها بالفائزين، وأهل النار بالفاسقين.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، افعلوا ما أمر الله به، واتركوا ما زجر عنه، واتقوا عقابه، ولتتأمل نفس أي شيء قدّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واتقوا الله- وكرر الأمر بالتقوى للتأكيد والحث على ما ينفع في الآخرة- فإن الله لا تخفى عليه من أعمالكم وأحوالكم خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها.
ثم نهى الله تعالى عن التشبه بالذين أهملوا حقوق الله، فقال:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ، أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي واحذروا أن تكونوا كالذين تركوا أمر الله، وأهملوا حقوق الله الواجبة على العباد، ولم يخافوا ربهم، فجعلهم ناسين أنفسهم بسبب نسيانهم لربهم، فلم يعملوا الأعمال الصالحة التي تنفعهم في المعاد، وتنجيهم من العذاب، فإن الجزاء من جنس العمل، وأولئك التاركون حقوق الله هم الخارجون الكاملون في الخروج(28/102)
عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم.
وذلك كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [المنافقون 63/ 9] .
ثم قارن الله تعالى بين المحسنين والمسيئين لبيان أنه لا استواء بين الفريقين، فقال:
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي لا يستوي مستحقو النار ومستحقو الجنة في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة يوم القيامة، أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية 45/ 21] وقوله سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ، قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ [غافر 40/ 58] . وقوله عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] .
وهذا ترغيب في العمل للجنة، وترهيب من العمل للنار. ويلاحظ أن الآيات بدأت بالأمر بالتقوى، ثم نهت عن نسيان حقوق الله، ثم وازنت بين الطائعين والعصاة، وكل ذلك لتأكيد الأمر بالتقوى وطاعة الله، فبعد إرشاد المؤمنين إلى ما فيه مصلحتهم يوم القيامة: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وتهديد الكافرين بقوله: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أبان تعالى الفرق بين الفريقين.(28/103)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- لزوم تقوى الله في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
2- أعاد الله تعالى الأمر بالتقوى مرة ثانية للتأكيد، أو يحمل الأمر الأول على أداء الواجبات والتوبة فيما مضى من الذنوب، والثاني على ترك المعاصي في المستقبل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشهد بهذه الآية في الحث في خطبه على عمل الخير والمعروف، أخرج أحمد ومسلم عن المنذر بن جرير عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار «1» أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى آخر الآية [النساء 4/ 1] وقرأ الآية التي في الحشر: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ.
«تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره» ، حتى قال: «ولو بشق تمرة» . فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهّبة «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) أي مخططي الثياب.
(2) أي صفحة مموهة بالذهب.(28/104)
«من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» .
3- نهى الله تعالى عن التشبه بقوم تركوا أمر الله- والنهي يقتضي التحريم- حتى نسوا أنفسهم أن يعملوا لها خيرا، فكانوا هم الفاسقين، أي الذين خرجوا عن طاعة الله تعالى.
روى أبو القاسم الطبراني عن نعيم بن نمحة قال: كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل، وهو في عمل الله عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشّقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن، وحصّنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه.
إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم «1» .
4- هناك فرق واضح في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة بين المؤمنين أهل
__________
(1) قال ابن كثير: هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات (تفسير القرآن العظيم: 4/ 342) .(28/105)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
الجنة، وبين الكافرين أهل النار، فالأولون ناجون فائزون بالمطلوب، والآخرون فاسقون هالكون معذبون.
5- احتج الشافعية بآية: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ ... على أن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي، وإلا استويا، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا.
مكانة القرآن وعظمة منزّله ذي الأسماء الحسنى
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
الإعراب:
لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً منصوبان على الحال من هاء لَرَأَيْتَهُ لأن (رأيت) من رؤية البصر.
الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الْمُصَوِّرُ من صوّر يصوّر، لا من صار يصير فهو مصيّر، وهو مرفوع على أنه وصف بعد وصف، أو خبر بعد خبر. وقرئ المصور وهو آدم عليه السلام وأولاده، والمعنى: الخالق الذي برأ المصوّر، وقرئ الْمُصَوِّرُ بالجر على الإضافة، كقولهم:
الضارب الرجل، بالجر حملا على الصفة المشبهة باسم الفاعل، كقولهم: الحسن الوجه.(28/106)
البلاغة:
لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً تمثيل وتخييل مثل آية: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ أي وجعل فيه تمييز ووعي كالإنسان. لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً خاشِعاً منقادا خاضعا، ومُتَصَدِّعاً متشققا. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وتلك الأمثال المذكورة يراد بها توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، وقلة تدبّره.
الْغَيْبِ ما غاب عن الحس والمشاهدة من العوالم غير المرئية. الشَّهادَةِ عالم الماديات والمرئيات المشاهدة المحسوسة، وقدم الغيب على الشهادة، لأن الغيب معدوم متقدم في الوجود، والشهادة موجود متأخر. الْقُدُّوسُ الطاهر المنزه عما لا يليق به من النقص. السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة. الْمُؤْمِنُ المصدّق رسله فيما بلّغوه عنه بالقول، أو بخلق المعجزة على أيديهم، أو هو واهب الأمن لعباده. الْمُهَيْمِنُ الرقيب على أعمال عباده، الحافظ لكل شيء.
الْعَزِيزُ القوي الغالب. الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد. الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة، الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزه الله عما يصفه به المشركون من الصاحبة والولد والشريك، فلا يشاركه أحد من خلقه في شيء من ذلك.
الْخالِقُ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته. الْبارِئُ المنشئ من العدم، الموجد للأشياء بريئا من التفاوت. الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التسعة والتسعون الوارد بها الحديث، والحسنى: مؤنث الأحسن، وقد وصفت بالحسنى، لأنها دالة على محاسن المعاني التي تظهر في هذا الوجود، فإن جمال الكون البديع دليل على كمال صفات الموجد المبدع.
يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ينزهه جميع المخلوقات، لتنزهه عن النقائص كلها.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات كلها المتمثلة في كمال القدرة والعلم.
المناسبة:
بعد بيان أحوال اليهود والمنافقين، وأمر المؤمنين بالتقوى والاستعداد ليوم(28/107)
القيامة، عظّم الله عز وجل أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان، ونبّه إلى عظمة منزّل القرآن ذي الأسماء الحسنى الذي انقادت السموات والأرض لحكمه وأمره ونهيه، وتنزه عن النقائص.
التفسير والبيان:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي لقد بلغ من شأن القرآن وعظمته وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال، وجعل له عقل كما جعل للبشر، لرأيت الجبل، مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة، خاشعا خاضعا متذللا منقادا، متشققا من خوف الله، حذرا من عقابه، وخوفا من عدم أداء ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى.
وهذا تعظيم لشأن القرآن، وتمثيل لعلو قدره وشدة تأثيره على النفوس، لما فيه من المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحق والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى:
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وهذه الأمثال المذكورة نضربها لجميع الناس، لعلهم يتفكرون فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى الآية [الرعد 13/ 31] أي لكان هذا القرآن.
وثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب، فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند(28/108)
ذلك حنّ الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكّت، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده.
والمراد بالآية التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار، وغلظ طباعهم، وتوبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن، فإذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟!! ثم عظم الله تعالى شأن القرآن بوجه آخر، وهو التنبيه على أوصاف منزّله فقال:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ أي إن الله منزل القرآن، هو الذي لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر، يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، من جليل وحقير، وصغير وكبير، في الذرّ (النمل الأسود) في الظلمات، وأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف 7/ 156] وقال سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] .
ثم ذكر الله تعالى أوصافا أخرى لنفسه، فقال:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أكد تعالى صفة الوحدانية مرة أخرى، وكرر ذلك للتأكيد والتقرير في مطلع هذه الآية كالتي قبلها، فهو تعالى الإله الواحد الذي لا شريك له، المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها، بلا ممانع(28/109)
ولا مدافع، الظاهر من كل عيب، المنزه عن كل نقص، الذي سلم من كل نقص وعيب لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وسلم الخلق من ظلمه، والواهب الأمن والصدق لأنبيائه بالمعجزات، وأمن خلقه من أن يظلمهم، فهو المصدق لرسله بإظهار المعجزات، وللمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، وهو الشاهد الرقيب على عباده بأعمالهم، فهو بمعنى الرقيب عليهم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج 85/ 9] . وقوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ [يونس 10/ 46] . وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد 13/ 33] .
وهو القاهر الغالب غير المغلوب، الذي قد عزّ كل شيء، فقهره وغلب الأشياء، ذو الجبروت أي العظمة، الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به، والكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم،
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذّبته» «1» .
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله عما يصفه به المشركون من إشراكهم بالله غيره، كالصاحبة والولد والشريك.
ثم قال الله تعالى:
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي هو الله الخالق أي المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته، البارئ، أي المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها،
__________
(1)
أخرجه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري بلفظ: «العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته»
وفي رواية: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار» .
[.....](28/110)
فالخلق: التقدير، والبرء: هو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئا ورتّبه، يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل، وهو المصوّر، أي الموجد للصور على هيئات مختلفة، وصفات أرادها، كما قال: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار 82/ 8] وله الأسماء والصفات الحسنى التي لا يماثله أحد فيها، لعزته، ومن عزته كان منزها عن النقائص، أهلا للتسبيح، ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما في السموات والأرض، ومن حكمته أنه أمر المكلفين في السموات والأرض بأن يسبحوا له ليربحوا، لا ليربح هو عليهم، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغالبه مغالب، الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه وشرعه وقدره، وفي كل الأمور التي يقضي فيها، فهو كامل القدرة، كامل العلم.
وإنما قدم ذكر الخالق على البارئ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة، وقدم البارئ على المصور، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.
وتقدم بيان أسماء الله الحسنى في الآية (180) من سورة الأعراف والآية (110) من سورة الإسراء.
ويحسن
ذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر»
ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه بالزيادة التالية، وأذكر هنا لفظ الترمذي: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار،(28/111)
القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المغيث، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القويّ، المتين، الوليّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصّمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنيّ، المعي، المعطي، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- حثّ الله تعالى، على تأمل مواعظ القرآن، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبّر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها، لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة أي ذليلة، متصدعة، أي متشققة من خشية الله، كما ذكر القرطبي.
2- إن هذا المثل للناس للتفكر والتدبر، فإنه لو نزل هذا القرآن على جبل كما تقدم، لخشع لوعده وتصدّع لوعيده.
3- الله تعالى عالم السرّ والعلانية، وما كان وما يكون، ما لم يعلم العباد ولا عاينوه، وما علموا وشاهدوا، وعالم بالآخرة والدنيا، وهو الواسع الرحمة، المنعم بجلائل النعم ودقائقها.(28/112)
4- الله تعالى مالك الملك، القدّوس (المنزّه عن كل نقص، والطاهر من كل عيب) ، السلام (ذو السلامة من النقائص) المؤمن (المصدّق لرسله بإظهار معجزاته على أيديهم، ومصدّق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب) المهيمن (الرقيب الحافظ لكل شيء) العزيز (الغالب القاهر) الجبار (العظيم) المتكبر (الذي تكبر بربوبيته، فلا شيء مثله) والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذمّ.
وهو المنزه لجلالته وعظمته عما يشرك به المشركون، والخالق (المقدّر) والبارئ (المنشئ المخترع) والمصوّر (مركب الصور على هيئات مختلفة) وله الأسماء والصفات الحسنى، وينزهه جميع ما في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم (كامل القدرة وكامل العلم) .
عن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: يا أبا هريرة، عليك بآخر سورة الحشر، فأكثر قراءتها، فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي.
وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الأعظم هو الله، لمكان هذه الآية.
وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحشر، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب عبدا همّ ولا حزن، فدعا بهذا الدعاء (أي بأسماء الله الحسنى) إلا أذهب الله همّه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا» .
وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا: اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر.
وفي رواية عبد الرحمن النيسابوري عن البراء عن علي رضي الله عنهما أنه قال: يا براء، إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم، فاقرأ من أول(28/113)
سورة الحديد عشر آيات، وآخر الحشر، ثم قل: يا من هو كذلك، وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا، فو الله لو دعوت علي لخسف بي.
وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود مرفوعا أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة: هي رقية الصداع.(28/114)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
مدنيّة، وهي ثلاث عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة، بإضافة الفعل إلى المرأة مجازا، كما سميت سورة (براءة) : المبعثرة والفاضحة، لما كشفت عيوب المنافقين. ويقال: (الممتحنة) بفتح الحاء وهو المشهور بإضافة الفعل حقيقة إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال الله تعالى:
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ [10] الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الحشر من وجهين:
1- ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، ثم موالاة الذين نافقوا للكفار من أهل الكتاب، وافتتحت هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكافر أولياء، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك، وكرر النهي في السورة، ثم ختمت به.
2- كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب، وهذه السورة للمعاهدين من المشركين، لأنها نزلت في صلح الحديبية، فالسورتان تشتركان في بيان علاقات المسلمين مع غيرهم.(28/115)
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية في بيان الأحكام التشريعية، وهي هنا أحكام المتعاهدين من المشركين، والذين لم يقاتلوا المسلمين، والمؤمنات المهاجرات وامتحانهن.
ابتدأت السورة بالنهي عن موالاة المشركين وأسباب ذلك وهي إيذاء المؤمنين وعداوتهم لله ولمن آمنوا، وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك الديار والأوطان.
ثم ذكرت أن القرابة أو الصداقة غير نافعة يوم القيامة، وإنما النافع للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...
وأعقبت ذلك بضرب الأمثال بقصة إبراهيم ومن معه من المؤمنين، وتبرؤهم من قومهم المشركين، ليتخذ المؤمن أبا الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن قدوة وأسوة طيبة: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.. الآيات.
ثم وضعت أصول العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في حالتي السلم والحرب، والمودة والعداوة: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ.. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآيات.
وانتقل البيان عقب ما ذكر إلى حكم العلاقات مع المشركين فيما يتعلق بالنساء المؤمنات، وضرورة امتحانهن عند الهجرة لدار الإسلام، وعدم ردهن إلى الكفار في دار الكفر وإيتاء أزواجهن مهورهن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ.. الآيات.
واستتبع ذلك بيان حكم مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهن، وشروط البيعة وبنودها، وأصولها في الإسلام وداره.
وختمت السورة بتأكيد النهي عن موالاة أعداء المؤمنين من المشركين(28/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
والكفار، حرصا على وحدة الأمة والملة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً....
النهي عن موالاة الكفار
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
الإعراب:
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تُلْقُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو.
لا تَتَّخِذُوا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ملقين. وكذلك: وَقَدْ كَفَرُوا.. حال من واو لا تَتَّخِذُوا.
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا ... جِهاداً فِي سَبِيلِي يُخْرِجُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو كَفَرُوا. وأَنْ تُؤْمِنُوا: في موضع نصب على المفعول لأجله. وإن في قوله: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ حرف شرط، وجوابه فيما تقدم، لدلالة الكلام عليه، وهو لا تَتَّخِذُوا أي فلا تتخذوهم أولياء، فهذا متعلق بقوله: لا تَتَّخِذُوا يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وجِهاداً وابْتِغاءَ منصوبان على المفعول لأجله، أو على المصدر في موضع الحال، وتقديره: مجاهدين في سبيلي، ومبتغين لمرضاتي. وتُسِرُّونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، تقديره: مسرّين إليهم بالمودة، أو بدل من قوله: تُلْقُونَ، وباء بِالْمَوَدَّةِ زائدة أو ثابتة غير زائدة.(28/117)
يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ظرف، وعامله: إما تَنْفَعَكُمْ أو يَفْصِلُ.
ويفصل بينكم المبني للمعلوم تقديره: يفصل الله بينكم، وقرئ مبنيا للمجهول. يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فيكون بَيْنَكُمْ قائما مقام الفاعل، إلا أنه بني على الفتح، كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام 6/ 94] أي وصلكم.
البلاغة:
تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ.. عتاب وتوبيخ.
أَخْفَيْتُمْ وأَعْلَنْتُمْ بينهما طباق، فالإخفاء يقابل الإعلان.
المفردات اللغوية:
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ عدو الله: من كفر به أو أشرك، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه وعدو المؤمنين: من خانهم أو أضر بمصالحهم، أو قاتلهم أو عاون على مقاتلتهم، مثل كفار مكة في الماضي والماديين الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله أو يؤمنون بألوهية أحد من البشر بتأويلات باطلة في عصرنا. أَوْلِياءَ أصدقاء جمع ولي، أي صديق توليه بالسر. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفضون إليهم المودة، والمراد هنا النصيحة بالمكاتبة وإرسال أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي دين الإسلام والقرآن. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة بالتضييق عليكم. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لأجل أن آمنتم، وفيه تغليب المخاطب في عهد التنزيل، والتفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان، وهو تعليل لقوله: يُخْرِجُونَ أي يخرجونكم لإيمانكم بالله تعالى.
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي خرجتم من أوطانكم للجهاد في سبيل الله وطلب مرضاته أي رضائه. وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي أنا أعلم منكم، والباء في قوله: بِما أَخْفَيْتُمْ مزيدة، وما: موصولة أو مصدرية. وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يفعل الاتخاذ.
ضَلَّ أخطأ طريق الهدى. سَواءَ السَّبِيلِ السواء في الأصل: الوسط، والمراد هنا الطريق المستوي وهو طريق الحق.
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم. وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والضرب. وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوؤكم بالسب والشتم. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ تمنوا كفركم. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لن تفيدكم قراباتكم. وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون المشركين لأجلهم. يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرق بينكم من شدة الهول، فيفرّ بعضكم من بعض. ويفصل بالبناء للفاعل بالتخفيف أو التشديد أي الله عز وجل، وقرئ يفصل بالبناء للمجهول مع التشديد، أو التخفيف، ونفصل ونفصّل.(28/118)
سبب النزول: نزول الآية (1) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..:
أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ «1» ، فإن بها ظعينة «2» ، معها كتاب، فخذوه منها، فأتوني به، فخرجوا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءا ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق.
وفيه أنزلت هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الآية.
وتفصيل القصة والكتاب: «أن مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها: سارّة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها كتابا
__________
(1) موضع بين مكة والمدينة على اثني عشر ميلا من المدينة.
(2) الظعينة: المرأة في الهودج.(28/119)
إلى أهل مكة، هذه نسخته: «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم» فخرجت سارّة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر،
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وعمارا وعمرا وفرسانا أخر، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها، فإن أبت، فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدته وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ سيفه، وقال:
أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن كنت غريبا في قريش، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون أهاليهم وأموالهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم، وأنزلت السورة» .
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا عدوي وعدوكم «1» أنصارا وأصدقاء وأعوانا لكم، توصلون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بسبب
__________
(1) العدو يطلق على الواحد والجمع.(28/120)
المودة التي بينكم وبينهم، والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.
ونظير الآية كثير، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة 5/ 51] . وقوله سبحانه: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 28] . والآية الأولى تتضمن تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا.
وسبب النهي هنا أمران:
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي إنهم كفروا بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وما جاءكم من القرآن والهداية الإلهية، وأخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة من أجل إيمانهم بالله، وإخلاص عبادتهم لله تعالى، كما جاء في آية أخرى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [الحج 22/ 40] . وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 9] .
ثم حرّض الله تعالى على الامتناع من الموالاة، فقال:
أ- إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي، مبتغين رضواني عنكم، ولا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم، وسخطا لدينكم.
ب- تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي تسرون إليهم الأخبار وخطط النبي والمؤمنين بسبب المودة، وتفعلون ذلك، وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، والأعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون.
ج- وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي ومن يوال الأعداء(28/121)
منكم، فقد أخطأ طريق الحق والصواب، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي.
ثم ذكر ثلاثة أمور أخرى تمنع الموالاة وتدل على عداوة المشركين في مكة وغيرها، فقال:
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ويكونوا حربا عليكم، ويمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالسب والشتم، ويتمنوا ارتدادكم وكفركم بربكم ورجوعكم إلى الكفر، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء؟!! وهذا كما سبق تهييج على عداوتهم أيضا.
ثم ذكر الله تعالى أن رابطة الدين والإيمان أوثق وأولى وأنفع من رابطة القرابة والولاء، فقال:
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم، حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة سبب النزول، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم وتوثيق عرى الإيمان وأخوة الدين. ففي الآخرة يفرّق الله بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، والله مطلع على أعمالكم، ومجازيكم عليها خيرا أو شرا.
والمقصود أن القرابة لا تنفع عند الله تعالى، إن أراد الله بكم سوءا، ولن يصل نفعهم إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم، فقد خاب وخسر وضلّ عمله، ولا تنفعه عند الله قرابة من أحد، ولو(28/122)
كان قريبا إلى من الأنبياء، قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون 23/ 101] وقال سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] فالمودة لا تنفع في القيامة إذا لم تكن في الله لانفصال كل اتصال يومئذ، ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم.
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس: «أن رجلا قال:
يا رسول الله؟ أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا، دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- تحريم موالاة الكفار ومناصرتهم ومعاونتهم بأي وجه من الوجوه، والسورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، ولو في الظاهر، مع عدم الرضا في القلب بالاعتقاد الذي هم عليه.
2- من كثر تطلعه على عورات المسلمين والتجسس عليهم ونقل أخبارهم للأعداء، لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي، وكان اعتقاده سليما، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الرّدّة عن الدّين.
3- اختلف العلماء في قتل الجاسوس، فقال مالك والأوزاعي في شأن المعاهد والذمي: يجوز قتله، لأنه يصير ناقضا للعهد. وقال الجمهور: لا ينتقض عهد المعاهد بذلك، أما الذمي فرأى الحنابلة: أنه ينتقض عهده بدلالة أهل الحرب المشركين على أسرارنا. وذهب الشافعية: إلى أنه لا ينتقض عهد الذمي بالتجسس إلا إذا شرط عليه انتقاض عهده بذلك.(28/123)
وأما الجاسوس المسلم: فقال كبار المالكية: إنه يقتل. وقال الجمهور:
لا يقتل، بل يعزّره الإمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما.
ودليل الفريقين قصة حاطب، فإن الفريق الأول قالوا: أقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على إرادة القتل لولا وجود المانع: وهو شهود بدر. وقال الفريق الثاني: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل حاطبا، لأنه مسلم،
وروي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعين (جاسوس) للمشركين اسمه فرات بن حيّان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فخلّى سبيله، ثم قال: «إن منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان» .
4- ذكرت الآيات خمسة أسباب لتحريم موالاة الكفار، وهي الكفر بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من ديارهم وأموالهم في مكة، وعداوتهم ومجاربتهم للمؤمنين، وقتالهم إياهم وضربهم فعلا، وسبهم وشتمهم، وحرصهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
5- حذر الله تعالى من مخالفة نهيه عن موالاة الأعداء بأمرين: أولهما- أنه سبحانه الأعلم بما تخفي الصدور، وما تظهر الألسن من الإقرار بالله وتوحيده.
وثانيهما- أن من يوالي الكفار ويسرّ إليهم ويكاتبهم من المسلمين، فقد ضل سواء السبيل، أي أخطأ قصد الطريق.
6- قوله سبحانه: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة في الكتاب إليهم، هو معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبّ لحبيبه.
7- الذي يفيد الإنسان يوم القيامة هو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أما الأهل والأولاد أو أصحاب القرابات أو الأنساب، فلا ينفعون شيئا يوم(28/124)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
القيامة، إن عصي الله عز وجل من أجل ذلك، والله بصير بأعمال عباده، ويجازيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والله سبحانه يفرق أو يفصل بين الأقارب وغيرهم يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار.
التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 7]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
الإعراب:
إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ بدل بعض من كل في قوله: تُلْقُونَ.
بُرَآؤُا جمع بريء، نحو شريف وشرفاء، وظريف وظرفاء، وحذفت الهمزة الأولى تخفيفا. وقرئ برآء بكسر الباء، جمع بريء أيضا كشراف وظراف، وقرئ أيضا بفتح الباء على أنه مصدر دال على الجمع، ولفظه يصلح للواحد والجمع.(28/125)
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ منصوب على الاستثناء من قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ أي كائنة في سنته وأقواله، إلا قوله لأبيه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل اشتمال من الكاف والميم في لَكُمْ بإعادة الجار.
البلاغة:
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ تقديم ما حقه التأخير، وهو الجار والمجرور على ما بعده لإفادة الحصر.
الْحَكِيمُ الْحَمِيدُ قَدِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
أُسْوَةٌ قدوة فِي إِبْراهِيمَ أي بإبراهيم قولا وفعلا. وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين.
بُرَآؤُا أبرياء جمع بريء، كظريف وظرفاء، أي متبرئون مما تعملون، فلا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ من الأصنام والكواكب وغيرها. وَبَدا ظهر. الْعَداوَةُ ضد الألفة والصداقة. وَالْبَغْضاءُ البغض والكراهة ضد المحبة. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ مستثنى من قوله: أُسْوَةٌ فليس لكم التأسي به في ذلك، بأن تستغفروا للكفار. وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي لا أملك من عذابه وثوابه شيئا، وقوله: مِنْ شَيْءٍ كنى به عن أنه لا يملك له غير الاستغفار، وكان استغفاره له قبل أن يتبين له أنه عدو الله، كما ذكر في سورة براءة.
تَوَكَّلْنا فوضنا أمرنا إليك. أَنَبْنا رجعنا وتبنا. الْمَصِيرُ المرجع والمآب.
فِتْنَةً مفتونين معذبين بأن تسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نتحمله. وَاغْفِرْ لَنا ما فرطنا من ذنب. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي الغالب في ملكه، الذي يحسن التدبير في صنعه.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جواب قسم مقدر. أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة طيبة. وكرر لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم. لِمَنْ كانَ بدل من قوله. لَكُمْ قال البيضاوي: فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وإن تركه مؤذن بسوء العقيدة، ولذلك عقبه بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي ومن يعرض عن التأسي بإبراهيم ومن آمن معه ويعص النصيحة، بأن يوالي الكفار، فإن الله هو الغني عن خلقه، المحمود على فعله، الحامد لأهل طاعته، وهذا وعيد يوعد به الكفرة. يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل ثواب الله، ويخاف العقاب، ويخشى أهوال الآخرة.
عادَيْتُمْ من الأقارب المشركين وغيرهم من كفار مكة وغيرها، وتبرأتم منهم طاعة الله تعالى. مَوَدَّةً محبة وصلة، بأن يهديهم للإيمان، فيصيروا لكم أولياء وأصدقاء وأنصارا، وهذا(28/126)
وعد من الله، أنجزه بالفعل، لأنه أسلم أكثرهم وصاروا والمؤمنين عونا وسندا وأولياء. وَاللَّهُ قَدِيرٌ قادر على ذلك، وقد فعله بعد فتح مكة. وَاللَّهُ غَفُورٌ لما فرط منكم في موالاتهم من نقل أخبار وغيره. رَحِيمٌ بكم إذ لم يعاجلكم بالعقوبة.
سبب النزول: نزول الآية (7) :
عَسَى اللَّهُ: قال المفسرون: يقول الله تعالى للمؤمنين: لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء اقتداء بهم في معاداة ذوي قراباتهم من المشركين، فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، وعلم الله تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً
ثم فعل ذلك بأن أسلم كثير منهم، وصاروا لهم أولياء وإخوانا، وخالطوهم وناكحوهم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب. فلان لهم أبو سفيان وبلغه ذلك، فقال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه «1» ، أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما.
المناسبة:
بعد النهي عن موالاة الكفار والإنكار على من والاهم وتوثيق عرى الإخاء ورابطة الإيمان، أمر الله تعالى بالتأسي بإبراهيم ومن آمن معه في التبرؤ من الكفار، وذكر أن وجوب البغض في الله، وإن كان أخا أو أبا أسوة بإبراهيم عليه السلام وأصحابه، حيث جاهروا قومهم بالعداوة، وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة، والمناوأة مصافاة،
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 241(28/127)
والمقت محبة. ثم استثنى تعالى من التأسي بأقوال إبراهيم هذا القول الذي هو الاستغفار لأبيه عن موعدة منه قبل أن يعلم أنه عدو الله.
التفسير والبيان:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين أمرهم بمجانبة الكافرين والتبري منهم، بأنه قد كانت لكم قدوة طيبة حميدة تقتدون بها في إبراهيم خليل الرحمن أبي الأنبياء والذين آمنوا معه من أتباعه حين قالوا لقومهم: إنا بريئون منكم، لكفركم بالله، وبريئون من كل ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد، فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان، أو بدينكم، أو بأفعالكم، فإن تلك الأوثان لا تنفع شيئا، فهي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر.
والمقصود إفهام من والى الكافرين وهو حاطب، وكأنه تعالى يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم، فتتبرأ من أهلك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟! وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم، فقد ظهرت وشرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم، فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده، وتوحدوا الله، فتعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد، فإذا فعلتم ذلك، صارت تلك العداوة موالاة، والبغضاء محبة.
ثم استثنى الله تعالى شيئا لا يتأسى به بإبراهيم، فقال:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وقد كانت لكم أسوة حسنة في كل مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه(28/128)
الكافر: لأستغفرن لك، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به، فلا تأسوا به في هذا القول، فتستغفروا للمشركين، فإن استغفاره إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه. والخلاصة: ليس لكم أسوة في الاستغفار للمشركين.
وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك، ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة 9/ 113- 114] .
ثم أخبر الله تعالى عن اعتصام إبراهيم والمؤمنين معه بالله حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم فقال:
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي اعتمدنا عليك يا رب في جميع الأمور، وفوضنا أمورنا إليك، ورجعنا إليك بالتوبة من كل ذنب، وإليك المرجع والمآب والمعاد في الدار الآخرة.
وهذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها، ومن تتمة دعاء قوله:
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا ربنا لا تجعلنا مفتونين معذبين بأيدي الكفرة، واستر لنا ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك، فإنك أنت القوي الغالب القاهر، الذي لا يغالب، ولا يضام من لاذ بجنابك، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك، وتدبير خلقك، وفعل ما فيه صلاحهم. قال(28/129)
قتادة: لا تظهرهم علينا، فيفتنونا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. وقال مجاهد: معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا.
ثم أكد الله تعالى الحث على التأسي بإبراهيم والمؤمنين معه، فقال:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وهذه الأسوة إنما تكون لمن يطمع في الخير والثواب من الله في الدنيا والآخرة، ويتأمل النجاة في اليوم الآخر، وهذا تهييج إلى الإيمان لكل مؤمن بالله وبالمعاد. ومن يعرض عما أمر الله تعالى به، ويوال أعداء الله، ويوادهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، فإن الله هو الغني عن خلقه، الذي قد كمل في غناه، المحمود من خلقه في جميع أقواله وأفعاله، لا إله غيره، ولا رب سواه. والحميد: إما بمعنى الحامد أي يحمد الخلق ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال، أو بمعنى المحمود، أي الذي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] .
ثم أخبر الله عن أموره العجيبة في تحول الكافرين إلى مؤمنين، فقال:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ربما أسلم أعداؤكم، وصاروا من أهل دينكم، فتحولت العداوة إلى مودة، والبغضاء إلى محبة، والفرقة والمخالفة إلى ألفة، والله قادر على كل شيء، وغفور لمن أخطأ، فوادّهم، رحيم بهم فلم يعذبهم بعد التوبة، ويقبلهم ليدخلهم في مغفرته ورحمته. وكلمة عَسَى لرجاء حصول ما بعدها، لكن إذا صدرت من الله، كان ما بعدها واجب الوقوع.(28/130)
وقد أسلم أكثر العرب بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، وانعقدت مودة قوية بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام، وجاهدوا وقاموا بالأفعال المقرّبة إلى الله تعالى، وتزوّج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وترك أبو سفيان بعد إسلامه يوم الفتح ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: أوّل من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب، فيه نزلت هذه الآية: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ....
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- جعل الله إبراهيم الخليل عليه السلام أسوة حسنة وقدوة عالية للمؤمنين في التبرؤ من الكفار، فعلى من آمن بالله ورسوله الاقتداء به إلا في استغفاره لأبيه، فلا يتأسون به في الاستغفار للمشركين، فإن استغفاره كان عن موعدة منه له.
2- صرح إبراهيم ومن آمن معه بسبب البراءة من الكفار وهو كفرهم بالله وإيمانهم بالأوثان، وستظل العداوة والبغضاء قائمة في القلوب على الدوام بين المؤمنين وغيرهم ما دام هؤلاء الكفار على كفرهم، حتى يعلنوا إيمانهم بالله وحده لا شريك له، فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة.
3- قوله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يدل على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء، لأن الله حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 59/ 7] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام، استثنى بعض أفعاله.(28/131)
4- علّم الله المؤمنين أيضا أن يقولوا ما كان يدعو به إبراهيم عليه السلام ومن معه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله، وقولوا: اعتمدنا عليك يا رب، ورجعنا إليك تائبين، ولك الرجوع في الآخرة، ولا تظهر أو لا تسلط عدونا علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتتنوا بذلك، واغفر لنا ما فرط من الذنوب، فإنك القوي الغالب الذي لا يغالب، الحكيم في تدبير خلقه وتحقيق مصالحهم.
5- أكد الله تعالى الحث على التأسي بإبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، مرة أخرى في الآيات، في التبرؤ من الكفار. ثم حذر من المخالفة، وهدد المعرضين المستكبرين عن حكم الله، فذكر أن من يتول عن الإسلام وقبول هذه المواعظ، فإنه لن يضر إلا نفسه، والله غني عن خلقه، لم يتعبدهم لحاجته إليهم، محمود في نفسه وصفاته ومن خلقه.
6- كان نزول هذه الآيات سببا في معاداة المسلمين أقرباءهم من المشركين، ولما علم الله شدة وجد المسلمين وحرجهم في ذلك، نزل قوله تعالى كما بينا:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً أي بأن يسلم الكافر، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وخالطهم المسلمون، كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان التي كانت متزوجة بعبد الله بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة، إلا أن زوجها تنصر، ومات على النصرانية، وبقيت هي على دينها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فخطبها، وأمهرها النجاشي من عنده أربع مائة دينار.
وفي الحديث: «أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون(28/132)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
حبيبك يوما ما» «1» .
فقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ.. وعد من الله تعالى، والله سبحانه قادر على تقليب القلوب، وتغيير الأحوال، وتسهيل أسباب المودة، والله غفور لعباده رحيم بهم إذا تابوا وأسلموا ورجعوا إلى دينه وشرعه ومواعظه، وهو سبحانه الذي ألّف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فأصبحت مجتمعة متفرقة، كما قال تعالى ممتنا على الأنصار: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران 3/ 103] وكذا
قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي» ؟
وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال 8/ 63] .
علاقة المسلمين بغيرهم
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
__________
(1) رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، والطبراني عن عبد الله بن عمرو، والدارقطني في الإفراد وابن عدي والبيهقي في الشعب عن علي، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن علي موقوفا، وهو حديث حسن.(28/133)
الإعراب:
أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ: في موضع جر على البدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ بدل الاشتمال.
وكذلك قوله تعالى: أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل الاشتمال أيضا. وقيل: هما منصوبان على المفعول لأجله.
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ عدّاه ب (إلى) حملا على معنى «تحسنوا» فكأنه قال: تحسنوا إليهم.
البلاغة:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وإِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ ... بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ.. من الكفار، أي لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء: لأن قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ، أي أن تفعلوا البر والخير لهم. وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تقضوا إليهم بالقسط، أي تحكموا بينهم بالعدل. الْمُقْسِطِينَ العادلين.
وَظاهَرُوا ساعدوا أو عاونوا، كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين من مكة، وبعضهم أعانوا المخرجين. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أن تتخذوهم أولياء أي أنصارا وأعوانا لكم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن يتخذهم أولياء، فأولئك هم الظالمون أنفسهم، لوضعهم الولاية في غير موضعها.
سبب النزول: نزول الآية (8) :
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ..:
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «قدمت أمي، وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك» فأنزل الله فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.(28/134)
وأخرج أحمد والبزّار والحاكم وصححه وآخرون عن عبد الله بن الزبير قال:
قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا- صناب «1» وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأمرها أن تقبل هداياها وتدخلها منزلها، فأنزل الله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الآية.
المناسبة:
بعد النهي عن موالاة الكافرين، والحث على القطيعة بالتأسي بإبراهيم ومن معه، ثم تهوين الأمر على المؤمنين بإخبارهم أن الله قادر على تغيير أوضاع المشركين من الكفر إلى الإيمان، رخّص الله تعالى في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين من الكفار، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يعاونوا على إخراجهم.
التفسير والبيان:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي لا يمنعكم الله من البرّ والإحسان وفعل الخير إلى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء والضعفة منهم، كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضا من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء مالهم من الحق، كالوفاء لهم بالوعد، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة، إن الله يحب العادلين، ويرضى عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم.
والمقصود بالآية أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يعينوا عليهم، ولا ينهى عن
__________
(1) صناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب.(28/135)
معاملتهم بالعدل، مثل خزاعة، وغيرهم الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال.
ثم حدد الله تعالى موضع النهي في المعاملات، فقال:
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي إنما ينهاكم الله عن موالاة هؤلاء الذين عادوكم، وهم صناديد الكفر من قريش وأشباههم ممن هم حرب على المسلمين، وعاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، ينهاكم الله عن اتخاذهم أولياء وأنصارا لكم، ويأمركم بمعاداتهم.
ثم أكد الوعيد على موالاتهم، فأبان أن من يتولهم ويناصرهم، فأولئك الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم تولوا من يستحق العداوة، لكونه عدوا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكتابه.
ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة 5/ 51] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيتان أن للكفار من المسلمين موقفين: إما المسالمة وإما المعاداة.
وحددتا علاقة المسلمين بغيرهم في تلك الحالتين.
1- فيجوز برّهم وفعل الخير لهم، والحكم بينهم وبين غيرهم بالعدل إذا لم يقاتلوا في الدين أو الدنيا، ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم، ولم يعينوا على إخراجهم، فإن الله يحب العادلين ويأمر بالعدل مع جميع الناس، والعدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل.(28/136)
وهؤلاء هم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال، والمظاهرة (المعاونة) في العداوة، وهم خزاعة، كانوا عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم.
قال قتادة: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ، نسختها آية: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] .
وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة غير منسوخة، بدليل إباحة صلة أسماء أمّها، كما تقدم «1» .
واستدل بهذه الآية بعض العلماء على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر، وأجيب بأن الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه، لا يدل على وجوبه، وإنما يدل على الإباحة فقط.
2- ولا يجوز اتخاذ الأولياء والأنصار والأحباب من الذين قاتلوا المسلمين على الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وعاونوا على إخراجهم، وهم مشركو أهل مكة، ومن يفعل ذلك بأن يواليهم، فأولئك هم الظلمة المستحقون للعقاب الشديد.
والخلاصة: لا ينهى الله عن مبرة الفريق الأول، وإنما ينهى عن تولي الفريق الثاني.
__________
(1) تفسير القرطبي: 18/ 59(28/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
الإعراب:
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فَإِنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: في أن تنكحوهن. ويَحْكُمُ بَيْنَكُمْ إما استئناف، أو حال من الحكم، على حذف الضمير، أي يحكمه الله، أو على جعل «الحكم» حاكما على المبالغة.
البلاغة:
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ جملة اعتراضية للإشارة إلى آن التعامل مع الناس يكون بحسب الظاهر، فللإنسان الظاهر، والله يتولى السرائر.
لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فيهما ما يسمى في علم البديع بالعكس والتبديل.
المفردات اللغوية:
مُهاجِراتٍ من بلاد الكفار إلى ديار الإسلام. فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن للتأكد من مطابقة ألسنتهن لما في قلوبهن من الإيمان. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ الله هو العالم بالحقائق، المطلع على ما في القلوب. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ تأكدتم من إيمانهن، وظننتم ظنا غالبا بالحلف وظهور(28/138)
الأمارات، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحلّفهن على أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضا لأزواجهن الكفار، ولا عشقا لرجال من المسلمين. وإنما سمّي الظن الغالب علما إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به.
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ تردوهن إلى أزواجهن الكفرة. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ التكرار للمطابقة والمبالغة. وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أعطوا الكفار ما دفعوا لأزواجهن من المهور. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لا إثم ولا حرج عليكم في الزواج بهن، فإن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن، وقد شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بأن ما أعطي لأزواجهن من تعويض لا يغني عن المهر الواجب للمرأة تكريما لها عند زواجها بأي رجل. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي ما تعتصم به الكافرات من عقد وسبب، جمع عصمة، والمراد نهي المؤمنين عن نكاح المشركات، سواء الباقيات على الشرك بعد إسلام الزوج، أو المرتدات اللاحقات بالمشركين، فالمراد بالعصمة: عقد النكاح. والْكَوافِرِ: جمع كافرة.
وقرئ «ولا تمسّكوا» بالتشديد.
وَسْئَلُوا اطلبوا. ما أَنْفَقْتُمْ اطلبوا ما قدمتم من المهور لنسائكم اللاحقات بالكفار حال الارتداد، ممن تزوجن من الكفار. وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا وليطلبوا ما أنفقوا على المهاجرات من مهور أزواجهم، فإنهم يؤتونه. ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ أي جميع ما ذكر في الآية هو شرع الله.
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يقضي بينكم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بالغ العلم، يشرع ما تقتضيه حكمته.
وَإِنْ فاتَكُمْ أي وإن سبقكم وانفلت منكم. شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أحد من أزواجكم. إِلَى الْكُفَّارِ مرتدات. فَعاقَبْتُمْ أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر، والمراد أنكم غنمتم مغانم القتال أو الحرب بسبب الغلبة والنصر لكم. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي أعطوهم من الغنيمة مهور أزواجهم، بدل الفائت عليهم من جهة الكفار. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي خافوا الله الذي آمنتم به، فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه.
سبب النزول:
نزول الآية (10) :
إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ:
أخرج الشيخان عن المسور ومروان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية،(28/139)
جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ إلى قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
وأخرج الواحدي عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة، رده إليهم، ومن أتى من أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد، ردّ علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقيل: نزلت في أميمة بنت بشر امرأة أبي حسان الدحداحة. وقيل: نزلت في امرأة تسمى سعيدة كانت تحت صيفي بن الراهب، وهو مشرك من أهل مكة جاءت زمن الهدنة، فقالوا: ردها علينا، فنزلت.
وأخرج ابن منيع عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب، فتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
نزول الآية (11) :
وَإِنْ فاتَكُمْ.. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية، نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص 241(28/140)
المناسبة:
بعد بيان أحكام العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم، أبان الله تعالى حكم ردّ النساء المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية، والزواج بالمشركات، ورد مهور هؤلاء النساء إلى أزواجهن، وتعويض الأزواج المسلمين من الغنائم عن مهور زوجاتهن اللاتي ذهبن إلى بلاد الكفار، والاعتصام في كل ذلك بتقوى الله تعالى. قال القرطبي: لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين، اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبيّن أحكام مهاجرة النساء.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بين الكفار، فاختبروهن، لتعلموا مدى رغبتهن في الإسلام، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وقوله: فَامْتَحِنُوهُنَّ أمر بمعنى الوجوب، أو بمعنى الندب أو بمعنى الاستحباب.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء، أبي الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن، فكن يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا، بل حبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورغبة في دينه. فإذا حلفت على هذا النحو أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولم يردّها إليه.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ(28/141)
أي إن الامتحان أمر في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله سبحانه، والله أمركم بالظواهر، وهو يتولى السرائر، فإن غلب على ظنكم أنهن مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علما من باب الظن الغالب، وما يفضي إليه الاجتهاد، والقياس جار مجرى العلم.
قال ابن كثير: فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقينا.
ثم أردف الله تعالى ذلك بأحكام أخرى تتعلق بهن، فقال:
1- لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي ليست المؤمنات حلالا للكفار، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها، لا مجرد هجرتها، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النّبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها، كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة،
وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» .
فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا «1» ، كما
قال الإمام أحمد عن ابن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 351(28/142)
أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا» «1» .
ومنهم من يقول: بعد سنتين.
وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد»
قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه، لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة، ولم يسلم، انفسخ نكاحها منه.
2- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه عليهن من المهور. وهذا يدل على أن عهد صلح الحديبية اقتصر على ردّ الرجال دون النساء. قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها، منع منها بلا عوض.
3- وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن، وبشرط انقضاء العدة، وتزويج الولي وغير ذلك.
4- وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي ويحرم عليكم أيها المؤمنون زواج المشركات والاستمرار معهن في العصمة الزوجية، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات، وهو خاص بهن، دون الكوافر من أهل الكتاب.
__________
(1) ورواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.(28/143)
وينفسخ الزواج ببقاء الزوجة على الشرك، ولا مانع من نكاح أختها أو نكاح امرأة خامسة، ما دامت في العدة.
ثبت في الصحيح كما تقدم عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
- إلى قوله- وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ
فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
5- وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. قال المفسرون:
كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار:
هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت:
ردّوا مهرها على زوجها الكافر «1» .
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين، والمذكور في صلح الحديبية واستثناء النساء منه هو حكم الله وشرعه يحكم به بين خلقه، والحكم متعلق بالمشركين بعد صلح الحديبية، بخلاف المشركين الذين لا عهد لهم. والله بليغ العلم لا تخفى عليه خافية، بالغ العلم بما يصلح عباده، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال ابن العربي: وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة «2» ، أي رد المهور.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1776
(2) المرجع والمكان السابق، تفسير القرطبي: 18/ 68(28/144)
6- وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ، فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي إن سبقكم وانفلت منكم وذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الكفر، ولو أهل كتاب، فأصبتم غنيمة من قريش أو غيرها بعد الانتصار في الحرب، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة إذا لم يرد المشركون على زوجها مهرها، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه.
قال ابن عباس وآخرون: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قبل أن تخمّس، أي قبل قسمتها أخماسا «1» . فقوله: فَعاقَبْتُمْ معناه فغنمتم، أو ظفرتم. وقال الزهري: يعطى من مال الفيء.
والخلاصة: على الكفار رد مهر المرأة التي تعود إلى دار الكفر، فإن أمكن ذلك فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.
روي عن الزهري ومسروق: أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأقر المسلمون بحكم الله تعالى، وأبي المشركون، فنزلت: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم.
وقال الحسن ومقاتل: نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
__________
(1) تفسير القرطبي: 18/ 70(28/145)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- وجوب امتحان النسوة اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ليعرف مدى صدق إيمانهن وإخلاص إسلامهن. قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منّا، بل حبّا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها، فذلك قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
2- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا في صلح الحديبية، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. ويرى بعضهم أن الآية نزلت بيانا لنص العقد، وأنه ما تناول إلا الرجال، غير أن هذا يكون من تخصيص العام المتأخر.
وذهب جماعة إلى أن التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي، بل كان اجتهادا منه صلى الله عليه وسلم أثيب عليه بأجر واحد، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد. والتعميم الوارد في الصلح: «من جاء إلى محمد من قريش بدون إذن وليه، رده عليه» «1» .
ويرى الحنفية أن هذا الحكم كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز، واستدلوا
بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى ناراهما»
أي تتراءى ناراهما، وهذا مجاز، أي يلزم المسلم أن
__________
(1) نص المعاهدة كما أخرج البخاري عن مروان والمسور: «أنه لا يأتيك أحد منا، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا..» (نيل الأوطار: 8/ 37) . [.....](28/146)
يباعد منزله عن منزل المشرك، وينزل مع المسلمين في دارهم. فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب.
ومذهب مالك والشافعي: أن هذا الحكم غير منسوخ، وعقد الصلح على ذلك جائز. قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يلي الأموال كلها.
3- إن هذا الامتحان في الظاهر، والله في الحقيقة أعلم بإيمانهن، لأنه متولّي السرائر. فإذا علم، أي غلب على الظن إيمان المهاجرات، لم يجز ردهن إلى بلاد الكفار، لأن الله لم يحل مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن مشركة. وسبب الفرقة هو إسلام المرأة لا هجرتها، لأن الله تعالى قال: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام، وليس باختلاف الدار.
وقال أبو حنيفة ومالك: الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين، روي عن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة.
وعلى هذا إذا خرجت الحربية مسلمة، ولها زوج كافر في دار الحرب، وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها، وقال أبو يوسف ومحمد: تقع الفرقة وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بعقد زواج جديد، وهو رأي سفيان الثوري.
وقال مالك والشافعي: إن أسلم الزوج في العدة أي قبل أن تحيض ثلاث حيض، فهي امرأته، ولا تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة، فإذا انقضت العدة، فلا تحل له إلا بعقد جديد.
4- يجب على المسلمين أن يردوا على زوج المرأة التي أسلمت ما أنفق من المهر، وذلك من الوفاء بالعهد، حتى لا يخسر الأمرين: الزوجة والمال.(28/147)
5- لا غرم للمهر إلا إذا طالب الزوج الكافر به، فإن ماتت المرأة قبل حضور الزوج لم نغرم المهر، إذ لم يتحقق المنع، أي منعها منه، وإن كان المهر المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له.
وللشافعي في هذا الحكم قولان: أحدهما- أن هذا منسوخ، والثاني- يعطى الزوج المهر إن طالب به، وليس ذلك لأحد من الأولياء سوى الزوج.
6- إن المطالب برد مثل ما أنفق إلى الأزواج هو الإمام، من بيت المال.
وهذا الحكم- كما قال مقاتل- خاص برد صداق نساء أهل العهد، فأما من لا عهد له مع المسلمين، فلا يرد إليهم الصداق. وعلى هذا فلا مانع من العمل بهذا في المعاهدات التي تجري بين المسلمين وغيرهم في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون في الماضي، فإذا عاهدناهم على رد ما أنفقوا على أزواجهم وجب الوفاء بالعهد.
7- يباح للمسلمين الزواج بالمهاجرات المسلمات إذا انقضت عدتهن، لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدّة، فإن أسلمت قبل الدخول، فلها التزوج في الحال، إذ لا عدة عليها.
8- قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ دليل على تحريم التزوج بالمشركات عبدة الأوثان، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب، أما الكتابيات (اليهوديات والنصرانيات) فيجوز الزواج بهن، لقوله تعالى:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الآية [المائدة 5/ 5] .
فإذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرّق بينهما وهو مذهب المالكية.
ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال(28/148)
الحنفية: إذا أسلمت المرأة، عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرّق بينهما.
وهذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها، فلا خلاف في انقطاع العصمة بينها وبين زوجها، إذ لا عدة عليها. وهذا مذهب مالك أيضا في المرأة المرتدة وزوجها مسلم، لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. ومذهب الشافعي وأحمد: أنه ينتظر بها تمام العدة.
فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة: فمذهب مالك والشافعي وأحمد: الانتظار إلى تمام العدة، وكذا الوثني تسلم زوجته، فإنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما.
9- إذا ذهبت مسلمة مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يطالب الكفار بمهرها، وإذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة، يرد إلى الكفار مهرها.
وهذا الحكم كان مخصوصا بزمان النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية.
10- إذا لم يدفع الكفار المعاهدون وغيرهم مهر امرأة ارتدت وذهبت إلى ديار الكفر، وجب تعويض زوجها من غنائم الحرب. وقال قتادة: هذا خاص في الكفار المعاهدين، ثم نسخ هذا في سورة براءة. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا.
11- حذر الله تعالى من مخالفة الأحكام السابقة، فقال في الآية الأولى:
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذلكم الحكم الزموه، وقال في الآية الثانية: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.(28/149)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرات (بيعة النساء)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
الإعراب:
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ يَفْتَرِينَهُ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير يَأْتِينَ أو في موضع جر على الوصف ل بِبُهْتانٍ.
كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ: في موضع نصب، لأنه يتعلق ب يَئِسَ وتقديره: يئسوا من بعث أصحاب القبور، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: كناية عن اللقيط.
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ تشبيه مرسل مجمل. وفي الآية ما يسمى رد العجز على الصدر، فقد ختمت السورة بمثل ما بدئت به.
وقوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه وضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أن الكفر أيأسهم.
المفردات اللغوية:
يُبايِعْنَكَ البيعة: العقد والعهد على التزام الطاعة. وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أي بوأد البنات. بِبُهْتانٍ أي بولد مفترى ملصق بالزوج كذبا. يَفْتَرِينَهُ الافتراء: الكذب، والمراد يختلقن نسبة الولد إلى الزوج. مَعْرُوفٍ المعروف: كل ما ندب إليه الشرع من(28/150)
المحسنات، ونهى عنه من المستقبحات. والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به، تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. فَبايِعْهُنَّ أي إذا بايعنك فبايعهن، أي فالتزم لهن بضمان الثواب حال الوفاء بهذه الأشياء. وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ اطلب لهن المغفرة.
قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عامة الكفار، أو اليهود إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود، ليصيبوا من ثمارهم. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ لكفرهم بها، أو لعلهم بأنه لا حظ لهم فيها لمعاندة الرسول صلى الله عليه وسلم. كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من موتاهم أن يبعثوا، أي يرجعوا أحياء.
سبب النزول:
نزول الآية (12) :
نزلت يوم الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء.
أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ- إلى قوله-: غَفُورٌ رَحِيمٌ فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك» كلاما، ولا، والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك» .
وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنّ بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتكن، ولا والله ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله، ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكنّ كلاما» .(28/151)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن.
وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: «ألا نشرك بالله شيئا- حتى بلغ- ولا يعصينك في معروف» فقال: فيما استطعتنّ وأطقتنّ، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» «1» .
وزاد أحمد في رواية: «ولم يصافح منا امرأة» .
نزول الآية (13) :
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادّان رجلا من يهود، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.
المناسبة:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايع النساء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً.. الآية: أي إذا جاءك المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك ويقصدن مبايعتك على الإسلام والطاعة، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن
__________
(1) ورواه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم.(28/152)
أو حجر أو ملك أو بشر، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا، ولا يزنين (والزنى: الاعتداء على الأعراض) ولا يقتلن أولادهن: أي ولا يئدن البنات، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا لهم، قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك.
فكان هذا من البهتان والافتراء.
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: وهو كل أمر وافق طاعة لله، أي كل ما أمر به الشرع، أو نهى عنه، كالنهي عن النّوح، وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، والخلوة بالأجنبي غير المحرم، فبايعهن، واطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة منك، إن الله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، فلا يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام، ويجزل لهم الثواب إذا وفّين بهذا العهد الذي حدث في فتح مكة.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: أبا يعكن على ألا تشركن بالله شيئا، قالت هند بنت عتبة، وهي منتقبة، خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعته بحمزة يوم أحد: والله ما عبدنا الأصنام، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط، فقال صلى الله عليه وسلم:
«ولا تسرقن» فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا؟ فقال أبو سفيان: هو لك حلال، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها، وقال:
«أنت هند؟» فقالت: عفا الله عما سلف.
فقال: «ولا تزنين» فقالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: «ولا تقتلن أولادكن» أي لا تئدن البنات ولا تسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر أو أعلم. فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى، وكان ابنها البكر حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(28/153)
فقال: «ولا تأتين ببهتان تفترينه» وهو أن تلصق بزوجها ما ليس منه، فقالت هند: والله، إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: «ولا تعصينني في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
وتحريم الزنى عام،
قال صلى الله عليه وسلم: «اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرّجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذّبه» «1» .
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم النواح،
فقال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» «2» .
وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: ألا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين ... » الآية، قال: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرّي أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت:
نعم، فبايعها بالآية» .
ولم تقتصر بنود بيعة النساء عليهن، وإنما بويع بها الرجال أيضا.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا» قرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب، فهو كفارة
__________
(1)
رواه مسلم عن أبي هرير بلفظ: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وأخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ آخر.
(2) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.(28/154)
له، ومن أصاب من ذلك شيئا، فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له منها» .
وروى محمد بن إسحاق وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: فإن وفيتم فلكم الجنة» .
ثم أكد تعالى النهي عن موالاة الكفار كما بدأ السورة، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم ولعنهم واستحقوا الطرد والإبعاد من رحمته، أولياء وأنصارا وأصدقاء، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة بسبب كفرهم وعنادهم، بالرغم من قيام الأدلة والبينات والمعجزات على الإيمان بالله واليوم الآخر، كيأسهم من بعث موتاهم، لاعتقادهم عدم البعث.
قال ابن عباس: يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول: لا تتولوا اليهود والمشركين، وذلك لأن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم، فنهوا عن ذلك، ويئسوا من الآخرة. يعني أن اليهود كذبت محمدا صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه، فهم يئسوا من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أي كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.(28/155)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على تحريم الشرك بالله، والسرقة، والزنى، وقتل الأولاد، أي وأد البنات الذي كان في الجاهلية، وإلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم، وعصيان شرع الله فيما أمر ونهى.
وقد صرح في الآية بأركان النهي في الدين وهي ستة، ولم يذكر أركان الأمر، وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة، لأن النهي دائم في كل الأزمان وفي كل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد وأهم وأخطر. ولم تقتصر البيعة على هذه الأمور على النساء فقط، وإنما بويع عليها وفد من الأنصار في بيعة العقبة الأولى، فأصبح الحكم عاما للرجال والنساء.
وأكدت الآية الثانية تحريم موالاة الكفار وتزويدهم بأخبار المسلمين، والإسرار إليهم، واتخاذهم أصدقاء وأخلاء، لأنهم لا يؤتمنون على مصالح المسلمين، بل يخونونهم ويفيدون من ذلك في قتالهم ومعاداتهم، ولأنهم قوم كفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بالبعث والحساب، ويئسوا من ثواب الآخرة، كما يئس الكفار الأحياء من رجوع موتاهم أصحاب القبور إلى الدنيا.(28/156)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
مدنيّة، وهي أربع عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الصف، لقوله تعالى في مطلعها: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [4] .
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
1- نهت السورة السابقة في مطلعها وأثنائها وختامها عن موالاة الكفار من دون المؤمنين، وأمرت هذه السورة بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا تجاه الأعداء.
2- ذكرت السورة المتقدمة أحكام العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة الإسلامية وخارجها، وقت السلم، وحرضت هذه السورة على الجهاد ورغبت فيه بسبب العدوان، وأنّبت التاركين للقتال وشبهتهم ببني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه السلام حين ندبهم للقتال، ثم عصوا عيسى عليه السلام حين أمرهم باتباعه بعد إتيانه بالبينات والمعجزات، واتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به.(28/157)
ما اشتملت عليه السورة:
إن محور السورة وموضوعها هو القتال وجهاد الأعداء، والتضحية في سبيل الله تعالى، وبيان ثواب المجاهدين العظيم، وذلك من الأحكام التشريعية التي تعنى بها السور المدنية عادة.
وقد بدئت السورة بتسبيح الله سبحانه وتنزيهه وتمجيده تنبيها لعظمة منزلها، وبيان خطورة ما ترشد إليه من وجوب الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، ووقوفها صفا واحدا في قتال الأعداء، لرفع منار الحق، وإعلاء كلمة الله تعالى، ثم لوم الذين يخالفون بعملهم أقوالهم.
ثم حذرت من الفرقة والعصيان والمخالفة شأن بني إسرائيل الذين عصوا أمر موسى وعيسى عليهما السلام حينما أمرهم موسى بقتال الجبارين، وأمرهم عيسى باتباعه واتباع الرسول أحمد صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده وتلك بشارة به: وَإِذْ قالَ مُوسى.. وَإِذْ قالَ عِيسَى.. الآية، ثم ضربت المثل للمشركين بمن يريد إطفاء نور الله بأفواههم: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ...
وأردفت ذلك بالبشارة والإخبار بنصرة الإسلام ودعوته وتفوقه وغلبته على سائر الأديان، فهو دين الهدى والحق.
ثم رسمت طريق الهدى، وأوضحت منهاج السعادة الكبرى وسبيل النجاة من العذاب الأخروي بإعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وبيان ثمرة الجهاد وهو النصر في الدنيا وثواب المجاهدين في الآخرة، وأكدت ذلك بالأمر بنصرة دين الله عز وجل، كمناصرة الحواريين دين عيسى عليه السلام: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. الآيات، وبالدعوة إلى نصرة دين الله يتناسب ختام السورة مع بدايتها.(28/158)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا رجلا، فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها.
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام أيضا قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه، فأنزل الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال عبد الله بن سلام، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدعوة إلى القتال في سبيل الله صفا واحدا
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
الإعراب:
كَبُرَ مَقْتاً مَقْتاً: تمييز منصوب، وفاعل كَبُرَ يفهم بالتفسير، وتقديره: كبر المقت مقتا، مثل كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف 18/ 5] . وأَنْ تَقُولُوا مرفوع على الابتداء، وكَبُرَ مَقْتاً: خبر مقدم، وتقديره: قولكم ما لا تفعلون كبر مقتا، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن تقولوا ما لا تفعلون، أو هو فاعل كَبُرَ.(28/159)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ صَفًّا: منصوب على المصدر في موضع الحال، وكَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ: في موضع نصب على الحال من واو يُقاتِلُونَ أي يقاتلون مشبهين بنيانا مرصوصا.
البلاغة:
لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ استفهام بأسلوب التوبيخ والإنكار، وما في قوله لِمَ استفهامية حذفت ألفها تخفيفا.
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بعد قوله: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ إطناب بتكرار اللفظ لبيان شدة قبح ما فعلوا. وقوله: تَقُولُوا وتَفْعَلُونَ بينهما طباق.
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ تشبيه مرسل مفصّل، حذف منه وجه الشبه، أي في المتانة والالتئام.
المفردات اللغوية:
سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه ومجده ودل عليه، واللام مزيدة. ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جيء بقوله ما وليس (من) تغليبا للأكثر. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب القاهر في ملكه. الْحَكِيمُ
في صنعه وتدبير أمور خلقه.
لِمَ تَقُولُونَ لِمَ مركبة من لام الجر وما الاستفهامية، والأكثر حذف ألفها مع حرف الجر تخفيفا لكثرة استعمالهما معا ودلالتهما على المستفهم عنه، أي لأي شيء تقولون: قد فعلنا، مع أنكم لم تفعلوا، والمقصود التأنيب والتوبيخ على المغالطة والكذب في طلب الجهاد وغيره، مع أنهم انهزموا يوم أحد. كَبُرَ عظم. مَقْتاً المقت: أشد البغض. يُحِبُّ يرضى ويكرم وينصر. صَفًّا أي صافين. مَرْصُوصٌ متراص من غير فرجة أو متلاصق محكم، والرص:
اتصال أجزاء البناء وإحكامه.
سبب نزول الآية (1، 2) :
أخرج الترمذي كما تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ فقرأها(28/160)
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ختمها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه
، قال:
كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيه صلى الله عليه وسلّم، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله الآية «1» .
ويؤيد ذلك قول عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله، لعملناه، فلما نزل الجهاد كرهوه.
التفسير والبيان:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي نزّه الله ومجده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله جميع ما في السموات وما في الأرض من العقلاء وغير العقلاء، وهو القوي الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، وفي تدبير خلقه وتصريف أمورهم وإرشادهم.
وفيه الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات، ثم أرشد خلقه إلى فضائل الأخلاق والأعمال، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لأي شيء تقولون قولا وتخالفونه عملا. وهذا إنكار على من يعد وعدا، أو يقول قولا لا يفي به، قال ابن كثير: ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا من السنة بما
ثبت في الصحيحين أن
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 358(28/161)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان» .
وفي الحديث الآخر في الصحيح: «أربع من كنّ فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها»
فذكر منهن إخلاف الوعد.
وذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أنه إذا أدخل الواعد الموعود به في ورطة، وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: تزوج ولك علي كل يوم كذا، فتزوج وجب عليه أن يعطيه، ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب ديانة مطلقا الوفاء بالوعد، وإن كان يجب ديانة ومروءة، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء 4/ 77- 78] وقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد 47/ 20] .
ثم ذمّهم سبحانه على مخالفة القول العمل، فقال:
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ أي عظم جرما أن تقولوا قولا وتفعلون غيره، فإن خلف الوعد دليل على حب الذات (الأنانية) وإهدار لمصلحة وكرامة ووقت الآخرين، وإخلال بالثقة بين الأفراد والجماعات،(28/162)
وما أسوأ خلف الوعد وأقبح بصاحبه، لذا كان مبغوضا عند الله أشد البغض ومعاقبا عليه، كما هو مبغوض مستنكر مذموم عند الناس جميعا.
وفي مقابل ذم التاركين للقتال الهاربين منه، مدح الله تعالى الذين أقدموا على القتال، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي إن الله يرضى عن المقاتلين، ويثيب ثوابا جزيلا الذين يقاتلون في سبيل الله، صافّين أنفسهم صفا واحدا، وكتلة متراصة لا تتزحزح من المواقع، كأنهم بناء راسخ شامخ ملتزق بعضه ببعض دون فرج كقطعة واحدة.
وهذا تعليم من الله للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم، وحث على الجهاد بأسلوب آخر، ودليل على قوتهم وشدتهم في أمر الله، دون تراخ فيهم، وإشارة إلى إحكام أمر القتال، وتنفيذ مهمة الجهاد بدقة وإتقان، وتضامن واجتماع حازم على وحدة الكلمة، وإمضاء الأمر بعزيمة لا تعرف اللين، وهمة لا تردد فيها، ولقاء للعدو بقلوب ثابتة راسخة لا تخاف ولا تخشى الموت. وهكذا تبني الأمم القوية أمجادها، وتثبت هيبتها وشخصيتها الذاتية، وتنتزع احترام الآخرين لها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن تسبيح الله وتنزيهه وتمجيده من جميع ما في السموات وما في الأرض دليل على الربوبية والوحدانية والعظمة والقدرة والاتصاف بجميع صفات الكمال.
2- توجب آية: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً ... على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا.(28/163)
والملتزم قسمان:
أحدهما- النذر: وهو نوعان: نذر تقرّب مبتدأ، كقوله: لله علي صوم وصلاة وصدقة، ونحوه من القرب، فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح معلق على شرط، مثل إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو إن كفاني الله شرّ كذا فعلي صدقة، فقال أكثر العلماء: يلزمه الوفاء به. ورأى بعضهم أنه لا يلزمه الوفاء به، والآية حجة للأكثرين، لأنها بمطلقها تتناول ذمّ من قال ما لا يفعله، على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. ويري الشافعي أن نذر اللجاج والغضب لا يجب الوفاء به، وهو ما لا يقصد به النذر والقربة، مثل: إن كلمت فلانا فلله علي صوم أو نحوه.
والثاني- الوعد: فإن كان متعلقا بسبب، كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت شيئا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا، فقيل: يلزم، عملا بسبب نزول الآية المتقدم، وقيل: لا يلزم، قال ابن العربي والقرطبي: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر «1» .
3- إن خلف الوعد مذموم شرعا، مستوجب للإثم والمؤاخذة، أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم.
4- يرضى الله سبحانه عن الذين يقاتلون في سبيله صفا واحدا، وهذا يدل على وجوب الثبات في الجهاد في سبيل الله، ولزوم المكان كثبوت البناء.
ولا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو لأداء رسالة يرسلها الإمام أو القائد، أو لمنفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1788، تفسير القرطبي: 18/ 79(28/164)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
فيها، أو للخروج للمبارزة إذا طلبها العدو، كما كانت حروب النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر وفي غزوة خيبر.
التذكير بقصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
الإعراب:
وَقَدْ تَعْلَمُونَ في موضع الحال.
يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ جملة يَأْتِي: جملة فعلية في موضع جر، لأنها صفة لرسول. واسْمُهُ أَحْمَدُ جملة اسمية من المبتدأ والخبر في موضع جر، لأنها صفة بعد صفة.
لِيُطْفِؤُا منصوب بأن مقدرة، واللام مزيدة.
البلاغة:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ استعارة، شبّه من أراد إبطال الدين بمن أراد إطفاء الشمس بفمه، واستعار نور الله لدينه وشرعه.
الْفاسِقِينَ مُبِينٌ الظَّالِمِينَ.. إلخ سجع لطيف مقبول.(28/165)
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ مُوسى أي واذكر حين قال، وهو كلام مستأنف مقرر لما قبله من ذم التاركين للقتال والمخالفين أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالعصيان ومخالفة أمري إذ تركتم القتال، ومن الأذى أيضا الرمي بالأدرة، أي بانتفاخ الخصية، وهو كذب وافتراء. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بما جئتكم من المعجزات، وفائدة قَدْ تأكيد العلم، لا تقليله، كأنه قال:
وتعلمون علما يقينيا لا شبهة لكم فيه، وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم، إذ عكسوا القضية، وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إيذاءه. زاغُوا مالوا عن الحق والهدى الذي جاء به موسى بإيذائه.
أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أمالها عن الهدى وصرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يوفق إلى معرفة الحق أو إلى الجنة القوم الكافرين الخارجين عن الطاعة.
وَإِذْ قالَ عِيسَى أي واذكر. يا بَنِي إِسْرائِيلَ لم يقل: يا قوم، لأنه لم يكن له فيهم قرابة. لِما بَيْنَ يَدَيَّ لما تقدمني أو قبلي من الكتب كالتوراة والزبور. أَحْمَدُ من أسماء النبي صلى الله عليه وسلّم، أي أحمد الناس لربه. فَلَمَّا جاءَهُمْ جاء أحمد الناس الكفار. بِالْبَيِّناتِ الأدلة والعلامات والمعجزات. قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي قالوا: هذا المجيء به سحر بيّن. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين، أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا أي يريدون أن يطفئوا، واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا. نُورَ اللَّهِ شرعه ودينه أو كتابه والحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم. بِأَفْواهِهِمْ بأقوالهم: إنه سحر وشعر وكهانة. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مظهر دينه وناشره في الآفاق. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذلك الانتشار الشامل لدعوة الإسلام إرغاما لهم.
بِالْهُدى بالقرآن أو المعجزة. وَدِينِ الْحَقِّ الملة الحنيفية. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جميع الأديان. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لما فيه من الدعوة إلى التوحيد المحض، وإبطال الشرك.
سبب النزول: نزول الآية (8) :
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا..: حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره،(28/166)
فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واتصل الوحي بعدها «1» .
المناسبة:
بعد الحث على الجهاد وتأنيب المتخلفين عنه، التاركين للقتال، ذكّر الله المؤمنين بقصة موسى عليه السلام مع قومه حين دعاهم إلى قتال الجبارين بقوله:
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ... [المائدة 5/ 21] فخالفوه وعصوا أمره، كيلا يفعلوا بنبيهم مثلما فعل به بنو إسرائيل. ثم ذكّرهم أيضا بقصة عيسى عليه السلام مع بني إسرائيل أيضا حين جاءهم بالبينات والمعجزات وبشرهم بمجيء رسول من بعده اسمه أحمد، فعصوه ولم يمتثلوا أمره. وقرنت القصتان هنا لأن كلّا من موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل، ولأن المخالفين هم أنفسهم.
ثم شنع على هؤلاء العصاة الذين لم يستجيبوا لدعوة النبي إلى الإسلام، وإنما افتروا على الله الكذب بوصف المعجزات بأنها سحر، ثم ذكر غرضهم من الافتراء وهو محاولة إبطال دين الله وإطفاء نوره وشرعه، والحال أن الله متم نوره، ومظهر دينه على الأديان كلها.
التفسير والبيان:
يحذر الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلّم من مخالفة أمر نبيهم بأن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما، فيقول:
- وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أي واذكر يا محمد لقومك خبر موسى بن عمران عليه السلام حين قال لقومه بني إسرائيل: يا قوم لم تلحقون الأذى بي بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، وأنتم تعلمون يقينا
__________
(1) تفسير القرطبي 18/ 85(28/167)
صدقي فيما جئتكم به من الرسالة، والرسول يحترم ويعظّم، وقد شاهدتم معجزاتي التي توجب الاعتراف برسالتي.
وهذا تعليم للمؤمنين ونهي لهم من إيذاء نبيهم كما أوذي موسى عليه السلام، كما جاء في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب 33/ 69] وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا
قال: «رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي وإنهم لما تركوا الحق ولم يتبعوا نبيهم وآذوه، أمال الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن الحق، وأسكنها الشك والحيرة، جزاء بما ارتكبوا، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 110] .
والله لا يوفق للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم، وعصوا رسلهم، وهؤلاء من جملتهم.
- وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي واذكر يا محمد أيضا لقومك خبر عيسى إذ قال: يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم بالإنجيل، لم آتكم بشيء يخالف التوراة، وإنما أؤيدها وأكملها، فكيف تعصونني وتنفرون عني وتخالفونني؟! وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ أي إن التوراة قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد: وهو الذي يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره.(28/168)
وهو خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، كما أن عيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل.
أورد البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي- أي بعدي-، وأنا العاقب»
أي الآخر الآتي بعد الأنبياء.
وروى مسلّم وأبو داود الطيالسي عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه أسماء، منها ما حفظنا، فقال: «أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة» .
وعن كعب الأحبار: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة محمد، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل.
وجاء في الفصل العشرين من السّفر الخامس من التوراة: «أقبل الله من سينا، وتجلّى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه الربوات الأطهار عن يمينه» . وسينا مهبط الوحي على موسى، وساعير مهبط الوحي على عيسى، وفاران جبال مكة مهبط الوحي على محمد.
وجاء في إنجيل يوحنا في الفصل الخامس عشر: قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي، يعلمكم كل شيء، والفارقليط: لفظ يدل على الحمد، وهو إشارة إلى أحمد ومحمد اسمي النبي صلى الله عليه وسلّم.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي حين جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالأدلة والمعجزات القاطعة، قال الكفرة والمخالفون: هذا(28/169)
الذي جئت به سحر واضح لا شك فيه. وقيل: المراد لما جاءهم عيسى بالمعجزات، قالوا: هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر.
ثم ذكر الله تعالى حكم المعارضين المخالفين الذين دعوا إلى الإسلام وتوحيد الله، فقال:
- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص، والله لا يرشد للحق والصواب الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم، وهؤلاء منهم.
- يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي إن هؤلاء الكفار يحاولون جاهدين إبطال دعوة الإسلام، ومنع هدايته، ومقاومة دعوته بأفواههم الكاذبة، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل، كذلك إبطال دعوة الإسلام مستحيل، ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي والله مظهر دين الإسلام في الآفاق، ويعليه على غيره من الأديان، ومؤيد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولو كره الكافرون ذلك.
- هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أي إن الله عز وجل هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى الكامل، ودين الحق الأبلج الواضح، المتمثل بالقرآن والسنة النبوية، ليجعله متفوقا منتصرا على جميع الأديان، عاليا عليها، غالبا بالمنطق والواقع لها، ولو كره المشركون ذلك، فإنه كائن لا محالة.
وإنما قال أولا: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وهم اليهود والنصارى والمشركون، ثم قال: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه، فكان اللائق به(28/170)
الكفر: وهو الستر والتغطية، ثم ذكر الرسول والإرسال ودين الحق، وكان الاعتراض عليه أولا من المشركين، ولأن أكثر الحاسدين للرسول صلى الله عليه وسلم من قريش، وهم المشركون. ولما كان النور أعم من الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، ناسبه ذكر الكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام، ولفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، والرسول والدين أخص من النور، فناسبه ذكر المشركين الذين هم أخص من الكافرين «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن مخالفة أوامر الأنبياء والرسل موجبة لعقاب المخالفين، وقد أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يذكر لقومه العرب أنه لما أمر المؤمنون بالجهاد، فتثاقل بعضهم وتبرموا منه، كان حالهم كحال بني إسرائيل لما أمرهم موسى وعيسى بالتوحيد والجهاد في سبيل الله، خالفوا، فحل العقاب بمن خالف.
2- يريد الله الخير لعباده، ولا يضل أحدا بغير موجب، فلا يضل المهتدين، وإنما يضل الظالمين والفاسقين، ولما زاغ بنو إسرائيل (مالوا عن الحق) أزاغ الله قلوبهم، أي أمالها عن الهدى وعن الطاعة والإيمان والثواب.
3- نزل الإنجيل على عيسى عليه السلام متمما للتوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، فلم يأتهم عيسى بشيء يخالف التوراة، فينفروا عنه، وقد بشرت التوراة بعيسى، وبشر عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر منطقي، لأن رسالات الأنبياء صلوات الله عليهم كلهم يكمل بعضها بعضا، فهي من مصدر واحد، وذات غاية واحدة تنحصر في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والإيمان بالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر.
__________
(1) تفسير الرازي: 29/ 315- 316(28/171)
4- سمى الله نبينا صلى الله عليه وسلم باسمه قبل أن يسمّي به نفسه، ومعنى (أحمد) أنه أحمد الحامدين لربه، والأنبياء عليهم السلام كلهم حامدون لله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. ومحمد: هو الذي حمد مرة بعد مرة، واسمه صادق عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه، ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فشرفه بالنوبة، فلذلك تقدم اسم (أحمد) على (محمد) في بشارة عيسى عليه السلام: اسْمُهُ أَحْمَدُ.
وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد.
5- كل من عيسى ومحمد عليهما السلام لما جاء بالبينات أي المعجزات والأدلة على النبوة، قال المعارضون: هذا سحر مبين.
6- إن الكفر بعيسى ومحمد عليهما السلام بعد المعجزات التي ظهرت لهما، أمر يدعو إلى العجب، والكافرون برسالات الأنبياء، المنكرون لوجود الله، أو المشركون به أحدا من خلقه هم أظلم الناس على الإطلاق.
7- كل محاولات الكفرة لإبطال دين الله تعالى ومقاومة دعوة الإسلام بالإنكار والتكذيب خائبة خاسرة، ومثلهم في إرادة إبطال الحق مثل من أراد إطفاء نور الشمس بفيه، فوجده مستحيلا ممتنعا.
8- الله متم نوره بقدرته وتدبيره، ومعلن دينه بإظهاره في الآفاق، ولو كره الكافرون جميعا ذلك.
9- أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق والرشاد، ليعليه على جميع الأديان بالحجج، ولو كره المشركون قاطبة ذلك. وقال أبو هريرة: «ليظهره على الدين كله» بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينزلن ابن مريم حكما عادلا،(28/172)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنزير، وليضعنّ الجزية، ولتتركنّ القلاص «1» ، فلا يسعى عليها، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال، فلا يقبله أحد» .
التجارة الرابحة
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
الإعراب:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ خبر معناه الأمر، أي آمنوا، بدليل قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بجزم يَغْفِرْ على الجواب، وتقديره: آمنوا، إن تؤمنوا يغفر لكم، ولولا أنه في معنى الأمر، لما كان للجزم وجه.
وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ.. أُخْرى: إما في موضع جر عطفا على قوله:
تِجارَةٍ وتقديره: وعلى تجارة أخرى، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. وإما في موضع رفع على الابتداء، أي ولكم خلة أخرى. والوجه الأول أوجه. وتُحِبُّونَها: جملة فعلية في موضع جر أو رفع، لأنها وصف بعد وصف. ونَصْرٌ مِنَ اللَّهِ: خبر مبتدأ محذوف، أي هي نصر من الله.
__________
(1) القلوص جمع قلص وقلائص وهي الناقة الشابة، وجمع القلص: قلاص.(28/173)
فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ ظاهِرِينَ: خبر (أصبح) المنصوب.
البلاغة:
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ؟ استفهام للترغيب والتشويق.
فَآمَنَتْ طائِفَةٌ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
تِجارَةٍ التجارة هنا: العمل الصالح، وهي في الأصل: تداول البيع والشراء لأجل الكسب. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ.. أي تدومون على الإيمان، وهو كلام مستأنف مبين لنوع التجارة وهو الجمع بين الإيمان والجهاد، والمراد به الأمر، أي آمنوا، وإنما جيء بلفظ الخبر إيذانا بأن ذلك مما لا يترك. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما ذكر من الإيمان والجهاد. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم، إذ الجاهل لا يعتد بفعله.
يَغْفِرْ جواب للأمر المراد من الخبر: تُؤْمِنُونَ أو جواب الشرط المقدر أي إن تفعلوه يغفر. طَيِّبَةً طاهرة خالصة. جَنَّاتِ عَدْنٍ بساتين إقامة دائمة. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.
وَأُخْرى أي ولكم نعمة أخرى أو يؤتكم نعمة أخرى. تُحِبُّونَها فيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وَفَتْحٌ قَرِيبٌ نصر عاجل، وهو فتح مكة. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والفتح، وهو معطوف على محذوف وهو: قل: يا أيها الذين آمنوا، أو على تُؤْمِنُونَ الذي هو في معنى الأمر، أي آمنوا وجاهدوا وبشرهم يا رسول الله بما وعدتهم عليهما عاجلا وآجلا.
كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي بعض أنصار الله أي الناصرين لدينه، أي قل لهم كما قال عيسى.
لِلْحَوارِيِّينَ أصفياء عيسى وخواصه، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا، والحواري:
صفي الرجل وخليله، من الحور: البياض الخالص. مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من جندي متوجها إلى نصرة الله. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ آمنت جماعة بعيسى عليه السلام، وقالوا: إنه عبد الله رفع إلى السماء. وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ بعيسى، لقولهم: إنه ابن الله رفعه إليه، فاقتتلت الطائفتان. فَأَيَّدْنَا قوّينا وساعدنا، أي بالحجة أو بالحرب، وذلك بعد رفع عيسى.
الَّذِينَ آمَنُوا من الطائفتين. عَلى عَدُوِّهِمْ الطائفة الكافرة. ظاهِرِينَ غالبين بالحجة والبينة.(28/174)
سبب النزول:
نزول الآية (10) :
هَلْ أَدُلُّكُمْ..: أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. الآية، فكرهوا الجهاد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن ابن عباس، وابن جرير عن الضحاك قال: أنزلت: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن والقتل.
نزول الآية (11) :
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال المسلمون: لو علمنا ما هذه التجارة، لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
المناسبة:
بعد حث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وتحذيرهم من المخالفة، حتى لا يكونوا أمثال بني إسرائيل الذين خالفوا موسى وعيسى، ذكر الله تعالى أن التجارة الرابحة التي لا تبور هي في الإيمان بالله والجهاد في سبيله بالمال والنفس.
ثم حث على مناصرة دين الله تعالى وشرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ناصر الحواريون عيسى عليه السلام.(28/175)
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة، تحققون بها النجاح والنجاة من العذاب الشديد المؤلم يوم القيامة؟
وهذا أسلوب فيه ترغيب وتشويق، وقد جعل العمل الصالح لنيل الثواب العظيم بمنزلة التجارة، لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، ونوع التجارة كما بيّنت الآيتان التاليتان، ومعناهما أن الإيمان والجهاد ثمنهما من الله الجنة، وذلك بيع رابح، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة 9/ 111] .
ثم بين نوع التجارة بقوله:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي هي أن تدوموا على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتخلصوا العمل لله، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه بالأنفس والأموال. وقدم تعالى الأموال، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي ذلك المذكور من الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من أموالكم وأنفسكم، ومن تجارة الدنيا والاهتمام بها وحدها، إن كنتم من أهل العلم والوعي للمستقبل، فإن المهم هو النتائج والغايات، ولا يدرك تلك الغاية النبيلة أهل الجهل.
والجهاد نوعان: جهاد النفس: وهو منعها عن الشهوات، وترك الطمع والشفقة على الخلق ورحمتهم، وجهاد العدو: وهو مقاومة الأعداء ورد عدوانهم من أجل نشر دين الله تعالى.(28/176)
ثم ذكر ثمرة الإيمان والجهاد، فقال:
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم، غفرت لكم ذنوبكم، وأدخلتكم الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار، والمساكن الطيبات للنفوس، والدرجات العاليات في جنات الإقامة الدائمة التي لا تنتهي بموت ولا خروج منها، وذلك المذكور من المغفرة وإدخال الجنات هو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده. وهذه هي الفائدة الأخروية.
ثم ذكر الله تعالى الفائدة الدنيوية بقوله:
وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي ولكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم هي نصر مبين من الله لكم، وفتح عاجل للبلاد كمكة وغيرها من فارس والروم، أي إذا قاتلتم في سبيل الله، ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] وقال سبحانه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج 22/ 40] .
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي وبشر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
ثم أمرهم الله تعالى بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل وقت، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، دوموا على ما أنتم عليه من نصرة دين الله وتأييد شرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال، والأنفس والأموال،(28/177)
واستجيبوا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح وخلصاؤه) لعيسى حين قال لهم: من الذي ينصرني ويعينني في الدعوة إلى الله عز وجل، ومن منكم يتولى نصري وإعانتي فيما يقرب إلى الله، أو من أنصاري متجها إلى نصرة الله؟
قال الحواريون: وهم أنصار المسيح وخلّص أصحابه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا: نحن أنصار دين الله، ومؤيدوك ومؤازروك فيما أرسلت به، فبعثهم دعاة إلى دينه في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين.
وهكذا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في أيام الحج: «من رجل يؤويني حتى أبلّغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ رسالة ربي؟» حتى قيّض الله الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه على نشر دينه في بلدهم.
فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أي لما بلّغ عيسى رسالة ربه إلى قومه، وآزره الحواريون، اهتدت طائفة من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه عبد الله ورسوله، وضلّت طائفة أخرى، وكفرت بعيسى، وجحدوا نبوته، واتهموه وأمه بالفاحشة، وتغالت جماعة أخرى من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، فوصفوه بأنه ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة: الأب والابن وروح القدس. وصارت النصارى فرقا وأحزابا كثيرة.
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي فنصرنا المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى، وقوّينا المحقّين منهم بالحجة والروح من عندنا على المبطلين، فأصبحوا عالين غالبين عليهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر 40/ 51] .(28/178)
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قال: قد كان ذلك بحمد الله، جاءه سبعون رجلا، فبايعوه عند العقبة، وآووه ونصروه، حتى أظهر الله دينه.
وأخرج ابن إسحاق وابن سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة: «أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: «إنكم كفلاء على قومكم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل قومي، قالوا: نعم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- أرشد الله إلى التجارة الرابحة المنجّية المخلّصة من العذاب المؤلم في الآخرة، وهي الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس. قال مقاتل في آية: هَلْ أَدُلُّكُمْ..: نزلت في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أذنت لي فطلّقت خولة، وترهّبت واختصيت وحرّمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم، ومن سنتي أن أنام وأقوم وأفطر وأصوم، فمن رغب عن سنتي، فليس مني»
فقال عثمان: والله لوددت يا نبي الله، أي التجارات أحب إلى الله، فأتّجر فيها، فنزلت.
وهذا مع ما ذكر سابقا من حالات تعدد أسباب النزول.
2- الإيمان والجهاد خير من الأموال والأنفس في الواقع وعند تأمل الإنسان مستقبله، وتعمقه في الفكر، لذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم(28/179)
تعلمون أنه خير لكم، كان خيرا لكم، لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيرا.
3- إن جدوى الإيمان والجهاد في سبيل الله في الآخرة مغفرة الذنوب ودخول الجنات، والتمتع بالمساكن الطيبة الطاهرة في جنات إقامة دائمة، وتلك هي السعادة الدائمة الشاملة.
4- وللإيمان والجهاد فائدة أو مزية أخرى في الدنيا وهي الظفر والنصر على الأعداء، وفتح بلاد الأعداء كمكة وفارس والروم في الماضي، وبشارة المؤمنين برضا الله عنهم.
5- أمر الله تعالى بإدامة النصرة لدين الله تعالى والثبات عليه، كنصرة الحواريين (أصفياء) عيسى عليه السلام حين قال لهم: من ينصر دين الله ويؤازرني؟ فناصروه وآزروه.
6- اختلف بنو إسرائيل والنصارى في شأن عيسى بعد رفعه إلى السماء، فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر به، وصاروا ثلاث فرق: فرقة قالوا: كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المسلمون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس. ثم أيد الله الذين آمنوا بعيسى على أنه عبد الله ورسوله على الذين كفروا بعيسى، فأصبحوا غالبين.
ثم تأيدت الفئة الغالبة ببعثه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فظهرت على الكافرة.(28/180)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعة
مدنيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الجمعة لاشتمالها على الأمر بإجابة النداء لصلاة الجمعة، في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ....
مناسبتها لما قبلها:
يتضح وجه اتصال هذه السورة بما قبلها من نواح أربع هي:
1- ذكر تعالى في السورة التي قبلها حال موسى مع قومه، وإيذاءهم له، مؤنبا لهم، وذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته، تشريفا لهم، ليظهر الفرق بين الأمتين وفضل الأمة الاسلامية.
2- بشّر عيسى عليه السلام في السورة المتقدمة بمحمد أو أحمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر في هذه السورة أنه هو الذي بشّر به عيسى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.
3- ختم الله تعالى سورة الصف السابقة بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةً وختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أنه خير من التجارة الدنيوية.
4- في السورة المتقدمة أمر الله المؤمنين بأن يكونوا صفا واحدا في القتال،(28/181)
فناسب تعقيب سورة القتال بسورة صلاة الجمعة التي تستلزم الصف، لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات «1» .
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كالسور المدنية بيان أحكام التشريع، والهدف منها هنا بيان أحكام صلاة الجمعة المفروضة بدلا عن الظهر في يوم الجمعة.
بدأت السورة كسابقتها بتنزيه الله وتمجيده ووصفه بصفات الكمال. ثم أشادت بأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورحمة الله المهداة وهي عروبته وتلاوته آيات القرآن على قومه وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة، سواء في زمنه أم للأجيال المتلاحقة، وبيان كون ذلك فضلا من الله ونعمة ورحمة.
ثم نعت على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة، وتشبيههم بالحمار الذي يحمل على ظهره الكتب النافعة، ولكنه لا يفهم منها شيئا، ولا يناله إلا التعب، وذلك الشقاء بعينه.
ثم ذكرت طلب مباهلة اليهود إن كانوا أولياء الله بتمني الموت.
وختمت السورة بالحث على أداء صلاة الجمعة وإيجاب السعي لها بمجرد النداء الذي ينادى لها بالأذان والإمام على المنبر، وأباحت السعي وكسب الرزق عقب انتهاء الصلاة، وعاتبت المؤمنين الذين تركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب على المنبر، ومسارعتهم لرؤية قافلة التجارة.
فضلها:
روى مسلم في صحيحة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين.
__________
(1) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي: ص 84(28/182)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعرب والناس كافة
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
الإعراب:
رَسُولًا مِنْهُمْ مِنْهُمْ: في موضع نصب لأنه صفة ل «رسول» وكذلك قوله تعالى:
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وكذلك ما بعده من المعطوف عليه. وَإِنْ كانُوا إِنْ مخففة من الثقيلة، واللام تدل عليها، واسمها محذوف، أي وإنهم.
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وَآخَرِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو إما بالعطف على الهاء والميم في يُعَلِّمُهُمُ أو بحمل معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ على معنى «يعرفهم آياته» .
وأما الجر: فهو بالعطف على قوله تعالى: فِي الْأُمِّيِّينَ وتقديره: بعث في الأميين رسولا منهم وفي آخرين. و (من) في مِنْهُمْ للتبيين.
المفردات اللغوية:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ينزهه ويمجده، واللام زائدة ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ذكر ما دون. «من» تغليبا للأكثر. الْقُدُّوسِ المنزّه عما لا يليق به المتصف بصفات الكمال.
الْعَزِيزِ القوي القاهر الغالب الذي لا يغالب. الْحَكِيمِ في صنعه وتدبير خلقه، يضع الأمور في موضعها الصحيح. وقد قرئت الصفات الأربع بالرفع على المدح.
الْأُمِّيِّينَ العرب جمع أمي: وهو من لا يقرأ ولا يكتب، وصف العرب بذلك، لأن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون. والأمي: نسبة للأم التي ولدته. رَسُولًا مِنْهُمْ من جملتهم، فهو أمي مثلهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يتلو على العرب آيات القرآن، مع كونه أميّا مثلهم.
وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك ومن خبائث العقائد والأعمال. الْحِكْمَةَ الشريعة أي معالم(28/183)
الدين وأحكام القرآن. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي من قبل مجيئه لفي خطأ بيّن واضح، وهو الشرك وخبائث الجاهلية. وهذا بيان لشدة حاجتهم إلى نبي يرشدهم.
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ أي وغيرهم الآتين بعدهم، جمع آخر بمعنى: غير، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم القيامة. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يلحقوا بهم في السابقة والفضل. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي في ملكه وتمكينه من النبوة، الحكيم في صنعه واختياره. والاقتصار على الصحابة دليل على فضلهم على من عداهم من جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ ذلك الفضل المتميز لهذا النبي عن أقرانه فضله. يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ تفضلا وعطية للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يتضاءل دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
التفسير والبيان:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي ينزه الله ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته، كما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء 17/ 44] فهو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته، المنزّه عن النقائص وعن كل ما يخطر بالبال، الموصوف بصفات الكمال والقوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب، بليغ العزة والحكمة، المتقن في تدبير شؤون خلقه، الحكيم في كل شيء.
وبعد تنزيه الله نفسه وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بما تميز به من خصائص، فقال:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنه سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميين، إذ كان أكثرهم لا يحسن القراءة والكتابة، رسولا من جنسهم فهو أمي مثلهم، كما
قال- فيما يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر-: «إنا أمّة لا نكتب ولا نحسب»
وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت 29/ 48] .
ومع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم من أحد، كان يتلو على أمته(28/184)
آيات القرآن التي ترشدهم لخير الدنيا والآخرة، ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب وأخلاق الجاهلية، ويعلمهم القرآن والسنة والشرائع والأحكام وحكمتها، وإن كانوا في جاهليتهم في ضلال وخطأ واضح في العقيدة والتشريع والنظام، إذ كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدّلوه وغيّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركا ووثنية، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها، وغيّروها وأوّلوها.
فأرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشرع كامل شامل لجميع الخلق، لا إلى العرب وحدهم، فيه بيان جميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة إلى ما يقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى عليهم.
وتخصيص العرب الأميين بالذكر، لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم خاصة وإلى الناس عامة، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] وقوله سبحانه: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] .
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وبعث الله رسولا من العرب لأجيال آخرين من المؤمنين، سواء كانوا من العرب أو من غيرهم، كالفرس والروم، وهم من جاء بعد الصحابة من المسلمين إلى يوم القيامة، لم يلحقوا بهم في ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، والله هو القوي الغالب القاهر ذو العزّة والسلطان، القادر على التمكين لأمة الإسلام في الأرض، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وتدبير خلقه.
روى الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه سورة الجمعة، فتلاها،(28/185)
فلما بلغ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سليمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» «1» .
ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، لأنه فسر قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى اتباع ما جاء به.
وروى ابن أبي حاتم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ
يعني من يأتي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم أبان الله تعالى أن الإسلام وبعثة محمد فضل منه ورحمة، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده، والله صاحب الفضل العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، وهو ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
1- ينزه الله ويمجده ويقرّ بوجوده ووحدانيته وقدرته جميع الكائنات في السموات والأرض.
__________
(1) ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير.(28/186)
2- الغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي ثلاثة أمور: هي تلاوة آيات القرآن التي فيها الهدى والرشاد، وجعل أمته أزكياء القلوب بالإيمان، مطهرين من دنس الكفر والذنوب ومفاسد الجاهلية، وتعليم القرآن والسنة وما فيهما من شرائع وأحكام وحكم وأسرار.
3- كانت أمة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضياع وشتات وذهاب عن الحق.
4- وجه الامتنان بجعل النبي صلى الله عليه وسلم نبيا أميا ثلاثة أسباب كما قال الماوردي:
أحدها- موافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء، الثاني- مماثلة حاله لأحوال أمته، فيكون أقرب إلى موافقتهم، الثالث- انتفاء سوء الظن عنه في تبليغه وتعليمه ما أوحي إليه من القرآن والأسرار.
5- رسالة النبي صلى الله عليه وسلم غير خاصة بالعرب، وإنما هي عامة للناس جميعا في زمنه، وفي الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ.
6- إن الإسلام والوحي وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ولله الفضل الدائم على الناس في غير ذلك كالمال الذي ينفق في الطاعة والصحة والمعونة المستمرة،
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدّثور «1» بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون، ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبّحون
__________
(1) الدثور: الثياب والأمتعة والأموال الكثيرة.(28/187)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ «1» .
حال اليهود مع التوراة وتمني الموت
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
الإعراب:
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الكاف في كَمَثَلِ في موضع رفع، لأنها في موضع خبر المبتدأ، وهو مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا. ويَحْمِلُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، وتقديره: كمثل الحمار حاملا أسفارا.
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الَّذِينَ إما في موضع رفع بتقدير مضاف محذوف، تقديره بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا، فحذف مَثَلُ المضاف المرفوع وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما في موضع جر على أن يكون الَّذِينَ وصفا للقوم الذين كذبوا بآيات الله، ويكون المقصود بالذم محذوفا، وتقديره: مثلهم أو هذا المثل.
__________
(1) فسر أبو صالح الراوي عن أبي هريرة فضل الله: بأنه المال الذي ينفق في الطاعة.(28/188)
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ مُلاقِيكُمْ خبر إِنْ المرفوع، ودخول الفاء: إما لأنها زائدة، أو أنها غير زائدة، لتضمن الَّذِي معنى الشرط بسبب وقوعها وصفا، فدخلت في خبر الفاء كما تدخل في الشرط.
البلاغة:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، أي مثلهم في عدم الانتفاع بالتوراة، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب.
وليس له إلا التعب.
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بينهما طباق السلب.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
حُمِّلُوا التَّوْراةَ كلفوا العمل بها، من الحمالة: وهي الكفالة. لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها، فلم يؤمنوا بما جاء فيها من نعته صلى الله عليه وسلم. أَسْفاراً كتبا علمية عظيمة، سميت أسفارا، لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الذين كذبوا بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين.
هادُوا تهودوا. أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحبّاء له، إذا كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ تمنوا من الله أن يميتكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تعلق هذا الشرط والشرط الأول وهو إِنْ زَعَمْتُمْ بقوله: فَتَمَنَّوُا على أن الشرط الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنكم أولياء الله، والولي يؤثر الآخرة، ومبدؤها الموت، فتمنوه.
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما اقترفوا من الكفر والمعاصي، ومن ذلك كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الكافرين. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا حق بكم لا تفوتونه. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ السر والعلانية. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يجازيكم عليه.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد والنوبة، وأخبر أنه بعث الرسول العربي الأمي إلى الأميين العرب، فقال اليهود: إنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث لنا بمفهوم الآية، رد الله عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة، وأنهم لو عملوا(28/189)
بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بهذا الرسول، لانتفعوا بها وآمنوا به، ولم يقولوا هذا القول أو يوردوا هذه الشبهة، ومثلهم في عدم الانتفاع بتوراتهم وترك العمل بها مثل الحمار الذي يحمل الكتب، ولم يصبه إلا العناء والتعب.
ثم رد الله عليهم قولا آخر وشبهة أخرى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] ، بأنه لو كان قولهم حقا وهم على ثقة، لتمنوا على الله أن يميتهم، وينقلهم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه، مع أنهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدّموا من الكفر وتحريف الآيات.
التفسير والبيان:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي إن شبه اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، بعد أن كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها، فلم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها، كشبه الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره، وهو لا يدري الفرق بين الكتاب والزبل، لأنه لا فهم له، واليهود وإن كان لهم عقول وأفهام، فإنهم لم ينتفعوا بها فيما ينفعهم وفي إدراك الحقائق، لأنهم حفظوا اللفظ ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه بل أوّلوه وحرفوه وبدّلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير، لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، لذا وصفهم تعالى بقوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] . وقال تعالى هنا مبينا قبح هذا المثل:
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي ما أقبح ما يمثل به للمكذبين، وما أشنع هذا التشبيه، وهو تشبيه اليهود بحق بالحمار، فلا تكونوا أيها المسلمون مثلهم، والله لا يوفق للحق والخير القوم الكافرين على العموم، ومنهم اليهود بصفة أولى.
واختير الحمار في هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، والذل والحقارة. وقد(28/190)
فدم هذا تحذيرا للذين تركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر قائما يخطب وذهبوا إلى التجارة، وشبيه به كل من أعرض عن الخطبة، وهو يسمعها كما في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلّم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له:
أنصت، ليس له جمعة» .
ثم ذم الله تعالى اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة ذمّا آخر مناسبا للذم الأول، لأن شأن من لم يعمل بالكتاب أن يحب الحياة، فقال:
قُلْ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل أيها الرسول: أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم أولياء الله وأحباؤه من دون الناس، وأنكم على هدى، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ضلالة، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة في زعمكم، وادعوا بالموت على الضال من الفئتين، إن كنتم صادقين في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار.
وقد ذكرت هذه المباهلة (الملاعنة) وتحدي اليهود في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة 2/ 94] . كما ذكرت مباهلة النصارى في قوله سبحانه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 3/ 61] . ومباهلة المشركين في قوله عز وجل: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مريم 19/ 75] .
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيت محمدا عند الكعبة، لآتينه حتى أطأ على عنقه،(28/191)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا، ولا مالا» .
ثم كشف الله حقيقة أمر اليهود الماديين الذين يحبون الحياة ويكرهون الموت، وأنهم لن يتمنوه أبدا لسوء أفعالهم، فقال:
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي لن يتمنى اليهود الموت أبدا على الإطلاق، بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل، والله بالغ العلم، واسع الاطلاع على أحوال الكافرين، فيجازيهم بما عملوا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ويلاحظ أنه قال هنا: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بدون لفظ التأكيد، وفي سورة البقرة قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة 2/ 95] بلفظ التأكيد ونفي المستقبل.
قُلْ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي قل أيها النبي لهؤلاء اليهود: إن الموت الذي تهربون منه، وتأبون المباهلة فيه حبا في الحياة، هو آت إليكم حتما من الجهة التي تفرون منها، ثم ترجعون بعد موتكم إلى الله عالم الغيب في السموات والأرض، وعالم الحس المشاهد فيهما، فيخبركم بما أنتم عاملون من الأعمال القبيحة، ويجازيكم عليها بما أنتم له أهل. وهذا أيضا تهديد ووعيد، ومبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت.
ونظير الآية قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء 4/ 78] .(28/192)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي، مبيّنة ذم اليهود من ناحيتين:
1- إن مثل اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بالرغم من إخبار التوراة عنه، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة، ولا ينتفع بها، وما أقبح هذا المثل الذي شبّهوا به، والله لا يوفق للحق كل من كان ظالما لنفسه، كافرا بنعمة ربه.
2- إن كان اليهود صادقين في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأصفياؤه، فليطلبوا الموت ليصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله، لأن للأولياء عند الله الكرامة والحظوة.
3- لكن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما أسلفوا من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو تمنوه لماتوا،
جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- لما نزلت هذه الآية:
«والذي نفس محمد بيده، لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات» .
وفي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم.
4- غير أنه تعالى أخبر أن الموت الذي يفر منه هؤلاء اليهود بسبب ما قدمت أيديهم من تحريف الآيات وغيره آت حتما لا محالة، ولا ينفعهم الفرار، ثم يرجعون إلى الله ربهم العالم بكل شيء من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فيخبرهم بما فعلوا، ويجازيهم بما عملوا.(28/193)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
الإعراب:
إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ بمعنى (في) : في يوم الجمعة، ويقرأ الْجُمُعَةِ بضم الميم وسكونها وفتحها، بالضم على الأصل، والسكون على التخفيف، والفتح على نسبة الفعل إليها، كأنها تجمع الناس.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها كنى عن أحدهما دون الآخر، للعلم بأنه داخل في حكمه، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة 9/ 34] وقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة 2/ 45] .
البلاغة:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ثم قال: قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ تفنن في العبارة، فقدّم التجارة أولا، لأنها المقصود الأصلي، ثم قدّم اللهو، لأن الخسارة فيما لا نفع فيه أعظم، فقدم المهم في كل موضع.
وَذَرُوا الْبَيْعَ مجاز مرسل، أطلق البيع، وقصد جميع أنواع التعامل والانشغال من بيع وشراء وإجارة وشركة وغيرها.
المفردات اللغوية:
نُودِيَ لِلصَّلاةِ أذّن لها الأذان الثاني الذي كان يفعل أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس على المنبر قبل الخطبة. مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان ل إِذا وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه(28/194)
للصلاة، وكانت العرب تسميه (العروبة) أي الرحمة، وأول من سماه جمعة كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه، وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء، حينما قدم المدينة، وصلى الجمعة في دار بني سالم بن عوف. وأول من أقام الجمعة بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة. قال ابن حجر: فرضت الجمعة بمكة، ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفيا «1» .
فَاسْعَوْا فامشوا، وعبّر بالسعي إشارة إلى أنه يطلب من المسلم القيام للجمعة بهمّة ونشاط، وجد وعزيمة، لأن لفظ السعي يفيد الجد والعزم. إِلى ذِكْرِ اللَّهِ للصلاة. وَذَرُوا الْبَيْعَ اتركوا عقد البيع وسائر وجوه المعاملات. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله خير لكم من المعاملة، فإن نفع الآخرة خير وأبقى. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، فإن علمتم أنه خير فافعلوه.
قُضِيَتِ الصَّلاةُ أدّيت وفرغ منها. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي فتفرقوا، وهو أمر بعد حظر، فيفيد الإباحة لا الوجوب، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ اطلبوا الرزق. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً اذكروه في مجامعكم ومجالسكم ذكرا كثيرا.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بخير الدارين.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً التجارة تشمل كل أنواع الكسب، واللهو: الطبول والمزامير ونحوها. انْفَضُّوا إِلَيْها انصرفوا إلى التجارة، وإلى اللهو. وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر وأنت تخطب. قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب. خَيْرٌ للذين آمنوا من اللهو ومن التجارة، لأن ثواب الله محقّق مخلّد، بخلاف ما يتوهم من نفع اللهو والتجارة. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه، فكل ما ييسر الله للإنسان من رزق عائلته هو من رزق الله تعالى.
سبب النزول: نزول الآية (11) :
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً..: أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير «2» قد
__________
(1) تفسير الألوسي: 28/ 100
(2) العير: الإبل المحملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت. [.....](28/195)
قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً.
وأخرج ابن جرير عن جابر أيضا قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضّون إليها. وأخرج ابن المنذر عن جابر أن الآية نزلت في الأمرين معا: قصة النكاح، وقدوم العير معا من طريق واحد.
قال المفسرون: أصاب أهل المدينة أصحاب الضرار جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارة من الشام، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فخرج إليه الناس، فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم، لسال بكم الوادي نارا «1» .
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن اليهود يفرون من الموت حبا في الدنيا وطيباتها، أراد تعالى أن يربي المؤمنين ويوجههم للعمل في الدنيا ولما ينفع أيضا في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 17] . ثم ندّد تعالى بترك النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب، منصرفين للهو أو للتجارة، فمنهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته، ومنهم من انفض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها.
ثم أباح تعالى السعي في العمل ومكاسب الدنيا عقب انتهاء صلاة الجمعة، قال تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص 28/ 77] .
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 243(28/196)