|
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
الناشر : دار الفكر المعاصر - دمشق
الطبعة : الثانية ، 1418 هـ
عدد الأجزاء : 30
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة تفاسير]
عددها، ولكن قدموا لهن بعد الطلاق تطييبا لخاطرهن متعة وهي كسوة تليق بكم وبهن بحسب الزمان والمكان، وطلقوهن طلاقا لا ضرر فيه إذ ليس لكم عليهن عدة. والجمال في التسريح: ألا يطالبها بما آتاها.
وتخصيص المؤمنات بالذكر في الآية إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة، فإنها أشد تحصينا لدينه.
وقوله: فَمَتِّعُوهُنَّ قيل بأنه واجب مختص بالمفوّضة التي لم يسم لها مهر إذا طلقت قبل الدخول، وقيل: بأنه عام يشمل المفوضة وغيرها، والأمر إما أمر وجوب أو أمر ندب على حسب اختلاف العلماء، فمنهم من قال للوجوب، فيجب مع نصف المهر المتعة أيضا، ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتّعها مع الصداق بشيء.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات الأحكام التالية:
أولا- وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبع صفات أو أسماء، فهو الشاهد على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، وهو المبشر للمؤمنين برحمة الله وبالجنة، وهو المنذر للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد، وهو الداعي إلى الله بتبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة، وهو نور كالسراج الوضاء بشرعه الذي أرسله الله به، وهو الذي بشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى، وهو ذو شرع مستقل مطالب بألا يطيع الكافرين فيما يشيرون عليه من أنصاف الحلول والمداهنة في الدين والممالأة، لكنه مأمور أيضا أن يدع أذاهم مجازاة على إذايتهم إياه، فلا يعاقبهم، وإنما يصفح عن زللهم، معتمدا على الله وحده بنصر دينه وحفظه وتأييده وعصمته من الناس.
(22/50)
روى ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا ومعاذا فقال: «انطلقا، فبشّرا ولا تنفرا، ويسّرا ولا تعسّرا، فإنه قد نزل علي الليلة آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً- بالجنة- وَنَذِيراً- من النار- وَداعِياً إِلَى اللَّهِ- شهادة أن لا إله إلا الله- بِإِذْنِهِ- بأمره- وَسِراجاً مُنِيراً بالقرآن» .
ثانيا- قال القرطبي «1» : هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية تضمنت من أسمائه صلّى الله عليه وسلّم ستة أسماء، ولنبينا صلّى الله عليه وسلّم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة، وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد.
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما روى عنه الثقات العدول عند الطبراني عن جابر: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» .
وفي صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله رؤفا رحيما.
وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمّي لنا نفسه أسماء، فيقول: «أنا محمد وأحمد، والمقفّي (أي أنه آخر الأنبياء) ، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» .
وذكر القاضي ابن العربي في أحكامه (3/ 1534) بمناسبة هذه الآية سبعا وستين اسما للنبي صلّى الله عليه وسلّم هي:
الرسول، المرسل، النبي، الأمي، الشهيد، المصدّق، النور، المسلم، البشير، المبشّر، النذير، المنذر، المبين، الأمين «2» ، العبد، الداعي، السراج،
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 200
(2) مكرر مع ما بعده «أمين» ويكون النبيء والنبي اسمين.
(22/51)
المنير، الإمام، الذّكر، المذكّر، الهادي، المهاجر، العامل، المبارك، الرحمة، الآمر، الناهي، الطيب، الكريم، المحلّل، المحرّم، الواضع، الرافع، المخبر، خاتم النبيين، ثاني اثنين، منصور، أذن خير، مصطفى، أمين، مأمون، قاسم، نقيب، مزمّل، مدثّر، العليّ، الحكيم، المؤمن، المصدّق «1» ، الرؤوف، الرحيم، الصاحب، الشفيع، المشفّع، المتوكل، محمد، أحمد، الماحي، الحاشر، المقفي، العاقب، نبي التوبة، نبي الرحمة، نبي الملحمة، عبد الله، نبي الحرمين. ذكر ذلك أهل ما وراء النهر.
فالرسول: الذي تتابع خبره عن الله، وهو المرسل من ربّه، والمرسل غيره لتبليغ الشرائع إلى الناس مشافهة، والنبيء مهموز من النبأ وهو الخبر، وغير مهموز من النّبوة: وهو المرتفع من الأرض، فهو مخبر عن الله، رفيع القدر عنده، والأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب، والشهيد لشهادته على الخلق في الدنيا والآخرة، والمصدّق بجميع الأنبياء قبله، وصدّق ربه بقوله، وصدق قوله بفعله، والمنور الذي نور الله به الأفئدة بالإيمان والعلم، وبدد ظلمات الكفر والجهل، والمسلم خير المسلمين وأولهم، والبشير: الذي أخبر الخلق بثوابهم إن أطاعوا وبعقابهم إن عصوا، والنذير والمنذر: المخبر عما يخاف ويحذر، والمبين:
الذي أبان عن ربه الوحي والدين وأظهر الآيات والمعجزات، والأمين: الذي حفظ ما أوحي إليه وما وظف به، والعبد: الذي ذل لله خلقا وعبادة، والداعي الخلق إلى الحق وترك الضلال، والسراج: النور الذي يبصر به الخلق الرشد، والمنير: المنور، والإمام: المقتدى به المرجوع إلى قوله وفعله، والذّكر:
الشريف في نفسه، المشرّف غيره، والمذكّر: الذي يخلق الله على يديه الذّكر، أي تذكر الله، والهادي: الذي أبان النجدين، أي طريقي الخير والشر، والمهاجر: لأنه هجر ما نهى الله عنه، وهجر أهله ووطنه، والعامل: لأنه قام
__________
(1) مكرر مع ما قبله، ويكون المرسل والمرسل اسمين.
(22/52)
بطاعة ربه، ووافق فعله قوله واعتقاده، والمبارك: الذي جعل الله في حاله زيادة الثواب، وفي حال أصحابه فضائل الأعمال، وفي أمته زيادة العدد على جميع الأمم، والرحمة: الذي رحم الله به العالمين في الدنيا من العذاب الشامل، وفي الآخرة بتعجيل الحساب، والآمر والناهي: المبلّغ الأمر والنهي، والطيب:
فلا أطيب منه، لسلامته عن خبث القلب وخبث القول وخبث الفعل.
والكريم: الجواد على التمام والكمال، والمحلّل والمحرّم: مبيّن الحلال والحرام، والواضع والرافع: الذي وضع الله به قوما ورفع آخرين، والمخبر: النبيء، وخاتم النبيين: آخرهم، وثاني اثنين: أحد اثنين والآخر أبو بكر في غار جبل ثور، والمنصور: المعان من قبل الله بالعزة والظهور على الأعداء، وأذن خير: لا يعي من الأصوات إلا خيرا ولا يسمع إلا الأحسن، والمصطفى: المخبر عنه بأنه صفوة الخلق، والأمين كما تقدم: المؤتمن على المعاني، والمأمون: الذي لا يخاف من جهته شرّ، وقاسم: يقسم الزكوات والأخماس وسائر الأموال بين الناس، ونقيب: يتولى الأمور، ويحفظ الأخبار، وقد وصف نفسه للأنصار بذلك فقال: أنا نقيبكم، والمزمّل: المتلفف بثيابه، والمدثر: المتغشّي بثيابه، والعلي:
الرفيع القدر والمكان، الشريف الشأن، والحكيم: العامل بما علم، والمؤمن:
المصدّق لربه اعتقادا وفعلا، والرؤوف الرحيم: لما أعطاه الله من الشفقة على الناس، والصاحب: الذي كان مع أتباعه حسن المعاملة، عظيم الوفاء، والشفيع المشفّع: الراغب إلى الله في أمر الخلق بتعجيل الحساب، وإسقاط العذاب وتخفيفه، والمتوكل: الملقي مقاليد الأمور إلى الله علما وعملا، والمقفّي: العابد، ونبي التوبة: لأنه تاب الله على أمته بالقول والاعتقاد، دون تكليف بقتل أو إصر، ونبي الرحمة: المشفق على الناس، ونبي الملحمة: المبعوث بحرب الأعداء والنصر عليهم.
ثالثا- يرى مجاهد أن الأمر بالعفو والصفح عن الكافرين في قوله تعالى:
وَدَعْ أَذاهُمْ منسوخ بآية السيف.
(22/53)
رابعا- في آية إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ.. أحكام كثيرة منها:
1- المرأة المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك، فإن دخل بها فعليها العدّة إجماعا.
والمشهور عند الفقهاء أن العدّة ليست خالص حق العبد، وإنما يتعلق بها حق الله وحق العبد معا لأن منع الفساد باختلاط الأنساب من حق الشارع أيضا، ولا تسقط العدة إذا أسقطها المطلّق لأن الشرع أثبتها. والعدة شرعا:
المدة التي تنتظر فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل، أو للتعبد، أو للتفجع على زوج مات.
2- إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، وقد اتفق العلماء على أن المراد بالنكاح هنا العقد، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد. والنكاح في الأصل حقيقة في الوطء، لكن من أدب القرآن الكناية عن الوطء أو الجماع بلفظ: الملامسة والمماسّة والقربان والتغشّي والإتيان. وسمي العقد نكاحا من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم.
3- إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وهذه الآية مخصّصة لقوله تعالى:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 2/ 228] ولقوله تعالى:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق 65/ 4] .
4- قوله تعالى: الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، ولكن لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في إباحة الزواج بالاتفاق.
5- استدل جمهور العلماء منهم الشافعي أحمد بقوله تعالى:
(22/54)
إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ بمهلة ثُمَّ على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، ولا طلاق قبل النكاح، فمن طلق المرأة قبل نكاحها وإن عيّنها، فلا يلزمه، فمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق، لا يعد طلاقا، فإذا تزوج لم تطلق زوجته حينئذ، سواء خص أو عم، وسواء أنجز أو علّق.
وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: هو ليس بشيء، فقيل له: إن ابن مسعود كان يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال، لقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلّقتم المؤمنات، ثم نكحتموهن) ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ.
وروى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا طلاق قبل النكاح» .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» .
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا فرق بين من خص أو عم لأن الطلاق يقع في الملك، فإن عمّ، فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، تطلق منه، وهذا تعليق معنوي للطلاق على الملك، ومثله التعليق اللفظي: «إن تزوجت فلانة فهي طالق» «1» . أما تنجيز الطلاق على الأجنبية فلا يقع لأن الطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق.
وقال مالك رحمه الله: إن عم لم يقع لأنه ضيق على نفسه أنواع الزواج،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 364
(22/55)
والأمر إذا ضاق اتسع وإن عين امرأة بذاتها أو بقبيلة أو ببلد معين، يلزم ويقع.
6- هل الخلوة قبل الدخول بمثابة الجماع؟
يرى الشافعي وأحمد أن الخلوة ليست كالجماع لأن ظاهر التقييد بعدم المس في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ دليل على الفرق بين الخلوة والجماع والمس كناية عن الجماع، كما بينا، والخلوة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق.
ويرى الحنفية والمالكية أن الخلوة الصحيحة كالجماع توجب العدة لما رواه الدارقطني والجصاص الرازي في أحكام القرآن: «من كشف خمار امرأة، ونظر إليها، وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» .
وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملا، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل.
والعدة عند الحنفية واجبة بعد الخلوة قضاء وديانة، فلا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتد، ما دامت الخلوة بالأول كانت صحيحة، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول: إنه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها، أما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر.
7- استدلّ داود الظاهري بظاهر الآية على أنه لا عدّة على المرأة المدخول بها المطلقة الرجعية أو البائنة بينونة صغرى إذا راجعها زوجها أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها قبل أن يمسها لأنها مطلقة قبل الدخول بها، فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني لأنه طلاق قبل الدخول، وليس عليها أيضا
(22/56)
أن تكمل العدة الأولى لأن الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول، ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة.
وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه: يجب على المرأة في الحالتين أن تبني على عدة الطلاق الأول، ولا تستأنف عدة جديدة إذ الطلاق الثاني لا عدة له، ولكن لا يبطل ما وجب بالطلاق الأول، فإنه طلاق بعد دخول، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة، كما قال الظاهرية.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي: يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الحالتين لأنه وإن لم يحصل دخول، فإن المرأة كان مدخولا بها من قبل، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل بسبب كون المرأة مدخولا بها.
وفرق المالكية بين الطلاق الرجعي والبائن، فأوجبوا على الرجعية أن تستأنف عدة كاملة إذ إنها في حكم الموطوءة بعد المراجعة، ولم يوجبوا على البائن عدة لأن النكاح بعد البينونة عقد جديد، فالطلاق بعده يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول، فلا يوجب عدة، لكنه لا يصح أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق، فعليها أن تكمل العدة الأولى، ولها على المطلّق نصف المهر.
8- استدل الحسن البصري وأبو العالية بظاهر قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ على إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض، ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 241] .
وهذا مذهب الشافعية أيضا، لكنهم استثنوا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، فإن لها نصف المهر فقط، والمتعة سنة مستحبة، ودليلهم قوله تعالى:
(22/57)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة 2/ 237] فلم يذكر متعة، قال سعيد بن المسيب: هذه الآية ناسخة لآية الأحزاب: فَمَتِّعُوهُنَّ.
ويرى الحنفية والحنابلة أن المرأة المفوّضة وهي التي لم يفرض لها مهر تجب لها المتعة، وأما غيرها فالمتعة لها سنة، واستدلوا بقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة 2/ 236] .
وجعل المالكية المتعة سنة مستحبة لكل مطلقة لأنهم حملوا الأوامر الواردة في شأن المتعة كلها على الندب والاستحباب لظاهر قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
والخلاصة: أن هناك تعارضا بين آية البقرة وبين آية الأحزاب، وقد دفع بعض العلماء التعارض بجعل آية البقرة مخصصة لآية الأحزاب أو ناسخة لعمومها، ويكون المعنى: فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن المهر في النكاح، وهو مذهب الحنفية والشافعية.
ومن العلماء من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا، فيشمل نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدر بنصف المفروض بالنص، وفي صورة عدم الفرض غير مقدر، فإن اتفقا على شيء فذاك، وإلا قدرها القاضي باجتهاده على حسب حال الزوجين يسارا وعسرا.
ومنهم من حمل الأمر في آية فَمَتِّعُوهُنَّ على الإذن الشامل للوجوب والندب، مع بقاء المتعة على معناها المعروف، فيكون التمتيع واجبا في صورة
(22/58)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
عدم الفرض لقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ ومستحبا في صورة الفرض الصحيح لأنه من الفضل المندوب إليه عموما في قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة 2/ 237] .
9- المتعة: كسوة كاملة،
روى البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه صلّى الله عليه وسلّم بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين «1» » .
النساء اللاتي أحلّ الله زواجهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
__________
(1) نوع من الثياب مشهور حينئذ.
(22/59)
الإعراب:
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً منصوب بالعطف على أَزْواجَكَ وعامله: أَحْلَلْنا أو منصوب بتقدير فعل، أي ويحل لك امرأة مؤمنة.
إِنْ وَهَبَتْ بالفتح إما بدل من امْرَأَةً أو على حذف حرف الجر، أي لأن وهبت.
خالِصَةً لَكَ مصدر مؤكد أو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف، أي هبة خالصة.
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متعلق ب أَحْلَلْنا أي أحللنا لك هذه الأشياء، لكيلا يكون عليك حرج، أي ضيق.
وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ كُلُّهُنَّ: مرفوع لأنه تأكيد للضمير الفاعل في يَرْضَيْنَ.
إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ما: إما مرفوع على البدل من النِّساءُ في قوله تعالى:
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وإما منصوب على أصل الاستثناء، وهو النصب، وما في هذين الوجهين: اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد، فالصلة مَلَكَتْ والعائد محذوف للتخفيف. أو أن تكون ما مصدرية في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
البلاغة:
إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا، تنويها بشأنه.
المفردات اللغوية:
أُجُورَهُنَّ مهورهن. وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي ما كان من الإماء بسبب السبي والغنيمة
(22/60)
في الحرب كصفية وجويرية. أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ردّه عليك. اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ من مكة إلى المدينة، بخلاف من لم يهاجرن. يَسْتَنْكِحَها أي إرادته أن ينكحها، فإن هبتها نفسها جار مجرى القبول، والاستنكاح: طلب النكاح والرغبة فيه. خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي خصوصية لك لشرف نبوتك واستحقاقك التكريم، وهو النكاح بلفظ الهبة من غير صداق، وبه احتج الشافعية على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى، وقد خصّ عليه الصلاة والسلام بالمعنى، فيخص باللفظ.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي على المؤمنين في أزواجهم من الأحكام، من شرائط العقد، ووجوب المهر بالوطء إذا لم يسمّ في العقد، ووجوب القسم بين الزوجات، وألا يزيدوا على أربع نسوة، ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء بشراء أو غيره من أصل رقيق لا من الأحرار، وبأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية، بخلاف المجوسية والوثنية، وأن تستبرأ بحيضة قبل الوطء. لِكَيْلا متعلق ب أَحْلَلْنا. حَرَجٌ ضيق ومشقة. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيما يعسر التحرز عنه. رَحِيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
تُرْجِي تؤخر من الإرجاء: وهو التأخير، قرئ مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر وأرجأته: إذا أخرته. مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي من أزواجك عن نوبتها.
وَتُؤْوِي تضم وتضاجع. ابْتَغَيْتَ طلبت. مِمَّنْ عَزَلْتَ تجنبت، من العزلة: الإزالة والتنحية من القسمة. فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لا إثم عليك، في طلبها وضمها إليك. وهذا تيسير على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كان القسم واجبا عليه. ذلِكَ التخيير. أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أقرب إلى قرة أعينهن وارتياحهن، وتقرّ: تسرّ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء والميل إلى بعضهن، فاجتهدوا في الإحسان، وإنما خيرناك يا رسول الله فيهن تيسيرا عليك في كل ما أردت.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه وبذات الصدور. حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يتقى.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ من بعد التسع التي اخترنك، وهو في حقه كالأربع في حقنا، أو من بعد اليوم، حتى لو ماتت واحدة، لم يحل له نكاح أخرى. وقرئ: يحل وتحل بالياء والتاء، وعلى قراءة الياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أي تتبدل، بأن تطلقهن كلهن أو بعضهن، ثم تتزوج بدل المطلقة. وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ حسن الأزواج المستبدلة، وهو حال من فاعل تَبَدَّلَ. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء، فتحل لك، وهو استثناء من النساء اللاتي يشملن الأزواج والإماء، وقيل: استثناء منقطع، وقد ملك صلّى الله عليه وسلّم بعدهن مارية القبطية، وولدت له إبراهيم ومات في حياته. رَقِيباً مراقبا ومحافظا، فلا تتخطوا ما حدّ لكم.
(22/61)
سبب النزول:
نزول الآية (50) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ:
أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أم هانئ قالت: نزلت فيّ هذه الآية: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ. أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوجني، فنهي عني، إذ لم أهاجر.
وقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً: أخرج ابن سعد عن عكرمة في قوله:
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية قال: نزلت في أم شريك الدوسية.
وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت جميلة، فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك، فسماها الله مؤمنة، فقال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فلما نزلت هذه الآية، قالت عائشة: إن الله يسرع لك في هواك.
نزول الآية (51) :
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ: أخرج الشيخان عن عائشة: أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها! فأنزل الله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الآية، فقالت عائشة: أرى ربك يسارع لك في هواك.
وأخرج ابن سعد عن أبي رزين العقيلي قال: همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يطلق
(22/62)
من نسائه، فلما رأين ذلك، جعلناه في حلّ من أنفسهن، يؤثر من يشاء على من يشاء، فأنزل الله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية.
نزول الآية (52) :
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ:
أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزواجه اخترن الله ورسوله، فأنزل الله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ.
وهذا ما ذكره غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم: أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما تقدم في الآية.
المناسبة:
سبق الكلام في أنكحة المؤمنين وأحكامها، وهنا خصص الكلام لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي يحل له نكاحهن، وقصر التحريم عليهن، وتخييره في القسم بين الزوجات دون إلزام، بالمبيت عند من يشاء، وترك البيتوتة عند من يريد، وزواجه بهبة المرأة نفسها له بغير صداق، مما يجري مجرى القبول، وكل من ترك إيجاب القسم والزواج بلفظ الهبة خصوصية للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون بقية المؤمنين.
التفسير والبيان:
1- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ذكر الله تعالى في هذه الآية أربع مجموعات أو فئات من النساء اللاتي أباح الله لنبيه الزواج بهن، وهذه هي الفئة الأولى وهي النساء الممهورات، والمعنى: يا أيها الرسول،
(22/63)
إنا أبحنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وهي الأجور هنا، والمرأة التي أوتيت مهرها أو صداقها أفضل وأولى ممن لم تأخذ صداقها، فهذه هي الحالة الكاملة التي بدأ النص بها، ويكون الأكمل إيتاء المهر كاملا، دون تأخير شيء منه، وأما تأخير الناس الآن بعض المهر، فهو من مستحدثات العرف، بقصد الحذر، وبسبب التغالي في المهور وتعذر دفع كامل المهر.
وقد كان مهره صلّى الله عليه وسلّم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا، أي خمس مائة درهم فضة، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإن النجاشي رحمه الله أمهرها عنه أربع مائة دينار، وإلا صفية بنت حييّ، فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويريّة بنت الحارث المصطلقية أدى عنها نجوم كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس، وتزوجها.
2- وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وهذه هي الفئة الثانية من النساء، وهي الإماء المملوكات. وقد ملك صلّى الله عليه وسلّم كما بيّنا صفية وجويرية، وريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم إبراهيم، وكانتا من السراري.
3- وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أي وأحللنا لك من الأقارب بنات العم، وبنات العمات، وبنات الخال، وبنات الخالة المهاجرات معك، دون غير المهاجرات. وهذه هي الفئة الثالثة التي شرط فيها كون المرأة مهاجرة، ولم تحل له غير المهاجرة كأم هانئ، كما تقدم. والمراد من بنات العم والعمة: القرشيات، فإنه يقال للقرشيين قربوا أم بعدوا: أعمامه صلّى الله عليه وسلّم، ويقال للقرشيات قربن أم بعدن:
عماته، والمراد من بنات الخال والخالة: بنات بني زهرة، وقد كان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ستّ من القرشيات، ولم يكن عنده زهرية.
(22/64)
والحكمة في إفراد العم مجاراة مألوف العرب بإفراده في حال إضافة الابن والبنت له، وجاء الكلام في الخال على مثاله، وقيل: جاء الكلام في العمة والخالة بالجمع، وإن كانتا مضافين، لمكان تاء الوحدة، وهي تأبى العموم في الظاهر، وأما عدم الجمع في العم والخال فقد جاء على الأصل من إرادة العموم عند الإضافة.
4- وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك، وهذه هي الفئة الرابعة، وإباحتها بشرطين: هبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ورغبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في نكاحها، والزواج بلفظ الهبة من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم دون سائر المؤمنين، فله الزواج بها من غير مهر ولا ولي ولا شهود.
هذه هي الأصناف الأربعة التي أحلها الله لنبيه: الممهورات، والمملوكات، والأقارب، والواهبات أنفسهن من غير مهر. والمراد بالإحلال: الإذن العام بالنكاح. ويلاحظ كما قال ابن عباس ومجاهد: «لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة موهوبة» ، وأما المرأة التي وهبت نفسها له وهي أم شريك الدوسية، فإنها لما قالت للنبي: وهبت نفسي لك، سكت عنها حتى قام رجل، فقال: زوّجنيها يا رسول الله، إن لم تكن لها بها حاجة. وكذلك وهبت نساء أخريات أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها، أخرج ابن سعد «أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ووهب نساء أنفسهن، فلم نسمع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا» .
فإن كانت الواهبة نفسها كافرة فلا تحل للنبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن العربي:
والصحيح عندي تحريمها عليه، وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب
(22/65)
الفضائل والكرامة فحظّه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أظهر، فجوز لنا نكاح الحرائر من الكتابيات، وقصر هو لجلالته على المؤمنات، وإذا كان لا يحلّ له من لم يهاجر لنقصان فضل الهجرة، فأحرى ألا تحلّ له الكتابية الحرة، لنقصان الكفر «1» .
أما لو وهبت امرأة نفسها لرجل غير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي المفوّضة، وجب عليه لها مهر مثلها بالدخول أو بالموت،
وقد حكم بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بروع بنت واشق، لما فوضت نفسها، ومات عنها زوجها، فقضى لها بصداق مثلها.
ثم أكد تعالى مضمون جملة خالِصَةً لَكَ.. ببيان مغايرة أحكامه صلّى الله عليه وسلّم لأحكام المؤمنين أحيانا، فقال:
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي إن ما ذكر حكمك أيها الرسول مع نسائك، وأما حكم أمتك مع نسائهم، فعندنا علمه، نبينه لهم على حسب مقتضى الحكمة والمصلحة، والمعنى: قد علم الله ما فرض من أحكام وشرائط وقيود في شأن أزواج المؤمنين والمملوكات، مما فيه صلاحهم وجعلهم غير النبي صلّى الله عليه وسلّم في تلك الأحكام، من حصرهم في أربع نسوة حرائر، وما شاؤوا من الإماء المؤمنات والكتابيات غير الوثنيات والمجوسيات، وعدم إباحة الزواج لهم بلفظ الهبة، واشتراط الولي والمهر والشهود.
وهذه جملة اعتراضية تؤكد ما سلف وتبينه، ثم ذكر تعالى علة اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأحكام مثلما تقدم، وهو أننا أبحنا أو أحللنا لك ما ذكر من النساء والمملوكات والأقارب والواهبة، لندفع عنك الضيق والمشقة التي تلحقك، وتتفرغ لتبليغ الرسالة، وكان الله وما يزال غفورا لك وللمؤمنين
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1547
(22/66)
ما لا يمكن التحرز عنه، رحيما بك وبهم بدفع الحرج والعنت (المشقة) ، وعدم العقاب على ذنب تابوا عنه. وفي الجملة: إن قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً آنس به تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته.
ثم أجاب الله تعالى عن غيرة بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل عائشة من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن تفويضهن أمر القسم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي لك يا رسول الله الحرية المطلقة في القسم بين زوجاتك، فلك أن تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك، وتبيت مع من تشاء، لا حرج لك أن تترك القسم لهن، ولا يجب عليك قسم، بل الأمر لك، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت. ومع هذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم لهن.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي ومن طلبت إلى المبيت معك ممن تجنبت وتركت البيتوتة معهن، فلا إثم ولا حرج ولا ضيق عليك في ذلك، وكذلك لا ضير عليك في إرجاع من طلقت منهن.
ثم أبان الله تعالى سبب هذا التفويض للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الإيواء والإرجاء وأنه لمصلحتهن، فقال:
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ، وَلا يَحْزَنَّ، وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم وأنه غير واجب عليك، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، وأنت مع ذلك تقسم لهن باختيارك لا جبرا عنك، فرحن بذلك، واستبشرن به، وقدرن جميلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك فيهن، ورضين كلهن بما تفعل، دون إقلاق ولا بلبلة.
(22/67)
ثم خاطب الله النبي صلّى الله عليه وسلّم وأزواجه بطريق تغليب الذكور، فقال:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً أي إن الله عليم تام العلم بالميل إلى بعضهن دون بعض، من غير اختيار، ومما لا يمكن دفعه، وكان الله وما يزال عليما بما تخفيه النفوس، وتكتمه السرائر، حليما يحلم ويغفر، فلا يعاجل المذنبين بالعقوبة، ليتمكنوا من التوبة والإنابة. وفي هذا حثّ على حسن النوايا، وسلامة الطوية، وتحسين معاملة النساء للتغلب على أثر الغيرة.
روى الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» زاد أبو داود: يعني القلب.
ثم ذكر الله تعالى مجازاة نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي اخترن الله ورسوله، فمنع طلاقهن، وحرّم غيرهن عليه، فقال:
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي يحرم عليك أيها الرسول الزواج بغير هؤلاء النساء التسع اللاتي عندك الآن، جزاء لاختيارهن الله ورسوله، أخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: «لما خيّرهنّ، فاخترن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، قصره سبحانه عليهن» .
وهذا هو الحكم الأول: تحريم بقية النساء عليه.
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وهذا هو الحكم الثاني: منع استبدالهن وتحريم طلاقهن، أي ولا يحلّ لك أيها الرسول أن تتزوج غير اللاتي في عصمتك، وأن تستبدل بهن غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن وتتزوج بدلها أخرى، وإن أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك من الإماء، مثل مارية القبطية التي أهداها المقوقس له، فتسرّى بها، وولدت له إبراهيم ومات رضيعا.
(22/68)
وقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل على جواز النظر إلى المخطوبة،
أخرج أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» .
وقال المغيرة بن شعبة: «خطبت امرأة، فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل نظرت إليها؟ قلت: لا، قال: انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» .
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي وكان الله وما يزال مطلعا على كل شيء، عالما مراقبا كل ما يكون من أحد وما يحدث في الكون، فاحذروا مخالفة أوامره، فإن الله يجازي كل امرئ بما عمل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- إباحة أصناف أربعة من النساء للنبي صلّى الله عليه وسلّم توسعة عليه، وتيسيرا له في تبليغ الرسالة، وهنّ:
أ- جميع النساء حاشا ذوات المحارم إذا آتاهن مهورهن، وهذا قول جمهور العلماء، بدليل ما أخرجه الترمذي عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها:
ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحلّ الله تعالى له النساء. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشقّ ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء إلا من سمّي، سرّ نساؤه بذلك.
وقد استنبط الكرخي من تسمية المهر أجرا جواز انعقاد النكاح بلفظ الإجارة، ولم يتابعه الحنفية في ذلك، لأن معنى الإجارة يتنافى مع عقد النكاح، إذ الإجارة عقد مؤقت، والنكاح عقد مؤبد يبطله التوقيت. ثم إن النكاح ليس عقد تمليك وإنما هو استباحة، وكذلك المهر في النكاح ليس عوضا، وإنما هو عطية أوجبها الله تعالى، إظهارا لخطر المحل.
(22/69)
ب- السراري مملوكات اليمين اللاتي ردها الله عليه من غنائم الحرب المأخوذة على وجه القهر والغلبة في وقت كان السبي أو الاسترقاق مشروعا في العالم، معاملة بالمثل.
ج- قريباته بنات العم والخال والعمة والخالة المهاجرات معه من مكة إلى المدينة، وهن بنات عمه العباس وغيره من أولاد عبد المطلب وبنات أولاد بنات عبد المطلب، وذلك يشمل القرشيات، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة. وقد كان عنده خمس قرشيات، ولم يكن عنده من أولاد الخال والخالة أحد.
والمراد بالمعية في قوله: مَعَكَ الاشتراك في الهجرة، لا في الصحبة فيها، فمن هاجر حلّ له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن.
وذكر الله تعالى العم فردا والعمات جميعا، وكذا الخال والخالات لحكمة عدا ما ذكرنا هي: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة، وهذا عرف لغوي.
د- النساء اللاتي وهبن له أنفسهن من غير مهر، وهن أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم. ولكن لم يكن عنده إحدى الواهبات أنفسهن له، إذ لم يقبل منهن أحدا.
2- قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً يدل على أن الكافرة لا تحلّ له، كما بيّنا.
وقوله سبحانه: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة. وقوله تعالى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها دليل
(22/70)
على أن الهبة لا تتم إلا بقبول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن قبل حلّت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك، كما إذا وهبت شيئا لرجل، فلا يجب عليه القبول.
وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ دليل على أن انعقاد النكاح بلفظ الهبة من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن الهبة لا تحلّ لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح، ولا يحلّ للمرأة أن تهب نفسها لأحد، وهذا قول جمهور العلماء.
وقال الحنفية والمالكية: ينعقد النكاح لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة، ويكون للمرأة ما سمي من المهر في العقد، ومهر المثل إن لم يسمّ شيء، وللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
ومنشأ الخلاف هو في معنى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فذهب جماعة إلى أن الخصوصية في انعقاد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، لقوله تعالى: لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وقوله: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وقوله سبحانه: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ. وهذا رأي الجمهور.
وذهب آخرون إلى أن الخصوصية الواردة في الآية هي في نكاح الواهبة بغير مهر، أما عقد النكاح بلفظ الهبة فكان جائزا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته على السواء، أي إن الخصوصية في المعنى دون اللفظ، لأن الله تعالى أضاف لفظ الهبة إلى المرأة بقوله: وَهَبَتْ وأضاف إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إرادة الاستنكاح، فدلت المخالفة على أن المراد مدلول اللفظ الذي من جانب المرأة، وهو ما يدل عليه لفظ الهبة من ترك العوض.
3- ذكر ابن العربي والقرطبي «1» بمناسبة هذه الخصوصية ما خصّ الله تعالى به
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1549- 1553، تفسير القرطبي: 14/ 211- 213
(22/71)
رسوله من أحكام في الشريعة لم يشاركه فيها أحد، سواء في مجال الفرض أو التحريم أو الإباحة، ففرضت عليه أشياء لم تفرض على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وأبيحت له أشياء لم تبح لهم.
فأما ما اختص به من الفرائض فهو تسعة:
الأول- التهجد بالليل، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل 73/ 1] ، والصحيح أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى:
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء 17/ 79] .
الثاني- الضحى. الثالث- الأضحى. الرابع- الوتر. الخامس- السواك.
السادس- قضاء دين من مات معسرا. السابع- مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن- تخيير النساء. التاسع- إذا عمل عملا أثبته.
وأما ما اختص به مما حرّم عليه فهو عشرة:
الأول- تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني- صدقة التطوع عليه، وفي آله اختلاف. الثالث- خائنة الأعين: وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. الرابع- حرّم الله عليه إذا لبس لأمته (درعه) أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس- الأكل متكئا. السادس- أكل الأطعمة كريهة الرائحة. السابع- التبدل بأزواجه. الثامن- نكاح امرأة تكره صحبته.
التاسع- نكاح الحرّة الكتابية. العاشر- نكاح الأمة.
وحرّم الله عليه أشياء لم يحرّمها على غيره تنزيها له وتطهيرا، فحرّم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته، قال الله تعالى:
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت 29/ 48] .
وهذا هو المشهور. وذكر النقاش أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مات حتى كتب.
(22/72)
وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متّع به الناس، قال الله تعالى:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه 20/ 131] .
وأما ما اختص به مما أحلّ له فهو ستة عشر:
الأول- صفىّ المغنم. الثاني- الاستقلال بخمس الخمس أو الخمس. الثالث- صوم الوصال. الرابع- الزيادة على أربع نسوة. الخامس- النكاح بلفظ الهبة.
السادس- النكاح بغير ولي. السابع- النكاح بغير صداق. الثامن- نكاحه في حالة الإحرام. التاسع- سقوط القسم بين الأزواج عنه. العاشر- إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحلّ له نكاحها. هذا ما قاله إمام الحرمين. وقد بيّنا في قصة زيد بن حارثة أن هذا لا يليق بمنصب النبوة، وكل ما روي مما فيه مساس بذلك هو ساقط غير معتبر ولا دليل عليه «1» .
الحادي عشر- أنه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر- دخوله مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر- القتال بمكة. الرابع عشر- أنه لا يورث، ويصبح ملكه صدقة. الخامس عشر- بقاء زوجيته من بعد الموت. السادس عشر- إذا طلّق امرأة تبقى حرمته عليها، فلا تنكح.
وأبيح له صلّى الله عليه وسلّم أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب 33/ 6] ، وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وأبيح له أن يحمي لنفسه.
وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا، وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد، ونصر بالرعب، فكان
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1531
(22/73)
يخافه العدو من مسيرة شهر، وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض.
وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة. وقد انشق القمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وخرج الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم. وكانت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبّح الحصى في يد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وحنّ الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضّله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة.
4- لم يكن القسم بين الزوجات واجبا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، توسعة عليه في ترك القسم وإباحة له، وإنما كان مخيرا في أزواجه ومع هذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم بينهن، دون فرض، تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وهذا أصح ما يراد بالآية.
وقيل: كان القسم واجبا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية.
قال أبو رزين: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد همّ بطلاق بعض نسائه، فقلن له: اقسم لنا ما شئت، فكان ممن آوى: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن. وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء.
5- قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ بيان الحكمة في التخيير بالقسم، قال قتادة وغيره: أي ذلك التخيير الذي خيّرناك في صحبتهنّ أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرّت أعينهن بذلك ورضين، لأن المرء إذا علم أنه لا حقّ له في شيء، كان راضيا بما أوتي منه وإن قلّ. وإن علم أن له حقّا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غيرته عليه، وعظم
(22/74)
حرصه فيه، فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن، كما قدّمنا،
ويقول فيما رواه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها: «اللهم هذه قدرتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، يعني ميل قلبه، لإيثاره عائشة رضي الله عنها، دون أن يكون ذلك ظاهرا في شيء من فعله. وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة. أخرج البخاري في صحيحة عن عائشة قالت:
«أول ما اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرّض في بيتها- يعني بيت عائشة- فأذنّ له»
وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتفقد، يقول: «أين أنا اليوم، أين أنا غدا؟»
استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها، قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري «1» ، صلّى الله عليه وسلّم.
6- على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة، ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها. وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته، إلا أن يعجز عن الحركة، فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صح استأنف القسم. والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء، وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر.
روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» .
__________
(1) أي بين جنبي وصدري. والسحر: الرئة، أطلق على الجنب مجازا، من باب تسمية المحل باسم الحال فيه، والنحر: الصدر.
(22/75)
ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة، ويجوز عند الأكثرين دخوله لحاجة وضرورة.
قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل. فأما الحبّ والبغض فخارجان عن الكسب، فلا يتأتى العدل فيهما، وهو المعنيّ
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في قسمه: «اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»
وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء 4/ 129] وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ [الأحزاب 33/ 51] .
7- قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خبر عام، يدخل فيه الإشارة إلى ما في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من محبة شخص دون شخص، ويدخل في المعنى أيضا المؤمنون.
أخرج البخاري عن عمرو بن العاص «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحبّ إليك؟ فقال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، فعدّ رجالا» .
والقلب قد يكون مصدر خير أو شر، يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده: اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين، فأتاه باللسان والقلب. ثم أمره بذبح شاة أخرى، فقال له: ألق أخبثها بضعتين، فألقى اللسان والقلب.
فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضعتين، فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين، فألقيت اللسان والقلب؟! فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
8- حظر على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج على نسائه، لأنهن اخترن الله ورسوله
(22/76)
والدار الآخرة، ويكون ذلك قصرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم على أزواجه مجازاة لهن، وشكرا على هذا الاختيار، كما قصرهن الله عليه إكراما له في قوله: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ [الأحزاب 33/ 53] .
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بالسنة، وهو حديث عائشة، قالت:
ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحلّ له النساء. وبه قال الشافعي وقيل: إنها منسوخة بآية أخرى، روى الطحاوي عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحلّ الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله عز وجل: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ.
والراجح أن الآية محكمة غير منسوخة، لأن حديث عائشة كما قال ابن العربي حديث ضعيف واه، أي شديد الضعف «1» . وأما نسخها بآية:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ... فقال فيه بعض فقهاء الكوفة: محال أن تنسخ هذه الآية: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون.
وأما القول بأن الترتيب في التلاوة ليس دليل الترتيب في النزول، فهو صحيح، لكن النسخ في الحقيقة يتطلب أمرين: ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ، وأن يكون بينهما تعارض. وهذان لم يتوافرا هنا.
9- ظاهر قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ناسخ لما كان قد ثبت له صلّى الله عليه وسلّم من أنه إذا رأى واحدة، فوقعت في قلبه موقعا كانت تحرم على الزوج، ويجب عليه طلاقها. وهو دليل على منع تبديل زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي اخترنه وهن تسع.
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1559
(22/77)
قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك.
ولكن أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها. قال الطبري: وما فعلت العرب قط هذا.
10- قوله سبحانه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل كما تقدم على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة،
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن المغيرة: «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم «1» بينكما»
وأخرج البخاري في صحيحة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لآخر: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا»
أي صفرة أو زرقة أو رمص.
والأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها، فلعله يرى منها ما يرغّبه في نكاحها، بدليل
ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» فقوله: «فإن استطاع فليفعل»
لا يقال مثله في الواجب. وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وغيرهم.
واختلف العلماء فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفّيها، ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. وأما قول داود الظاهري: ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ، فأصول الشريعة ترد عليه في تحريم الاطلاع على العورة.
__________
(1) أي يؤلف ويوفق.
(22/78)
11- ظاهر عموم قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يدل على إحلال الأمة الكافرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم.
والأصح أن الكافرة لا تحل له، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة 60/ 10] فكيف به صلّى الله عليه وسلّم؟! 12- إن الذي استقر عليه عدد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كما تقدم هو تسع نسوة مات عنهن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن هذا التعدد لغرض جنسي أو شهواني، وإنما من أجل غاية أسمى هي نشر الدعوة الإسلامية، وتأليف القبائل العربية وترغيبهم في قبول عقيدة الإسلام، والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ظل على زوجة واحدة هي السيدة خديجة بنت خويلد حتى نهاية الرابعة والخمسين، وفي هذه السن تفتر الرغبة الجنسية عادة، وقد تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ثيّب بنت أربعين سنة، ومنها رزق الأولاد، وماتت وهي في سن الخامسة والستين.
ثم تزوج بعد خديجة سودة بنت زمعة.
وتزوج بعائشة البكر الوحيدة تقديرا لجهود وتضحيات والدها أبي بكر، وتزوج حفصة حبا في عمر، وتقديرا لصدقه وجهاده، مع أنها لم تكن جميلة، وكان زواجه بأم سلمة ذات الأولاد الكثر وفي سن كبيرة تعويضا عن مصابها بزوجها الذي هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وتزوج سودة بنت زمعة العجوز المسن أرملة السكران بن عمرو وفاء له لموته في سبيل الدفاع عن الحق في الحبشة التي هاجر إليها هربا من أذى المشركين، وتزوج زينب بن جحش لإبطال عادة التبني وإلغاء جميع آثاره بتزويج الله له كما بينا، وأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش التي أسلمت قبل أبيها وهاجرت إلى الحبشة، وقد أصدقها النجاشي أربع مائة دينار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها إكراما لها وتقديرا لإخلاصها وصدقها، وصفية بنت حييّ بن أخطب زعيم اليهود تزوجها رأفة بها بعد سبيها، وجويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق، تزوجها بعد سبيها وإعتاقها وكان
(22/79)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
عمرها زهاء خمسين عاما، فآمنت قبيلتها بالإسلام، وكانت سببا في إسلام خالد بن الوليد البطل الشهير.
هذه هي الأسباب الخاصة بالزواج من أمهات المؤمنين، أما الأسباب العامة فتتلخص في أن المصاهرة من أقوى عوامل التالف والتناصر، ونشر دعوة الإسلام في مبدأ أمرها بحاجة إلى الأعوان، وكان المؤمنون يرون أن أعظم شرف مصاهرتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقربهم منه، كما أن تشريعات الإسلام الخاصة بالنساء تحتاج معرفتها إلى نسوة يبلغن الأحكام إلى المسلمات، فكانت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يقمن بهذه المهمة.
وأما أسباب تعدد الزوجات لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي كثيرة، منها: إصابة المرأة بالعقم أو بالمرض الفتاك، المعدي أو المزمن، ومنها: قلة الرجال أحيانا كما يحدث عقب الحروب، ومنها: الترغيب في كثرة النسل لتقوية الإسلام، ومنها تفاقم الرغبة الجنسية أحيانا عند بعض الرجال.
آداب دخول البيت النبوي وحجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
(22/80)
الإعراب:
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غَيْرَ منصوب على الحال من واو تَدْخُلُوا.
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ وصلتها: في موضع رفع اسم كانَ وكذلك قوله تعالى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا لأنه عطف عليه.
البلاغة:
لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الإضافة للتشريف.
فَادْخُلُوا فَانْتَشِرُوا بينهما طباق، وكذا بين تُبْدُوا تُخْفُوهُ.
فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بينهما طباق السلب.
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً عليم وشهيد على وزن فعيل للمبالغة.
المفردات اللغوية:
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إلا وقت أن يؤذن لكم في الدخول بالكلام أو الإشارة، أو إلا مأذونا لكم. إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن، لأنه متضمن معنى (يدعى) للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن بالدخول، لقوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غير منتظرين نضجه أو وقته وإدراكه. وأنىّ: هو مصدر: أنى يأني، أي أدرك وحان نضجه.
فَانْتَشِرُوا تفرقوا ولا تمكثوا. مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي مستمعين لحديث أهل البيت أو لبعضكم بعضا. إِنَّ ذلِكُمْ المكث أو اللبث. كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله واشتغاله فيما لا يعنيه. فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم. وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك بيان الحق وهو الأمر بخروجكم.
(22/81)
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي سألتم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم. مَتاعاً شيئا محتاجا إليه ينتفع به.
فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر الشيطانية المريبة. وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم. أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أن تفعلوا ما يكرهه.
كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ذنبا عظيما.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ من التحدث بزواجهن بعده. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعلم ذلك، فيجازيكم عليه. قال البيضاوي: وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل، ومبالغة في الوعيد.
لا جُناحَ لا إثم. وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء. وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية.
سبب النزول: نزول الآية (53) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا:
أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
وأخرج الترمذي وحسنه عن أنس قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتى باب امرأة عرّس بها، فإذا عندها قوم، فانطلق، ثم رجع، وقد خرجوا، فدخل، فأرخى بيني وبينه سترا، فذكرته لأبي طلحة، فقال: لئن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء، فنزلت آية الحجاب.
(22/82)
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في قعب، فمرّ عمر، فدعاه، فأكل، فأصابت أصبعه أصبعي، فقال: أوّه لو أطاع فيكنّ، ما رأتكنّ عين، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية البخاري: أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأطال الجلوس، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل، فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب.
وفي رواية: «بقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا» .
قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب.
قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا: قال البيضاوي: الآية خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيدخلون ويقعدون، منتظرين لإدراكه، مخصوصة بهم وبأمثالهم، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام، ولا اللبث بعد الطعام لمهمّ. أخرج عبد بن حميد عن أنس قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وأخرج ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال: نزلت هذه في الثقلاء، ومن ثم قيل: هي آية الثقلاء.
(22/83)
وقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ:
أخرج ابن زيد قال: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا يقول: لو قد توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجت فلانة من بعده، فنزلت: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية.
وأخرج ابن زيد أيضا عن ابن عباس قال: نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده، قال سفيان: ذكروا أنها عائشة. وأخرج عن السدّي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا، ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فأنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال: إذا توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة.
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا، فقال: يا رسول الله: إنها ابنة عمي، والله ما قلت منكرا، ولا قالت لي، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
قد عرفت ذلك، إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني، فمضى، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي؟ لأتزوجنها من بعده، فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيا، توبة من كلمته.
والخلاصة: رويت روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات قال فيها أبو بكر بن العربي: إنها ضعيفة كلها ما عدا الذي ذكرنا- أي
رواية أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس- وما عدا الذي روي أن عمر قال: قلت:
يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب.
(22/84)
وقد كان سبب نزول أدب الطعام والجلوس وليمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند زواجه بزينب، وسبب نزول الحجاب بسبب القعود في بيت زينب.
المناسبة:
بعد بيان حال النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أمته بأنه المبشر المنذر الداعي إلى الله تعالى، أبان الله تعالى حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكما أن دخولهم الدين كان بدعوته، كذلك لا يكون دخول بيته إلا بدعوته، إرشادا إلى الأدب معه واحترامه وتوفير راحته في بيته، ثم تعظيمه بين الناس بالأمر بعد هذه الآيات بالصلاة والسلام عليه.
ولا يقتصر الأدب معه على الدخول إلى بيته، بل يشمل الخروج منه بعد انتهاء الحاجة من استفتاء أو تناول طعام، فذلك حق وأدب، ثم ذكر الله أدبا آخر، وهو طلب شيء من الحوائج من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم مع وجود حجاب أو ستر أو حائل. ومناسبة هذا لما قبله أنه لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى استعارة بعض الحوائج، بيّن أن ذلك غير ممنوع منه، وإنما يجب أن يكون السؤال والطلب من وراء حجاب.
التفسير والبيان:
تضمنت هذه الآيات آدابا عامة في الدخول إلى البيوت والخروج منها، والحجاب وعدم الاختلاط وتحريم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وزواج نسائه من بعده.
وهي مما وافق الوحي فيها وتنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة 2/ 125] . وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل
(22/85)
عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تمالأن عليه: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك.
وآية الحجاب هذه- كما ذكر قتادة والواقدي- نزلت في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، وقد صدّرت الآية بأدب اجتماعي يدفع الحرج عن النبي، فقال تعالى:
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي يا أيها الذين صدقوا بالله ربّا وبمحمد رسولا إياكم أن تدخلوا بيتا من بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل الأحوال إلا في حال كونكم مصحوبين بالإذن بأن دعيتم إلى وليمة طعام، غير منتظرين وقت نضجه واستوائه، فإذا تم النضج وتوافر الإعداد فادخلوا حينئذ.
وهذا قوله تعالى:
2- وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إذا دعاكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله، فإذا تناولتم الطعام الذي دعيتم إليه فتفرقوا ولا تمكثوا فيه من أجل تبادل أطراف الحديث والتحدث في شؤون الدنيا.
وهذا دليل على حظر المؤمنين من دخول منازل النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن، وعدم ارتقاب نضج الطعام، وعلى حرمة التطفل، وعلى عدم البقاء في البيوت بعد الأكل، للاشتغال بلهو الحديث مع بعضكم أو مع أهل البيت، فذلك أمر غير مرغوب فيه، ونوع من الثقل غير محمود لأن أهل البيت بحاجة إلى التفرغ لتنظيف الأواني والراحة من عناء إعداد الطعام، لذا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما
(22/86)
رواه أحمد والشيخان والترمذي عن عقبة بن عامر: «إياكم والدخول على النساء» .
وعلل تعالى طلب مغادرة البيوت بعد الطعام بقوله:
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي إن بقاءكم واشتغالكم بالحديث والدخول قبل نضج الطعام كان يؤذي النبي- وإيذاؤه حرام- ويشق عليه، لمنعه من قضاء بعض حاجته، ولما فيه من المضايقة لأهل البيت، ولكن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه صلّى الله عليه وسلّم، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، والله لا يترك بيان الحق وهو الأمر بالخروج ومنعهم من البقاء والمكث. وهذا أدب عام لا يقتصر على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل سائر المؤمنين. ويحرم اللبث إذا كان فيه إيذاء لصاحب البيت.
وقد نصت آيات سورة النور [27- 31] على بيوت المؤمنين وآية الأحزاب [59] في حجاب نسائهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ.
3- وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي وكما نهيتكم عن الدخول إلى بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير إذن ودون انتظار إدراك الطعام، كذلك نهيتكم عن النظر إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا طلبتم منهن شيئا ينتفع به، من ماعون وغيره، فاطلبوه من وراء حجاب ساتر، وحائل مانع من النظر.
وسبب النهي عن ذلك، والأمر بالحجاب كما قال تعالى:
ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي إن هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الدخول بالإذن، والخروج عقب الطعام دون الاستئناس بالحديث، والحجاب أطهر وأطيب للنفس، وأبعد عن الريبة والتهمة والفتنة، وأكثر طمأنينة للقلوب من الهواجس والوساوس الشيطانية.
(22/87)
ولما علّم الله المؤمنين أدب الدخول إلى البيوت وصون الأذن والعين من النظر المحرّم، أكده بما يحملهم على محافظته، فقال:
4- وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي ما صح وما ينبغي لكم أن تكونوا سببا في إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تفعلوا فعلا يضايقه ويكرهه، كالمكث في منزله والاشتغال بالحديث، فكل ما منعتم عنه مؤذ، فامتنعوا عنه، فإنه صلّى الله عليه وسلّم حريص على ما فيه إسعادكم وخيركم في الدنيا والآخرة، ومن أشد أنواع الأذى ومما هو حرام عليكم أن تتزوجوا أبدا بنسائه بعد مفارقتهن بموت أو طلاق، تعظيما له، ولأنهن أمهات المؤمنين، ولأنه ذنب عظيم كما قال تعالى:
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي إن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونكاح أزواجه من بعده ذنب عظيم وإثم كبير. وفي هذا تعظيم الأمر، وتشديد فيه وتوعد عليه، ثم أكد ذلك بالبعد عن الإيذاء في الباطن والظاهر فقال:
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي إن تظهروا شيئا من الأذى أو تكتموه، فإن الله عليم علما تاما دقيقا به، يعلم ما تكنّه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، ولا تخفى عليه خافية: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] وهو مجاز كل إنسان بحسب ذلك العلم.
ثم استثنى الله تعالى من حكم حجاب أزواج النبي على الأجانب المحارم ونساء المؤمنين والأرقاء، فقال:
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي لا إثم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ترك الحجاب أمام آبائهن
(22/88)
وأجدادهن، سواء من جهة النسب أم من جهة الرضاع، أو أبنائهن من النسب أو الرضاع، أو إخوانهن الأشقاء أو لأب أو لأم، أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو أمام النساء المؤمنات القريبات أو البعيدات، أو الأرقاء من الذكور والإناث، إبعادا للحرج والمشقة في ذلك بسبب الخدمة. ثم ختمت الآية بما ينبه على زيادة الحذر والتقوى، فقال تعالى فيما معناه:
واخشين الله في السرّ والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبنه، فإنه يجازي على كل عمل من خير أو شر لأنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة كل شيء، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي.
ونساء المؤمنين كنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، بدليل آية النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ.. [31] .
وأما السبب في عدم ذكر العم والخال في هاتين الآيتين فهو- كما ذكر عكرمة والشعبي- لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما، أو لأن العم والخال بمنزلة الوالدين، وقد يسمى العم أبا، كما قال تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة 2/ 133] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات الأحكام التالية:
1- الأدب في أمر الطعام والجلوس، فلا يجوز دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا
(22/89)
بالإذن، والدخول حرام إلا لأجل الأكل ونحوه، وظاهر الآية حرمة مكث المدعو بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت.
ودخل في النهي سائر بيوت المؤمنين، فلا يجوز دخولها إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار الطعام.
2- يجب التفرق والخروج من البيت والانتشار في أرض الله تعالى بعد تناول الطعام، وانتهاء المقصود من الأكل ونحوه، لقوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا والمراد من الأمر: إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل، بدليل أن الدخول من غير إذن حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح، وعاد التحريم إلى أصله.
3- قوله تعالى: بُيُوتَ النَّبِيِّ دليل على أن البيت للرجل، ويحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه إضافة ملك. وأما الإضافة في قوله تعالى:
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب 33/ 34] فهي إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والإذن إنما يكون للمالك.
وأما سكنى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيوته في حياته وبعد موته من غير تملك، فهو حق لهن على الصحيح فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين
قال فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر وعثمان وغيرهما: «لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي، فهو صدقة»
ويدل لذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن، وعدم الإرث دليل على أنها لم تكن ملكا لهن، وإنما كان لهن سكنى حياتهن، فلما توفّين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزيد إلى أصل المال، فصرف في منافع المسلمين مما يعمّ جميعهم نفعه.
(22/90)
4- قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا خص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول «1» .
5- في قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا دليل آخر في غير إلزام الخروج بعد انتهاء الأكل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه قال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
6- قوله تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ دليل على أن المكث في المنزل بعد الطعام للاستئناس بالحديث أمر غير مرغوب فيه، وأدب يجب التزامه.
7- وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره دليل على ألا حياء في معرفة أحكام الدين وبيان الشرع.
جاء في الصحيح عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأت الماء» .
8- وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً الصواب في المتاع كما قال القرطبي: أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
9- فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، فلا يجوز كشف شيء من جسدها إلا لحاجة
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1565
(22/91)
كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيّن كون الجواب عندها. قال القاضي عياض: فرض الحجاب بما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة.
10- استدل بعض العلماء من الأخذ عن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها، وهو رأي المالكية والحنابلة في قبول شهادته، ولا تقبل شهادته في رأي الحنفية والشافعية.
11- إن الحجاب وسيلة ناجعة في طهارة القلب من هواجس السوء وخواطر المعصية، سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية والتحصن. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته.
12- قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ دليل على تعليل الأحكام، ثم إن بيان العلة وتأكيد إيرادها يقوي دلالة الأحكام الشرعية على المطلوب. وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدثهم نفوسهم بإيذائه إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها.
13- يحرم التزوج بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد مفارقتهن بطلاق أو موت، تعظيما للنبي، ولكونهن أمهات المؤمنين، والمسلم لا يتزوج أمه.
واختلف العلماء في وجوب العدة عليهن بالموت، فقيل: عليهن العدة لأن العدة عبادة، وقيل: لا عدة عليهن لأنها مدة تربّص (انتظار) لا ينتظر بها إباحة الزواج، قال القرطبي: وهو الصحيح
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت بعد نفقة عيالي» وروي «أهلي»
وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة
(22/92)
والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه صلّى الله عليه وسلّم لهن بمنزلة المغيب في حق غيره لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا، بخلاف سائر الناس لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر: «كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي، فإنه باق إلى يوم القيامة» .
وأما النساء اللاتي فارقهن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الدخول، فالصحيح جواز نكاحهن لغيره، كالكلبية التي تزوجها عكرمة بن أبي جهل، وقيل: تزوجها الأشعث بن قيس الكندي، وقيل: إنه مهاجر بن أبي أمية.
14- إن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو نكاح أزواجه من الذنوب الكبائر، ولا ذنب أعظم منه.
15- الله تعالى عالم بكل ما بدا وما خفي، وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض انقضى، ولا مستقبل آت، فهو سبحانه يعلم ما يخفيه الإنسان من المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيه عليها. والتذييل بهذه الآية توبيخ ووعيد لمن يضمر السوء في مخاطبة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأزواج المؤمنين أيضا.
16- استثنى الله تعالى من فرضية الحجاب على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الأقارب المحارم من النسب أو الرضاع، وهم الآباء والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات والنساء المؤمنات، وهو رأي ابن عباس ومجاهد، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكافرات.
ويرى بعضهم أن المراد منهن النساء القريبات، وتكون إضافتهن إليهن
(22/93)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
لمزيد اختصاصهن بهن، لما لهن من صلة القرابة، وكذلك الخادمات.
وأيضا ما ملكت أيمانهن من الذكور والإناث.
17- توّج الله تعالى آية الحجاب واستثناء المحارم بالأمر بالتقوى، كأنه قال: اقتصرن على هذا، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره، وخصّ النساء بهذا الأمر وعيّنهن، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن، ثم توعد تعالى بأنه رقيب على كل شيء بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي أنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة، فيجازي على ما يكون.
تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم وجزاء إيذائه وإيذاء المؤمنين
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
البلاغة:
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد.
المفردات اللغوية:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، أي يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.
والصلاة في اللغة: الدعاء، يقال: صلى عليه، أي دعا له. وهي من الله: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: دعاء وتعظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم. صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
(22/94)
أي اعتنوا أنتم أيضا بالصلاة عليه، فإنكم أولى بذلك، وقولوا: اللهم صل وسلّم على محمد. والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة، وتجوز الصلاة على غيره تبعا له، وتكره استقلالا لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسل، كما ذكر البيضاوي والشوكاني وغيرهما، فلا يقال: صلّى الله على فلان، أو فلان عليه السلام، وقد اتفق العلماء على أن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرض على كل مسلم، وأقلها في العمر مرة.
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي وهم الكفار يصفون الله بما هو منزه عنه من الولد والشريك، ويكذبون رسوله صلّى الله عليه وسلّم. لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم وطردهم من رحمته. عَذاباً مُهِيناً ذا إهانة وغاية في الإهانة مع الإيلام، وهو النار. بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا يرمونهم بغير جناية استحقوا بها الإيذاء، أو بغير ما عملوا. احْتَمَلُوا بُهْتاناً تحملوا كذبا. وَإِثْماً مُبِيناً أي ذنبا ظاهرا واضحا.
سبب النزول: نزول الآية (57) :
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية قال: نزلت في الذين طعنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين اتخذ صفية بنت حييّ زوجة له. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس:
أنزلت في عبد الله بن أبيّ وناس معه قذفوا عائشة، فخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال:
«من يعذرني في رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني» ، فنزلت.
وروي أنها نزلت في منافقين يؤذون عليا رضي الله عنه، وقيل: في أهل الإفك كما تقدم، وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
نزول الآية (58) :
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله عنها، فخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يعذرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني» .
(22/95)
وقيل: نزلت في أناس من المنافقين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب.
وقيل: نزلت فيمن آذى عمر لضربه جارية من الأنصار متبرجة. وقال جماعة:
نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن.
المناسبة:
بعد أن أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما، أكمل ذلك ببيان مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى، وما يجب له من احترام في الملأ الأدنى، ثم أردفه بتبيين أضداد الاحترام، فنهى عن إيذاء الله، بمخالفة أوامره وارتكاب معاصيه، وعن إيذاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالطعن فيه أو في أهل بيته، أو بنسبة عيب أو نقص فيه.
التفسير والبيان:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي إن الله يصلي على نبيه بالرحمة والرضوان، والملائكة تدعو له بالمغفرة ورفعة الشأن، لذا فأنتم أيها المؤمنون بالله ورسوله قولوا: اللهم صلّ وسلّم على محمد، أي ادعوا له بالرحمة ومزيد الشرف والدرجة العليا. ويلاحظ الاهتمام بالحكم من طريق مجيء الخبر مؤكدا ب «إنّ» والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام، وأن مجيء الجملة اسمية في صدرها: إِنَّ اللَّهَ فعليه في عجزها:
يُصَلُّونَ للدلالة على أن الثناء من الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم يتجدد على الدوام.
وهذه الآية بمثابة العلة لما ذكر قبلها من أن شأن المؤمنين ألا يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكأنه قيل: ما كان لكم أن تؤذوه لأن الله يصلي عليه والملائكة، وما دام الأمر كذلك، فهو لا يستحق إلا الاحترام والإكرام. وقد بدئت الآية بالجملة الاسمية لإفادة الدوام، وانتهت بالجملة الفعلية للإشارة إلى أن
(22/96)
هذا الإكرام والتمجيد يتجدد مع مرور الزمان على الدوام.
ويكون المقصود من الآية أن الله تعالى أخبر عباده بمنزلة نبيه وعبده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه، لذا أمر الله تعالى العالم الدنيوي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين:
العلوي والسفلي جميعا.
والصلاة كما بينا من الله الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء بالمغفرة والتعظيم لشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وكيفية الصلاة عليه تعرف بالأحاديث المتواترة التي منها:
ما رواه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «قال رجل:
يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟! قال:
قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري قلنا: «يا رسول الله، هذا السلام عليك، قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم» .
وأما التسليم فهو بأن يقولوا: السلام عليك يا رسول الله، ومعنى «السلام عليك» الدعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص.
(22/97)
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة والسلام على رسول الله، منها:
ما رواه أحمد وابن ماجه عن عامر بن ربيعة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى عليه، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» .
ومنها:
ما رواه أحمد أيضا والنسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء ذات يوم، والسرور- أو البشر- يرى في وجهه، فقالوا: يا رسول الله، إنا لنرى السرور- أو البشرى- في وجهك، فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلّي عليك أحد من أمّتك إلا صلّيت عليه عشرا، ولا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا، قلت: بلى» .
ومنها:
ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى علي واحدة، صلّى الله عليه بها عشرا» .
لذا أوجب الشافعي الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وجعلها ركنا في التشهد الأخير من الصلاة، وتستحب عنده في التشهد الأول.
واتفق العلماء على وجوب الصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة في العمر، عملا بما يقتضيه الأمر صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد لأن الصحيح أن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما هو للماهية، المطلقة عن قيد التكرار والمرة، وحصوله مرة ضرورة لتحقيق مجرد الماهية. وأما القول بالوجوب كلما ذكر، أو في كل مجلس مرة، أو الإكثار منها من غير تقيد بعدد، فهو استدلال بالأحاديث المرغبة في فعلها والمرهبة من
(22/98)
تركها، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 6/ 160] الذي هو ترغيب في الإحسان.
ويسن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم الجمعة وعند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم، وبعد النداء للصلاة، وفي صلاة الجنازة،
روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ - يعني وقد بليت- قال: «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى عليّ صلّى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» :
وروى النسائي عن أبي أمامة أنه قال: من السنة في الصلاة على الجنازة:
أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويخلص الدعاء للجنازة، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها، ثم يسلم سرا في نفسه.
وروى أبو داود، وصححه النووي في الأذكار، كما صحح الحديث المتقدم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما منكم من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أردّ عليه السلام» .
ولا شك بأن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلبة للخير
(22/99)
والثواب، وسبب لدخول الجنة، ومذهبة للهم والحزن، وطرد للنسيان،
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يصلّ علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة» .
وبعد الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، عاد الكلام إلى النهي عن إيذاء الله بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بوصفه بعيب أو نقص فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً أي إن الذين يصدر منهم الأذى لله ورسوله بارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان، كقول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام آلهة شركاء لله، وقولهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه شاعر، أو ساحر أو كاهن أو مجنون، إن هؤلاء الذين يؤذون الله ورسوله طردهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة، وهيأ لهم عذابا مهينا محقرا مؤلما في نار جهنم.
وهذا دليل على أنه تعالى لم يحصر جزاءهم في الإبعاد من رحمته، بل أوعدهم وهددهم بعذاب النار الأليم. والآية عامة في كل من آذى النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء، فمن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله، كما قال الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب.
وبعد بيان شأن الذين يؤذون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، أبان الله تعالى ما يناسب ذلك، وهو حكم الذين يؤذون المؤمنين، فقال:
(22/100)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي والذين يؤذون أهل الإيمان من الرجال والنساء بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل، وسواء أكان الإيذاء للعرض، أو الشرف أو المال، بأن ينسبوا إليهم ما هم برآء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، فهو إيذاء بغير حق، كأن يشتم المؤمن أحدا، أو يضربه، أو يقتله، فقد أتوا بالكذب المحض والبهتان الكبير: وهو نسبة شيء لهم لا علم لهم به ولم يفعلوه، على سبيل العيب والإنقاص، وارتكبوا ذنبا واضحا بينا. ونظير الآية: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
[النساء 4/ 112] .
والبهتان: الفعل الشنيع، أو الكذب الفظيع.
ومن أشد أنواع الأذى: الطعن في الصحابة، والغيبة، واستباحة عرض المسلم،
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن المغفّل المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» .
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة: أنه قيل: «يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» .
وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
(22/101)
فإن كان الإيذاء بحق لم يحرم، مثل الإيذاء بالقصاص، والإيذاء بقطع اليد في السرقة، والإيذاء بالتعزيرات المختلفة، وقتال المرتدين،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
فهم أبو بكر رضي الله عنه من هذا الحديث أن الزكاة حق المال، فقاتل مانعيه من أجله، وقال: «والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله، لقاتلتهم عليه» وحاجه في ذلك عمر فقال: «إلا بحقها» والزكاة حق الأموال، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن آية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم تشريف له حياته وموته، وتنويه بمنزلته ومكانته السامية، والصلاة كما بينا من الله: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة:
الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: الدعاء والتعظيم لأمره.
2- أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أنها فرض في العمر مرة، وسنة مؤكدة في كل حين لا يسع المسلم تركها، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه.
وقد عرفنا صفة الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي صيغة الصلاة الإبراهيمية، وبينا فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو كما
ورد عنه فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «من صلّى علي واحدة، صلّى الله عليه بها عشرا»
وقال أيضا: «من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب» «1» .
وقال سهل بن عبد الله: الصلاة
__________
(1) لكن قال عنه ابن كثير: ليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة.
(22/102)
على محمد صلّى الله عليه وسلّم أفضل العبادات لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. وقال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يرد ما بينهما.
وأما الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فهي سنة مستحبة عند الجمهور، فإن تركها فصلاته مجزية، وواجبة لدى الشافعي، فمن تركها فعليه الإعادة.
وأما الصلاة على غير الأنبياء: فإن كانت على سبيل التبعية مثل: اللهم صل على محمد وآله، وأزواجه، وذريته، فهذا جائز بالإجماع، فإن أفردوا فقال جماعة: يجوز ذلك لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب 33/ 43] وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة 2/ 157] وقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 103]
وحديث الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:
«اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلى على آل أبي أوفى»
وحديث جابر أن امرأته قالت: يا رسول الله، صلّ عليّ وعلى زوجي، فقال:
«صلّى الله عليك وعلى زوجك» .
وقال جمهور العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال: أبو بكر صلّى الله عليه، أو قال عليّ صلّى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وأما ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك، فمحمول على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته.
(22/103)
والصحيح أن هذا المنع من الصلاة على غير الأنبياء مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم.
والسلام هو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام، وهذا سواء في الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم، أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه.
وقال النووي: إذا صلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: صلّى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
3- إن من يؤذي الله ورسوله يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وله عذاب محقر مؤلم في نار جهنم. وإيذاء الله: يكون بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] ، وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] ، وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] ، وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر. أقلّب ليله ونهاره» ،
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى:
«يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلّب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما» .
هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية.
وقد جاء مرفوعا عنه بلفظ آخر عند مسلم أيضا: «يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر أقلّب الليل
(22/104)
والنهار» .
وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها،
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله المصوّرين» .
والطعن في تأمير أسامة بن زيد «1» لغزو «أبنى» قرية عند مؤتة أذية له صلّى الله عليه وسلّم، من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة، ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد خروج هذا الجيش إلى ظاهر المدينة، فنفّذه أبو بكر بعده صلّى الله عليه وسلّم.
جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده» .
وفي هذا الحديث دلالة على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى، ويؤكده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدّم سالما مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم، وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش.
4- إن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير حق بالأقوال أو الأفعال القبيحة بهتان وإثم واضح. ومن أنواع الأذى: التعيير بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه.
وقد ميّز الله بين أذاه سبحانه وأذى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأذى المؤمنين، فجعل الأول كفرا موجبا اللعن، والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
__________
(1) كان أسامة رضي الله عنه يدعى: الحبّ ابن الحبّ، وكان أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض. [.....]
(22/105)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
آية جلباب النساء لستر العورة
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
المفردات اللغوية:
يُدْنِينَ الإدناء: التقريب، والمراد الإرخاء والسدل على الوجه والبدن، وستر الزينة، ولذا عدّي بعلى مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع جلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق القميص، أو الثوب الذي يستر جميع البدن. ومِنْ للتبعيض، فإن المرأة تغطي بعض جلبابها وتتلفع ببعض، والمراد: يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا شيئا قليلا كعين واحدة ذلِكَ أي إدناء الجلابيب أَدْنى أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أي أقرب إلى أن يميزن بأنهن حرائر، ويبعدن عن الإساءة فَلا يُؤْذَيْنَ أي فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن لترك الستر رَحِيماً بعباده، حيث يراعي مصالحهم بالأمر بالستر وغيره.
سبب النزول:
أخرج البخاري عن عائشة قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال:
يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن، لكن أن تخرجن لحاجتكن.
(22/106)
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي مالك قال: كان نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ.
المناسبة:
بعد بيان أن من يؤذي مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا، منعا وزجرا للمكلف من إيذاء المؤمن، أمر الله تعالى المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم التي قد تؤدى إلى الإيذاء، بالتستر وإرخاء الجلباب، خلافا لما كان عليه الحال في الجاهلية من خروج النساء مكشوفات يتبعهن الزناة.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي يطلب الله من رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر النساء المؤمنات وبخاصة أزواجه وبناته إذا خرجن من بيوتهن بأن يسدلن ويغطين من جلابيبهن ليتميزن عن الإماء. والجلباب: الرداء فوق الخمار. وهناك روايات في كيفية هذا التستر.
- قال ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة.
- وقال محمد بن سيرين فيما رواه ابن جرير عنه: سألت عبيدة السّلماني عن قول الله عز وجل: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فغطّى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى.
(22/107)
- وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار، كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
والمقصود بالآية التي نزلت بعد استقرار الشريعة أن يكون الستر المأمور به زائدا على ما يجب من ستر العورة، وهو أدب حسن يبعد المرأة عن مظان التهمة والريبة، ويحميها من أذى الفساق.
واللباس الشرعي: هو الساتر جميع الجسد، الذي لا يشف عما تحته، فإن كانت المرأة في بيتها وأمام زوجها فلها أن تلبس ما تشاء.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي إن إدناء الجلابيب أو التستر أقرب أن يعرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، فلا يتعرّض لهن بالأذى من أهل الفسق والريبة، وكان الله غفورا لما سلف منهن من إهمال التستر، ولمن امتثل أمره إذا أخل بالتستر خطأ بغير قصد، واسع الرحمة بعباده حيث راعى مصالحهم وأرشدهم إلى هذا الأدب الحسن.
أما الإماء فلم يكلفهن الشرع بالتستر الكامل دفعا للحرج والمشقة في التقنع، وتيسيرا لهن القيام بخدمات السادة. هذا رأي الجمهور. وقال أبو حيان:
والظاهر أن قوله: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن، بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن- أي الإمام- من عموم النساء إلى دليل واضح «1» .
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 250
(22/108)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- الأمر بالتقنع والتستر عام يشمل جميع النساء، وذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها، فلها أن تلبس ما شاءت لأن له أن يستمتع بها كيف شاء.
ومن المأمورات بالستر: زوجات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبناته. أما زوجاته فقال قتادة: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تسع: خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية، وأما أولاده: فكان للنبي صلّى الله عليه وسلّم أولاد ذكور وإناث.
وأولاده الذكور: القاسم والطاهر وعبد الله والطيب أبناء خديجة.
وبناته: فاطمة الزهراء بنت خديجة زوجة علي رضي الله عنهما، وزينب بنت خديجة زوجة ابن خالتها أبي العاص، ورقيّة وأم كلثوم بنتا خديجة، زوجتا عثمان، كما تقدم سابقا.
ويلاحظ أن الدعوة لا تثمر إلا إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله، لذا بدأ الأمر بالحجاب بنساء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبناته.
2- صورة إرخاء الجلباب: تغطية المرأة جميع جسدها إلا عين واحدة تبصر بها، كما قال ابن عباس وعبيدة السّلماني. وقال قتادة، وابن عباس في رواية أخرى: أن تلويه فوق الجبين وتشدّه، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن البصري: تغطي نصف وجهها.
(22/109)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
3- الحكمة من أمر الحرائر بالتستر هي ألا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى معارضة، مراعاة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن.
4- وقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
5- في الطبقات الكبرى لابن سعد أن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم، حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم.
هذا وقد استدل بالآية على لزوم تغطية وجه المرأة لأن العلماء والمفسرين كابن الجوزي والطبري وابن كثير وأبي حيان وأبي السعود والجصاص الرازي فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجوه والأبدان والشعور عن الأجانب، أو عند الخروج لحاجة.
تهديد المنافقين وجزاؤهم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
الإعراب:
مَلْعُونِينَ إما منصوب على الحال من واو لا يُجاوِرُونَكَ وإما منصوب على الذم، أي أذمّ ملعونين.
(22/110)
سُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد.
البلاغة:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ المرجفون هم من المنافقين، ففيه ذكر الخاص بعد العام، زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم.
ثُقِفُوا أُخِذُوا بينهما طباق.
وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد.
المفردات اللغوية:
لَئِنْ اللام لام القسم لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف إيمان وقلة ثبات عليه، أو فسوق وعصيان وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ هم اليهود وغيرهم المشيعون للأكاذيب والأباطيل الملفقون أخبار السوء ونشرها بين جنود المسلمين قائلين: قد أتاكم العدو، وسرايا المسلمين هزموا أو قتلوا أو غلبوا، ونحو ذلك من الأخبار المتضمنة توهين جانب المسلمين، من الإرجاف والرّجفان: الزلزلة والاضطراب الشديد.
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنسلطنك عليهم ولنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ يساكنونك، والعطف ب ثُمَّ للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعظم ما يصيبهم مَلْعُونِينَ مبعدين عن الرحمة، أي لا يجاورونك إلا ملعونين ثُقِفُوا وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي أن هذا الحكم فيهم مأمور به.
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية، وهو أن يقتل المنافقون الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا، وخلوا: مضوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي لأنه لا يبدلها الله، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.
المناسبة:
هذا هو الصنف الثالث من المؤذين، فبعد أن ذكر الله تعالى حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، وأتبعه بذكر المجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسرّ المبطن الذي يظهر الحق، ويضمر الباطل، وهو المنافق.
ثم ذكر مظاهر ثلاثة للنفاق في مواجهة الأقوام الثلاثة المؤذين: وهم المؤذون
(22/111)
الله، والمؤذون الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمؤذون المؤمنين، وهذه المظاهر: هي المنافق الذي يؤذي الله سرا، والذي في قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه، والمرجف الذي يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإرجاف، بقوله: غلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ أسيرا. وهذا كله من آثار النفاق العملي.
التفسير والبيان:
توعد الله المنافقين وحذرهم وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فقال:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لئن لم يكف المنافقون عما هم عليه من النفاق، والذين في قلوبهم ضعف إيمان وشك وريبة في أمر الدين، وأهل الإرجاف في المدينة الذين يشيعون الأخبار الملفقة الكاذبة المتضمنة توهين جانب المسلمين، وإظهار تفوق المشركين وغلبتهم عليهم، لنسلطنك عليهم ونأمرنك بقتالهم وإجلائهم عن المدينة، فلا يساكنونك فيها إلا زمنا قليلا.
وهذه الأوصاف الثلاثة: النفاق، ومرض القلب، والإرجاف هي لشيء واحد، فإن من لوازم النفاق مرض القلب بضعف الإيمان، والإرجاف بالفتنة وإشاعة أخبار السوء، والمنافقون متصفون بهذه الأوصاف الثلاثة كلها.
وكل وصف من هذه الأوصاف خطر على المجتمع الإسلامي، سواء إبطان الكفر، أو الفسوق والعصيان وتتبع النساء للاطلاع على عوراتهن والإساءة لهن بالقول القبيح والفعل الشنيع، أو إشاعة الأكاذيب المغرضة التي تنشر القلق والخوف والاضطراب، وتضعف من معنويات الجماعة، مما يسهل هزيمتهم، وانتصار الأعداء عليهم.
ثم الله أبان تعالى جزاءهم في الدنيا والآخرة فقال:
(22/112)
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي إنهم في حال مدة إقامتهم في المدينة فترة زمنية قليلة مطرودون من رحمة الله منبوذون، وأينما وجدوا وأدركوا أخذوا لذلتهم وقلتهم، وقتّلوا شر تقتيل، فلن يجدوا أحدا يؤويهم، بل ينكل بهم ويؤسرون ويقتّلون تقتيلا شديدا يستأصلهم.
وهذا دليل على أخذهم أسرى، والأمر بقتلهم إذا ظلوا على النفاق، وقد كان ذلك في أواخر حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أوضح الله تعالى أن هذا الجزاء عام في جميع المنافقين الغابرين واللاحقين فقال:
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي إن هذا الحكم- وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم- هو سنة الله وطريقته في المنافقين في كل زمان مضى، إذا بقوا على نفاقهم وكفرهم، ولم يرجعوا عما هم عليه، وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير، لقيامها على الحكمة والمصلحة وصلاح الأمة، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء على ممر التاريخ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما هو آت:
1- اتفق أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة: النفاق، ومرض القلب، والإرجاف لشيء واحد كما تقدم، أي إن المنافقين قد جمعوا هذه الأشياء «1» .
والآية دليل على تحريم الإيذاء بالإرجاف وعلى أن تتبع عورات النساء نفاق.
__________
(1) قالوا: والواو مقحمة، كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
أي إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة.
(22/113)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
2- إن جزاء هؤلاء المنافقين إن أصروا على نفاقهم تسليط أهل الحق والإيمان عليهم، لاستئصالهم بالقتل، وطردهم من البلاد، فلا يساكنون النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين في المدينة إلا مدة يسيرة حتى يهلكوا، وطردهم من رحمة الله.
3- إن هذا العقاب هو ما سنه الله عز وجل فيمن أرجف بالأنبياء، وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل، ولا تبديل ولا تغيير لسنة الله وحكمه، فلا يغيره هو سبحانه، ولا يستطيع أحد تغييره.
4- لكن يجوز تأخير تطبيق هذا العقاب، فليس هو على الفور، قال القرطبي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه- صلّى الله عليه وسلّم- حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم «1» .
وقد تأخر بالفعل عقاب المنافقين إلى أواخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما نزلت سورة «براءة» جمعوا،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان قم فاخرج، فإنك منافق، ويا فلان قم»
فقام إخوانهم من المسلمين، وتولوا إخراجهم من المسجد.
توعد الكفار بقرب الساعة وبيان نوع جزائهم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 248
(22/114)
البلاغة:
يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا تحسر وتفجع من طريق التمني.
سَعِيراً نَصِيراً كَبِيراً فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل، لما فيها من وقع حسن.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي يسألك أهل مكة المشركون عن وقت يوم القيامة وحصوله استهزاء، أو تعنتا، أو امتحانا قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا وَما يُدْرِيكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي وما يعلمك يا محمد؟ أي أنت لا تعلمها، فكيف بغيرك من الناس؟ وربما توجد الساعة في زمن قريب. وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.
لَعَنَ الْكافِرِينَ أبعدهم وطردهم عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً نارا شديدة الاتقاد والاستعار يدخلونها خالِدِينَ مقدرا خلودهم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يواليهم ويحفظهم عنها وَلا نَصِيراً ينصرهم ويدفع العذاب عنهم يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تصرّف من جهة إلى جهة أخرى، كاللحم يشوى بالنار. يا لَيْتَنا يا: للتنبيه وَقالُوا أي الأتباع منهم سادَتَنا أي ملوكنا وقادتنا الذين لقنوهم الكفر، وقرئ «ساداتنا» جمع الجمع، للدلالة على الكثرة وَكُبَراءَنا علماءنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي أضلونا طريق الهدى بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ مثلي ما أوتينا من العذاب لأنهم ضلوا وأضلوا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي عذبهم وأبعدهم بلعن هو أشد اللعن وأعظمه، وفوله كَبِيراً أي عدده، أي عظيما.
المناسبة:
بعد بيان حال الفئات الثلاث في الدنيا (المشركين الذين يؤذون الله ورسوله، والمجاهرين الذين يؤذون المؤمنين، والمنافقين الذين يظهرون الحق ويضمرون الباطل) وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون، ذكر حالهم في الآخرة، فتوعدهم بقرب يوم القيامة، وبين نوع عذابهم فيه.
(22/115)
التفسير والبيان:
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي يتساءل الناس بكثرة عن وقت قيام القيامة، فالمشركون يسألون عنها تهكما واستهزاء، والمنافقون يسألون عنها تعنتا، واليهود يسألون عنها امتحانا واختبارا، فيجيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بتعليم الله له: إن علمها محصور بالله تعالى، لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا مرسلا، فهو وحده الذي يعلم وقت حدوثها.
وأكد نفي علمها عن أحد غيره فقال:
وَما يُدْرِيكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي وما يعلمك بها، فإنها من المغيبات المختصة بالله تعالى، وربما توجد في وقت قريب، كما قال تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وقال عز وجل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى.
وفي هذا تهديد للمستعجلين، وتوبيخ للمتعنتين، كما تقدم. وكلمة قَرِيبٌ فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] لذا لم يقل: لعل الساعة تكون قريبة.
ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء الكفار الذي ينتظرهم يوم القيامة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً أي إن الله تعالى طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته، وهيأ لهم في الآخرة نارا شديدة الاستعار والاتقاد.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً، لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي إنهم في ذلك العذاب في نار جهنم مخلدون ماكثون فيه على الدوام، ولا أمل لهم في النجاة منه، فلا يجدون
(22/116)
من يواليهم ويكون لهم مغيثا ومعينا ينقذهم مما هم فيه، ولا من ينصرهم ويخلصهم منه. والمقصود أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب.
ثم ذكر وصف حال العذاب فقال:
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أي إنهم يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، ويتقلبون فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار، وحينئذ يقولون ويتمنون: يا ليتنا لو كنا في الدار الدنيا ممن أطاعوا الله وأطاعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا بما جاء به، لينجوا من العذاب كما نجا المؤمنون، كما قال تعالى في آية أخرى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 27] وقال أيضا مخبرا عنهم: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر 15/ 2] .
ثم اعتذروا بالتقليد، فقال الله تعالى واصفا ذلك:
وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي وقال الكافرون حينئذ وهم في عذاب جهنم: يا ربنا إنا أطعنا في الشرك والكفر رؤساءنا وقادتنا وعلماءنا، وخالفنا الرسل، واعتقدنا أنهم محقون فيما يقولون، فأخطؤوا بنا سواء الطريق، وأضلونا عن طريق الهدى بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله، وعدم الإقرار بالوحدانية، وإخلاص الطاعة لله تعالى.
ثم صوّر تعالى ما يغلي في نفوسهم من الحقد الذي أدى بهم إلى طلب التشفي من القادة والأمراء والأشراف فقال:
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي يا ربنا عذّبهم مثل عذابنا مرتين: عذاب الكفر، وعذاب الإضلال والإغواء إيانا، وأبعدهم عن
(22/117)
رحمتك بعدا عظيما كثيرا شديد الموقع، وهذا بمعنى
الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم، إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»
يروى «كبيرا» و «كثيرا» وهما بمعنى واحد، واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، قال ابن كثير: وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، كما أن القارئ مخير بين القراءتين، أيتهما قرأ أحسن، وليس له الجمع بينهما «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- لما توعد الله المؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعذاب، سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون، فأجابهم الله بأن علمها عند الله، وليس في إخفائها عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما يبطل نبوته، فليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله عز وجل.
2- إن وقت حصول الساعة (القيامة) في زمان قريب، وقد أخفي وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها. وهذا إشارة إلى التخويف.
3- إن الله عاقب الكافرين بالطرد والإبعاد من رحمته، وبإعداد نار جهنم المستعرة الشديدة الاتقاد، وهم فيها خالدون ماكثون على الدوام، ولا شفيع لهم ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه، ويتقلبون في السعير ذات اليمين وذات الشمال كما يشوى اللحم في النار. وهذا يدل على أنهم ملعونون في الدنيا، وملعونون عند الله، وأن العذاب دائم مستمر لا أمل في الخروج منه.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 519
(22/118)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
4- يتمنى الكافرون في أثناء العذاب في نار جهنم أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا رسوله، فآمنوا بالله وحده لا شريك له، وآمنوا برسوله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وأدوا فروض الطاعة والولاء، وأخلصوا لله في أعمالهم.
5- إنهم يقولون أيضا على سبيل الأسف والاعتذار غير المفيد: إنا أطعنا القادة والأمراء والأشراف والعلماء بدل طاعة الله تعالى، فبدّلنا الخير بالشر، وأضلونا عن السبيل الصحيح وهو توحيد الله تعالى.
6- لا يجدون بدا من المطالبة على سبيل التشفي والانتقام بمضاعفة العذاب على أولئك المضللين: عذاب الكفر وعذاب الإضلال، أي عذبهم مثلي ما تعذّبنا فإنهم ضلّوا وأضلوا.
بل إنهم يطلبون أيضا إبعادهم وطردهم من رحمة الله إبعادا كبيرا كثيرا لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار. وهذا في كلا الطلبين يتضمن معنى جديدا، فإنهم طلبوا لهم ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم: ضِعْفَيْنِ وزيادة اللعن بقولهم: لَعْناً كَبِيراً.
تحريم الإيذاء الذي لا يؤدي إلى الكفر والأمر بالتقوى
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
(22/119)
البلاغة:
لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه أداة الشبه، وحذف وجه التشبيه.
المفردات اللغوية:
لا تَكُونُوا مع نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى وهم اليهود، كقولهم: ما يمنعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، أو اتهامه بالفاحشة، كما روي أن قارون حرض امرأة على قذف موسى بنفسها، فعصمه الله وبرّأه مما قالوا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا من كثير من التهم الباطلة، منها أنه وضع ثوبه على حجر ليغتسل، فطار الثوب مع الحجر، حتى استقر أمام ملأ من بني إسرائيل، فأدركه موسى، فأخذ ثوبه، فاستتر به، فرأوه ولا أدرة به وهي نفخة في الخصية. وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه وقدر وقربة ووجاهة عنده تعالى.
اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحق يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها ويتقبلها وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يسترها ويكفّرها بالاستقامة في القول والعمل وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً نال غاية مطلوبة، بالعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يلعن ويعذب، مما يدل على أن إيذاءهما كفر، أرشد المؤمنين إلى ضرورة الامتناع من إيذاء لا يؤدي إلى الكفر، مثل عدم الرضا بقسمة النبي صلّى الله عليه وسلّم الفيء بين أصحابه.
أما إيذاء موسى فمختلف فيه، قال بعضهم: هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال:
قال لموسى قومه: إنه آدر، فخرج ذات يوم ليغتسل، فوضع ثيابه على حجر، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، فخرج موسى يتبعها عريانا، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل، فرأوه وليس بآدر.
(22/120)
وقال بعضهم: إن قارون تآمر مع امرأة أن تقول عند بني إسرائيل: إن موسى زنى بي، فلما جمع قارون القوم، والمرأة حاضرة، ألقى الله في قلبها أنها صدقت، ولم تقل ما لقّنت.
قال الرازي: وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف، وهو أنهم قالوا له:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة 5/ 24] وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 2/ 55] وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة 2/ 61] إلى غير ذلك، فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى القتال، أي لا تقولوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة 5/ 24] ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه،
«وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم» «1» .
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو العمل، مما يكرهه ولا يحبه، ولا تكونوا مثل الذين آذوا موسى، كتعييبه كذبا وزورا، أو تعجيزه برؤية الله جهرا، أو تركه يقاتل وحده، أو مطالبته بأنواع من الطعام، فبرأه الله مما قالوا من الكذب والزور، وكان ذا قدر وجاه ومنزلة عند ربه، قال الحسن البصري: كان مستجاب الدعوة عند الله، وقال غيره من السلف: لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، ولكن منع الرؤية لما يشاء عز وجل.
ومن مظاهر إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم قسما، فقال
__________
(1)
تفسير الرازي: 25/ 233 والجملة الأخيرة حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ «وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» .
(22/121)
رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمرّ وجهه، ثم قال:
رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
وروى أحمد عن ابن مسعود أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر» .
وأما إيذاء موسى فالظاهر أنه كان بالطعن في تصرفاته، لا بتعييبه في بدنه، بدليل الحديث الأول عن ابن مسعود.
وبعد نهي المؤمنين عن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو بالفعل، أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر عنهم من الأقوال والأفعال، أما الأفعال فالخير، وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله، ومن قال الصدق قالا قولا سديدا، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه، والتزام أوامره وعبادته عبادة من كأنه يراه، وقولوا القول الصواب والحق في كل أموركم، ويدخل فيه قول: لا إله إلا الله، والإصلاح بين الناس، كما يدخل فيه القول في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما لا يحل.
ثم وعدهم على الأمرين: الخير في الأفعال والصدق في الأقوال بأمرين فقال:
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي وعدهم على فعل الخيرات بإصلاح الأعمال، أي بقبولها، وجعل صاحبها في الجنة خالدا فيها أبدا، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب الماضية، وأما ما قد يقع منهم في المستقبل فيلهمهم التوبة منها.
(22/122)
ثم حرضهم على الطاعة، فقال:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي ومن يطع أوامر الله والرسول ويجتنب النواهي، فقد نجا من نار الجحيم، وصار إلى النعيم المقيم.
وبالرغم من أن طاعة الله هي طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه تعالى جمع بينهما لبيان أن المطيع اتخذ عند الله عهدا، وعند الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- لم تقتصر عناية القرآن وتحذيره على فئة من الناس دون فئة، فبعد أن ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، حذّر المؤمنين من التعرّض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إيذائهم نبيهم موسى عليه السلام.
ومظاهر إيذاء محمد صلّى الله عليه وسلّم وموسى عليه السلام مختلف فيها، فقيل: إن أذيّتهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم قولهم: زيد بن محمد، أو أنه قسم قسما، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله،
فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
وأما أذية موسى عليه السلام، فقال ابن عباس وجماعة: هي اتهامه بالأدرة كما تقدم.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون، مع أنه مات في جبل في سيناء بعد خروج موسى وهارون من التيه (قلب شبه جزيرة طور سينا) .
وقيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون، وقيل بغير ذلك. قال القرطبي: والصحيح الأول، ويحتمل أن فعلوا كل ذلك، فبرّأه الله من جميع ذلك.
(22/123)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
وقد استدل بقصة اغتسال موسى عليه السلام على جواز وضع ثوبه على الحجر، ودخوله في الماء عريانا في منطقة معزولة بعيدة عن الناس، وهو مذهب الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى، واحتج بحديث لم يصح.
2- كان موسى عليه السلام عند الله وجيها، أي عظيم القدر، رفيع المنزلة، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه.
3- أوجب الله تعالى الخير في الأفعال أو التقوى، والصدق في الأقوال وهو ما يقابل الأذى المنهي عنه بالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.
4- وعد الله تعالى أنه يجازي على القول السديد، وتقوى الله بإصلاح الأعمال (أي قبولها وجعلها صالحة لا فاسدة بتوفيقهم إليها) وغفران الذنوب، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة.
5- من يطع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أمر به ونهى عنه، فقد نجا من النار وفاز بالجنة، أو وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي.
أمانة التكاليف وأثرها في تصنيف المكلفين
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
(22/124)
الإعراب:
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً نصب رَحِيماً إما على الحال من ضمير غفور وهو العامل فيه، وإما صفة لغفور، وإما خبرا بعد خبر.
البلاغة:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ استعارة تمثيلية، مثّل الأمانة بما فيها من ثقل وشدة متناهية بشيء لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبت حمله وأشفقت منه.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
وبين بدء السورة: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وبين ختمها: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ما يسمى في علم البديع: «رد العجز على الصدر» فالبدء في ذم المنافقين، والختام لبيان سوء عاقبتهم.
المفردات اللغوية:
عَرَضْنَا أي عرضها على هذه الأجرام خلافا لما في الطبيعة الْأَمانَةَ أي التكاليف الشرعية كالصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب، وتركها من العقاب، وسماها أمانة لأنها واجبة الأداء عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها المعنى أن الأمانة لعظمة شأنها، بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذات شعور وإدراك، لامتنعت من حملها، وأشفقت منه وخافت وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ آدم أبو البشر بعد عرضها عليه، مع ضعف بنيته ورخاوة قوته، فإن أدى حقوقها فاز بخير الدارين إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أي إن الإنسان حينما التزم بحقوق الأمانة كان ظلوما لنفسه بما حمله، جهولا به، وهذا وصف لجنس الإنسان باعتبار الأغلب.
والمقصود بالآية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم، فهي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة وكذب الرسل ونقض الميثاق ممن نافق وأشرك، ويتوب على من آمن، الذين أدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها.
(22/125)
وقال الزمخشري: اللام لام التعليل على طريق المجاز لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في قولك: «ضربته للتأديب» نتيجة الضرب. وقد جاراه القرطبي في ذلك.
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ المضيعين الأمانة. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المؤدين الأمانة. والوعد بالتوبة دليل على أن قوله: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا موجه إلى حال جبلة الإنسان فهو ظلوم لنفسه جهول بربه.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً غفورا للمؤمنين رحيما بهم، حيث تاب على ما فرطوا من ذنوب، وأثاب على طاعاتهم.
المناسبة:
بعد بيان أن من أطاع الله ورسوله فاز فوزا عظيما، أبان الله تعالى الوسيلة التي تنال بها الطاعة وهي فعل التكاليف الشرعية، وأن تحصيلها شاقّ على النفوس يحتاج إلى مكابدة وجهاد، ثم ذكر أن ما يحدث من صدور الطاعة من المكلفين، وإباء القبول، والامتناع من الالتزام إنما هو باختيار الإنسان دون جبر ولا إكراه.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى خطورة التكاليف وثقلها، وأنها عظيمة ناءت بحملها السموات والأرض والجبال، فقال:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أي إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على هذه الأجرام العظام، فلم تطقها وأبت تحمل مسئوليتها، وخافت من حملها، لو فرض أنها ذات شعور وإدراك، ولكن كلّف بها الإنسان، فتحملها مع ضعفه، وهو في ذلك ظلوم لنفسه، جهول لقدر ما تحمله.
قال ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة والفرائض، عرضها عليهم قبل أن
(22/126)
يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.
والمراد جنس الإنسان بحسب الأغلب.
فالأمانة تشمل الطاعات والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب، وبتضييعها العقاب، وتشمل أمانة الأموال كالودائع وغيرها مما لا بيّنة عليه، وغسل الجنابة أمانة، والفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرّجل أمانة.
وقد حملها الإنسان بسبب جهله بما فيها، وعلم هذه الأجرام، وهو مع ذلك يتأثر بالانفعالات النفسية وبالشهوات الذاتية، ولا يتدبر عواقب الأمور، وكانت هذه التكاليف وسيلة للحد من سلطان الشهوة، وتأثير النوازع، والقوى الداخلية في نفسه.
ثم بيّن الله تعالى نتائج تلك التكاليف بين المكلفين، فقال:
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي إن عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة وهي التكاليف أن ينقسم الناس فريقين: فريق المنافقين والمنافقات (وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله) والمشركين والمشركات (وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة الرسل) الذين يعذبهم الله لخيانتهم الأمانة، وتكذيب الرسل، ونقض الميثاق، وفريق المؤمنين والمؤمنات (وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، العاملين بطاعته)
(22/127)
الذين يتوب الله عليهم إذا تابوا، وأدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها لأن الله غفور لذنوبهم، كثير الرحمة بهم.
والآية دليل على أن الله أعلم الإنسان بأنه غفور رحيم، وبصره بنفسه فرآه ظلوما جهولا، ثم عرض عليه الأمانة، فقبلها مع ظلمه وجهله، لعلمه بما يجبرها من الغفران والرحمة. والمعنى أن هناك مرضا جبليا في الإنسان، وأن هناك علاجا ودواء لهذا المرض وهو سعة المغفرة وكثرة الرحمة الإلهية إذا تعرض الإنسان لهما في الجملة بالتوبة والإنابة والطاعة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- ختمت السورة المشتملة على الأحكام بأمر إجمالي هو وجوب التزام الأوامر الإلهية، والآداب الشرعية السامية، والمواعظ الرائعة.
2- الأمانة تشمل جميل تكاليف الشرع ووظائف الدين، على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور، ومنها الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد، وليست التكاليف سهلة هينة، وإنما هي من عظائم الأمور التي ناءت بحملها السموات والأرض والجبال.
روى الحكيم الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى لآدم: يا آدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها، فهل أنت حاملها بما فيها؟ فقال: وما فيها يا رب؟ قال: إن حملتها أجرت، وإن ضيّعتها عذّبت، فاحتملها بما فيها، فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر، حتى أخرجه الشيطان منها» .
3- العرض على السموات والأرض والجبال إما مجاز، وإما حقيقة، وإما
(22/128)
ضرب مثل، فقام قوم: المعنى: إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن، فأبين أن يحملن وزرها، مثل:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] أي أهلها. فهذا مجاز مرسل. وقال قوم: إن الآية من المجاز- بنحو آخر- أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت. وهذا كما تقول:
عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه.
وقال آخرون: الحسن وغيره: العرض حقيقة أي أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك، فلم يحملن وزرها، وأشفقت، وقالت: لا أبتغي ثوابا ولا عقابا، وكل يقول:
هذا أمر لا نطيقه، ونحن له سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخّرن له. ولكن قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة، على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام.
وقال القفّال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي إن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلّفه الإنسان، وهو ظلوم جهول لو عقل.
وهذا كقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر 59/ 21] ثم قال:
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ (الآية نفسها) قال القفال: فإذا تقرر أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه.
وعلى أي حال، المقصود بالآية بيان عظمة التكاليف وثقلها وتنبيه الإنسان
(22/129)
لخطورة التبعة (أو المسؤولية) عنها، فلا يفرط فيها، وهو بين خيارين: إما العصيان فالعذاب، وإما الطاعة فالثواب، والله غفور رحيم.
4- لقد تجشم الإنسان تحمل مسئولية الأمانة، والتزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه أو للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه أو جهول بربه.
والإنسان: هو النوع كله، مراعاة لعموم الأمانة، فيشمل الكافر والمنافق، والعاصي، والمؤمن. وقيل: المراد بالإنسان: آدم الذي تحمّل الأمانة.
5- اللام في قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ المتعلقة ب عَرَضْنَا أو ب حَمَلَهَا سواء قلنا: إنها لام الصيرورة أو لام التعليل، فإن النتيجة انقسام الناس إزاء التكاليف إلى قسمين: عصاة وطائعين، فقد حمل الإنسان الأمانة، ثم كانت حالته أمامها ليست واحدة، فهناك قوم التزموا القيام بحقها، فأثابهم الله الجنة، وهناك آخرون أهملوا القيام بحقها، فعذبهم الله بالنار.
وإذا تعلقت اللام ب عَرَضْنَا يكون المعنى على أن اللام للتعليل:
عرضنا الأمانة على الجميع، ثم قلدناها الإنسان، ليظهر شرك المشرك، ونفاق المنافق، ليعذبهم الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. وإذا تعلقت ب حَمَلَهَا يكون المعنى على جعل اللام للتعليل: حملها ليعذّب العاصي، ويثيب المطيع، لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة.
وإذا كانت اللام لام الصيرورة يكون المعنى: حملها الإنسان، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة، ويتوب على من أداها حقها.
(22/130)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة سبأ
مكيّة، وهي أربع وخمسون آية.
تسميتها:
سميت سورة سبأ للتذكير فيها بقصة سبأ، وهم ملوك اليمن، في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ: جَنَّتانِ.. [15- 16] فقد أنعم الله عليهم بالحدائق الغناء والأراضي الخصبة، فلما كفروا النعمة، أبادهم بسيل العرم.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة: الأول- أن هذه السورة افتتحت ببيان صفات الملك التام والقدرة الشاملة التي تناسب ختام السورة السابقة في تطبيق العذاب وتقديم الثواب: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ....
الثاني- كان آخر الأحزاب: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ومطلع سبأ في فاصلة الآية الثانية: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
الثالث- في سورة الأحزاب سأل الكفار عن الساعة استهزاء، وفي هذه السورة حكى القرآن عنهم إنكارها صراحة.
مشتملاتها:
تضمنت سورة سبأ المكية محور ما تدور عليه بقية السور المكية في إثبات
(22/131)
العقيدة: من توحيد الله، والنبوة، والبعث.
فابتدأت بحمد الله تعالى والثناء عليه لأنه خالق السموات والأرض، ومرسل الملائكة رسلا بمهام عديدة إلى البشر.
ثم أعقب ذلك الحديث عن إنكار المشركين البعث بعد الموت، وإثباته بالقسم العظيم بالله تعالى من النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على وقوع المعاد: قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ. وذكرت اتهامهم الباطل للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه مفتر أو مجنون، ثم أكدت ثبوت قدرة الله تعالى بخسف الأرض وإسقاط السماء.
وتلاها تعداد النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان، وأهل سبأ كتسخير الطير والجبال للتسبيح مع داود، وتسخير الريح لسليمان عليهما السلام، وجعل الحدائق والثمار الطيبة لملوك اليمن أهل سبأ.
ثم تحدثت السورة عن أدلة وجود الله ووحدانيته، وتفنيد مزاعم المشركين في عبادة الأوثان، وإظهار صورة من الجدل العنيف بين الأتباع الكفرة والمتبوعين المخذولين يوم القيامة، وإلقاء كل من الفريقين التبعة على الآخر.
وأبانت عموم الرسالة الإسلامية- المحمدية لجميع الناس، وهددت بالحساب العسير والجزاء الأليم يوم القيامة، وأن المترفين في كل زمان هم أعداء الرسل لاغترارهم بأموالهم وأولادهم، وأن الله راض عنهم فلا يعذبهم، وأن الله سيسأل الملائكة يوم الحشر، هل طلبوا من المشركين عبادتهم؟.
تم حكت السورة إنكار المشركين للقرآن وأنه في زعمهم مفترى ليس بوحي، ووعظتهم بما عوقب به من قبلهم، وطالبتهم بالتأمل والتفكر في أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمفتر ولا مجنون، وإنما هو نذير بين يدي عذاب شديد، وأنه لا يطلب أجرا على دعوته، بل أجره على ربه.
(22/132)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
وختمت السورة بدعوة المشركين إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، قبل أن يأتي يوم القيامة، فيطلبون العودة إلى دار الدنيا للإيمان بالقرآن وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، والإتيان بصالح الأعمال، ولكن يحال بينهم وبين ما يشتهون، لفوات الأوان.
صفات الملك والقدرة والعلم لله تعالى
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
الإعراب:
الَّذِي لَهُ ... إما في موضع جر على النعت أو البدل، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أو في موضع نصب بمعنى أعني.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من اسم الله، ويحتمل أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب.
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ تعريف الطرفين لإفادة الحصر، أي لا يستحق الحمد الكامل إلا الله.
يَلِجُ يَخْرُجُ يَنْزِلُ يَعْرُجُ بين كل منهما طباق.
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ صيغة فعيل وفعول للمبالغة.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمْدُ هو الثناء على الله بما هو أهله، أو الثناء على الله بجميل صفاته
(22/133)
وأفعاله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا ونعمة. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وتمام نعمته، وله أيضا حمد عباده في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة، للسبب السابق ذاته وَهُوَ الْحَكِيمُ في فعله وهو الذي أحكم أمر الدارين ودبره بمقتضى الحكمة الْخَبِيرُ بخلقه في الدارين، وهو الذي يعلم بواطن الأمور.
يَلِجُ فِي الْأَرْضِ يدخل فيها كالماء ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع والنباتات والحيوان والفلزات وماء العيون وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والكتب والمقادير وَما يَعْرُجُ فِيها يصعد فيها من أعمال العباد وغيرها من الملائكة والأبخرة والأدخنة الرَّحِيمُ بعباده الْغَفُورُ لذنوبهم.
التفسير والبيان:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي إن الحمد المطلق الكامل لله مالك السموات والأرض وما فيهما، والمتصرف بشؤونهما، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وحمده على النعم التي أنعم بها على خلقه، والمعنى: إن المستحق للحمد والثناء والشكر هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصرفا بما يشاء، فهو صاحب القدرة الكاملة، والنعمة التامة.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي لله الحمد في الآخرة كالحمد في الدنيا لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة، كما قال في آية أخرى: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص 28/ 70] . وقال تعالى في حكاية حمد أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر 39/ 74] . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر 35/ 34- 35] .
وإذا كان هو المحمود على طول المدى، فهو المعبود أبدا.
(22/134)
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ أي والله هو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، يدبر شؤون خلقه على مقتضى الحكمة، والخبير ببواطن الأمور، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء. قال مالك: خبير بخلقه حكيم بأمره.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث الذي ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات، ويعلم ما يخرج من الأرض، كالحيوان والنبات والماء والفلزّات.
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب والأرزاق والأمطار والصواعق، وما يعرج فيها كالملائكة وأعمال العباد والغازات والأدخنة ووسائل النقل الجوي والطيور.
وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي والله هو الرحيم بعباده، فلا يعاجل عصيانهم بالعقوبة، الغفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الله تعالى هو المستحق لجميع المحامد والحمد: الشكر على النعمة، ويكون الثناء على الله بما هو أهله، فالحمد الكامل والثناء الشامل كله لله إذ النعم كلها منه، وهو مالك السموات والأرض وخالقهما والمتصرف فيهما بالإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة.
2- الله تعالى هو المحمود في الدنيا والآخرة لأنه المالك للأولى والثانية، وهو الحكيم في فعله، الخبير بأمر خلقه.
3- الله عالم بكل شيء من الظواهر والخوافي، يعلم ما يدخل في الأرض من قطر وغيره من الكنوز والدفائن والأموات، ويعلم ما يخرج منها من نبات
(22/135)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
وغيره، ويعلم ما ينزل من السماء من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات، وما يعرج فيها من الملائكة وأعمال العباد، وهو الرحيم بعباده الغفور لذنوب التائبين منهم.
وهذا ويلاحظ كما ذكر الرازي أن السور المفتتحة بالحمد خمس سور، سورتان منها في النصف الأول: وهما الأنعام والكهف، وسورتان في الأخير: وهما هذه السورة وسورة فاطر (سورة الملائكة) ، والفاتحة التي تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير، والحكمة فيها أن نعم الله منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء، ففي سورة الأنعام إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [1] وفي سورة الكهف إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً [1- 2] فإن بالشرائع البقاء. ثم في هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني في قوله: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وفي سورة فاطر إشارة إلى نعمة الإبقاء الثاني وهو في يوم القيامة لأن الملائكة لا تكون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلّمين، كما قال تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء 21/ 103] . وفي فاتحة الكتاب إشارة إلى النعمة العاجلة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [1] وإلى النعمة الآجلة بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [4] لذا قرئت في الافتتاح والاختتام.
إنكار الكفار الساعة وموقف الناس من آيات الله وجزاؤهم
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
(22/136)
الإعراب:
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ عالِمِ بالجر: نعت لقوله تعالى: وَرَبِّي أو بدل منه، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره:
هو عالم الغيب. وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ.. مرفوعان بالابتداء.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ.. اللام تتعلق بقوله: لا يَعْزُبُ. وأَلِيمٌ بالجر والرفع صفة لرجز أو عذاب.
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إما معطوف على لِيَجْزِيَ أو مستأنف.
هُوَ الْحَقَّ مفعول ثان ل يَرَى وهو: ضمير فصل، ومن قرأ بالرفع جعل هُوَ مبتدأ، والْحَقَّ خبره، والجملة ثاني مفعولي يَرَى.
البلاغة:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ووَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ بينهما ما يسمى بالمقابلة، فالمغفرة والرزق الكريم جزاء المحسنين، والعذاب والرجز الأليم جزاء المجرمين.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ القيامة والبعث، وهذا منهم إنكار لمجيئها، أو استبطاء استهزاء بالوعد به قُلْ: بَلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه «1» وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ
__________
(1) «بلى» : لها موضعان: الأول- أن تكون ردّا لنفي يقع قبلها، خبرا كان أو نهيا، فينتفي بها ما قبلها من النفي وتحققه، كما هنا. والثاني- أن تقع جوابا لاستفهام دخل على نفي تحققه، فيصير معناها التصديق لما قبلها، مثل: ألم أكن صديقك؟ فيقول الرادّ: بلى، إذا صدقه، والمعنى: بلى كنت صديقي، فهي إذن لإثبات المنفي. وأما «نعم» : فهي في الأصل: تصديق لما قبلها في كل كلام وإيجاب له، وعدة، مثل: هل تحسن إلي؟ فيقول الرادّ: نعم، فيعده بالإحسان، فإن أراد ترك الإحسان قال: لا، ولا يحسن هنا: بلى.
و «لا» نفي لما قبلها وردّ له. وأما «كلا» فتكون بمعنى «لا» ومعناها الرد والإنكار لما تقدم قبلها من الكلام وذلك في حال الوقف عليها. وقد تأتي بمعنى «حقّا» وهو مذهب الكسائي خلافا لحذّاق النحويين. وفي حال الابتداء ب «كلا» تكون بمعنى «ألا» مثل كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (شرح «كلا، وبلى، ونعم» للعلامة مكي بن أبي طالب القيسي) .
(22/137)
تكرار لإثباته، مؤكدا بالقسم، مقررا وصف المقسم به بصفات تثبت إمكانه، وتنفي استبعاده لا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ وزن أو مقدار أصغر نملة وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ المثقال وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إلا وهو مثبت في كتاب بيّن واضح وهو اللوح المحفوظ.
وقوله: وَلا أَصْغَرُ إلخ جملة مؤكدة لنفي العزوب.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا.. علة لقوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ وبيان لما يقتضي إتيانها، أي إن إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، أي محوها من قبل الله تعالى بسبب غلبة إيمانهم وأعمالهم الصالحة على ذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ حسن لا تعب فيه ولا منّة عليه، وهو ما يقيض لهم من ملاذ الأطعمة وغيرها في الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح تفضلا من الله تعالى عليهم.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بإبطال آياتنا المنزلة على الرسل، وتزهيد الناس فيها مُعاجِزِينَ مسابقين لنا يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، لاعتقادهم ألا بعث ولا عقاب، وقرئ: معجّزين، أي مثبّطين عن الإيمان بآيات القرآن من أراده رِجْزٍ سيء العذاب أو عذاب شديد أَلِيمٌ مؤلم.
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويعلم أولو العلم من الصحابة ومشايعوهم من الأمة، أو من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ القرآن هُوَ الْحَقَّ الثابت الصحيح وغيره باطل وَيَهْدِي إِلى صِراطِ أي يوصل إلى طريق الله ودين الله وهو التوحيد والتقوى الْعَزِيزِ ذي العزة الذي يغلب ولا يغلب الْحَمِيدِ المحمود في جميع شؤونه.
(22/138)
المناسبة:
بعد بيان أن لله الحمد في الدنيا والآخرة، أبان الله تعالى أن الكفار ينكرون حدوث القيامة أشد الإنكار، أو يستعجلون بها استهزاء بوعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بها، ثم أوضح تعالى أن الناس من آيات القرآن فريقان: فريق المنكرين الجاحدين المعاندين الساعين في إبطالها، وجزاؤهم العذاب الأليم، وفريق العالمين المؤمنين بأنها الحق الصراح الأكيد الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي وقال الكافرون بالرسالات السماوية إنكارا منهم أو استعجالا على سبيل الاستهزاء بالوعد: لن يكون هناك قيامة ولا بعث ولا حساب. وهم بذلك جاحدون الأخبار الواردة من ربهم بحدوث الساعة، والتي تضمنتها كتبه وما فيها من الحجج والبينات.
فرد الله عليهم مؤكدا بطلان اعتقادهم:
قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي قل لهم أيها النبي: بلى والله إنها لآتية لا ريب فيها. ويلاحظ في ذلك إثبات وجودها ونفي مزاعمهم، مؤكدا ذلك بالقسم بالله وبالتأكيد في الفعل باللام ونون التوكيد.
وهذه الآية- كما ذكر ابن كثير- إحدى آيات ثلاث أمر الله تعالى فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، للرد على المنكرين من أهل الشرك والنفاق والعناد، فإحداهن في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [53] والثانية هذه:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ والثالثة في سورة التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [7] .
(22/139)
ثم وصف الله تعالى نفسه بصفة العلم الشامل الدال على إمكان البعث، فقال:
عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إن الله تعالى القادر على البعث لا يغيب عنه ولا يستتر عليه شيء من الموجودات ولو كان بقدر أصغر نملة، ولا أصغر من المثقال ولا أكبر منه إلا وهو محفوظ ومثبت في كتاب بيّن وهو اللوح المحفوظ. فالعلم بالغيبيات موجود، فاقتضى إمكان البعث.
ثم بيّن الله تعالى حكمته في إعادة الأجساد وقيام الساعة بقوله:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي إن يبعثهم من قبورهم في البر والبحر وأي مكان يوم القيامة ليثيب المؤمنين بالله ورسله واليوم الآخر، الذين عملوا صالح الأعمال وهو ما أمروا به، واجتنبوا ما نهوا عنه، وأولئك لهم مغفرة أي محو لذنوبهم، ونعيم في الجنة لا تعب ولا منة فيه، والمقصود أن إثابة المؤمنين حق وعدل.
هذا هو فريق المؤمنين، والفريق الثاني:
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي إن الكفار المعاندين الذين حاولوا إبطال آيات القرآن وأدلة إثبات البعث، ظانين أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، لهم عذاب شديد في نار جهنم هو أسوأ العذاب وأشده، وهو مؤلم شديد الألم. وهذا التعذيب أيضا حق وعدل، حتى لا يتساوى المسيء مع المحسن، كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
[سورة ص 38/ 28] وقال سبحانه: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] .
(22/140)
والخلاصة: أن الغاية من القيامة هي أن ينعم السعداء من المؤمنين بالجنة، ويعذب الأشقياء من الكافرين بالنار.
ثم أورد الله تعالى حكمة أخرى معطوفة على ما قبلها فقال:
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي إن المؤمنين بما أنزل على الرسل من المسلمين وأهل الكتاب، مثل عبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما وغيرهم إذا شاهدوا قيام الساعة، ومجازاة الأبرار والفجار، وتحققوا مما علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذ عين اليقين وتيقنوا أن القرآن حق، ويقولون يومئذ: إن الذي جاءت به رسل الله لحق ثابت صدق لا شك فيه، وأن القرآن يرشد من اتبعه إلى طريق الله ذي العزة الذي لا يغلب ولا يمانع، وهو القاهر كل شيء، وهو المحمود في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ولا يليق به صفة العجز.
والصحيح أن وَيَرَى مرفوع على الاستئناف.
ونظير الآية: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس 36/ 52] لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم 30/ 56] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- أنكر الكفار من أهل مكة وغيرهم مجيء البعث والقيامة، قال أبو سفيان لكفار مكة: واللّات والعزّى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث، وهذا يعني أنهم مقرون بابتداء الله الخلق منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل.
2- أكد الله تعالى حدوث الساعة بقسم محمد صلّى الله عليه وسلّم بربه العظيم لتأتينهم،
(22/141)
وأخبر على ألسنة الرسل عليهم السلام أنه يبعث الخلق، وإذا ورد الخبر بشيء، وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال.
3- الله عالم بأصغر شيء وأكبره في السموات والأرض، فهو العالم بما خلق، ولا يخفى عليه شيء، فوجد المقتضي لوجود البعث وهو إقامة العدل بين الناس، وارتفع المانع من حصوله.
4- إن الحكمة من البعث والقيامة والحساب هي إثابة المؤمنين الذين عملوا الصالحات، وعقاب الكافرين المكذبين بوحدانية الله وبالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر.
5- إن الكفار الذين سعوا في إبطال أدلة الوحدانية والبعث والنبوة، والتكذيب بآيات الله مسابقين يحسبون أنهم يفوتون ربهم، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنه يهملهم، هؤلاء لهم عذاب مؤلم هو أسوأ العذاب وأشده.
6- وفي مقابل موقف أولئك الكفار الذين سعوا في إبطال النبوة، وجد آخرون هم الذين أوتوا العلم من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن مؤمني أهل الكتاب يرون أن القرآن حق وإن لم تأتهم الساعة، والرؤية بمعنى العلم، وأن القرآن يهدي إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله.
(22/142)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
استبعاد الكفار قيام الساعة واستهزاؤهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والاستدلال على البعث
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
الإعراب:
إِذا مُزِّقْتُمْ العامل في إِذا فعل دلّ عليه قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وتقديره: إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم. وتقديم الظرف للدلالة على البعد.
البلاغة:
هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ الاستفهام للسخرية والاستهزاء، ومرادهم الاستهزاء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يذكروا اسمه تجهيلا له.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: قال بعض الكفار لبعض على جهة التعجيب هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم. يُنَبِّئُكُمْ يخبركم أنكم إِذا مُزِّقْتُمْ قطّعتم قطعا صغيرة. كُلَّ مُمَزَّقٍ أي كل تمزيق، أي تقطيع. إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي إنكم تنشؤون وتخلقون خلقا جديدا بعد التمزيق والتفريق بحيث تصير ترابا. قالوا ذلك استهزاء.
أَفْتَرى الهمزة للاستفهام، واستغني بها عن همزة الوصل، والافتراء: اختلاق الكذب.
(22/143)
جِنَّةٌ جنون وزوال عقل يوهمه ذلك ويجعله يتخيل البعث. بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المشتملة على البعث والعذاب فيها فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ عن الحق والصواب في الدنيا، والعذاب في الآخرة. والمقصود الردّ من الله عليهم لإثبات ما هو أفظع من القسمين وهو الضلال والعذاب.
أَفَلَمْ يَرَوْا ينظروا. إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ما فوقهم وما تحتهم. نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ نغيبهم فيها. كِسَفاً قطعا جمع كسفة. إِنَّ فِي ذلِكَ المرئي. لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ المنيب: الراجع إلى ربه المطيع له، والمعنى: إن فيما رأوا لدلالة على قدرة الله على البعث وما يشاء.
المناسبة:
بعد الإخبار عن إنكار الكفرة الساعة، والرّد عليهم، وبيان جزائهم وجزاء المؤمنين بها، ذكر الله تعالى مقال الكافرين في شأن الساعة على سبيل التعجب والتهكم والاستهزاء، ووصفهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه مفتر أو مجنون، ثم أقام الدليل على البعث بقدرته على خلق السموات والأرض، ثم هددهم بالعذاب الشديد، لعلهم يرجعون عن كفرهم.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي قال بعض الكفار لبعض على سبيل التعجب والاستهزاء والتهكم: هل ندلكم على شخص اسمه محمد يخبركم بنبإ غريب وهو أنكم إذا بليتم وصرتم ترابا وصارت أجسادكم في الأرض متفرقة موزعة قطعا قطعا، تعودون بعدئذ أحياء كما كنتم مرة أخرى.
ونظير الآية: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس 36/ 78] .
(22/144)
أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي إن حاله لا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله كذبا أنه قد أوحى إليه ذلك، أي أنه كاذب فيما قاله، أو أن به جنونا جعله لا يعقل ما يقول، ويتوهم البعث ويتخيله.
فردّ الله عليهم بإثبات ما هو أخطر وأشنع من الأمرين فقال:
بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما ذهبوا إليه، بل إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو الصادق الرشيد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء المنكرون للآخرة، الذين كفروا، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة، وهم اليوم في الدنيا في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.
ثم نبههم تعالى على قدرته في خلق السموات والأرض، فهو القادر على البعث، فقال:
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي وبخهم لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض، فقال لهم: أفلم ينظروا خلفهم وأمامهم إلى العجائب الدالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته، فإنهم يرون السماء ناطقة بوجود القادر، والأرض كذلك تنطق بمثل ما تشير به السماء من الدلالة، فلو نظروا إليهما لعلموا أن خالقهما قادر على تعجيل العذاب لهم، فإن نرد نخسف بهم الأرض، كما خسفنا بقارون، أو نسقط عليهم قطعا من السماء، كما أسقطنا على أصحاب الأيكة.
والمراد: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر العقاب عنهم لحلمنا وعفونا.
(22/145)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجّاع إلى الله، على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرض في انخفاضها وطولها وعرضها، قادر على إعادة الأجسام كما كانت، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] ، وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى [يس 36/ 81] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- لم يكتف المشركون بإعلان إنكارهم البعث والقيامة، وإنما تغالوا في ذلك فأخذوا يقولون قولا يقصد به الطعن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والتعجب منه والهزء والسخرية من إخباره بالبعث، وجعلوا ذلك أداة ضحك وتلهي، واستغربوا أن الناس إذا فرقوا كل تفريق في أجزاء التراب، كيف يمكن إعادة الحياة لهم؟! 2- وقال المشركون: إن محمدا في إخباره بالبعث لا يخلو إما أن يكون كاذبا مفتريا على الله، وإما أنه مجنون.
3- ردّ الله عليهم ردّا يثبت عليهم ما هو أشنع من التهمتين السابقتين: وهو أنهم بسبب إنكارهم البعث واقعون في الآخرة في العذاب الشديد، واليوم في الضلال البعيد عن الصواب، حين صاروا إلى تعجيز الإله، ونسبة الافتراء إلى من أيّده الله بالمعجزات.
4- ثم أقام الله تعالى عليهم الدليل على صحة البعث، فأعلمهم أن الذي قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث، وعلى تعجيل العقوبة لهم، ومنها الخسف والكسف، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
(22/146)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
5- وإن في هذا المذكور من قدرة الله الباهرة لدلالة ظاهرة لكل عبد تائب رجّاع إلى الله بقلبه على قدرة الله تعالى على البعث ووقوع المعاد. وخصّ المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالتفكر في حجج الله وآياته.
نعم الله على داود عليه السلام
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
الإعراب:
وَالطَّيْرَ إما منصوب بالعطف على موضع المنادي وهو النصب في قوله: يا جِبالُ أو على أنه مفعول معه، أي مع الطير، أو بفعل مقدر، أي وسخرنا له الطير، ودلّ عليه قوله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا. ويقرأ بالرفع وَالطَّيْرَ عطفا على لفظ يا جِبالُ أو عطفا على الضمير المرفوع في أَوِّبِي وحسن ذلك لوجود الفصل ب مَعَهُ والفصل يقوم مقام التوكيد. والقراءة بالنصب أقوى في القياس من الرفع.
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أَنِ: إما مفسرة بمعنى (أي) أو في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: لأن أعمل. وسابِغاتٍ: أي دروعا سابغات، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
البلاغة:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا تنكير فَضْلًا للتفخيم، أي فضلا عظيما. وتقديم داود على المفعول اهتمام بالمقدم وتشويق إلى المؤخر.
المفردات اللغوية:
فَضْلًا هو النبوة والملك والجنود وكتاب الزبور والصوت الحسن. أَوِّبِي مَعَهُ رجّعي وردّدي معه التسبيح، والتأويب: التسبيح. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالعجين
(22/147)
أو الشمع يصرّفه من غير نار ولا طرق. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي وقلنا له اعمل دروعا كوامل تامة، وهو أول من اتخذها. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي اجعل النسج متناسبا في الحلق على قدر الحاجة غير مختلفة. وقَدِّرْ: اقتصد، والسَّرْدِ: النسج، يقال لصانع الدروع: سرّاد وزرّاد. وَاعْمَلُوا صالِحاً يعود الضمير لداود وأهله أي آل داود. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مطلع على كل أعمالكم، فأجازيكم عليها.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى من ينيب من عباده، ذكر نماذج ممن أنابوا إلى ربّهم ومنهم داود عليه السلام، وبيّن ما آتاه الله على إنابته، من النبوة والملك والجنود والزبور والصوت الحسن، فكانت الجبال والطيور إذا سبّح تسبّح معه، وعلّمه تعالى صناعة الدروع الحربية للوقاية من الضربات في الحروب.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ يخبر تعالى عما أنعم به على رسوله داود عليه السلام مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك العظيم المتمكن والجنود، ومنحه من الصوت الرخيم القوي المؤثر، الذي كان إذا سبّح سبّحت معه الجبال الراسيات، والطيور السارحات: الغاديات الرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات.
والمعنى: لقد أعطينا داود فضلا عظيما ونعما جليلة، فقلنا للجبال والطير:
رددي معه التسبيح إذا سبّح.
جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يقرأ من الليل فوقف، فاستمع لقراءته، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» .
(22/148)
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي جعلنا الحديد في يده لينا يصنع به ما يشاء، من غير حاجة إلى نار ولا مطرقة، بل كان يفتله في يده مثل الخيوط، ليعمل به الدروع الكاملات الواسعات التي تقي من ويلات الحروب، وعلمه كيفية نسج الدروع بحيث تكون متناسبة الحلق، وعلى قدر الحاجة، فلا هي صغيرة ضيقة لا تحقق الهدف، ولا كبيرة ثقيلة على لابسها، فيعجز عن لبسها. ولا شك أن إلانة الحديد من غير نار ولا طرق معجزة لنبي الله داود، لا تنطبق على غيره. وكان داود عليه السلام أول من صنع الدروع، قال قتادة رحمه الله: «كانت الدروع قبله صفائح ثقالا» فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة.
وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي اعملوا يا آل داود عملا صالحا فيما أعطاكم الله تعالى من النعم فإني مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى عليّ شيء منها. وقوله: إِنِّي بِما.. تعليل للأمر.
وهذا تحريض على إصلاح العمل لشكر النعمة، والعمل الصالح يقوّم النفوس، ويصقل الروح، ويحصنها من المزالق والانحرافات.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لقد منح الله تعالى عبده المنيب ورسوله داود عليه السلام فضلا عظيما، فضّله به على سائر الأنبياء من قبله، من الجمع بين النبوة والملك والزبور والعلم والجنود وتسبيح الجبال والطيور مع تسبيحه، قال تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص 38/ 18] .
(22/149)
قال أبو ميسرة في تفسير التأويب: هو التسبيح بلغة الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام.
وقيل: المعنى: سيري معه حيث شاء من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، والنزول ليلا.
وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوّتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير.
2- ومن فضائل الله على داود ومعجزاته: إلانة الحديد بيده، حيث يصير كالعجين أو الشمع من غير نار ولا مطرقة.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على مشروعية تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرّف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان.
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» .
3- علّم الله تعالى داود عليه السلام صناعة الدروع السابغات، أي الكوامل التامات الواسعات، المحكمة الحلق المتناسبة فيما بينها، ليست بالصغيرة فلا تحقق الغرض منها وهو الدفاع، ولا بالكبيرة التي تثقل كاهل لابسها.
4- لم يستثن الله نبيا ولا رسولا من إلزامه بالعمل الصالح، لذا أعقب بيان نعمه وأفضاله على داود بأمره مع أهله بصالح العمل وهو فعل الأوامر وترك النواهي، كما قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ 34/ 13] . وعلل الترغيب بالعمل الصالح بأنه تعالى بصير بأعمال عباده وأقوالهم، لا يغيب عنه شيء، فيجازيهم عليها.
(22/150)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
نعم الله على سليمان عليه السلام
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
الإعراب:
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ الرِّيحَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: وسخرنا لسليمان الريح، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور خبر مقدم، أو مرفوع بالجار والمجرور على مذهب الأخفش.
غُدُوُّها شَهْرٌ مبتدأ وخبر. وَرَواحُها شَهْرٌ معطوف عليه، أي غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر، وإنما وجب هذا التقدير لأن الغدو والرواح ليس بالشهر، وإنما يكونان فيه.
وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ: إما منصوب بتقدير فعل، تقديره: وسخّرنا من الجن من يعمل بين يديه، وإما مرفوع بالابتداء، والجار والمجرور خبره، أو مرفوع بالجار والمجرور على مذهب الأخفش.
وَمَنْ يَزِغْ مِنَ: شرطية في موضع رفع بالابتداء، ونُذِقْهُ: الجواب، وهو خبر المبتدأ.
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً شُكْراً: منصوب لأنه مفعول لأجله، ولا يكون منصوبا ب اعْمَلُوا لأن «شكروا» أفصح من: «اعملوا شكرا» .
(22/151)
مِنْسَأَتَهُ يقرأ بالهمز على الأصل، ومن لم يهمزه أبدل من الهمزة ألفا.
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ أَنْ: إما بالرفع على البدل من الْجِنُّ وهو بدل اشتمال، مثل: أعجبني زيد عقله، وإما بالنصب على تقدير حذف حرف جر، وهي اللام.
البلاغة:
غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر.
وَجِفانٍ كَالْجَوابِ تشبيه مرسل مجمل، لذكر أداة الشبه، وحذف وجه الشبه.
المفردات اللغوية:
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ فيه تقدير، أي وسخرنا لسليمان الريح. غُدُوُّها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، والغداة: من الصباح إلى الزوال. وَرَواحُها شَهْرٌ أي وجريها بالعشي مسيرة شهر، والعشي: من الزوال إلى الغروب. وَأَسَلْنا أذبنا. الْقِطْرِ النحاس المذاب.
بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمر ربه. وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أي ومن يعدل منهم عن طاعة سليمان بأمرنا له بطاعته. نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي من عذاب النار في الآخرة، أو الحريق في الدنيا.
مَحارِيبَ هي الأبنية العالية والقصور الرفيعة الحصينة، سميت بذلك لأنه يحارب عليها، وقيل: المراد بالمحاريب هنا: المساجد. وَتَماثِيلَ جمع تمثال، وهو كل شيء مجسّم صوّرته بصورة الحيوان من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك. قيل: إن التصوير كان مباحا في شرع سليمان، ثم نسخ ذلك في شرع نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَجِفانٍ جمع جفنة، أي صحاف تشبه في العظم حياض الإبل، يجتمع على القصعة الواحدة جمع كبير كألف، يأكلون منها. كَالْجَوابِ كالحياض الكبار، جمع جابية. وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات، ولها قوائم لا تتحرك عن أماكنها، تتخذ من الجبال باليمن، يصعد إليها بالسلالم.
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي وقلنا لهم: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرا له على ما آتاكم. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ العامل بطاعة الله، المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر إلى ما لا نهاية.
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي حكمنا على سليمان، بأن مات ومكث قائما متكئا على عصاه، وبقي الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة على عادتها، لا تشعر بموته، حتى أكلت الأرضة عصاه، فخرّ ميتا. ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي ما دلّ الجن على موته إلا الأرضة: وهي التي تأكل
(22/152)
الأخشاب ونحوها، مأخوذة من أرضيت الخشبة: أكلتها الأرضة، ويقال: أرضيت الأرضة الخشبة أرضا. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه لأنها ينسأ بها، أي يطرد ويزجر بها. فَلَمَّا خَرَّ سقط ميتا. تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ انكشف لهم. أَنْ لَوْ كانُوا أَنْ: مخففة من الثقيلة، أي أنهم.
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كما زعموا، لعلموا بموته. ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ما أقاموا في الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها، لظنهم حياته. قيل: وقد أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما وليلة مقدارا، فحسبوا ذلك، فوجدوه قد مات منذ سنة، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. وقال كما ذكر الماوردي بعد الانتهاء من بناء المسجد الأقصى: «اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلا أمّنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا فقير إلا أغنيته، والخامس: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا ربّ العالمين» .
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله به على داود عليه السلام من النبوة والملك، ذكر تعالى ما أنعم به على سليمان من تسخير الريح له، حيث كانت تجري من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس كإذابة الحديد لأبيه داود، وتسخير الجن لبناء القصور الشامخة وصناعة الجفان الكبيرة كالأحواض، والقدور الثابتة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها. وهذه الأشياء الثلاثة تقابل الثلاثة في حقّ داود وهي تسخير الجبال الذي هو من جنس تسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير الذي هو من جنس تسخير الجن لسليمان، وإلانة الحديد كإلانة النحاس لسليمان.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات نعما ثلاثا كبري أنعم بها على سليمان عليه السلام وهي:
1- تسخير الريح: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ
(22/153)
أي وسخّرنا لسليمان الريح التي كانت تحمل بساطا له غدوها (أي سيرها وقت الغداة من أول النهار إلى منتصف النهار) مسيرة شهر، ورواحها (جريانها وقت الرواح من منتصف النهار إلى الغروب) مسيرة شهر.
قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق، فينزل بإصطخر يتغدى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل (في أفغانستان) وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
2- إذابة النحاس: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي وأذبنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، فكان يصنع منه ما يشاء دون نار ولا مطرقة. وسمي عينا، لأنه سال من معدنه سيلان الماء من الينبوع.
3- تسخير الجن: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي وسخرنا له من الجن من يعمل لديه من المحاريب وغيرها، بأمر ربّه وقدرته وتيسيره وتسخيره إياهم لسليمان، ومن يعدل ويخرج منهم عن طاعة سليمان نذقه عذابا أليما من الحريق في الدنيا، أو من عذاب النار في الآخرة.
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ، وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي يعمل الجن لسليمان ما يريد من الأبنية الرفيعة والقصور العالية والمساجد والصور المجسمة المصنوعة من النحاس أو الزجاج أو الرخام ونحوها، والصحاف أو القصاع الكبيرة التي تكفي لعدد كبير من الناس وتشبه حياض الإبل، والقدور الثابتات في أماكنها، لا تتحرك ولا تتحول عن مواضعها لعظمها وثقلها.
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي وقلنا: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرا له على ما آتاكم من النعم في الدين والدنيا، وقليل
(22/154)
من عبادي من يشكرني، فيستعمل جميع جوارحه فيما خلقت له من المنافع المباحة. والشكور: هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضرّ. كما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ [ص 38/ 24] وهذا إخبار عن الواقع.
ورد في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأحبّ الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى» .
وأخرج مسلم في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا» .
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر، فتلا هذه الآية، ثم قال: «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود، فقلنا: ما هنّ؟
فقال: العدل في الرّضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السّرّ والعلانية» .
ومع هذه النعم وعظمة سليمان عليه السلام ذكر تعالى كيفية موته وتعميته على الجن المسخرين له في الأعمال الشاقة، فقال:
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي فلما حكمنا على سليمان بالموت وألزمناه إياه، مات، وهو قائم متكئ على عصاه، ولم تعلم الجن بموته، وبقوا يعملون خوفا منه، ولم يدلّهم على موته إلا الأرضة التي أكلت عصاه من الداخل، فلما سقط بعد ما وقعت عصاه، ظهر للجن أنهم
(22/155)
لا يعلمون الغيب كما زعموا، ولو صحّ ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب، لعلموا بموته وهو أمامهم، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العمل الشاق الذي سخرهم فيه، ظانين أنه حيّ. أما المدة التي مكث فيها سليمان متكئا على عصاه فلم يرد خبر صحيح في شأنها، ونترك الأمر في تقديرها لله عزّ وجلّ، وربما يستأنس
بالحديث المرفوع الذي رواه إبراهيم بن طهمان عن ابن عباس وفيه: «أن سليمان نحت عصا الخرنوبة، فتوكأ عليها حولا لا يعلمون، فسقطت، فعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك، فوجدوه سنة» «1» .
قال الرازي: وقوله: ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين «2» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- امتنّ الله تعالى على سليمان عليه السلام بما أنعم عليه من النعم الجليلة أهمها ثلاث: تسخير الريح، وإذابة النحاس، وتسخير الجنّ للعمل بأمره.
أما تسخير الريح فكانت تحمل بساطه تنقله من مكان إلى آخر، فتقطع مسافة في نصف يوم تقدر بمسيرة شهر للمسافر العادي، وهذا معنى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ.
2- والنعمة الثانية هي إذابة النحاس في يده.
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 279
(2) تفسير الرازي: 25/ 250
(22/156)
قال القرطبي: والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته «1» .
3- والنعمة الثالثة هي تسخير الجنّ له شغلة عملة لمختلف الحرف والصناعات الثقيلة، من المساجد والقصور الشامخة، والقصاع الكبيرة كحياض الإبل وقدور النحاس الثوابت التي لا تحرك لعظمها. والتماثيل: وهي كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان أو غيره. ذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهادا،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصّور»
أي ليتذكروا عبادتهم، فيجتهدوا في العبادة.
والآية صريحة في أن نبي الله سليمان عليه السلام كان يتخذ التماثيل. وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ جوازه بشرع محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعلة النسخ سد الذّرائع ومحاربة ما كانت العرب تفعله من عبادة الأوثان والأصنام، كما أن التعظيم لا يكون لغير الله تعالى.
ذكر ابن العربي خمسة أحاديث في منع التصوير، منها
ما رواه مسلم عن أبي طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» زاد زيد بن خالد الجهني: «إلا ما كان رقما في ثوب»
ثم ثبتت كراهية الرّقم أيضا ونسخه المنع منه في أحاديث أخرى، فاستقرّ الأمر فيه على المنع كما ذكر القرطبي، ومنها:
ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود وابن عباس: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون»
ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حوّلي هذا، فإني كلما دخلت، فرأيته ذكرت الدنيا»
وعنها
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 270
(22/157)
قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام «1» فيه صورة، فتلوّن وجهه، ثم تناول السّتر فهتكه، ثم قال: «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون بخلق الله عزّ وجلّ» .
هذا ما يراه ابن العربي والقرطبي «2» في أن المنع من التصوير عام، ثم استثنيت منه أشياء، مثل لعب البنات، بالحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. واستبعد جماعة من العلماء هذا الاتجاه لأن النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ، والأولى في الجمع بين الأحاديث: أن يقال: تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسدا لذي روح، بدليل
حديث «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله»
ومن طريق آخر: «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم»
فيكون المنع متجها إلى صور الأجسام ذات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال: إن صاحبها يضاهي بها خلق الله، وذلك إذا كانت كاملة الخلق، بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح.
وأما حديث الأمر بتحويل السّتر الذي فيه تمثال طائر، فلاستقبال المارة له، مما يشعر بتعظيمه، فإذا وضع للاستعمال فلا بأس.
أما تصوير الجمادات، كالجبال والأنهار، والأشجار ونحوها، فليست مما يتناولها النص بإشارة:
«يشبّهون خلق الله»
وبإشارة
«يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» .
وكذلك كل ما وضع في حالة لا تشعر بالتعظيم كالاستعمال في الأرض لا يكون ممنوعا.
__________
(1) القرام: السّتر الرقيق.
(2) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1589- 1590، تفسير القرطبي: 14/ 272- 274
(22/158)
هذا وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور، نقلا عن ابن العربي، وهي أن اتخاذ الصور ذات الأجسام أو ذات الظل لكل ما فيه روح من إنسان أو حيوان حرام بالإجماع إلا لعب البنات. أما الرّقم على الثياب ففيه أربعة أقوال:
الأول- يجوز مطلقا، عملا
بحديث: «إلا رقما في ثوب» .
الثاني- المنع مطلقا.
الثالث- إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل، حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال: وهذا هو الأصح.
الرابع- إن كانت مما يمتهن جاز، وإلا لم يجز.
وأجاز جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب اتخاذ الصور إذا كانت مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد.
أما التصوير الشمسي أو الفوتوغرافي فحكمه حكم الرقم في الثوب، وهذا مستثنى بالنّص، بل إن هذا في الحقيقة ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به الأحاديث بل حبس للصورة أو الظل، فيكون مثل الصورة في المرآة أو الماء، وليس فيه محاكاة صنع الخالق أو تشبيه خلق الله تعالى.
4- أمر الله آل داود بشكره، وأخبر أن الشاكرين من عبادة قلة قليلة، مما يدل على وجوب شكر الله تعالى على ما أنعم على الإنسان، وحقيقة الشكر:
الاعتراف بالنعمة للمنعم، واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية.
وظاهر القرآن والسّنّة: أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان، فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان.
(22/159)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
5- ليس لأحد من الملائكة والجنّ والأنبياء والناس ادعاء العلم بالغيب، وإنما ذلك مختص بالله تعالى، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] .
وفي قصة موت سليمان متكئا على عصاه، دون أن تعلم الجن بموته، بدليل استمرارهم بما كلّفوا به من الأعمال الشاقة: مثل واقعي فذّ لجهلهم بالغيب، فإنه ظلّ مدة متكئا على عصاه، ثم سقط بسقوط العصا التي تآكلت بفعل الأرضة، وحينئذ علموا أنه ميّت.
قصة سبأ وسيل العرم
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
(22/160)
الإعراب:
لِسَبَإٍ من قرأ بالتنوين جعله منصرفا، وقال: هو اسم بلد أو حي، وليس فيه تأنيث، ومن لم ينونه، جعله غير منصرف للتعريف (العلمية) والتأنيث، وقال: هو اسم بلدة أو قبيلة.
فِي مَسْكَنِهِمْ من قرأ بالإفراد ففيه لغتان بفتح الكاف وكسرها، والفتح على القياس لأن مضارعه «يسكن» . والكسر على خلاف القياس، مثل: مطلع ومغرب ومسجد ومسقط ومنبت ومجزر. ومن قرأ بالجمع جعله جمع مسكن.
جَنَّتانِ إما بدل من قوله آيَةٌ أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنتان، أو مبتدأ على تقدير: هنا جنتان، أو هناك جنتان.
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ خبر مبتدأ أي هذه بلدة طيبة، وكذلك: وَرَبٌّ غَفُورٌ أي وهذا رب غفور.
لَيالِيَ وَأَيَّاماً منصوبان على الظرف. والليالي جمع (ليلة) على خلاف القياس. وأيام جمع يوم.
آمِنِينَ حال.
أُكُلٍ خَمْطٍ من قرأ بالتنوين جعل (الخمط) عطف بيان على (الأكل) ولا يجوز أن يكون صفة لأنه اسم شجرة بعينها، ولا بدلا لأنه ليس هو الأول ولا بعضه. ومن لم ينون أضاف (الأكل) إلى الخمط لأن الأكل هو الثمرة، والخمط هو الشجرة، فأضاف الثمرة إلى الشجرة، مثل تمر نخل، وعنب كرم.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ذلِكَ: في موضع نصب لأنه مفعول ثان ل جَزَيْناهُمْ والمفعول الأول: الهاء والميم، وما: مصدرية أي بكفرهم.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ من قرأ صدق بالتخفيف، كان ظَنَّهُ إما منصوب انتصاب الظرف، أي في ظنه، وإما منصوب انتصاب المفعول به على الاتساع، وإما منصوب على المصدر. ومن قرأ بالتخفيف ونصب إبليس ورفع ظنه، جعل الظن فاعلا وإبليس مفعولا. ومن قرأ بالتشديد نصب ظَنَّهُ لأنه مفعول صَدَّقَ.
البلاغة:
يَمِينٍ وَشِمالٍ بينهما طباق.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا بين الكلمتين الأخيرتين جناس اشتقاق.
(22/161)
صَبَّارٍ شَكُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.
وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ بينهما ما يسمى بمراعاة الفواصل، من أنواع الجمال في اللفظ.
المفردات اللغوية:
لِسَبَإٍ اسم قبيلة من قبائل العرب العاربة في بلاد اليمن، وتعد أصلا تفرع منها عدة فروع في جزيرة العرب. وقد سميت باسم جدّ لهم من العرب: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. فِي مَسْكَنِهِمْ موضع السكنى وهو مأرب في بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. آيَةٌ علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد أمور عجيبة. جَنَّتانِ بستانان. عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ عن يمين واديهم وشماله. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي قيل لهم ذلك، والرزق: ثمار الجنتين. وَاشْكُرُوا لَهُ على ما رزقكم من هذه النعم في أرض سبأ، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور. وكون البلد طيبة: أنه ليس فيها سباخ ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية لطيب هوائها.
فَأَعْرَضُوا انصرفوا عن شكر هذه النعم وكفروا بالله. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي دمّره الله، وفتق عليهم سد مأرب حتى انتقض، فدخل الماء بساتينهم فغرقها، ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم. والعرم: جمع عرمة: وهي الحجارة المركومة والمباني القائمة، وسيل العرم: هو السيل الذي لا يطاق لقوته وشدّته. أُكُلٍ خَمْطٍ مرّ، والأكل بمعنى المأكول: الثمر، والخمط:
كل شجرة مرّة ذات شوك وليس له ثمر. وَأَثْلٍ هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء، ولا ثمر له. سِدْرٍ شجر النبق له ثمر يؤكل. أهلك الله أشجارهم المثمرة، وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر، ووصف السدر بالقلة لأن ثمره مما يطيب أكله.
ذلِكَ التبديل. جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بكفرانهم النعمة، أو بكفرهم بالرسل، إذ بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي لا نجازي بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في كفران النعم أو الكفر بالرسل. وقرئ: يجازي.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ سبأ باليمن. وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والشجر وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة. قُرىً ظاهِرَةً مرتفعة على الآكام، متواصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي كانت القرى على مقادير للمسافر، بحيث يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى، إلى انتهاء سفرهم ووصولهم إلى الشام، دون أن يحتاجوا في الطريق إلى حمل زاد وماء. سِيرُوا فِيها أي وقلنا:
(22/162)
سيروا فيها. لَيالِيَ وَأَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار. آمِنِينَ لا تخافون في ليل ولا في نهار.
فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ وفي قراءة: بعّد. بَيْنَ أَسْفارِنا إلى الشام فإنهم بطروا النعمة كبني إسرائيل، فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الزاد. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر وبطر النعمة. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم في ذلك، جمع أحدوثة: وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، فإن الله أجابهم بتخريب القرى المتوسطة. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم في البلاد غاية التفريق. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ عبرا ودلالات واضحات. لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات. شَكُورٍ كثير الشكر على النعم.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق إبليس على الكفار ومنهم سبأ ظنه، والمعنى:
ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه. فَاتَّبَعُوهُ أي فصدق في ظنه، أو صدّق ظنه بأن وجده صادقا.
إِلَّا فَرِيقاً بمعنى لكن. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لكن فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه، ومِنَ:
للبيان.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي لم يكن له على المتبعين تسلط واستيلاء بوسوسة واستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ علم ظهور وانكشاف. مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي لنتعرف ونتميز المؤمن بالآخرة من الشاك. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ رقيب.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم أن فروة بن مسيك الغطفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ الآيات.
المناسبة:
بعد بيان حال الشاكرين لنعم الله المنيبين إليه، وهم داود وسليمان عليهما السلام، بيّن الله تعالى حال الكافرين بأنعمه، بحكاية قصة أهل سبأ، تحذيرا لقريش، ووعيدا لكل من يكفر بنعم الله تعالى.
(22/163)
اضواء على سبأ وسد مأرب:
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس صاحبة سليمان عليه السلام من جملتهم، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال سيل العرم، والتفرق في البلاد «1» .
روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن ابن عباس يقول: إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ ما هو، أرجل أم امرأة أم أرض؟
قال صلّى الله عليه وسلّم: «بل هو رجل، ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسّان»
وإسناده حسن.
قال علماء النسب كمحمد بن إسحاق: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ- أي تفرق- في العرب، وكان يقال له: الرائش لأنه أول من غنم في الغزو، فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا.
وأرض سبأ: طيبة الثمار والهواء، كثيرة الخيرات والبركات، أنعم الله على أهلها بنعم كثيرة ليوحدوه ويعبدوه. والسابئيون: قوم سكنوا اليمن، وأقاموا المدن العظام ذات الحصون والقلاع والقصور الشامخة.
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال: أحدها- أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح، والثاني- أنه من سلالة عابر وهو هود عليه السلام، والثالث- أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 530
(22/164)
وأما سد مأرب: فكأن الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء، وبلغ حافة الجبلين، فغرسوا الأشجار، واستغلوا الثمار.
وكان هذا السد بمأرب: بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسد مأرب. وقد جدد بناؤه عام 1987 م.
التفسير والبيان:
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ «1» فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ كان لقبيلة سبأ باليمن التي كان منها ملوك اليمن في مسكنهم: مأرب آية هي بستانان عن يمين واديهم وشماله، وكانت مساكنهم في الوادي، وفي البستانين جميع الثمار، فقيل لهم: كلوا من رزق ربكم، أي من ثمار الجنتين، والقائل لهم نبيهم، أو القول بلسان الحال أو الدلالة لأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. وقيل لهم أيضا: واشكروا ربكم على ما رزقكم من هذه النعم، ووحدوه واعبدوه، واعتدال هوائها، وصحة مناخها، والله المنعم عليكم بهذه النعم رب غفور لذنوبكم إن استمررتم على التوحيد والطاعة.
فَأَعْرَضُوا، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ، وَأَثْلٍ، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ أي فأعرضوا عن توحيد الله، وعبادته وطاعته، وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما حكى القرآن عن قول الهدهد لسليمان عليه السلام: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ
__________
(1) منصرف على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل، كما تقدم بيانه.
(22/165)
عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل 27/ 22- 24] .
فأرسل الله عليهم سيل العرم، أي المياه الكثيرة الغزيرة، بأن تحطم سد مأرب، فملأ الماء الوادي، وغرّق البساتين الخضراء ثم يبست، ودفن البيوت، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وأعطوا بدل تلك الجنان والبساتين المثمرة الأنيقة النضرة بساتين لا خير فيها ولا فائدة منها، وإنما أشجار ذات ثمر مرّ هي الأراك، وأثل هو الطرفاء، والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل، وهو شجر النبق.
قال القشيري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا، ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] .
وسبب هذا العقاب كما قال تعالى:
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي إن ذلك التبديل من الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال الوارفة والأنهار الجارية إلى أشجار ذات أشواك وثمار مرة، كان بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق، وعدولهم عنه إلى الباطل، لقد عاقبناهم بكفرهم، ولا يعاقب الله إلا المبالغ في كفران النعم، والكفر بالرسل.
وبعد تعداد نعم الله على السابئيين في مساكنهم، ذكر تعالى باقة أخرى من النعم أثناء تنقلهم في البلاد، ومتاجرتهم مع بلاد الشام، فقال:
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالمياه والأشجار والخيرات الكثيرة قرى مرتفعة
(22/166)
معروفة، متواصلة، متقارب بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل ماء ولا زاد، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، وهي قرى ظاهرة، أي بينة واضحة يعرفها المسافرون، لبنائها على هضاب عالية.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلناها محطات متعاقبة ذات مقادير متناسبة بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، فيقيلون في بلد، ويبيتون في آخر، إلى أن يصلوا إلى الشام.
سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي وقيل لهم بلسان المقال أو الحال:
سيروا في تلك القرى ليالي وأياما آمنين مما تخافون في السير ليلا ونهارا، لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يهددكم.
ثم بطروا تلك النعمة، فقال تعالى:
فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي سئموا النعمة، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وقالوا: ربنا اجعل بيننا وبين البلاد التي نسافر إليها مفاوز وقفارا، ليركبوا فيها الرواحل، والتزود بالزاد والماء، إظهارا للتمايز الطبقي والتكبر والتفاخر على الفقراء والعاجزين، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد بالمن والسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس، كما طلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار لأغراض حربية، وهذا غاية الانتكاس على الفطرة، والإمعان في تدمير مظاهر الحضارة والتمدن والحياة الهانئة، لذا وصفهم الله بأنهم ظلموا أنفسهم إذ عرضوها للسخط والعذاب، وعاقبهم الله على بطرهم النعمة وكفرهم بالله، فقال:
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي جعلناهم عبرة لمن يعتبر،
(22/167)
وحديثا للناس يسمرون به في مجالسهم، وفرقنا شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، وفرقناهم في البلاد كل تفريق، فصارت العرب تضرب بهم المثل، فتقول: «تفرق القوم أيدي سبأ» وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها، فنزلت الأوس والخزرج بيثرب، وغسان آل جفنة بن عمرو بالشام، والأزد بعمان والسّراة، وخزاعة بتهامة، فمزقهم الله كل ممزق، وهدم السيل بلادهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي إن في هذا الذي حلّ بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة، وتحويل العافية، عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام، لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم.
وفي هذا إشادة بالصبر،
روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن: إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته» .
وروي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» .
وكان مطرّف بن الشّخير يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
وبعد بيان قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان، أخبر تعالى بأنهم وأمثالهم هم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالفوا الرشاد والهدى، فقال:
فقال:
(22/168)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ظن إبليس بهؤلاء السابئيين أنه إذا أغواهم اتبعوه، فكان كما ظن بوسوسته، فانقادوا لإغوائه وعصوا ربهم وعبدوا الشمس من دون الله، إلا فريقا مؤمنا منهم قاوموا وسوسة الشيطان وعصوا أمره، وثبتوا على طاعة الله تعالى.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي لم يكن لإبليس على هؤلاء القوم من حجة وبرهان لإضلالهم، ولم يقهرهم على الكفر، وإنما كان منه الوسوسة والتزيين، قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها، فأجابوه.
ولكن ابتليناهم بوسوسته وسلطانه عليهم لنعلم علم ظهور- وإلا فالله بكل شيء عليم- أمر من يؤمن بالآخرة وقيامها، والحساب فيها، والجزاء بالثواب والعقاب، ممن هو منها في شك، فلا يؤمن بحدوثها ولا بما اشتملت عليه من ثواب وعقاب. وربك أيها الرسول محافظ ورقيب على كل شيء، ومنه أعمال هؤلاء الكفار، وسيجازيهم عليها يوم الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لقد كان لقبيلة سبأ باليمن بساتين خضراء ومناظر رائعة حسناء، وخيرات وفيرة عن يمين واديهم التي يسكنون فيها وعن شمالهم في مأرب، وتلك علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة، لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر.
(22/169)
2- كان جديرا بهم أن يشكروا نعم الله وما رزقهم بالطاعة، فضلا عن أن الرسل قالت لهم ذلك، فهذه أي مأرب بلدة طيبة، أي كثيرة الثمار، معتدلة المناخ، لطيفة الهواء، بعيدة عن المؤذيات، والمنعم بهذه النعم عليهم ربّ غفور يستر ذنوبهم، فجمع الله تعالى لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم، ولم يجمع ذلك لجميع خلقه.
3- لقد خيبوا ما يظن بهم، فأعرضوا عن أمر ربهم واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين، فأرسل عليهم سيل العرم، أي نقض سدّ مأرب، فتدفقت المياه المدرارة الغزيرة، فغرّقت بساتينهم، ودفنت بيوتهم، فيبست الأشجار المثمرة، ونبت مكانها أشجار مرّة لا خير فيها من الخمط أي الأراك، والأثل: وهو كما قال الفراء: شجر شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا، والسّدر وهو نوعان: نوع له ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضّال، ونوع ينبت على الماء وثمره النّبق، وورقه يشبه شجر العنّاب.
قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيّره الله تعالى من شرّ الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة، وأثبت بدلها الأراك والطّرفاء والسّدر.
4- هذا التبديل من النعمة إلى النقمة جزاء كفرهم، ولا يعاقب بهذا إلا المبالغ في كفران النعمة والكفر بالله تعالى.
وتساءل الزمخشري والقرطبي: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور، ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ والجواب أن المراد: هو الجزاء الخاص وهو العقاب بالاستئصال والإهلاك، وليس المراد: الجزاء العام الذي يشمل الكافر والمؤمن. هذا في الدنيا، وأما في الآخرة
فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حوسب هلك «1» ، فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جلّ وعزّ:
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب
__________
(1)
ورواه الترمذي عن أنس: «من حوسب عذب» .
[.....]
(22/170)
هلك»
والمعنى: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير.
5- ومن النعم على أهل سبأ جعل طرقاتهم وممراتهم التجارية بين اليمن والشام مأهولة، لا تحتاج إلى حمل ماء وزاد، فقد جعل لهم محطات يستريحون فيها بالقيلولة والمبيت هي القرى الكثيرة على طول الطريق إلى الشام، قيل:
إنها كانت أربعة آلاف وسبع مائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. والمسافات بين تلك القرى منتظمة، إذ جعل بين كل قريتين نصف يوم، حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى.
كما أن تلك الطرقات كانت آمنة غير مخوفة ليلا ونهارا، ولا يحتاجون إلى طول السفر، لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان، لا يحرّك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحرّكه، فلم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكدّ.
6- بطروا النعمة أيضا، وطغوا، وسئموا الراحة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة، فتبددوا في الدنيا، وتفرقوا في البلاد كل تفرق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل، ويتزودون الأزواد، وظلموا أنفسهم بكفرهم، وأصبحوا مدار القصص والتحدث بأخبارهم، وعبرة للمعتبر.
7- إن في هذا التبديل والتدمير وتغير نمط الحياة من رفاه ونعومة إلى تعب وكدّ وشظف وخشونة لعبرة ودلالة لكل صبار يصبر عن المعاصي، شكور لنعم الله تعالى.
8- كانوا في كفرانهم النعم، وجحودهم وجود الله وعبادتهم الشمس،
(22/171)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
وإعراضهم عن طاعة الرسل، واتباعهم أهواءهم، كما توقع إبليس الذي سوّل له ظنه فيهم شيئا، فصدق ظنه أنه يغويهم، فأغواهم فاتبعوه، إلا قوما منهم أطاعوا الله تعالى، وآمنوا برسلهم.
9- لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولا حجة يضلهم بها، ولا قدرة له على قهرهم على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين والوسواس، وكان منهم أنهم اتبعوه بشهوة وتقليد، وهوى نفس، لا عن حجة ودليل، وكان هو مجرد آية وعلامة خلقها الله لتبيين ما هو في علمه السابق.
وتوضيح ذلك: لقد سلطه الله على الناس، كما يسلط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على من أهمل النظافة، فتكون الفريسة من لا قدرة له على المقاومة، وينجو الأقوياء الأصحاء المجاهدون.
وهو تسليط قصد به الابتلاء والاختبار، وإظهار الواقع، مع أن الله يعلم بكل شيء، وتكون النتيجة ظهور أمر المؤمن بالله وبالآخرة، وتمييزه عن الشاك بوجود الله وبالقيامة، وتنصب في النهاية أعمال العباد في الحافظة الإلهية، فهو سبحانه يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
إبطال شفاعة آلهة المشركين
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
(22/172)
الإعراب:
ماذا قالَ رَبُّكُمْ ما في موضع نصب ب قالَ وذا: زائدة.
قالُوا الْحَقَّ الْحَقَّ: منصوب ب قالُوا أيضا، ليكون الجواب على وفق السؤال.
البلاغة:
قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعجيز بدعاء الجماد الذي لا يسمع.
المفردات اللغوية:
قُلِ أيها الرسول للمشركين في مكة وغيرها، وهو أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لكفار قريش: هؤلاء الأصنام الذين زعمتموهم آلهة من دون الله، ادعوهم ليكشفوا عنكم الضرّ الذي نزل بكم في سنين الجوع. ادْعُوا نادوا. زَعَمْتُمْ زعمتموهم آلهة. مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره، لينفعوكم بزعمكم. ثم أجاب تعالى عنهم إشعارا بتعين الجواب دون مكابرة: وهو لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي لا يملكون وزن ذرة من خير أو شر.
وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي ليس لتلك الآلهة المزعومة من شركة، لا خلقا ولا ملكا.
وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي ليس له تعالى من الآلهة من معين يعينه على تدبير أمرهما.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ تعالى، فلا تنفعهم شفاعة آلهتهم كما يزعمون، وهو رد لقولهم: إن آلهتهم تشفع عنده. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أذن له أن يشفع. فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ كشف عنها الفزع بالإذن فيها، والفزع: انقباض بسبب الخوف. قالُوا قال بعضهم لبعض استبشارا ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ في الشفاعة. قالُوا: الْحَقَّ قالوا: قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وهم المؤمنون. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو فوق خلقه بالقهر، وذو الكبرياء العظيم، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.
المناسبة:
بعد بيان حال الشاكرين كداود وسليمان، وحال الكافرين كسبا وما فعله بهم حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل، عاد الله تعالى إلى خطاب المشركين ومناقشتهم ومطالبتهم على سبيل التهكم بهم بأن يستعينوا بآلهتهم المزعومة ليكشفوا
(22/173)
عنهم الضر، ثم بيّن أنهم لا يملكون شيئا ولا تنفع شفاعتهم، فكيف يعبدونهم، وشأن المعبود تحقيق النفع للعابد؟
التفسير والبيان:
قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين من قريش: نادوا تلك الآلهة المزعومة كالأصنام، والتي عبدت من دون الله، ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، أو يجلبوا لكم النفع.
ثم أجاب سبحانه عنهم الجواب المتعين دون مكابرة، مبينا خطأهم، فقال:
لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي إن تلك الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا أبدا، ولو كان وزن ذرة في السموات والأرض، وليس لهم قدرة على خير ولا شر في أمر من الأمور، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر 35/ 13] .
ثم نفى الله تعالى وجود الشريك والمعين له، فقال:
وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي لا تستطيع الأصنام شيئا أصلا، لا استقلالا، ولا شركة في الخلق أو الملك، فليس لله شريك ولا معين على خلق شيء ولا على حفظه، كما قال تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف 18/ 51] بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه.
ثم نفى إمكان شفاعتهم، فقال:
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي لا تنفعهم شفاعة تلك الأصنام لأنه لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا لمن أذن الله له أن يشفع، من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل، وهو لا يأذن للكافرين،
(22/174)
وهؤلاء الشفعاء المأذون لهم لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقال سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] وقال عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء 21/ 28] وقال عز اسمه:
لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] .
ومفاد هذه الآيات: أن الشفاعة تحتاج إلى إذن الله تعالى، ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله، وأن تكون أسباب الشفاعة حقا وصوابا مقبولا، لهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله تعالى حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم حينما يأتي ربهم لفصل القضاء، أنه قال: «فأسجد لله تعالى، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» .
وفي هذا الموقف الرهيب يتجلى مقام رفيع من العظمة الإلهية، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فسمع أهل السموات كلامه، أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما.
وهنا ذكر الله تعالى ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة، فقال:
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي إن الناس والملائكة يقفون فزعين خائفين منتظرين الإذن بالشفاعة، حتى إذا أذن للشافعين، وأزيل الخوف والفزع عنهم، قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في الشفاعة؟ قالوا للذي قال: قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، والله هو المتفرد بالعلو والكبرياء والعظمة،
(22/175)
لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وليس لملك ولا لنبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى.
وكلمة حَتَّى وقعت غاية لشيء مفهوم ضمنا وهو أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا من الراجين للشفعاء، والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مناقشة معلن عنها مسبقا في القرآن الكريم، تحدث على سبيل التهكم والتوبيخ والتعجب بين الإله الخالق وبين المشركين.
يأمر الله فيها نبيه أن يقول لهؤلاء المشركين: هل عند شركائكم قدرة على شيء من النفع يحققونه لكم؟ ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم، أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك.
إنهم لا يملكون شيئا أصلا ولو وزن ذرة في السموات والأرض، وليس للأصنام في السموات والأرض مشاركة، لا بالخلق ولا بالملك، ولا بالتصرف، وليس لله من معين يعينه على شيء من أمر السموات والأرض ومن فيهما، بل الله المنفرد بالإيجاد والتدبير، فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
ولا تنفع شفاعة الملائكة وغيرهم عند الله إلا لمن أذن له، حتى إذا وقفوا- أي الراجون للشفاعة والشفعاء- جميعا خائفين وجلين منتظرين الإذن بالشفاعة، ثم أزيل الفزع عن قلوبهم، تساءل الناس فيما بينهم وقالوا للملائكة:
ماذا أمر الله بالشفاعة؟ فيجيبون: إنه أذن في الشفاعة للمؤمنين لا للكافرين، والله هو المتعالي المتكبر العظيم، فله أن يحكم في عباده بما يريد.
وهكذا يتبين أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة، وهم على غاية الفزع من الله، كما قال: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ولن يكون الإذن
(22/176)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
بالشفاعة لتلك الآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها، كما لن تكون الشفاعة إلا لمن رضي الله من المؤمنين، لا الكافرين. وهذا بيان جلي يقطع الأطماع في الشفاعة الموهومة، ويبدد الآمال في النجاة من غير أمر الله ورضوانه.
وقوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ دليل على: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا. والمأذون لهم في الشفاعة: الملائكة وغيرهم، في رأي جمهور المفسرين منهم الزمخشري وأبو حيان.
وقال الشوكاني في فتح القدير: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب،
أخرج البخاري وأبو داود، من حديث أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير» .
إقرار المشركين بأن الله هو الرازق وإعلامهم بالحاكم ووقت الحكم
[سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 30]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
(22/177)
الإعراب:
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً إِيَّاكُمْ ضمير منفصل منصوب معطوف على اسم «إن» ولَعَلى هُدىً إما خبر لقوله: وَإِنَّا وخبر إِيَّاكُمْ محذوف لدلالة الأول عليه، أو أن يكون خبرا للثاني، وخبر الأول محذوف لدلالة الثاني عليه. وهذا كقولهم: زيد وعمرو قائم، إما أن يجعل قائم خبرا للأول، ويقدر للثاني خبر، وإما أن يجعل خبرا للثاني، ويقدر للأول خبر.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً.. كَافَّةً منصوب على الحال من كاف أَرْسَلْناكَ ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار. وأصله «كاففة» اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، فسكن الأول وأدغم في الثاني، فصار كَافَّةً وتقديره: وما أرسلناك إلا كافّا للناس. ودخلت التاء للمبالغة، كعلّامة ونسّابة.
لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ.. مبتدأ مرفوع، ولَكُمْ خبره، والهاء في عَنْهُ عائدة على الميعاد.
البلاغة:
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توبيخ وتبكيت.
قُلِ: اللَّهُ حذف الخبر، لدلالة السياق عليه، أي قل الله الخالق الرازق للعباد.
تَسْتَأْخِرُونَ وتَسْتَقْدِمُونَ بينهما طباق.
وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل.
المفردات اللغوية:
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد به تقرير قول السابق: لا يملكون، والرزق من السموات: المطر، ومن الأرض: النبات. قُلِ: اللَّهُ أي لا جواب سواه، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام، فهم مقرّون به بقلوبهم. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أي أحد الفريقين. لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إما في حال هدى أو في ضلال
(22/178)
واضح. وهذا بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى، ومن هو في الضلال.
وهذا الإبهام أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم، وهو تلطف بهم في الدعوة إلى الإيمان إذا وفقوا له.
أَجْرَمْنا أذنبنا، أو وقعنا في الجرم، وهو الذنب. وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ لأنا بريئون منكم. يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ أي يحكم، والفتاح: الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره، وبعد الحكم يدخل تعالى أهل الحق والإيمان الجنة، وأهل الباطل والكفر النار. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم بالحق. الْعَلِيمُ بما يحكم به وبما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح.
قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي أعلموني بالدليل وجه الشركة في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم، زيادة في تبكيتهم. كَلَّا كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب، والمراد هنا: ردع لهم عن اعتقاد شريك لله تعالى.
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة وكمال القدرة، والحكمة الباهرة في تدبيره لخلقه، فلا يكون له شريك في ملكه.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي وما أرسلناك إلا للناس جميعا عربهم وعجمهم، وكَافَّةً مانعا لهم، من الكف وهو المنع عن الكفر ودعوتهم إلى الإسلام، أو جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ، من الكف بمعنى الجمع، والتاء للمبالغة، والمعنى على الأول: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد، وعلى الثاني: إلا جامعا للناس في الإبلاغ والإنذار، وهو حال من الكاف، ولا يجوز جعله حالا من لِلنَّاسِ لأن تقدم حال المجرور عليه ممنوع كتقدم المجرور على الجار. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا للمؤمنين بالجنة، ومنذرا للكافرين بالعذاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيحملهم جهلهم على مخالفتك، فهم لا يعلمون ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل.
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويقول المشركون من فرط جهلهم: متى يكون هذا الوعد بالعذاب الذي تعدوننا به يا محمد وصحبه، وهو قيام الساعة، أخبرونا به إن كنتم صادقين فيه. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، وهو يوم البعث أو القيامة. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون عليه، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وهو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار.
(22/179)
المناسبة:
بعد بيان أن الأصنام ونحوها من الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا في الكون، أبان الله تعالى أن المشركين يعترفون بأن الرازق من السماء والأرض بما ينزل من المطر وينبت من الزرع ويوجد من المعادن هو الله، فيلزمهم أن يعتقدوا بأنه لا إله غيره، وأن المحق واحد من الفريقين وغيره مبطل، والمحق هم المؤمنون لقيام الدليل على التوحيد، وأن يعلموا أن الله هو الحاكم بالحق يوم القيامة، وأنه هو الخالق الرازق، أما الشركاء فلا يخلقون ولا يرزقون.
التفسير والبيان:
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلِ: اللَّهُ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان والأصنام على سبيل التوبيخ والتبكيت: من الرازق لكم من السموات بإنزال المطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن ونحوها؟
قل لهم: هو الله الذي يرزقكم، إن لم يجيبوا، بل لا جواب لهم سواه، وقد أجابوا فعلا في آيات أخرى بأنه هو الله، قال تعالى: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس 10/ 31] .
وإذا اعترفتم بأن الله هو الرازق، فلم تعبدون سواه ممن لا يقدر على الرزق؟ كما قال تعالى تبكيتا وتعنيفا لهم: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللَّهُ، قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا
[الرعد 13/ 16] .
ثم دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالله بطريق التلطف، بعد هذا الإلزام القائم مقام الاعتراف والإقرار، فقال:
(22/180)
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: إن أحد الفريقين منا، سواء معشر المؤمنين الموحدين الله الخالق الرازق، الذين يخصونه بالعبادة، أو المشركين الذين يعبدون الجمادات العاجزة عن الخلق والرزق والنفع والضرر، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو في الضلال البيّن الوضح، فلا سبيل إلى تصويب كل منا، فإما أن نكون نحن أو أنتم على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، والآخر مخطئ مبطل. وهذا أسلوب فيه لطف وأدب، لاستدراج الخصم إلى أن ينظر في حاله وحال غيره، ويستعمله العرب لإعطاء الحرية للمخاطب بأن يتأمل ويعلن عن قناعة أنه مخطئ وغيره مصيب، كما يقول الرجل لصاحبه: قد علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب.
ويلاحظ أنه ذكر كلمة «على» مع الهدى، وكلمة «في» مع الضلال لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها. ووصف الضلال بالمبين، ولم يصف الهدى لأن الهدى هو الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والمستقيم واحد، وغيره كله ضلال، بعضه أبين من بعض. وقدم الهدى على الضلال لمناسبته لوصف المؤمنين المبدوء بكلمة إِنَّا المقدم في الذكر.
ثم أعلن الله تعالى وجود الانفصال بين الفريقين واستقلال كل منهما عن الآخر بطريق التلطف مرة أخرى بنسبة الاجرام فرضا إلى المؤمنين والعمل للمشركين فقال: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي قل أيها الرسول أيضا للمشركين: إن كانت عبادتنا لله وطاعتنا له جريمة، فلستم مسئولين عنا، ولا نسأل عما تعملون من خير أو شر. وهذا معناه التبري منهم، فلستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى توحيد الله وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا، ونحن منكم، وإن أعرضتم وكذبتم فنحن برآء منكم، وأنتم برآء منا، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] . وقد أضاف الاجرام إلى النفس:
(22/181)
أَجْرَمْنا وقال في حقهم عَمَّا تَعْمَلُونَ لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.
ثم أنذرهم الله تعالى بالقضاء والحكم الذي سيقضي به، تأكيدا للنظر والتفكر، في مجال الحساب والثواب والعذاب، فقال:
قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أي قل لهم أيها الرسول أيضا. إن ربنا سيجمع بيننا في ساحة واحدة يوم الحساب، ويوم القيامة، ثم يحكم ويقضي بيننا بالحق والعدل، والله هو الحاكم العادل القاضي بالصواب، العالم بحقائق الأحوال والأمور، وبما يتعلق بحكمه من المصالح، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم 30/ 14- 16] .
ثم تحداهم تعالى بالكشف عن الشركاء وقدراتهم، فقال:
قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ، كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين قولا فصلا: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها شركاء ونظراء معادلين لله، حتى أراهم، وأرى ما يقدرون عليه. الحق واضح، والأمر ليس كما تزعمون، كلا أي فارتدعوا عن ادعاء المشاركة، فلا نظير ولا شريك ولا عديل لله، بل هو الله الواحد الأحد، المتفرد بالألوهية، الذي لا شريك له، ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وغلب كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، حكمة باهرة لا يعلوها شيء. وهذا التساؤل يراد به بيان فائدة الشركاء في دفع الضرر، بعد إبطال فائدتها بآية
(22/182)
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لجلب المنفعة، تمشيا مع أهداف العامة الذين لا يعبدون المعبود إلا لدفع الضرر أو لجلب المنفعة، أما الخواص فيعبدون الله لأنه يستحق العبادة لذاته.
وبعد إثبات التوحيد، أبان الله تعالى عموم الرسالة المحمدية للناس جميعا، فليست ذات نزعة عنصرية، ولا حكرا على العرب وحدهم، فقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي وما أرسلناك أيها النبي لقومك العرب خاصة، بل أرسلناك للناس قاطبة، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاع الله بالجنة، ومنذرا من عصاه بالنار، كما قال تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقال سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] .
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.. وذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» .
وفي الصحيح أيضا: «بعثت إلى الأسود والأحمر» .
إلا أن أكثر الناس لا يعلمون بعموم الرسالة، ولا بمهمة التبشير والإنذار، ولا بخطورة ما هم عليه من الضلال والجهالة، ولا بالنفع في إرسال الرسل، ولا ما عند الله من الجزاء، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام 6/ 116] .
وبعد بيان التوحيد ثم الرسالة، ذكر الحشر، فأخبر تعالى عن استبعاد الكفار قيام الساعة وأجاب عنه، فقال:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويقول المشركون
(22/183)
استهزاء وتعنتا وجهلا: متى يكون هذا الوعد الذي تعدوننا به يا محمد والمؤمنون، وهو قيام الساعة، أخبرونا به إن كنتم صادقين في قولكم. وهذا كقوله تعالى:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى 42/ 18] .
والجواب هو:
قُلْ: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ، لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي قل لهم أيها الرسول: لكم موعد يوم مؤجل محدد لا شك فيه، هو يوم البعث والقيامة، لا تتأخرون عنه ساعة ولا تتقدمون عليه، لا يزاد ولا ينقص، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وفي هذا إنذار كاف.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- الله سبحانه وتعالى في الواقع الذي لا يقبل سواه، وفي اعتراف المشركين أنفسهم هو خالق الأرزاق الكائنة من السموات، عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع، والخارجة من الأرض عن الماء والنبات، وبما أن الله هو الخالق الرازق فهو الذي ينبغي أن يعبد. ومن المعلوم أن العامة يعبدون الله، لا لكونه إلها، وإنما يطلبون به شيئا: إما دفع ضرر، أو جر نفع.
2- الحق واحد لا يتعدد، فلا يعقل أن يكون كل المؤمنين والمشركين في حال واحدة من الهدى أو الضلال، بل هما متعارضان متضادان، وأحد الفريقين مهتد، وهم المؤمنون، والآخر ضال وهم المشركون.
وقد كذبهم القرآن بأسلوب يعد أحسن من تصريح الكذب، وهو أن المشركين هم الضالون حين أشركوا بالذي يرزقهم من السموات والأرض. فقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ كما تقول: أنا أفعل كذا،
(22/184)
وتفعل أنت كذا، وأحدنا مخطئ، وقد عرف من هو المخطئ. أما لو قال أحد المتناظرين للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ، فإنه يغضب، وإذا غضب اختل الفكر وساء الفهم.
2- أقام الله تعالى مهادنة ومتاركة بين المؤمنين والمشركين، فأعلن رسوله لهم: إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أن ينالني ضرر كفركم، ولا يسأل أحد الفريقين عن الآخر، فلا يسأل المشركون عما اكتسب المؤمنون، ولا يسأل المؤمنون أيضا عما اقترف المشركون، كما قال تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون 109/ 6] .
3- يجمع الله تعالى يوم القيامة أهل الإيمان وأهل الشرك، ثم يقضي بينهم بالحق والعدل، فيثيب المهتدي، ويعاقب الضال، والله هو القاضي بالحق، العليم بأحوال الخلق.
4- يسأل المشركون: عرّفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء؟ بينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها؟! الحق أنه ليس الأمر كما زعم المشركون، فليس لله شركاء، بل هو الله ذو العزة القاهر الغالب، الحكيم في أقواله وأفعاله، يفعل ما هو مصلحة.
5- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم رسالة عامة للبشرية جمعاء، وليست مقصورة على العرب خاصة، ومهمة النبي تبشير من أطاع الله بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار، ولكن أكثر الناس وهم في ذلك الوقت المشركون لا يعلمون ما عند الله تعالى.
6- يتساءل المشركون استهزاء وعنادا وتعجيزا، فيقولون للمؤمنين: متى موعدكم لنا بقيام الساعة إن كنتم صادقين في إخباركم عنها؟
(22/185)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
فيجيبهم الله تعالى: قل لهم يا محمد: لكم ميقات معين هو يوم البعث أو القيامة، لا يزيد ولا ينقص، ولا تتقدمون عنه ولا تتأخرون، وهو آت لا محالة، وعلمه عند الله لم يطلع عليه أحدا من خلقه.
إنكار المشركين القرآن والحوار يوم القيامة بين الضالين والمضلين
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواأَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
الإعراب:
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أَنْتُمْ ضمير مرفوع منفصل، مبتدأ، خبره محذوف، ولا يجوز إظهاره لطول الكلام بالجواب.
البلاغة:
لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ استعارة في الجملة الأخيرة، إذ ليس للقرآن يدان، ولكنه استعارة لما سبقه من الكتب السماوية المتقدمة.
(22/186)
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ حذف الجواب للتهويل، أي لو رأيت حالهم، لرأيت أمرا مريعا مهولا.
اسْتَكْبَرُوا واسْتُضْعِفُوا بينهما طباق.
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أسند المكر إلى الليل على سبيل المجاز العقلي، أي المكر الواقع ليلا.
أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى استفهام بمعنى الإنكار.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة. وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ما تقدمه من الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل الدالين على البعث لإنكارهم له. وَلَوْ تَرى يا محمد. إِذِ الظَّالِمُونَ الكافرون. مَوْقُوفُونَ محبوسون ممنوعون في موقف الحساب. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا الأتباع. الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا الرؤساء. أَنْتُمْ لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان.
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بالله مصدقين لرسوله وكتابه.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا مجيبين عليهم، مستنكرين لما قالوه. أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى أي منعناكم عن الهدى. بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى. بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ مصرّين على الكفر، كثيري الاجرام والآثام. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ردّا لجوابهم ودفعا لما نسبوه إليهم من صدهم عن الإيمان. بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي لم يكن إجرامنا الصادّ، بل مكركم بنا في الليل والنهار، ودعوتكم المستمرة لنا إلى الكفر، هو الذي حملنا على هذا، والمكر: الخديعة والاحتيال. أَنْداداً شركاء، جمع ندّ: وهو النظير والشبيه. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر، وأخفوها عن غيرهم. الْأَغْلالَ جمع غلّ، وهو طوق من حديد يوضع في العنق. فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا جاء بالظاهر تنويها بذمّهم، أي جعلنا الأغلال في أعناق الكافرين في النار. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما يجزون إلا جزاء عملهم في الدنيا، أو لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، وتعدية يُجْزَوْنَ إما لتضمين «يجزى» معنى: يقضى، أو لنزع الخافض.
المناسبة:
بعد بيان الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر التي كفروا بها كلها، ذكر تعالى إنكار جماعة من المشركين القرآن والكتب السماوية القديمة، وما فيها
(22/187)
من إثبات البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر صورة من الحوار الحادّ بين الرؤساء المضلين والأتباع الضالين، وأوضح وصفا للجزاء الذي يلقونه على أعمالهم في الدنيا.
التفسير والبيان:
هذا لون من تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وهو إصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أخبر به من أمر المعاد، فقال تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي وقال جماعة من مشركي العرب في مكة وغيرها: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السماوية السابقة، كالتوراة والإنجيل، ولا بما اشتملت عليه من أمور الآخرة من بعث وحشر وحساب وجزاء. والمعنى: أنهم جحدوا نزول القرآن من الله تعالى، وأن يكون لما دل عليه من المعاد وإعادة الجزاء حقيقة.
ثم أخبر تعالى عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة وحوارهم فيما بينهم فقال لرسوله أو للمخاطب:
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي ولو تنظر أيها الرسول حين يكون الكافرون أذلة مهانين محبوسين في موقف الحساب، يتخاصمون ويتحاجون ويتحاورون فيما بينهم ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، لرأيت العجيب والمخيف.
وصورة الحوار هي:
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي يقول الأتباع الضعفاء للسادة الرؤساء المتكبرين في الدنيا: لولا صدكم لنا عن الإيمان بالله واتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، لكنا مؤمنين بالله، مصدقين برسوله صلّى الله عليه وسلّم وكتابه.
(22/188)
فأجابهم القادة:
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي قال السادة القادة المتكبرون في الدنيا للأتباع الضعفاء، مستنكرين لما قالوا: أنحن منعناكم عن الإيمان واتباع طريق الهدى بعد أن جاءكم من عند الله؟ لا، بل أنتم منعتم أنفسكم بإصراركم على الكفر، وولوغكم في الاجرام والإثم.
فرد عليهم الأتباع بقولهم:
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي رد الأتباع على القادة رؤساء الضلال: بل الذي صدنا عن الإيمان مكركم بنا بالليل والنهار حين كنتم تطلبون منا أن نبقى على الكفر بالله، ونجعل له أشباها وأمثالا في الألوهية والعبادة.
ثم ذكر مصير الفريقين فقال:
وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وأضمر الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه عن الكفر، وأخفاه عن غيره، مخافة الشماتة، وتبينت الندامة في وجوههم حين واجهوا العذاب المحدق بهم، وحين جعلنا الأغلال وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم في النار.
ثم أخبر تعالى عن عدالة هذا الجزاء، فقال:
هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟ أي إنما نجازي هؤلاء وأمثالهم بأعمالهم، كل بحسبه، وبسبب ما اقترفه من الشرك بالله والإثم، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] .
(22/189)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- لقد أعلن كفار قريش عدم إيمانهم بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة المتضمنة الإخبار عن أمور الغيب من البعث والحشر والحساب والجزاء.
2- أخبر الله تعالى عن حالهم من الذلة والمهانة يوم القيامة، فهم محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين، فحين ترى الظالمين موقوفين على تلك الحال، ترى عجبا.
3- تكون المحاورة بين الرؤساء والأتباع شديدة حادة، فيقول الأتباع للسادة- وبدأ بهم لأن المضل أولى بالتوبيخ-: لولا أنكم أغويتمونا وأضللتمونا لكنا مؤمنين بالله ورسوله وكتبه.
ويردّ القادة والرؤساء على الضعفاء الأتباع بقولهم منكرين اتهامهم:
ما رددناكم نحن عن الهدى، ولا أكرهناكم، بعد أن جاءكم من الله، بل كنتم أنتم مشركين مصرين على الكفر.
فأجابهم الأتباع بجواب أبلغ وأحكم: إن خديعتكم وحيلتكم وعملكم في الليل والنهار هو الذي صدّنا عن الإيمان بالله ورسوله، وهو الذي حملنا على الكفر بدعوتكم المستمرة المدبرة دوما، وكنتم تأمروننا بالكفر بالله، وبأن نجعل له أشباها وأمثالا ونظراء.
وحين مجيء العذاب وبعد اليأس من الحوار أضمر الفريقان الندامة، وأخفوها مخافة الشماتة، وهذا معنى وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وقيل: معنى الإسرار:
(22/190)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
الإظهار، أي أظهروا الندامة لأن الفعل من الأضداد، يكون بمعنى الإخفاء والإبداء.
4- كان جزاء الفريقين التابعين والمتبوعين وسائر الكنار: جعل أغلال الحديد في أعناقهم في النار، وهذا جزاء حق وعدل، ولا يجازى هؤلاء إلا بسبب أعمالهم في الدنيا من الشرك بالله والإثم والعصيان.
تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهرة الكفر بين المترفين واعتدادهم بالأموال والأولاد
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
(22/191)
الإعراب:
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالَّتِي في موضع نصب لأنه خبر ما.
ودخلت الباء في خبر ما لتكون بإزاء اللام في خبر «إنّ» لأن «إن» للإثبات، وما للنفي. وإِلَّا مَنْ آمَنَ في موضع نصب على الاستثناء، ولا يجوز أن يكون منصوبا على البدل من الكاف والميم في تُقَرِّبُكُمْ لأن المخاطب لا يبدل منه. لكن جاء إبدال الغائب من المخاطب، بإعادة العامل في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] أبدل منه بإعادة الجار، فقال: لمن كان يرجو.
البلاغة:
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى فيه التفات من الغائب إلى المخاطب للمبالغة في تحقيق الحق، وفيه إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه، حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه، أي ما أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا.
إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ مقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار.
كافِرُونَ لا يَعْلَمُونَ آمِنُونَ مُحْضَرُونَ 38 فيها توافق الفواصل الذي فيه جميل الوقع على السمع.
المفردات اللغوية:
قَرْيَةٍ أهل قرية أي بلد. نَذِيرٍ ينذرهم ويحذرهم عقاب الله. مُتْرَفُوها أثرياؤها وقادة الشرّ فيها. كافِرُونَ مكذبون لكم بما أرسلتم به من التوحيد والإيمان. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قاسوا أمر الآخرة المفترضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنهم لو لم يكونوا مكرمين عند الله لما رزقهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسعه لمن يريد امتحانا. وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء ابتلاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة، وكثيرا ما يكون للاستدراج. زُلْفى قربى أي تقريبا، ويصح: زلفة: قربة. إِلَّا مَنْ آمَنَ لكن من آمن. جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا الجزاء المضاعف للحسنات، أي الحسنة بعشر فأكثر. الْغُرُفاتِ غرفات الجنة، وقرئ: الغرفة، بمعنى الجمع. آمِنُونَ من جميع ما يكرهون من الموت وغيره.
(22/192)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا القرآن بالرد والطعن. مُعاجِزِينَ مسابقين مغالبين لنا، زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم. أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ تحضرهم الزبانية إلى النار، دون أن يجدوا عنها محيصا أو مهربا.
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه عليكم إما في الدنيا وإما في الآخرة. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي إن الناس مجرد وسطاء، فإن رزق العباد لبعضهم بعضا إنما هو بتيسير الله وتقديره، وليسوا برازقين على الحقيقة، وإنما الرازق الحقيقي هو الله تعالى.
سبب النزول: نزول الآية (34) :
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ..:
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: «كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دلّني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إلام تدعو؟ فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فأرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» .
المناسبة:
بعد بيان تكذيب المشركين بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية، سلّى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما مني به من مخالفة قومه، وخصّ بالتكذيب المترفين المعتمدين على كثرة الأموال والأولاد لأن الداعي إلى التكبر والإباء المفاخرة بزخارف
(22/193)
الدنيا والانهماك في الشهوات، والاستهانة بمن لم يحظ منها، وهذه ظاهرة عامة في الأمم لأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعا.
ثم فنّد الله تعالى مزاعمهم مبينا بأن الغنى والفقر لا يرتبطان بالإيمان والكفر، فقد يرزق الكافر الفاجر ويحرم المؤمن وبالعكس، لحكمة ومصلحة يعلمها الله تعالى، وإنما الجزاء العادل في الآخرة حيث يمتّع المتقون بغرف الجنان، ويزج الكافرون الصادون عن سبيل الله في نار جهنم.
التفسير والبيان:
يسلّي الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه عن دعوته، ويأمر بالتأسي بالرسل المتقدمين، ويخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤهم، فقال:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي لم نبعث إلى أهل كل قرية نبيا أو رسولا يحذرهم ويخوفهم عقاب الله إلا قال أغنياؤها وكبراؤها وأولو النعمة وقادة الشر فيها: إنا مكذبون بما أرسلتم به من توحيد الإله والإيمان به، ونبذ تعدد الآلهة، فلا نؤمن بكم ولا نتبعكم.
ونظير الآية كثير مثل: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام 6/ 123] ومثل: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء 17/ 16] .
ومسوغات كفرهم: الاغترار بالأموال والأولاد، كما قال تعالى:
وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي وقال المترفون الكافرون للرسل وأتباعهم المؤمنين: إن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في
(22/194)
الدنيا، وأنتم فقراء ضعفاء، فهذا دليل تميزنا وتفاخرنا، وهو دليل على محبة الله تعالى لنا ورضاه عنا، وما نحن عليه من الدين، وما كان ليعطينا هذا في الدنيا ويحسن إلينا، ثم يعذبنا في الآخرة.
ولكن هذه النظرة خطأ محض، وقياس باطل، فإن الإمداد بالأموال غالبا ما يكون للاستدراج، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 56- 55] . وقال سبحانه:
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 55] .
وهنا رد الله عليهم، وأبان خطأهم، فقال:
قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي قل أيها الرسول لهم:
إن الله يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لا لمحبة لمن وسع عليه، ولا لبغض لمن ضيق عليه، وإنما له في ذلك حكمة تامة بالغة، ولأن الدنيا لا تساوي شيئا في ميزان الله، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن سهل بن سعد: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» .
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة سنن الله في الكون، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مسألة الرزق غلط بيّن، أو مغالطة واضحة، فقد يعطي الله العاصي والكافر استدراجا، ويمنع الطائع والمؤمن ابتلاء واختبارا، ليصبر، فتكثر حسناته عند الله، وبه يتبين أن ما يزعمه المترفون من أن مدار التوسعة هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل: لا حقيقة له ولا أصل في تقدير الله تعالى.
ثم أبان تعالى ميزان القربى عنده، وأنها ليست بكثرة المال والولد، وإنما بالإيمان والعمل الصالح، فقال:
(22/195)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي وليست كثرة أموالكم وأولادكم هي دليل محبتنا لكم ورضائنا عنكم، ولا هي مما تقربكم إلى رحمتنا وفضلنا، فإنما أموالكم وأولادكم فتنة واختبار لنعلم من يستعملها في طاعة الله، ممن يعصي الله فيها.
لكن من آمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال، فأدى الفرائض، واستعمل أمواله في طاعة الله، فإن إيمانه وعمله يقربانه لدينا، ويكون مرضيا عندنا، وهؤلاء لهم الجزاء المضاعف للحسنات، نجازيهم الحسنة بعشر أمثالها فأكثر إلى سبع مائة ضعف، وهم آمنون من كل مكروه في غرفات الجنان.
روى الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي:
لمن هي؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: لمن طيّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» .
ثم هدد الله تعالى الكافرين، وأبان حال المسيئين، فقال:
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي إن الذين يحاولون رد آياتنا في القرآن، والطعن فيها، لإبطالها، ويسعون في الصد عن سبيل الله، واتباع رسله، والتصديق بآياته، زاعمين أنهم يفوتوننا،
(22/196)
وأننا لا نقدر عليهم، فأولئك جميعهم مجزيون بأعمالهم، تحضرهم الزبانية إلى عذاب جهنم، ولا يجدون عنها محيصا أو مهربا.
ثم أبان الله تعالى ما يريح الخلائق جميعا في مسألة الرزق، وأنه وحده هو المصدر، فقال:
قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي قل أيها الرسول لهم: إن ربي وحده هو الذي يوسع الرزق على من يريد من عباده، وهو الذي يضيقه على من يشاء، بحسب ما له في ذلك من الحكمة التي لا يدركها غيره.
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي إن عطاء الله متجدد دائم، فكل ما تنفقونه في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهو يعوضه عليكم بالبدل في الدنيا أو بالجزاء والثواب في الآخرة، والله هو الرازق في الحقيقة، وما العباد إلا وسائط وأسباب. وفي هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الإنفاق في الخير.
جاء في الحديث القدسي عند مسلم: «يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك»
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن الاغترار بالأموال والأولاد ظاهرة عامة في البشر، وهي في الغالب سبب للإعراض عن دعوة الرسل، فلم يرسل الله نبيا ولا رسولا إلا قال مترفوها
(22/197)
أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل والأنبياء: نحن كافرون بما أرسلتم به.
وقالوا أيضا: لقد فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدّين والفضل لم يعطنا ذلك، ولسنا نحن بمعذبين في الآخرة إن وجدت كما تقولون لأن من أحسن إليه فلا يعذبه.
2- رد الله عليهم قولهم بأن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة، فلا تظنوا أن أموالكم وأولادكم تغني عنكم غدا شيئا، والرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل، فكم من موسر شقي ومعسر تقي.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون.
3- أكد الله تعالى جوابه بأن الأموال والأولاد لا تقرب شيئا إلى الله، أما الذي يقرب إليه فهو الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا.
وأولئك المؤمنون الصالحون لهم الجزاء المضاعف للحسنات في الآخرة، كما قال سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 6/ 160] وهم الآمنون من كل مكروه في غرفات الجنة، آمنون من العذاب والموت والأسقام، وهذا إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده، فإن من تنقطع عنه النعمة، لا يكون آمنا.
وقد استدل بعضهم بهذه الآية في تفضيل الغنى على الفقر، قال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية.
4- أما الكافرون الصادون عن سبيل الله واتباع رسله، الساعون في إبطال
(22/198)
الأدلة والحجج المذكورة في القرآن، الذين يحسبون أنهم يفوتون الله بأنفسهم، فلا يقدر عليهم، فأولئك تحضرهم الزبانية في نار جهنم، وهذا إشارة أيضا إلى دوام العذاب، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة 32/ 20] وكما قال تعالى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الانفطار 82/ 16] .
5- كرر الله تعالى للتأكيد أنه هو وحده باسط الرزق ومضيقه لمن يشاء، على وفق ما يرى من الحكمة والمصلحة لعباده، فيا أيها المغترون بالأموال والأولاد: إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد، بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه عليكم، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى، وهو الرازق على الحقيقة، والناس مجرد وسطاء ورزقهم منقطع، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] .
6- ما دلت عليه الآية: فَهُوَ يُخْلِفُهُ
والحديث المتقدم المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا: «قال: قال الله عز وجل: «أنفق أنفق عليك»
: فيه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا عن النفقة إذا كانت النفقة في طاعة الله، وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء لتكفير الذنوب أو ادخار الثواب في الآخرة.
روى الدارقطني عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل معروف صدقة، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله، كتب له صدقة، وما وقى به الرجل عرضه «1» فهو صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية» .
أما ما أنفق الشخص في معصية فلا خوف أنه غير مثاب عليه، ولا مخلوف له. وأما البنيان فما يكون منه ضروريا يكنّ الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف
__________
(1) مثل إعطاء الشاعر وذي اللسان لتوقي الذم والقدح والهجاء.
(22/199)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
عليه، ومأجور ببنيانه، كحفظ بنيته، وستر عورته.
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عثمان: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء»
أي الوعاء.
7- دل قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ على أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا، بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم، مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى، بناء على وعد الله تعالى.
وخيرية الرزق في أمور ذكرها الرازي: أحدها- ألا يؤخر عن وقت الحاجة، والثاني- ألا ينقص عن قدر الحاجة، والثالث- ألا ينكده بالحساب، والرابع- ألا يكدره بطلب الثواب «1» .
تقريع الكفار يوم القيامة أمام معبوداتهم
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
البلاغة:
أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريع وتوبيخ للمشركين، والخطاب للملائكة.
نَفْعاً وضَرًّا بينهما طباق.
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 263
(22/200)
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي يحشر للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف، وقرئ:
نحشرهم أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ هذا تقريع للمشركين، وتوبيخ لكل من عبد غير الله عز وجل، وإقناط لهم عما يتوقعون من شفاعتهم. والخطاب للملائكة لأنهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم.
قالُوا أي الملائكة سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي تنزيها لك عن الشريك، أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم، ولا موالاة بيننا وبينهم، وما كنا معبودين لهم على الحقيقة بَلْ للإضراب والانتقال كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ الشياطين، وهم إبليس وجنوده، فإنهم كانوا يطيعونهم في عبادتهم إيانا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي أكثر المشركين مصدقون بالجن فيما يلقونه إليهم من الوساوس والأكاذيب، ومنها أمرهم بعبادة الأصنام، فالضمير الأول للمشركين والثاني للجن.
قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يملك المعبودون للعابدين شفاعة ونجاة، ولا عذابا وهلاكا لأن الأمر يوم القيامة كله لله، والدار دار جزاء، والله هو المجازي وحده وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وكفروا بعبادة غير الله تُكَذِّبُونَ في الدنيا.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أن حال النبي صلّى الله عليه وسلّم كحال من تقدمه من الأنبياء، وحال قومه كحال من تقدم من الكفار، وبيّن لهم خطأ اعتمادهم على كثرة الأموال والأولاد، بيّن ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتوبيخ، بسؤال الملائكة: أهم كانوا يعبدونكم؟ إهانة لهم. ثم بيّن أنهم كانوا ينقادون لأمر الجن، وأن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟
أي ويوم يحشر الله تعالى العابدين والمعبودين، والمستكبرين والمستضعفين جميعا، ثم يسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم، ليقربوهم إلى الله زلفى: أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ وهذا السؤال يراد
(22/201)
به تقريع المشركين يوم القيامة أمام الخلائق، على طريقة: إياك أعني واسمعي يا جارة.
وهذا شبيه بقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان 25/ 17] وشبيه بسؤال عيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة 5/ 116] . والله يعلم أن الملائكة وعيسى أبرياء من هذه التهمة، وإنما السؤال والجواب للتقريع والتوبيخ والتعيير.
قالُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي قالت الملائكة: تنزيها لك يا رب عن الشريك، نحن عبيدك، ونبرأ إليك من هؤلاء، وأنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم، ما اتخذناهم عابدين، ولا موالاة بيننا وبينهم، بل إنهم كانوا يعبدون الشياطين وهم إبليس وجنوده، فهم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم، وأكثر المشركين مصدقون الجن فيما يلقونه إليهم من الوساوس والأكاذيب، ومنها أمرهم بعبادة الأصنام، كما قالت تبارك وتعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء 4/ 117- 118] .
ثم أعلن الله تعالى إفلاسهم وتبدد آمالهم بشفاعة الآلهة المزعومة، زيادة في إيلامهم وحسرتهم، فقال:
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي في يوم القيامة هذا لن يتحقق لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم، ولن تكون لكم شفاعة وقدرة على النجاة، كما لن يكون بيدكم العذاب والهلاك، وإنما المجازي هو الله وحده.
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي
(22/202)
ونقول للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله وهم المشركون تأنيبا وتوبيخا: ذوقوا عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون بوقوعه في الدنيا، فأنتم الآن في أعماق النار.
وهذا تأكيد لبيان حالهم في الظلم وعقابهم على الإثم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- الحشر والحساب حق، والله يحشر جميع الخلائق، لكن يكون للكفار حشر وموقف خاص، فالله تعالى يحشر العابدين والمعبودين أي يجمعهم للحساب مع بعضهم، ثم يسأل الملائكة الذين يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم، فيقول تقريعا وتوبيخا للكفار على عبادتهم غير الله: أهؤلاء كانوا يعبدونكم؟
2- يتبرأ الملائكة من هذه التهمة قائلين: سبحانك، أي تنزيها لك يا رب عن الشريك، أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له، وإنما يعبد هؤلاء الشياطين ويطيعونهم، لأنهم زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم.
وجاء في التفاسير: أن بني مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله. وهو قوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات 37/ 158] .
3- أيأس الله تعالى الكفار من شفاعة أحد من آلهتهم المزعومة، وأخبر بأنه في يوم القيامة لا يملك المعبودون للعابدين شفاعة ونجاة، ولا عذابا وهلاكا، وإنما المالك المجازي وحده هو الله تعالى.
4- يعاين الكفار جهنم، ويقذفون فيها، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا:
(22/203)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدنيا، والمكذب به هنا: هو النار، وفي سورة السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [20] هو العذاب، وهم في الواقع يكذبون بالكل. وسبب التغاير في التعبير أن الآية هنا في وصف النار التي كانت أول ما رأوها بعد الحشر والسؤال، وأما في سورة السجدة فالمراد وصف العذاب الذي يعانونه بعد دخولهم النار، وأنه العذاب الدائم.
أسباب تعذيب الكفار
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
(22/204)
الإعراب:
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أَنْ تَقُومُوا: إما في موضع جر على البدل من قوله:
بِواحِدَةٍ أي بأن، أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وهي أن تقوموا، أو في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وهو اللام، وتقديره: لأن تقوموا لله، ومَثْنى وَفُرادى منصوبان على الحال من واو تَقُومُوا.
عَلَّامُ الْغُيُوبِ مرفوع على أنه خبر ثان بعد أول وهو يَقْذِفُ أو على البدل من ضمير يَقْذِفُ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أو بدل من «ربّ» على الموضع، وموضعه الرفع، أو وصف ل «رب» على الموضع. ويجوز فيه النصب من وجهين: على الوصف ل «رب» أو على البدل منه.
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ: ما: في موضع نصب، تقديره: أيّ شيء يبدئ الباطل، وأيّ شيء يعيد.
البلاغة:
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ استعارة، استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال أمام الإنسان.
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره.
مَثْنى وَفُرادى بينهما طباق.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على إمعانهم في الكفر.
المفردات اللغوية:
آياتُنا القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالات، ظاهرات المعاني ما هذا التالي لها وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يَصُدَّكُمْ يمنعكم وَقالُوا: ما هذا قالوا ثانيا ما هذا القرآن إِفْكٌ كذب مُفْتَرىً مختلق لا أساس له وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالوا ثالثا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن والمعجزات، وهذا باعتبار لفظه وإعجازه، والأول باعتبار معناه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ما هذا إلا سحر ظاهر سحريته.
ويلاحظ أن الإشارة الأولى: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ إلى القرآن، والثالثة: لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ والحق: أمر النبوة كله ودين الإسلام كما
(22/205)
وتكرار الفعل: قالُوا والتصريح بذكر الكفرة، وقوله: لَمَّا جاءَهُمْ من المبادهة بالكفر وأنه حين جاءهم لم يفكروا فيه، بل بادروه بالإنكار: دليل على صدور الكفر عن إنكار عظيم له، وغضب شديد منه، وتعجيب بليغ منه، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المنير قبل أن يتذوقوه: ما هو إلا سحر واضح لمن يتأمله.
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها، وهو دليل على صحة الإشراك وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه، وينذرهم بالعذاب على تركه. وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول صلّى الله عليه وسلّم وجه، ولا شبهة يعتمدون عليها، إذ لم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه، فمن أين كذبوك؟! وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال فأهلكهم الله، كعاد وثمود ونحوهم، والمعشار: هو العشر أي عشرة في المائة، وقيل: هو عشر العشر، أي واحد في المائة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب والعقوبة؟ أي هو واقع موقعه.
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أي أن تقوموا في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين: اثنين اثنين، أو واحدا واحدا لأن الاجتماع يشوش الفكر. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا تنظروا في حقيقة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الكتاب، فتعلموا أنه ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون ولا ساحر، فليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، ومجيئه بالوحي دليل ظاهر على صدقه إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ما هو إلا منذر لكم قبل مجيء عذاب شديد في الآخرة إن عصيتموه، وقد علمتم أنه أرجح الناس عقلا، وما جربتم عليه كذبا مدة عمره فيكم.
قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ قل لهم: ما طلبت منكم على الإنذار والتبليغ مِنْ أَجْرٍ مال مقابل الرسالة إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ما ثوابي إلا على الله، لا على غيره وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع، لا يغيب عنه شيء، يعلم صدقي.
قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يتكلم بالحق ويلقيه إلى أنبيائه، وهو القرآن والوحي عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والتوحيد، والقرآن الذي فيه البراهين والحجج وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي لا أثر للكفر أو الشرك، فهو لا حقيقة له بدءا وإعادة. إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق وطريقه فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي إثم ضلالتي يكون على نفسي فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من القرآن والحكمة والموعظة إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مني ومنكم، يعلم الهدى والضلالة.
(22/206)
المناسبة:
بعد بيان عقاب المشركين في نار جهنم يوم القيامة وأنه يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ذكر الله تعالى الأسباب الموجبة للعذاب من فساد الاعتقاد، واشتداد العناد، وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن والإسلام كله، ثم أنذرهم سوء العاقبة كالذين من قبلهم من الأمم القوية، ودعاهم إلى التأمل والتفكر الهادئ العميق في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم المنذر من عذاب يوم القيامة، وأخبرهم بأن الله أرسل إليهم الحق الدامغ الساطع وهو القرآن والوحي، وما عداه هو الباطل الذي لا حقيقة ولا بقاء لأثره.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أسباب استحقاق الكفار العقوبة وأليم العذاب، ويذكر هنا أهمها وهي ثلاث: الطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن الكريم، وبالدين والإسلام كله، فيقول:
1- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ أي وإذا تليت آيات القرآن الواضحات الدلالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك، الظاهرات المعاني، قالوا: ما هذا أي النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا رجل يريد صرفكم عن دين الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، دون حجة ولا برهان، وما جاء به باطل.
2- وَقالُوا: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أي وقال الكفار ثانيا: ما هذا أي القرآن إلا كذب على الله، مختلق من عنده، بقصد تضليل الأتباع.
3- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقال الكافرون ثالثا: ما هذا الدين والإسلام المشتمل على المعجزات والشرائع والأحكام لتنظيم الحياة الاجتماعية إلا سحر ظاهر.
(22/207)
فرد الله عليهم مبطلا كون دينهم حقا، ومظهرا انعدام حجتهم في اتباعه، فقال:
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن يقرر لهم دينا، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الحق، وينذرهم بالعذاب مع أنهم كانوا يقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
وإذا كان الدين الصحيح لا يعرف إلا بوحي من عند الله، وبكتاب ينزل على رسول، فإن ادعاء المشركين أن الشرك بالله وتقليد الأسلاف هو الدين الحق ادعاء باطل لا يعتمد على أساس ولا حجة.
ونظير الآية كثير منها: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم 30/ 35] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف 43/ 21] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [القلم 68/ 37- 38] .
ثم هددهم بعذاب مشابه لعذاب الأمم الظالمة من قبلهم، فقال:
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ولقد كذبت الرسل والوحي أمم سابقة من القرون الخالية كقوم نوح وعاد وثمود، وكانوا في الدنيا أشد قوة وبأسا من العرب، بل إن أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب لم يبلغوا بقوتهم وكثرة ما لهم عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال، فلم يدفع عنهم عذاب الله ولا رده، وإنما أهلكهم الله ودمرهم تدميرا، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر 40/ 82] .
(22/208)
وما جرى على المثيل يجري على مثيله، لتساويهما في سبب العقاب، فيتساويان في الحكم.
ثم نصحهم القرآن بالتأمل والتريث في الحكم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال تعالى:
قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وآمركم وأنصحكم بخصلة واحدة: هي قيامكم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، والتأمل الذاتي المجرد المخلص، دون تأثر بهوى أو عصبية، متفرقين اثنين اثنين، أو واحدا واحدا لأن الاجتماع والتجمهر يشوّش الفكر، وينشر الغوغائية والفوضى، ويثني الفكر عن الصواب، ثم ينصح بعضكم بعضا بإخلاص أن ينظر ويتفكر في حقيقة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الكتاب، فإنكم حينئذ تعلمون أن صاحبكم ليس بساحر ولا مجنون ليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، وإنما هو نبي مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي وما هذا الرسول إلا منذركم ومخوفكم ما تستقبلونه من عذاب شديد على النفوس يوم القيامة. وجعل إنذاره بين يدي العذاب إشارة إلى قرب العذاب لأنه بعث قرب الساعة،
روى الإمام أحمد حديثا هو: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» .
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الصّفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟
فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟
قالوا: بلى، قال صلّى الله عليه وسلّم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب:
تبّا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ [المسد 111/ 1] .
(22/209)
قال الرازي: ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل، فقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إشارة إلى التوحيد، وقوله:
ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ إشارة إلى الرسالة، وقوله:
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إشارة إلى اليوم الآخر.
ولما نفى تعالى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنون المستلزم كونه نبيا، ذكر سببا آخر يلزم منه أنه نبي: وهو عناؤه الشديد في دعوته لا لغرض دنيوي عاجل، وإنما بقصد الثواب الأخروي، فقال:
قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي قل أيها الرسول للمشركين: لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم، ونصحي لكم، وأمري بعبادته تعالى، إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله تعالى، والله عالم بجميع الأمور، من صدقي في تبليغ الرسالة، وما أنتم عليه.
ثم صرح تعالى بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما هو وحي من عند الله، فقال: قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي قل للمشركين: إن الله يرسل الملك بالوحي إلى من يشاء من عباده، فمن يصطفيهم لرسالته، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
وهذا كما قال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر 40/ 15] وقال سبحانه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] .
وبعد أن ذكر الله تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة الاستقبال، أخبر أن ذلك الحق قد جاء فقال:
(22/210)
قُلْ: جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي قل للمشركين: جاء الدين الحق وهو الإسلام والقرآن والتوحيد، وهو الذي سيعلو على سائر الأديان، ويمحق الله الباطل ويذهب أثره، فلا يبقي منه شيئا، كما قال تعالى:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] .
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «أنه لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ، وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء 17/ 81] ، وقُلْ جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ.
ثم أكد الله تعالى تقرير الرسالة، وأعلن القول الفصل بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، فقال:
قُلْ: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أي قل أيها النبي لأولئك المشركين: إن ضللت عن الهدى وطريق الحق، فإن إثم ضلالي وضرره على نفسي، وإن عرفت طريق الهداية فمما أوحى إلي ربي من الخير والحق والاستقامة، إنه سميع لقولي وأقوالكم، قريب مني ومنكم، يعلم الهدى والضلالة، ويجازي كل إنسان بما يستحق.
فالخير كله من الله عز وجل، وفيما أنزله من الوحي والحق المبين الذي فيه الهدى والبيان والرشاد، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
1- العدل والحق المطلق أهم مزية الحكم الإلهي، فلا يظلم الله أحدا،
(22/211)
ولا يعاقب إلا بأسباب موجبة للعقاب، وأهم الأسباب التي استحق بها المشركون نار جهنم: الطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن المجيد، وبالدين والإسلام نظام البشرية الأمثل، وقانونها الأعدل والأحكم.
2- لا حجة للمشركين في الإشراك بالله إلا تقليد الأسلاف واتباع الآباء والأجداد، دون حجة عقلية ولا برهان منطقي مقبول.
3- ليس للمشركين ما يعتمدون عليه أيضا من الأدلة النقلية، فليس لهم كتاب يقرءون فيه بطلان ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يسمعوا شيئا عن دينهم من رسول بعث إليهم، فلا وجه لتكذيبهم ولا شبهة يتمسكون بها، كشبهة أهل الكتاب وإن كانت باطلة، الذين يقولون: نحن أهل كتاب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله.
والخلاصة: أنه ليس للمشركين على شركهم حجة عقلية ولا نقلية.
4- لم يبق أمام موقف أولئك المشركين المتشدد المعاند إلا توعدهم على تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقرآن بما حلّ من العذاب بالأمم الغابرة كعاد وثمود، الذين كانوا أشد من أهل مكة المشركين بطشا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع عيشا، فأهلكهم الله، بل إنهم ما بلغوا عشر ما أوتي من قبلهم من تلك الأمم.
5- وبجانب الوعيد فهناك للكلمة المتأنية والفكرة الهادئة دور حيوي، لذا دعاهم الله تعالى أيضا إلى إعمال الفكر، لا بنحو جماهيري جماعي غوغائي، وإنما بطريق ثنائي أو فردي يدعو إلى الهدوء والتروي والمناقشة المنطقية المقبولة، وذلك في توحيد الله مصدر السعادة، وفي حقيقة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدراسة تاريخ حياته المعاصرة لهم، فهل جربوا عليه كذبا، أو رأوا فيه جنونا وخللا عقليا، وهل في أحواله وتصرفاته من فساد وشذوذ وانحراف، وهل كان يتردد إلى من يدّعي العلم بالسحر، وهل تعلّم الأقاصيص وقرأ الكتب، وهل عرفوه طامعا في
(22/212)
أموالهم، وهل هم قادرون على معارضة القرآن المنزل عليه في سورة واحدة؟! فإذا عرفوا بهذه التأملات والدراسة الواقعية صدقه، فما بال هذه المعاندة والمعارضة له؟
6- لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا مبشرا من أطاعه بالجنة، ومنذرا من عصاه بنار جهنم يوم القيامة.
7- وأيضا إن عناء النبي الشديد في تبليغ دعوته دون أن يأخذ من أحد أجرا على تبليغ الرسالة دليل واقعي على صدق نبوته، فهو لا يريد إلا الأجر والثواب من عند ربه، وهذا دليل الإخلاص، والله رقيب على كل أعماله وأعمالهم، وعالم بها لا يخفى عليه شيء، فهو يجازي الجميع بما يستحقون.
8- الله الحق هو مصدر الوحي والحق والقرآن وبيان الحجة وإظهارها، وهذا ما أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه علام الغيوب: أي الأمر الذي غاب وخفي جدّا، وقد علم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أولى من غيره باصطفائه للنبوة والرسالة ونزول القرآن على قلبه.
9- لقد جاء الحق للبشرية فعلا وهو القرآن الذي فيه البراهين والحجج على صحة الاعتقاد من التوحيد والرسالة والبعث والحساب. وإذا جاء الحق اندحر الباطل وهو الشرك والكفر ولم يعد له قرار ولا أثر ولا مقام، ولم يبق منه شيء أمام الحق.
10- قال الكفار للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: تركت دين آبائك فضللت، فرد الله عليهم آمرا نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إن ضللت كما تزعمون، فإنما أضل على نفسي، أي إن ضرره وإثمه علي، وإن اهتديت إلى الحق والرشاد فبما أوحى الله إلي من الحكمة والبيان، إن الله سميع ممن دعاه، قريب الإجابة، وفي هذا تقرير للرسالة أيضا.
(22/213)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
تهديد الكفار بشديد العقاب وإيمانهم حين معاينة العذاب
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
الإعراب:
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ، وَأُخِذُوا جواب لَوْ محذوف، تقديره: لو ترى لتعجبت، وفَزِعُوا: جملة فعلية في موضع جرّ بإضافة إِذْ إليها. وأُخِذُوا: جملة فعلية أخرى معطوفة عليها.
وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرئ «التناؤش» بالهمز على الأصل: أي التأخر، وقرئ بترك الهمز على إبدال الهمزة واوا، أو بمعنى التناول، فلا يكون أصله الهمز.
البلاغة:
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ استعارة تصريحية، استعار لفظ القذف للقول، وشبه القائل بغير علم وإنما بالظن بالصائد الذي يرمي هدفا بعيدا فلا يصيبه.
المفردات اللغوية:
وَلَوْ تَرى يا محمد، وجواب لَوْ محذوف، تقديره: لرأيت مدهشا أو عجبا إِذْ فَزِعُوا عند البعث. والفزع: انقباض في النفس عند الأمر المخيف فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت أحد منهم، ولا ينجو منهم ناج وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي من القبور أو من موقف الحساب، فهم قريبون من الله، لا يفوتونه.
آمَنَّا بِهِ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالقرآن التَّناوُشُ تناول الإيمان تناولا سهلا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عن محله، إذ هم في الآخرة، ومحله والتكليف به في الدنيا. كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي
(22/214)
كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالعذاب في الدنيا قبل ذلك أوان التكليف وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ يرجمون أو يرمون بالظن الذي لا دليل عليه، تقول العرب لكل من لم يتيقن أمرا: يقذف بالغيب، أي يرمي به مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جهة بعيدة، ليس فيها مستند لظنهم الباطل، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد. والمراد أنهم يتكلمون في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم من المطاعن أو في العذاب من الجزم بنفيه، حيث قالوا في النبي صلّى الله عليه وسلّم: ساحر، شاعر، كاهن، وفي القرآن: سحر، شعر، كهانة.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من قبول الإيمان، أو الرجوع إلى الدنيا، أو من أموالهم وأهليهم في الدنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي فعل بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، من قبلهم، والأشياع: جمع شيع: وهذا جمع شيعة: وهي أنصار المذهب المتشيعين له فِي شَكٍّ مُرِيبٍ موقع في الريبة والظن، في أمر الرسل وما دعوا إليه من التوحيد، والبعث والجنة والنار.
ومريب: يحتمل وجهين: الأول: موقع في الريب والتهمة، والثاني: ذي ريب.
المناسبة:
بعد بيان أسباب العذاب، والرد على شبهات الكفار، هددهم الله تعالى وأنذرهم بشديد العقاب يوم القيامة، ثم أخبر عن إيمانهم حين معاينة العذاب يوم لا ينفع إيمان، لفوات الأوان، وكفرهم بالله وبرسوله وكتابه من قبل.
التفسير والبيان:
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ، وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي لو رأيت يا محمد هؤلاء الكفار حين خافوا عند البعث، وخروجهم من القبور، ورؤيتهم ألوان العذاب الشديد، لرأيت أمرا عجبا، فهم لا يتمكنون من الهرب ولا فوت، أي لا مفر لهم ولا ملجأ لهم من العذاب، وأخذوا لأول وهلة حين الفزع من القبور وموقف الحساب إلى نار جهنم، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة 32/ 12] .
وَقالُوا: آمَنَّا بِهِ، وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي وقال الكفار
(22/215)
حينئذ: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله وآمنا بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكيف لهم تعاطي الإيمان، وقد بعدوا عن محل قبوله لأن الدار الآخرة وهي دار الجزاء ليست بدار التكليف أو دار الابتلاء، وإنما الدنيا هي مدار التكاليف من الإيمان والعمل الصالح. أو كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب، والإيمان لا يكون إلا في الدنيا، وهم في الآخرة، والدنيا من الآخرة بعيدة؟! وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا، وكذبوا الرسل؟
وكانوا يرجمون بالظن ويتكلمون بما لا مستند لهم فيه، فتارة يقولون في الرسول صلّى الله عليه وسلّم: شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو مجنون ونحو ذلك من الأباطيل، وتارة يقولون في القرآن: سحر، أو شعر، أو كهانة، أو إفك مفترى، وتارة يقولون: لا بعث ولا جنة ولا نار ولا حساب ولا جزاء، وما نحن بمعذبين.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا، وبين ما طلبوه في الآخرة، فمنعوا منه، مثل قبول الإيمان، والفرار من العذاب، أو الرجوع إلى الدنيا، أو اصطحاب أموالهم وأهليهم، كما قال تعالى:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 84- 85] .
كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ هذا بيان سنة الله في أمثالهم، وعلة تعذيبهم ورفض قبول إيمانهم، والمعنى: لقد فعلنا بهم كما فعلنا في أمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، إنهم كانوا جميعا في الدنيا في شك مغرق في الريبة في أمر الرسل وما جاؤوا به من التوحيد، وإثبات البعث والجزاء، والشرائع والأحكام.
(22/216)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- هذه صورة كئيبة محزنة من أحوال الكفار في وقت اضطرارهم إلى معرفة الحق، فتراهم في أسوأ حال وأعجبه حين يستبد بهم الفزع والخوف ويتملكهم عند نزول بأس الله تعالى بهم، ومعاينة العذاب والعقاب يوم القيامة، حيث لا مفر ولا مهرب ولا نجاة لهم، وأخذوا من حيث كانوا في موقف الحساب إلى النار، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه.
2- في هذه الحالة الرهيبة يعلنون الإيمان بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم، والبعث، ولكن كيف لهم تعاطي الإيمان وتناوله في الآخرة، وقد كفروا في الدنيا؟! 3- إنهم كفروا بالله عز وجل وبالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، ويرجمون بالظن، ويتكلمون بالأوهام كحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد، فلا يصيبه، فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن، ويقولون في القرآن: سحر، وشعر، وأساطير الأولين، ويقولون في محمد صلّى الله عليه وسلّم:
ساحر، شاعر، كاهن، مجنون.
4- والنهاية المحتومة: الحيلولة بينهم وبين النجاة من العذاب، ومن الرجوع إلى الدنيا، ومما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. وذلك المصير مشابه لمصير أمثالهم ممن مضى من القرون السالفة الكافرة، إنهم جميعا استحقوا العذاب لأنهم كانوا في شك ممعن في الريبة في أمر الرسل والبعث والجنة والنار، بل وفي الدين كله والتوحيد.
(22/217)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فاطر
مكيّة، وهي خمس وأربعون آية
تسميتها:
تسمى سورة «فاطر» لافتتاحها بهذا الوصف لله عز وجل الدال على الخلق والإبداع والإيجاد للكون العظيم، والمنبئ عن عظمة الخالق وقدرته الباهرة. كما تسمى أيضا سورة «الملائكة» لأنها أفادت في مطلعها أيضا أن الله سبحانه جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغهم رسالاته وأوامره.
مناسبتها لما قبلها:
قال السيوطي: مناسبة وضعها بعد سبأ: تآخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار.
وتظهر صلتها أيضا بما قبلها في أنه لما أبان تعالى في ختام سورة سبأ هلاك الكفار وتعذيبهم أشد العذاب، فقال: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ اقتضى أن يذكر ما يلزم المؤمنين من الحمد والشكر لله تعالى على ما اتصف به من قدرة الخلق والإبداع، وإرسال الملائكة رسلا إلى الأنبياء لتبليغ الرسالة والوحي.
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية في العقيدة من الدعوة إلى
(22/218)
توحيد الله، وإقامة البراهين على وجوده، وهدم قواعد الشرك، والإلزام بمنهج الاستقامة على دين الله وأخلاق الإسلام.
وقد اشتملت هذه السورة في فاتحتها ومقدمتها على بيان الأدلة الدامغة على قدرة الله عز وجل بإبداع الكون، وجعل الملائكة رسلا بينه وبين أنبيائه لتبليغ الوحي. ثم ذكّرت الناس بنعم الله ليشكروها، وحذرت من وساوس الشيطان، وأبانت الفرق المتميز بين جزاء الكفار وجزاء المؤمنين الأبرار، وميّزت بين المؤمن والكافر بضرب المثل بالأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور.
وأوضحت مظاهر القدرة الإلهية، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث في سجل هذا الكون من إنزال الغيث، وإنبات الزرع والثمار، وخلق الإنسان في أطوار، وعزل البحر المالح عن البحر العذب، وتعاقب الليل والنهار، وإيلاج أحدهما في الآخر، وتسخير الشمس والقمر، واختلاف ظواهر الجبال والناس والدواب والأنعام، ومزية العلماء.
وأعلنت إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحق بشيرا ونذيرا، كما أرسل نذير في كل أمة، وثبّتت قلبه بذكر قصص المكذبين السابقين للأنبياء.
وأشادت بمن يتلو كتاب الله، ويقيم الصلاة، وينفق من رزق الله سرا وعلانية، وأبانت أن القرآن مصدّق للكتب السماوية السابقة، وفاخرت بميراث الأمة الإسلامية لأشرف رسالة، وذكرت انقسام الأمة إزاءها إلى أنواع ثلاثة:
ظالم مقصّر، ومحسن مقتصد، وسابق بالخيرات، وحددت جزاء كل نوع في عالم الآخرة.
ثم ذكرت جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، ووصفت عاقبة كل منهم وما أعد له يوم القيامة.
(22/219)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم الأوثان والأصنام، وأنذرتهم بعاقبة الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة، وقرنت هذا الإنذار برحمة الله العامة للناس جميعا حيث لم يعاجلهم العقوبة، وإنما يؤخرهم إلى أجل مسمى.
بعض أدلة القدرة الإلهية والتذكير بنعم الله وإثبات التوحيد والرسالة
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
الإعراب:
فاطِرِ السَّماواتِ فاطِرِ: إما صفة لاسم الله تعالى أو بدل.
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا رُسُلًا: مفعول به لاسم الفاعل: جاعِلِ إذا كان مرادا به الحال أو الاستقبال لأنه حينئذ يكون عاملا، أما إن أريد به الماضي كان رُسُلًا منصوبا بتقدير فعل.
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: صفة: أَجْنِحَةٍ، وهي ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، فهي معدولة عن لفظ اثنين وثلاثة وأربعة.
(22/220)
ما يَفْتَحِ اللَّهُ ووَ ما يُمْسِكْ.. ما فيهما: شرطية منصوبة ب يَفْتَحِ ويُمْسِكْ، وما الشرطية يعمل فيها ما بعدها كالاستفهامية لأن الشرط والاستفهام لهما صدر الكلام، وقوله فَلا مُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ جواب الشرط.
هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ غَيْرُ: إما مرفوع لأنه فاعل أو صفة لخالق على الموضع، وإما مجرور صفة لخالق على اللفظ، وإما منصوب على الاستثناء. ويَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ خبر المبتدأ.
البلاغة:
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها استعارة تمثيلية، أستعير الفتح لإطلاق النعم والإمساك للمنع.
يَفْتَحِ ويُمْسِكْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، من الفطر بمعنى الشق أي شق العدم بإخراج السماء والأرض جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء، أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، يبلغونهم رسالاته بالوحي، والملائكة: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أُولِي أَجْنِحَةٍ أصحاب أجنحة، فمنهم من له جناحان، ومنهم له ثلاثة، ومنهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي في خلق الملائكة وغيرها. وهو استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك مقتضى مشيئته ومؤدى حكمته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فبقدرته يزيد ما يشاء.
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ما يعطي من نعمة حسية أو معنوية، كرزق ومطر، وصحة وأمن، وعلم ونبوة وحكمة، ونحو ذلك فَلا مُمْسِكَ لَها فلا مانع لها فَلا مُرْسِلَ لَهُ يطلقه بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب، يتصرف في ملكه كما يشاء الْحَكِيمُ في فعله، يضع الأمر في موضعه المناسب، ولا معقب لحكمه، وكل ما يفعله فهو لحكمة بالغة.
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكروا نعمه، واحفظوها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وطاعة المنعم بها، ومن النعم التي كانت على أهل مكة: إسكانهم الحرم، ومنع الغارات عنهم يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وغيره من فائدة الكواكب وَالْأَرْضِ بالنبات وغيره من المعادن، والاستفهام في
(22/221)
قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ ... يَرْزُقُكُمْ ... للتقرير، أي لا خالق رازق غيره فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن توحيد الخالق، مع إقراركم بأنه الخالق الرازق.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد في دعوتك إلى التوحيد والبعث والحساب والعقاب فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ في ذلك، فاصبر كما صبروا. وفي هذا دعوة له للتأسي بمن قبله من الأنبياء، وتسلية عن تكذيب كفار العرب له وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي المصير النهائي المحتوم إلى الله، فيجازي كلا بما يستحقه، يجازي المكذبين، وينصر المرسلين.
التفسير والبيان:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لله الشكر الخالص على نعمه وقدرته، فإنه خلق السموات والأرض وأبدعهما، لا على مثال سابق، وأحكم نظامهما. فموضوع الآية: أن الله تعالى يحمد نفسه على عظيم قدرته وعلمه وحكمته التي يشهد عليها ابتداء خلق السموات والأرض من العدم، واختراعهما على غير مثال، قال سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: هذه بئري وأنا فطرتها» أي بدأتها.
والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة.
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي إنه تعالى جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وهم ذوو أجنحة متعددة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، وبعضهم له أكثر من ذلك، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء.
جاء في الحديث الصحيح عن مسلم عن ابن مسعود «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام، وله ستّ مائة جناح، بين كل جناحين، كما بين المشرق والمغرب» .
ولهذا قال جلّ وعلا:
(22/222)
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي يزيد في خلق الملائكة أجنحة أخرى ما يشاء، ويزيد في خلق غيرهم ما يشاء، من ملاحة العين، وحسن الأنف، وحلاوة الفم، وجمال الصوت، إن الله كامل القدرة في خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية، فلا يعجز عن شيء، وبقدرته يزيد مما يشاء.
قال الزهري وابن جريح في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ:
يعني حسن الصوت «1» .
وبعد بيان كمال القدرة بيّن الله تعالى أنه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر، فقال:
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي ما يعطي الله تعالى من نعمة حسيّة أو معنوية من رزق ومطر، أو صحة وأمن، أو علم ونبوة وحكمة، فلا مانع له، وما يمنع من ذلك فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، بيده الخير كله، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع،
روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من الصلاة، قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السّماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحق
__________
(1) رواه عن الزّهري البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره.
(22/223)
ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .
ونظير الآية قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الأنعام 6/ 17] .
وفي موطأ مالك: بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح، وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلا مُمْسِكَ لَها.
وبعد بيان كونه تعالى مصدر الخلق والرزق والنعم، أمر بتذكر نعمه والإقرار بالتوحيد فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي يا أيها الناس قاطبة، تذكروا نعم الله عليكم، وارعوها، واحفظوها بمعرفة حقوقها والاعتراف بها، وأفردوا موجدها بالعبادة والطاعة، فهو وحده رازقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وأعلنوا توحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وإذا أقررتم بذلك، فكيف بعد هذا البيان ووضوح البرهان تصرفون عن الحق: وهو توحيد الله وشكره، وتعبدون بعد هذا الأنداد والأوثان؟! وبعد تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، قرر الله تعالى الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال مسلّيا رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون، ويعارضونك فيما جئت به من التوحيد، بعد إثباته بالأدلة والبراهين، فتأسّ بمن سلف قبلك من الرّسل، فإنهم أيضا جاؤوا قومهم بالبيّنات وأمروهم بالتوحيد، فكذبوهم وخالفوهم، ومصير
(22/224)
الجميع في النهاية إلى الله، فيجازي على ذلك أوفر الجزاء، يجازيك على صبرك، ويجازيهم على التكذيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الله تعالى هو مستحق الحمد والشكر على قدرته ونعمه وحكمته، وقد ذكرت سابقا أن هذه السورة- كما ذكر الرازي- إحدى السّور القرآنية الأربع المبدوءة بالحمد، فسورة الأنعام إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإيجاد، وسورة الكهف إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإبقاء، وسورة سبأ إشارة بالحمد إلى نعمة الإيجاد الثاني وهو الحشر، وهذه السورة إشارة بالحمد إلى نعمة البقاء في الآخرة، بدليل قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله تعالى.
2- الله سبحانه هو مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وهو جاعل الملائكة ذوي أجنحة من اثنين إلى ثلاثة فأربعة، فأكثر، للطيران والتحليق هبوطا وصعودا بين السماء والأرض، وجاعلهم رسلا إلى الأنبياء، أو إلى العباد برحمة أو نقمة في الدنيا، ولتلقي عباد الله في الآخرة كما ذكر الرازي.
3- الله تعالى هو الذي يزيد في مخلوقاته ما يشاء، سواء في خلق الملائكة، بالأجنحة الكثيرة، أو في الزيادة المادية الحسية أو المعنوية في خلق الناس، كالتميز بأنواع الجمال المختلفة في العينين والأنف والفم ونحوها، وحسن الصوت، وجمال الخط أو الكلام أو النّطق.
4- الله عزّ وجلّ تامّ القدرة على كل شيء بالنّقصان والزّيادة، والإيجاد والإعدام، وغير ذلك.
(22/225)
قال الزمخشري في آية يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ..: الآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التّكلّم، وحسن تأتّ «1» في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف «2» .
5- الله عزّ وجلّ نافذ المشيئة والإرادة والأمر، فإذا منح نعمة لأحد، فلا يقدر أحد أن يمنعها، وإذا حرم أحدا نعمة، لم يستطع أحد إعطاءه إياها.
وبما أن الرّسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه.
وتنكيره الرحمة: مِنْ رَحْمَةٍ يفيد العموم والشمول، والإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة، سماوية كانت أو أرضية.
6- على الناس شكر نعمة الله عليهم، بحفظها وأداء حقها وذكرها باللسان والقلب، وإفراد المنعم بالطاعة والعبادة والثناء عليه بما هو أهله، وإنهاء التعلق بالأصنام والأوثان وجعلها شركاء لله، وهو أبطل الباطل الذي لا يقره العقل المتحضر، ولا الإنسان المتمدن.
7- لا أحد على الإطلاق يأتي بالرزق، فالله تعالى مصدر الرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات.
8- يجب على الخلق جميعا إعلان توحيد الله، فالوحدانية في صحيفة الكون، في الضمير والوجدان، ومقتضى الفطرة، وفي ميزان العقل الراقي.
__________
(1) التأتي في الأمور: التّرفق لها، وإتيانها من وجهها، وعلاجها بحكمة.
(2) الكشاف: 3/ 569
(22/226)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
9- إذ أثبت العقل ودلّت آيات القرآن والكون وحدانية الله، فكيف يصحّ للبشر الانصراف عن هذا الظاهر، وكيف يشركون المنحوت بمن له الملكوت؟! 10- إثبات التوحيد يستتبع إثبات الرسالة وصدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات الظاهرة، وأعلاها وأخلدها القرآن العظيم.
وإذا كذب بعض الناس قديما وحديثا رسول الله، فقد كذب الكفار عبر التاريخ أنبياءهم، وتلك ظاهرة عامة، وما على الرسول وأتباعه إلا التّأسّي بمن سبق في الصبر، والنهاية الحتمية المصيرية إلى الله، فيجازي الجميع بما يستحقون.
تقرير الحشر والتحذير من الشيطان وجزاء الكافرين والمؤمنين
[سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 8]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
الإعراب:
الَّذِينَ كَفَرُوا.. الَّذِينَ: إما بدل مجرور من أَصْحابِ وإما بدل منصوب من حِزْبَهُ وإما بدل مرفوع من ضمير لِيَكُونُوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، خبره: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
حَسَراتٍ إما مفعول لأجله، أو منصوب على المصدر. وقرئ بالإمالة مع فتحة الراء وإمالتها، فمن قرأ بفتح الراء أتى بها على الأصل، ومن أمال فلأن الألف بدل عن الياء، ثم أتبع الراء إمالة الهمزة، والإتباع للمجانسة كثير في كلام العرب.
(22/227)
البلاغة:
يُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بينهما مقابلة وهي كالطباق إلا أنها تكون في أكثر من شيئين.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه، أي كمن لم يزين له سوء عمله؟ ودلّ على المحذوف بقية الآية: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. وفَمَنْ مبتدأ، وخبره:
كمن هداه الله.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ثم قال: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إطناب بتكرار الفعل.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان.
السَّعِيرِ كَبِيرٌ سجع مؤثر على السمع.
المفردات اللغوية:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء أو الحشر والعقاب لا خلف فيه.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تلهينكم ويذهلنكم التمتع بها عن الإيمان بالحشر وعن طلب الآخرة والسعي لها. وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان، بأن يمنيكم المغفرة، مع الإصرار على المعصية.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بطاعة الله، ولا تطيعوه في المعاصي، واحذروه في كل الأحوال. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يدعو أصحابه وأتباعه المتحزبين له، والمطيعين له، إلى المعاصي والكفر، لأجل أن يكونوا من أهل النار الشديدة، لعداوته لآدم وذريته. وهذا تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة أشياعه إلى اتّباع الهوى والركون إلى الدنيا.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وعيد لمن أجاب دعاء الشيطان، ووعد لمن خالفه بالإيمان والعمل الصالح بمغفرة الذنوب والأجر الكبير وهو الجنة.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي من غلب وهمه على عقله، فرأى عمله السيء صوابا، والباطل حقا، والقبيح حسنا، كمن لم يزين له؟ حذف الجواب لدلالة: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ
(22/228)
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي عليه وهو المزين له، والمعنى: فلا تهلك نفسك باغتمامك على غيّهم وكفرهم وإصرارهم على التكذيب. والحسرة: همّ النفس على فوات أمر، أي التلهف عليه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه لأنه لا تخفى عليه خافية من أفعالهم وأقوالهم.
سبب النزول: نزول الآية (8) :
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ:
أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» فهدى الله عمر، وأضلّ أبا جهل، ففيهما أنزلت.
المناسبة:
بعد بيان الأصل الأول وهو التوحيد، والأصل الثاني وهو الرسالة، ذكر الله تعالى الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، والحساب والعقاب، وقرر أنه حق لا شك فيه، وحذر من وسواس الشيطان في تشكيك الناس بالإيمان به، ثم صنّف الناس إزاءه صنفين: حزب الشيطان الذين لهم العذاب الشديد، وحزب الرحمن الذين لهم المغفرة والأجر الكبير وهو الجنة. ثم أبان قضية جوهرية وهي أن الضلال والهدى بيد الله حسبما يعلم من استعداد النفوس للأول أو الثاني.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يا أيها البشر جميعا إن وعد الله بالبعث والجزاء حقّ ثابت مؤكد
(22/229)
لا شك فيه، والمعاد كائن لا محالة، فلا تتلهوا بزخارف الدنيا ونعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان بالله، فيجعلكم تعيشون في الأوهام والآمال المعسولة، قائلا لكم: إن الله يتجاوز عنكم، ويغفر لكم، لسعة رحمته، فتنزلقوا في المعاصي، وتسرفوا في المخالفات، فإنه غرّار كذّاب أفّاك.
وهذه الآية كآية آخر سورة لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
ثم بيّن الله تعالى علّة عدم الاغترار بالشيطان وهي عداوة إبليس لابن آدم، فقال:
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي إن عداوة الشيطان لكم عداوة قديمة عامة ظاهرة، فعادوه أنتم أشدّ العداوة، وخالفوه وكذّبوه فيما يغركم به، بطاعة الله، ولا تطيعوه في معاصي الله تعالى.
ثم ذكر الله تعالى أغراض الشيطان ومقاصده الخبيثة فقال:
إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب النار الشديد الدائم.
جاء في حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة «1» بابن آدم وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ» .
ثم ذكر تعالى جزاء حزب الشيطان وحزب الرحمن فقال:
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي إن الذين كفروا بالله ورسوله وأنكروا البعث، واتبعوا وساوس الشيطان، لهم عذاب شديد في نار جهنم لأنهم أطاعوا الشيطان، وعصوا الرحمن.
__________
(1) اللمة: الخطرة التي تقع في القلب.
(22/230)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي والذين صدقوا بالله ورسوله وباليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من اتّباع الأوامر واجتناب النواهي ومخالفة الشيطان وهوى النفس، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة، بسبب الإيمان والعمل الصالح وعمل الخير.
ثم بيّن تعالى الفرق بين الصنفين، فليس من عمل سيّئا كالذي عمل صالحا، فقال:
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي كيف يتساوى المسيء والمحسن، وهل يكون أولئك الكفار الفجار الذين بتزيين الشيطان وتحسين القبيح يعملون أعمالا سيّئة من كفر ووثنية وعصيان، معتقدين أنهم يحسنون صنعا، كالذين كانوا على الهدى، ويعلمون أنهم على الحق؟! والمراد بمن زين له سوء عمله: كفار قريش وأمثالهم.
وسبب ذلك ما قال تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التامّ، وتبعا لعلمه باستعداد النفوس للخير والشّر.
ثم سلّى تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث حزن من إصرار قومه على الكفر، فقال:
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ أي لا تغتم ولا تأسف ولا تهلك نفسك على عدم إيمانهم، وإصرارهم على الكفر، واستمرارهم على الضلال، فالله عليم بأحوالهم واستعداداتهم، وعليم بما يصنعون من المنكرات والقبائح لا تخفى عليه خافية، فيجازيهم بما يستحقون. وهذا وعيد كاف.
وزجر بليغ إن أدركوا أبعاده ومراميه.
(22/231)
ونظير الآية كثير، منها قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 3] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- بعد إيضاح الدّليل على إثبات البعث والحشر ذكر الله تعالى مبدأ عاما في الاعتقاد: وهو أن البعث والثواب والعقاب حق لا مرية فيه، ولا بدّ من حصوله.
2- وفي ضوء هذا المنظور الأخروي في عقيدة الإسلام الراسخة، على الإنسان ألا تلهيه الدنيا وزخارفها عن العمل للآخرة، وألا يغترّ بوساوس الشيطان، فإنه أفّاك كذّاب، قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذّاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر 89/ 24] .
3- إن عداوة الشيطان للإنسان عامة قديمة، فيجب الحذر منه، ومعاداته وعدم إطاعته، ودليل عداوته: إخراجه أبانا آدم من الجنة، وإصراره على إضلال الإنسان وضمانه ذلك في قوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء 4/ 119] ، وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ [الأعراف 7/ 16- 17] .
4- إن هدف الشيطان الدّال على عداوته للإنسان أيضا دعوة حزبه أي أشياعه وأتباعه ليكونوا معه في نار جهنم الشديدة الاستعار.
5- هناك فرق واضح بين المسيء والمحسن، فلا يسوّى بين من زيّن له
(22/232)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
الشيطان عمله السيء فأطاعه، وبين من هداه الله للخير، فاتّبع أوامر الله تعالى.
والفريق الأول يشمل كل الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان والأصنام والشيطان ونحو ذلك.
6- إن الإضلال والهداية من الله بحسب ماله من العلم التامّ المسبق بكل إنسان، وما لديه من استعداد للشّرّ أو للخير.
7- لا داعي للأسف والاغتمام على إصرار الكفار على كفرهم، ولا ينفع التأسف على مقامهم على كفرهم، فإن الله عليم بصنعهم القبائح، وسيجازيهم على أفعالهم.
من دلائل القدرة الإلهية لإثبات البعث
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 11]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
الإعراب:
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الهاء تعود على الكلم، أي والعمل الصالح يرفع الكلم، وقيل:
تعود على العمل، أي والعمل الصالح يرفعه الله، ولو صح هذا القول لكان يلزم نصب كلمة الْعَمَلُ.
(22/233)
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ السَّيِّئاتِ: إما مفعول يَمْكُرُونَ بمعنى يعملون، أو منصوب على المصدر لأن معنى يَمْكُرُونَ: يسيئون، أو وصف لمصدر محذوف، أي يمكرون المكرات السيئات، ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ مَكْرُ مبتدأ وخبره يَبُورُ وهو: فصل بين المبتدأ والخبر، ويجوز الفصل إذا كان الفعل مضارعا.
البلاغة:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ سقناه: التفات من الغيبة إلى التكلم للإشعار بالعظمة.
تَحْمِلُ وتَضَعُ بينهما طباق، وكذا بين يُعَمَّرُ ويُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ.
المفردات اللغوية:
أَرْسَلَ أطلق وأوجد من العدم. فَتُثِيرُ سَحاباً تزعجه وتحركه، وأتى بالمضارع حكاية للحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة. إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ بالتخفيف، أو ميّت بالتشديد: لا نبات فيه، ويرى بعضهم: أن الميت بالتخفيف: هو الذي مات، والميّت بالتشديد، والمائت: هو الذي لم يمت بعد. بَعْدَ مَوْتِها يبسها، وأحيينا به الأرض: معناه أنبتنا بالمطر الزرع والكلأ. كَذلِكَ النُّشُورُ أي كذلك يحيى الله العباد بعد موتهم، كما أحيا الأرض بعد موتها. والنُّشُورُ البعث والإحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره، أي أحياه.
الْعِزَّةَ الشرف والجاه والمنعة. فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عند الله، فإن له كل العزة في الدنيا والآخرة، ولا تنال منه العزة إلا بطاعته، فليطعه. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ مجاز يراد به قبول الله له، أو علمه به، والْكَلِمُ الطَّيِّبُ هو التوحيد (لا إله إلا الله) وكل كلام طيب من ذكر الله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة قرآن ودعاء وغير ذلك. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. والْعَمَلُ الصَّالِحُ ما كان بإخلاص، ويَرْفَعُهُ يقبله. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي الذين يعملون السيئات في الدنيا على وجه المكر والخديعة، كالمكر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه، كما ذكر في الأنفال، أو مراءاة المؤمنين في أعمالهم بإيهامهم أنهم مطيعون لله. يَبُورُ يبطل ويفسد ولا ينفذ، من البوار: الهلاك.
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أباكم آدم من تراب. نُطْفَةٍ مني يخلق ذريته منه. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرانا وإناثا. إِلَّا بِعِلْمِهِ أي لا يخرج شيء عن علمه وتدبيره، وهو حال، أي
(22/234)
معلومة له. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي لا يزاد ولا يطول من عمر أحد، ولا ينقص من عمر معمر آخر، وذلك بحسب العرف والعادة الشائعة بين الناس. إِلَّا فِي كِتابٍ أي في صحيفة المرء في اللوح المحفوظ، وتطويل العمر وتقصيره: هما بقضاء الله وقدره، لأسباب تقتضي التطويل أو التقصير، فمن أسباب التطويل: صلة الرحم، ومن أسباب التقصير: الاستكثار من معاصي الله عز وجل. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لا يصعب عليه منه شيء.
المناسبة:
بعد الإخبار عن عذاب الكفار الشديد، والمغفرة والأجر الكبير للمؤمنين يوم القيامة، أقام تعالى الدليل على البعث بإحياء الأرض بعد موتها، وبخلق الإنسان ومروره في أطوار مختلفة من التراب، فالنطفة، فالبشر السوي، فالمدّ في العمر أو تقصيره.
التفسير والبيان:
كثيرا ما يستدل الله تعالى على المعاد أو البعث بإحياء الأرض بعد موتها، كما في أول سورة الحج مثلا، وقال هنا:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ أي والدليل الحسي المشاهد على إمكان البعث وأنه مقدور لله تعالى: أنه سبحانه يرسل الرياح، فتحرك الغيوم إلى حيث يشاء الله، فيقوده إلى بلد ميت لا نبات به، فينزل المطر عليه، فتحيا الأرض بالنبات بعد يبسها، وتصبح مخضرة ذات زرع وشجر، بعد أن كانت تربة هامدة، فكذلك يكون النشور أي كما يحيي الله الأرض بعد موتها، يحيي العباد بعد موتهم، وهذا هو النشور، أي جعلهم أحياء.
جاء في حديث أبي رزين: «قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟
وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك
(22/235)
ممحلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟! قلت: بلى، قال صلّى الله عليه وسلّم: فكذلك يحيي الله الموتى» .
ثم ندد الله تعالى بمشاعر الكفار بالعزة والغطرسة التي حجبتهم عن طاعة الله، فقال:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي من كان يريد الوصول إلى الشرف والتعزز والسمو، فليتعزز بطاعة الله، وليطلبها من الله لا من غيره، فإن الله مصدر العزة، وهو يهب منها لمن يشاء، وهذا ردّ على الكفار الذين كانوا يطلبون العزة بعبادة الأصنام، وعدم الطاعة للرسل، وترك الاتّباع له، فقال:
إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة، فهي كلها لله، ومن يتذلل له فهو العزيز، ومن يتعزز عليه، فهو الذليل. وذلك كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون 63/ 8] . وقد حكى القرآن طلب المشركين العزة بعبادة الأصنام، فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم 19/ 81] . وأما المشركون فكانوا يطلبون العزة عند الكفار فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟! [النساء 4/ 139] .
ثم وصف الله تعالى بعض مظاهر العزة ردا على الكفار الذين كانوا يقولون:
نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده، فقال:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي إن كنتم لا تصلون إلى الله، فهو يسمع كلامكم، ويقبل طيب الكلام، كالتوحيد والأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء، وتلاوة القرآن وغير ذلك. ومن أفضل الأذكار: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وإن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع
(22/236)
العمل الصالح، وصلاح العمل: الإخلاص فيه، فلا يتقبل الله صلاة وصياما وزكاة ونحو ذلك من أعمال البر، إذا لم تكن لله، وفعلت مراءاة للناس.
قال ابن عباس: الكلم الطيب: ذكر الله تعالى، يصعد به إلى الله عز وجل، والعمل الصالح: أداء الفريضة.
ثم أخبر الله تعالى أنه لا يقبل من المرائين أعمالهم، فقال:
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي والذين يعملون المكرات السيئات في الدنيا، كالتآمر على قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لإضعاف المسلمين، ويوهمون غيرهم أنهم في طاعة الله تعالى، وهم بغضاء إلى الله عز وجل، يراءون بأعمالهم، لهم عقاب بالغ الغاية في الشدة.
ومكر هؤلاء الكاذبين المفسدين يفسد ويبطل ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة، لا تتغير بالمكر والحيلة، ولأن المرائي ينكشف أمره بسرعة، ولا يروج أمره ويستمر إلا على غني، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية، يجازي على الرياء أشد العذاب.
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث بخلق الأنفس فقال:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي والله سبحانه ابتدأ خلق الإنسان من تراب، فخلق أبانا آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فجعل الخلق المتوالي الدائم من النطفة (المني) والنطفة من الغذاء، والغذاء من الماء والتراب، فقد صير التراب نطفة، ثم جعل الناس أصنافا، ذكرانا وإناثا، فهذا التحول من تراب إلى خلية حية، إلى إنسان سوي دليل قاطع على إمكان البعث الذي هو إعادة الحياة مرة أخرى، والإعادة في مفهوم الناس أهون من الإعادة، أما عند الله فهما سواء.
(22/237)
هذا دليل القدرة، أعقبه تعالى بالدليل على كمال العلم فقال:
وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إن الله عالم بحمل أي أنثى في العالم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، كما أنه عالم بوقت الوضع ومكانه وكيفيته، كما قال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد 13/ 8- 9] .
وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ سماه معمّرا بما هو صائر إليه، أي ما يمدّ في عمر أحد، وما ينقص من عمر آخر إلا في صحيفة كل إنسان في اللوح المحفوظ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، سواء أكان من أصحاب الأعمار الطويلة أم القصيرة الأجل، فتطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره، لأسباب مسبقة يعلمها الله، فمن أطال عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التطويل، كصلة الرحم، ومن قصر عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التقصير، كالإكثار من معاصي الله.
روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره «1» ، فليصل رحمه» .
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن ذلك النظام المرتب للعالم سهل يسير على الله، لديه علمه جملة وتفصيلا، فإن علمه شامل لجميع المخلوقات، لا يخفى عليه شيء منها.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
__________
(1) أي يؤخر له في أجله.
(22/238)
1- إمكان حدوث البعث لأن الله قادر على كل شيء، ومن مظاهر قدرته الدالة على ذلك بنحو حسي مباشر: إحياء الأرض بالمطر بعد يبسها وذهاب ما فيها من زروع ونباتات، واكتسائها بالخضرة والمروج، والنبات، والثمار المختلفة الألوان والأنواع والطعوم.
فكما حدث من تبدل من موت إلى حياة كذلك يحدث إحياء المخلوقات، فمثل إحياء الأرض الموات نشر الأموات، وإعادة الحياة لهم بعد الموت.
2- إن الاعتزاز بالكفر والمال والأولاد والجاه والسمعة والنفوذ سراب خادع، فإن من كان يريد العزة التي لا ذلة فيها في الدنيا والآخرة، فعليه بطاعة الله عز وجل وعبادته وحده دون شريك لأن الله تعالى مصدر العزة، وهو سبحانه يعز من يشاء في الدنيا والآخرة، ويذلّ من يشاء،
قال صلّى الله عليه وسلّم مفسّرا لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً: «من أراد عزّ الدارين، فليطع العزيز» .
وعليه، من كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل في دار العزة- ولله العزة- فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به، فإنه من اعتز بالعبد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله.
3- الكلم الطيب من توحيد الله وذكره ودعائه وتلاوة كتابه ونحو ذلك هو الذي يقبله الله عز وجل، والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب كما قال ابن عباس وغيره، كما أن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح. وصلاح العمل:
الإخلاص فيه،
جاء في الحديث: «لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة» «1» .
__________
(1)
رواه الطبراني عن ابن عمر بلفظ: «لا يقبل إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان» .
(22/239)
وردّ على ابن عباس قوله بتعارضه مع معتقد أهل السنة، وأن ذلك لا يصح عنه. قال القرطبي: والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله، وقال كلاما طيبا، فإنه مكتوب له متقبّل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأوّل أنه يزيد في رفعه، وحسن موقعه إذا تعاضد معه، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى، كانت الأعمال أشرف فيكون قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ موعظة وتذكرة وحضّا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة «1» .
4- إن الذين يراءون في أعمالهم، ويعملون المكرات السيئات في الدنيا، لهم عذاب شديد في نار جهنم، ومكرهم بائد غير نافذ. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة.
5- الدليل الاخر على إمكان البعث أحوال نفوس البشر وأطوارها، فقد خلق الله تعالى أصلها من تراب، ثم جعل النطفة سببا للخلق، ثم حدث التزاوج بين الذكر والأنثى، ليتم البقاء في الدنيا إلى نهاية العالم، عن طريق التناسل، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، ولا يخرج شيء عن تدبيره.
6- الأعمار كالأرزاق مقدرة محددة في صحيفة كل إنسان، لا تزيد ولا تنقص، وأما طول العمر بأسباب، كصلة الرحم، فهو داخل في تقدير العمر بصفة نهائية في علم الله، إذ إنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه، زيد في عمره كذا سنة، وفي موضع آخر من اللوح المحفوظ بيّن: إنه سيصل رحمه، فمن اطلع على الأول دون الثاني، ظن أنه زيادة أو نقصان.
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 330
(22/240)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
7- إن نظام العالم البديع، وكتابة الأعمال والآجال غير متعذر على الله، وإنما هو سهل يسير هيّن لأن علم الله مطلق غير نسبي كعلم البشر، وشامل غير محدود، وعام غير خاص يشمل الماضي والحاضر والمستقبل.
من دلائل الوحدانية والقدرة الإلهية
[سورة فاطر (35) : الآيات 12 الى 14]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
الإعراب:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ الشرك: مصدر بمعنى الإشراك، وهو مضاف إلى الكاف والميم، وهي الفاعل في المعنى، وتقديره: بإشراككم إياهم، فحذف المفعول.
البلاغة:
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ بينهما ما يسمى بالمقابلة وهي كالطباق، لكنها بين أكثر من شيئين.
المفردات اللغوية:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ العذب والمالح. عَذْبٌ فُراتٌ شديد العذوبة، والعذب:
(22/241)
الحلو اللذيذ الطعم، والفرات: المزيل للعطش. سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره. أُجاجٌ شديد الملوحة، وذلك مثل للمؤمن والكافر. وَمِنْ كُلٍّ منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك.
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي من البحر الملح، وقال الزجّاج: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، والحلية هنا: هي اللؤلؤ والمرجان، وهي في الأصل: كل ما يتحلى به من سوار أو خاتم.
وَتَرَى تبصر. الْفُلْكَ السفن. فِيهِ في كل من البحرين. مَواخِرَ عابرات شاقات تشق الماء بجريها، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تطلبوا من فضل الله تعالى بالتجارة والتنقل فيها. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا الله على ما أنعم عليكم به من ذلك.
يُولِجُ يدخل، فيزيد في كل من الليل والنهار بالنقص من الآخر. سَخَّرَ أجرى.
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى كل منهما يسير في فلكه هي مدة دورانه، أو منتهاه، وقيل: إلى يوم القيامة. ذلِكُمُ الفاعل لهذه الأفعال. اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ أي هذا الصانع لما تقدم هو الخالق المقدر، والقادر المقتدر، المالك للعالم، والمتصرف فيه. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي تعبدون من غيره وهم الأصنام. ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ القطمير: لفافة النواة، أي القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون على النواة- البزرة. وهذا دليل التفرد بالألوهية والربوبية.
لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد. وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض. مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ما أجابوكم. يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يجحدون بإشراككم إياهم مع الله، وعبادتكم لهم، والمعنى:
يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي ولا يخبرك بالأمر، ويعلمك بأحوال الدارين مخبر مثل الخبير العالم به، وهو الله تعالى.
المناسبة:
بعد إيراد أدلة إثبات البعث، أورد الله تعالى الأدلة والبراهين الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، بخلقه أشياء متحدة الجنس، لكنها مختلفة المنافع، من الماء الواحد، والليل والنهار، والشمس والقمر. وأردفه بالرد على عبدة الأصنام التي لا تملك شيئا، ولا تسمع دعاء، ولا تجيب نداء، وتتبرأ من عابديها يوم القيامة.
(22/242)
التفسير والبيان:
نبّه الله تعالى على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة، فقال عن اختلاف البحرين:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ: هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أكثر المفسرين على أن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان، أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يتساوى مع الكفر في الحسن والنفع، كما لا يتساوى البحران العذب الفرات، والملح الأجاج، وقال الرازي: والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى، وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة، ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات، والآخر ملح أجاج.
والمعنى: لا يتساوى ولا يتشابه البحران في الحقيقة، فأحدهما عذب الماء شديد العذوبة، سائغ الشراب، يجري في الأنهار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، وثانيهما ملح شديد الملوحة، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار.
وبعد اختلافهما في هذا يتشابهان في أمور: مثل أخذ اللحم الطري والحلية منهما، والذي يوجد في المتشابهين اختلافا وفي المختلفين تشابها لا يكون إلا قادرا مختارا، فقال تعالى:
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي يصاد السمك من كل منهما، وتستخرج الحلية الملبوسة منهما، وهو اللؤلؤ والمرجان، كما قال عز وجل: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 22- 23] .
وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي تبصر أيها الناظر السفن في البحر شاقّة الماء، مقبلة مدبرة، حاملة المؤن
(22/243)
والأقوات وأنواع التجارة من قطر إلى آخر، لتطلبوا بأسفاركم بالتجارة بين البلدان من فضل الله، لتشكروا الله أو شاكرين ربكم على تسخيره لكم هذا البحر العظيم، وعلى ما أنعم به عليكم من النعم، فإنكم تتصرفون في البحر كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم دون عائق ولا مانع، بل بقدرته تعالى قد سخر لكم جميع ما في السموات والأرض من فضله ورحمته.
ثم ذكر تعالى دليلا آخر على قدرته التامة وهو اختلاف الأزمنة، فقال:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل أحدهما في الآخر فيكون أطول منه، فيزيد في زمن كل منهما بالنقص من الآخر، فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفا وشتاء.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي سيّر الشمس والقمر وبقية الكواكب السيّارة، والثوابت الثاقبة بإرادته وقدرته، يجري كل منهما بمقدار معين، ومنهاج مقنن، ومدة محددة هي زمن مدارها أو منتهاها، لتعلموا عدد السنين والحساب، وقيل: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى يوم القيامة.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ أي الذي فعل هذا من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك هو الرب العظيم، الذي لا إله غيره، وهو صاحب الملك التام، والقدرة الشاملة، والسلطان المطلق، وكل من عداه عبد له.
ثم أبان تعالى في مقابل ذلك ما ينافي صفة الألوهية، فقال:
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين،
(22/244)
لا يملكون شيئا من السموات والأرض، ولو كان حقيرا بمقدار هذا القطمير، وهو قشرة النواة الرقيقة.
ثم أبطل ما يقولون: إن في عبادة الأصنام عزة، وأبان عجزها وضعفها وحقارتها، فقال:
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي إن تدعوا هذه الآلهة من دون الله تعالى لا تسمع دعاءكم لأنها جماد لا تدرك شيئا، ولو سمعوا لم يقدروا أن ينفعوكم بشيء مما تطلبون منها، لعجزها عن ذلك، فهي لا تضر ولا تنفع ولا تغني شيئا، فكيف تعبدونها؟! وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي وفي اليوم الآخر يجحدون كون ما فعلتموه حقا، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم أو أقروكم عليها، ويتبرءون منكم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] .
وتقريرا عاما لهذه المعاني، وتأكيدا لهذه الأخبار، قال تعالى:
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة، أو لا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها إلا خبير بصير بها، وهو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في الحال أو في الاستقبال، وقد أخبر بالواقع لا محالة.
(22/245)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- من أدلة القدرة الإلهية العظيمة الدالة على وحدانية الخالق خلق الأشياء المتفاوتة، التي منها خلق البحرين: العذب الزلال وهو الأنهار، والملح الأجاج وهو البحار، ومع اختلافهما وتمايزهما حينما يتجاوران، فيهما تشابه بوجود الأسماك في كل منهما، واستخراج الحلية وهي اللؤلؤ والمرجان منهما، أي من اختلاطهما وتمازجهما ونزول مطر السماء، وإن كانت الحلية من البحر المالح.
2- في قوله تعالى: تَلْبَسُونَها دليل على أن لباس كل شيء بحسبه، فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرّجل.
3- من نعم الله تعالى ودليل قدرته: تسيير السفن في البحر، لتبادل التجارات بين الأقطار البعيدة في مدة قريبة، وكسب الأرزاق، الذي يستدعي الشكر على ما آتانا الله من فضله وعلى تسخيره البحر للانتقال فيه، وحرية الحركة في أنحائه.
4- ومن أدلة القدرة الإلهية أيضا: اختلاف الأزمنة بتعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول، وتفاوت زمن الليل والنهار صيفا وشتاء، وتسيير الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة والثابتة في مدة دوران معينة تنتهي في اجتياز مدارها، وبقائها على هذا النحو الدقيق إلى يوم القيامة.
5- إن صانع كل ما ذكر من خلق السموات والأرض، وإنزال الغيث، وخلق الإنسان من تراب، وإيجاد الماء العذب والماء الملح وما يحققان من ثروة مائية ومعدنية ونفطية وحلي، ودورة الأرض واختلاف الليل والنهار بين نصفي
(22/246)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
الكرة الأرضية، وفي النصف الواحد في مدار السنة وغير ذلك، إن هذا الصانع هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر، والمالك القاهر، فهو الذي يستحق أن يعبد.
6- ما أقل عقول الوثنيين وما أبسطها حين يعبدون الأصنام الصماء من الحجارة والمعادن وغيرها، وهي لا تقدر على شيء ولا على خلقه، ولا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، فلا تغيث أحدا إذا استغاث بها لأنها جمادات، ولا تجيب إن ناداها عبّادها لأنها لا تنطق. والداهية العظمى أنها يوم القيامة تتبرأ من عابديها، وتنكر أفعالهم، وتتنصل من تبعة المسؤولية الموجهة إليهم، والله أصدق مخبر بذلك.
سبب العبادة والمسؤولية الشخصية وانتفاع العابدين بالإنذار
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 18]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
البلاغة:
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بينهما طباق.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ بينهما جناس الاشتقاق، وكذا حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ.
(22/247)
المفردات اللغوية:
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، وفي كل حال على الإطلاق. وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء.
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ على الإطلاق عن خلقه. الْحَمِيدُ المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم، المحمود في صنعه بهم.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ إن يشأ يفنكم، ويأت بقوم آخرين من جنسكم بدلكم، أطوع منكم، أو من جنس آخر غير ما تعرفونه. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي وما ذلك الإذهاب لكم والإتيان بآخرين بمتعذر ولا بمتعسر على الله تعالى.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة ذنب أو إثم نفس أخرى. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى، لتحمل عنها بعض الذنوب التي تحملها. لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا. وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المدعو قريبا لها في النسب كالأب والابن، فكيف بغير القريب؟! وهذا حكم مبرم من الله تعالى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافونه غائبا عنهم لأنهم المنتفعون بالإنذار. وَأَقامُوا الصَّلاةَ احتفلوا بأمرها، وأداموها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم.
وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك مختص به، كما أن وزر من تدنس بالذنب لا يكون إلا عليه. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ إلى الله المرجع والمآل، فيجزي على تزكيهم وعملهم في الآخرة.
المناسبة:
بعد بيان كون العبادة واجبة لله تعالى لأنه المالك المطلق، والأصنام لا تملك شيئا، أبان الله تعالى حكمة العبادة للرد على الكفار القائلين بأن أمر الله بالعبادة أمرا بالغا، والتهديد الشديد على تركها، لاحتياجه إلى عبادتنا. ثم أوضح أن كل إنسان مسئول عن نفسه فقط، وأرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تنفع الذي يخشى الله بالغيب وأقام الصلاة.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن غناه المطلق عمن سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه، فقال:
(22/248)
يا أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي يا أيها البشر جميعا، أنتم المحتاجون إلى الله تعالى على الإطلاق، في منح القدرة على الحياة والبقاء، وفي جميع الحركات والسكنات، وفي جميع أمور الدين والدنيا، لذا فاعبدوه وحده لأن ثمرة العبادة عائدة إليكم وحدكم، والله هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له عن عبادتكم وغيرها، وهو المحمود المشكور على نعمه وعلى جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وذكر الْحَمِيدُ ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه.
ثم أبان غناه وقدرته التامة بإمكانه استبدالكم، وأنه غير محتاج إليكم، فقال:
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي لو شاء لأفناكم أيها الناس، وأتى بقوم غيركم، يكونون أطوع منكم، وأجمل وأحسن وأتم، وما ذلك بصعب عليه ولا ممتنع، بل هو يسير هيّن عليه.
وفي هذا تهديد ووعيد وتبديد لأوهامكم أنه لو أذهب البشر لزال ملكه وعظمته.
ثم دعاهم إلى النظر والتأمل في المستقبل، وأخبرهم بمسؤولية كل إنسان يوم القيامة عن نفسه فقط دون غيره، فقال:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة أو مذنبة إثم أو ذنب نفس أخرى. وهذا لا يمنع مضاعفة الإثم للمضلين القادة، كما قال تعالى:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت 29/ 13] .
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي وإن طلبت نفس مثقلة بالأوزار والذنوب مساعدة نفس أخرى في حملها، لتحمل
(22/249)
عنها بعض الذنوب، لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا، ولو كانت قريبة لها في النسب كالأب والابن لأن كل امرئ مشغول بنفسه وحاله، وله من الهموم ما يغنيه.
ونظير الآية: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان 31/ 33] وقوله سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] .
قال عكرمة في قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها: هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني، وإن الكافر ليتعلّق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له: يا مؤمن، إن لي عندك يدا، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا، وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه، حتى يرده إلى منزل دون منزله، وهو في النار، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: يا بني، أي والد كنت لك؟ فيثني خيرا، فيقول له: يا بني، إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته، فيقول: يا فلانة أو يا هذه، أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين، قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها الآية.
ثم أبان الله تعالى من يجدي عنده الإنذار، فقال:
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي إنما يتعظ بما جئت به أيها الرسول أولو البصيرة والعقل الذين يخافون من عذاب ربهم قبل
(22/250)
معاينته أو في خلواتهم عن الناس، ويفعلون ما أمرهم به، ويقيمون الصلاة المفروضة عليهم على النحو الأتم المشروع، إقامة فيها احتفال بأمرها، وبعد عن الاشتغال بغيرها.
ثم ذكر الله تعالى أن فائدة العبادة تعود عليهم، فقال:
وَمَنْ تَزَكَّى، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي ومن تطهر من الشرك والمعاصي، وعمل صالحا، فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك يعود على نفسه، لا غيره، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- الناس قاطبة فقراء محتاجون إلى ربهم الخالق الرازق في بقائهم وكل أحوالهم، والله هو الغني عن عباده، المحمود على جميع أفعاله وأقواله ونعمه الكثيرة التي لا تحصى.
وغنى الله لا يعود عليه، وإنما ينفع به عباده، فاستحق الحمد التام والشكر الكامل من أعماق النفوس.
2- الله قادر على إفناء الخلق، والإتيان بخلق جديد آخر أطوع منهم وأزكى، وليس ذلك بممتنع عسير متعذر على الله تعالى.
3- من مفاخر الإسلام مبدأ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي مبدأ المسؤولية الشخصية في الدنيا والآخرة، فلا يسأل إنسان عن جريمة غيره، ولا يتحمل امرؤ عقوبة جان آخر: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] .
(22/251)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
4- كل إنسان في الآخرة مشغول بنفسه، فلا يستطيع أن يتحمّل شيئا من آثام غيره، ولو كان أقرب الناس لديه، كالأب والابن وغيرهما.
5- إنما يقبل إنذار النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذارات القرآن الكريم: من يخشى عقاب الله تعالى في السرّ والعلن وقبل معاينة العذاب، كما قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس 36/ 11] .
6- من تطهر من أدناس المعاصي فإنما يتطهر لنفسه، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وتظهر الفائدة في الآخرة إذ إلى الله مرجع جميع الخلق، فيحاسبهم على ما فعلوا.
مثل المؤمن والكافر وإرسال الرسل في الأمم
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 26]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
البلاغة:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الظُّلُماتُ والنُّورُ الظِّلُّ والْحَرُورُ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ بين كل طباق.
(22/252)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ استعارة تصريحية، استعار المشبه به وهو الأعمى للكافر، لعدم الاهتداء إلى الطريق الصحيح، واستعار البصير للمؤمن لاهتدائه إلى منهج الاستقامة ووضوح الطريق أمامه.
وزيادة لَا في الآيات [20- 22] في المواضع الثلاثة للتأكيد.
نَذِيرٌ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ توافق الفواصل ذو التأثير في جمال الكلام والوقع على النفس.
المفردات اللغوية:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الأول: فاقد البصر، والثاني له ملكة البصر، والمراد تشبيه الكافر بالأعمى، وتشبيه المؤمن بالبصير. الظُّلُماتُ والنُّورُ شبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق بالنور. الظِّلُّ والْحَرُورُ أراد بالظل الجنة وأراد بالحرور النار. والْحَرُورُ السموم، إلا أن السموم بالنهار، والحرور بالليل والنهار. الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ شبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ هدايته، فيجيب بالإيمان. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي الكفار، شبههم بالموتى الذين لا يجيبون.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر لهم، أو ما عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الإسماع فليس إليك، ولا قدرة لك عليه لأن الهدى والضلالة بيد الله عز وجل. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق، وهو الهدى، فيشمل المرسل والمرسل، فكلاهما محق. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا من أجابك بالجنة، ومنذرا من لم يجبك بالنار. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أو أهل عصر. إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ سلف ومضى فيها منذر مخوف من نبي أو عالم ينذر عنه، واكتفى بالنذير لأن الإنذار قرين البشارة، سيما وقد قرن به من قبل، أو لأن الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن يكذبك أهل مكة فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم. بِالْبَيِّناتِ المعجزات الدالة على صدقهم في نبوتهم. وَبِالزُّبُرِ أي الكتب المكتوبة، كصحف إبراهيم، جمع زبور: أي كتاب، والكتاب: ما فيه شرائع وأحكام. أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بتكذيبهم. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك.
المناسبة:
بعد بيان طريق الهدى وطريق الضلالة، واهتداء المؤمن الذي يخاف ربه،
(22/253)
وجحود الكافر المعاند، ضرب الله تعالى الأمثال للكافر والمؤمن، وللباطل والحق، وللجنة والنار، وللمؤمنين والكافرين، وعدّد الأمثلة، للتعريف بأن المؤمن بصير الطريق، والكافر أعمى الطريق، وأن الإيمان نور فلا يخفى على المؤمن، والكفر ظلمة فيزيد الأعمى حيرة، ثم ذكر مآلهما ومرجعهما، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم جعل الكافر أسوأ حالا من الأعمى فشبهه بالميت لأنه غير مدرك إدراكا نافعا، فهو كالميت، أما الأعمى فقد يدرك شيئا ما كالبصير. ثم أوضح تعالى أن الهداية بيده يمنحها من يشاء، ولكنه لم يترك سبيلا لأحد بالاعتذار، فقد أرسل الرسل والأنبياء في كل أمة من الأمم، فمن آمن نجا، ومن عصى عذب في النار.
التفسير والبيان:
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وللكافرين، فكما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة في حقيقتها وفائدتها، كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله، والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد فاتبعه وانقاد له، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور الإيمان، أو الباطل والحق، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار.
فالمؤمن سميع بصير يمشي في نور على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال الوارفة والعيون المتدفقة، والكافر أصم أعمى يمشي في ظلمات لا خروج له منها، بل يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى ينتهي به الأمر إلى الحرور والسموم والحميم.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي ولا يتساوى المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر، والكافرون أموات القلوب والحواس.
(22/254)
فهذه أمثال للمؤمن والإيمان والعاقبة، والكافر والكفر والمصير، كما قال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟! [هود 11/ 24] وقال عز وجل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام 6/ 122] . قال قتادة: هذه كلها أمثال أي كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.
ثم بيّن تعالى مصدر الهداية، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها، وكما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار، بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا تستطيع أيها النبي هدايتهم لأن الكفر أمات قلوبهم.
وأما مهمة الرسول فهي:
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا رسول منذر عذاب الله، ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الهدى والضلالة فهي بيد الله عز وجل.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً أي أرسلناك أيها الرسول إرسالا مصحوبا بالحق، والمرسل محق، وكذا المرسل محق، مبشرا المؤمنين أهل الطاعة بالجنة، ومنذرا الكافرين أهل المعصية بالنار.
والإرسال منهج عام في البشرية، فقال تعالى:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي ما من أمة من بني آدم سبقت إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 16/ 36] .
(22/255)
ثم سلّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه وتكذيبهم وإعراضهم عن دعوته، فقال:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي وإن يكذبك أيها الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية من قبلهم أنبياءهم، جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة، وبالكتب المكتوبة كصحف إبراهيم، وبالكتاب الواضح البيّن، كالتوراة والإنجيل. وكرر الزبر والكتاب، وهما واحد، لاختلاف اللفظين.
ثم هدد مخالفيه وأوعدهم بالعقاب، فقال:
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ومع كل هذه الأدلة كذب أولئك رسلهم فيما جاءوهم به، فأخذتهم بالعقاب والنكال، فكيف رأيت إنكاري عليهم شديدا بليغا؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- لا مساواة بين الكافر والمؤمن والجاهل والعالم، ولا بين الكفر والإيمان أو الحق والباطل، ولا بين الثواب والعقاب أو الجنة والنار، ولا بين العقلاء والجهال أو أحياء القلوب وأموات القلوب.
2- إن الله يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته، ويهدي أحباءه لطاعته، ولن يستطيع النبي إسماع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم أي كما لا يسمع من مات، كذلك لا يسمع من مات قلبه. والمراد بالآية: أن الكفار الذين حجبوا نور الهداية عن قلوبهم هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
(22/256)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
3- ما الرسول إلا مجرد رسول منذر، فليس عليه إلا التبليغ، ليس له من الهدى شيء، إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
4- أرسل الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته.
5- لم تخل أمة من نبي أو رسول ينذرها ويبشرها.
6- سلّى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من تكذيب كفار قريش، بأن الأمم السابقة كذبوا أنبياءهم، بالرغم من تأييد صدقهم بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات، وبالكتب المكتوبة، وبالكتاب المنير، وكانت نتيجة التكذيب عقوبة الاستئصال.
العلوم العملية الطبيعية دليل آخر على وحدانية الله وقدرته وحال العلماء أمام مشاهد الكون
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 30]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
(22/257)
الإعراب:
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ هاء أَلْوانُهُ تعود على موصوف محذوف، تقديره: خلق مختلف ألوانه، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، هي في موضع رفع بالابتداء، والجار والمجرور قبله:
خبره. وأَلْوانُهُ فاعل مختلف لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل.
يَرْجُونَ تِجارَةً خبر إن. ولَنْ تَبُورَ صفة للتجارة.
البلاغة:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا التفات من الغيبة إلى التكلم، بدلا من «أخرج» للدلالة على كمال قدرة الله وحكمته.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استفهام تقريري، فيه معنى التعجب.
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قصر صفة على موصوف، قصر الخشية على العلماء.
يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ استعارة، استعار التجارة للمعاملة مع الله لنيل ثوابه، وشبهها بالتجارة الدنيوية، وأيدها بقوله: لَنْ تَبُورَ وهو الذي يسمى ترشيحا.
عَزِيزٌ غَفُورٌ لَنْ تَبُورَ غَفُورٌ شَكُورٌ توافق الفواصل من عناصر جمال الكلام.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تعلم فهذه رؤية القلب والعلم. مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها أو أصنافها أو هيئاتها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك. جُدَدٌ أي ذو جدد، أي طرائق وخطوط في الجبال وغيرها، جمع جدة: وهي الخطة أو الطريقة المختلفة الألوان في الجبل ونحوه. بِيضٌ وَحُمْرٌ أي وصفر ونحوها. مُخْتَلِفاً أَلْوانُها بالشدة والضعف. وَغَرابِيبُ سُودٌ معطوف على جدد، أي صخور شديدة السواد، وأصل اللفظ: وسود غرابيب، والعرب تقول كثيرا للشديد السواد المشابه لون الغراب: أسود غربيب، وقليلا: غربيب أسود.
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثمار والجبال. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ بخلاف الجهال كأهل مكة إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له» .
عَزِيزٌ غالب قاهر. غَفُورٌ لذنوب عباده التائبين المؤمنين. والجملة: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يستمرّون على تلاوة القرآن الكريم. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أداموا إقامتها في أوقاتها، مع كمال أركانها وأذكارها. وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً فيه حث على الإنفاق
(22/258)
كيفما تهيأ، لكن السر أفضل من العلانية. يَرْجُونَ تِجارَةً أي تحصيل ثواب الطاعة. لَنْ تَبُورَ لن تكسد ولن تهلك بالخسران.
سبب نزول الآية (29) :
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ..: أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ الآية.
المناسبة:
هذا دليل آخر على وحدانية الله وقدرته من مشاهد الكون المختلفة الأجناس والألوان، ضمّنه أن العلماء في العلوم الكونية أقدر الناس على إدراك عظمة الكون. فيكونون هم أخشى الناس لله، ثم أردفه ببيان حال العلماء العاملين بكتاب الله، فهم الذين يرجون ثواب الله على طاعتهم.
التفسير والبيان:
ينبه الله تعالى على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، فيخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي ألم تشاهد أيها الإنسان أن الله تعالى خلق الأشياء المختلفة من الشيء الواحد، فأنزل الماء من السماء، وأخرج به ثمارا مختلفة الأجناس والأنواع والطعوم والروائح والألوان من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك، كما قال تعالى في آية أخرى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] .
(22/259)
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، وَغَرابِيبُ سُودٌ أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو مشاهد من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد مختلفة الألوان أيضا.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي وخلق أيضا خلقا آخر من الناس والدواب والأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم مختلفة الألوان في الجنس الواحد، بل وفي النوع الواحد، وفي الحيوان الواحد، كاختلاف الثمار والجبال. وقوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي خلق مختلف ألوانه، كما قال تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم 30/ 22] . والدواب: كل ما دب على القوائم، والْأَنْعامِ من باب عطف الخاص على العام. وكلمة كَذلِكَ هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.
وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان والأصباغ في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه، فذكر أولا اختلاف الألوان في ثمار النبات، ثم ذكر اختلاف الألوان في الجمادات، ثم في الناس والحيوان.
أخرج الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيصبغ ربك؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: نعم صبغا لا ينفض، أحمر وأصفر وأبيض» .
ثم ذكر مستأنفا من يعرف جمال ذلك ودقائقه وهم العلماء فقال:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ أي إنما يخاف الله بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، ومنها عظيم قدرته على صنع ما يشاء وفعل ما يريد، فمن كان أعلم بالله، كان أخشاهم له،
(22/260)
ومن لم يخش الله فليس بعالم. والمراد به العالم بعلوم الطبيعة والحياة وأسرار الكون. وسبب خشية العلماء من الله أن الله قوي في انتقامه من الكافرين، غفور لذنوب المؤمنين به التائبين إليه، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى، وهذا يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ، وهذا كله يدركه بدقة وشمول العلماء المتخصصون.
قال ابن عباس: العالم بالرحمن: من لم يشرك به شيئا، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله.
وقال الحسن البصري: العالم: من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الآية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
وقال سعيد بن جبير: الخشية: هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.
ثم أخبر الله تعالى عن العلماء بكتاب الله العاملين به، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي إن الذين يواظبون على تلاوة القرآن الكريم ويعملون بما فيه من فرائض، كإقام الصلاة المفروضة في أوقاتها، مع كمال أركانها وشرائطها والخشوع فيها، والإنفاق مما أعطاهم الله تعالى من فضله ليلا ونهارا، سرا وعلانية، هؤلاء يطلبون ثوابا من الله على طاعتهم، لا بد من حصوله، لذا قال:
(22/261)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ أي ليوفيهم الله ثواب ما عملوه، ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، إنه غفور لذنوبهم، شكور لطاعتهم وللقليل من أعمالهم.
ونظير الآية قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 173] وقوله: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ.. إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ..
[النور 24/ 37- 38] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
1- من أدلة قدرة الله العظمى ووحدانيته واختياره: إنزال الماء من السماء، وإنبات النباتات، وإخراج الثمار المختلفة الأنواع والطعوم والروائح والألوان.
2- ومن الأدلة أيضا: إرساء الأرض بالجبال، وخلق طرق مختلفة الألوان فيما بينها تخالف لون الجبل، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا.
3- ومنها أيضا خلق الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان، ففيهم الأحمر والأبيض والأسود والأصفر وغير ذلك، وكل ذلك دليل على وجود صانع مختار، واحد لا شريك له.
4- إن العلماء بطبيعة تركيب الكون ودقائقه، وبصفات الله وأفعاله، هم الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، ومن لم يخش الله فليس بعالم، كما قال الربيع بن أنس، والخشية بمعرفة قدر المخشي، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لأن الله بين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم.
(22/262)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» .
5- آية إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ: هذه آية القراء العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه، الذين يقيمون صلاة الفرض والنفل، وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية، هؤلاء هم الذين يبتغون تحصيل الثواب من الله على طاعاتهم، ويزيدهم الله من فضله، والزيادة هي الشفاعة في الآخرة، إن الله عند إعطاء الأجور غفور للذنوب، وعند إعطاء الزيادة شكور يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
وقوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ إشارة إلى الإخلاص، أي ينفقون لا ليقال: إنه كريم، ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله تعالى.
تصديق القرآن لما تقدمه وأنواع ورثته وجزاء المؤمنين
[سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 35]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
(22/263)
الإعراب:
مُصَدِّقاً حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق.
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ: مبتدأ، والْفَضْلُ: خبره، وهُوَ:
ضمير فصل بين المبتدأ والخبر. والْكَبِيرُ: صفة الخبر، ويصح القول: ذلِكَ مبتدأ أول، وهُوَ مبتدأ ثان، والْفَضْلُ خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
جَنَّاتُ عَدْنٍ إما مبتدأ، ويَدْخُلُونَها الخبر، أو بدل من قوله: الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو جنات. ويُحَلَّوْنَ خبر ثان أو حال مقدرة.
مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهذا جمع سوار. ولُؤْلُؤاً معطوف على محل: مِنْ أَساوِرَ.
الَّذِي أَحَلَّنا.. الَّذِي في موضع نصب صفة اسم «إن» في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّنا ويصح جعله في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو خبر بعد خبر، أو بدل من ضمير شَكُورٌ.
البلاغة:
لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إطناب بتكرار الفعل، للمبالغة في انتفاء كل من النصب واللغوب.
المفردات اللغوية:
مِنَ الْكِتابِ القرآن، ومِنَ للتبيين. لِما بَيْنَ يَدَيْهِ تقدمه من الكتب.
لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن والظواهر. ثُمَّ أَوْرَثْنَا أعطيناه وقضينا وقدرنا. الْكِتابَ القرآن. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا اخترناهم، وهم علماء الأمة الإسلامية من الصحابة ومن بعدهم. ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به، والظلم: تجاوز الحدود. مُقْتَصِدٌ متوسط يعمل به في أغلب الأوقات. سابِقٌ بِالْخَيْراتِ يضم إلى العلم والتعليم، والإرشاد إلى العمل.
وسابِقٌ متقدم إلى ثواب الله، وبِالْخَيْراتِ أي بسبب عمل الخيرات والأعمال الصالحة.
بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته وتوفيقه. ذلِكَ توريثهم الكتاب والاصطفاء، وقيل: السبق إلى الخيرات.
جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. أَساوِرَ جمع أسورة: وهي حلية تلبس في اليد. الْحَزَنَ الخوف من مخاطر المستقبل. لَغَفُورٌ للذنوب. شَكُورٌ للطاعة.
(22/264)
دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة الدائمة وهي الجنة. نَصَبٌ تعب. لُغُوبٌ إعياء من التعب أو كلال، ونفيهما جميعا للدلالة على الاستقلال، ولعدم التكليف في الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (35) :
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ:
أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن النوم مما يقرّ الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم؟ قال: لا، إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت، قال: فما راحتهم؟ فأعظم ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة، فنزلت: لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» .
المناسبة:
بعد بيان الأصل الأول في العقيدة، وهو وجود الله الواحد، وإثباته بأنواع الأدلة، وهي: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
ولما بيّن الله تعالى في الآية السابقة ثواب تلاوة كتاب الله، أكد ذلك وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، فتاليه محق ومستحق لهذا الثواب، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب السابقة، ثم قسم ورثته ثلاثة أنواع، ثم أوضح جزاء العاملين به في الآخرة.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى مكانة القرآن ومهمته بين الكتب السماوية فقال:
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ
(22/265)
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
أي إن الذي أوحينا إليك به يا محمد وهو القرآن هو الحق الثابت الدائم، المصدق والموافق لما تقدمه من الكتب السماوية السابقة، إن الله محيط بجميع أمور عباده، يعلم أحوالها الباطنة والظاهرة، يشرع لهم من الشرائع والأحكام المناسبة لكل زمان ومكان، وقد أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين والمرسلين، لما اقتضت حكمته وعدله.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ أي ثم قضينا وقدرنا بتوريث هذا القرآن من اخترنا من عبادنا، وهم يا محمد علماء أمتك من الصحابة فمن بعدهم، التي هي خير الأمم بنص الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] وجعلناهم أقساما ثلاثة:
1- الظالم لنفسه: بتجاوز الحد، وهو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات.
2- المقتصد: المتوسط المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، لكنه قد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
3- السابق بالخيرات بإذن الله: وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. وهذا خير الثلاثة، الذي سبق غيره في أمور الدين.
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي توريث الكتاب والاصطفاء فضل عظيم من الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين السابقين بغير حساب والمقتصدين بحساب يسير، والظالمين إن رحموا، فقال:
(22/266)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي يدخل هؤلاء المصطفون جميعا جنات الإقامة الدائمة يوم المعاد، التي يحلّون فيها أساور من ذهب مرصع باللؤلؤ، ويكون لباسهم حريرا خالصا، وقد أباحه الله تعالى لهم في الآخرة، بعد أن كان محظورا عليهم في الدنيا.
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» وقال: «هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» .
وعلى هذا تكون الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو بدمشق، فقال:
ما أقدمك أي أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدّث به عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال رضي الله عنه:
فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«من سلك طريقا يطلب فيها علما، سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظّ وافر» .
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ أي وقالوا حين استقروا في مأواهم جنات عدن: الحمد والشكر والثناء على الله الذي أزال عنا الخوف من المحذور، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة، فهو غفور لذنوب عباده، شكور لطاعتهم.
(22/267)
روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت، ولا في القبور، ولا في النشور، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» .
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
ثم حمدوه أيضا على نعمة البقاء والاستقرار في الجنة والراحة فيها، فقال:
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام الذي لا تحول عنه من فضله ومنّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك، كما
ثبت في الصحيح لدى مسلم وأبي داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل»
ولا نتعرض فيها لتعب ولا إعياء، لا في الأبدان ولا في الأرواح إذ إنهم دأبوا على العبادة في الدنيا، فصاروا في راحة دائمة مستمرة، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- القرآن الكريم هو الحق الصدق الثابت الذي لا شك فيه، وهو الموافق والمصدق لأصول الكتب السماوية السابقة في صورتها الصحيحة قبل التحريف والتبديل لأن الله أعلم بما يحقق الحكمة والمصلحة والعدل.
2- علماء الأمة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم ممن اختارهم الله ورثوا
(22/268)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
القرآن وضمنه كل كتاب منزل لأن الله شرفهم على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم.
3- قسم الله الأمة المسلمة بالنسبة للعمل بالقرآن ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه: أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق إلى الأعمال الصالحة.
4- وعد الله المصطفين جميعا أو السابقين إلى الخيرات جنات عدن يدخلونها، متمتعين فيها بحلي الذهب المرصع باللؤلؤ، مرتدين فيها الحرير الخالص. وهذا دليل سرورهم ومتعتهم.
5- يحمد الله هؤلاء المؤمنون الذين جعل مأواهم جنات عدن ودار الإقامة، قائلين: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أي الخوف من محذور المستقبل، لا يصيبنا فيها عناء ولا إعياء ولا مشقة.
وهذا إخبار ببقائهم في الجنان ودوامهم فيها على الاستمرار.
جزاء الكافرين وأحوالهم في النار وتهديدهم على كفرهم
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
(22/269)
الإعراب:
لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا فَيَمُوتُوا: منصوب بأن مضمرة بعد النفي.
البلاغة:
غَفُورٌ شَكُورٌ كَفُورٍ صيغ مبالغة، وتوافق فواصل.
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تهكم في صيغة أمر.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً إطناب لزيادة التشنيع والتقبيح على الكافرين وكفرهم.
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ سجع عفوي فيه غاية الجمال.
المفردات اللغوية:
لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا يستريحوا من العذاب وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها بل كلما خبت زيد استعارها كَذلِكَ نَجْزِي مثل ذلك الجزاء، أو كما جزيناهم كَفُورٍ كثير الكفر.
يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون في النار بشدة وصوت عال، من الصراخ: وهو الصياح رَبَّنا أَخْرِجْنا بإضمار: يقولون: أخرجنا منها نَعْمَلْ صالِحاً تقييد العمل بالصالح للتحسر على ما عملوه من غير الصالح، والاعتراف به.
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ جواب من الله وتوبيخ لهم، معناه نجعلكم تعمرون وقتا أو نمهلكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي أولم نعمركم وقتا كافيا للتذكر، من أراد أن يتذكر وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ الرسول، فما أجبتم لِلظَّالِمِينَ الكافرين نَصِيرٍ معين يدفع عنهم العذاب.
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لا تخفى عليه خافية، فلا يخفى عليه أحوالهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
بما في القلوب من العقائد والظنون، وهو تعليل لما سبق لأنه إذا علم مضمرات الصدور- وهي أخفى ما يكون- كان علمه بغيرها أولى، بالنظر إلى حال الناس.
(22/270)
خَلائِفَ جمع خليفة، يخلف بعضكم بعضا وهو الذي يقوم بما كان يقوم به سلفه، والخلفاء: جمع خليف. فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ جزاء كفره مَقْتاً غضبا وبغضا خَساراً خسارة للآخرة لأنهم اشتروا بعمرهم رأس المال سخط الله تعالى.
المناسبة:
بعد بيان جزاء ورثة القرآن، ذكر جزاء الكفار لأن المقارنة تبعث في النفس طمأنينة وارتياحا، وليعرف المؤمنون أن فخار الكفار في الدنيا عليهم ينقلب حسرة في الآخرة، وأنه لا نصير للظالمين. ثم أردف ذلك ببيان إحاطة علم الله بالأشياء، لينفي وجود نصير للظالمين، ثم ذكر خلافتهم في الأرض ليقطع حجتهم بطلب العودة إلى الدنيا، وأعقبه بتهديد الكافرين على كفرهم، فإنه لا ينفع عند الله إلا المقت، ولا يفيدهم إلا الخسارة، فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر.
التفسير والبيان:
بعد بيان حال السعداء شرع الله تعالى في بيان حال الأشقياء في الآخرة، فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي والذين كفروا بالله وبالقرآن وستروا ما تدل عليه العقول من دلالات واضحة على الحق، لهم نار جهنم، لا يحكم عليهم بموت ثان، فيستريحوا من العذاب والآلام، ولا يخفف عنهم شيء من العذاب طرفة عين، بل كلما خبت زيد سعيرها، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
ونظير الآية قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف 43/ 77] وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف 43/ 74- 75] وقوله:
(22/271)
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء 17/ 97] وقوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ 78/ 30] .
وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها، ولا يحيون» .
كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي كل مبالغ في الكفر، فنزج به في قعر جهنم.
ثم وصف تعالى حالهم في العذاب بقوله:
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي وهؤلاء الكفار يستغيثون في النار، رافعين أصواتهم، ينادون قائلين: ربنا أخرجنا منها، وارجعنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا ترضى عنه، غير ما كنا نعمله من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان بدل الكفر، والطاعة بدل المعصية.
فرد الله عليهم موبخا:
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نبقكم مدة من العمر، تتمكنون فيه من التذكر إذا أردتم التذكر، أو أما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق، لانتفعتم به في مدة عمركم؟
ونظير الآية: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر 40/ 11- 12] .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه» .
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي وجاءكم الرسول المنذر، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعه
(22/272)
القرآن، ينذركم بالعقاب إن عصيتم. وقيل: النذير: الشيب. وقال الرازي:
أي آتيناكم عقولا، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول.
وبه يتبين أن الله تعالى احتج عليهم بالعمر والرسل لقوله تعالى:
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف 43/ 77- 78] وقوله سبحانه:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك 67/ 8- 9] .
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي فذوقوا عذاب جهنم، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في الدنيا، فليس لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال، وهو تهكم بصيغة الأمر مثل قوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] .
ثم أخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع الأمور ومنها أحوالهم، فقال:
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
أي إن الله يعلم كل أمر خفي في السموات والأرض، ومنها أعمال العباد، لا تخفى منها خافية، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما قال سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] وذلك لأنه عليم بما تنطوي عليه الضمائر، وبما تكنّه السرائر، من المعتقدات والظنون وحديث النفس، وسيجازي كل عامل بعمله.
وفيه إشارة إلى أنه لو أعادهم إلى الدنيا لم يعدلوا عن الكفر أبدا. وقوله:
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
تعليل لشمول علمه.
(22/273)
ثم ذكر سببا آخر لعلمه بالغيب، فقال:
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي إن الله هو الذي جعلكم يخلف قوم قوما آخرين قبلهم، خلفا بعد خلف، وجيلا بعد جيل، لتنتفعوا بخيرات الأرض، وتشكروا الله بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل 27/ 62] .
فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فمن كفر منكم هذه النعمة، فعليه ضرر كفره، وجزاؤه عليه دون غيره.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى وغضب عليهم، وكلما أصروا على الكفر خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وأصابهم النقص والهلاك.
وهذا التكرار دليل على أن الكفر يستوجب أمرين هما البغض والخسران.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- هذه أحوال النار ومقالتهم، يخلدون في نار جهنم، ولا يموتون فيها ولا يحيون: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى 87/ 13] ، ولا يخفف عنهم شيء من عذابها، وهذا جزاء كل كافر بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
2- إنهم يقولون في النار: ربنا أخرجنا من جهنم، وردنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا غير عملنا الذي كنا نعمله، وهو الشرك، فنؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل.
3- أجابهم الله تعالى بأنه أعطاهم مدة من العمر كافية، يتمكن فيه كل واحد
(22/274)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
من التذكر إذا أراد التذكر، وجاءتهم الرسل تنذرهم من عقاب الله إن أصروا على الكفر، فكان أمامهم فرصتان: مدة العمر، وإرسال الرسل.
4- إن دار الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يقبل فيها تصحيح الإيمان، ولا تنفع فيها التوبة، فذلك كله محله دار الدنيا، لذا يقال للكفار: ذوقوا عذاب جهنم لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم، فما للظالمين من ناصر ولا مانع من عذاب الله تعالى.
5- الله تعالى عالم بكل أمر خفي أو ظاهر في الدنيا والآخرة، ومطلع على أعمال العباد، وهو يعلم أنه لو رد الكفار إلى الدنيا لم يعملوا صالحا، كما قال:
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام 6/ 28] وهذا تقرير لدوامهم في العذاب.
وسبب سعة علمه بالغيب: أنه عالم في الماضي والمستقبل بمضمرات الصدور، وأنه جعل الناس خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن، للانتفاع بكنوز الأرض، وشكر الله بالتوحيد والطاعة.
6- من كفر فعليه جزاء كفره وهو العقاب والعذاب.
7- إذا استمر الكفار على كفرهم لم يستفيدوا إلا أمرين: المقت، أي البغض والغضب من الله تعالى، والخسارة، أي الهلاك والضلال. فهل من معتبر منهم في الدنيا قبل فوات الأوان؟
مناقشة المشركين في عبادة الأوثان وإنكار التوحيد
[سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
(22/275)
الإعراب:
أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ.
إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ جملة سادّة مسد الجوابين: جواب القسم وجواب الشرط.
البلاغة:
أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ استفهام إنكاري للتوبيخ.
حَلِيماً غَفُوراً من صيغ المبالغة.
غُرُوراً غَفُوراً توافق فواصل.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون من غير الله، وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء لله تعالى أَرُونِي أخبروني شِرْكٌ شركة مع الله فِي السَّماواتِ أي في خلقها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنا اتخذنا شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، أي لهم معي شركة بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي ما يعد الكافرون. ولمّا تقرر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف الأخلاف أو الرؤساء الأتباع غُرُوراً باطلا.
يُمْسِكُ يحفظ أَنْ تَزُولا كراهة أن تضطرب وتنتقل من أماكنها، من الزوال، والمعنى: يمنعهما من الزوال وَلَئِنْ اللام لام القسم إِنْ أَمْسَكَهُما ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله، أي سواه، أو من بعد الزوال، ومن الأولى: زائدة، والثانية: للابتداء والمعنى الأصح: لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما لو فرض زوالهما إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً في تأخير عقاب الكفار، وفي إمساكه السموات والأرض.
(22/276)
المناسبة:
بعد بيان جزاء المؤمنين والكافرين وتهديد كل من كفر بالله، ذكر تعالى ما يدعو للتوحيد ويبطل الإشراك، مناقشا المشركين في أبسط مقومات عبادة الإله: وهو الخلق والإبداع، وأن هذه الآلهة المزعومة عاجزة عن ذلك.
التفسير والبيان:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ قل أيها النبي للمشركين: أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله وتتخذونهم آلهة من الأصنام والأوثان، هل خلقوا شيئا من الأرض، حتى يستحقوا الألوهية؟
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ وهل لهم شركة مع الله في خلق السموات أو في ملكها أو في التصرف فيها، حتى يستحقوا بذلك الشركة في الألوهية؟
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ أي وهل أنزلنا عليهم كتابا يقرر ما يقولونه من الشرك والكفر، يكون لهم حجة فيما يدعون؟
بَلْ، إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي كلها غرور وباطل وزور، كما يعد الرؤساء والقادة أتباعهم بمواعيد يغرونهم بها، وهي أباطيل تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده.
وبعد بيان ضعف الأصنام وعجزها عن أي شيء، أبان تعالى ما يؤهله للعبادة، ويجعله أهلا للعظمة، فقال مبينا قدرته وبديع صنعه:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنع زوال
(22/277)
السموات والأرض واضطرابها، وانتقالها من أماكنها، وهذا يشير إلى نظام الجاذبية، وأن الأرض كرة تسبح في الفضاء، كغيرها من الشمس والقمر والكواكب الأخرى السيارة التي تجري في مدارات خاصة بها، كما قال عز وجل:
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [فاطر 35/ 41] وقال سبحانه:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] .
وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي لو قدّر إشرافهما على الزوال، لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما، ولا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، يمهل عقاب المشركين، ويغفر لمن تاب منهم ما أجرم في الماضي، فهو يحلم فيؤخّر ويؤجّل، ولا يعجّل، ويستر آخرين ويغفر، ويظل ممسكا السموات والأرض، بالرغم من أنه يرى عباده، وهم يكفرون به ويعصونه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- يتحدى الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد، ويطالبهم أن يخبروا عن شركائهم الذين يعبدونهم من دون الله، أعبدوهم لأن لهم شركة في خلق السموات والأرض، أم خلقوا من الأرض شيئا؟! أم عندهم كتاب أنزله إليهم بالشركة؟! وقوله شُرَكاءَكُمُ: إنما أضاف الشركاء إليهم، من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال: شُرَكاءَكُمُ أي الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال: شركاءكم في النار، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء 21/ 98] قال الرازي: وهو قريب، ويحتمل أن يقال: هو بعيد، لاتفاق المفسرين على الأول.
(22/278)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
2- الحقيقة أنه لا جواب يقنع من المشركين، وإنما هم يتبعون أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي باطل وزور، وما مواعيدهم لبعضهم بعضا إلا أباطيل تغرّ، حين قال السادة للأتباع: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقرّبكم.
3- الدليل على عظمة الله وقدرته بعد ثبوت ضعف الأصنام وعجزها: هو أن الله خالق السموات والأرض وممسكهما، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه، ولو زالتا فرضا واضطربتا ما أمسكهما من أحد غير الله جل جلاله.
4- من صفات الله العليا: الحلم، فلا يعجل العقوبة للكفار والعصاة، والمغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى إلى طريق الحق على الدوام، وهو تعالى يحافظ على هذا النظام البديع للكون، بالرغم من كفر الكافرين.
إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
(22/279)
الإعراب:
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ اسْتِكْباراً مفعول لأجله، ومَكْرَ السَّيِّئِ منصوب على المصدر، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، بدليل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
البلاغة:
ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ في ظَهْرِها استعارة مكنية، شبّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات، ثم حذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الظهر، بطريق الاستعارة المكنية.
عَلِيماً قَدِيراً بَصِيراً من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
وَأَقْسَمُوا حلف المشركون جَهْدَ أَيْمانِهِمْ طاقتها وغاية اجتهادهم فيها لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول منذر أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ اليهود أو النصارى، لما رأوا من تكذيب بعضهم بعضا إذ قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق والهدى.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي إنهم ما كذبوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لاعتقاد كذبه، إنما فعلوا ذلك لأجل الاستكبار عن أن يكونوا أتباعا له، ولأجل العتو: وهو التجبر والمضي في الفساد وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي ومكر العمل السيء من الشرك وكيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمكر: هو الحيلة والخداع والعمل القبيح وَلا يَحِيقُ لا يصيب ولا ينزل ولا يحيط إِلَّا بِأَهْلِهِ وهو الماكر فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ طريقة المتقدمين من تعذيب المكذبين رسلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي لا يبدل بالعذاب غيره، ولا يحول إلى غير مستحقه، وبعبارة أخرى: التبديل: وضع الرحمة موضع العذاب، والتحويل: نقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم.
عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مصير وآثار الماضين من قبلهم أثناء سيرهم إلى الشام واليمن والعراق، كعاد وثمود ومدين وأمثالهم، نزل بهم العذاب، لما كذبوا الرسل، فتلك سنة الله في المكذبين التي لا تبدّل ولا تحوّل وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأطول أعمارا، وأكثر أموالا، وأقوى أبدانا، من أهل مكة، فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم. والواو: واو الحال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ
(22/280)
شَيْءٍ
يسبقه ويفوته إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها لا يخفى عليه شيء قَدِيراً لا يصعب عليه أمر.
بِما كَسَبُوا عملوا من الذنوب أو المعاصي أو الخطايا عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض من الأحياء مِنْ دَابَّةٍ من الدواب التي تدبّ، والدابة: كل ما يدبّ على الأرض وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي فيجازيهم على أعمالهم، بإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين.
سبب النزول: نزول الآية (42) :
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه: أن قريشا كانت تقول: لو أن الله بعث منا نبيا، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكا بكتابها منا، فأنزل الله: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ [الصافات 37/ 168] لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام 6/ 157] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ وكانت اليهود تستفتح على النصارى به، فيقولون: إنا نجد نبيا يخرج.
المناسبة:
بعد بيان إنكار المشركين للتوحيد، وتوبيخهم وتقريعهم على سخف عقولهم، ذكر الله تعالى تكذيبهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بعد ترقبهم له، ثم هددهم بالهلاك كمن قبلهم من الأمم الغابرة الذين كذبوا رسلهم، وأردفه بتذكيرهم بما يشاهدونه في رحلاتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار تدمير منازل المكذبين بالرغم من كمال القوة، وكثرة المال والولد، وختم السورة ببيان مدى حلمه على الناس، وأنه لو أراد مؤاخذتهم لأفناهم، ولكنه أخرّ عقابهم إلى يوم القيامة، وحينها يعاقبهم على أعمالهم.
(22/281)
التفسير والبيان:
هذا نبأ عجيب غريب عن قريش والعرب لا علم لنا به من غير القرآن، قال تعالى:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أقسمت قريش والعرب بالله أغلظ الأيمان قبل إرسال الرسول إليهم: لئن جاءهم من الله رسول منذر ليكونن أمثل من أي أمة من الأمم أو من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل في الطاعة، وأشدهم تمسكا بالرسالة وقبولا لها.
وذلك كقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام 6/ 156- 157] .
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي فلما أتاهم ما تمنوه، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه من القرآن العظيم، ما ازدادوا إلا كفرا إلى كفرهم وتباعدا عن الإيمان وإجابة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مستكبرين عن اتباع آيات الله، ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله تعالى.
وبه تبين ألا عهد لهم، ولا صدق في كلامهم، ولا وفاء بما يقولون، فتحملوا ثم فعلهم كما قال تعالى:
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم نفسهم دون غيرهم، وعادت عليهم عاقبة مكرهم بالإثم والوزر، ونزلت عاقبة لسوء بمن أساء، قبل المساء إليه، كما قال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
(22/282)
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
[الشعراء 26/ 227] ومكر السيء: أي مكر العمل السيء، والمكر: هو الحيلة والخداع والعمل القبيح، وهو هنا الكفر وخداع الضعفاء، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.
ثم هددهم بجزاء أمثالهم، فقال:
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي فهل ينتظرون إلا عقوبة لهم على تكذيبهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومخالفة أوامره مثل عقوبة الله للأمم الماضية المكذبين.
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي تلك سنة الله وطريقته. التي لا تتغير ولا تتبدل في كل مكذب، فلن توضع الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من مكذب إلى غيره، كما قال تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرعد 13/ 11] .
ثم لفت أنظارهم إلى آثار تدمير الماضين المكذبين فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي أولم ينتقلوا في الأراضي في رحلاتهم إلى الشام واليمن والعراق، فيشاهدوا مصير السابقين الذين كذبوا الرسل، كيف دمّر الله عليهم، وللكافرين أمثالهم، بالرغم من أنهم كانوا أشد قوة من قريش وأكثر عددا وعددا، وأموالا وأولادا، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء أمر ربك، لأنه كما قال تعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً أي لأن الله لا يعجزه ولا يفوته أو يسبقه شيء إذا أراد حدوثه في السموات والأرض، فلن يعجزه هؤلاء المشركون المكذبون لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولن يفلتوا من عقابه لأن الله تعالى عليم بجميع الكائنات لا يخفى عليه شيء، قدير
(22/283)
لا يصعب عليه أمر، فهو يعلم المستحق للعقوبة، قادر على الانتقام منه في أي وقت أو مكان شاء.
ثم أبان الله تعالى سياسته العقابية، وأخبر عن سابغ وواسع رحمته بالناس، فقال:
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أي لو عجل تعالى العقاب وآخذ الناس بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل السموات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، لشؤم معاصيهم. والمراد بالدابة كما قال ابن مسعود: جميع الحيوان مما دبّ ودرج.
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي ولكن يؤجل عقابهم ومؤاخذتهم بذنوبهم إلى وقت محدد وهو يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستحق منهم العقاب، لا يخفى عليه شيء من أمرهم.
ونظير الآية: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- أقسمت قريش قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم أنه إن جاءهم نبي ليكونن أهدى ممن كذب الرسل من أهل الكتاب.
وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل.
فلما جاءهم ما تمنّوه وهو الرسول النذير، من أنفسهم، نفروا عنه، ولم يؤمنوا
(22/284)
به، تكبرا وعتوا عن الإيمان، ومكرا منهم بصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.
2- لكن تنكر المشركين للعهد بالله، وإخلالهم بالوفاء باليمين، وعاقبة شركهم: لا ترتد آثاره إلا عليهم أنفسهم. وهذا ما دل عليه قوله تعالى:
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. وفي أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا»
وروى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا، فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغ ولا تعن باغيا، فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
وفي الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن قيس بن سعد: «المكر والخديعة في النار»
أي تدخل أصحابها في النار لأنها من أخلاق الكفار، لا من أخلاق المؤمنين الأخيار،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «وليس من أخلاق المؤمن: المكر والخديعة والخيانة» .
3- ما موقف المشركين المعاند من نبي الله إلا كموقف من ينتظر العذاب الذي نزل بالكفار الأولين، وقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة أي طريقة فيهم، فهو يعذب المستحق، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والإهلاك ليس سنة الأولين وإنما هو سنة الله بالأولين.
4- تأكيدا لهذا الموقف نبّههم الله تعالى إلى الأمثلة الواقعية من تاريخ الأمم الغابرة، وهم الذين يشاهدون آثار تدمير مساكنهم ودورهم أثناء تجاراتهم ورحلاتهم إلى بلاد اليمن والشام والعراق، مثل إهلاك قوم عاد وثمود ومدين وغيرهم، لما كذبوا رسل الله، وكانوا أشد من أهل مكة قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وإذا أراد الله إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك.
5- اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعجل العذاب للعصاة والكفار على
(22/285)
ذنوبهم، وإنما يؤخرهم ويمهلهم إلى يوم معين كي تكون لديهم فرصة، فيتداركوا تقصيرهم، ويعدلوا عن ظلمهم، وكان مقتضى العدل تعجيل العقوبة، وإذا فعل الله ذلك، أهلك جميع المخلوقات إلا من يشاء، والله سبحانه عليم بمن يستحق العقاب منهم.
وهذا رد بليغ على المشركين الذين كانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم وعتوهم يستعجلون بالعذاب، ويقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجل لنا عذابنا، فقال الله: للعذاب أجل.
وقد حكى القرآن الكريم استعجال المشركين بالعقاب استهزاء، حيث قالوا:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
(22/286)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة يس
مكيّة، وهي ثلاث وثمانون آية.
تسميتها:
سميت سورة يس لافتتاحها بهذه الأحرف الهجائية، التي قيل فيها إنها نداء معناه (يا إنسان) بلغة طي لأن تصغير إنسان: أنيسين، فكأنه حذف الصدر منه، وأخذ العجز، وقال: يس أي أنيسين. وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدليل قوله تعالى بعده. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
1- بعد أن ذكر تعالى في سورة فاطر قوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [37] وقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ [42] والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد أعرضوا عنه وكذبوه، افتتح هذه السورة بالقسم على صحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم، وأنه أرسل لينذر قوما ما أنذر آباؤهم.
2- هناك تشابه بين السورتين في إيراد بعض أدلة القدرة الإلهية الكونية، فقال تعالى في سورة فاطر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى
(22/287)
[13] وقال في سورة يس: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [37- 38] .
3- وقال سبحانه في فاطر: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [12] وقال في يس: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [41] .
مشتملاتها:
تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية المفتتحة بأحرف هجائية الكلام عن أصول العقيدة من تعظيم القرآن الكريم، وبيان قدرة الله ووحدانيته، وتحديد مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبشارة والإنذار، وإثبات البعث بأدلة حسية مشاهدة من الخلق المبتدأ والإبداع الذي لم يسبق له مثيل.
وقد بدئت السورة بالقسم الإلهي بالقرآن الحكيم على أن محمدا رسول حقا من رب العالمين لينذر قومه العرب وغيرهم من الأمم، فانقسم الناس من رسالته فريقين: فريق معاند لا أمل في إيمانه، وفريق يرجى له الخير والهدى، وأعمال كل من الفريقين محفوظة، وآثارهم مدونة معلومة في العلم الأزلي القديم.
ثم ضرب المثل لهم بأهل قرية كذبوا رسلهم واحدا بعد الآخر، وكذبوا الناصح لهم وقتلوه، فدخل الجنة، ودخلوا هم النار. وأعقب ذلك تذكيرهم بتدمير الأمم المكذبة الغابرة.
وانتقل البيان إلى إثبات البعث والقدرة والوحدانية بإحياء الأرض الميتة، وبيان قدرة الله الباهرة في الكون من تعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة والثابتة، وتسيير السفن في البحار.
وإزاء ذلك هزم الجاحدون، وأنذروا بالعقاب السريع، وفوجئوا بنقمة الله في تصوير أهوال القيامة، وبعثهم من القبور بنفخة البعث والنشور، فأعلنوا
(22/288)
ندمهم، وصرحوا بأن البعث حق، ولكن لم يجدوا أمامهم إلا نار جهنم، وكانوا قد وبخوا على اتباع وساوس الشيطان، وأعلموا أن الله قادر على مسخهم في الدنيا.
وأما المؤمنون فيتمتعون بنعيم الجنان، ويحسون بأنهم في أمن وسلام من رب رحيم.
ثم نفى الله تعالى كون رسوله شاعرا، وأعلم الكافرين أنه منذر بالقرآن المبين أحياء القلوب، وذكّر الناس قاطبة بضرورة شكر المنعم على ما أنعم عليهم من تذليل الأنعام، والانتفاع بها في الطعام والشراب واللباس.
وندد الله تعالى باتخاذ المشركين آلهة من الأصنام أملا في نصرتها لهم يوم القيامة، مع أنها عاجزة عن أي نفع، وهم مع ذلك جنودها الطائعون.
وختمت السورة بالرد القاطع على منكري البعث بما يشاهدونه من ابتداء الخلق، وتدرج الإنسان في أطوار النمو، وإنبات الشجر الأخضر ثم جعله يابسا، وخلق السموات والأرض، وإعلان القرار النهائي الحتمي الناجم عن كل ذلك، وهو قدرة الله الباهرة على إيجاد الأشياء بأسرع مما يتصور الإنسان، وأنه الخالق المالك لكل شيء في السموات والأرض.
والخلاصة: أن السورة كلها إيقاظ شديد للمشاعر والوجدان، وتحريك قوي للأحاسيس، وفتح نفّاذ للقلوب، لكي تبادر إلى الإقرار بالخالق وتوحيده، والإيمان بالبعث والجزاء.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتاب أبي داود عن معقل بن يسار: «اقرؤوا يس على موتاكم» .
(22/289)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
القرآن والرسول والمرسل إليهم
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
الإعراب:
يس إما بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هذه يس، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث، وقرئ بالنصب على معنى: اتل يس، وإما بالفتح كأين وكيف، وقرئ بالكسر مثل: جير لإسكان الياء وكسر ما قبلها. ومنهم من أظهر النون، ومنهم من أدغمها في الواو، فمن أظهرها فلأن حروف الهجاء من حقها أن يوقف عليها، كالعدد، ولذلك لم تعرب، ومن أدغمها أجراها مجرى المتصل، والإظهار أقيس.
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في موضع رفع خبر (إن) وعَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما في موضع رفع خبر بعد خبر (إن) وإما في موضع نصب متعلق ب الْمُرْسَلِينَ.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ منصوب على المصدر، مصدر (نزّل) وهو مضاف إلى الفاعل،
(22/290)
ويقرأ بالرفع على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره: هو تنزيل، ويقرأ أيضا بالجر على البدل من القرآن.
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قَوْماً: إما نافية، وإما مصدرية في موضع نصب، تقديره: لتنذر قوما إنذارا مثل إنذارنا آباءهم، ممن كانوا في زمان إبراهيم وإسماعيل.
وَآثارَهُمْ هي السنن التي سنّوها، فيه محذوف تقديره: سنكتب ذكر ما قدموا وذكر آثارهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كُلَّ منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَحْصَيْناهُ أي أحصينا كل شيء أحصيناه.
البلاغة:
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ في كل منهما تأكيد بأكثر من مؤكد وهو (إن) واللام لأن المخاطب منكر، وهذا التأكيد يسمى إنكاريا.
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا استعارة تمثيلية، شبه حال الكفار في امتناعهم عن الإيمان بمن غلّت يده إلى عنقه بالقيود، فصار مرفوع الرأس خافض البصر، لا يستطيع فعل شيء ولا الالتفات إلى غيره. وكذلك شبه حالهم بمن وجد بين سدّين لا يستطيع النفاذ والاهتداء لطريقه.
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بينهما طباق.
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ بينهما طباق السلب.
نَحْنُ نُحْيِ جناس ناقص لتغير الحروف.
المفردات اللغوية:
يس تقرأ: يا، س بمد الياء، وإظهار النون الساكنة، أو بإدغام نون السين في الواو التي بعدها، إلخ ما ذكر في الحاشية، والمراد من هذه الحروف المقطعة الهجائية كما سبق بيانه التنبيه، مثل ألا ويا، والإشارة إلى العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف تتركب منها لغتهم وكلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ حجة عليهم. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الواو: واو القسم، يقسم الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني، أو بذي الحكمة، على أن محمدا رسول من عند الله، لئلا يشك أحد في كونه مرسلا. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي الأنبياء المرسلين إلى قومهم وغيرهم، والتأكيد بالقسم واللام للرد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: لست مرسلا. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي الطريق القويم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل هو الموصل إلى المطلوب، في العقيدة والشريعة، في التوحيد والاستقامة في الأمور.
(22/291)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي إن القرآن تنزيل منزل من العزيز الغالب في ملكه، الرحيم بخلقه. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ اللام متعلق ب تَنْزِيلَ، والمعنى أرسلناك بهذا التنزيل لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم الأقربون، في زمن الفترة، أو لتطاول مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. غافِلُونَ أي إن القوم العرب غافلون عن الإيمان والرشد، وعن الشرائع والأحكام.
حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ وجب الحكم بالعذاب على أكثر أهل مكة: وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون بالقرآن.
أَغْلالًا جمع غلّ: وهو ما تجمع به اليد إلى العنق للتعذيب. فَهِيَ الأيدي مجموعة.
إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن: وهي مجتمع اللّحيين. مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، غاضون أبصارهم في عدم التفاتهم إلى الحق. وهذا تمثيل، يراد به أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون نفوسهم له. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أمامهم، والمراد: منعناهم عن الإيمان بموانع هي استكبارهم وعتوهم وعنادهم عن قبول الحق والخضوع له. فَأَغْشَيْناهُمْ غطينا أبصارهم. فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار سبيل الهدى، إنهم عموا عن البعث، وعن قبول الشرائع الإلهية. وهذا تمثيل أيضا لسد طريق الإيمان عليهم لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه. والعلم: مجرد معرفة مسبقة لا يمنع الإنسان عقلا وواقعا من الإيمان لأنه غير معروف له.
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، بسبب العتو والاستكبار. إِنَّما تُنْذِرُ ينفع إنذارك. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي اتبع القرآن، وخاف عقاب الله في السر والعلن، وإن لم يره، والغيب: أي قبل معاينة أهواله. وَأَجْرٍ كَرِيمٍ هو الجنة.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى نبعثهم بعد الموت. وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نكتب في اللوح المحفوظ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كالعلم والكتاب والمسجد والمشفى والمدرسة، أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي كل شيء من أعمال العباد وغيرها ضبطناه في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال.
سبب النزول: نزول الآية (1) :
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ:
أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:
(22/292)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
نزول الآية (8) :
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله: لا يُبْصِرُونَ فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
نزول الآية (12) :
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى:
أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النّقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا» . وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم» .
التفسير والبيان:
يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي
(22/293)
أقسم بالقرآن ذي الحكمة البالغة، المحكم بنظمه ومعناه بأنك يا محمد لرسول من عند الله على منهج سليم، ودين قويم، وشرع مستقيم لا عوج فيه.
وفي هذا إشارة إلى أن القرآن هو المعجزة الباقية، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، صادق في نبوته، ومرسل برسالة دائمة من عند ربه.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي هذا القرآن والدين والصراط الذي جئت به تنزيل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى 42/ 52- 53] .
وهذا دليل واضح على مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن.
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ أي أرسلناك أيها النبي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول نذير من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والنور والشرائع التي تسعد البشر في الدارين.
لكنّ ذكرهم وحدهم هنا للعناية بهم وتوجيه الخطاب لهم: لا ينفي كونه مرسلا إلى الناس كافة، بدليل الآيات والأحاديث المتواترة المعروفة في عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم، مثل قوله تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة، وهو ما سجّل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر، ويصرون عليه طوال حياتهم.
(22/294)
والمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلي، وهو سبق علم الله بنهاياتهم، لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر، وفي هذا تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يجزع ولا يأسف على عدم إيمانهم به.
ثم ضرب الله تعالى مثلا لتصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى إيمانهم، فقال:
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود، تمنعهم من فعل شيء، فصاروا مرفوعي الرؤوس خافضي الأبصار. وهذا يعني أن الله جعلهم كالمغلولين المقمحين (الرافعي رؤوسهم الغاضي أبصارهم) في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يوجهون أنظارهم نحوه، وهم أيضا كالقائمين بين سدين، لا يبصرون أمامهم ولا خلفهم، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله، كما قال:
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي تأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كمن أحاط به سدان من الأمام والخلف، فمنعاه من النظر، فهو لا يبصر شيئا، وهؤلاء لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه لأنا غطينا أبصارهم عن الحق.
وهذا مثل صائب لأهل الجهالة والتخلف والبدائية الذين حجبوا مداركهم وأبصارهم عن التأمل في معطيات المدنية والتقدم والحضارة، وهو تمثيل رائع للسد الإلهي المعنوي بالسد الحاجز المادي الحسي.
ونتيجة لما سبق:
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إن إنذارك لهؤلاء المصرين على كفرهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، ما داموا غير مستعدين
(22/295)
لقبول الحق، والخضوع لنداء الله، والنظر في الدلائل الدالة على صدق رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتأمل في عجائب الكون المشاهدة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته.
أما نفع الإنذار، فهو كما ذكر تعالى:
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه ومعاينة أهواله، أو خشوا الله قبل رؤيته، فهؤلاء بشرهم بمغفرة لذنوبهم، ورضوان من الله، وأجر كريم ونعيم مقيم هو الجنة. ونظير الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك 67/ 12] .
ثم أكد الله تعالى حصول الجزاء للمؤمنين وغيرهم، فقال:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي إننا قادرون فعلا على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين ندوّن لهم كل ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء، وتركوا من أثر طيب أو خبيث، أي نكتب ونسجل أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها وخلفوها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن عمل على نشر الفضيلة جوزي بها، ومن عمد إلى نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة يحاسب عليها.
وهذا
كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي-: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .
(22/296)
وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده» .
ثم ذكر تعالى أن كتابة الآثار لا تقتصر على الناس، وإنما تتناول جميع الأشياء، فقال:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي لقد ضبطنا وأحصينا كل شيء من أعمال العباد وغيرهم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي سجّل فيه جميع ما يتعلق بالكائنات، كما قال تعالى: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه 20/ 52] وقال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر 54/ 52- 53] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- القرآن الكريم معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وهو تنزيل من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
2- الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، على منهج وطريق ودين مستقيم هو الإسلام.
3- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العرب خاصة وإلى الناس كافة، فلم يبق بعدها عذر لمعتذر.
4- إن رؤوس الكفر والطغيان والعناد من أهل مكة أو العرب استحقوا الخلود في نار جهنم والعذاب الدائم فيها لأنهم أصروا على الكفر، وأعرضوا عن النظر في آيات الله، والتأمل في مشاهد الكون، وقد علم الله في علمه الأزلي
(22/297)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
بقاءهم على الكفر، لكنه أمر نبيه بدعوتهم إلى دينه لأنهم لا يعلمون سابق علم الله فيهم، ولتعليمنا المنهج في دعوة الناس قاطبة إلى الإيمان بالله والقرآن ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والبعث والحساب والجزاء.
5- لا أمل بعد هذا في إنذارهم ولا نفع فيه بعد أن سدوا على أنفسهم منافذ الهداية ومدارك المعرفة، ولم تتفتح بصائرهم لرؤية الحق والنور الإلهي.
6- إنما نفع الإنذار لمن استعد للنظر في منهج الحق، ثم آمن بالقرآن كتابا من عند الله، وخشي عذاب الله وناره قبل المعاينة والحدوث، فهذا وأمثاله يغفر الله له ذنبه، ويدخله الجنة.
7- البعث حق والإيمان به واجب، والله قادر عليه، وسيكون مستند الجزاء ما كتب من أعمال العباد، وما تركوه من آثار صالحة أو سيئة، كما أن الله أحصى كل شيء وضبطه من أمور الكائنات، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد دلّ سبب نزول الآية على أن حسنات البعيدين عن المسجد مثل حسنات القريبين منه، وأنه إن تعذر عليهم الاقتراب من المسجد أو شقّ عليهم، فلا يلزم القرب منه.
قصة أصحاب القرية- أنطاكية
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
(22/298)
الإعراب:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أَصْحابَ: منصوب إما على البدل من قوله:
مَثَلًا أي واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، فالمثل الثاني بدل من الأول، وحذف المضاف، وإما لأنه مفعول ثان ل اضْرِبْ. وإِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ: بدل اشتمال من أصحاب القرية.
وإِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ بدل من إذ الأولى. وإِذْ جاءَهَا: ظرف لقوله جاءَهَا.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ جواب الشرط محذوف، تقديره: أئن ذكرتم، تلقيتم التذكير والإنذار بالكفر والإنكار. وأَ إِنْ: همزة استفهام دخلت على إن الشرطية.
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: أكثر القراء فتحوا الياء من لِيَ إشعارا بفتح الابتداء ب لا أَعْبُدُ ليبتعدوا عن صورة الوقف على الياء لأنهم لو سكنوا لكانت صورة السكون مثل صورة الوقف. أما في قوله: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل 27/ 20] فالياء ساكنة.
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي ما: إما بمعنى الذي، وغَفَرَ لِي: صلته، والعائد محذوف
(22/299)
تقديره: الذي غفره لي ربي، وحذف تخفيفا، وإما مصدرية، أي بغفران ربي لي، وإما استفهامية، وفيه معنى التعجب من مغفرة الله، تحقيرا لعمله وتعظيما لمغفرة ربه، لكن في هذا الوجه ضعف لأنه لو كانت استفهامية لزم حذف الألف منها، فتصير (بم) .
البلاغة:
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً إطناب بتكرار الفعل.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام للتوبيخ.
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ مجاز بالحذف، أي لما أعلن إيمانه قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة.
أَرْسَلْنا الْمُرْسَلُونَ تَطَيَّرْنا طائِرُكُمْ فيهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي: ومثّل لهم مثلا، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، والمثل الثاني بيان للأول. والمثل: الصفة والحال الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قال القرطبي: هذه القرية: هي أنطاكية في قول جميع المفسرين. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ هم أصحاب عيسى، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعوة إلى الله. فَكَذَّبُوهُما في الرسالة. فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قوّينا وأيدنا بثالث، وقرئ: فعززنا بالتخفيف: أي غلبنا وقهرنا.
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها.
وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مما تدّعونه أنتم، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء ما تدّعون من ذلك. رَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم، وقد أكدوا الجواب بالقسم وباللام، ردا على زيادة إنكارهم.
الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الواضح للرسالة بالأدلة الواضحة وهي معجزات عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الميت، وليس علينا غير ذلك. تَطَيَّرْنا تشاءمنا بكم، وذلك لاستغرابهم ما ادّعوه، واستقباحهم له ونفورهم عنه. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، واللام لام القسم. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة. عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، شديد.
طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والتكذيب، فهو سبب الشؤم لا نحن.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: أإن وعظناكم وخوفناكم وذكرناكم بالله، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، والمراد بالاستفهام: التوبيخ. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحد في الشرك ومخالفة الحق.
(22/300)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب بن موسى النجار، كان قد آمن بالرسل أصحاب عيسى، ومنزله بأقصى البلد أي أبعد مواضعها، قال قتادة: «كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى» أي يشتد عدوا لما سمع بتكذيب القوم للرسل. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي المعنى: أيّ مانع يمنعني من عبادة الذي خلقني، وكذلك أنتم، ما لكم لا تعبدون الله الذي خلقكم؟! وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت، فيجازيكم بكفركم.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام بمعنى النفي، أي لن أتخذ من غير الله الهة هي الأصنام، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني. لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي لا تفيدني شيئا من النفع، كائنا ما كان. وَلا يُنْقِذُونِ لا يخلصوني من الضر الذي أرادني الرحمن به. إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت من دونه آلهة. لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، وهذا تعريض بهم. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ آمنت بالذي خلقكم، فاسمعوا إيماني، فرجموه فمات. وهذا تصريح بعد التعريض تشددا في الحق.
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له عند موته: ادخل الجنة، تكريما له بدخولها بعد قتله، كما هي سنة الله في الشهداء. قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى أن يعلموا بحاله، ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته، فيؤمنوا مثل إيمانه.
المناسبة:
بعد بيان حال مشركي العرب الذين أصروا على الكفر، ضرب الحق تعالى لهم مثلا يشبه حالهم في الإفراط والغلو في الكفر وتكذيب الدعاة إلى الله، وهو حال أهل قرية أنطاكية شمال سورية على ساحل البحر المتوسط الذين كذبوا الرسل فدمرهم الله بصيحة واحدة، فإذا استمر المشركون على عنادهم واستكبارهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، وتكون قصتهم مع رسل الله، كقصة قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم معه.
التفسير والبيان:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي واضرب مثلا في الغلو والعناد والكفر يا محمد لقومك الذين كذبوك بأهل قرية أنطاكية، حين
(22/301)
أرسل الله إليهم ثلاثة رسل من أصحاب عيسى عليه السلام الحواريين فكذبوهم، كما كذبك قومك عنادا، وأصر الفريقان على التكذيب.
والقرية: أنطاكية في رأي جميع المفسرين، والمرسلون: أصحاب عيسى أرسلهم مقررين لشريعته، في رأي ابن عباس وكثير من المفسرين.
ثم بيّن عدد الرسل فقال:
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ، فَقالُوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي حين أرسلنا إليهم رسولين، أرسلهما عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى، فبادروا إلى تكذيبهما في الرسالة، فأيدناهما وقويناهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا عبادة الأصنام.
وكان الرسولان الأولان يوحنا وبولص، والرسول الثالث شمعون وقيل: إنه بولص.
فتمسكوا كغيرهم من الأمم بشبهة البشرية، كما حكى تعالى:
قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي قال أصحاب القرية للرسل الثلاثة: أنتم مثلنا بشر تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق، فمن أين لكم وجود مزية تختصون بها علينا، وتدّعون الرسالة؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل وأتباعهم، وما أنتم فيما تدّعون الرسالة إلا كاذبون.
وقولهم: ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ دليل على اعترافهم بوجود الله، لكنهم ينكرون الرسالة، ويعبدون الأصنام وسائل إلى الله تعالى.
وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله:
(22/302)
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن 64/ 6] أي تعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله تعالى: قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [إبراهيم 14/ 10] .
فأجابهم الرسل:
قالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين:
الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزّنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار؟ كقوله تعالى:
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت 29/ 52] .
ثم ذكر الرسل مهمتهم:
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح، فإذا استجبتم كانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم.
فعند ذلك هددهم أهل القرية:
قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي قال لهم أهل القرية: إنا تشاءمنا بكم، ولم نر خيرا في عيشنا على وجوهكم، فقد فرقتمونا وأوقعتم الخلاف فيما بيننا، ولئن لم تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، لنرجمنكم بالحجارة، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم أو عقوبة شديدة. وقوله: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بيان للرجم، يعني: ولا يكون الرجم رجما قليلا بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهو عذاب أليم. ويرى
(22/303)
بعضهم أن الواو بمعنى (أو) والمراد: إما أن نقتلكم أو نسجنكم ونعذبكم في السجون.
فأجابهم الرسل:
قالُوا: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي قالت لهم رسلهم: شؤمكم مردود عليكم، وهو معكم ومنكم، فسبب الشؤم هو تكذيبكم وكفركم، لا نحن، أمن أجل تذكيركم وأمرنا إياكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، وتوعدتمونا وهددتمونا؟ بل الحق أنكم قوم جاوزتم الحد في مخالفة الحق، وأسرفتم في الضلال، وتماديتم في الغي والعناد.
وهذا الموقف مشابه لموقف قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف 7/ 131] ومماثل لموقف قوم صالح: قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النمل 27/ 47] .
ثم أيدهم الله بنصير:
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، قالَ: يا قَوْمِ، اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي وجاء رجل من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار، فقال ناصحا قومه:
يا قوم، اتبعوا رسل الله الذين أتوكم لإنقاذكم من الضلال، وهم مخلصون لكم في دعوتهم، فلا يطلبون أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، وهم على منهج الحق والهداية فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له.
وأبان أنه يحب لهم ما يحب لنفسه:
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أي وما يمنعني من
(22/304)
إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع والمآل يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفي هذا ترغيب بعبادة الله وترهيب من عقابه، ثم أكد سلامة منهجه وتقريعهم على عبادة الأصنام، فقال تعالى:
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً، وَلا يُنْقِذُونِ؟ هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، يراد به: لن أتخذ من دون الله آلهة، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني وخلقني، فإنه إن أرادني الرحمن بسوء لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تخلصني من ورطة السوء، فإنها لا تملك من الأمر شيئا إذ إنها لا تملك دفع الضرر ولا منعه، ولا جلب النفع، ولا تنقذ أحدا مما هو فيه.
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وجهل فاضح، وانحراف عن الحق.
وهذا تعريض بهم، ثم صرح بإيمانه تصريحا لا شك فيه مخاطبا الرسل:
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي إني صدقت بربكم الذي أرسلكم، فاشهدوا لي بذلك عنده.
روي عن ابن عباس وكعب ووهب رضي الله عنهم: أنه لما قال ذلك، وثبوا عليه وثبة رجل واحد، فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة:
جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى مات رحمه الله.
وكان من حبّه لهدايتهم:
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي،
(22/305)
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
أي قال الله تكريما له بعد قتله: ادخل الجنة، لاستشهادك في سبيل إعلان الحق، فدخلها وهو يرزق فيها، فلما عاين نعيمها قال: يا ليت قومي يعلمون بمآلي وحسن حالي وحميد عاقبتي، فيؤمنوا مثل إيماني، فيصيروا إلى مثل ما أنا فيه من نعيم، وليتهم يعلمون بما أنعم الله عليّ من مغفرة لذنوبي، وبما جعلني في زمرة المكرمين المقربين الشهداء الذين منحهم ربهم الثواب الجزيل والفضل العميم. وهذا شأن المؤمن المخلص يحب الخير للناس جميعا، قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشّا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- لم يترك الله سبحانه في قرآنه سبيلا لدعوة الناس إلى الإيمان الصحيح، سواء بالأدلة والبراهين، أو بإعمال الفكر والعقل، أو بالتأمل والمشاهدة، أو بضرب الأمثال، أو بذكر القصص للعظة والعبرة.
والمراد من بيان قصة أصحاب القرية: توضيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإنذار المشركين من قومه، حتى لا يحل بهم ما حلّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل.
2- يكون الرسول عادة من جنس المرسل إليهم، حتى لا يبادروا إلى الإعراض بحجة المغايرة والمخالفة، فتكون شبهة الكافرين ببشرية الرسل في غير محلها، وإنما الباعث عليها الاعتزاز بالنفس والاستعلاء والاستكبار فيما يبدو.
3- يؤكد الرسل عادة صدقهم بالمعجزات، وأما رسل عيسى فقد ذكروا للقوم معجزاته، وأقسموا بالله أنهم رسل الله الذين بعثهم عيسى بأمر ربه، وإن كذبوهم، لم يجدوا سبيلا إلا التصريح بمهمتهم بالتحديد، وهي إبلاغ الرسالة، والاعلام الواضح في أن الله واحد لا شريك له.
(22/306)
4- لا يجد المرسل إليهم في العادة ذريعة بعد دحض حجتهم إلا ادّعاء التشاؤم بالرسل. قال مقاتل في أصحاب القرية: حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فقالوا: هذا بشؤمكم. ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين.
5- ثم إذا ضاق الأمر بهم يلجأون عادة إلى التهديد والوعيد إما بالطرد والإبعاد من البلد، وإما بالقتل أو الرجم بالحجارة. قال الفراء في قوله:
لَنَرْجُمَنَّكُمْ: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. وقيل: لنشتمنكم.
وأما قوله تعالى: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فهو إما القتل أي الرجم بالحجارة المتقدم، وإما التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب.
6- إن الشؤم الحقيقي من أهل القرية وهو الشرك والكفر وتكذيب الرسل، وليس هو من شؤم المرسلين، ولا بسبب تذكيرهم ووعظهم، وإنما بسبب إسرافهم في الكفر، وتجاوزهم الحدّ، والمشرك يجاوز الحدّ.
7- لا يعدم الحق في كل زمان أنصارا له، وإن كانوا قلة، وكان أهل الباطل كثرة، فقد قيض الله مؤمنا من أهل القرية جاء يعدو مسرعا لما سمع بخبر الرسل، وناقش قومه، ورغبهم وأرهبهم، ودعاهم إلى توحيد الله واتباع الرسل، وترك عبادة الأصنام، فإن الرسل على حق وهدى، لا يطلبون مالا على تبليغ الرسالة، وهذا دليل إخلاصهم وعدم اتهامهم بمأرب دنيوي، والخالق هو الأحق بالعبادة، وهو الذي إليه المرجع والمآب، فيحاسب الخلائق على ما قدموا من خير أو شر.
أما الأصنام فلا تجلب نفعا ولا تدفع ضررا، ولا تنقذ أحدا مما ألمّ به من البلاء، فمن عبدها بعدئذ فهو في خسران ظاهر.
(22/307)
8- ثم صرح مؤمن القرية مخاطبا الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم، فليشهدوا له بالإيمان.
9- لقد كان جزاؤه المرتقب من القوم بسبب تصلبه في الدين، وتشدده في إظهار الحق: القتل أو الموت الزؤام. وأما جزاؤه من الله فهو التكريم في جنان الخلد.
10- بالرغم من هذا الإيذاء والتعذيب أحبّ هذا المؤمن، كشأن كل مؤمن، أن يبادر قومه إلى الإيمان بمثل ما آمن به، ليحظوا بما حظي به من النعيم والنجاة. قال ابن عباس: نصح قومه حيّا وميتا.
وقال ابن أبي ليلى: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصدّيقون. وقد ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
11- قال القرطبي: وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 20
(22/308)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
[الجزء الثالث والعشرون]
[تتمة سورة يس]
تتمة قصة أصحاب القرية- تعذيب مكذبي الرسل-
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
الإعراب:
وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما: إما زائدة وإما اسم معطوف على جُنْدٍ.
يا حَسْرَةً نداء مشابه للمضاف، مثل: يا خيرا من زيد، ويا سائرا إلى الشام، ونداء مثل هذه الأشياء التي لا تعقل: تنبيه للمخاطبين، كأنه يقول لهم: تحسّروا على هذا، وادعوا الحسرة، وقولوا لها: احضري فهذا وقتك.
كَمْ أَهْلَكْنا.. كَمْ: اسم للعدد في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ في موضع نصب على البدل من كَمْ. وكَمْ وما بعدها من الجملة في موضع نصب ب يَرَوْا. وأَنَّهُمْ مفعول مقدر، أي حكمنا أو قضينا أنهم لا يرجعون.
وَإِنْ كُلٌّ.. لَمَّا إِنْ مخففة من الثقيلة، ولما خففت بطل عملها لنقصها عن مشابهة الفعل، فارتفع ما بعدها بالابتداء. ولَمَّا جَمِيعٌ: خبره، وما: زائدة، وتقديره: لجميع، وأدخلت اللام في خبرها، لتفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما» . ومن قرأ لَمَّا جَمِيعٌ بالتشديد، فمعناه «إلا» و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كل إلا جميع، فيكون كُلٌّ مرفوعا بالابتداء، وجَمِيعٌ خبره. ومُحْضَرُونَ خبر ثان.
(23/5)
البلاغة:
في الآيات المتقدمة من مطلع السورة إلى هنا يوجد فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل، الذي يزيد في روعة البيان القرآني، ويؤثر في سمع التالي والمستمع.
المفردات اللغوية:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي لم ننزل على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له.
مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ الجند: العسكر، والمراد هنا الملائكة لإهلاكهم وللانتقام منهم. وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ملائكة لإهلاك أحد، لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند، وهذا للدلالة على أن إنزال الجنود من عظائم الأمور، وهو تحقير لشأنهم، وتصغير لأمرهم، فهم ليسوا أهلا لأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت عقوبتهم إلا أن صاح بهم جبريل، فأهلكهم. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ساكتون هامدون ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالرماد الخامد، فالخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا الموت.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة: الغم على ما فات، والندم عليه، والعباد: هؤلاء ونحوهم ممن كذب الرسل، فأهلكوا، ونداء الحسرة مجاز، أي هذا أوانك فاحضري. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا سبب الحسرة وهو الاستهزاء المؤدي إلى إهلاكهم.
أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أي أهل مكة القائلون للنبي: لست مرسلا، والاستفهام للتقرير، أي اعلموا. كَمْ خبرية بمعنى كثيرا، والمعنى: إنا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ كثيرا. مِنَ الْقُرُونِ الأمم: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم بعد هلاكهم، وضمير أَنَّهُمْ عائد للمهلكين، وضمير إِلَيْهِمْ عائد للمكذبين، أفلا يعتبرون بذلك؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ إِنْ: نافية بمعنى ما، ولَمَّا بمعنى إلّا، ويصح جعل «إن» مخففة من الثقيلة، ولما: بالتخفيف، واللام فارقة، وما: مزيدة. جَمِيعٌ مجموعون في الموقف بعد بعثهم. لَدَيْنا عندنا مُحْضَرُونَ للحساب.
المناسبة:
هذه الآيات تتمة قصة أصحاب القرية، أبان الله تعالى فيها حال المكذبين رسلهم، وأوضح سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي، ثم ما يتعرضون له من
(23/6)
العذاب الأخروي. وذكرت هنا في بدء الجزء، لأن عد الأجزاء مراعى فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي.
التفسير والبيان:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي لم ننزل على قوم المؤمن حبيب النجار من بعد قتلهم له، لدعوتهم إلى الإيمان بالله، جندا من الملائكة، وما كنا بحاجة إلى هذا الإنزال، بل كان الأمر أيسر علينا من ذلك، وقد سبق قضاؤنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند.
وهذا لتحقير شأنهم، فإن إنزال الملائكة لعظائم الأمور، وهؤلاء لا يحتاجون لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحده، كما قال تعالى:
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ما كان إهلاكهم إلا بصيحة واحدة صاح بهم جبريل، فأهلكهم، فإذا هم أموات لا حراك بهم.
وقوله: إِنْ كانَتْ أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، وقوله:
واحِدَةً تأكيد لكون الأمر هينا عند الله، وقوله: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ فيه إشارة إلى سرعة الهلاك.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا هؤلاء الذين كذبتم الرسل تحسروا حسرة أليمة، واندموا على ما فعلتم، بسبب أنه ما جاء رسول يدعو إلى التوحيد والحق والخير إلا استهزئ به وكذّب وجحد ما أرسل به من الحق. فقوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ أي هذا وقت الحسرة على مكذبي الرسل، وتنكير حَسْرَةً للتكثير. وسبب التحسر عليهم: أنهم لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية. ولا متحسر أصلا في الحقيقة، إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة، حيث ظهرت الندامة عند مواجهة العذاب ومعاينته. وقيل: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل.
(23/7)
ثم أنذر الله تعالى الأجيال الحاضرة والمستقبلة فقال:
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، خلافا لما يزعم الدّهرية الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.. [الجاثية 45/ 24] .
ثم أعلمهم أيضا بوجود الحساب والعقاب في الآخرة بعد عذاب الدنيا، فقال تعالى:
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلّها خيرها وشرها، وهذا كقوله عز وجل: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود 11/ 111] .
وهذا دليل على أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب، وحبس وعقاب، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة، كما قال القائل:
ولو أنّا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيّ
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن تكذيب الرسل ما جاؤوا به من الحق يستدعي مزيد الألم والندامة والحسرة.
2- لا رجعة لأحد إلى الدنيا بعد الموت أو الإهلاك.
3- إن يوم القيامة يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الدائم.
(23/8)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
أدلة القدرة الإلهية على البعث وغيره
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
الإعراب:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أَحْيَيْناها خبر للأرض، والجملة خبر لآية أو صفة لها.
(23/9)
وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما: إما اسم موصول في موضع جر بالعطف على ثَمَرِهِ.
وعَمِلَتْهُ: الصلة، والهاء: العائد، وإما أنها نافية في قراءة «عملت» بغير هاء، والوجه الأول أوجه، لاحتياج «عملت» لتقدير مفعول إذا كانت «ما» نافية. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الْقَمَرَ إما مرفوع بالابتداء، وقَدَّرْناهُ الخبر، وإما منصوب بتقدير فعل دل عليه.
قَدَّرْناهُ أي قدرنا القمر قدرناه. ومَنازِلَ أي قدرناه ذا منازل، فحذف المضاف، أو قدرنا له منازل، فحذف حرف الجر من المفعول الأول.
حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ.. الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير عادَ وهو العامل فيه وكَالْعُرْجُونِ: وزنه فعلول نحو زنبور وقرقور، وليس على وزن فعلون لأنه ليس في كلام العرب.
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع رفع فاعل: يَنْبَغِي.
وقرئ سابِقُ النَّهارِ بالجر بالإضافة، وسابق النهار، لأن التقدير: سابق النهار، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ آيَةٌ مبتدأ، وخبره إما لَهُمْ وإما أَنَّا حَمَلْنا.
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ صَرِيخَ: مبني مع لا على الفتح، ويجوز فيه الرفع مع التنوين، لتكرار «لا» مرة ثانية.
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا رَحْمَةً: منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي إلا برحمة، أو مفعول لأجله.
البلاغة:
وَآيَةٌ لَهُمُ التنكير للتعظيم، أي آية عظيمة دالة على قدرة الله على البعث وغيره.
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بين الموت والإحياء طباق.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ بين الليل والنهار طباق أيضا، وفي قوله نَسْلَخُ استعارة تصريحية، صرح فيها بلفظ المشبه به، حيث شبه إظهار ضوء النهار من ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، واستعار كلمة «السلخ» للإزالة والإخراج.
حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ تشبيه مرسل مجمل لأنه لم يذكر فيه وجه الشبه، وهو مشتمل على ثلاثة أوضاع: الدقة، والانحناء، والصفرة.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها.. قدم الفاعل على الفعل لتقوية النفي، وللدلالة على أن الشمس مسخرة بأمر الله، لا تسير في مدارها إلا بإرادة الله.
(23/10)
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فيه تنزيل غير العاقل منزلة العاقل، حيث عبر عن الشمس والقمر والنجوم بضمير جمع المذكر في قوله يَسْبَحُونَ بدل: يسبح، لأن السباحة من صفات العقلاء.
يَأْكُلُونَ والْعُيُونِ ويَعْلَمُونَ ومُظْلِمُونَ ويَسْبَحُونَ والْمَشْحُونِ ويَرْكَبُونَ سجع لطيف غير متكلف، وكذا في قوله الْعَلِيمِ والْقَدِيمِ.
المفردات اللغوية:
وَآيَةٌ لَهُمُ علامة دالة على البعث. الْمَيْتَةُ التي لا نبات فيها، وتقرأ بتخفيف الياء أو بالتشديد، والأول أشيع لسلسها على اللسان. أَحْيَيْناها بالماء فصارت حية بالنبات.
وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا المراد جنس الحب كالحنطة. فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدم الصلة (الجار والمجرور) على الفعل للدلالة على أن معظم ما يؤكل ويعاش به هو الحب. جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار مثمرة كالنخيل والأعناب. وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ فتّحنا وشققنا فيها شيئا من العيون.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثَمَرِهِ يقرأ بفتحتين وضمتين، أي ثمر المذكور من النخيل وغيره.
وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قيل: ما: نافية أي لم تعمل الأيدي الثمر بل العامل له هو الله، والأصح:
أنها اسم موصول عطف على الثمر، والمراد: ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما. أَفَلا يَشْكُرُونَ أنعم الله تعالى عليهم وهو أمر بالشكر، من طريق إنكار تركه. سُبْحانَ تنزيها لله عما لا يليق به. الْأَزْواجَ كُلَّها الأنواع والأصناف المختلفة. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات والشجر. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أي وخلق الأزواج من أنفسهم، وهم الذكور والإناث من بني آدم.
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصناف المخلوقات العجيبة في البرّ والبحر، والسماء والأرض، مما لم يطلعهم الله عليه، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ أي وعلامة دالة لهم على القدرة العظيمة وتوحيد الله ووجوب ألوهيته.
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نفصل منه النهار ونزيله عنه، والسلخ: إذهاب الضوء، ومجيء الظلمة.
فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها آية مستقلة أخرى، تطلع وتسير لحد معين ينتهي إليه جريانها ودورها. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ذلك الجري تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، الْعَلِيمِ المحيط علمه بكل معلوم.
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي جعلنا له منازل، والمنازل: جمع منزل، والمراد به المسافات التي يقطعها القمر في يوم وليلة، وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها، فإذا صار في آخرها وهو حينئذ دقيق قوس، عاد إلى أولها. ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما،
(23/11)
وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما. والمنازل معروفة: وهي الشّرطان، البطين، الثّريّا، الدّبران، الهقعة، الهنعة، الذّراع المبسوطة، النّثرة، الطّرف، الجبهة، الزّبرة، الصّرفة، العوّاء، السّماك الأعزل، الغفر، الزّبانى، الإكليل، القلب، الشّولة، النّعائم، البلدّة، سعد الذّابح، سعد بلع، سعد السّعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخّر، الرّشاء وهو بطن الحوت.
حَتَّى عادَ في آخر منازله في رأي العين. كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ كالشمراخ المعوج، لأنه إذا عتق يرق ويتقوس ويصفر. والْقَدِيمِ العتيق.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها لا يصح لها ويسهل. أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره، فتجتمع معه في الليل، لأن لكل واحد منهما مدارا منفردا، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، وإن كانت في نظر العين تسبق الشمس القمر في كل شهر مرة.
والخلاصة: أن حرف النفي لَا للدلالة على أنها مسخرة، لا يتيسر لها إلا ما أريد بها.
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي لا يأتي قبل انقضائه، ولا يسبقه، ولكن يأتي عقبه، ويجيء كل واحد منهما في وقته، ولا يسبق صاحبه. وَكُلٌّ التنوين عوض عن المضاف إليه، أي وكل من الشمس والقمر وبقية الكواكب والنجوم. فِي فَلَكٍ هو المدار الذي يدور فيه الكوكب، سمي به لاستدارته كفلكة المغزل. يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بسهولة، وقد نزّلوا منزلة العقلاء.
وَآيَةٌ لَهُمُ علامة دالة على قدرتنا. أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ وقرئ: ذرياتهم أي أولادهم ومن يهمهم حمله الذين يبعثونهم للتجارة، وأصل الذرية: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، وتطلق على الواحد والجمع، وقيل: المراد آباؤهم الأقدمون الذين في أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما امتن الله عليهم بذكر الذرية دونهم، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أصولهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ السفينة المملوءة، قيل: إنها سفينة نوح عليه السلام.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي أوجدنا بتعليمهم صناعة السفن الصغار والكبار والزوارق، مثل سفينة نوح عليه السلام، وقيل: المراد الإبل، فإنها سفائن البر. ما يَرْكَبُونَ فيه، ولعل ذلك إشارة إلى المركبات والقطارات والطائرات المستحدثة. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إن نرد أغرقناهم مع إيجاد السفن. فَلا صَرِيخَ لَهُمْ لا مغيث. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي لا أحد ينقذهم وينجيهم إلا بإنقاذنا لرحمة وتمتيع إياهم بلذاتهم إلى انقضاء آجالهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما يدل على الحشر بإحضار جميع الأمم إليه يوم القيامة
(23/12)
للحساب والجزاء، ذكر ما يدل على إمكان البعث بإنبات النبات من الأرض الجدباء بالمطر، وإيجاد البساتين وتفجير الأنهار، لتوفير سبل المعاش بها، مما يستدعي شكرهم على تلك النعم.
وبعد بيان أحوال الأرض التي هي المكان الكلي، ذكر أربع آيات دالة على قدرته العظيمة من أحوال الأزمنة، وهي تعاقب الليل والنهار، ودوران الشمس، ومسير القمر في منازله، وتخصيص مدار مستقل لكل من الشمس والقمر.
ثم أردف ذلك بدليل آخر دال على القدرة المقترنة بالرحمة وهو تنقل الأولاد والأجيال في السفن العابرة مياه البحار.
التفسير والبيان:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي ومن العلامات الدالة على وجود الله وقدرته على البعث وإحياء الموتى: إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزال الماء عليها، وجعلها تموج وتهتز بالنبات المختلف الألوان والأشكال، وإخراج الحب الذي هو رزق للعباد ولأنعامهم، وهو معظم ما يؤكل، وأكثر ما تقوم به الحياة والمعاش. وكما نحيي الأرض الميتة نحيي الموتى.
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي وأوجدنا في الأرض التي أحييناها بساتين مشجرة من نخيل وأعناب وغيرها، وجعلنا فيها أنهارا موزعة في أماكن مختلفة، يحتاجون إليها. وخصص النخيل والأعناب بالذكر من بين سائر الفواكه، لأن ألذ المطعوم الحلاوة، وهي فيها أتم، ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة خلافا لغيرهما، ولأنهما أعم نفعا.
(23/13)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، أَفَلا يَشْكُرُونَ أي إن القصد من إنشاء الحب والجنات أن يأكل المخلوقون من ثمر المذكور من النخيل والأعناب، ويأكلوا مما صنعته أيديهم من تلك الغراس والزروع أو الحبوب والثمار، كالعصير والدبس ونحوهما، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بقدرتهم وقوتهم، فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟! وهذا أمر بالشكر من طريق إنكار تركه.
وقوله مِنْ ثَمَرِهِ عائد إلى ما ذكر قبل ذلك، وقال الرازي: المشهور أنه عائد إلى الله. وقوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ يشمل في رأي الرازي الزراعة والتجارة.
ولما أمرهم تعالى بالشكر، وشكر الله بالعبادة، نبّه إلى أنهم لم يقتنعوا بالترك، بل عبدوا غيره، وأتوا بالشرك، فقال:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي تنزيها عن الشريك لله الذي خلق الأنواع والأصناف كلها من مختلف الألوان والطعوم والأشكال، من الزروع والثمار والنبات، وخلق من النفوس الذكور والإناث، وخلق مخلوقات شتى لا يعرفونها، كما قال تعالى:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 8] وقال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات 51/ 49] .
والخلاصة: أن خالق هذا الخلق العظيم من إنسان وحيوان ونبات وخالق أشياء لا نعلمها منزه عن الشريك والنظير، قادر على كل شيء، وفي الآية الأمر بالتنزيه عما لا يليق بالله تعالى، كالأمر بالشكر في الآية المتقدمة.
وبعد الاستدلال على إمكان البعث والحشر بأحوال الأرض المكانية، ذكر تعالى أدلة أربعة من أحوال الأزمنة، فقال:
(23/14)
1- وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي ومن أدلة قدرته تعالى العظيمة: خلق الليل والنهار، وتعاقب الليل والنهار دائبين، فينزع النهار من الليل فيأتي بالضوء وتذهب الظلمة، وينزع الليل من النهار، فيصبح الخلق في ظلمة ويذهب الضوء، وهكذا يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف 7/ 54] نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، فتشرق الشمس على نصف الكرة الأرضية، وتغيب عن النصف الآخر، وفي كل من الظلمة والنور نفع وخير، ففي الظلام ترك العمل وسكون النفس والراحة من العناء، وفي النور متعة ولذة وحركة وعمل من أجل كسب الرزق.
وقوله فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في الظلام، وإذا للمفاجاة، أي فهم داخلون في الظلمة مفاجأة وبغتة، لا يد لهم بعدئذ، ولا بد من الدخول فيه.
2- وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي وآية مستقلة دالة على قدرته تعالى: دوران الشمس في فلكها إلى نهاية مدارها، وذلك الدوران تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء، المحيط علمه بكل شيء. وهناك قولان للمفسرين في تفسير المستقر: الأول- أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي وجميع المخلوقات تحت العرش. والثاني- أن المراد مستقرها الزماني وهو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة «1» .
وقد أثبت علماء الفلك أنه زيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم بسبب دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة، للشمس حركتان أخريان:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 571 وما بعدها.
(23/15)
دورة حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا، ودورة مع توابعها من الكواكب السيارة حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدر بنحو مائتي ميل في الثانية. والمستقر في رأي العلماء في الحالة الأولى: هو المحور الثابت، وفي الثانية: هو مركز النظام النجومي بأسره.
3- وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي جعل الله للقمر منازل يسير فيها سيرا آخر، وهي ثمانية وعشرون منزلا ذكرناها، ينزل كل ليلة في واحد منها بمعدل 13 درجة في اليوم، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما، فإذا صار القمر في آخرها دق وصغر واصفر وتقوس، وعاد إلى أولها، حتى صار كالعرجون القديم:
وهو الغصن الذي عليه طلع النخلة، وهو أصفر عريض يعوجّ، ويقطع منه الشماريخ، يبقى على النخل يابسا.
ويستدل بمنازل القمر على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة 2/ 189] وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء 17/ 12] . والشمس تطلع كل يوم، وتغرب في آخره، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار، ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار. وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية، ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء مقتبسا من الشمس، حتى يتكامل في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم- عرجون النخل.
(23/16)
وعلماء الفلك قسموا النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر. وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء (أي الأمطار) ، ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة ومنها الشمس.
4- لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي لا يصح ولا يسهل لكل من الشمس والقمر أن يدرك أحدهما الآخر، لأن لكل منهما مدارا مستقلا، لا يجتمع مع الآخر فيه، ولأن الشمس تسير مقدار درجة في اليوم، والقمر يسير مقدار (13) درجة في اليوم.
ولا تسبق آية الليل وهي القمر آية النهار وهي الشمس، لأن لكل منهما مجالا وسلطانا، فسلطان الشمس ومجالها بالنهار، وسلطان القمر بالليل.
وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء، كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار لها نصف قطره (93) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل شهر في مدار نصف قطره (24) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة.
وهذا دليل على أن الله جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
وبعد بيان الدليل المكاني وهو الأرض والأدلة الزمنية الأربعة المتقدمة، أتى تعالى بدليل آخر على قدرته، وهو تسيير الإنسان في البحر كما يسير في البر، كما قال تعالى: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء 17/ 70] وقال هنا:
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي ومن دلائل قدرته ورحمته تبارك وتعالى: تسخيره البحر ليحمل السفن، وركوب الذرية، أي الأولاد في السفن المملوءة بالبضائع التي ينقلونها من بلد إلى آخر، لتوفير القوت
(23/17)
والمعاش، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان 31/ 31] .
وقيل: الذرية: آباؤهم الذين حملوا في سفينة نوح عليه السلام، وهي السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات التي أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، حفاظا على أصول المخلوقات. والمعنى: أن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ أي وخلقنا للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبون عليها، لكن قال الرازي: الضمير في مِثْلِهِ عائد إلى الفلك، على قول الأكثرين، فيكون هذا كقوله تعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 58] وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم، وليس المراد الإبل.
ويؤيد هذا قوله تعالى هنا: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ. ولو كان المراد الإبل، لكان قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ فاصلا بين متصلين.
ويحتمل أن يعود الضمير إلى معلوم غير مذكور تقديره: من مثل ما ذكرنا من المخلوقات، مثل قوله تعالى هنا: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ «1» وعلى هذا، الآية تشمل كل وسائل النقل الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات. ونظير الآية قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 8] .
ودليل رحمته ولطفه تعالى حفظ الركاب في تلك الوسائط، فقال: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي وإن نرد إغراقهم في الماء مع حمولاتهم، فلا مغيث لهم يغيثهم مما هم فيه، أو ينجيهم من الغرق، ولا هم ينقذون مما أصابهم.
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 81، تفسير الألوسي: 23/ 27
(23/18)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ إِلَّا هنا: استثناء منقطع، تقديره: ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونحفظكم من الغرق، ونسلمكم إلى أجل مسمى، ونمتعكم بالحياة الدنيا إلى وقت معلوم عند الله عز وجل، وهو الموت.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- من الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته على البعث وإحياء الموتى وغير ذلك: إحياء الأرض الهامدة بالنبات الأخضر، وإخراج الحب منه، الذي هو قوام الحياة وأساس القوت والمعاش.
2- ومن الأدلة أيضا خلق بساتين في الأرض من نخيل وأعناب، وتفجير الينابيع في البساتين للأكل من ثمر ماء العيون، أو من ثمر المذكور وهو ثمر الجنات والنخيل، ومن الذي عملته أيدي الناس من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما اتخذوا من الحبوب كالخبر وأنواع الحلويات.
وخصص النخيل والأعناب بالذكر، لأنهما أعلى الثمار، كما تقدم.
3- تستوجب هذه النعم شكر الخالق المنعم المتفضل، وشكره بعبادته، والإذعان لسلطانه وإرادته.
4- يجب تنزيه الخالق عما لا يليق به، والبعد عن صنيع الكفار الذين عبدوا غير الله، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته.
5- إن آثار قدرة الله ومظاهرها في العالم كثيرة، منها خلق النباتات والثمار المختلفة والألوان والطعوم والأشكال والأحجام صغرا وكبرا. ومنها خلق الأولاد
(23/19)
والأزواج أي ذكورا وإناثا، ومنها خلق أصناف أخرى لا يعلمها البشر في البر والبحر والسماء والأرض.
وإذا كان الله قد انفرد بالخلق، فلا ينبغي أن يشرك به.
6- ومن العلامات الدالة أيضا على توحيد الله وقدرته ووجوب ألوهيته:
تعاقب الليل والنهار وما يتبعهما من ظلمة وضوء لتحقيق مصالح العباد، وضبط السنين والحساب، وجريان الشمس لمستقرّ لها هو محورها أو نهاية سيرها يوم القيامة، وتقدير القمر ذا منازل هي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، فإذا صار في آخرها، عاد إلى أوّلها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة، ثم يستتر، ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج، لكل برج منزلان وثلث.
ومنها جعل مدار مستقل وسلطان منفرد لكل من الشمس والقمر والأرض، فلا يدخل أحدها على الآخر، وإنما كل من الشمس والقمر والنجوم يجري في فلك خاص به.
7- ومن دلائل قدرة الله ورحمته: حمل ذرية القرون الماضية والحاضرة والمقبلة في السفن المملوءة بالسلع والأمتعة، وخلق وسائط أخرى للركوب مماثلة للسفن وهي الإبل سفائن البراري، ووسائل النقل الحديثة في البر والجو من سيارات وقطارات وطائرات ومناطيد (أو مطاود) ونحوها.
والله قادر على إغراق ركاب السفن في البحار، فيصبحون دون مغيث ولا مجير ولا منقذ مما ألم بهم، ولكن رحمته تعالى اقتضت إبقاءهم وإنقاذهم ليتمتعوا بمتاع الحياة الدنيوية إلى آجالهم المرسومة، وأعمارهم المحدودة، والتمتع إلى حين هو الموت.
(23/20)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
وقد عجّل الله عذاب الأمم السالفة، وأخّر عذاب أمة محمد ص، وإن كذبوه، إلى يوم القيامة، تكريما لهذا الرسول ص.
موقف الكفار من تقوى الله وآيات الله والشفقة على خلق الله
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
البلاغة:
قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بين الكفر والإيمان طباق.
أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ استفهام أريد به التهكم.
المفردات اللغوية:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للكفار اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ احذروا ما هو قدّامكم من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا، وما ستواجهون من عذاب الآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين لرحمة الله. وجواب إذا محذوف تقديره: أعرضوا، دل عليه الآية التي بعدها.
إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي ما تأتيهم من آية من آيات القرآن إلا أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إليها وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي قال فقراء الصحابة أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي تصدقوا على الفقراء من الأموال التي رزقكم الله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا استهزاء بهم، وتهكما بقولهم.
أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ في زعمكم ومعتقدكم، وقولكم: إن الرزاق هو الله، فكأنهم حاولوا إلزام المسلمين قائلين: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أنتم في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا إلا في ضلال واضح، حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله. ويجوز أن يكون هذا جوابا لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.
(23/21)
وهذا غلط منهم، ومكابرة ومجادلة بالباطل، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضا لحكمة يعلمها، وأمر الغني أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض عليه من الصدقة، ليعلم الطائع من العاصي علم بيان وانكشاف، وإقامة حجة وبرهان.
المناسبة:
بعد بيان الآيات الدالة يقينا وقطعا على وجود الله وتوحيده وقدرته التامة، أخبر الله تعالى أن الكفار مع هذا الدليل القاطع يعرضون عن آيات ربهم، ولا يعترفون بها، وشأن العاقل الاقتناع بها، ولكن هؤلاء لا يتقون الله، ولا يحذرون بأن يصيبهم مثل هلاك الأمم الغابرة، ولا يفكرون في آيات الله، وليس في قلوبهم رحمة أو شفقة على عباد الله، فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة، وليسوا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم الماضية، ولا بما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة، فيقول:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وإذا قيل لهؤلاء المعرضين عن آيات الله، المكذبين بها: احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب من قبلكم من الأمم، مما هو قدّامكم، من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا، وخافوا ما أنتم مقدمون عليه بعد الهلاك من عذاب الآخرة، إذا أصررتم على الكفر حتى الموت، لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك، ويحميكم من عذابه، ويغفر لكم.
وإذا قيل لهم ذلك أعرضوا عنه، وإذا قيل لهم: اتقوا لا يتقون.
وليس إعراضهم مقتصرا على ذلك، بل هم عن كل آية معرضون، كما قال تعالى:
(23/22)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي وما تجيء هؤلاء المشركين آية من آيات الله على التوحيد وصدق الرسل إلا شأنهم الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، وترك التأمل بها، وعدم الانتفاع بها، لتعطيل طاقة الفكر والنظر المرشد إلى الإيمان وتصديق الرسول ص.
وفضلا عن سوء الاعتقاد بالله ورسوله ص، تركوا الشفقة على خلق الله، كما قال تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟ أي وإذا طلب منهم الصدقة، وأمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج، أجابوا المؤمنين استهزاء بهم، وتهكما بقولهم: هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم: لو شاء الله لأغناهم، ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم.
وكان هذا الاحتجاج باطلا، لأن الله تعالى إذا ملّك عبدا مالا، ثم أوجب عليه فيه حقا، فكأنه انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم، ولكن كذبوا في الاحتجاج بذلك.
وقوله: مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ترغيب في الإنفاق، فإن الله رزقكم، فإذا أنفقتم فهو يخلف لكم الرزق ثانيا كما رزقكم أولا، وهو أيضا ذم على البخل الذي هو في غاية القبح، فإن أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير، وفي هذا ذم لهم على ترك الشفقة على خلق الله.
ومع هذا كله، عابوا الآمرين لهم بالإنفاق واتهموهم بالضلال، فقالوا تتمة لكلامهم:
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أنتم في أمركم لنا بالإنفاق إلا في خطأ واضح، وانحراف عن جادة الهدى والرشاد.
(23/23)
وقوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا.. يفيد الحصر. وهذا فهم خطأ من المشركين، لأن حكمة الله اقتضت تفاوت الناس في الرزق، فهو يقبض الرزق عمن يشاء، ويبسطه لمن يشاء، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] فقد أغنى قوما، وأفقر آخرين، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل 92/ 5- 10] .
وقال ابن جرير عن قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين، وردوا عليهم، فقال لهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال ابن كثير: وفي هذا نظر، والله أعلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمور ثلاثة هي:
أولا- إن المشركين قوم تمادوا في الغي والضلال والعناد والكبر، ولم يتأملوا في أحداث الماضي، ووقائع الزمان، وأحوال الأمم التي أهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم، ولم ينظروا في مستقبل الحياة الآخرة، فتراهم إذا قيل لهم: اتقوا الله، لا يتقون.
ثانيا- وهم أيضا شأنهم وديدنهم الإعراض عن آيات الله، والتكذيب لها، وعدم الانتفاع بها، لتركهم النظر المؤدي إلى الإيمان بالله وتصديق الرسول ص.
ثالثا- كما أنهم أخلّوا بتعظيم الخالق، حرموا العطف والشفقة على الإنسانية، وانعدمت عندهم عاطفة الرحمة بالمخلوقات، إذ قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، فبخلوا وتهكموا، وهو شأن البخلاء في كل عصر.
(23/24)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
إنكار الكفار يوم البعث وبيان أنه حق لا شك فيه
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
الإعراب:
يَخِصِّمُونَ الأصل: يختصمون بوزن «يفتعلون» فحذف حركة التاء، ولم ينقلها إلى الخاء، وأبدل من التاء صادا، وأدغم الصادين ببعضهما، وكسر الخاء لسكونها وسكون الصاد الأولى، لأن الأصل في التقاء الساكنين الكسر. وقرئ يَخِصِّمُونَ بفتح الياء والخاء، بنقل تتمة التاء إلى الخاء، وقرئ أيضا يَخِصِّمُونَ بكسر الياء والخاء، وقد كسر الياء اتباعا لكسرة الخاء، والكسر للاتباع كثير في كلامهم، مثل قسيّ وعصي وخفي. وقرئ «يخصمون» كيضربون، أي يخصم بعضهم بعضا.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل فَإِذا هُمْ إذا هنا ظرفية للمفاجاة.
يا وَيْلَنا إما منادى مضاف، فويل: هو المنادي، ونا: هو المضاف إليه، ونداء الويل كنداء الحسرة في قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ. وإما أن يكون المنادي محذوفا، ووَيْلَنا منصوب على المصدر، كأنهم قالوا: يا هؤلاء ويلا لنا، فلما أضيفت حذفت اللام الثانية.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ مبتدأ وخبر، وما مصدرية أو موصولة محذوفة العائد.
(23/25)
البلاغة:
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا استعارة، شبه حال موتهم بحال نومهم، أي من بعثنا من موتنا.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ فيه إيجاز بالحذف، أي تقول لهم الملائكة ذلك، أي وعدكم به الرحمن.
المفردات اللغوية:
مَتى هذَا الْوَعْدُ متى يتحقق ويجيء ما وعدتمونا به وهو وعد البعث ما يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي نفخة إسرافيل الأولى في الصور، وهي التي يموت بها أهل الأرض جميعا تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي تأخذهم الصيحة فجأة في غفلة عنها، وهم يتخاصمون في معاملاتهم ومتاجرهم وأكلهم وشربهم وغير ذلك.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أن يوصوا في شيء من أمورهم بما لهم وما عليهم وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيعون الرجوع من أسواقهم وأشغالهم إلى منازلهم، بل يموتون فيها وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخ فيه النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة فَإِذا هُمْ المقبورون مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يخرجون بسرعة، أو يسرعون.
قالُوا أي الكفار منهم يا وَيْلَنا يا هلاكنا، والويل: مصدر لا فعل له من لفظه وهو الهلاك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ من أخرجنا من موتنا، لأنهم بسبب ما رأوا من الهول، وما داهمهم من الفزع، ظنوا أنهم كانوا نياما هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أي هذا البعث الذي وعد به الرحمن وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي وصدق فيه الأنبياء المرسلون، والمعنى: رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم كانوا في الموت وبعثوا، وأقروا بصدق الرسل يوم لا ينفع التصديق أو الإقرار.
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت الفعلة إلا النفخة الأخيرة التي نفخها إسرافيل في الصور، فإذا هم مجموعون عندنا بسرعة بمجرد تلك الصيحة للحساب والجزاء والعقاب. قال البيضاوي: وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، واستغناؤهما عن الأسباب المألوفة في الدنيا. وتنكير صَيْحَةً للتكثير.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك، تصويرا للموعود، وتمكينا له في النفوس.
(23/26)
المناسبة:
بعد بيان إعراض الكفار عن التقوى، وامتناعهم من الإنفاق، أبان الله تعالى سبب ذلك وهو إنكارهم للبعث، واستعجالهم له، استهزاء به، ثم أوضح أنه حق لا مرية فيه، وأنه سيأتيهم الموت بغتة، وهم في غفلة عنه، وأن البعث أمر سهل على الله لا يحتاج إلا إلى نفخة واحدة في الصور.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ أي ويقول المشركون استعجالا للبعث استهزاء وسخرية وتهكما بالمؤمنين: متى يأتي هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به، وتهددونا به، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون؟! والخطاب للرسول ص والمؤمنين الذين دعوهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، فأجابهم الله تعالى:
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي ما ينتظرون للعذاب والقيامة إلا نفخة واحدة في الصور، هي نفخة الفزع التي يموت بها جميع أهل الأرض فجأة، وهم يختصمون فيما بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا أي وهم متشاغلون في شؤون الحياة من معاملة وحديث وطعام وشراب وغير ذلك، كما قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف 7/ 95] وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف 43/ 66] .
وقوله جل وعز: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى في الصور، كما قال عكرمة، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عمر قال: لينفخنّ في الصور،
(23/27)
والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، فيصعق به، وهي التي قال الله: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ، وَهُمْ يَخِصِّمُونَ.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، والرجل يليط «1» حوضه، فلا يسقي منه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (نعجته) ، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه (فمه) ، فلا يطعمها» .
ثم أبان تعالى سرعة حدوث الموت العام أو الصيحة، فقال:
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له من أملاك وما عليه من ديون، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم، ولا يتمكنون من الرجوع إلى منازلهم التي كانوا خارجين عنها.
ثم أخبر الله تعالى عن نفخة ثانية هي نفخة البعث والنشور من القبور، فقال:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور من القبور، فإذا جميع المخلوقين يخرجون من القبور، يسرعون المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج 70/ 43] .
ثم ذكر ما يطرأ عليهم بعد البعث من الأهوال والمخاوف فقال تعالى:
قالُوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي قال المبعوثون: يا هلاكنا من الذي بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ وهي قبورهم التي كانوا يعتقدون في دار
__________
(1) يليط حوضه، وفي رواية: «يلوط حوضه» أي يطينه.
(23/28)
الدنيا أنهم لا يبعثون منها، وظنوا لما شاهدوا من الأهوال وما استبد بهم من الفزع، أنهم كانوا نياما.
وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي هذا ما وعد به الله وصدق في الإخبار عنه الأنبياء المرسلون، فهم رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم بعثوا من الموت، وأقروا بصدق الرسل، يوم لا ينفع التصديق. فهذا الكلام من قول الكفار، وهو رأي عبد الرحمن بن زيد، واختاره الشوكاني وغيره.
واختار ابن جرير وابن كثير أن هذا جواب الملائكة أو جواب المؤمنين، كقوله تبارك وتعالى: وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات 37/ 20- 21] .
ثم أوضح الله تعالى سرعة البعث، فقال:
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، فإذا هم أحياء مجموعون لدينا بسرعة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] وقال عز وجل: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] .
وأردف بعدئذ ما يكون في ذلك من القضاء العادل، فقال تعالى:
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ، ولا توفون إلا ما عملتم من خير أو شر.
(23/29)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كان الرد الحاسم على استعجال الكفار قيام الساعة استهزاء أنها تأتي فجأة كلمح البصر أو هي أقرب، وتحدث بنفخة واحدة هي نفخة إسرافيل في وقت يختصم الناس في أمور دنياهم، فيموتون في مكانهم. وهذه نفخة الصّعق.
2- من آثار الموت المفاجئ بتلك النفخة أنهم لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم إذا كانوا خارجين منها، ولا يستطيعون الإيصاء إلى غيرهم بما لهم وما عليهم. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.
3- ثم تأتي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور من القبور، فهما نفختان، لا ثلاث، بدليل هذه الآية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ.
وروى المبارك بن فضالة عن الحسن البصري قال: قال رسول الله ص: «بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حيّ، والأخرى يحيي الله بها كلّ ميت» .
4- يتعجب أهل البعث ويذهلون ويفزعون مما يرون من شدائد الأهوال، فيتساءلون عمن أخرجهم من قبورهم، مفضلين عذاب القبر، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
5- النفخة الثانية أيضا وهي نفخة البعث والنشور سريعة جدا، فإذا حدثت تجمّع الناس جميعا وحضروا مسرعين إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر 54/ 8] .
6- الحساب حق وعدل، والجزاء قائم على العدل المطلق، فلا ينقص من
(23/30)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
ثواب العمل أي شيء مهما قل، ولا يجزى الناس إلا على وفق ما عملوا من خير أو شر.
جزاء المحسنين
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 58]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
الإعراب:
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أَصْحابَ: اسم إِنَّ، وخبرها: إما فِي شُغُلٍ وإما فاكِهُونَ. وفِي شُغُلٍ: متعلق ب فاكِهُونَ ويجوز أن يكونا خبرين. ولا يجوز جعل فَالْيَوْمَ خبرا، لأنه ظرف زمان، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث. وفَالْيَوْمَ منصوب على الظرف، وعامله فِي شُغُلٍ وتقديره: إن أصحاب الجنة كائنون في شغل اليوم.
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ هُمْ: مبتدأ، وَأَزْواجُهُمْ:
عطف عليه، ومُتَّكِؤُنَ: خبر المبتدأ، وفِي ظِلالٍ: متعلق ب مُتَّكِؤُنَ.
وعَلَى الْأَرائِكِ. صفة ل ظِلالٍ ويجوز جعل: فِي ظِلالٍ وعَلَى الْأَرائِكِ ومُتَّكِؤُنَ أخبارا متعددة لمبتدأ واحد.
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ فاكِهَةٌ: مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، وفِيها: معمول الخبر، وهو لَهُمْ ويجوز جعل كل من لَهُمْ وفِيها خبرين للمبتدأ الذي هو فاكِهَةٌ، ويجوز أيضا جعل لَهُمْ وصفا ل فاكِهَةٌ فلما تقدم صار في موضع نصب على الحال، ويجوز أيضا جعل فِيها صفة ل فاكِهَةٌ فلما تقدم عليها صار في موضع نصب على الحال.
وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي: مبتدأ وَلَهُمْ خبره، وصلته: يَدَّعُونَ، والعائد محذوف، وإما نكرة موصوفة، وصفتها يَدَّعُونَ وإما مصدرية، فتكون مع يَدَّعُونَ في تأويل المصدر. ويدعون أي يتمنون ويشتهون، وأصله (يدتعيون) بوزن يفتعلون فأبدل من التاء دالا، ونقلت حركة الياء إلى ما قبلها، فسكنت الياء، والواو بعدها ساكنة، فاجتمع ساكنان، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
(23/31)
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ سَلامٌ: بدل مما يدعون، مرفوع على البدل من ما أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا منى أهل الجنة. وقَوْلًا: مصدر مؤكد لقوله تعالى:
وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصب على الاختصاص. ويصح جعل سَلامٌ وصفا ل ما إذا جعلتها نكرة موصوفة، أي ولهم شيء يدعونه سلام، ويصح جعله خبرا ل ما.
المفردات اللغوية:
فِي شُغُلٍ الشغل: الشأن الذي يشغل الإنسان عما سواه، إما لمسرة أو لمساءة. والمراد به هنا: أنهم مشغولون بما هم فيه من اللذات، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يشتغلون بذلك عن الاهتمام بأمر أهل النار. وهو شغل متعة، لا شغل تعب، لأن الجنة لا نصب فيها. فاكِهُونَ متنعمون متلذذون. فِي ظِلالٍ جمع ظل، وهو ما لا تصيبه الشمس. الْأَرائِكِ جمع أريكة: وهو السرير المزيّن في قبة أو بيت، أو الفراش، فالأرائك:
الأسرّة التي في الحجال. يَدَّعُونَ أي يتمنون ويشتهون.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حدوث البعث لا شك فيه، وما يكون في يوم القيامة من الجزاء العادل، بيّن هنا ما أعده للمحسنين، ثم أعقبه في الآيات التالية بما أعده للمسيئين، ترغيبا في العمل الصالح، وترهيبا من سوء الأعمال.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال أهل الجنة فيقول:
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أي إن المؤمنين الصالحين إذا نزلوا في روضات الجنات يوم القيامة، كانوا في شغل عن غيرهم، بما يتمتعون به من اللذات، والنعيم المقيم، والفوز العظيم، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فهم في شغل عما فيه أهل النار من العذاب، وهم متنعمون متلذذون معجبون بالنعيم.
(23/32)
وليس التمتع وحدهم وإنما هم في أنس وسرور مع أزواجهم، فقال تعالى:
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ أي إنهم وحلائلهم في الجنة في ظلال الأشجار التي لا تصيبها الشمس، لأنه لا شمس فيها، وهم فيها متكئون على السرر المستورة بالخيام والحجال (المظلة الساترة) . والأرائك كما بينا: الأسرّة التي في الحجال. وهذه المتعة في الظلال، وعلى الأسرّة والفرش الوثيرة الناعمة هي حلم الإنسان وغاية ما يطمح إليه.
والمتعة ليست روحية وإنما هي مادية، فقال تعالى:
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ، وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي تقدم لهم الفواكه من جميع أنواعها، ولهم غير ذلك كل ما يتمنون ويشتهون، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذّ.
وقوله: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ولم يقل «يأكلون» إشارة إلى اختيارهم وملكهم وقدرتهم.
والنعمة الأسمى من كل ما يجدون: سلام الله عليهم، فقال تعالى:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي إن ما يتمنونه هو تحية الله لهم بالسلام أي الأمان من كل مكروه، يقول لهم: سلام عليكم يا أهل الجنة، كما قال تعالى:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ [الأحزاب 33/ 44] أو بوساطة الملائكة، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 23- 24] والمعنى أن الله يسلم عليهم بوساطة الملائكة، أو بغير وساطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم.
(23/33)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
1- إن أصحاب الجنة يتمتعون فيها متعة مادية وليست روحية فقط، فهم في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي في النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم.
2- يتمتع أهل الجنة بنعيمها هم وأزواجهم، تحت ستور تظللهم، وعلى الأرائك (أي السّرر في الحجال، كالناموسيات) متكئون.
3- لهم أنواع من الفاكهة لا تعد ولا تحصى، ولهم كل ما يتمنون ويشتهون، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
4- ولهم أكمل الأشياء وآخرها الذي لا شيء فوقه وهو السلام من الله الرب الرحيم، إما بوساطة الملائكة، أو بغير وساطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك أقصى ما يتمنونه.
جزاء المجرمين
[سورة يس (36) : الآيات 59 الى 68]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
(23/34)
الإعراب:
أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ألم أعهد إليكم بألا تعبدوا، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به.
البلاغة:
أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ.. وَأَنِ اعْبُدُونِي بينهما طباق السلب، أحدهما سلب والآخر إيجاب.
أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أَفَلا يَعْقِلُونَ استفهام إنكاري للتوبيخ.
فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ بين المضي والرجوع طباق.
المفردات اللغوية:
وَامْتازُوا تميزوا وانفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم، أي ويقال للمجرمين: اعتزلوا في الآخرة عن الصالحين. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أوصي وآمر على لسان رسلي، والعهد: الوصية، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة. أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ألا تطيعوه، والمراد: عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، مما زين به الشيطان وأمر به. عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة. وَأَنِ اعْبُدُونِي وحدوني وأطيعوني، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان، وبعبادتي. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي طريق معتدل قويم، وهو دين الإسلام.
جِبِلًّا خلقا وجمعا عظيما، جمع جبيل كقديم، وقرئ بضم الباء. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ عداوة الشيطان وإضلاله لكم. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا على ألسنة الرسل. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ادخلوها وقاسوا حرها بسبب كفركم بالله في الدنيا، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نمنعها من الكلام، والمراد أفواه الكفار. وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ وغيرها، بأن يخلق الله فيها القدرة على الكلام. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي يقترفون، فكل عضو ينطق بما صدر منه، قال البيضاوي: أي بظهور آثار المعاصي عليها، ودلالتها على أفعالها، أو بإنطاق الله تعالى إياها. لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي أعميناهم، والطمس: إزالة
(23/35)
الأثر بالمحو. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم ليمصوا فيه. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي فكيف يبصرون الطريق والحق حينئذ؟ أي لا يبصرون.
لَمَسَخْناهُمْ أي لو شئنا تغيير صورتهم إلى صورة أخرى قبيحة. عَلى مَكانَتِهِمْ أي مكانهم، بحيث يجمدون فيه، وقرئ: مكاناتهم جمع مكانة، بمعنى مكان، أي في منازلهم. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهابا. وَلا يَرْجِعُونَ أي ولا رجوعا، أي لم يقدروا على ذهاب ولا عودة.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ومن نطل عمره. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نغير خلقه ونقلبه فيه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة، فيصبح بعد قوته وشبابه ضعيفا هرما.
أَفَلا يَعْقِلُونَ؟ أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ والبعث، فيؤمنوا.
المناسبة:
بعد بيان حال المحسنين في الآخرة، أعقبه تعالى ببيان حال المجرمين في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يميزون عن المؤمنين، ويصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بسبب كفرهم واتباع وساوس الشيطان، وفي الدنيا لم يعاجلهم بالعقوبة رحمة منه، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم، أو يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير، وأعطاهم الفرصة الكافية من العمر في الدنيا ليتمكنوا من النظر والاهتداء، قبل أن يضعفوا ويعجزوا عن البحث والإدراك، وذلك تحذير واضح لهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال الكفار يوم القيامة بتمييزهم عن المؤمنين في موقفهم، فيقول:
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال للمجرمين الكافرين في الآخرة:
تميزوا في موقفكم عن المؤمنين، كما قال تعالى في آية أخرى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس 10/ 28] وقال سبحانه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم 30/ 14] يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم 30/ 43] أي يصيرون صدعين فرقتين.
(23/36)
أو المراد: يمتاز المجرمون بعضهم عن بعض، فاليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة، والماديون والملحدون فرقة، وهكذا.
ثم أبان الله تعالى سبب تمييزهم عن غيرهم، موبخا ومقرعا لهم على كفرهم، فقال:
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ألم أوصكم وآمركم وأتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم ألا تطيعوا الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتي ومخالفة أمري، فإن الشيطان ظاهر العداوة لكم، بدءا من أبيكم آدم عليه السلام.
وبعد النهي عن عبادة غير الله أمر تعالى بعبادته، فقال:
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي وأن وحّدوني وأطيعوني فيما أمرتكم به، ونهيتكم عنه، وهذا المأمور به والمنهي عنه هو الطريق المعتدل القويم، وهو دين الإسلام.
ثم أخبر الله تعالى عن مساعي الشيطان في إضلال السابقين، فقال:
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟ أي لقد أغوى الشيطان خلقا كثيرا، وزين لهم فعل السيئات، وصدهم عن طاعة الله وتوحيده، أفلم تعقلوا عداوة الشيطان لكم، وتبتعدوا عن مثل ضلالات السابقين، حتى لا تعذبوا مثلهم.
ثم بيّن الله تعالى مآل أهل الضلال قائلا لهم يوم القيامة تقريعا وتوبيخا:
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا وحذرتكم منها على ألسنة الرسل فكذبتموهم، وقد برزت لهم لإرهابهم.
(23/37)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ادخلوها وذوقوا حرها اليوم، بسبب كفركم بالله في الدنيا، وتكذيبكم بها، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان.
وفي هذا الكلام إشارة إلى شدة ندامتهم وحسرتهم من وجوه ثلاثة «1» :
1- قوله تعالى: اصْلَوْهَا وهو أمر تنكيل وإهانة، كقوله تعالى لفرعون: ذُقْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] .
2- قوله تعالى: الْيَوْمَ الذي يدل على أن العذاب حاضر، وأن لذاتهم قد مضت، وبقي العذاب اليوم.
3- قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الذي ينبئ عن الكفر بنعمة عظيمة، وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام، كما قال بعضهم:
أليس بكاف لذي نعمة ... حياء المسيء من المحسن
ثم أبان الله تعالى مدى مواجهتهم بالجرم الذي ارتكبوه دون أن يستطيعوا إنكاره، فقال:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي في هذا اليوم الرهيب، يختم الله على أفواه الكافرين والمنافقين ختما لا يقدرون معه على الكلام، ويستنطق جوارحهم بما عملت، فتنطق أيديهم وأرجلهم بما اقترفت، ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي، صارت شهودا عليهم.
وجعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، لأن أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي، كما قال تعالى: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس 36/ 35] وقال سبحانه:
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] أي ولا تلقوا بأنفسكم،
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 101 [.....]
(23/38)
والشاهد على العمل ينبغي أن يكون غيره، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود، لتعذر إضافة الأفعال إليها.
روى مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ص قال: «يقول العبد يوم القيامة: لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» .
ثم أوضح الله تعالى بعض مظاهر قدرته عليهم من إذهاب البصر والمسخ وسلب الحركة، فقال:
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ؟ أي ولو نريد لأذهبنا أعينهم وأعميناهم، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى، فلو بادروا إلى الطريق المألوفة لهم ليسلكونها، لم يستطيعوا، وكيف يبصرون الطريق وقد ذهبت أبصارهم؟
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا، وَلا يَرْجِعُونَ أي لو شئنا لبدّلنا خلقهم، وحولنا صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير، وهم في أمكنتهم ومواضعهم التي هم فيها يرتكبون السيئات، فلا يتمكنون من الذهاب والمضي أمامهم، ولا الرجوع وراءهم، بل يلزمون حالا واحدا، لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ثم حذرهم من تفويت فرصة الشباب والعمر، فقال تعالى:
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ، أَفَلا يَعْقِلُونَ؟ أي ومن نطل عمره، نرده إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط، أفلا يدركون ويتفكرون أنهم كلما تقدمت بهم السن، ضعفوا وعجزوا عن العمل؟ وأننا أعطيناهم الفرصة
(23/39)
الكافية من العمر للبحث والنظر والتفكير الصحيح، فإذا طالت أعمارهم بعدئذ أكثر من ذلك، فلن يفيدهم طول العمر شيئا. وفي هذا قطع لأعذارهم بأنه لم تتوافر لديهم الفرصة المواتية للبحث والنظر.
والآية مثل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم 30/ 54] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- إن سياسة العزل للمجرمين ستطبق في الآخرة بنحو تام وشامل، فيميز المجرمون عن المؤمنين، تحقيرا لهم، وإعدادا لسوقهم إلى نار جهنم، وذلك حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، فيقال لهم: اخرجوا من جملتهم.
وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
2- يعاتب الكفار سلفا في الدنيا قبل أن يعاقبوا في الآخرة، فيقال لهم من جهة الحق: ألم أوصكم وأبلّغكم على ألسنة الرسل ألا تطيعوا الشيطان في معصيتي، وأن توحدوني وتعبدوني، فإن عبادتي دين قويم.
3- يؤكد تعالى تحذيره من الشيطان قائلا: لقد أغوى الشيطان بوساوسه خلقا كثيرا، أفلا تعتبرون بالآخرين، وألا تعقلون عداوته، وتعلموا أن الواجب طاعة الله تعالى.
4- وتقول خزنة جهنم للكفار: هذه جهنم التي وعدتم، فكذبتم بها.
روي عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال: «إذا كان يوم القيامة، جمع الله الإنس
(23/40)
والجن والأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم أشرف عنق من النار على الخلائق، فأحاط بهم، ثم ينادي مناد: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فحينئذ تجثو الأمم على ركبها، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
[الحج 22/ 2] ، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى، وَما هُمْ بِسُكارى، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[الحج 22/ 2] » .
5- إن أعضاء الإنسان التي كانت أعوانا في حق نفسه، صارت عليه شهودا في حق ربّه. والسبب في التعبير بكلام الأيدي وشهادة الأرجل أن اليد مباشرة للعمل، فتحتاج إلى شهادة غيرها.
ومن وقائع الشهادة يوم القيامة أن المشركين قالوا كما حكى القرآن عنهم:
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] فيختم الله على أفواههم، حتى تنطق جوارحهم.
6- لو شاء الله لأعمى الكفار عن الهدى، فلا يبصرون طريقا إلى منازلهم ولا غيرها، ولكنه لم يفعل رحمة بهم، وليتمكنوا من النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له.
7- ولو شاء الله لبدل خلقة الكفار إلى ما هو أقبح منها جزاء على كفرهم، ولجعلهم حجرا أو جمادا أو بهيمة، كالقردة والخنازير، وحينئذ لا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم، كما أن الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، ولكنه تعالى أيضا لم يفعل، لرحمته الواسعة.
8- لا حاجة لإطالة أعمار الناس أكثر مما قدر تعالى لهم، لأنه كلما طال العمر ازداد الإنسان ضعفا. والمقصود بالآية وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ.. الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار، ولهذا قال تعالى في ختام الآية: أَفَلا يَعْقِلُونَ أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم، ثم
(23/41)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
صيرورتهم إلى سن الشيبة، ثم إلى الشيخوخة، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها، ولا انتقال عنها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة. ثم أفلا يعقلون أن من فعل هذا بهم قادر على بعثهم مرة أخرى؟!
إثبات وجود الله ووحدانيته وبيان خواص الرسالة
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 76]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
الإعراب:
فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقرئ: ركوبهم وركوبتهم، وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. حذف التاء من الأول، كقولهم: امرأة صبور وشكور، وكلاهما بمعنى مفعول.
البلاغة:
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ بين الجملتين ما يسمى بالمقابلة، قابل بين الإنذار والإعذار، وبين المؤمنين والكفار.
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً استعارة تمثيلية، شبه قيامه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرا بيديه، ويتقنه بذاته، واستعار لفظ العمل للخلق.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ بعد قوله: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ عام بعد خاص، لتعظيم النعمة.
(23/42)
أَفَلا يَشْكُرُونَ استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ.
يُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ بينهما طباق.
وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ تشبيه بليغ، أي كالجند في الخدمة والدفاع.
المفردات اللغوية:
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ رد لقول المشركين في مكة: إن محمدا شاعر، وما أتى به من القرآن شعر، أي ما علمناه الشعر، بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى، لأنه غير موزون ولا مقفّى، والشعر: كلام موزون مقفّى. فالضمير في عَلَّمْناهُ للنبي ص. وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ما يصح له الشعر، ولا يتأتى منه، ولا يسهل عليه لو طلبه. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما القرآن إلا عظة أو موعظة وإرشاد من الله. وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي وكتاب سماوي مظهر للأحكام والشرائع وغيرها، يتلى في أثناء العبادة.
لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول ص مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا ما يخاطب به فهما، أو حيّ القلب، مستنير البصيرة. وَيَحِقَّ الْقَوْلُ يجب العذاب ويثبت. عَلَى الْكافِرِينَ الذين يصيرون إلى الكفر، وهم كالميتين لا يعقلون ما يخاطبون به. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، والاستفهام للتقرير، والواو الداخلة على لَمْ للعطف. أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ للناس. مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا إحداثه وعملناه وأبدعناه بلا شريك ولا معين أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم، وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملكون، ضابطون قاهرون، يتصرفون بها كيف شاؤوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت منهم، ولم يقدروا على ضبطها. وَذَلَّلْناها لَهُمْ سخرناها لهم، وجعلناها منقادة لهم. فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم. وَمِنْها يَأْكُلُونَ ما يأكلون لحمه.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ كأصوافها وأوبارها وأشعارها. وَمَشارِبُ من لبنها، جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر. أَفَلا يَشْكُرُونَ المنعم بها عليهم فيؤمنوا، إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها لما حصّلوا هذه المنافع المهمة.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً من الأصنام ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولا فائدة منها. لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم في وقت الأزمات والشدائد.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي لا تستطيع آلهتهم مناصرتهم في شيء ما، وقد نزلوا منزلة العقلاء.
وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي وهم لآلهتهم من الأصنام جنود يذودون عنهم، ثم هم محضرون في النار معهم. فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فلا يهمّك قولهم في الله بالإلحاد والشرك، وفيك بالتكذيب، قائلين
(23/43)
لك: لست مرسلا. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ نعلم السر والجهر، فنجازيهم عليه، وهو تعليل النهي على الاستئناف.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أصلين من أصول الدين الثلاثة، وهما الوحدانية في قوله: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ والبعث أو الحشر في قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ.. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة في الآيتين الأوليين:
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ... الآية.
ثم إنه تعالى أعاد الكلام على الوحدانية وأقام الأدلة الدالة عليها في بقية هذه الآيات.
التفسير والبيان:
ينفي الحق تبارك وتعالى صفة الشعر عن القرآن، وخاصية الشاعرية عن الرسول ص، فيقول:
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ليس النبي شاعرا، وما يصح له الشعر، ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه، فليس هو في طبعه، ولا يحبه، وقد جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب، وإنما علمه الله قرآنا هو أسمى من الشعر، ونوع آخر غير الشعر.
والشعر: كلام عربي له وزن خاص، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية، ولا بد في القصيدة من وحدة القافية، أي الحرف الأخير من كل بيت. ويعتمد الشعر على الخيال الخصب، والتصوير الرائع، والعاطفة المشبوبة، ولا يتبع الشاعر فيه ما يمليه العقل والمنطق، ولا يتحرى الصدق والدقة في إرسال أوصاف المديح والهجاء والرثاء والغزل وغير ذلك، ويبالغ الشاعر في التصوير والوصف، وما همّه إلا انتزاع الإعجاب من السامعين بقوله، لذا وصف
(23/44)
تعالى الشعراء بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء 26/ 225- 226] وقال العرب: أعذب الشعر أكذبه قال أبو حيان: والشعر: إنما هو كلام موزون مقفّى، يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام وغير ذلك، مما يتورع المتدين عن إنشاده، فضلا عن إنشائه «1» .
أما القرآن الكريم فخبره صدق، وكلامه عظة واقعية، ومنهجه التشريع الذي يسعد البشر، وقصده الترغيب في فضائل الأعمال وغرر الخصال والأخلاق، والترهيب من الانحراف والرذيلة، وتقرير أحكام العبادة الصحيحة والمعاملة الرشيدة.
فالآية دلت على نفي كون القرآن شعرا في قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، ونفي كون النبي شاعرا في قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُ وإنما علّمه الله القرآن الذي يمتاز بخاصيّة معينة تختلف عن الشعر المعروف وعن النثر المألوف.
وهي رد قاطع على قول العرب أهل مكة: إن القرآن شعر أو سحر أو من عمل الكهان، وإن محمدا شاعر، قاصدين بذلك إبطال صفة الوحي به من عند الله، وتكذيب خاصيّة الرسالة.
وأما ما ورد على لسان الرسول ص من أقوال موزونة، فهو مجرد سليقة اتفاقية من غير تكلف ولا صنعة ولا قصد، مثل قوله يوم حنين وهو راكب البغلة البيضاء يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 345
(23/45)
وقوله ص حينما نكبت أصبعه في غار:
إن أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
بل إن الخليل بن أحمد الفراهيدي ما عدّ المشطور من الرجز شعرا.
ولكنه ص كان يتمثل أحيانا ببعض الأشعار لشعراء العرب، مثل تمثله ببيت طرفة بن العبد في معلّقته المشهورة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقد صح فيما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنه كان يقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزود بالأخبار
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا، فقال ص: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» .
وروى ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن: «أنه ص كان يتمثل بهذا البيت هكذا:
كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء
،
والرواية: كفى الشيب والإسلام للمرء.
ناهيا، فقال أبو بكر: أشهد إنك رسول الله، ما علمك الشعر، وما ينبغي لك» .
وثبت في الصحيح أنه ص تمثّل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ولكن تبعا لقول أصحابه الذين كانوا يرتجزون، وهم يحفرون ويقولون:
لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
(23/46)
وثبّت الأقدام إن لاقينا ... إن الأولى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع ص صوته بقوله: أبينا، ويمدّها.
وعدم تعليمه الشعر، لأن الله إنما علّمه القرآن العظيم الذى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 42] .
والقرآن ليس بشعر ولا تخيلات، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، وإنما هو دستور للحياة الإسلامية، ومواعظ وإرشادات، كما قال تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي ما القرآن إلا ذكر من الأذكار، وموعظة من المواعظ، وكتاب سماوي واضح ظاهر جلي لمن تأمله وتدبره، يتلى في المعابد، ويسترشد في كل شؤون الحياة.
لذا قال تعالى محدّدا مهمة القرآن ومهمة رسول الله ص:
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض، كقوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] ولكن إنما ينتفع بنذارته من هو حيّ القلب، مستنير البصيرة، ولكي تثبت به وتجب كلمة العذاب على الكافرين، الممتنعين من الإيمان به، وهذا في مقابلة صفة المؤمنين وهم أحياء القلوب، أما الكافرون فهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أشبه بالأموات في الحقيقة، لعدم تأثرهم بعظات القرآن، وانعدام يقظتهم لاتباع الحق والهدى.
والخلاصة: أن الآية دالة على أن القرآن رحمة للمؤمنين، وحجة على الكافرين.
ثم أعاد تعالى الكلام في الوحدانية وأتى ببعض أدلتها، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي أو لم
(23/47)
يشاهد هؤلاء المشركون بالله عبدة الأصنام وغيرهم أن الله خلق لهم هذه الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) التي سخرها لهم، وأوجدها من أجلهم من غير وساطة ولا شريك، وجعلهم مالكين لها، يقهرونها ويضبطونها ويتصرفون بها كيف شاؤوا، وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم، ولو شاء لجعلها مستعصية عليهم، مستوحشة نافرة منهم، فلا يستفيدون منها، فترى الولد الصغير يقود البعير الكبير، بل ولو كان القطار مائة بعير أو أكثر.
ثم أبان الله تعالى منافعها الملموسة، فقال:
وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي وجعلناها لهم مسخّرة مذللة منقادة لهم، لا تمتنع مما يريدون منها، حتى الذبح، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال، ومنها ما يأكلون من لحمها.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، وهي لهم مشارب أي يشربون من ألبانها، أفلا يشكرون خالق ذلك ومسخره وموجد هذه النعم لهم، بعبادته وطاعته، وترك الإشراك به غيره.
وهذا حثّ صريح على شكر الخالق المنعم بعبادته وطاعته، وهو أبسط ما يوجبه الوفاء، وتقدير المعروف والإحسان.
ولكن الكفار تنكروا لهذا الواجب، وكفروا بأنعم الله، واستمروا في ضلالهم وتركوا عبادة الله، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة، فقال تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي واتخذ هؤلاء المشركون
(23/48)
الأصنام ونحوها آلهة يعبدونها من دون الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.
ولكنها في الواقع لا تقدر على شيء، ولا تحقق فائدة لعبادها، لذا قال تعالى مبينا خيبة أملهم:
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأذل وأحقر، بل لا تقدر على نصرة أنفسها، ولا على الانتقام ممن أساء إليها، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل، لذا كان الثابت بطلان ما رجوه منها، وأمّلوه من نفعها.
والكفار المشركون جند طائعون للأصنام، يغضبون لها في الدنيا، وهي لا تستطيع نصرهم، ولا تقدم لهم خيرا، ولا تدفع عنهم شرا، إنما هي أصنام.
وقوله: مُحْضَرُونَ أي يخدمونهم، ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم، وليس للآلهة استطاعة على شيء، ولا قدرة على النصر. أو إنهم يوم القيامة محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلونهم وقودا للنار.
ثم سلّى الله رسوله عما يلقاه من أذى المشركين، فقال:
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أي فلا يهمنك تكذيبهم لك وكفرهم بالله، وأذاهم، وجفاؤهم، وقولهم: هؤلاء آلهتنا، وأنها شركاء لله في المعبودية، أو قولهم لرسول الله ص: أنت شاعر، أو ساحر، أو كاهن ونحو ذلك.
فإنا نحن نعلم جميع ما هم فيه، نعلم سرهم وجهرهم، ونعلم ما يسرون لك من العداوة، وإنا مجازوهم بذلك، ومعاقبوهم عليه.
(23/49)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- ليس القرآن شعرا، ولا محمّد ص شاعرا، فلا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا به، كسر وزنه، وإنما كان همّه فقط الإفادة من المعاني.
2- إن إصابة النبي ص الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وليس ذلك شعرا ولا في معناه، كقوله تعالى:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 3/ 92] وقوله: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف 61/ 13] وقوله: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ 34/ 13] وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] إلى غير ذلك من الآيات.
3- روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر، فقال: لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، وَما يَنْبَغِي لَهُ.
4- ما ينبغي ولا يصح للنبي ص أن يقول الشعر، وذلك من أعلام النبوة، ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول ص، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به إلى الشعر، ليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا.
5- إن الذي يتلوه النبي ص على الناس هو ذكر من الأذكار، وعظة من المواعظ، وقرآن بيّن واضح مشتمل على الآداب والأخلاق، والحكم والأحكام، والتشريع المحقق لسعادة البشر.
(23/50)
6- إن الغرض من إنزال القرآن إنذار من كان حيّ القلب، مستنير البصيرة، وإيجاب الحجة بالقرآن على الكفرة.
7- من أدلة وجود الله ووحدانيته: خلق الإنسان والحيوان والنبات، فإنه سبحانه خلق كل ذلك، وأبدعه، وعمله من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة.
ومن فضله ونعمته على الناس تذليل الأنعام لهم، وتسخيرها لمنافعهم في الركوب، وأكل اللحوم وشرب الحليب والألبان، وصنع الأسمان، حتى إن الصبي يقود الجمل العظيم ويضربه ويوجهه كيف شاء، وهو له طائع. وهذا كله وغيره يوجب شكر الخالق المنعم وهو الله على نعمه، بعبادته وطاعته وإخلاص ذلك له.
8- بالرغم من وجود الآيات الدالة على قدرة الله، اتخذ الكفار المشركون من دون الله آلهة، لا قدرة لها على فعل، طمعا في نصرتها وأملا في مساعدتها لهم إن نزل بهم عذاب.
والحقيقة أن تلك الآلهة المزعومة لا تستطيع نصر عابديها، ولا جلب الخير لهم، ولا دفع الشر والضر عنهم، ومع ذلك فإن الكفار جند طائعون لهذه الآلهة، يمنعون عنهم ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم في الدنيا، فهم لها بمنزلة الجند والحرس، وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين يوم القيامة، محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وفي الخبر:
إنه يمثّل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله، فيتبعونه إلى النار، فهم لهم جند محضرون. وهذا المعنى
ثبت في صحيح مسلم وكذا في جامع الترمذي عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطّلع عليهم رب العالمين، فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد،
(23/51)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون» .
9- سلا الله عز وجل نبيه ص، فقال له: لا يحزنك قولهم: شاعر، ساحر، روي أن القائل عقبة بن أبي معيط، فنفى الله ذلك عن رسوله.
10- إن الله تعالى عليم مطلع على ما يسرّ الكافرون ويظهرون من القول والعمل، فيجازيهم بذلك يوم القيامة.
إثبات البعث
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
الإعراب:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب، والواو للعطف على مقدر، أي ألم يتفكر الإنسان ويعلم.
البلاغة:
خَصِيمٌ مُبِينٌ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة.
(23/52)
أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ استعارة تمثيلية، شبه سرعة إنجازه الأشياء بأمر المطاع من غير امتناع ولا تأخير.
مَلَكُوتُ صيغة مبالغة من الملك، أي الملك الواسع التام كالجبروت والرحموت للمبالغة.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَرَ أو لم يعلم. الْإِنْسانُ أي إنسان، ويشمل من كان سبب النزول، وهو العاص بن وائل السهمي وأبي بن خلف. أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أنا خلقناه من أضعف الأشياء، والنطفة: الذرة من مادة الحياة وهي المني. فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الخصيم: الشديد الخصومة لنا، المبالغ في الجدل إلى أقصى الغاية، والمبين: البيّن في نفي البعث.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي أورد في شأننا قصة غريبة هي في غرابتها كالمثل، إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة، ونفى القدرة على إحياء الموتى، مقارنا ذلك بما عجز عنه، وقائسا قدرة الله على قدرة العبد. وَنَسِيَ خَلْقَهُ نسي خلقنا إياه، من المني، وهو أغرب من مثله. قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ الرميم: البالية أي ما بلي من العظام، ولم يقل: رميمة لأنه اسم لا صفة،
روي أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف أو أبي بن خلف «1» أخذ عظما رميما، ففتته، وقال للنبي ص: أترى يحيي الله هذا بعد ما بلي ورمّ؟ فقال ص: «نعم، ويدخلك النار»
وفيه دليل على أن العظم ذو حياة، فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.
قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فإن قدرته كما كانت، لامتناع التغير فيه، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي وهو بكل مخلوق عليم جملة وتفصيلا، قبل خلقه وبعد خلقه، يعلم تفاصيل المخلوقات وأجزاء الأشخاص المتفتتة، ومواقعها وطريق تمييزها، وضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً أي أن الله يسرّ لكم الانتفاع بالحطب، تحرقونه للطبخ والدفء، وقد كان أخضر رطبا، أو أن هناك شجرا يسمى المرخ، وشجرا آخر يسمى العفار، إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر، انقدحت منهما النار، وهما أخضران، وفي أمثال العرب: «في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار» ، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
__________
(1) قال أبو حيان: أقوال أصحها أنه أبي بن خلف، رواه ابن وهب عن مالك (البحر المحيط 70/ 348) ثم أضاف قائلا: ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية بإجماع، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة.
(23/53)
تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر، بعد أن كان أخضر. وهذا دالّ على القدرة على البعث، فإنه تعالى جمع فيه بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب. وإبراز الشيء من ضدّه: وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر أبدع شيء، وهو دالّ على قدرة الله تعالى.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي إن من قدر على خلق السموات والأرض، وهما في غاية العظم، يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير ضعيف بَلى أي هو قادر على ذلك، وبلى كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي، وكان الجواب من الله للدلالة على أنه لا جواب سواه. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير الخلق الْعَلِيمُ الواسع العلم بكل شيء، فهو كثير المخلوقات والمعلومات.
إِنَّما أَمْرُهُ شأنه في الإيجاد. إِذا أَرادَ شَيْئاً خلق شيء. أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي فهو يكون، أي يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده من غير تأخر وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، قطعا للشبهة في قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ.. أي تنزيه عما ضربوا له من المثل، وتعجيب مما قالوا فيه، مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملك التام والقدرة، كالرحموت والرهبوت والجبروت، زيدت الواو والتاء للمبالغة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردون في الآخرة.
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ص بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟
قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ إلى آخر السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسّدّي نحوه، وسمّوا الإنسان أبي بن خلف. وهذا هو الأصح كما قال أبو حيان، لما رواه ابن وهب عن مالك.
وبناء عليه،
قال المفسّرون: إن أبي بن خلف الجمحي جاء إلى
(23/54)
رسول الله ص بعظم حائل، ففتته بين يديه، وقال: يا محمد، يبعث الله هذا بعد ما أرمّ؟ فقال: نعم، يبعث الله هذا، ويميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت هذه الآيات.
وعلى أي حال، يقول علماء أصول الفقه: إن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة 58/ 1] نزلت في امرأة واحدة، وأراد الكل في الحكم، فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر، فهذه الآية ردّ عليه، فتكون الآية عامة.
المناسبة:
بعد بيان الأدلة الدّالة على قدرة الله عزّ وجلّ، ووجوب طاعته وعبادته، وبطلان الشرك به، ذكر تعالى شبهة منكري البعث، وأجاب عنها بأجوبة ثلاثة: هي أن الإعادة مثل البدء بل أهون، وقدرة الله على إيجاد النار من الشجر الأخضر، وخلق ما هو أعظم من الإنسان، وهو خلق السموات والأرض، وفي النهاية: فورية تكوين الأشياء بقول: كُنْ فَيَكُونُ.
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ألم يعلم كل إنسان أننا بدأنا خلقه من نطفة (مني) من ماء مهين، هي أضعف الأشياء، ثم جعلناه بشرا سويّا، ثم تراه يفاجئنا بأنه ناطق مجادل بيّن جريء في جدله، فقوله خَصِيمٌ ناطق، ومُبِينٌ إشارة إلى قوة عقله.
والمراد: أو لم يستدلّ من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء ضعيف حقير، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ
(23/55)
مَعْلُومٍ
[المرسلات 77/ 20- 22] ، وقال سبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان 76/ 2] أي من نطفة من أخلاط متفرقة.
فشأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة، لا أن يطغى ويتجبر، وينكر البعث والإعادة.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ أي وذكر أمرا عجيبا كالمثل في الغرابة على استبعاد إعادة الله ذي القدرة العظيمة للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية، قائسا قدرة الله على قدرة العبد، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر.
فأجابه الله تعالى بقوله:
قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي قل أيها الرسول لهذا المشرك المنكر البعث: يحيي الله تلك العظام البالية الذي أبدع خلقها وأوجدها في المرة الأولى من غير شيء من العدم ولم يكن شيئا مذكورا، وهو لا تخفى عليه خافية من الأشياء، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة مشتتة في أنحاء الأرض، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان، ولو في أعماق الأرض أو البحر أو أجواف الإنسان أو الحيوان أو اختلط بالتراب والنبات. وقد قال العلماء: إن الذرّة لا تفنى، وتقرر نظرية (لافوازيه) المعروفة: أنه لا يوجد شيء من العدم، والموجود لا ينعدم.
ودليل ثان هو:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي وهو الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر يانع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، ومن قدر على ذلك، فهو قادر على
(23/56)
ما يريد، لا يمنعه شيء، فهذا التحوّل والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة، يدل على إمكان إعادة الرطوبة إلى ما كان يابسا باليا. والمشاهد أن شجر السّنط يوقد به النار وهو أخضر.
وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيأخذ عودين أخضرين منهما، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد تماما. ومثل ذلك احتكاك السّحب المولّد لشرارة البرق.
ودليل ثالث أعجب مما سبق:
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي إن من خلق السّموات السّبع بما فيها من الكواكب السّيارة والثّوابت، والأرضين السّبع بما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار، وهي أعظم من خلق الإنسان، إن من خلق ذلك قادر على خلق مثل البشر وإعادة الأجسام، وهي أصغر وأضعف من السّموات والأرض، بلى هو قادر على ذلك، وهو الكثير الخلق، الواسع العلم، فقوله الْخَلَّاقُ إشارة إلى كمال القدرة، وقوله الْعَلِيمُ إشارة إلى شمول العلم.
والخلاصة: أن خلق الأشياء العظيمة برهان قاطع على خلق ما دونها، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] ، وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] .
وتأكيدا للبيان ونتيجة لما سبق، قال تعالى:
(23/57)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي إنما شأنه سبحانه في إيجاد الأشياء وإرادتها أن يقول للشيء: كُنْ فإذا هو كائن فورا، من غير توقّف على شيء آخر أصلا.
ومقتضى ثبوت القدرة التامة لله تعالى: تنزيهه عما وصفوه به، فقال:
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تنزّه الله عما لا يليق به من السوء أو النقص، فهو الذي له ملكية الأشياء كلها، وله القدرة الكاملة على التّصرف فيها كما يريد، وبيده مفاتح كلّ شيء، وإليه لا إلى غيره مرجع العباد بعد البعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بما عمل، فليعبده الناس جميعا وليوحّدوه ويطيعوه، تحقيقا لمصلحتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- عجبا لأمر الإنسان، سواء العاص بن وائل السّهمي، أو أبيّ بن خلف الجمحي (وهو الأصح) أو أمية بن خلف أو غيرهم، كيف خلقه الله من يسير الماء، وأضعف الأشياء، ثم يصبح مخاصما ربّه، مجادلا في الخصومة، مبيّنا للحجة، أي أنه صار بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. قال أبو حيان:
قبّح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة، أفضى به مهانة أصله أن يخاصم الباري تعالى، ويقول: من يحيي الميت بعد ما رمّ مع علمه أنه منشأ من موات.
2- لقد نسي هذا الإنسان الضعيف المخلوق أن الله أنشأه من نطفة، ثم جعله إنسانا حيّا سويا، فهذا دليل حاضر من نفسه على إمكان البعث، وقد احتج الله عزّ وجلّ على منكري البعث بالنشأة الأولى، فكيف يقول الإنسان: من يحيي هذه العظام البالية؟!
(23/58)
والجواب: أنّ النّشأة الثانية مثل النّشأة الأولى، فمن قدر على النّشأة الأولى قدر على النّشأة الثانية، وأن الله عالم بكلّ الأشياء، سواء الأجسام العظام أو الذّرات الصغار.
3- في قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ دليل على أن في العظام حياة، وأنها تنجس بالموت، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي:
لا حياة فيها.
4- من أدلة وحدانيته تعالى وكمال قدرته على إحياء الموتى: ما يشاهده الناس من إخراج المحروق اليابس من العود الندي الطري، فإن الشجر الأخضر من الماء، والماء بارد رطب ضدّ النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فيدلّ ذلك على أنه تعالى هو القادر على إخراج الضدّ من الضدّ، وهو على كلّ شيء قدير.
5- إنّ الذي خلق السموات والأرض التي هي أعظم من خلق الناس قادر على أن يبعثهم مرة أخرى.
6- إذا أراد الله خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة، وإنما أمره نافذ فورا، ولا يتوقف على شيء آخر.
7- إن الله تعالى نزّه نفسه عن العجز والشرك، لتعليم الناس، وإبراز الحقيقة، فبيده مفاتح كلّ شيء، ومردّ الناس ومصيرهم بعد مماتهم إليه تعالى، ليحاسب كلّ امرئ على ما قدم في دنياه من خير أو شرّ.
(23/59)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصافات
مكيّة، وهي مائة واثنتان وثمانون آية.
تسميتها:
سميت سورة الصافات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالصّافات وهم الملائكة الأطهار الذين يصطفّون في السماء كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث:
1- وجود الشبه بين أول هذه السورة وآخر يس السورة المتقدمة في بيان قدرته تعالى الشاملة لكل شيء في السموات والأرض، ومنه المعاد وإحياء الموتى، لأن الله تعالى كما في يس هو المنشئ السريع الإنجاز للأشياء، ولأنه كما في مطلع هذه السورة واحد لا شريك له، لأن سرعة الإنجاز لا تتهيأ إلا إذا كان الخالق الموجد واحدا.
2- هذه السورة بعد يس كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال القرون الماضية، المشار إليهم وإلى إهلاكهم في سورة يس المتقدمة في قوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [31] .
(23/60)
3- توضح هذه السورة ما أجمل في السورة السابقة من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين في الدنيا والآخرة.
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كسائر السّور المكية في بيان أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والوحي والنبوة، وإثبات البعث والجزاء.
وقد تحدثت عن مغيبات ثلاثة: هي الملائكة، والجنّ، والبعث والجزاء في الآخرة، فابتدأت بالكلام عن الملائكة الصّافات قوائمها أو أجنحتها في السماء استعدادا لتنفيذ أمر الله، والزّاجرات السّحاب لتصريفه كيفما يشاء الله، والذين أقسم الله بهم للدلالة على التوحيد وخلق السموات والأرض، وتزيينها بالكواكب.
ثم أشارت إلى الجنّ ومطاردتهم بالشّهب الثاقبة المرصودة لهذا الغرض، للرّدّ على المشركين الجاهليين الذين زعموا وجود نسب وقرابة بين الله تعالى وبين الجنّ، وأبانت موقف المشركين من البعث وإنكاره وأحوالهم في الدنيا والآخرة، وردت عليهم ردّا قاطعا حاسما بأنهم محشورون في زجرة صيحة واحدة وهم داخرون أذلة صاغرون وأنهم لا يفتنون إلا ذوي العقول الضعيفة، وتوبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله، وتنزيه الله عن ذلك.
وأبانت هذه السورة أيضا سوء أحوال الكافرين في القيامة، وذكرتهم بالحوار الذي دار بينهم وبين المؤمنين في الدنيا، ثم حسمت الأمر ببيان مآل كل من الفريقين، حيث يخلد المؤمنون في الجنة التي وصف نعيمها، ويخلد الكافرون في النار التي وصف جحيمها، للعبرة والعظة وبيان العاقبة.
وناسب هذا الاستعراض التذكير الموجز بقصص بعض الأنبياء السابقين،
(23/61)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وموسى، وهارون، وإلياس، ولوط، ويونس عليهم السلام. ولكنها فصّلت قصة إبراهيم في موقفين حاسمين: أولهما- تحطيمه الأوثان. وثانيهما- إقدامه على ذبح ابنه، ليتجلى للناس جميعا مدى (الإيمان والابتلاء والتضحية) فإنه بادر لتنفيذ أمر ربّه، ممتحنا صبره، مجتازا بالإيمان والصدق محنة الابتلاء، مضحيّا في سبيل رضوان الله بابنه الذي رزقه، فأكرمه الله بالفداء الذي جعل سنّة في الأضحية.
كذلك فصلت السورة قصة يونس عليه السلام العجيبة، وإنقاذه من بطن الحوت، لتوبته وكونه من الذاكرين الله، المصلّين له.
وختمت السورة بالإشارة إلى ما بدئت به من وصف الملائكة بأنهم الصّافون المسبّحون، وبيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة، ومدح المرسلين وسلام الله عليهم، وتنزيه الله عن أوصاف المشركين، وثناؤه على نفسه وحمده لذاته بأنه رب العزة ورب العالمين.
فضل هذه السّورة:
أخرج النّسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله ص يأمرنا بالتّخفيف، ويؤمّنا بالصّافات» .
إعلان وحدانية الله
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
(23/62)
البلاغة:
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ التأكيد بإن واللام بسبب إنكار المخاطبين للوحدانية.
المفردات اللغوية:
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا أقسم الله بالملائكة التي تصف في السماء للعبادة كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا، انتظارا لتنفيذ أمر الله، ويكون ترتيبهم في الصفوف بحسب مراتبهم في التقدّم والفضيلة.
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً الملائكة التي تزجر السحاب أي تسوقه. وأصل الزّجر: الدّفع بقوة الصوت، يقال: زجرت الإبل والغنم: أي أفزعتها بالصوت والصياح، ثم استعمل في السوق والحثّ على الشيء.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الملائكة التي تتلو القرآن وتقرؤه. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ هذا جواب القسم بالملائكة على أن الله واحد لا شريك له، وهو خطاب للمشركين الذين أنكروا التوحيد.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ربّ ذلك كله: أي خالقه ومالكه، والْمَشارِقِ: مشارق الشمس، أي وربّ المغارب أيضا، فللشمس كلّ يوم مشرق ومغرب.
والمعنى: أن وجود هذه المخلوقات على هذا النحو البديع من أوضح الأدلّة على وجود الله وقدرته.
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بالملائكة الصّافّات صفوفا للعبادة أو الصّافّات أجنحتها في السماء، انتظارا لأمر الله تعالى، والذين هم يقومون بوظائف متعددة، منها: أنهم يسوقون السّحب إلى مكان معين بالتدبير المأمور به فيها، أو أنهم يزجرون الناس ويردعونهم عن المعاصي بإلهام الخير، ويزجرون الشياطين عن الوسوسة والإغواء.
ومنها: أنهم يتلون آيات الله على أنبيائه، أو على أوليائه. لقد أقسم الله بأن معبودكم أيها المخاطبون الذي يجب إخلاص العبادة له، هو واحد لا شريك له، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من العوالم والمخلوقات، ومالك ذلك كله، وهو ربّ مشارق الشمس ومغاربها، فأعلنوا في نفوسكم توحيد الله، وأخلصوا له العبادة، وأفردوه بالطاعة، فوجود هذه المخلوقات من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته ووحدانيته.
(23/63)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- أقسم الله تعالى بالملائكة، ولله أن يقسم على ما يشاء، في أي وقت يشاء.
2- ذكرت الآيات صفات ثلاثا للملائكة، وهي: أولا- وقوف الملائكة صفوفا إما لأداء العبادات كما أخبر تعالى عنهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصّافّات 37/ 165] ، وإما أنها تصف أجنحتها في الهواء منتظرين وصول أمر الله إليهم، وثانيا- زجر السحاب، أي سوقه وتحريكه والإتيان به من موضع إلى موضع، أو زجر الناس عن المعاصي بالإلهام والتأثير في القلوب، أو زجر الشياطين عن التّعرض لبني آدم بالشّر والإيذاء. وثالثا- قراءة كتاب الله تعالى في الصلاة، وعلى الأنبياء، والأولياء للتذكير بها وغرس الشرائع في النفوس، والصفة الثالثة مذكورة في آية أخرى هي: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات 77/ 5- 6] .
هذا.. وقد ورد في السّنة النّبوية حديثان صحيحان عن كيفية صفوف الملائكة:
الأول-
ما أخرجه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء» .
والثاني-
ما أخرجه مسلم أيضا والنسائي وابن ماجه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند
(23/64)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
ربّهم؟ قلنا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربّهم؟ قال ص: يتمّون الصّفوف المتقدّمة، ويتراصّون في الصّف» .
3- كان جواب هذا القسم العظيم أن الله واحد لا شريك له، ولا ثاني له، فهو قسم مشفوع بالبرهان الذي يثبت وحدانية الله تعالى.
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد
4- الدّليل على وجود الله الصانع ووحدانيته وقدرته كونه الخالق المالك للسموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، ولمشارق الشمس ومغاربها، فللشمس كل يوم مشرق ومغرب بعدد أيام السّنة، تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب في واحد، ولها في كل عام مشرقان: أقصى مشرق في الشمال، وأقصى مشرق في الجنوب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب، لدلالتها عليه، وقد صرح بها في قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ، إِنَّا لَقادِرُونَ [المعارج 70/ 40] ، وفي آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن 55/ 17] ، يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر، فالآية الأولى لبيان مشرق الشمس الخاص كل يوم، والآية الثانية تبين أن لها في كل عام مشرقين.
تزيين السماء بالكواكب
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
(23/65)
الإعراب:
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ الْكَواكِبِ: بدل من بِزِينَةٍ، وقرئ بنصب الكواكب: إما بأن أعمل الزينة في الكواكب، أي زيّنّا الكواكب، مثل أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أن أن أطعم يتيما، وإما بنصبه على البدل من موضع بِزِينَةٍ وهو النصب، وإما بنصبه ب (أعني) . وقرئ بترك تنوين بِزِينَةٍ وجرّ الْكَواكِبِ على وجهين: الجر على الإضافة، أو بدل من بِزِينَةٍ وحذف تنوين بِزِينَةٍ لالتقاء الساكنين. والإضافة للبيان، أي المبينة ب الْكَواكِبِ.
وَحِفْظاً منصوب بفعل مقدر، أي حفظناها بالشّهب.
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أتى ب إِلَى وإن كان يَسَّمَّعُونَ لا يفتقر إلى حرف جرّ، إما بحمل يَسَّمَّعُونَ على (يصغون) ، وإما بحذف المفعول، وتقديره: لا يسّمّعون القول، مائلين إلى الملأ الأعلى.
دُحُوراً منصوب على المصدر، تقديره: يدحرون دحورا.
البلاغة:
كُلِّ جانِبٍ عَذابٌ واصِبٌ شِهابٌ ثاقِبٌ وكذلك في الآية بعدها طِينٍ لازِبٍ فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل أحد المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
السَّماءَ الدُّنْيا هي أقرب السموات لأهل الأرض، أي القربى منكم، وهي مؤنث الأدنى.
الْكَواكِبِ هي النجوم والأجرام السماوية، وتزيين السماء إما بها أو بضوئها. مارِدٍ عات خارج عن الطاعة، وحفظ السماء من الشياطين برميها بالشهب. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كلام مستأنف مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ الله السماء منهم، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان، فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. ويَسَّمَّعُونَ أي يتسمّعون. والْمَلَإِ الجماعة المجتمعون على رأي، والمراد بهم هنا الملائكة في السماء. والْمَلَإِ الْأَعْلى أهل السماء الدنيا فما فوقها. وَيُقْذَفُونَ يرجمون بالشهب، وهم الشياطين. مِنْ كُلِّ جانِبٍ من آفاق السماء.
دُحُوراً طردا وإبعادا. وَلَهُمْ في الآخرة. عَذابٌ واصِبٌ دائم أو شديد.
الْخَطْفَةَ مصدر للمرة الواحدة، وهي الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة. والاستثناء في قوله:
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ من ضمير يَسَّمَّعُونَ أي لا يسمع إلا الشيطان الذي سمع الكلمة من
(23/66)
الملائكة، فأخذها بسرعة. فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ شعلة ساطعة من النار، وهي ما يرى كأن كوكبا انقض. ثاقِبٌ مضيء فيحرقه، أو يثقب ما ينزل عليه.
المناسبة:
هذه الآيات تتضمن دليلا آخر على وجود الله تعالى وقدرته، ذكر بعد الدليل الأول وهو خلق السموات والأرض، وتبين أنه تعالى زيّن السماء الدنيا القريبة من البشر لمنفعتين، هما: تحصيل الزينة، والحفظ من الشيطان المارد.
وبالرغم من أن هذه الثوابت مركوزة- كما قال الرازي- في الكرة الثامنة، ما عدا القمر في السادسة، فإن التعبير جاء على وفق الرؤية والنظر حسب الظاهر، فأهل الأرض إذا نظروا إلى السّماء، يرونها ويشاهدونها مزينة بهذه الكواكب، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.
التفسير والبيان:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ جمّل الله سبحانه السماء الدنيا التي هي أقرب السموات إلى الأرض بزينة جميلة فائقة الجمال هي الكواكب، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة.
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي وحفظناها حفظا من كلّ شيطان عات متمرد عن الطاعة، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، لذا قال تعالى:
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لا تقدر الشياطين أن يتسمّعوا لحديث الملأ الأعلى وهم الملائكة أهل السماء الدنيا فما فوقها، لأنهم يرمون بالشهب، وذلك إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى من شرعه وقدره.
(23/67)
وهاتان الخاصتان أو المنفعتان للسّموات، جاءت آيات كثيرة تقررهما مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك 67/ 5] ، وقوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر 15/ 16- 18] .
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي يرمون بالشّهب من كلّ جهة يقصدون السماء منها، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع.
دُحُوراً، وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي يدحرون دحورا، ويطردون ويمنعون من الوصول إلى ذلك، ولهم في الآخرة عذاب دائم مستمر موجع، كما قال تعالى في الآية المتقدمة: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة، يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى من تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب، فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما جاء في الحديث.
فخاطف الكلمة العارضة يتبعه الله بنجم مضيء، أو بشعلة مستنيرة، فتحرقه، وربما لا تحرقه، فيلقي إلى إخوانه الكهان ما خطفه. والخطف: أخذ الشيء بسرعة. والثاقب: المضيء.
والملحوظ الثابت أن الشياطين قبل بعثة نبينا محمد ص كانت ترمى أحيانا، وأحيانا لا ترمى، وبعد البعثة تعرضوا للرمي من كل جانب، وزيد في حفظ السماء، فلم يتمكنوا من استراق السمع، إلا بأن يختطف أحدهم كلمة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض، فيلقيها إلى إخوانه، وبهذا بطلت
(23/68)
الكهانة، وثبتت النبوة والرسالة «1» ، وأصبح المقرر شرعا منعهم من التنصّت، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء 26/ 212] ، وقال سبحانه واصفا المرحلتين: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجنّ 72/ 8- 9] .
قال الرازي: دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي ص، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ص بزمان طويل، ذكروا ذلك، وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي ص، امتنع حمله على مجيء النبي ص، والأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ص، لكنها كثرت في زمان النبي ص، فصارت بسبب الكثرة معجزة «2» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن تزيين السماء الدنيا بالكواكب لمنفعتين، هما: تحصيل الزينة، والحفظ من الشيطان المارد.
2- وصف تعالى أولئك الشياطين بصفات ثلاث: هي أنهم لا يسّمعون إلى الملأ الأعلى وهم الملائكة، وأنهم يقذفون من كل جانب دحورا، أي طردا وإبعادا، ولهم عذاب واصب، أي دائم مستمر موجع.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 66
(2) تفسير الرازي: 26/ 121
(23/69)
وسميت الملائكة بالملإ الأعلى، لأنهم يسكنون السموات، وأما الإنس والجنّ فهم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض.
واختلف العلماء على قولين: هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث؟ وقد جاءت الأحاديث عن ابن عباس بذلك، وستذكر في سورة «الجن» . ويجمع بينها كما تقدم بأنها كانت ترمى وقتا، ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب، فصاروا يرمون دائما واصبا من كل جانب.
3- قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من قوله:
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي لا يسمع الشياطين شيئا مما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدره إلا الشيطان الذي خطف الخطفة، أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة.
ومضمون الأحاديث الصحاح في هذا: أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، لاستراق السمع، فيقضي الله أمرا من أمور الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته، فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه، كما بيّنا، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة، فيصدّق الجاهلون جميع الكلام، فلما جاء الله بالإسلام، حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع شيئا. والكواكب الراجمة: هي التي يراها الناس تنقضّ. وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن هذه لا ترى حركتها، والراجمة ترى حركتها، لأنها قريبة منا.
(23/70)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
إثبات المعاد- الحشر والنشر والقيامة
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 21]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
الإعراب:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ تاء عَجِبْتَ بالفتح: تاء المخاطب. وقرئ بالضم: إما إخبارا عن الله من إنكار الكفار البعث، مع بيان القدرة على الابتداء، حتى بلغ هذا الإنكار منزلة يقال فيه: عجبت، وإما بتقدير: قل عجبت، وحذف القول في كلام العرب كثير.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ قال الزمخشري: فَإِنَّما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة.
البلاغة:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ طباق بين التعجب والسخرية.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبر مشركي مكة المنكرين للبعث أو بني آدم، إما على سبيل التقرير أو التوبيخ. أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أهم أقوى أجساما وأعظم أعضاء وأشق إيجادا، أم من خلقنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب؟
والإتيان بمن هنا: لتغليب العقلاء. إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي خلقنا أصلهم آدم. مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لزج يلصق باليد. والمعنى: كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف؟
(23/71)
وإن خلقهم ضعيف، فلا يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير.
بل للانتقال من غرض إلى آخر، وهو الإخبار بحال النبي ص وبحالهم عَجِبْتَ يا محمد من تكذيبهم إياك، ومن إنكارهم قدرة الله تعالى وإنكار البعث. وَيَسْخَرُونَ أي وهم يستهزئون من تعجبك ومما تقوله من إثبات البعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة دالة على الصدق من معجزات الرسول ص، كانشقاق القمر.
يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية والاستهزاء. وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به وهو القرآن إلا سحر ظاهر واضح.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي أنبعث إذا متنا، وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعارا بأن البعث في رأيهم مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارا. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، وهو عطف بالواو على محل إن واسمها: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أو عطف على ضمير: لَمَبْعُوثُونَ والفاصل همزة الاستفهام، أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون؟.
قُلْ: نَعَمْ تبعثون. وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون ذليلون. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة، وهو جواب شرط مقدر، أي إذا كان ذلك، فإنما البعث زجرة، أي صيحة واحدة هي النفخة الثانية، يقال: زجر الراعي غنمه، أي صاح عليها وأمرها بالإعادة. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا الخلائق قيام من مراقدهم أحياء، ينظرون ما يفعل بهم. وَقالُوا الكفار.
يا وَيْلَنا هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، ويقال وقت الهلاك. الدِّينِ الحساب والجزاء. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الحكم والقضاء بين الخلائق وتمييز المحسن من المسيء. وهو من قول الملائكة.
المناسبة:
افتتح الله تعالى هذه السورة بإثبات وجود الخالق وقدرته ووحدانيته بدليل واضح وهو خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب، وأعقب ذلك بإثبات المعاد وهو الحشر والنشر والقيامة.
ومن المعلوم أن المقصد الأصلي للقرآن الكريم هو إثبات الأصول الأربعة:
وهي الإلهيات، والمعاد، والنبوة، وإثبات القضاء والقدر.
(23/72)
التفسير والبيان:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ أي سل أيها الرسول هؤلاء المنكرين للبعث: أيهم أشد خلقا، أي أصعب إيجادا، هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ والآية نزلت في الأشد بن كلدة وأمثاله، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته.
والسؤال للتوبيخ والتقريع، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك، فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 36/ 81] .
ثم أوضح الله تعالى مدى هذا التفاوت، فقال:
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي إنا خلقنا أصلهم وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد. فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا، أو من الماء الذي خالط التراب إذا مات الإنسان في الماء، ولم ينكر ذلك من هو أقوى منهم خلقا وأعظم وأكمل.
والمعنى: أن هذه الأجسام قابلة للحياة، إذ لو لم تكن قابلة للحياة، لما صارت حية في المرة الأولى، والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام.
ثم انتقل البيان القرآني من أسلوب لأسلوب، فقال تعالى:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أي لا حاجة لاستفتائهم، فهم قوم معاندون، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، لأنك موقن إيقانا تاما بصنع الله وقدرته، وبما أخبر الله تعالى به من إعادة الأجسام بعد فنائها،
(23/73)
وهم على النقيض من ذلك يسخرون ويستهزئون مما تقول لهم من إثبات البعث، ومما تريهم من الأدلة والآيات. أو عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله ورسوله، لا يتعظون ولا ينتفعون بها، لاستكبارهم وعنادهم وقسوة قلوبهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ أي وإذا شاهدوا دليلا واضحا، أو معجزة من معجزات الرسول ص التي ترشدهم إلى التصديق والإيمان، يبالغون في السخرية والاستهزاء، ويتنادون للتهكم والتضاحك، ومشاركة الآخرين في السخرية.
وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر، فلا يؤبه له، ولا ننخدع به، وهو من تراث الأقدمين المشعوذين.
ثم خصصوا إنكارهم بالبعث، فقالوا:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أي إن من أعجب ما تقول: أنبعث أحياء بعد أن متنا، وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ وهل يبعث أيضا آباؤنا وأجدادنا الأقدمون الغابرون الذين مضى على موتهم أحقاب طويلة الأمد؟ فإن بعثهم أشد غرابة.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: نَعَمْ، وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي قل أيها الرسول لهم: نعم، تبعثون أحياء مرة أخرى، بعد صيرورتكم ترابا، وأنتم في هذا الحشر والنشر صاغرون
(23/74)
ذليلون حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] .
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي إن الأمر سهل جدا في قدرة الله، وليس البعث صعبا ولا عسيرا، فإنما البعث صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر واحد من الله عز وجل يدعوهم للخروج من الأرض، فإذا الناس قاطبة قيام من مراقدهم في الأرض، أحياء بين يدي الله تعالى، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة.
ثم حكى الله تعالى ملامتهم لأنفسهم إذا عاينوا أهوال القيامة بقوله:
وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي وقال منكر والبعث الذين كذبوا به في الدنيا: لنا الويل والهلاك، فقد حلّ موعد الجزاء والعقاب على ما قدمنا من أعمال من الكفر بالله والتكذيب للرسل. دعوا على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم.
فأجابتهم الملائكة بقولهم:
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي هذا يوم الحكم والقضاء المبرم بين الناس، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويبين المحق من المبطل، ففريق في الجنة وفريق في السعير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- استدل الله تعالى على إثبات المعاد من وجهين:
أحدهما- إنه تعالى قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق من خلق الإنسان وهو
(23/75)
خلق السموات والأرض والجبال والبحار، فوجب أيضا أن يقدر على إعادة خلق الإنسان.
الثاني- إنه تعالى قدر على خلق الإنسان في المرة الأولى، والفاعل وهو الله والقابل للخلق وهو الإنسان باقيان كما كانا، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحال الثانية، وهي البعث أو الحشر والنشر.
فدل ذلك على أن البعث والقيامة أمر جائز ممكن.
2- كان خلق آدم عليه السلام من الطين، وكذا خلق كل إنسان من الطين، لأن تكوينه من الدم، والدم يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي، وحياة الحيوان والنبات من تراب الأرض، فمنه تنتج الثمار والحبوب والأعشاب وغيرها بعد سقيها بالماء.
3- لقد تعجب الرسول ص من إنكار مشركي مكة وغيرهم للبعث، لما استقر في قلبه من مشاهدة قدرة الله العظمى، وعجيب صنعه، ومبلغ إرادته ومشيئته.
4- بعد تقرير الله تعالى الدليل القاطع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى الله تعالى أشياء عن المنكرين:
أولها- تعجب النبي ص من إصرارهم على الإنكار، وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات، كما تقدم، مما يدل على أن أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد، وفي طرفي النقيض.
ثانيها- أنهم إذا وعظوا بالقرآن وغيره من المسلّمات العقلية لا يتعظون ولا ينتفعون به.
(23/76)
ثالثها- أنهم إذا رأوا معجزة يبالغون في السخرية ويدعون غيرهم إلى مشاركتهم في السخرية والاستهزاء.
رابعها- أن سبب سخريتهم من الآية والمعجزة اعتقادهم أنها من باب السحر.
5- بعد إثبات إمكان البعث والقيامة بالدليل العقلي، أقام الله تعالى الدليل السمعي القاطع على وقوع القيامة بقوله: نَعَمْ جوابا على إنكارهم البعث، بعد الموت وصيرورتهم وأسلافهم ترابا وعظاما بالية.
6- وبعد الإثبات بالدليلين العقلي والسمعي لجواز حدوث القيامة ووقوعها ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وهي ثلاث حالات:
الحالة الأولى- أن القيامة ما هي إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور، بأمر الله لدعوة الناس للخروج من الأرض، فيمتثلون فورا، وإذا هم قيام من قبورهم أحياء، ينظرون إلى أهوال القيامة، وإلى بعضهم بعضا.
الحالة الثانية- من وقائع القيامة أن المكذبين بعد القيام من القبور يقولون: يا هلاكنا، هذا هو الجزاء الذي نجازى فيه على أعمالنا من الكفر وتكذيب الرسل.
الحالة الثالثة- تجيبهم الملائكة: هذا يوم الفصل الحاسم، يوم الحكم والقضاء، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء.
(23/77)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
مسئولية المشركين في الآخرة وأسبابها
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 37]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
الإعراب:
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ما: استفهامية، مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، ولا تَناصَرُونَ: جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في لَكُمْ مثل: مالك قائما.
يَسْتَكْبِرُونَ موضع الجملة إما منصوب على أنه خبر «كان» وجملتها في موضع رفع خبر إن، وإما مرفوع على أنه خبر «إن» و «كان» ملغاة.
البلاغة:
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أسلوب تهكمي في الهداية، لأنها تكون إلى طريق النعيم، لا إلى صراط الجحيم.
عَنِ الْيَمِينِ استعارة لجهة الخير أو للقوة والشدة أو لجهة الدين.
(23/78)
إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ إيجاز بالحذف، أي قولوا: لا إله إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
المفردات اللغوية:
احْشُرُوا يقال للملائكة: اجمعوا، من الحشر: وهو الجمع. الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك فهم المشركون، وهو أمر من الله للملائكة بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف.
وَأَزْواجَهُمْ أمثالهم وأشباههم، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الصنم، وعابد الكواكب مع عبدتها، وأصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنى معا. وقيل: أزواجهم: قرناؤهم من الشياطين. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحشر المعبودون من غير الله من الأصنام والأوثان وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء 21/ 101] .
فَاهْدُوهُمْ دلوهم وعرفوهم طريقها ليسلكوه. إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ طريق النار.
وَقِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف أو عند الصراط «1» إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم.
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب كحالكم في الدنيا، وهذا يقال لهم توبيخا وتقريعا. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون لعجزهم، وأصل الاستسلام:
طلب السلامة، ويلزمه الانقياد عرفا. وهذا أيضا يقال لهم.
يَتَساءَلُونَ يتلاومون ويتخاصمون، فيسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. وقالُوا قال الأتباع للمتبوعين. عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه، وعن جهة الخير التي نأمنكم منها، لحلفكم أنكم على الحق، فصدقناكم واتبعناكم. والمعنى: أنكم أضللتمونا. قالُوا قال المتبوعون لهم. بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إنكم كنتم في الأصل غير مؤمنين، فلم يحدث منا الإضلال الذي يؤدي إلى الرجوع عن الإيمان إلينا. مِنْ سُلْطانٍ تسلط عليكم، وقوة وقهر، نقهركم على متابعتنا.
طاغِينَ مختارين الطغيان والضلال مثلنا، ومتجاوزين الحد في العصيان.
فَحَقَّ عَلَيْنا وجب علينا جميعا. قَوْلُ رَبِّنا بالعذاب، وهو: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. إِنَّا لَذائِقُونَ إنا جميعا لذائقون العذاب بذلك القول. فَأَغْوَيْناكُمْ دعوناكم إلى الغيّ والضلال. غاوِينَ ضالين. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا قول الله تعالى، فإنهم يوم القيامة جميعا الأتباع والمتبوعون مشتركون في العذاب، لاشتراكهم في الغواية.
__________
(1) الواو لا توجب الترتيب، فيصح أن يكون الحبس والإيقاف في الموقف، ويجوز أن يكون عند الصراط.
(23/79)
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمشركين غير هؤلاء، أي نعذبهم، سواء التابع منهم والمتبوع.
إِنَّهُمْ كانُوا.. أي إن هؤلاء. يَسْتَكْبِرُونَ عن كلمة التوحيد أو على من يدعوهم إليها. لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا ص. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد من الله تعالى عليهم، فإن هذا النبي ص جاء بالقرآن المشتمل على الوعد والوعيد، وإثبات الآخرة. والمعنى: إن ما جاء به من التوحيد حق ثبت بالبرهان، وتوافق عليه المرسلون.
المناسبة:
بعد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته ووحدانيته، وإثبات القيامة، ذكر تعالى أحوال الكفار في الآخرة حيث يساقون إلى نار جهنم، دون أن يجدوا لهم نصيرا وعونا يخلصهم من العذاب، ثم يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والمتبوعون، ولكنهم جميعا متساوون في العذاب، بسبب إعراضهم استكبارا عن كلمة التوحيد في الدنيا، وافترائهم على الرسول ص بأنه لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ مع أنه جاء بالحق الثابت الذي لا محيد عنه وهو التوحيد الذي دعا إليه المرسلون جميعا.
التفسير والبيان:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب: وهم الظالمون المشركون، وأزواجهم أمثالهم وأشباههم، ومعبودوهم الذين كانوا يعبدونهم من غير الله، من الأوثان والأصنام معا، زيادة لهم في الحسرة والتخجيل على شركهم ومعصيتهم.
والظلم هنا: الشرك، لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] .
فهذا خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات وأنواعهم وضرباءهم.
(23/80)
يحشر المشركون وأشباههم في الشرك ومتابعوهم في الكفر ومشايعوهم في تكذيب الرسل وقرناؤهم من الشياطين، يحشر كل كافر مع شيطانه. كذلك يحشر أصحاب المعاصي مع بعضهم، فيجمع أهل الزنى معا، وأهل الربا معا، وأصحاب الخمر معا.. وهكذا.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي أرشدوا وعرّفوا هؤلاء المحشورين طريق جهنم، زيادة في ازدرائهم والتهكم بهم.
وَقِفُوهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي احبسوهم في الموقف للحساب والسؤال عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا.
وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن مسعود: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» .
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا، كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين؟.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله، لا يخالفونه، ولا يحيدون عنه، لعجزهم عن الحيلة، فلا ينازعون في شيء أبدا.
وفي هذا الموقف في ساحات القيامة، يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فقال تعالى:
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم الأتباع والرؤساء من هؤلاء الكفار، يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة، في موقف القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، كما في آية: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [إبراهيم 40/ 48- 47] .
(23/81)
قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي قال الأتباع للرؤساء: إنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير، فتصدوننا عنه. وقيل: إن اليمين مجاز مستعار من القوة والقهر، أي كنتم تأتوننا من ناحية القهر والقوة وبحكم السيطرة والرياسة لكم علينا في الدنيا، حتى تحملونا على الضلال، وتقسرونا عليه. وقيل: تأتوننا من جهة الدّين، فتهونون علينا أمره وتنفروننا عنه، كما هو الشأن اليوم في كثير من الرؤساء والرفاق.
وكلمة قالُوا جواب عن سؤال مقدر، فهو استئناف بياني.
فأجاب الرؤساء بجوابين:
1- قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي بل إنكم أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه، مختارين الكفر، فقلوبكم هي القابلة للكفر والعصيان، وكنتم من الأصل على الكفر. وكلمة قالُوا أي المخاطبون وهم قادة الكفر أو الجن.
2- وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي لم يكن لنا عليكم من حجة وتسلط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم، بل كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر، ومجاوزة للحق الذي جاءتكم به الأنبياء، وكنتم مختارين الطغيان، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الدين الحق، وما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة اختيارا لا جبرا.
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي وجب علينا وعليكم حكم ربنا، ولزمنا قول ربنا، وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فلنذوقن ما وعدنا به، ونحن ذائقو العذاب لا محالة يوم القيامة. قال أبو حيان:
والظاهر أن قوله: إِنَّا لَذائِقُونَ إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.
(23/82)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي إنا أضللناكم، ودعوناكم إلى الضلالة، وإلى ما نحن فيه من الغواية، فاستجبتم لنا.
ثم بعد هذا النقاش والجدل بين الأتباع والرؤساء، وصف الله تعالى العذاب الذي يحل بالفريقين، فقال:
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي إن التابعين والمتبوعين أو الأتباع والقادة مشتركون حينئذ جميعا في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والكفر، والجميع في النار، كل بحسبه.
واشتراكهم في العذاب عدل ككل المجرمين الكافرين، لذا قال تعالى:
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين، ويجازى كل عامل بما قدم.
وسبب العذاب هو ما قاله تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ أي إنهم كانوا إذا دعوا إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، استكبروا عن القبول، وأعرضوا عن قولها كما يقولها المؤمنون.
وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون، يسرح في الخيال، ويخلط في الأقوال، يعنون رسول الله ص. وبهذا أنكروا في الكلام الأول الوحدانية، وفي الثاني أنكروا الرسالة.
فرد الله عليهم تكذيبا لهم بقوله:
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن النبي ص جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له، وأوله التوحيد، وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به
(23/83)
من التوحيد والوعد والوعيد وإثبات المعاد، ولم يخالفهم في تلك الأصول، ولا جاء بشيء يغاير ما أتوا به من قبله، فكيف يصح وصفه بالشاعر أو المجنون؟
قال تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت 41/ 43] وقال سبحانه: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر 35/ 31] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يلي:
1- يحشر الملائكة ويسوقون بأمر الله تعالى الكفار إلى موقف السؤال، وهم ثلاثة أنواع: الظالمون، وأزواجهم (أمثالهم) والأشياء التي كانوا يعبدونها.
والمراد بالظالمين: الكافرون، لكونهم عابدين لغير الله تعالى.
وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر، ويفهم منه أن كل وعيد ورد في حق الظالم، فالمراد منه الكفار، ويؤكده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] .
وقوله تعالى: وَأَزْواجَهُمْ فسر بأقوال ثلاثة الظاهر منها أولها، ويجوز إرادتها كلها:
الأول- أشباههم من الكفرة، فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا، لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة 56/ 7] .
الثاني- قرناؤهم من الشياطين، لقوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف 7/ 202] .
الثالث- المراد: نساؤهم اللواتي على دينهم.
2- يوقف الكفار للحساب ثم يساقون إلى النار، فيكون الإيقاف أو الحبس قبل السوق إلى الجحيم، ويكون بين الآيتين فَاهْدُوهُمْ ووَ قِفُوهُمْ تقديم
(23/84)
وتأخير. وقيل: يساقون إلى النار أولا، ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار، ويكون سؤالهم عن عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم.
وهذا كله دليل على أن الكافر يحاسب.
3- يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، فيمنعه من عذاب الله.
4- في ذلك الموقف الرهيب لا حيلة لهم، وهم منقادون خاضعون لأمر الله، مستسلمون لعذاب الله عز وجل.
5- تظهر هناك صورة من النقاش والجدل والتخاصم والتلاوم بين الرؤساء والأتباع، لقوله سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم بعضا، والمراد بالتساؤل: التخاصم، فليس المقصود منه تساؤل المستفهمين، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم.
يقول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها، أو تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح، أو تأتوننا من قبل الدّين، فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قال القرطبي عن الأخير: وهذا القول حسن جدا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدّين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة.
وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى:
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات 37/ 93] أي بالقوة، وقوة الرجل في يمينه.
(23/85)
فيجيبهم الرؤساء: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لم تؤمنوا قط حتى ننقلكم من الإيمان إلى الكفر، بل كنتم على الكفر وألفتموه. ولم يكن لنا عليهم سلطان وقهر وحجة في ترك الحق، بل كنتم قوما ضالين متجاوزين الحد، فوجب علينا وعليكم قول ربّنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما أخبر الله على ألسنة الرسل:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] .
وقالوا أيضا: لقد أغويناكم وأضللناكم، أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر، إنا كنا غاوين بالوسوسة والاستدعاء.
6- ثم أخبر الله تعالى عنهم: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي يكون القادة والأتباع جميعا في نار جهنم، سواء الضال والمضل، كل بحسبه.
7- إن مقتضى العدل الإلهي والسنن الرباني أن يعاقب المجرمون المشركون على جرمهم العظيم، وهو إنكار الوحدانية والاستكبار عن كلمة التوحيد، وتكذيب الرسل، أو التكذيب بالتوحيد، والتكذيب بالنبوة.
وقد صدر منهم الأمران جميعا، أما إنكار التوحيد ففي قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ وأما تكذيب الرسل فهو في قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي لقول شاعر مجنون، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.
فردّ الله عز وجل عليهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن الرسول ص جاء بالقرآن والتوحيد، وصدّق الأنبياء المرسلين قبله فيما جاؤوا به من التوحيد ونفي الشريك.
(23/86)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين المخلصين
[سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 61]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
الإعراب:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الْعَذابِ: مجرور بالإضافة، من إضافة الفاعل لمفعوله.
وقرئ بنصب العذاب على تقدير النون في لَذائِقُوا كما يقال: ولا ذاكر الله إلا قليلا.
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فَواكِهُ: بدل من رِزْقٌ في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ظرف أو حال من ضمير مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك. وكذلك عَلى سُرُرٍ إما حال أو خبر.
(23/87)
لا فِيها غَوْلٌ غَوْلٌ: مبتدأ، وفِيها: خبره، ولا يجوز أن يبنى غَوْلٌ مع لا للفصل بينهما ب فِيها.
هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بفتح نون مُطَّلِعُونَ وقرئ بالكسر، وهو ضعيف جدا، لأنه جمع بين نون الجمع والإضافة، وكان ينبغي أن يكون «مطلعيّ» بياء مشددة، لأن النون تسقط للإضافة.
فَاطَّلَعَ بالتشديد، وقرئ بالتخفيف «اطلع» وهما فعلان ماضيان.
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى مَوْتَتَنَا: منصوب على المصدر، كأنه قال: ما نحن نموت إلا موتتنا الأولى، كما تقول: ما ضربت إلا ضربة واحدة.
البلاغة:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ التفات من الغيبة إلى الخطاب من إنهم إلى إنكم، لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
قاصِراتُ الطَّرْفِ كناية، كنّى بذلك عن الحور العين، لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا.
المفردات اللغوية:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسل إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم، أو جزاء ما عملتم إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين أخلصوا لله في العبادة، أو أخلصهم الله لعبادته واصطفاهم لدينه، وهو استثناء منقطع أُولئِكَ لَهُمْ في الجنة رِزْقٌ مَعْلُومٌ أي معروف الخصائص من الدوام والانتظام وتمحض اللذة فَواكِهُ ما يؤكل تلذذا لا لحفظ الصحة والتغذي، لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظها، بخلق أجسامهم للأبد وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولهم من الله إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه تعالى ولقائه في الجنة.
وهم أيضا مكرمون في نيل الرزق، فإنه يصل إليهم من غير تعب ولا سؤال، كما عليه رزق الدنيا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم.
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي على أسرّة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، كل منهم مسرور بلقاء أخيه، لا ينظر بعضهم قفا بعض. يُطافُ عَلَيْهِمْ على كل منهم بِكَأْسٍ بإناء فيه الشراب مِنْ مَعِينٍ أي من خمر يجري على وجه الأرض، كالعيون والأنهار بَيْضاءَ
(23/88)
أشد بياضا من اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لمن شربها، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب، قال الحسن البصري: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، له لذة لذيذة لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، بخلاف خمر الدنيا. قرئ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: سكر، فهو نزيف ومنزوف.
قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم عِينٌ أي ضخام الأعين حسانها، جمع عيناء: وهي المرأة الواسعة العين مع حسنها كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبههن في الصفاء والبياض المخلوط بشيء من الصفرة ببيض النعام المستور بريشه من الريح والغبار.
والمكنون: المصون من الغبار ونحوه. وهذا اللون وهو البياض المشوب بصفرة أحسن ألوان النساء.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبل بعض أهل الجنة على بعض، حال شربهم، يسألون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة قَرِينٌ خليل وصاحب في الدنيا، كافر بالبعث، منكر له. لَمَدِينُونَ مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها، بعد أن صرنا ترابا وعظاما؟ قالَ المؤمن ذلك القائل لإخوانه مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لننظر حال ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف منزلته في النار؟
فَاطَّلَعَ ذلك المؤمن إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ رأى قرينه في وسط النار قالَ له شماتة إِنْ كِدْتَ قاربت، وإِنْ: مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة لَتُرْدِينِ لتهلكني بإغوائك وتوقعني في النار وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي ورحمته علي بالإيمان والهداية لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار، المسوقين للعذاب أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أي أنحن مخلدون غير ميتين؟ وهو قول أهل الجنة إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى غير موتتنا التي في الدنيا، وهذا قول صادر من دواعي الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فهو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى، من تأييد الحياة وعدم التعذيب وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي لسنا بمعذبين.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن ما فيه أهل الجنة من النعمة والخلود والأمن من العذاب، لهو الفوز الساحق الذي لا يقدر قدره. ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل الجنة، وأن يكون كلام الله تقريرا لما يقولون. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي هذه هي التجارة الرابحة، وهو الهدف الأمثل الذي يسعى إليه العاملون، لا العمل للدنيا الزائفة، فلنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا لحظوظ الدنيا المشوبة بالآلام، السريعة الزوال. ويحتمل أن يكون هذا أيضا من كلام أهل الجنة أو كلام الله.
(23/89)
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى تكذيب الكفار بالتوحيد وبالنبوة، نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، مبينا أن حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال لا فائدة فيه، فإن العذاب شامل الفريقين، وأن الجزاء العدل في الآخرة على وفق العمل في الدنيا، ثم استثنى الله تعالى العباد الذين اصطفاهم لطاعته، وأخلصوا العبادة لربهم، فهم في ألوان متنوعة من النعيم المادي في الجنة من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكذا من النعيم المعنوي حيث لا يشغلهم همّ ولا نصب، ويستذكرون أحوالهم في الدنيا، وأحاديثهم مع بعض القرناء الأخلاء.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى حال المكذبين الضالين، وهو أيضا خطاب للناس، فيقول:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي إنكم أيها الكفار لتذوقن العذاب المؤلم في نار جهنم الذي يدوم ولا ينقطع.
وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن جزاء كم لحق وعدل لا ظلم فيه، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي، فهي سبب الجزاء: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 19] .
بعد بيان حال المجرمين المتكبرين عن قبول التوحيد المصرّين على إنكار النبوة، ذكر تعالى حال المخلصين في كيفية الثواب، فقال:
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولكن عباد الله الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده، وأخلصوا العمل لله، ناجون لا يذوقون العذاب ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم، كما
(23/90)
قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. [العصر 103/ 1- 3] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.. [المدثر 74/ 38- 39] . والْمُخْلَصِينَ صفة مدح، لأن كونهم عباد الله يلزم منه أن يكونوا مخلصين.
ولهؤلاء المخلصين رزق من الله، معلوم حسنه وطيبه ودوامه دون انقطاع في الجنة، يعطونه بكرة وعشيا، وإن لم يكن ثمة بكرة وعشية، فيتمتعون بلذيذ الفواكه المتنوعة أي الثمار كلها، فهي أطيب ما يأكلونه، وذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم، فهم يخدمون ويرفهون، ولهم أيضا إكرام عظيم برفع درجاتهم في الجنة عند ربهم، ويسمعون كلامه ويلقونه في رحاب الجنان.
وفي هذا دلالة على أن تناولهم الفاكهة إنما هو تلذذ لا للتغذي والقوت، لأنهم مستغنون عنه، لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد. ووصف رِزْقٌ بمعلوم، أي عندهم.
وبعد بيان مأكولهم، وصف الله تعالى مساكنهم، فقال:
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي إن هذا الرزق يأتيهم في جنات ذات نعيم مقيم ومتاع دائم، وهم على أسرة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، بسرور وابتهاج، لا ينظر بعضهم في قفا بعض، فصاروا يجمعون بين المتعة المادية الجسدية، والمتعة الروحية الإنسانية.
وبعد بيان صفة المأكل والمسكن ذكر تعالى صفة الشراب، فقال:
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي يدار عليهم بآنية من خمر تجري في أنهر، والمعين: الماء الجاري، فهي تخرج من العيون كما يخرج الماء دون انقطاع، وسمي معينا لظهوره.
(23/91)
ثم وصف الله تعالى خمر الجنة البعيدة عن آفات خمر الدنيا، فقال:
بَيْضاءَ لَذَّةٍ «1» لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي ذات لون أبيض شديد البياض، لذيذة الطعم، طيبة الرائحة، لا كخمر الدنيا المرّة ذات النكهة المزعجة، وهي لا تذهب بالعقول، ولا تؤدي إلى صداع الرأس، ووجع البطن، وأنواع الأمراض، كما هو شأن خمر الدنيا، فهي بخلاف خمر الدنيا في جميع تلك الأوصاف، لا تضر النفس والعقل والمال والشخصية، بسبب نزع مادة الغول أي الكحول منها. وفي هذا إيماء إلى مفاسد خمر الدنيا من صداع وفساد وسكر، وعربدة وهذيان، وإفساد للدم، وجهاز الهضم كله.
وبعد بيان صفة مشروبهم ذكر تعالى صفة زوجاتهم، فقال:
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ أي لديهم زوجات عفيفات، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يردن غيرهم، ذوات عيون واسعة حسان. والعين جمع عيناء: وهي النجلاء الواسعة في جمال، الحسناء المنظر، وبه يتبين أنه تعالى وصف عيونهن بالحسن والعفة، كما قال تعالى في الحور العين: خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن 55/ 70] .
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي كأن ألوانهن من البياض المشوب بأدنى الصفرة، كالبيض المحصون المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي، ولم يتلوث بالريح والغبار. وهذا اللون أحسن ألوان النساء.
وبعد بيان ألوان المتعة المادية لأهل الجنة في المآكل والمشارب والمساكن والأزواج، ذكر الله تعالى بعض أنواع المتع النفسية، فقال:
__________
(1) لذة: صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.
(23/92)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم بعضهم حال شربهم واجتماعهم ومعاشرتهم في مجالسهم، يسأل بعضا آخر عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من تمام نعيم الجنة.
ومن موضوعات التساؤل قوله تعالى:
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي قال مؤمن من أهل الجنة: كان لي صاحب في الدنيا كافر بالبعث منكر له، يقول: أنحن إذا متنا وصرنا ترابا متفتتا وعظاما بالية، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا، ومبعوثين نجازى على ما قدمنا في الدنيا؟ فذلك أمر مستحيل غير معقول ولا مقدور لأحد، فهل أنت مصدق مثل هذه الخرافات؟
قالَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ قال المؤمن لجلسائه: انظروا معي إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف يعذب، وكيف يجازى الجزاء الأوفى؟
فَاطَّلَعَ، فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي فنظر ذلك المؤمن إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسط جهنم، يتلظى بحرّها.
قالَ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي قال المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ: لقد قاربت أن توقعني في الردى والهلاك بالإغواء، وتهلكني بدعوتك إياي إلى إنكار البعث والقيامة، ولولا رحمة ربي وعصمته من الضلال، وتوفيقه وإرشاده لي إلى الحق، وهدايته لي إلى الإسلام، لكنت من المحضرين معك في النار للعذاب.
ثم عاد ذلك المؤمن إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة، فقال:
(23/93)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بما أنعم عليهم من نعيم الجنة الدائم: أنحن مخلّدون منعّمون أبدا، فلا نموت إلا الموتة الأولى الحادثة في الدنيا، ولسنا معذّبين كما يعذّب الكفار أصحاب النار؟
هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله لهم ألا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما هم فيه من العذاب يتمنون الموت كل ساعة. والمؤمن يقول هذا القول تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه توبيخا له، يزداد به عذابا، وأما المؤمن فيسعد ويغبط نفسه بالخلود في الجنة، والإقامة في النعيم، بلا موت ولا عناء.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي إن هذا النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العميم الذي نحن فيه لهو النجاح الباهر، والفوز الأكبر الذي لا يوصف، ولمثل هذا النعيم والفوز، ليعمل العاملون في الدنيا، ليحظوا به، لا أن يعملوا فحسب لحظوظ الدنيا الفانية، المقترنة بالمخاطر والآلام والمتاعب الكثيرة. والخلاصة: أن المطلوب هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة، لا أن يقصر العمل على المكاسب الدنيوية فقط.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن عذاب الكفار والمجرمين أمر حق وعدل ومؤكد الوقوع.
2- هذا الجزاء يكون بسبب العمل المنكر وهو الشرك والمعاصي، وهذا رد على من قد يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟
(23/94)
3- إن تنفيذ الأمر الإلهي واجتناب القبيح والمعصية يتطلبان الترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، لذا استثنى الله من الإخبار بالعذاب عباده الذين أخلصوا العمل لله تعالى، فهم ناجون غير معذبين.
4- إن ثواب المؤمنين المخلصين هو الجنة، وفيها الرزق المعلوم الصفات وهو الدائم الذي لا ينقطع، المشتمل على أطيب المآكل من الثمار المختلفة الرطبة واليابسة، في بساتين يتنعمون فيها، ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه.
ولا ينظر بعضهم في قفا بعض، وإنما يجلسون على أسرّة يتكئون عليها متقابلين وجها لوجه، غير متدابرين.
وذلك الرزق مشتمل أيضا على أطيب المشارب من خمور تقدم لهم بكؤوس مترعة، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها، وإنما تجري كما تجري العيون على وجه الأرض، وخمر الجنة أشد بياضا من اللبن، طيبة الطعم، وطيبة الريح، لا تغتال عقولهم، ولا تذهب بها بشربها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع، ولا يسكرون منها.
ولهم أزواج من النساء العفيفات اللاتي قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، وهن حسان العيون، ذوات جمال ولون بديع كبيض النعام المصون، يخالط لونها صفرة قليلة، وهو أحسن ألوان النساء.
5- يتجاذب أهل الجنة أطراف الأحاديث المسلّية التي يتذكرونها في الدنيا، إتماما للأنس في الجنة، فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ومن موضوعات أحاديثهم: قصة المؤمن والكافر، يقول المؤمن من أهل الجنة: كان لي في الدنيا قرين أي صديق ملازم، فسألني متعجبا: هل أنت من
(23/95)
المصدقين بالبعث والجزاء؟ وهل نحن مجزيون محاسبون بعد الموت، وهل يعقل أن نعود أحياء بعد أن متنا وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟
وتتمة الموضوع أن يقول المؤمن لأهل الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين ومآله؟ فلم يفعلوا، وإنما اطلع هو، فوجد قرينه معذبا في وسط النار. فيقول له موبخا: والله، لقد قاربت أن توقعني في النار، وتهلكني، ولولا فضل ربي ورحمته وعصمته من الضلال والباطل، وإنعامه بالإرشاد والتوفيق إلى الحق، لكنت محضرا معك في النار مثلك.
6- ثم يعود ذلك المؤمن إلى خطاب جلسائه الذين هم من أهل الجنة، بعد أن يعلموا أنهم لا يموتون حين يمثل الموت بصورة كبش أملح فيذبح، بعد أن كانوا لا يعلمون بذلك في أول دخولهم في الجنة، فيقول مغتبطا مبتهجا: أنحن مخلّدون منعّمون، فما نحن بميتين ولا معذّبين؟
7- النتيجة من القصة والحديث المتبادل: هي أن الظفر بنعيم الجنان هو الفوز الأعظم، ولمثل هذا العطاء والفضل ينبغي أن يعمل العاملون العمل الصالح المؤدي إلى تلك النعمة الكبرى.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، ويحتمل أن يكون هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا، أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، فليعمل العاملون لمثل هذا، كما تقدم إيجازه.
(23/96)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
جزاء الظالمين وأنواع العذاب في جهنم
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
الإعراب:
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: إما وصف لشجرة، وإما خبر بعد خبر، وإما في موضع نصب على الحال من ضمير تَخْرُجُ. وفِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: اي منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
البلاغة:
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ في قوله: خَيْرٌ أسلوب تهكمي للتهكم بهم.
مُنْذِرِينَ الْمُنْذَرِينَ بينهما جناس ناقص، يراد بالأول الرسل، وبالثاني الأمم.
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ تشبيه مرسل مجمل حذف منه وجه الشبه، أي في الهول والشناعة وتناهي القبح.
المفردات اللغوية:
أَذلِكَ المذكور لهم. خَيْرٌ نُزُلًا ضيافة، والنزل: ما يعد للنازل ضيفا وغيره من طعام وشراب. أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شجرة معدة لأهل النار، وهي شجرة صغيرة الورق تنبت
(23/97)
بتهامة، لها ثمر مرّ كريه الرائحة، يكره أهل النار على تناوله، فهم يتزقمونه. والتزقم: البلع مع الجهد والألم. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي أنبتناها في قعر جهنم، لتكون محنة للكافرين من أهل مكة، إذ قالوا: كيف ذلك، والنار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ ولم يعلموا أن من قدر على خلق ما يعيش في النار، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق، وهناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق.
فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي تنبت في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. طَلْعُها ثمرها أو حملها المشبّه بطلع النخل، وأصل الطلع: ثمر النخلة أول ظهوره، أطلق على ثمر هذه الشجرة مجازا. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ شبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئي، للدلالة على أن ثمرها في غاية القبح، ونهاية البشاعة، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، وقيل: الشياطين: حيات هائلة قبيحة المنظر، لها أعراف. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فإن الكفار لآكلون من تلك الشجرة مع قبحها لشدة جوعهم. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ الملء: حشو الوعاء بما لا زيادة عليه. لَشَوْباً الشوب: الخلط، يقال: شاب الطعام أو الشراب: خلطه بشيء آخر. حَمِيمٍ ماء شديد الحرارة، يشربونه، فيختلط بالمأكول من شجرة الزقوم، فيصير شوبا له.
مَرْجِعَهُمْ مصيرهم. لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، وهذا دليل على أنهم يخرجون من النار لشراب الحميم، وأنه خارجها، لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] يوردون إليه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردون إلى الجحيم.
أَلْفَوْا وجدوا. يُهْرَعُونَ يزعجون إلى اتباعهم، ويسرعون إسراعا شديدا، وهو تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. والإهراع: الإسراع الشديد. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك. أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم الماضية.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي مصير الكافرين من الأمم وهو العذاب. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلا الذين تنبهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم لله، فنجوا من العذاب، والمخلصين: بفتح اللام: هم الذين أخلصهم الله للعبادة والطاعة، وبكسر اللام: هم الذين أخلصوا في العبادة.
المناسبة:
بعد بيان ما أعده الله تعالى للأبرار في جنات النعيم من مآكل ومشارب وغيرها، ذكر تعالى ما أعده للأشرار في نار جهنم، من أنواع المآكل والمشارب بسبب تقليدهم الآباء في الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.
(23/98)
التفسير والبيان:
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أهذا المذكور من نعيم الجنة وما فيها مآكل ومشارب وملاذ وغيرها خير ضيافة وعطاء، أم شجرة الزقوم ذات الطعم المرّ الشنيع، التي في جهنم؟ وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم، فهو طعام أهل النار يتزقمونه، وهو نزلهم وضيافتهم.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين، حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها، فقالوا: كيف تكون الشجرة في النار، والنار تحرق ما فيها؟
وهذا الاستبعاد لجهلهم بأن بعض الأشياء غير قابل للاحتراق، ولأنهم لم يعلموا ولم يلاحظوا أن من قدر على خلق إنسان يعيش في النار، فهو أقدر على خلق شجر فيها لا يحترق.
وصفات تلك الشجرة ما قاله تعالى:
1- إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي إنها شجرة تنبت في قعر النار وقرار جهنم، وترتفع أغصانها إلى دركاتها.
2- طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي إن ثمرها وما تحملها كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره كأنه رؤوس الشياطين، تبشيعا لها وتكريها لذكرها، فشبّه المحسوس بالمتخيل غير المرئي، والعرب تشبّه قبيح الوجه بالشيطان، وتشبه جميل الصورة بالملك، كما جاء في القرآن حكاية على لسان صواحبات يوسف عليه السلام: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] .
وقيل: إن الشياطين هي حيّات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات.
(23/99)
ثم ذكر الله تعالى أن هذه الشجرة مأكل الكفار أهل النار، فقال:
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي إنهم يأكلون من ثمر هذه الشجرة السيء الريح والطعم والطبع، فيملئون بطونهم منه، بالإكراه والاضطرار، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها، كما قال تعالى: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
[الغاشية 88/ 6- 7] فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.
روى ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ص تلا هذه الآية، وقال: «اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟» «1» .
وبعد وصف طعامهم، وصف تعالى شرابهم بما هو أبشع منه، قائلا:
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي ثم إن لهم بعد الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم. والمقصود من كلمة ثُمَّ بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول. ومكان هذا الماء خارج جهنم، لقوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار الجحيم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، مما يدل على أن الحميم في موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردّون إلى الجحيم، كما قال تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] .
__________
(1) قال الترمذي: حسن صحيح.
(23/100)
وبعد وصف عذابهم في أكلهم وشربهم ذكر الله تعالى علة العذاب قائلا:
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي إنهم وجدوا وصادفوا آباءهم على الضلال، فاقتدوا بهم وقلدوهم، من غير تعقل ولا تدبر، ولا حجة وبرهان، فهم يتبعون آباءهم في سرعة، كأنهم حرّضوا على ذلك، وأزعجوا إلى اتباع آبائهم.
ثم بيّن الله تعالى أن الكفر ظاهرة قديمة، وأتباعه كثر، تسلية للرسول ص في كفر قومه وتكذيبهم، فقال:
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أي إن أكثر الأمم الماضية كانوا ضالين، يجعلون مع الله آلهة أخرى.
ولكن رحمته تعالى لم تتركهم دون إنذار، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي أرسل الله في الأمم الماضية أنبياء ورسلا ينذرونهم بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به، وعبد غيره، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلكهم الله، كما قال:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فانظر أيها الرسول والمخاطب كيف كان مصير الكافرين المكذبين، أهلكهم الله ودمّرهم وصاروا إلى النار، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ثم استثنى تعالى منهم المؤمنين قائلا:
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن نجى الله عباده الذين اصطفاهم وأخلصهم لطاعته، بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، والعمل بأوامر الله، ففازوا بجنان الخلد، ونصرهم في الدنيا.
ويفهم من هذه التسلية للرسول ص أنه يجب عليه أن يكون له أسوة بمن
(23/101)
تقدمه من الرسل، فيصبر كما صبروا، ويستمر على دعوته، وإن تمرد المرسل إليهم، فليس عليه إلا البلاغ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- لا مجال للمقارنة بين ما أعده الله لعباده الأبرار من نعيم في الجنان، وما أعده للأشرار من عذاب في النيران.
2- إن طعام أهل النار هو الزقّوم الثمر المرّ الكريه الطعم والرائحة، العسير البلع، المؤلم الأكل، كما قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان 44/ 43- 46] .
3- إن الإخبار عن وجود شجرة الزقوم في قعر جهنم فتنة وابتلاء واختبار للكفار الذين قالوا: كيف تكون الشجرة في النار وهي تحرق النار؟ لكن كان هذا القول جهلا منهم، إذ إن هناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق، ولا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيّات والعقارب وخزنة النار.
4- وصف الله تعالى هذه الشجرة بصفتين: الأولى- إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. والصفة الثانية- ثمرها وحملها في قبحه وشناعته كأنه رؤوس الشياطين، وهذا الشبه متصور في نفوس العرب، وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح: هو كصورة الشيطان، ولكل صورة حسنة كصورة الملك.
ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحبات يوسف: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] وهذا تشبيه تخييلي.
(23/102)
وقال الزجاج والفرّاء: الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيّات وأخبثها وأخفها جسما.
5- لا يكتفي أهل النار بتناول شيء قليل من الزقوم، وإنما يأكلون منه بالإكراه حتى تمتلئ منه بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.
وبعد الأكل من الشجرة يشربون الماء المغلي الشديد الحرارة الذي يخالط طعام الزقوم، قال الله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ
[سورة محمد 47/ 15] . قيل: يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم، تغليظا لعذابهم، وتجديدا لبلائهم.
6- يشرب أهل النار من ماء الحميم ويأكلون الزقوم من مكان خارج جهنم، للآية: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ فهذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار، ثم يردون إليها. والحميم كما قال مقاتل خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، ثم يردون إلى الجحيم، لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] .
7- إن سبب عذابهم الذي استحقوه هو تقليدهم آباءهم في الكفر بالله وتكذيب الرسل وعبادة الأصنام والأوثان، فكأنهم يستحثون من خلفهم، ويسرعون إلى تقليدهم، ويزعجون من شدة الإسراع.
8- لقد كفر بالله وكذب الرسل وضل كثير من الأمم الماضية، ولكن الله أرسل إليهم رسلا أنذروهم العذاب فكفروا، فكان مصيرهم الدمار والهلاك وولوج النار.
9- ينجي الله دائما عباده المؤمنين الذين استخلصهم من الكفر، وأخلصوا لله النية والعمل، ففازوا بنعيم الجنان، ونصرهم الله في الدنيا.
(23/103)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
قصة نوح عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
الإعراب:
فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فلنعم المجيبون نحن، كقوله تعالى:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص 38/ 44] أي أيوب.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ سَلامٌ: مبتدأ، وعَلى نُوحٍ: خبره، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنه في معنى الدعاء، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين 83/ 1] وقرئ سلاما بالنصب على أنه مفعول تَرَكْنا تقديره: تركنا عليه في الآخرين سلاما، أي ثناء حسنا.
البلاغة:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ كناية، كنى بذلك عن الذكر الجميل والثناء الحسن.
المفردات اللغوية:
نادانا نُوحٌ دعانا حين أيس من قومه، فالمراد من النداء الاستغاثة، بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] . فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ له نحن، اي فأجبناه أحسن الإجابة، والتقدير: فو الله لنعم المجيبون نحن، فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه. ونوع الجواب: أنا أهلكناهم بالغرق.
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي الغرق أو أذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي أبقينا ذريته متناسلين إلى يوم القيامة، فالناس كلهم من نسله عليه السلام، وكان
(23/104)
له ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام: وهو أبو السودان، ويافث: أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج من الصين واليابان ونحوهم. روي أنه مات كل من معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا بين الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، فمفعول وَتَرَكْنا محذوف، كما في الثناء السابق بقوله: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ هذا الكلام جيء به على الحكاية، والمعنى: يسلمون عليه تسليما، أي يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. وقيل: هو سلام من الله عليه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء الذي جازيناه نجزي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لإحسانه بالإيمان، إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي كفار قومه.
المناسبة:
هذه الآيات شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، فبعد ذكر ضلال كثير من الأمم السابقة في قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أتبعه بتفصيل قصص الأنبياء عليهم السلام، وهذه هي القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام مع قومه، في بيان بليغ موجز.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي تالله لقد دعانا نوح عليه السلام، واستغاث بنا، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] بعد أن طال دعاؤهم إلى الإيمان، فكذبوه وآذوه وهموا بقتله ولم يؤمن معه إلا القليل، مع طول المدة التي لبثها فيهم وهي ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يزدهم دعاؤه إلا فرارا.
فأجاب الله دعاءه أحسن الإجابة، وأهلك قومه بالطوفان.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ص إذا
(23/105)
صلّى في بيتي، فمرّ بهذه الآية: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال:
صدقت ربنا، أنت أقرب من دعي، وأقرب من بغي، فنعم المدعو، ونعم المعطي، ونعم المسؤول، ونعم المولى، أنت ربنا، ونعم النصير» .
وبعد بيان أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
1- وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي ونجينا نوحا وأهل دينه، وهم من آمن معه وهم ثمانون، من الغم الشديد وهو الغرق.
2- وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة، وأهلكنا من كفر بدعائه، ولم نبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده وذريته.
والآية تفيد الحصر، وهو يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا.
قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك.
3- وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا له ثناء حسنا فيمن يأتي بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي وقلنا: عليك يا نوح سلام منا في الملائكة وعالمي الإنس والجن. أو معناه أن الذي أبقي عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن: أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم. ويؤيد التفسير الأول آية: قِيلَ: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود 11/ 48] .
وعلة أنواع الإنعام السابقة ما قاله تعالى:
(23/106)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عز وجل، أو خصصنا نوحا عليه السلام بتلك النعم التي منها إبقاء ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسنا.
وعلة إحسانه ما قاله سبحانه:
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي إن السبب في كون نوح محسنا هو كونه عبدا لله مؤمنا. وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أغرقنا كفار قومه بالطوفان وأهلكناهم، ولم نبق منهم أحدا، وتلك عظة وعبرة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة نوح عليه السلام على الآتي:
1- أجاب الله تعالى دعاء نوح عليه السلام بإهلاك قومه، فالداعي مضطر، والمدعو وهو الله عز وجل نعم المقصود المجيب.
2- كانت النعمة العظمى هي إجابة الدعاء، وكانت مظاهر الإنعام على نوح ثلاثة: هي نجاة نوح ومن آمن معه، وجعل ذريته أصول البشر والأعراق والأجناس، وإبقاء الذكر الجميل والثناء الحسن. وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل، بدليل قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الإسراء 17/ 3] .
ومما أبقي عليه: السلام الدائم في الأنبياء والأمم، أو أن الله كافأه أيضا بالسلام منه عليه سلاما يذكر بين الأمم إلى يوم القيامة.
(23/107)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
3- أهلك الله بالغرق قوم نوح عليه السلام، ولم يبق أثرا لذريتهم.
4- وتلك النعم على نوح لأجل أنه كان محسنا، وعلة إحسانه أنه كان عبد الله المؤمن المصدّق الموحد الموقن.
قصة إبراهيم عليه السلام
- 1- تحطيم الأصنام
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 101]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
الإعراب:
أَإِفْكاً آلِهَةً إفكا: منصوب ب تُرِيدُونَ تقديره: أتريدون إفكا، وآلِهَةً بدل منصوب من «إفكا» .
(23/108)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ما: مصدرية في موضع نصب بالعطف على الكاف والميم في الفعل المتقدم، وهي مع الفعل مصدر، تقديره: خلقكم وعملكم. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع نصب ب تَعْمَلُونَ على التحقير لعملهم والتصغير له، والوجه الأول أظهر.
البلاغة:
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سَقِيمٌ الْجَحِيمِ حَلِيمٍ بينها ما يسمى بمراعاة الفواصل من المحسنات البديعية، زيادة في الروعة والجمال.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ في جاءَ استعارة تبعية، شبه إقباله على ربه مخلصا بمن قدم على الملك بهدية ثمينة، ففاز بالرضى والقبول.
ابْنُوا لَهُ بُنْياناً بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
شِيعَتِهِ ممن سار على دينه ومنهاجه في الإيمان وأصول الشريعة، قال البيضاوي:
«ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا، وكان بينهما ألفان وست مائة وأربعون سنة (2640) وكان بينهما نبيّان: هود وصالح صلوات الله عليهم» . وأصل كلمة الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر، فهم متشيعون له، ثم صارت بعد موت سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تطلق على جماعة خاصة في مواجهة أهل السنة.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ أي اذكر، فهو متعلق بمحذوف، وحقيقة المجيء بالشيء: نقله من مكانه، والمراد هنا الإقبال على الله سليم القلب مخلصا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشك وغيره، الناصح لله في خلقه، السالم من جميع العلل والآفات النفسية كالرياء وغيره من النيات السيئة إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ موبخا، وهو في هذه الحالة السليمة وإِذْ بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء. ماذا تَعْبُدُونَ ما الذي تعبدون؟.
أَإِفْكاً الإفك: أسوأ الكذب آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون آلهة من دون الله للإفك، أي أتعبدون غير الله؟ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، وما ترون يصنع بكم؟ والمعنى: إنكار ما يوجب ظنا، فضلا عن قطع (أي يقين) يصدّ عن عبادته، وهو كالحجة على ما قبله.
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أوهمهم أنه يعتمد على النجوم، حين سألوه أن يعبد معهم فَقالَ: إِنِّي سَقِيمٌ مريض عليل، أراد أن يتخلف عنهم في خروجهم من الغد يوم عيد لهم،
(23/109)
فاعتل بالسقم فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي تركوه وذهبوا إلى عيدهم فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ذهب أو مال خفية إلى أصنامهم وعندها الطعام، ومنه يقال: روغان الثعلب أي الميل فَقالَ: أَلا تَأْكُلُونَ قال استهزاء وسخرية: ألا تأكلون من الطعام الذي صنعوه لكم؟ فلم ينطقوا.
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ لا تجيبوني، وقد علم أنها جمادات لا تنطق فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ مال عليهم يضربهم بقوة وشدة، فكسرهم فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون المشي، لما علموا بما صنعه بها، فقالوا: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ قالَ: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي قال لهم موبخا: أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي خلقكم وخلق الذي تصنعونه، فاعبدوه وحده.
قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي تشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له بنيانا من حجارة، ويملأوه حطبا، ويضرموه، ثم يلقوه فيه. والجحيم: النار الشديدة فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً بإلقائه في النار لتهلكه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين، فصارت النار بعد إلقائه عليها بردا وسلاما، ولم تؤثر فيه.
ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ مهاجر من بلد قومي دار الكفر إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه وهو الشام، أو إلى حيث أتمكن من عبادته هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي ولدا صالحا يعينني على طاعتك، ويؤنسني في الغربة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي بصبي ذكر يكبر ويصير حليما، أي ذا حلم كثير.
المناسبة:
هذه قصة ثانية تبين مدى الصلة الوثيقة والارتباط العميق بين الأنبياء في رسالاتهم، افتتحت بأن إبراهيم عليه السلام من شيعة نوح، أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه، فهما مصدر الخير والسعادة للناس، فكانت قصة إبراهيم أبي الأنبياء بعد قصة نوح أبي البشر الثاني عليهما السلام، والأول نجاه الله من الغرق، والثاني نجاه الله من النار.
التفسير والبيان:
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي وإن إبراهيم عليه السلام ممن سار على دين نوح عليه السلام ومنهجه وسلك طريقه في الدعوة إلى توحيد الله والإيمان به
(23/110)
وبالبعث، وغير ذلك من أصول الشريعة، وإن اختلفا في الفروع، وقد يكونان متفقين فيها.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي اذكر حين أقبل على ربه بقلب مخلص صادق الإيمان، خال من شوائب الشرك والشك والرياء، ناصح لله في خلقه، كأنه جاءه بتحفة من عنده لربه، فاستحق الفوز والرضوان.
ومن خصاله وأعماله المجيدة:
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ماذا تَعْبُدُونَ؟ أي من مظاهر إخلاصه لربه حين قال لجماعته: ما الذي تعبدونه من هذه الأصنام من دون الله؟ وهذا إنكار على عبادتهم وتوبيخ على منهجهم وخطتهم، ولوم صريح على عبادة الأصنام والأنداد، لذا قال:
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون حجة ولا دليل، وما ظنكم إذا لقيتم ربكم أنه فاعل بكم، وقد عبدتم معه غيره، وما ترونه يصنع بكم؟ فهو استفهام توبيخ وتحذير وتوعد، أي أيّ شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه إذ هو رب العالمين، حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟!! فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي نظر إبراهيم في علوم النجوم وفي معانيها لا أنه نظر إليها تعظيما وتقديسا كما كان يفعل قومه، مريدا بذلك أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون.
أو أن المراد تأمل في الكون والسماء وأطال الفكر، قال قتادة: إن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة: نظر في النجوم، أي أطال الفكرة فيما هو فيه.
(23/111)
فَقالَ: إِنِّي سَقِيمٌ أي مريض عليل، قاصدا بذلك أنه مريض القلب من إقبال قومه على الكفر والشرك وعبادة الأوثان.
والخلاصة: إن نظر إبراهيم في النجوم، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ من قبيل التورية، فإنه أراد شيئا، وفهموا منه شيئا آخر، تمهيدا لخطته التي بيّتها في أن يكايد أصنامهم، حينما سيخرجون من الغد في يوم عيد لهم، وذلك بالتخلف عن الخروج معهم، دون أن يطلعوا على ما بيّت عليه النية.
وبه يتبين أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم على النظر إلى النجوم كما يفعل عبدتها، فذلك غير جائز، ولم يكن كاذبا في قوله: إِنِّي سَقِيمٌ.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي تركوه وذهبوا إلى عيدهم ومعبدهم.
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ، فَقالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ أي فمال خفية وذهب في سرعة إلى تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها، وقد وضعوا لها الطعام في عيدهم لتباركه، وقال لها تهكما واستهزاء: ألا تأكلون من هذا الطعام المقدم إليكم؟
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ أي ما الذي يمنعكم من النطق والجواب عن سؤالي؟ ومراده التهكم والاحتقار، لأنه يعلم أنها جمادات لا تنطق.
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فمال عليهم يضربهم بقوة وشدة حتى حطمهم إلا كبيرا لهم، كما في سورة الأنبياء.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي فأقبل إليه قومه بعد عودتهم من عيدهم مسرعين، يسألون عمن كسرها، وقد قيل: إنه إبراهيم، وعرفوا أنه هو، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟!! ولما جاؤوا يعاتبونه، أخذ يؤنبهم ويعيبهم، فقال: قالَ: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تصنعونها وتنحتونها بأيديكم؟
(23/112)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي والله هو الجدير بالعبادة، لأنه الخالق، خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم. وفيه دلالة على أن الله خلق الإنسان وخلق أعماله.
روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا قال: «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» .
فلما قامت عليهم الحجة لجؤوا إلى الانتقام بالقوة والإيذاء، فقالوا:
قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي ابنوا له بنيانا واسعا واملؤوه حطبا كثيرا، وأضرموا فيه النار، ثم ألقوه في تلك النار المسعرة.
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي أرادوا به سوءا بحيلة ومكر، وإحراقه في النار، فأنجيناه منها، وجعلناها بردا وسلاما عليه، ولم تؤثر فيه أدنى تأثير، وجعلنا له النصر والغلبة، وجعلناهم المهزومين المغلوبين الأذلّين حيث أبطلنا كيدهم.
ولما نجا إبراهيم عليه السلام ونصره الله على قومه، وأيس من إيمانهم قرر الهجرة ومفارقتهم، كما قال تعالى:
وَقالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أي إني مهاجر من بلد قومي الذين آذوني، تعصبا للأصنام، وكفرا بالله، وتكذيبا لرسله، إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه، حيث أتمكن من عبادته، وإنه سيهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياي، وهو الأرض المقدسة بالشام.
وهذا دليل على وجوب الهجرة من المكان إلى مكان آخر، إذا لم يتمكن المؤمن من إقامة شعائر دينه.
وفي أثناء الهجرة دعا ربه بأن يرزقه الولد، فقال:
(23/113)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي رب هب لي ولدا صالحا يعينني على طاعتك، ويؤنسني في الغربة.
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي فبشرناه بصبي ذكر يكبر ويصير ذا حلم كثير. وهذا الغلام كما قال ابن كثير: هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد، ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة (86) وولد إسحاق، وعمر إبراهيم عليه السلام تسع وتسعون سنة (99) .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الأنبياء والرسل وإن طال الزمان بينهم مهمتهم واحدة وهي الدعوة إلى توحيد الله والإيمان بالرسل وبالبعث، وإلى أصول الأخلاق والفضائل.
2- كان إبراهيم الخليل عليه السلام ذا قلب مخلص من الشرك والشك، ناصح لله عز وجل في خلقه، عالم بأن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
3- من جملة آثار سلامة قلب إبراهيم عليه السلام أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد، فقال: ماذا تَعْبُدُونَ؟ قاصدا بذلك الكلام تقبيح طريقتهم ولومهم على فعلهم.
4- ندد بعبادتهم الأصنام، مبينا أنها إفك وأسوأ الكذب، وحذر من سخط الله حين لقائه، وقد عبدوا غيره.
5- لجأ إلى الإيهام وأخذ بالتورية في أمرين أظهر فيهما شيئا، وأراد شيئا
(23/114)
آخر، وهما النظر في النجوم، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ، قاصدا بالأول أنه يعلم بعلوم النجوم، وأنه تفكر فيما يعمل لما كلّفوه الخروج معهم، وبالثاني أنه سيمرض مرض الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، فتوهموا هم أنه سقيم الآن، وهذا تورية وتعريض، كما قال للملك لما سأله عن سارّة: هي أختي، يعني أخوة الدين.
وفي الصحيح الذي أخرجه أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات»
والكذب تعريضا والتورية أمر جائز مباح. وقيل: أراد أنه سقيم النفس لكفرهم ووثنيتهم.
6- دبر إبراهيم عليه السلام خطة ناجحة لتحطيم الأصنام، فقد مكث في البلدة حينما خرج القوم لعيدهم ومعبدهم، بعد أن قدموا طعاما لأصنامهم لتباركه بزعمهم، أو للسدنة، فجاء إليهم، وخاطبهم كما يخاطب العقلاء قائلا على جهة التهكم والاستهزاء: أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ فلم يجيبوا، وهو يعلم ذلك، فانهال عليهم ضربا بقوة وشدة، حتى دمرهم إلا كبيرا لهم، كما في سورة الأنبياء، لإلزام القوم بالحجة، وتعريفهم خطأهم وأن هذه الأصنام لا تقدر حماية أنفسها.
7- أقبل إليه القوم مسرعين، بعد أن عرفوا أن الفاعل هو إبراهيم، فقالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال محتجا: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم، والنحت: النجر والبري.
ثم قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام بالخشب والحجارة وغيرهما، وبإيجاز: خلقكم وعملكم.
وقد استدل أهل السنة بهذه الآية على أن الأفعال خلق لله عز وجل، واكتساب للعباد، وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية.
أخرج البخاري
(23/115)
عن أبي هريرة مرفوعا كما تقدم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته»
وأخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته، فهو الخالق، وهو الصانع سبحانه» .
8- تشاور القوم في أمر إبراهيم عليه السلام لما غلبهم بالحجة فقالوا: ابنوا له بنيانا، تملؤونه حطبا، فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل.
وأرادوا بإبراهيم الكيد، أي المكر والاحتيال لإهلاكه، فجعلهم الله المقهورين المغلوبين الأذلين، إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم.
9- الهجرة والعزلة واجبة إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار قالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي، فإنه سَيَهْدِينِ فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارّة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام.
10- مشروعية الدعاء بالولد، فلما عرف إبراهيم عليه السلام أن الله مخلصه، دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته، فقال: رب هب لي ولدا صالحا من الصالحين، فبشره الله تعالى على لسان الملائكة- كما تقدم في هود- بغلام يكون حليما في كبره، فكأنه بشّر ببقاء ذلك الولد، لأن الصغير لا يوصف بذلك.
(23/116)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
- 2- قصة الذبيح
[سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
الإعراب:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ مَعَهُ متعلق بمحذوف لا ببلغ، فإن بلوغهما لم يكن معا، كأنه قال:
فلما بلغ السعي، فقيل: مع من؟ فقيل: معه.
فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأي، وليس من رؤية العين، وماذا في موضع نصب ب تَرى. ويجوز جعل فَلَمَّا استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وذا بمعنى الذي في موضع خبر المبتدأ.
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ في جواب «لمّا» ثلاثة أوجه: إما محذوف تقديره: فلما أسلما رحما أو سعدا، وإما نادَيْناهُ والواو زائدة، وإما تَلَّهُ والواو زائدة، والوجه الأول أوجه.
البلاغة:
مُحْسِنٌ وَظالِمٌ بينهما طباق.
(23/117)
المفردات اللغوية:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي وصل إلى السن التي تمكنه من أن يسعى معه في أعماله ويعينه، قيل: بلغ سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة إِنِّي أَرى أي رأيت، ورؤيا الأنبياء حق، وأفعالهم بأمر الله تعالى. قيل: إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روّى أنه من الله أو من الشيطان، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر.
من الذبيح؟
قال البيضاوي: والأظهر أن المخاطب به إسماعيل، لأنه الذي وهب له إثر الهجرة، ولأن البشارة بإسحاق معطوفة على البشارة بهذا الغلام،
ولقوله ص فيما رواه الحاكم في المناقب: «أنا ابن الذبيحين»
فأحدهما جدّه إسماعيل، والآخر أبوه عبد الله، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا، إن سهل الله له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل الله له ذلك، أقرع، فخرج السهم على عبد الله، ففداه بمئة من الإبل، ولذلك ثبتت الدية مائة، ولأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة، حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة، ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا.
وما
روي أنه ص سئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدّيق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله»
فالصحيح أنه قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي. وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك، لم يثبت «1» .
وقال ابن كثير: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائف من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه- الذبيح- إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ «2» .
فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأي، شاوره ليتهيأ للذبح، وينقاد للأمر به، وليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله، فيثبت، ويسلّم الأمر لله يا أَبَتِ التاء عوض عن ياء الإضافة
__________
(1) تفسير البيضاوي: 595
(2) تفسير ابن كثير: 4/ 14
(23/118)
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي ما تؤمر به، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح أو على قضاء الله.
فَلَمَّا أَسْلَما استسلما لأمر الله، وخضعا وانقادا له وَتَلَّهُ كبّه على وجهه، لئلا يرى فيه تغيرا يرق له، فلا يذبحه، أو أضجعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض. وكان ذلك عند الصخرة بمنى. والجبين: أحد جانبي الجبهة، والجبهة: بين جبينين، واللام في قوله لِلْجَبِينِ لبيان ما صرع عليه، كقوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [الإسراء 17/ 109] . صَدَّقْتَ الرُّؤْيا حققت ما طلب منك بالعزم والإتيان بالمقدمات إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزيناك نجزي المحسنين لأنفسهم بامتثال الأمر، وهذا تعليل لتفريج تلك الشدة عنهما، وهو إحسانهما إِنَّ هذا الذبح المأمور به لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الاختبار الظاهر الذي يتميز فيه المخلص من غيره. وَفَدَيْناهُ أي المأمور بذبحه، وهو إسماعيل عليه السلام على الأرجح، وقيل:
إسحاق بِذِبْحٍ بكبش يذبح بدله عَظِيمٍ عظيم الجثة، سمين. واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا في الأجيال اللاحقة سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أي سلام منا عليه كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين لأنفسهم بطاعة الله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علة الإحسان.
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ بشارة بولد آخر بأن يوجد إسحاق، وهو دليل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ مقضيا نبوته، مقدرا كونه من الصالحين وَبارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم في أولاده وَعَلى إِسْحاقَ ولد إبراهيم، بأن جعلنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم، أي أكثر الأنبياء من نسله، مثل أيوب وشعيب عليهما السلام. مُحْسِنٌ مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ كافر عاص مُبِينٌ بيّن الكفر، ظاهر الظلم. قال البيضاوي: وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وإن الظلم في أعقاب إبراهيم وإسحاق لا يعود عليهما بنقيصة وعيب.
المناسبة:
هذه تتمة القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام، فبعد أن قال سبحانه وتعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن الطاقة على العمل. ثم أتبعه بقصة الذبيح إسماعيل والفداء، ثم بشره تعالى
(23/119)
بإسحاق نبيا من الصالحين، مباركا عليه وعلى إسحاق، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما، وأن من ذريتهما محسن فاعل للخير، وظالم لنفسه بالمعاصي.
التفسير والبيان:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ ماذا تَرى أي فلما كبر إسماعيل وشبّ وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي والعمل، قال الفرّاء: «كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة» قال إبراهيم لابنه المأمور بذبحه وهو ابنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال له:
يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟ وقد أخبره بذلك ليستعد لتنفيذ أمر الله، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله، وليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي لازم الامتثال.
وأما ما ذكر في التوراة: «اذبح بكرك وحيدك إسحاق» فكلمة إسحاق من زياداتهم وتحريفهم لكتاب الله، وإلا فإن «إسحاق» لم يكن بكر إبراهيم، ولم يكن وحيده، بل الذي كان كذلك هو إسماعيل. ثم لما بذل إبراهيم ابنه للذبح وأطاع، أعطاه الله ولدا آخر هو إسحاق.
فأجابه إسماعيل معلنا الطاعة قائلا:
قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي قال إسماعيل: امض لما أمرك الله من ذبحي، وافعل ما أوحي إليك، سأصبر على القضاء الإلهي، وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وهذا مصداق وصفه السابق بالحلم، ومصداق ما أخبر الله عنه بقوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم 19/ 54- 55] .
(23/120)
وبدأ تنفيذ أمر الله، فقال تعالى:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وأطاعاه، وفوّضا أمرهما إلى الله، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه حتى لا تأخذه العاطفة فيتردد في الذبح، أو ألقاه على جنبه، فوقع جبينه (جانب الجبهة) على الأرض والموضع الذي أراد ذبحه فيه: هو المنحر بمنى عند الجمار.
قال مجاهد: قال إسماعيل لأبيه: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي، عسى أن ترحمني، فلا تجهز عليّ، اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي للأرض، ففعل.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أمر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات، وثم تلّه للجبين، وعلى إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قميص أبيض، فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه: أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا أن نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا لما أضجعه للذبح ناداه من خلفه من الجبل ملك: قد حصل المقصود من رؤياك، وتحقق المطلوب وصرت مصدّقا بمجرد العزم، وإن لم تذبح، وأتيت بما أمكنك.
ثم عدد الله تعالى نعمه على إبراهيم وهي:
(23/121)
1- إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثلما جازيناك بالعفو عن الذبح، والتخلص من الشدة والمحنة، نجزي كل محسن على طاعته، ونثيبه على فعله.
وهو تعليل لما أنعم الله على إبراهيم وابنه من الفرج بعد الشدة والسلامة من المحنة.
ثم عظم الله تعالى شأن هذه المحنة في العادة، فقال:
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي إن هذا الاختبار لهو الاختبار الصعب الواضح والمحنة التي لا محنة أصعب منها، حيث اختبره الله في مدى طاعته بذبح ولده، فصبر محتسبا الأجر عند ربه. وقيل: إن هذا لهو النعمة الظاهرة، يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء: إذا أنعم عليه.
2- وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أي جعلنا له فداء ولده بتقديم كبش عظيم الجثة سمين، أو عظيم القدر. قال الحسن البصري: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى (وعل) هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. وهذا قول علي رضي الله عنه.
وفي هذا دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهو مذهب المالكية، لطيب اللحم.
3- وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أي أبقينا له في الأمم القادمة ثناء حسنا وذكرا جميلا، فأحبّه أتباع الملل كلها، اليهودية والنصرانية والإسلام، وكذا أهل الشرك، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ.
سلام منا على إبراهيم ومن الملائكة والإنس والجن. وقيل: السلام: هو الثناء الجميل.
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل هذا الجزاء نجزي جميع المحسنين بالفرج
(23/122)
بعد الشدة. ولم يذكر هنا «إنا» كأمثاله اكتفاء بذكره السابق عن ذكره هنا مرة ثانية.
4- وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي ووهبناه ولدا آخر وهو إسحاق، وجعلناه نبيا صالحا من زمرة الصالحين. وهذه هي النعمة الرابعة.
5- وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي تابعنا إمدادهما بالنعم والبركات الدنيوية والأخروية، ومنها كثرة الولد والذرية، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما ونسل إسماعيل.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ أي إن بعض ذريتهما محسن فاعل للخيرات، وبعضها ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي.
وهذا دليل على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن النفع ليس بالوراثة والنسب أو الانتماء، وإنما الانتفاع بالأعمال، وأنه لا يعيب الأصول ولا ينتقصهم سوء بعض ذريتهم، لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في المنام ثلاث ليال متتابعات، لا في اليقظة بذبح ابنه، لأنه تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقا، لتقوية الدلالة على كونهم صادقين. قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. وقال سبحانه في حق يوسف عليه السلام: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف 12/ 4] . وقال تعالى في حق محمد ص خاتم النبيين: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ.. [الفتح 48/ 27] .
(23/123)
2- احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، فإنه سبحانه أمر بالذبح، وما أراد وقوعه.
3- احتجوا أيضا بالآية على جواز نسخ الحكم قبل وجود زمن الامتثال.
4- إن الذبيح بحسب دلالة هذه الآيات وترتيبها هو إسماعيل عليه السلام، لأنه هو المبشر به أولا، وأما إسحاق فبشّر به بعد إسماعيل، مما يدل على أن إسماعيل هو الابن الأكبر، وهو الذي كان ذبيحا بالاتفاق عند الأكثرين. ولو كان الذبيح إسحاق، لكان الذبح يقع ببيت المقدس، لا بالمنحر من منى، وهذا موضع الذبح اتفاقا.
ويؤيده أدلة أخرى منها:
قول النبي ص فيما رواه الحاكم في المناقب: «أنا ابن الذبيحين»
أي إسماعيل، وأبيه عبد الله الذي نذر أبوه عبد المطلب أن يذبح ولدا إذا رزق عشرة من الولد، أو إذا سهل الله عليه حفر بئر زمزم، فتم له الأمران، فأقرع، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل.
ومنها: ما نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي، أين عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.
ومنها: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر، دون إسحاق، في قوله تعالى:
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء 21/ 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضا بصدق الوعد في قوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم 19/ 54] لأنه وعد أباه الصبر على الذبح، فوفى به.
ومنها: الآثار الصحيحة المقطوع بها بان الذبيح إسماعيل عليه السلام، وهو
(23/124)
منقول عن ابن عباس، وابن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وأبي الطّفيل عامر بن واثلة من الصحابة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، ومجاهد، والشعبي، ويوسف بن مهران، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وعلقمة، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح من التابعين رضي الله عنهم، قالوا: الذبيح إسماعيل «1» . قال القرطبي: وهذا القول أقوى في النقل عن النبي ص وعن الصحابة والتابعين.
ولكن اليهود حسدوا العرب على هذا الفضل بأن يكون أبوهم إسماعيل هو الذبيح، فزادوا في التوراة وحرفوها، ودسّوا في روايات الآثار وبعض الأحاديث أن الذبيح إسحاق، وسرى ذلك بين بعض الصحابة وبعض المسلمين محتجين بدليلين:
الأول- إنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال:
إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ والمراد منه بالإجماع مهاجرته إلى الشام، ثم قال: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحاق.
ثم قال بعده: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ والغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحاق. وكذلك آخر الآية يدل أيضا على ذلك، لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وإنما بشره بهذه النبوة لتحمّله هذه الشدائد في قصة الذبيح، فأول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام.
الثاني- ما اشتهر من كتاب يعقوب عليه السلام ونصه: «من يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 17- 19، تفسير الرازي: 26/ 153 وبعدها، تفسير القرطبي: 15/ 100، تفسير الخازن 6/ 22.
(23/125)
وهذا هو المروي الصحيح عن عبد الله بن مسعود: أن رجلا قال له: يا ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله عليه السلام.
وروي ذلك أيضا عن عمر، وجابر، والعباس، وكعب الأحبار من الصحابة، وعن بعض التابعين مثل قتادة، ومسروق، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدّي، وعن مالك بن أنس، كلهم قالوا: الذبيح إسحاق. لكن يلاحظ أن لكعب الأحبار في هذه الأخبار ضلعا واضحا، وهي أخبار من الكتب القديمة غير موثوقة، وتلقاها بعض المسلمين عنه، وسرت فيما بينهم. وقد نقلنا عن ابن كثير والبيضاوي تفنيد هذه الروايات.
وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح؟ وهذا مذهب ثالث.
5- الحكمة في مشاورة إبراهيم ابنه بقوله: فَانْظُرْ ماذا تَرى: أن يطلع ابنه على هذه الواقعة، ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، والصبر درجة عالية، وليحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا، فقال إسماعيل: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
وإنما علّق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. قال بعض أهل الإشارة: لما استثنى، وفقه الله للصبر.
6- قوله فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله: دليل على أن الأب والابن كانا في درجة واحدة من التسليم والتفويض لأمر الله تعالى.
7- عدد الله تعالى بمناسبة هذه القصة على إبراهيم عليه السلام- كما تقدم- نعما خمسا: هي جزاؤه الحسن إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي نجزيهم بالخلاص
(23/126)
من الشدائد في الدنيا والآخرة، والفداء العظيم بالكبش، والثناء الحسن بين الأمم والسلام من الله، وبشارته بولد آخر، وجعل أكثر الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم من ذريته وذرية إسحاق وإسماعيل.
8- الفداء بالكبش دليل- كما تقدم- على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر.
واختلف العلماء: هل الأضحية أفضل أو الصدقة بثمنها؟ قال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى، لأنه ليس موضع الأضحية. وقال أصحاب الرأي: إن الضحية أفضل، كذلك قال أحمد بن حنبل: الضحية أفضل من الصدقة، لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل، وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله.
وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان، منها ما خرّجه الترمذي عن عائشة أن رسول الله ص قال: «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا» .
والأضحية عند الجمهور ليست بواجبة، ولكنها سنة ومعروف.
وقال أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر. وخالفه أبو يوسف ومحمد، فقالا: ليست بواجبة ولكنها سنة، غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها.
والذي يضحى به بإجماع المسلمين: الأزواج الثمانية: وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. والأخيران يجزئ الواحد منهما عن سبعة.
ويتّقى من الضحايا- كما روى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن
(23/127)
البراء بن عازب- أربع: «العرجاء البين ضلعها (عرجها) ، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي» «1» .
وفي الخبر الذي رواه أحمد والأربعة عن علي: «أمرنا رسول الله ص أن نستشرف العين والأذن..» .
9- دلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه: أنه يفديه بكبش، كما فدى به إبراهيم ابنه، قال ذلك ابن عباس. وعنه رواية أخرى: ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه. روى الشعبي عنه الروايتين. والأولى أصح.
وقال الشافعي: هو معصية يستغفر الله منها.
وقال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة، ولا يلزمه في غير ولده شيء. وهذا قول ابن العربي أيضا، لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة، والله تعالى يقول: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج 22/ 78] والإيمان: التزام أصلي، والنذر التزام فرعي، فيجب أن يكون محمولا عليه.
10- بشر الله بنبوة إسحاق من الأنبياء الصالحين، وكان هذا بعد إيراد قصة الذبيح، مما يدل على أنه إسماعيل. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
ثم قال: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ أي على إسماعيل وعلى إسحاق، كنى به، لأنه قد تقدم ذكره، ثم قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. والأدق أن يقال: باركنا على إبراهيم في أولاده.
__________
(1) النّقي: مخّ العظام وشحمها، يريد أنه لا يوجد فيها شحم لهزالها وضعفها.
(23/128)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
11- لما ذكر تعالى البركة في الذرية والكثرة، قال: منهم محسن ومنهم مسيء، وأن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة، فاليهود والنصارى، وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء، والمؤمن والكافر. وفي التنزيل رد عليهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الآية [المائدة 5/ 18] أي أبناء رسل الله، فرأوا لأنفسهم فضلا.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
المفردات اللغوية:
مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ نجيناهما من تغلب فرعون واستعباده بني إسرائيل قومهما، ومن الغرق وَنَصَرْناهُمْ الضمير يعود عليهما مع القوم، والنصر على القبط فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه.
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه وفيما أتى به من الحدود والأحكام وغيره، وهو التوراة الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الموصل إلى الحق والصواب وَتَرَكْنا أبقينا عليهما ثناء حسنا سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ سلام منا عليهما إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين المطيعين لله. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ شهادة لهما بالإيمان، وهي علة الإحسان إليهما.
(23/129)
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، فبعد أن ذكر الله تعالى إنجاء إسماعيل من الذبح، ونجاة إبراهيم من النار، ذكر هنا ما منّ به على موسى وهارون من وجوه الإنعام المحصورة في نوعين: إيصال المنافع إليهما في قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ودفع المضار عنهما في قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي تالله لقد أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية. أما منافع الدنيا كما ذكر الرازي: فالوجود والحياة والعقل والتربية والصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما.
وأما منافع الدنيا: فالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات: النبوة الرفيعة، المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة. وتفصيل هذه النعم في قوله تعالى:
1- وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي ونجيناهما وقومهما بني إسرائيل من استعباد فرعون إياهم، بقتل الآباء واستحياء النساء وتشغيلهم في أخسّ الأشياء والصناعات والمهن، كما نجيناهما مع القوم من الغرق الذي أهلك فرعون وقومه قبط مصر.
2- وَنَصَرْناهُمْ، فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي نصرناهم على أعدائهم، فغلبوهم، وأخذوا أرضهم وأموالهم التي جمعوها طوال حياتهم، فكانوا أصحاب الدولة بعد أن كانوا رعية أذلاء.
3- وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي وأنزلنا عليهما الكتاب العظيم الواضح الجلي الشامل لأمور الدنيا والآخرة، وهو التوراة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ.. [المائدة 5/ 44] وقال
(23/130)
سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء 21/ 48] .
4- وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أرشدناهما إلى طريق الحق والصواب في الأقوال والأفعال، والإسلام وشرع الله.
5- وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ أبقينا لهما من بعدهما ذكرا حسنا جميلا وثناء حسنا في الأمم المتأخرة. قال ابن كثير والشوكاني وغيرهما: ثم فسره بقوله: سَلامٌ ... إلخ. وقال آخرون: الآتي كلام مستقل، وهو ما أرجحه، لكثرة الفوائد.
6- سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ أي سلام منا على موسى وهارون، ومن الملائكة والإنس والجن أبد الدهر.
والسبب ما قاله تعالى:
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي مثل هذا الجزاء نجزي بالخلاص من الشدائد والمحن كل من أحسن عمله فأطاع الله وانقاد له، وعلة الإحسان: أنهما من زمرة عبادة الله المؤمنين إيمانا صحيحا كاملا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- أنعم الله على موسى وهارون بنعم كثيرة دينية ودنيوية، أرفعها درجة النبوة، ثم ذكر تعالى هذه النعم وهي:
أ- نجاهما وقومهما بني إسرائيل من الرق الذي لحق بني إسرائيل واستعباد فرعون لهم، وقيل: من الغرق الذي لحق فرعون.
ب- نصرهما وقومهما على أعدائهم قبط مصر.
(23/131)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
ج- أنزل عليهما التوراة الكتاب المنير الواضح البليغ في بيانه الشامل لمصالح الدنيا والآخرة.
د- هداهما إلى الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام بالمعنى العام القائم على التوحيد، وأرشدهما إلى طريق الحق والصواب، وأمدهما بالتوفيق والعصمة.
هـ- أبقى عليهما الثناء الحسن بين الأمم، وتلك نعمة عظمي.
وحظيا بالسلام من الله تعالى ومن الملائكة والإنس والجن أبد الدهر.
2- إن سنة الله تعالى الدائمة الجزاء الحسن للمحسنين أعمالهم بالخلاص من الشدائد، والسلامة من المحن، وذلك يشمل موسى وهارون عليهما السلام وأمثالهما.
3- إن سبب هذه الفضائل: الإيمان الذي هو أشرف وأعلى وأكمل من كل الفضائل.
قصة إلياس عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
(23/132)
الإعراب:
اللَّهَ رَبَّكُمْ.. اللَّهَ: منصوب على أنه بدل من قوله تعالى: أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ويقرأ بالرفع على الابتداء، ورَبَّكُمْ: الخبر.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ مفعول تَرَكْنا محذوف، تقديره: وتركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن، ثم ابتدأ فقال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ سَلامٌ: مبتدأ، وخبره الجار والمجرور بعده، والجملة في موضع نصب ب تَرَكْنا. وإِلْ ياسِينَ: إما لغة في إلياس كميكال وميكائيل، وإما جمع (إلياسي) فحذف ياء النسب، كالأعجميين والأشعريين، وإنما حذفت لثقلها وثقل الجمع، وقد تحذف هذه في جمع التكسير، وفي جمع التصحيح مثل المهالبة جمع المهالبيّ.
البلاغة:
تَدْعُونَ وَتَذَرُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
إِلْياسَ أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو إلياس بن ياسين سبط هارون أخ موسى، بعث بعده، أرسل إلى قوم في بعلبك ونحوها. إِذْ منصوب بفعل مقدر هو: اذكر. قالَ لِقَوْمِهِ: أَلا تَتَّقُونَ أي تتقون الله، فتعبدونه، وتتركون ما ينهاكم الله عنه من الشرك والمعاصي، فتأمنون عذاب الله. أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي أتعبدون بعلا وهو اسم لصنم من ذهب، كان لأهل بعلبك، وبه سمي البلد أيضا مضافا إلى (بك) في لبنان. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ تتركون عبادة الله تعالى الذي هو أحسن المصورين الخالقين.
اللَّهَ رَبَّكُمْ.. الذي يربيكم بنعمه بعد أن أوجدكم من العدم، أنتم وأجدادكم، فهو الذي تحقّ له العبادة. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين اصطفاهم الله للطاعة، وأخلصوا لله العبادة، فهم ناجون من العذاب. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا.
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي سلام منا على إلياس، أو عليه وعلى قومه الذين آمنوا معه، فجمعوا تغليبا، كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون. وقرئ: آل ياسين بالمد، والمراد به أهل إلياس.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من أحسن عمله لله. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علة الإحسان المتقدم.
(23/133)
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، والمقصود بها بيان جهود النبي إلياس عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل في الدعوة إلى توحيد الله، ومقاومة الشرك وعبادة الأصنام، كمن تقدمه من الأنبياء مثل نوح وإبراهيم عليهما السلام.
التفسير والبيان:
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل عليه السلام، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له (بعل) فدعاهم إلى توحيد الله تعالى، ونهاهم عن عبادة ما سواه.
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَلا تَتَّقُونَ أي اذكر حين قال لقومه: هلا تخافون الله عز وجل في عبادتكم غيره، وتتركون ما ينهاكم عنه من الشرك والمعاصي.
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي أتعبدون صنما أنتم صنعتموه، وتتركون عبادة المستحق للعبادة وحده لا شريك له؟ فهو الذي صوّركم وأنشأكم، وهو أحسن المصورين الخالقين، ولا خالق سواه، وهو الذي يربيكم بنعمه بعد أن أوجدكم من العدم، أنتم وأجدادكم.
ويلاحظ الترتيب أنه لما عابهم على عبادة غير الله، صرح بالتوحيد ونفي الشركاء.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي فكذبوا دعوته ونبوته، فصاروا بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب يوم القيامة، ويجازون على ما قدموا من سوء الأعمال.
(23/134)
ثم استثنى الله تعالى من كان مؤمنا من قومه، الذين وحدوا الله توحيدا خالصا وعبدوه، وأخلصوا العمل لله، فهؤلاء ناجون من العذاب، مثابون ثوابا حسنا على صالح أعمالهم، لا يحضرون العقاب المقرر للمشركين.
ثم ذكر الله تعالى ما أنعم به على النبي إلياس، فقال:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا عليه ثناء جميلا في الأمم المتتالية.
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي سلام من الله وملائكته وإنسه وجنّه على إلياس الذي آمن بكتاب الله، وقاوم الشرك والوثنية. وفي قراءة آل ياسين أي عليه وعلى أهل دينه الذين آمنوا برسالته، واتبعوا الحق.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي كما جازيناه بالتخلص من الشدة والمحنة، نجازي كل محسن عمله لله تعالى، وعلة الجزاء الحسن: أنه مؤمن من جملة عباد الله المصدقين بوجود الله وتوحيده واتصافه بالصفات الحسنى.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن إلياس عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين إلى قومه الذين عبدوا الأصنام، وتركوا عبادة الله تعالى.
2- لقد حذّرهم إلياس من عذاب الله، وعابهم على عبادة الأصنام، وأمرهم بما فيه ترغيب وتعقل أمرا بعبادة الله الخالق الرازق المنعم، الذي يربيهم بنعمه، هم وأجدادهم المتقدمون، وكذا الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة.
3- أخبر الله تعالى عن قوم إلياس أنهم كذبوه فاستحقوا الإحضار إلى عذاب جهنم في الآخرة.
(23/135)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
4- نجّى الله من العذاب الذين آمنوا بالله من قومه.
5- أبقى الله على إلياس الثناء الجميل في الأمم المتعاقبة والأجيال المتلاحقة.
6- سلام من الله وملائكته وإنسه وجنّه على إلياس على مدى الحياة.
7- يجزي الله الجزاء الأوفى كل من أحسن عمله لله تعالى، وسبب الجزاء لإلياس ومن آمن معه: أنه مؤمن بالله إيمانا صادقا خالصا من أي شائبة.
قصة لوط عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
المفردات اللغوية:
وَإِنَّ لُوطاً هو لوط بن هاران أخي إبراهيم عليه السلام ابن تارح، آمن بإبراهيم، وأرسله الله إلى أهل سدوم أهل المنكرات والمعاصي والفواحش. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.
دَمَّرْنَا
أهلكنا. الْآخَرِينَ
كفار قومه. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم وآثارهم في أسفاركم ومتاجركم إلى الشام، فإن (سدوم) في طريقه.
مُصْبِحِينَ
وقت الدخول في الصباح، أي أول النهار. وَبِاللَّيْلِ
أي وفي المساء. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟
أفليس فيكم عقل تعتبرون به يا أهل مكة؟
المناسبة:
هذه هي القصة الخامسة من قصص هذه السورة، ذكرها تعالى ليعتبر بها مشركو العرب، فإن الذين كفروا وعصوا من قوم لوط عليه السلام هلكوا، والذين آمنوا نجوا.
(23/136)
التفسير والبيان:
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي وإن لوطا من الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى قومه (أهل سدوم) لارتكابهم الفواحش، فنصحهم فأبوا نصحه، فأهلكهم الله بالزلزال أو بالصيحة والحجارة المحرقة، فجعل بلادهم عاليها سافلها، ونجاه وأهله الذين آمنوا به إلا امرأته، كما قال تعالى:
إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي نجينا لوطا وأهله المؤمنين به جميعا، إلا امرأته، فإنها هلكت وبقيت في العذاب، لرضاها بفعل القوم، وتواطؤها معهم على القوم الذين يأتون إلى لوط عليه السلام.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
أي ثم أهلكنا قومه الذين كذّبوا برسالته وهم أهل الفاحشة (اللواط) عدا من نجيناهم.
وهنا نبّه الله تعالى مشركي مكة إلى الاعتبار بمصير هؤلاء المكذبين العصاة، فقال:
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ
أي وإنكم يا أهل مكة تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب في وقت الصباح، أي بالنهار ذهابا إلى الشام، وفي الليل أثناء رجوعكم من الشام أفلا تتدبرون بعقل واع، وتتعظون بما تشاهدونه في ديارهم من آثار التدمير وعقوبة الله النازلة بهم، فتخافوا من أن يحلّ بكم نفس العذاب، وتصيروا إلى مثل المصير، لمخالفتهم رسولهم.
وأشار الله تعالى إلى الصباح والليل، لأن المسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار.
فقه الحياة أو الأحكام:
يقص الله تعالى قصص الأنبياء السابقين للعظة والعبرة، ومن هذه
(23/137)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
القصص: قصة لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم، فأرشدهم إلى عبادة الله تعالى، وترك عبادة الأصنام، واجتناب الفواحش والمنكرات، ومنها إتيان الرجال، فكذبوه وعصوا أمر ربهم، فعاقبهم الله بالزلزال، فدمر ديارهم وأهلكهم، ونجّى الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته إلا زوجته التي كانت راضية بأفعال القوم، وتدلهم على ضيوف لوط عليه السلام.
هذه عبرة وأي عبرة، لذا حذّر تعالى مشركي مكة الذين يرون في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام آثار ذلك الدمار، ونبههم إلى ضرورة العظة والاعتبار بمصير هؤلاء الذين كذبوا رسولهم، حتى لا يحل بهم ما حل بغيرهم.
قصة يونس عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
الإعراب:
أَوْ يَزِيدُونَ أَوْ: إما للتخيير، أي يتخير الرائي في أن يعدهم مائة ألف أو يزيدون، وإما للشك من الرائي، إذا رآهم شك في عدتهم لكثرتهم، وإما بمعنى (بل) وإما بمعنى الواو، والوجهان الأولان مذهب البصريين، والوجهان الآخران مذهب الكوفيين.
البلاغة:
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
في أَبَقَ
استعارة تصريحية، شبه خروج يونس عليه السلام بغير إذن ربه بإباق العبد، أي هربه من سيده.
(23/138)
المفردات اللغوية:
وَإِنَّ يُونُسَ
هو نبي الله يونس بن متى، من أنبياء اليهود بني إسرائيل في الظاهر أرسله الله عقيب نبوته إلى مدينة كبري ليدعو أهلها (هم أهل نينوى) إلى توحيد الله، وترك الوثنية.
أَبَقَ
أصل الإباق: الهرب من السيد، والمراد هنا أنه ترك البلد بغير إذن ربه. الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
السفينة المملوءة في صورة المغاضب لربه، وهو في الحقيقة غاضب من قومه، لمّا لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم به، فركب السفينة، فوقفت في لجّة البحر، فقال الملاحون: هنا عبد أبق (هرب) من سيده، تظهره القرعة.
فَساهَمَ
فقارع من في الفلك، أي اقترع أهل السفينة. الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين بالقرعة، فقال: أنا الآبق، فألقوه في البحر. فَالْتَقَمَهُ ابتلعه. مُلِيمٌ آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر، وركوبه السفينة بلا إذن من ربه. الْمُسَبِّحِينَ الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره، وفي بطن الحوت بقوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أحياء، أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
فَنَبَذْناهُ ألقيناه من بطن الحوت، بأن حملنا الحوت على لفظه. بِالْعَراءِ بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، في الساحل، في يومه أو بعد أيام، والله أعلم، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، حتى انتهوا إلى البر، فلفظه.
وَهُوَ سَقِيمٌ عليل مما ناله، قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي فوقه. شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وهو الدّباء أو القرع المعروف، غطّته بأوراقها عن الذباب، وظلّلته بساق على خلاف العادة في امتداد القرع على الأرض، معجزة له، وقيل: هو الموز يتغطى بورقه، ويستظل بأغصانه، ويفطر على ثماره، وقيل: التين.
قيل لرسول الله ص: إنك لتحب القرع؟ قال: «أجل، هي شجرة أخي يونس» .
ويقال: وكانت تأتيه وعلة صباحا ومساء يشرب من لبنها حتى قوي.
وَأَرْسَلْناهُ بعد ذلك إلى قوم هم أهل نينوى من أرض الموصل. إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، إذا نظر إليهم قال: هم مائة ألف أو أكثر، والمراد: الوصف بالكثرة.
فَآمَنُوا عند معاينة أمارات العذاب الموعودين به. فَمَتَّعْناهُمْ أبقيناهم ممتعين بما لهم في الدنيا. إِلى حِينٍ إلى أجلهم المسمى ومنتهى أعمارهم.
المناسبة:
هذه هي القصة السادسة والأخيرة في هذه السورة، وإنما جعلت خاتمة
(23/139)
للقصص، لأن يونس عليه السلام لما لم يصبر على أذى قومه، وأبق إلى الفلك، وقع في تلك الشدائد، وفي هذا عبرة ودرس وتعليم للنبي ص ليصبر على أذى قومه.
جاء في الصحيحين عن رسول الله ص أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى»
ونسبه إلى أمه،
وفي رواية: إلى أبيه.
التفسير والبيان:
ذكر الله يونس في القرآن باسمه أربع مرات «1» ، وذكره بوصفه مرتين، في سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [87] وفي سورة القلم:
وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [48] .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
إن يونس بن متى وهو ذو النون أحد الأنبياء المرسلين إلى قومه أهل نينوى بالموصل. قال المفسرون: كان يونس قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب، خرج عنهم وقصد البحر، وركب السفينة، فكان كالفارّ من مولاه، فوصف بالإباق.
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي اذكر حين هرب من قومه مغاضبا قومه إلى السفينة المملوءة بغير إذن ربه، فقارع أهل السفينة، فكان من المغلوبين في القرعة التي اقترعوها ليلقوا بعضهم في البحر، خوفا من غرق السفينة الثقيلة الحمولة، فألقوه في البحر بعد أن وقعت القرعة عليه ثلاث مرات.
وأصل الإباق: هرب العبد من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه، وصف به.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فابتلعه الحوت، وهو مليم نفسه على ما فرط
__________
(1) في سورة النساء (163) والأنعام (86) ويونس (98) والصافات (139) .
(23/140)
منها أو هو آت ما يلام عليه، من ترك قومه بغير إذن ربه، وكان عليه أن يصبر على أذى قومه. والخروج بغير إذن الله كبيرة على الأنبياء، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي لولا أنه كان في حياته من الذاكرين الله كثيرا، المسبحين بحمده، المصلين له، للبث ميتا في بطن الحوت، وصار له قبرا إلى يوم القيامة، لأن العادة أن يهضم كسائر أنواع الغذاء.
جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره النووي في الأربعين النووية عن ابن عباس في رواية غير الترمذي: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»
وكما كان مسبّحا ربه في حياته، سبح الله في بطن الحوت، كما قال عز وجل:
فَنادى فِي الظُّلُماتِ: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء 21/ 87- 88] .
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ألقيناه، بأن جعلنا الحوت يلقيه، في مكان خال ليس فيه شجر ولا نبت ولا بناء، على جانب دجلة، وهو عليل الجسم ضعيف البدن، كهيئة الصبي حين يولد.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي أنبتنا عليه شجرة فوقه تظلل عليه هي شجرة الدّبّاء وهو القرع، وهذا سريع النمو، وقدرة الله تجعل الشيء كن فيكون. ذكر بعضهم في القرع فوائد: منها سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمرته، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبّه وقشره أيضا. وقد ثبت أن رسول الله ص كان يحب الدباء، ويتتبعه من حواشي الصّحفة. وقد مكث يونس في هذه الحالة حتى اشتد لحمه ونبت شعره، ثم جاءه الأمر الإلهي:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا، فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي
(23/141)
أرسله الله عائدا إلى القوم الذين هرب منهم إلى البحر، وهم أهل نينوى من أرض الموصل، وعددهم مائة ألف، بل أكثر من ذلك، فهم يزيدون عن هذا العدد، فدعاهم إلى ربه مرة أخرى، فصدقوه كلهم وآمنوا به، بعد ما شاهدوا أعلام نبوته، وأمارات العذاب، فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم، كقوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 10/ 98] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت قصة يونس إلى ما يأتي:
1- وقعت حادثة التقام الحوت يونس عليه السلام بعد أن صار رسولا، لقوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
أي أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك.
2- لا يصح لنبي المهاجرة عن بلد القوم الذين أرسل إليهم إلا بإذن ربه، فلما ذهب يونس عليه السلام بغير إذن ربه، وصف فعله بالإباق. قال العلماء:
إنما قيل ليونس: أبق عن العبودية، لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل، مستترا من الناس. وإنما العبودية: ترك الهوى، وبذل النفس عند أمور الله عز وجل، فلما آثر هواه لزمه اسم الآبق.
ولم يبين لنا القرآن الكريم سبب إباقه، وقد فهم ذلك بالأمارات.
3- القرعة جائزة شرعا، وملزمة الأثر كالقسمة، لقوله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
. لكن المستقر في تشريعنا أنه لا يجوز الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر، وإنما تطبق عليه الحدود والتعزيرات على مقدار جنايته.
وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه.
(23/142)
4- أتى يونس عليه السلام بما يلام عليه، فأصابته القرعة ثلاث مرات، فألقوه في البحر، تخفيفا لحمولة السفينة، فالتقمه الحوت، وهو آت بما يلام عليه.
5- لم يبين القرآن الكريم مدة لبثه في بطن الحوت، لذا اختلف العلماء في تعيين المدة، فقيل: بعض يوم، أو ساعة واحدة، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل:
سبعة أيام، وقيل: عشرين يوما، وقيل: أربعين يوما «1» . والمعول عليه أن الله أبقاه حيا في بطن الحوت، فجعله عسير الهضم عليه، في مدة قليلة أو كثيرة، معجزة له.
6- لقد نجى الله تعالى يونس عليه السلام، لأمرين: أنه كان من المسبحين الذاكرين الله كثيرا طوال عمره، ومن تعرف على الله وقت الرخاء عرفه وقت الشدة، وأنه أعلن توبته في بطن الحوت الذي حماه الله من هضمه، فقال:
لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. لذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. وقال الحسن البصري: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء، فذكّره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر وجد متكأ.
ومن هذا المعنى
قوله ص فيما رواه الضياء عن الزبير: «من استطاع منكم أن تكون له خب (أي خبيئة) من عمل صالح فليفعل»
أي فليجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويسترها عن خلقه، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه.
أما تسبيحه فقال القرطبي: الأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان.
جاء في كتاب أبي داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي ص قال: «دعاء ذي النون
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 123
(23/143)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له» .
7- كان من تتمة نعمة الله على يونس عليه السلام أنه بعد أن ألقاه الحوت، وهو في حال من الضعف، بساحل قرية من الموصل، أنبت عليه لحمايته وتظليله شجرة من يقطين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: طرح يونس بالعراء، وأنبت الله عليه يقطينة، قلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة؟ قال:
شجرة الدّبّاء، هيأ الله له أروية «1» وحشية تأكل من خشاش الأرض- أو هشاش الأرض- فتفشج «2» عليه، فترويه من لبنها، كل عشية وبكرة حتى نبت.
8- بعد أن اشتد لحمه ونبت شعره، أعاده الله إلى قومه الذين يزيد عددهم عن مائة ألف، فدعاهم إلى ربه، فآمنوا لما رأوا أعلام نبوته، ليظهر الله إرادته وقدرته له في الإيمان، ولما آمنوا أزال الله الخوف عنهم، وآمنهم من العذاب، ومتعهم الله بمتاع الدنيا إلى منتهى أعمارهم.
تفنيد عقائد المشركين
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
__________
(1) الأروية: الأنثى من الوعول. [.....]
(2) تفشج: تفرج ما بين رجليها.
(23/144)
الإعراب:
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ مكسورة بعد أَلا لأنها مبتدأة، ولولا اللام في لَيَقُولُونَ لجاز فتحها على أن تكون أَلا بمعنى: حقا، تقول: أحقا أنك منطلق.
أَصْطَفَى الْبَناتِ.. قرئ بهمزة من غير مد، أصله «اصطفى» بهمزة وصل، فأدخلت عليه همزة الاستفهام، فاستغني بها عن همزة الوصل، فحذفت، مثل «أستغفرت» . ومن قرأه بالمد أبدل من همزة الوصل مدة كإبدال همزة لام التعريف، نحو: آلرجل عندك، ونحو آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس 10/ 59] .
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ مَنْ: في موضع نصب ب بِفاتِنِينَ وقرئ صالِ الْجَحِيمِ وفيه ثلاثة أوجه: إما حذف لام صالِ وهي الياء، وإما قلب اللام التي هي الياء من «صالي» إلى موضع العين، فصار «صايل» ثم حذف الياء، فبقيت اللام مضمومة، وفيه بعد، وإما أصله «صالون» جمع صال، حملا على معنى «من» فحذفت النون منه للإضافة، وحذف الواو لالتقاء الساكنين.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ تقديره: وما منا أحد إلا له مقام معلوم.
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ إن: مخففة من الثقيلة، وتقديره: وإنهم كانوا ليقولون، ودخلت اللام فرقا بين المخففة والثقيلة.
البلاغة:
الْبَناتِ والْبَنِينَ بينهما طباق.
أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ: تتابع الاستفهام للتوبيخ.
(23/145)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأصل: وتجعلون، للإهمال والإبعاد من رحمة الله.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَفْتِهِمْ استخبرهم واطلب منهم الفتيا توبيخا لهم، وهو معطوف على مثله في أول السورة، فإنه تعالى أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات، ولأنفسهم البنين، في قولهم: الملائكة بنات الله. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ بزعمهم أن الملائكة بنات الله. وَلَهُمُ الْبَنُونَ فيختصون بالأعلى، ويجعلون لله الأدنى.
وَهُمْ شاهِدُونَ الخلق، لأن أمثال ذلك لا يعرف إلا بالشهود أو الحضور.
أَمْ بمعنى «بل» الإضرابية، مع همزة الاستفهام. إِفْكِهِمْ الإفك: أشد الكذب.
وَلَدَ اللَّهُ بقولهم: الملائكة بنات الله. لَكاذِبُونَ فيما ادعوه، وتدينوا به. أَصْطَفَى اختار، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء. وهو استفهام إنكار واستبعاد.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد الذي لا يرتضيه عقل. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أنه منزه عن ذلك من الولد والشريك والند والنظير. سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة، نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته، أو أن لله ولدا. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في ادعائكم أو قولكم ذلك.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي جعل المشركون بينه تعالى وبين الملائكة نسبا أي صلة وارتباطا بقولهم: إنها بنات الله، وسموا بالجنّة لاستتارهم عن الأبصار. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ إن الكفرة قائلي ذلك. لَمُحْضَرُونَ للنار للعذاب فيها. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله. عَمَّا يَصِفُونَ من الولد (بأن لله ولدا) والنسب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن عباد الله الذين اصطفاهم ربهم ينزهون الله تعالى عما يصفه هؤلاء، وهو استثناء منقطع.
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ من الأصنام، وهو عود لخطابهم. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ على الله بِفاتِنِينَ أحدا، مفسدين الناس بالإغواء، حاملين إياهم على الضلال والفتنة. وعليه: متعلق بفاتنين. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها لا محالة، يقال: صلي النار: دخلها.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي قال جبريل للنبي ص: ما منا معشر الملائكة أحد إلا له مقام معلوم في السموات، يعبد الله فيه لا يتجاوزه. وهذا اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ صفوفا في أداء الطاعة ومنازل الخدمة. وَإِنَّا لَنَحْنُ
(23/146)
الْمُسَبِّحُونَ
المنزهون الله عما لا يليق به. وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي وإن كان كفار مكة ليقولون. وَإِنْ مخففة من الثقيلة أي وإنهم.
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ كتابا من الكتب التي أنزلت على الأمم الماضية. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له، ولم نخالف مثلهم. فَكَفَرُوا بِهِ أي لما جاءهم القرآن الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها كفروا به. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.
سبب النزول:
نزول الآية (158) :
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ..: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش: سليم، وخزاعة، وجهينة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشا وأجناس العرب: جهينة وبني سلمة، وخزاعة، وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: قال كبار قريش:
الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا، بنات سراة الجن، فأنزل الله وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ.
نزول الآية (165) :
وَإِنَّا لَنَحْنُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فأمرهم النبي ص أن يصفوا.
المناسبة:
بعد افتتاح هذه السورة بتوبيخ المشركين على إنكارهم البعث، وبعد بيان قصص الأنبياء التي هي في الأعم الأغلب درس بليغ للمشركين، بدأ الله تعالى
(23/147)
ببيان عقائد المشركين وتفنيدها وتقبيحها، ومن تلك العقائد: إثبات الأولاد لله تعالى، ونسبة البنات لله بقولهم: «الملائكة بنات الله» وجعل البنين لأنفسهم، ثم افتراؤهم بجعل الملائكة إناثا لا ذكورا، ثم أعلن تعالى حملته الشديدة على المشركين، فأبان أنهم عاجزون عن إضلال أحد إلا إذا كان هو من أهل الضلال وأصحاب الجحيم، في علم الله السابق. وناسب بعدئذ إيراد تصريح الملائكة بعبوديتهم لله للرد على المشركين الذين زعموا أنهم بنات الله.
التفسير والبيان:
عطف الله تعالى هذه الآيات على قوله في أول السورة: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فقال: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أي استخبرهم يا محمد على سبيل التوبيخ، وسلهم مؤنبا ومقرعا ومنكرا على هؤلاء المشركين في قسمتهم وسفه عقولهم، في جعلهم لأنفسهم البنين، وهو النوع الجيد، ولله تعالى البنات التي يكرهونها أشد الكره، كما قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل 16/ 58] أي يسوؤه ذلك، ولا يختار لنفسه إلا البنين، فكيف يجعلون لله أدنى الجنسين وهو الإناث، ولهم أعلاها وهم الذكور؟.
والمراد بالآية: بيان جور القسمة وإظهار شدة الغرابة، كيف نسبوا إلى الله تعالى النوع الذي لا يختارونه لأنفسهم؟ كما في قوله عز وجل: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 21- 22] .
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ بل كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث، وما شاهدوا خلقهم؟ وهذا انتقال عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه، فكيف جعلوهم إناثا، وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا، فلم يقم لهم دليل يدل على قولهم، لا من النقل الصحيح، ولا من العقل السليم.
(23/148)
ونظير الآية قوله سبحانه: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف 43/ 19] أي ويسألون عن ذلك يوم القيامة.
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي إن قولهم هذا هو من الكذب والافتراء، الذي لا دليل له ولا شبهة دليل. فكيف يقولون: صدر منه الولد، إنهم فيما يقولون أكذب الكاذبين.
وبه يتبين أنهم ذكروا في الملائكة ثلاثة أوصاف في غاية الكفر والكذب، وهي أنهم جعلوهم بنات الله، فنسبوا الولد لله، وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون الله.
ثم أنكر الله تعالى عليهم حكمهم الجائر فقال:
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ المعنى: أي شيء يحمله على اختيار البنات دون البنين؟ كما قال تعالى:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الإسراء 17/ 40] أي كيف يعقل تفضيله البنات على البنين، مع أن البنين أفضل؟
أليس لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟ أفلا تعتبرون وتتفكرون فتتذكروا بطلان قولكم؟.
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ المعنى: بل ألكم حجة واضحة على هذا القول؟ فإن كان لكم برهان، فهاتوا برهانا على ذلك، مستندا إلى كتاب منزّل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه، إن صدقتم في ادعائكم.
(23/149)
ويلاحظ من تتابع هذه الاستفهامات وتكرارها مدى التوبيخ والتبكيت والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، فإن ما يقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوزه العقل أصلا.
ثم أكد الله تعالى افتراء المشركين على الله بنسبة الملائكة إليه نسبا، فقال:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي جعل المشركون بين الله وبين الجن وهم هنا الملائكة صلة نسب، فقالوا: الملائكة بنات الله، وسموا جنا لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار.
والقائل بهذه المقالة كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن، فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وما هذا إلا وهم واختراع القصاصين منهم، وقيل:
القبائل هم اليهود، قالوا لعنهم الله: إن الله صاهر الجن، فكانت الملائكة من بينهم. وكل هذا بسبب تشبيه الخالق عز وجل بالبشر، ووصفه بالمادية الجسدية، وهو كفر.
ثم أخبر الله تعالى عن عذابهم قائلا:
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي وتالله، لقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينهم وبينه تعالى نسبا، إن أولئك المشركين لمحضرون للحساب والعذاب في النار، لكذبهم وافترائهم بقولهم المتقدم.
ثم نزّه الله تعالى نفسه عن كل ما لا يليق به من نقائص البشر، قائلا.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله تعالى وتقدس عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون، وتعالى علوا كبيرا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن عباد الله المخلصين وهم المتّبعون للحق
(23/150)
المنزل على كل نبي مرسل ناجون، فلا يحضرون إلى عذاب النار، وهذا استثناء منقطع.
ثم تحدى الله تعالى المشركين، وأثبت عجزهم عن إضلال أحد أو فتنته، فقال مخاطبا المشركين:
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ «1» الْجَحِيمِ أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بقادرين على فتنة أحد عن دينه وإضلاله إلا من هو أضل منكم ممن هو من أهل الجحيم الذي سبق في علم الله تعالى أنهم لما علم من سوء استعدادهم ممن يدخلون النار ويصلونها، وهم المصّرون على الكفر، كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] فهذا النوع من الناس: هو الذي ينقاد للشرك والضلالة، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات 51/ 8- 9] أي إنما يضل به من هو مأفوك مبطل.
ثم نزه الله تعالى الملائكة مما نسبوا إليه من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هذا حكاية من الله تعالى عما تقوله الملائكة معناه: وما منا ملك إلا له مرتبة معلومة من المعرفة والعبادة والمكان، لا يتجاوزها. والمراد به الإشارة إلى درجاتهم في طاعة الله تعالى، مبالغة في العبودية لله عز وجل.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ص: «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد، أو قائم» «2» .
__________
(1) هذا محمول على معنى من ومعناها جماعة، فالتقدير: صالون، ثم حذفت النون للإضافة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
(2)
رواه ابن مردويه عن أنس بلفظ: «أطت السماء، ويحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر، إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبّح الله بحمده» .
(23/151)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي قالت الملائكة أيضا:
وإنا لنحن الصافون صفوفا في مواقف العبودية، وإنا لنحن المسبحون باللسان وبالصلاة، المنزهون الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد فقراء لله. والمقصود أن صفات الملائكة هي التذلل والعبادة لله، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله، وهو إشارة إلى درجاتهم في المعارف، كما أن الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة.
ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله ص، ونحن في المسجد، فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله، كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمّون الصفوف الأوّل، ويتراصّون في الصف» .
وفي صحيح مسلم أيضا عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا» .
وكان عمر رضي الله عنه إذا قام للصلاة يقول: أقيموا صفوفكم، واستووا، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها، ويقرأ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر.
ثم ذكّر تعالى بما كان يقول المشركون قبل البعثة النبوية: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي إن المشركين كانوا قبل بعثة النبي ص، إذا عيّروا بالجهل، قالوا: لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكفر به، فجاءهم محمد ص بالذّكر المبين فكفروا به، وسوف يعلمون عاقبة كفرهم ومغبته. وهذا وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم وبالقرآن وبالرسول ص.
(23/152)
وذلك كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر 35/ 42] وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ، وَصَدَفَ عَنْها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام 6/ 156- 157] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما هو آت:
1- من أكاذيب المشركين الوثنيين وافتراءاتهم أنهم قالوا: البنات لله.
والملائكة بنات الله، والملائكة إناث، وكل ذلك باطل، لأنهم نسبوا لله الولد وهو الذي لم يلد ولم يولد، وكان يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه، كيف يمكن إثباته للخالق، ولم يشهدوا كيفية تخليق الله الملائكة، فكيف يزعمون أنهم إناث؟!! 2- لكل هذا وبخهم الله تعالى بجمل متتابعة متكررة من الاستفهامات المذكورة في الآيات، والتي تناقض الحس والعقل والمنطق والنظر، ولا دليل عليها من نقل يوثق به، ولا تعتمد على حجة وبرهان.
3- قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، جاعلين نسبا بينه وبينهم، والملائكة مبرؤون من هذا الزعم، ويعلمون يقينا أن أولئك الكفار محضرون للعذاب في نار جهنم.
4- نزّه الله تعالى نفسه عما قالوا من الكذب، وعما وصفوا من المزاعم،
(23/153)
وذلك تنزيه واجب واقع لا شك فيه، يستحق ربنا به تمام الحمد والشكر على تعريفنا بما يجب لذاته الكريمة من تقديس.
5- إن عباد الله المخلصين لله العبادة، المتبعين أوامر ربهم، هم الناجون.
6- لا يقر هؤلاء الكفار ولا آلهتهم التي يعبدون من دون الله على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان سبق في علم الله أنه من أهل النار، لإصراره على الكفر، وعدم استعداده للإيمان.
قال الرازي: وهذا دليل لأهل السنة على أنه لا تأثير لإغواء الشيطان ووسوسته، وإنما المؤثر قضاء الله وتقديره، لأن قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ تصريح بأنه لا تأثير لقولهم، ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره «1» . وهي رد على القدرية. فإن حكم الله وقدره لا جبر فيه ولا إكراه.
7- وصف الملائكة أنفسهم بثلاث صفات، تعظيما لله عز وجل، واعترافا بالعبودية له، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم، وهي: أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها، ودرجة لا يتعدى عنها، وأنهم صافون صفوفا في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأنهم دائما يسبحون الله تعالى، والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به.
وجاءت الصفتان الثانية والثالثة بصفة الحصر، ومعناه: أنهم في مواقف العبودية لا غيرهم، وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر، كما ذكر الرازي. ثم عقب على ذلك قائلا: فكيف يجوز مع هذا الحصر أن
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 170
(23/154)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
يقال: البشر تقرب درجته من الملك، فضلا عن أن يقال: هل هو أفضل منه أم لا؟!! 8- إن أخبار قريش عجيبة وغريبة، سواء قبل البعثة النبوية أم بعدها.
فقد كانوا يتمنون قبل بعثة النبي ص لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى، ويأتيهم بكتاب الله، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب المهيمن على كل الكتب، وهو القرآن، فكفروا به، وكذبوا رسول الله ص، وما وفوا بما قالوا: فاستحقوا الوعيد والتهديد، وهو أنهم سوف يعلمون مغبة كفرهم، وعاقبة تكذيبهم.
نصر جند الله تعالى
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
الإعراب:
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ لَهُمُ: ضمير فصل بين اسم «إن» وهو «هم» وخبرها الْمَنْصُورُونَ وأدخلت اللام على الضمير. ولا يجوز أن يكون لَهُمُ صفة لاسم «إن» ، لأن اللام لا تدخل على الصفة. ويجوز جعل لَهُمُ مبتدأ، والْمَنْصُورُونَ خبره، والجملة منهما في موضع رفع خبر «إن» .
(23/155)
البلاغة:
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ استعارة تمثيلية، شبه العذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم بغتة، فلم ينتصحوا بكلام ناصح، ولا استعدوا للدفاع، حتى هزمهم وأفناهم.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي وعدناهم بالنصر والغلبة، وذلك بقوله تعالى:
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] وقوله هنا: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. وإنما سماها كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد.
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ الغالبون في الحرب وغيرها، وهذا باعتبار الغالب، وبشرط نصرة دين الله. إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
أي إن جندنا المؤمنين أتباع الرسل غالبون الكفار في الدنيا بالحجة والنصرة عليهم، فإن لم ينتصروا في الدنيا انتصروا في الآخرة.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم. حَتَّى حِينٍ أي إلى أن يحين موعد نصرك عليهم وهو في عهد النبوة يوم بدر أو يوم الفتح- فتح مكة. وَأَبْصِرْهُمْ انظر إليهم وارتقب ما ينالهم من الأسر والقتل في الدنيا، والتعذيب في الآخرة حين نزول العذاب بهم. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عاقبة كفرهم، وما قضينا لك من التأييد والنصر في الدنيا، والثواب في الآخرة. وسوف للوعيد لا للتبعيد.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ هذا قول من الله يتضمن التهديد لهم، روي أنه لما نزل.
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا: متى هذا؟ فنزل قوله تعالى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي إذا نزل العذاب بفنائهم: وهو المكان الواسع، قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم. فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس صباحا صباح المنذرين بالعذاب. وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر لتسجيل صفة الإنذار عليهم.
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ كرره تأكيدا لتهديدهم، وتسلية للنبي ص. رَبِّ الْعِزَّةِ الغلبة والقوة. عَمَّا يَصِفُونَ بأن له ولدا. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ المبلغين عن الله التوحيد والشرائع. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على نصرهم وهلاك الكافرين.
سبب النزول: نزول الآية (176) :
أَفَبِعَذابِنا..: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا
(23/156)
العذاب الذي تخوفنا به، عجّله لنا، فنزلت: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وهو صحيح على شرط الشيخين.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ أي لقد سبق وعدنا بالنصر والظفر على الكفار في الدنيا والآخرة لعبادنا الرسل الذين أرسلناهم للإنذار والتبشير، ففي الدنيا: تكون الغلبة والقهر لهم بالأسر والقتل والتشريد أو الإجلاء أو بالحجة والبرهان، ونحو ذلك، وفي الآخرة: الظفر بالجنة، والنجاة من النار، وهذا في الأعم الأغلب. وجند الله:
حزبه، وهم الرسل وأتباعهم.
ونظير الآية قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] .
وشرط النصر معروف، وهو الإيمان الصحيح بالله عز وجل، والعمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والتزام دين الله شرعا ودستورا ونظاما ومنهج حياة، قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم 30/ 47] وقال سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
[سورة محمد 47/ 7] وقال عز وجل: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي أعرض عنهم، واصبر على أذاهم لك، إلى مدة معلومة عند الله سبحانه، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر.
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، كالأسر والقتل، وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به
(23/157)
من العقاب، وما وعدناك به من النصر وانتشار دينك في الآفاق، وذلك حين لا ينفعهم الإبصار. وكرر تعالى ذلك تأكيدا.
والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن حدوثها قريب، وفي ذلك تسلية للرسول ص وتنفيس عنه عما يناله من أذى كفار قومه قريش.
ثم وبخهم الله تعالى وهددهم على طلبهم تعجيل العذاب قائلا:
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يجرءون على استعجال عذابنا الشديد؟ والواقع أنهم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك، قائلين:
متى هذا العذاب؟ والعذاب نازل بهم قطعا لا محالة.
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فإذا نزل العذاب بهم أو بمحلّتهم، فبئس ذلك اليوم يومهم، لإهلاكهم ودمارهم.
ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله ص خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم، ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس- الجيش- فقال النبي ص: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين» ورواه أحمد أيضا بلفظ آخر، وهو صحيح على شرط الشيخين.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر يحين فيه هلاكهم، وانظر إليهم وارتقبهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب.
وهذا تأكيد لما تقدم من الأمر بالكف عنهم، والصبر على أذاهم.
ثم ختمت السورة بخاتمة عظيمة فيه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، ومدحه للرسل الكرام، فقال سبحانه:
(23/158)
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزيها لربك أيها الرسول وتقديسا وتبرئة عما يقول الظالمون المكذبون المفترون المعتدون، فهو رب القوة والغلبة والعزة التي لا ترام، وسلام الله على الرسل الكرام الذين أرسلهم إلى أقوامهم، في الدنيا والآخرة، لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته، والحمد والشكر لله في الأولى والآخرة في كل حال، فهو رب الثقلين: الإنس والجن، دون سواه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك.
روى ابن أبي حاتم عن الشعبي، والبغوي عن علي كرم الله وجهه، قال:
قال رسول الله ص: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر، يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ووردت أحاديث في كفارة المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» .
وذكر الثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله ص غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- سبق الوعد الإلهي بنصر المرسلين بالحجة والغلبة، ونصر جند الله وهم الرسل وأتباعه على أعدائهم، وذلك على الغالب. والنصر إما بقوة الحجة، أو بالدولة والاستيلاء، أو بالدوام والثبات.
(23/159)
2- كان النبي ص والمؤمنون في مكة قبل الهجرة مأمورين بالكف عن المشركين، والصفح عنهم، والصبر على أذاهم، وترك مقاتلتهم.
3- هدد الله المشركين وأوعدهم بما سينالهم من عذاب الدنيا والآخرة، وحينئذ سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار.
4- من الحماقة الشديدة استعجال الكفار وقوع عذاب الله، فإنه لا داعي للاستعجال، والعذاب واقع بهم لا محالة، وهو عذاب شديد مدمر، فإذا حلّ بهم أو بديارهم فبئس صباح الذين أنذروا بالعذاب.
5- يسن ختم الصلاة والمجلس بآية: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وفي هذه الآية أنواع ثلاثة من صفات الله تعالى: هي تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الألوهية وهو كلمة سبحان، ووصفه بكل ما يليق بصفات الألوهية وهو قوله: رَبِّ الْعِزَّةِ وكونه منزها عن الشريك والنظير.
وقوله رَبِّ الْعِزَّةِ يدل على أنه القادر على جميع الحوادث التي خلقها.
وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم. والمهم أن يعرف العاقل كيف يعامل نفسه ويعامل الناس في الدنيا.
(23/160)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ص
مكيّة، وهي ثمان وثمانون آية.
تسميتها:
سميت سورة ص لافتتاحها بهذا الحرف العربي أحد أحرف الهجاء الثمانية والعشرين، للدلالة على أن هذا القرآن العظيم مكون ومنظوم من حروف الهجاء العربية، ومع ذلك لم يستطع العرب الفصحاء الإتيان بمثل أقصر سورة منه، فبدئ به بهذه السورة كغيرها من السور المبدوءة بحروف هجائية، بقصد تحدي العرب، وإثبات إعجاز القرآن.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجهين:
الأول- أن الله تعالى حكى في آخر سورة الصافات التي قبلها قول الكفار:
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ثم كفروا به، ثم افتتح هذه السورة بالقسم بالقرآن ذي الذكر، لتفصيل المجمل هناك.
الثاني- أن هذه السورة بعد الصافات، كطس- النمل بعد الشعراء، وكطه والأنبياء بعد مريم، وكيوسف بعد هود، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء ممن لم يذكر في تلك، مثل داود، وسليمان، وأيوب، وآدم، وأشار إلى بقية من ذكر.
(23/161)
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية في بيان أصول العقيدة الإسلامية «التوحيد، والنبوة، والبعث» من خلال مناقشة المشركين في عقائدهم المناقضة لتلك الأصول، وإيراد قصص الأنبياء للعظة والعبرة، وبيان حال الكفار والمشركين يوم القيامة، ووصف عذاب أهل النار، ونعيم أهل الجنة.
ابتدأت السورة بالوصف الناقد لصفات المشركين من الكبرياء وإباء الحق والإعراض عنه، مع تذكيرهم بعاقبة الماضين الذين حادوا عن الحق، فهلكوا، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
ومن أهم تلك الصفات ثلاث: إنكار الوحدانية، وإنكار نبوة محمد ص، وإنكار البعث والحساب.
ثم ذكرت قصة داود وسليمان وأيوب مفصلا، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل مجملا عليهم السلام.
وانتقل البيان إلى الغاية الكبرى وهي إثبات البعث والحساب ووصف نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.
ثم توجهت السورة بقصة بدء الخلق- قصة آدم عليه السلام وسجود الملائكة له إلا إبليس، وطرده من الجنة، وصبّ اللعنة عليه إلى يوم القيامة، وتوعده وأتباعه بملء جهنم منهم.
وختمت السورة ببيان إخلاص النبي ص في تبليغ رسالته دون طلب أجر، مما يدل على نبوته، وأردفه بإعلان كون القرآن رسالة للثقلين: الإنس والجن، وأن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.
(23/162)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
مناقشة المشركين في عقائدهم
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
الإعراب:
ص قرئ «صاد» بسكون الدال وفتحها وكسرها بلا تنوين وبتنوين. فمن قرأ بالسكون فعلى الأصل، لأن الأصل في حروف الهجاء البناء، والأصل في البناء أن يكون على السكون. ومن قرأ بالفتح جعله اسما للسورة، كأنه قال: اقرأ صاد. ومن قرأ بالكسر بغير تنوين فهو إما أمر من المصاداة وهي المقابلة، أي قابل القرآن بعملك، وإما بإعمال حرف القسم مع حذفه، مثل: الله لأفعلن، وفيه ضعف. ومن قرأ بالكسر مع التنوين شبهه بالأصوات التي تنون للفرق بين التعريف والتنكير، مثل صه وصه.
وَالْقُرْآنِ مجرور على القسم وجوابه إما إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ وإما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وإما إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وإما كَمْ أَهْلَكْنا وتقديره: لكم أهلكنا، فحذفت اللام، كما حذفت في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس 91/ 9] أي لقد أفلح.
(23/163)
وَلاتَ حِينَ مَناصٍ لاتَ: حرف بمعنى ليس، وله اسم وخبر، أي ولات الحين حين مناص. والجملة حال من فاعل نادوا. ومن قرأ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع، أضمر الخبر، وهو شاذ لا يقاس عليه. وتاء لات لتأنيث الكلمة، وهي عند البصريين بمنزلة تاء الفعل، مثل:
ضربت وذهبت، والوقف عليها بالتاء، وعليه خط المصحف، وهي عند الكوفيين بمنزلة تاء الاسم، نحو: ضاربة وذاهبة، والوقف عليها بالهاء، والأقيس مذهب البصريين، لأن الحرف إلى الفعل أقرب منه إلى الاسم.
أَنِ امْشُوا أن مفسرة، تقديره: أي امشوا، وهو من المشاية: كثيرة النتاج، دعا لهم بكثرة الماشية.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ جُنْدٌ مبتدأ، وما زائدة، وهُنالِكَ صفة جند، تقديره: جند كائن هنالك، ومَهْزُومٌ خبر المبتدأ. وقيل:
هنالك متعلق بمهزوم، والأول أوجه.
البلاغة:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي أهل قرن، فهو مجاز مرسل، والقرن: مائة عام.
وَقالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير، والأصل: وقالوا، لرصد كفرهم.
كَذَّابٌ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَوَّابٌ من صيغ المبالغة.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ تأكيد الجملة الخبرية بإنّ واللام لزيادة التعجب والإنكار منهم.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ التنوين في جُنْدٌ للتقليل والتحقير، وزيادة ما لتأكيد القلة.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ: توافق الفواصل الذي يزيد الكلام روعة وبهاء وجمالا.
المفردات اللغوية:
ص معناه: أن القرآن مركب من هذه الحروف العربية، وأنتم أيها العرب قادرون على تكوين الجمل والكلام منها، ولستم قادرين على معارضة القرآن والإتيان بمثله، فهو للدلالة على
(23/164)
التحدي والتنبيه على الإعجاز. وقيل: إن هذه الفواتح وأمثالها لها معان أخرى «1» .
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يقسم الله تعالى بالقرآن، والإقسام بالقرآن: فيه تنبيه على شرف قدره وعلوّ محله. ومعنى ذِي الذِّكْرِ: البيان، أو الشرف والشهرة، كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] . وجواب القسم في رأي جماعة محذوف تقديره: إنه لكلام معجز، أو ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي لا ريب فيه قطعا، بل المشركون من أهل مكة وأمثالهم في تكبر وتجبر عن الإيمان، واعتزاز بالباطل، والعزة أيضا: الغلبة والقهر وشِقاقٍ أي خلاف وعداوة لله ولرسوله كَمْ كثير أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد قوة وأكثر أموالا فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي نادوا حين نزول العذاب بهم أي استغاثوا، وليس ذلك الوقت وقت خلاص وفرار ومنجى. وهذا وعيد على كفرهم بالقرآن استكبارا وشقاقا.
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ تعجبوا من مجيء رسول من أنفسهم ينذرهم ويخوفهم بالعذاب بالنار إن استمروا على الكفر، وهو النبي ص وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قالوا ذلك لما شاهدوا المعجزات الخارجة عن قدرة البشر أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً أصيّرها إلها واحدا؟ حين قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، أي كيف يكون للخلق كلهم إله واحد؟
عُجابٌ عجيب، بالغ في العجب إلى الغاية، وإنما تعجبوا، لأنه كان لكل قبيلة إله.
الْمَلَأُ الأشراف، انطلقوا من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب بعد سماعهم قول النبي ص كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب والعجم، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا الله أَنِ امْشُوا يقول بعضهم لبعض: امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ اثبتوا على عبادتها إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي إن هذا الذي يريده محمد ص بنا وبآلهتنا، من دعوته إلى التوحيد لشيء من ريب الزمان يراد بنا، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا.
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ هي ملة النصرانية اخْتِلاقٌ كذب اختلقه محمد ص وافتراه أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ أأنزل عليه القرآن، ونحن الرؤساء والأشراف، أكبر منه سنا، وأعظم منه شرفا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من القرآن أو الوحي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكهم. والمعنى: إنهم لا يصدّقون به حتى يمسهم العذاب، فيلجئهم إلى تصديقه.
__________
(1) انظر تفسير الرازي: 26/ 174
(23/165)
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ مفاتيح نعم ربك الْعَزِيزِ الغالب الْوَهَّابِ من النبوة وغيرها، حتى يعطوها لمن شاؤوا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في المعارج والوسائل التي توصلهم إلى السماء والاستيلاء على العرش، حتى يحكموا بما يريدون جُنْدٌ ما جند حقير من الكفار هُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، وتكذيب النبي مَهْزُومٌ، مِنَ الْأَحْزابِ صفتان ل جُنْدٌ فهم مغلوبون، متحزبون على الأنبياء قبلك، فقهروا وهلكوا، فكذلك نهلك هؤلاء.
سبب النزول: نزول الآية (5) :
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ..:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي ص، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال:
وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم ص وَالْقُرْآنِ.. إلى قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ.
التفسير والبيان:
ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ص أحد حروف الهجاء العربية، افتتح بها هذه السورة كغيرها من السور للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن، وتنبيه المخاطب للإصغاء إلى الكلام الآتي بعده. وأقسم بالقرآن ذي البيان الشامل لكل ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد من الدين الجامع للعقائد الثابتة الصحيحة، والشرائع الناظمة للحياة الإنسانية، والوعد والوعيد، وهو أيضا ذو الشرف والشهرة والرفعة، أقسم به إنه لكلام معجز منزل من الله، وإن محمدا لصادق فيما يدعيه من النبوة، والرسالة من رب العالمين إلى البشرية جمعاء، وهو أيضا تذكير كقوله تعالى:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء 21/ 10] أي تذكيركم.
(23/166)
وسبب كفر المشركين هو:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي إن هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون، لأنهم في استكبار عنه، وترفع عن اتباع الحق، ومخالفة لله ولرسوله ص ومعاندة ومكابرة وحرص على المخالفة.
ثم خوّفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم، فقال:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الخالية بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء، فاستغاثوا وجأروا إلى الله تعالى حين جاءهم العذاب، فلم يجدهم شيئا، لأن الوقت ليس وقت خلاص وفرار من العذاب، كما قال تعالى:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ [الأنبياء 21/ 12- 13] ويَرْكُضُونَ يهربون.
وقال سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [المؤمنون 23/ 64] .
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي تعجب المشركون من بعثة محمد ص بشيرا ونذيرا، وبشرا رسولا من أنفسهم، وقال الكافرون لما رأوا معجزاته الباهرة: هذا ساحر خدّاع كذاب فيما يدعيه من النبوة، وينسبه إلى الله من الوحي.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يونس 10/ 2] .
وفي الآية دلالة على أن المشركين ذوي العزة والشقاق كذبوا الرسول ص من غير حجة وبرهان، وحسدا من عند أنفسهم، وطمعا في أن يكون الرسول ص
(23/167)
أحد الزعماء والرؤساء، ولم يجدوا تهمة أرخص من اتهامه بالسحر والكذب، وذلك دليل الإفلاس.
ثم أورد الله تعالى لهم شبهات ثلاثا في وصف النبي بالكذب: الأولى تتعلق بالألوهية أو التوحيد، والثانية بالنبوة، والثالثة بالمعاد، وهنا ذكر شبهتين، والثالثة ستأتي في آية وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
1- توحيد الإله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أصيّر الآلهة إلها واحدا، وقصر الألوهية على الله سبحانه، إن هذا لشيء بالغ النهاية في العجب. وإنما تعجبوا لأنه كان لكل قبيلة إله، وكانوا يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا زلفى إلى الله، والله يملكهم، فأي ضير في هذا؟ وادعوا العجب ممن رفض الآلهة المتعددة، وقالوا: إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين، ويكون «محمد ص» وحده محقّا صادقا. وهذا مجرد تقليد أعمى وإرث منقول دون دليل عقلي ولا نقلي.
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات كما تقدم:
ما رواه الترمذي وغيره بلفظ آخر عن ابن عباس، قال: «مرض أبو طالب، فجاءت قريش إليه، وجاء النبي ص، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال:
وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، فقال:
وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟
فنزل فيهم القرآن ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ حتى بلغ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ «1» .
ورواه بلفظ آخر ابن أبي حاتم وابن جرير عن السدّي.
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(23/168)
وفي رواية: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شقّ على قريش إسلامه، فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي ص فقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السواء «1» ، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: «وماذا يسألونني؟» قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال النبي ص: «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل: لله أبوك! لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي ص: «قولوا: لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فكيف يسع الخلق كلّهم إله واحد؟
فأنزل الله فيهم هذه الآيات، إلى قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب قائلين: امضوا على ما كنتم فيه، واثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على ذلك، إن هذا التحول عن الآلهة لأمر عظيم يريده محمد ص، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد.
2- عدم وجود التوحيد في النصرانية: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في الملة الآخرة وهي النصرانية، وما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من وحي ودين سماوي، ولا من عقل صحيح فيما يزعمون، فوجب أن يكون باطلا.
3- تخصيص النبوة في محمد: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ استفهام إنكار، أي كيف ينزل القرآن على محمد دوننا، ونحن الرؤساء والأشراف؟ فهذا أمر مستبعد، كما حكي عنهم في آية أخرى: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] فرد الله عليهم قائلا:
__________
(1) أي العدل.
(23/169)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف 43/ 32] .
وسبب استبعادهم هذا، الناشئ عن جهلهم وقلة عقلهم: الشك في أمر القرآن وحسد النبوة:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل الحقيقة أنهم في شك من القرآن أو الوحي، بل إنما شكوا وتركوا النظر والاستدلال، لأنهم لم يذوقوا عذابي، فإذا ذاقوه صدقوا بالقرآن، وزال عنهم الشك والحسد.
ولَمَّا بمعنى «لم» وما: زائدة، مثل: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون 23/ 40] وفَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء 4/ 155 أو المائدة 5/ 13] .
ثم رد الله تعالى عليهم استبعادهم نبوة محمد ص وجعلها في صناديدهم قائلا:
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي بل أهم يملكون مفاتيح نعم ربك القوي الغالب، المانح الواهب الكثير المواهب، حتى يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ كما في آية أخرى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً [الإسراء 17/ 100] .
ثم أنكر الله تعالى ما هو أشد، فقال:
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي بل أهم يملكون السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم، فإن فرض أنهم يملكون، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون.
ثم أجمل الله تعالى وصفهم بالقلة والحقارة فقال:
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي ما هم إلا جند مغلوبون
(23/170)
هنالك، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد ص، والذي يتحزبون فيه على المؤمنين. وهذه الآية كقوله تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر 54/ 44- 46] . وهذا وعد من الله بنصر نبيه ص وأن الغلبة ستكون له.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- أقسم الله عز وجل بالقرآن العظيم ذي الشرف والشهرة والمجد على صدق نبوة محمد ص وأنه رسول من الله إلى الناس كافة.
2- إن سبب إعراض كفار قريش عن الإيمان برسالة النبي ص هو التكبر والتجبر والاستعلاء عن اتباع الحق، ومخالفة الله تعالى ورسوله ص ومعاداتهما وإظهار مباينتهما.
3- أنذرهم الله وحذرهم من الإهلاك كما أهلك الأمم الماضية الذين كانوا أمنع منهم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فاستغاثوا وتابوا، ولكن في وقت لا ينفع فيه التوبة، ولا ينفع العمل.
4- لقد تعجب كفار قريش بسبب جهلهم أن جاءهم رسول بشر من أنفسهم، يبشرهم وينذرهم، فلم يجدوا حجة للإعراض عنه إلا أن قالوا: ساحر كذاب، أي يجيء بالكلام المموّه الذي يخدع به الناس، ويكذب في دعوى النبوة.
5- وبالغوا في التعجب من دعوته إلى التوحيد وتصييره الآلهة إلها واحدا.
6- لم يجد هؤلاء الكفار سبيلا إلا أن أعلنوا إصرارهم على وثنيتهم، وقال
(23/171)
الرؤساء للأتباع: امضوا على ما كنتم فيه، ولا تدخلوا في دين محمد ص، واثبتوا على عبادة آلهتكم المخصصة لكل قبيلة، فإنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.
7- أيدوا وثنيتهم بآخر الملل وهي النصرانية، فإن النصارى يجعلون مع الله إلها، وإن الدعوى إلى توحيد الإله ما هو في زعمهم إلا كذب وافتراء وتخرّص وابتداع على غير مثال.
8- إن شعورهم بالعزة والاستكبار دفعهم أيضا إلى إنكار اختصاص محمد ص بإنزال القرآن عليه ونزول الوحي على قلبه، دونهم، وهم في رأيهم أحق بذلك، لأنهم السادة والرؤساء والأشراف.
9- إن حقيقة أمرهم أنهم شكوا فيما أنزل الله تعالى على رسوله ص، هل هو من عنده أم لا؟ وكذلك اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذاب الله على الشرك لزال عنهم الشك، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ.
10- عجيب أمر هؤلاء المشركين، هل يملكون مفاتيح نعم الله، فيمنعون محمدا ص مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة؟ فالله المالك للنعم يرسل من يشاء، لأن خزائن السموات والأرض له.
وهل يملكون عالم السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات، فإن ادّعوا ذلك، فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد ص.
11- ما هؤلاء الكفار إلا مجرد جند من الأحزاب مهزومون، متحزبون في موضع تحزّبهم لقتال محمد ص، وذلك الموضع مكة، وهم في النهاية أذلّة لا حجة لهم، ولا قدرة لأن يصلوا إلى الاستيلاء على سلطان الله وملكه، فيتصرفوا في الناس كيف يريدون.
(23/172)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
وهذا تأنيس للنبي ص، ووعد له بالنصر والغلبة، ولهم بالهزيمة، وقد تحقق هذا يوم بدر. قال الرازي: والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة.
إنذار الكفار بحال الأمم المكذبة قبلهم
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 16]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
الإعراب:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إنما دخلت التاء في كَذَّبَتْ لتأنيث الجماعة، أي كان تأنيث قَوْمُ باعتبار المعنى.
البلاغة:
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ استعارة مكنية، شبه الملك بخيمة كسيرة شدّت حبالها بالأوتاد لترسخ في الأرض، ولا تقتلعها الرياح، وذكر الأوتاد تخييل.
المفردات اللغوية:
ذُو الْأَوْتادِ الوتد: هو الذي يدق في الأرض أو الحائط لربط الأشياء به من حبال وغيرها، والمراد هنا ذو الملك الثابت، والبناء المحكم، والحكم الراسخ الْأَيْكَةِ الغيضة من الشجر الكثير الملتف، وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام إِنْ كُلٌّ أي ما كل أحد من الأحزاب كَذَّبَ الرُّسُلَ أي إلا وقع منه تكذيب الرسل، وجمع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم، لأن دعوتهم واحدة، وهي دعوة التوحيد فَحَقَّ عِقابِ وجب عقابي عليهم بتكذيبهم، وإن تأخر.
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي ينتظر كفار مكة صَيْحَةً هي نفخة القيامة، تحل بهم العذاب
(23/173)
فَواقٍ بضم الفاء وفتحها: أي توقف مقدار من الزمن وهو ما بين حلبتي الناقة أو الرضعتين، حتى يجتمع الحليب في الضرع، أو الفواق: الرجوع والترداد، فإن في الفواق يرجع اللبن بعد سويعة إلى الضرع، أي إذا جاءت الصيحة لا تتوقف مقدار فواق ناقة، وفي
الحديث الذي رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «العيادة فواق ناقة»
وَقالُوا كفار مكة استهزاء قِطَّنا قسطنا من العذاب الذي توعدنا به، أو كتاب أعمالنا، استعجلوا ذلك استهزاء.
المناسبة:
بعد بيان أن المشركين توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال، لأنه لم ينزل بهم العذاب، بيّن الله تعالى في هذه الآيات أن أقوام سائر الأنبياء كانوا هكذا، حتى نزل بهم العقاب. والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول ص في إخباره عن نزول العقاب بهم.
التفسير والبيان:
ذكر الله ستة أصناف من الكفار الذين كذبوا الرسل في الأمم الغابرة وهم:
1- 3: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ أي كذبت الرسل قبل قريش قوم نوح، وقبيلة عاد، وفرعون ذو الحكم الراسخ وقومه.
أما قوم نوح عليه السلام فكذبوه وآذوه وهزئوا به، وقالوا عنه: إنه مجنون، فأهلكهم الله بالغرق والطوفان، ونجّى الله نوحا ومن آمن به، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ [القمر 54/ 9- 14] .
وأما عاد قوم هود عليه السلام فكذبوه أيضا، فأهلكهم الله بالريح، كما قال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ
(23/174)
أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ
[الحاقة 69/ 6- 7] .
وأما فرعون الطاغية الجبار ذو الحكم الثابت الراسخ القوي، فأرسل الله تعالى إليه موسى عليه السلام بآيات أو معجزات تسع ومعه أخوه هارون، فكذب وعصى، فأهلكه الله بالغرق، ونجى موسى وقومه المؤمنين، كما قال تعالى:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات 79/ 15- 26] . وقال سبحانه: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، فَأَنْجَيْناكُمْ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 2/ 50] .
4- 6: وَثَمُودُ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، أي الغيضة، أولئك الأحزاب، أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة، كمن تحزّب عليك أيها النبي.
أما ثمود قوم صالح عليه السلام فكذبوه، وعقروا الناقة المعجزة، فأهلكهم الله بالصيحة، أو بالطاغية، فصاروا كهشيم المحتظر، كما قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة 69/ 5] وقال سبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقالُوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى أن قال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر 54/ 23- 31] .
وأما قوم لوط عليه السلام فكذبوه أيضا فأهلكوا بالخسف أو الزلزلة، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر 54/ 33- 34] .
(23/175)
وأما أصحاب الأيكة (أي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض) فهم قوم شعيب عليه السلام، كذبوه، فأهلكوا بعذاب يوم الظلّة، كما قال تعالى:
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر 15/ 78- 79] . وقال سبحانه: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء 26/ 189] .
وسبب إهلاكهم تكذيبهم الرسل، كما قال تعالى:
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ عِقابِ أي ما كل أحد من هؤلاء الأقوام الغابرة إلا كذب الرسل، فوجب عقاب الله لهم، جزاء وفاقا. وهذا يعني أن علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر، وهذا مفاد الآية التالية:
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي ما ينتظر كفار قريش إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية وهي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها، فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل. وما لها من فواق: أي ما لها من انتظار وراحة وإفاقة.
وتحدث تلك النفخة بلا توقف مقدار فواق الناقة: وهو الزمن الذي بين الحلبتين.
والمعنى: ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، وإذا حل هذا الموعد فلا تأخر عنه أبدا، كما قال تعالى:
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس 36/ 49- 50] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت.
ثم ذكر تعالى الشبهة الثالثة للكفار في تكذيب النبي ص وهي المتعلقة بالمعاد «1» ، فقال:
__________
(1) والشبهتان الأولى والثانية في الآيات المتقدمة: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ.. (5- 8) .
(23/176)
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ أي وقال المشركون تهكما واستهزاء حين سمعوا بالمعاد والحساب والعقاب: ربنا عجّل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب، كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
وقائل ذلك: النضر بن الحارث الذي قال الله فيه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج 70/ 1] أو أبو جهل، ورضي الآخرون بقوله.
ثم أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى سفاهتهم قائلا: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر على أذى قومك المشركين، فإنهم في النهاية مقهورون أذلاء، ونبشرك على صبرك بالظفر والنصر والعاقبة الحميدة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عظة بليغة وعبرة مؤثرة يتأثر بها ذوو الإحساس الإنساني السليم الذي يتخلى صاحبه عن الكبر والاستعلاء. وما أعظمها عبرة وشاهدا محسوسا لكفار مكة.
إن أمامهم آثار الدمار والخراب والهلاك، أو إنهم يسمعون ما حدث للأمم التي كذّبت رسلها، وما جرى على المثيل يجري على مثيله. فإن الله القوي القاهر أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك فرعون وجنوده بالإغراق في البحر، وقوم هود بالريح الصرصر العاتية، وقوم صالح بالصيحة أو بالطاغية (وهي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة) وقوم لوط بالخسف أو الزلزلة، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.
(23/177)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
وما ينتظر كفار مكة إلا صيحة القيامة ليزجّ بهم في عذاب النار التي إذا جاءت لا تؤخر أبدا، أو لا تستأخر لحظة واحدة: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] .
ولكن اغتر الكفار بطول المهلة، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، إكراما للنبيّ ص: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال 8/ 33] وجعل عذابهم في الآخرة، قالوا سخرية واستهزاء: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة والحساب إن كان الأمر كما يقول محمد ص.
وهذا غاية الجهل والسفاهة والحمق.
ثم أمر الله نبيه ص بالصبر على أذاهم وسفاهتهم لما استهزءوا به، فما بعد الصبر إلا الفرج، وسيكون النصر والظفر قريبا.
قصة داود عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 17 الى 26]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
(23/178)
الإعراب:
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا.. إِذْ الأولى تتعلق ب نَبَأُ وتَسَوَّرُوا بلفظ الجمع، لأن الخصم مصدر يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، فجمع حملا على المعنى.
وإِذْ الثانية: بدل من الأولى. وخَصْمانِ خبر مبتدأ محذوف تقديره: نحن خصمان، فحذف المبتدأ.
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ عزّني بالتشديد على الأصل من عزّه: إذا غلبه، وقرئ بالتخفيف على أنه مخفف من المشدد، كما يقال في «ربّ: رب» . والخطاب: مصدر خاطب أو مصدر خطب، نحو الأول: ضارب ضرابا، ونحو الثاني كتب كتابا.
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ تقديره: بسؤاله إياك نعجتك، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى، والمفعول الأول، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني الْخُلَطاءِ جمع خليط بوزن فعيل صفة فيجمع على فعلاء إلا إن كان فيه واو فيجمع على فعاة، نحو طويل وطوال.
وَقَلِيلٌ ما هُمْ بَعْضُهُمْ: مبتدأ، وقَلِيلٌ: خبره، وما زائدة، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي تيقن، وقرئ فَتَنَّاهُ بالتخفيف، أراد به فتنة الملكين. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ذلِكَ منصوب ب غفرنا، ويصح جعله خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك.
البلاغة:
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بينهما طباق، لأن المراد بهما المساء والصباح.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ورد بأسلوب التشويق.
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. ورد بأسلوب الإطناب.
(23/179)
المفردات اللغوية:
وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنه مع علوّ شأنه، واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات، لما توهم أو ظن أنه أتى صغيرة استغفر ربه وأناب، فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان؟ ذَا الْأَيْدِ القوة والجلد في العبادة، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ويصوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه أَوَّابٌ رجاع إلى الله وإلى طاعته ومرضاته.
يُسَبِّحْنَ بتسبيحه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بالمساء والصباح، وأصل العشي: وقت العشاء، والْإِشْراقِ وقت شروق الشمس ووضوح ضوئها مَحْشُورَةً مجموعة إليه من كل جانب، تسبح معه كُلٌّ لَهُ من الجبال والطير لأجل تسبيحه أَوَّابٌ رجاع إلى التسبيح منقاد يسبح تبعا له وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قويناه حتى ثبت، وآزرناه بالهيبة والنصر، وبالحرس والجنود الْحِكْمَةَ النبوة وكمال العلم وإصابة الصواب في القول والعمل وَفَصْلَ الْخِطابِ البيان الشافي، والكلام الفاصل بين الحق والباطل.
وَهَلْ أَتاكَ أيها الرسول أي خبرهم وقصتهم، ويراد بالاستفهام هنا التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده الْخَصْمِ جماعة الخصوم، ويطلق الخصم على المفرد والجمع، مذكرا ومؤنثا تَسَوَّرُوا أتوه من أعلى السور، ودخلوا إلى المنزل والمسجد الذي يصلي فيه، حيث منعوا الدخول عليه من الباب، لشغله بالعبادة فَفَزِعَ خاف خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان، والمشهور أنهما ملكان، والأقرب أنهما بشران عاديان صاحبا نعاج أي مواشي، والخصومة حقيقية بَغى جار وظلم وَلا تُشْطِطْ لا تجر في الحكم ولا تبعد عن الحق وَاهْدِنا أرشدنا سَواءِ الصِّراطِ وسط الطريق الصواب.
إِنَّ هذا أَخِي أي على ديني نَعْجَةً أنثى الضأن أَكْفِلْنِيها اجعلني كافلها وملكنيها وَعَزَّنِي غلبني فِي الْخِطابِ في الجدال والمخاطبة والمحاجة بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ سؤاله نعجتك ليضمها إليه الْخُلَطاءِ الشركاء، والمعارف أو الأعوان الذين بينهم خلطة وامتزاج، جمع خليط وَقَلِيلٌ ما هُمْ ما زائدة لتأكيد القلة وَظَنَّ من الظن وهو رجحان تصور الشيء، أو بمعنى تيقن وعلم فَتَنَّاهُ ابتليناه أو امتحناه بتلك الحكومة، واختبرناه بهذه الحادثة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ للظن السيء بالرجلين أنهما أتياه لقتله وهو منفرد في محرابه وَخَرَّ راكِعاً ساجدا وَأَنابَ تاب ورجع إلى الله وطاعته.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي عفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين» . لَزُلْفى قرب من الله مَآبٍ مرجع في الآخرة.
(23/180)
إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور الناس وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى هوى النفس فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدلائل الدالة على الحق بِما نَسُوا بنسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ المرتب لهم، لضلالهم عن السبيل الحق، فإن تذكر يوم الحساب يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
المناسبة:
بعد إنذار قريش بحال الكفار الغابرين، وبعد أمر النبي ص بالصبر على أذى قريش وسفاهتهم، أمره الله تعالى بتذكر حال تسعة من الأنبياء، حال ثلاثة منهم تفصيلا، وحال ستة آخرين منهم إجمالا، ليتأسى بما لاقوا من أذى قومهم، محتسبين أجرهم عند الله تعالى.
وبدأ بذكر قصة داود عليه السلام، ليتذكر حال ذلك النبي الشاكر الصابر، ذي القوة في الدين والبدن معا.
ويجب أن تفهم هذه القصة- قصة المحاكمة- على النحو الظاهري المبين في القرآن الكريم، وأن تستبعد الإسرائيليات منها، لمناقضتها مبدأ عصمة الأنبياء، فقد روي في الإسرائيليات أن داود عليه السلام وقع بصره على امرأة تستحم، فأعجبته وعشقها، وكانت زوجة أحد قواده واسمه «أوريا الحثي» فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها، فأرسله في إحدى المعارك وحمّله الراية، وأمره بالتقدم فانتصر، فأرسله مرارا ليتخلص منه حتى قتل، فتزوجها.
قال البيضاوي: هذا هزء وافتراء، ولذلك
قال علي رضي الله عنه: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين» .
وهو حد الفرية على الأنبياء، أي مضاعفا «1» .
وأبطل الإمام الرازي هذه الحكاية المفتراة بوجوه ثلاثة ملخصها:
__________
(1) تفسير البيضاوي: 602
(23/181)
الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها.
الثاني- أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين: السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته، وكلاهما منكر.
الثالث- أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بصفات عشر، ثم وصفه أيضا بصفات كثيرة بعد هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح «1» .
والرواية الصحيحة لهذه القصة: أن داود عليه السلام كان يقسم وقته الأسبوعي أثلاثا: ثلث لشؤون الملك، وثلث للقضاء بين الناس، وثلث آخر للخلوة والعبادة وترتيل الزبور في المحراب «2» ، فتجاوز خصمان هذا النظام، وتسورا عليه المحراب من فوق الجدار طلبا للمحاكمة في غير موعدها، ففزع منهما، وظن أنهما جاءا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه لعبادة ربه، والخصمان بشران لا ملكان، والنعاج: المواشي، لا النساء. إلا أنه بادر إلى الحكم والقضاء قبل سماع بينة الخصم الآخر، فعاتبه الله على ذلك، ونبهه إلى وجوب تثبت القاضي وسماع الخصم الآخر، قبل إصدار الحكم. وسأبين أن هذا أيضا محل نظر، فإنه لا يعقل أن يحكم داود عليه السلام قبل سماع قول الخصم الآخر، فهذا من مبادئ الحكم الأولية التي لا تترك.
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 189
(2) وقال ابن عباس: جزّأ أزمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيّهم، فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم، لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله، لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه. (البحر المحيط: 7/ 391) .
(23/182)
التفسير والبيان:
تضمنت قصة داود عليه السلام في هذه السورة ثلاثة موضوعات:
الأول- تعداد الصفات التي أنعم الله بها على داود والتي أهّلته لسعادة الدنيا والآخرة.
الثاني- إصدار الحكم في واقعة بين خصمين.
الثالث- استخلاف الله تعالى إياه بعد تلك الواقعة.
الموضوع الأول- صفات داود عليه السلام
ذكر الله تعالى عشر صفات لداود عليه السلام آتاه الله إياها، وهي تحقق كمال السعادة الدنيوية والأخروية.
1- 4: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، ذَا الْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا معطوف على مطلع الآية المذكور في نهاية المقطع السابق وهو وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والمعنى: اذكر أيها الرسول لقومك قصة عبدنا داود ذي القوة في العلم والعمل وطاعة الله، قال قتادة: أعطي داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام قوة في العبادة، وفقها في الإسلام، وكان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف النهار،
ثبت في الصحيحين أن النبي ص قال: «أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا» .
أي رجّاعا إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه.
وفي تاريخ البخاري عن أبي داود قال: «كان النبي ص إذا ذكر داود وحدث عنه قال:
كان أعبد البشر» .
والصفات الأربع المذكورة هنا هي:
(23/183)
1- الصبر: فقد أمر الله تعالى محمدا ص على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
2- والعبودية: فقد وصفه ربه بقوله عَبْدَنا داوُدَ وعبر عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، والوصف بالعبودية لله غاية التشريف، كوصف محمد ص بها ليلة المعراج: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء 17/ 1] . فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسب الاجتهاد في الطاعة.
3- والقوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، في قوله تعالى: ذَا الْأَيْدِ.
4- والرجاع إلى طاعة الله في أموره كلها، في قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ.
5- 6: تسبيح الجبال والطير معه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ 34/ 10] قال ابن كثير: وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرّ به الطير، وهو سابح في الهواء، فسمعه، وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء، ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات، ترجّع معه، وتسبّح تبعا له»
. وهذا ما قاله تعالى:
7- وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي وسخرنا له الطير، حال كونها محبوسة في الهواء، تسبح بتسبيحه، وكل من الجبال والطير مطيع، يسبح تبعا له، فكلما سبح داود جاوبته. وهذا يومئ أن داود عليه السلام كان حسن الترتيل، جميل الصوت.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 29
(23/184)
8- قوة الملك: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس، وجعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك.
9- إيتاء الحكمة: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أعطيناه الفهم والعقل والفطنة، والعلم، والعدل، وإتقان العمل، والحكم بالصواب. ولما كمّل الله تعالى نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة، فقال: وَفَصْلَ الْخِطابِ.
10- حسن الفصل في الخصومات: وَفَصْلَ الْخِطابِ أي وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإيجاز البيان، بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
الموضوع الثاني- القضاء في خصومة
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قالُوا: لا تَخَفْ، خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَلا تُشْطِطْ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ هذا نبأ عجيب يشوق السامع سماعه ومعرفته، لذا ذكره الله لرسوله، ومعناه: هل علمت ذلك الخبر المهم العجيب؟
وبدأه بهذا الاستفهام، ليكون مدعاة إلى الإصغاء له والاعتبار به.
إنه نبأ جماعة من الخصوم تسلقوا سور غرفة داود المخصصة للصلاة، فدخلوا عليه وهو منهمك بالصلاة وعبادة الله وترانيم الزبور، في غير موعد المحاكمة المخصص للناس، فخاف منهم ظنا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه للعبادة، في أشرف مكان في داره- وقد كان اغتيال الأنبياء معروفا في بني إسرائيل، فقد قتلوا إشعيا وزكريا، كما قال تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران 3/ 21] فقالوا له: لا تخف، نحن متخاصمان جار بعضنا على
(23/185)
بعض، فاحكم بيننا حكما عادلا، ولا تجر في الحكم، واهدنا إلى الطريق الحق العدل.
وموضوع الخصومة هو:
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ: أَكْفِلْنِيها، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية، يملك تسعا وتسعين شاة، وأملك شاة واحدة، فقال: ملكنيها وغلبني في المخاصمة والجدال والحجة، فأتى بحجج لم أستطع ردها. والنعجة: هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة.
فحكم داود عليه السلام بقوله:
قالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي قال داود الحاكم بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى: لقد ظلمك بهذا الطلب، وطمع عليك.
ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت، فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وإن كثيرا من الشركاء في المال أو المعارف والأعوان المتعاملين ليظلم بعضهم بعضا، إلا من آمن بالله وخاف ربه وعمل صالح الأعمال، فإنه لا يظلم، وهؤلاء الصالحون قلة، كما قال تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [الأعراف 7/ 102] .
وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ أي وعلم داود وأيقن أنما اختبرناه بهذه الواقعة، وهي تعرضه للاغتيال ثم نجاته منه، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين، وأنهما أتيا لاغتياله، وهو الأصح، أو أنه حكم
(23/186)
بين الخصمين في النعاج قبل أن يسمع بيّنه الخصم الآخر، وكان الحق له، وخر ساجدا- وعبر بالركوع عن السجود- ورجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي فغفرنا له سوء ظنه أو ما كان منه مما يقال فيه: إن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وإن له عند ربه لقربا وحسن مرجع، وهو الجنة.
والظاهر أن الذنب: هو همّ داود الانتقام من هذين الشخصين اللذين كانا يقصدان اغتياله، فاصطنعا هذه الخصومة، لأنهما رأيا أن الحرس سيقتلونهما ولن يفلتا من العقاب، ثم رأى داود أن العفو والصفح أقرب لمقام النبوة، فاستغفر ربه مما كان قد عزم عليه من الانتقام.
الموضوع الثالث- الاستخلاف في الأرض
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يخاطب الله تعالى داود عليه السلام بأنه استخلفه حاكما بين الناس في الأرض، فله السلطة والحكم، وعليهم السمع والطاعة. ثم بيّن الله تعالى له قواعد الحكم تعليما لغيره من الناس:
1- فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض. وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
2- وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا، فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار، لذا قال:
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق، وما عاقبته إلا الخذلان، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي إن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل، لهم عقاب شديد يوم القيامة
(23/187)
والحساب الأخروي، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاه الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد.
روى ابن أبي حاتم أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: أخبرني، أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت القرآن وفقهت! فقال:
يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قال: يا أمير المؤمنين: أنت أكرم على الله أو داود عليه السلام؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة، ثم توعده في كتابه، فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وصف الله تعالى داود عليه السلام بعشر صفات: هي كما تقدم الصبر، والعبودية لله، والقوة في الدين، وكونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وتسبيح الجبال، والطير مع تسبيحه وترنيمه، وإتيان الطير طائعة له، وتشديد ملكه في الدين والدنيا، وإيتاؤه الحكمة (الفهم والعقل والفطنة والحكم بالصواب) وحسن الفصل في الخصومات.
2- بمناسبة تسبيح الجبال معه بالعشي والإشراق، أي في المساء والصباح، ذكر القرطبي أن صلاة الضحى نافلة مستحبة،
جاء في صحيح مسلم عن أبي ذرّ
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 32
(23/188)
عن النبي ص أنه قال: «يصبح على كل سلامي «1» من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» .
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «من حافظ على شفعة الضحى، غفر له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر» .
وأقل الضحى كما في هذه الأحاديث وغيرها ركعتان، وأكثره ثنتا عشرة ركعة.
3- ذكر الله تعالى لداود بعد قصة المحاكمة عشر صفات منها سؤال المغفرة من ربه فغفر له، ومنها السجود شكرا لله والإنابة، ومنها: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ومنها يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ. قال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى: الدنو من الله عز وجل يوم القيامة.
4- ليس الحاكم ملزما كل يوم بالاستعداد لفصل القضاء في الخصومات بين الناس، وإنما له تخصيص أيام في الأسبوع لتلك المهمة الخطيرة.
5- الفزع ظاهرة إنسانية في المفاجآت، وقد فزع النبي داود عليه السلام من الرجلين اللذين أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم، أو لدخولهم عليه بغير إذنه، أو لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. وقد شاع بين بني إسرائيل قتل الأنبياء وإيذاؤهم.
__________
(1) أصل السلامى: عظام الأصابع والأكفّ والأرجل، ثم استعمل هنا في سائر عظام الجسد ومفاصله، وهي كما في حديث آخر ثلاث مائة وستون مفصلا. [.....]
(23/189)
6- إن القصة التي يرويها بعض المفسرين بما يتعارض مع مبدأ «عصمة الأنبياء» لا أصل لها، ولا مستند عليها، وإنما هي من الإسرائيليات الدخيلة.
7- لم يكن خطأ داود عليه السلام في أنه قضى لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، فهذا من أصول الحكم التي لا يمكن تجاوزها، قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر، وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادّعى، والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى «1» .
وقد قال النبي ص لعلي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر» .
8- أجمع العلماء على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر، وفي الصغائر اختلاف، الأصح كما قرر ابن العربي وغيره أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر.
9- استدل العلماء على مشروعية الشركة بأدلة، منها: ما ورد على لسان داود عليه السلام: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي الشركاء في المال كما تقدم.
10- الصلحاء في كل زمان قليلون، لقوله تعالى: وَقَلِيلٌ ما هُمْ يعني الصالحين. سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: أردت قول الله عز وجل:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.
11- اختلف العلماء في سجدة داود، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أو لا؟ أي هل هي سجدة تلاوة؟
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1625
(23/190)
فقال المالكية والحنفية: ليست موضع سجود، لما
في البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «ص، ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي ص يسجد فيها» .
وأنكر المالكية أيضا سجدة الشكر.
وقال الشافعية والحنابلة: إنها ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، استدلالا بفعل النبي ص، كما نص الحديث المتقدم،
وروى النسائي أن النبي ص قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا» .
12- ليس في استغفار داود ما يشعر بارتكاب ذنب أو أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة.
13- الأصل في مشروعية الأقضية أو التقاضي قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة 5/ 49] وقوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء 4/ 105] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء 4/ 135] .
14- إن قاعدة الحكم الأساسية الحكم بالعدل والحق: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ومن قواعده: أن القاضي لا يحكم في الوقائع إلا بالدعوى ورفع الأمر إليه، فيجب الحكم بالحق، وألا يميل القاضي إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرهما.
15- هذه الآية: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.. تمنع الحاكم من القضاء بعلمه الشخصي في الحوادث، لأن الحكام لو مكّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه (صديقه) ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. وبذلك يمنع من هذا القضاء للتهمة، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلا على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.
(23/191)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
وروي أن امرأة جاءت إلى عمر، فقالت له: احكم لي على فلان بكذا، فإنك تعلم ما لي عنده، فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم، وأما الحكم فلا.
وأخرج أبو داود وغيره عن النبي ص أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم بعلمه، وقال: «من يشهد لي؟» فقام خزيمة فشهد فحكم.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله ص قضى بيمين وشاهد.
إثبات البعث والثواب والعقاب وبيان فضل القرآن
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
الإعراب:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب.
البلاغة:
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية: مقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار، وهذا من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
باطِلًا عبثا ولعبا ذلِكَ أي خلق السماء والأرض باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مظنون كفار مكة فَوَيْلٌ هلاك وعذاب شديد، أو هو واد في جهنم أَمْ بمعنى همزة الإنكار، أي إنكار التسوية بين الفريقين أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا.. نزل لما قال كفار مكة للمؤمنين: إنا
(23/192)
نعطى في الآخرة مثلما تعطون. والآية تدل على صحة القول بالحشر والمعاد، والفجار: الأشقياء مُبارَكٌ كثير الخير والبركات والمنافع الدنيوية والأخروية لِيَدَّبَّرُوا ليتدبروا أي ليتفكروا وينظروا في معاني الآيات، فيؤمنوا وَلِيَتَذَكَّرَ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول، جمع لب: وهو العقل.
المناسبة:
بعد تهديد الضالين عن سبيل الله بالعذاب الشديد يوم الحساب في القيامة، أخبر تعالى بأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه خلق الخلق لهدف معين، ثم يحاسبهم في نهاية الأمر، ثم بيّن عدم المساواة في الحساب بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار، ثم أخبر عن فضل القرآن العظيم، وأنه كثير المنافع الدينية والدنيوية.
التفسير والبيان:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي ما أوجدنا السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثا لا حكمة فيه، أو لهوا ولعبا، بل خلقناهما للدلالة على قدرتنا العظيمة، وليعمل فيهما بطاعتنا وعبادتنا وتوحيدنا، كما قال تعالى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] .
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي إن الذين كفروا يظنون أن هذه الأشياء خلقت عبثا لغير غرض، فلا قيامة ولا حساب، فيا هلاك هؤلاء الكافرين في النار يوم المعاد والنشور، جزاء ما قدموا من الشرك والمعصية، وكفران نعم الله، وإنكار البعث، وظنهم الباطل. ونظير القسم الأول من الآية قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] .
(23/193)
ونظير القسم الثاني قوله سبحانه: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم 14/ 2] وقوله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم 19/ 37] .
ثم أبان الله تعالى منهج الحساب أو عدم التسوية بين المؤمنين والكافرين، فقال: أَمْ «1» نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه، وأصلحوا أعمالهم، فأدّوا ما يجب للخالق والمخلوق، كالمفسدين في الأرض بالمعاصي، أم نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله من المسلمين؟!! فليس ذلك إن فعلناه عدلا، ولا يتفق مع الحكمة، ومقتضى أي نظام.
أي ليس من عدل الله وحكمته التسوية بين المؤمنين والكافرين، فلا يستوي الفريقان عند الله، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها الفاجر، إذ لولا البعث والحساب والجزاء لكان الفريقان سواء.
ويؤيد هذا المبدأ العقول السليمة والفطر المستقيمة أنه لا بد من معاد وجزاء، فلا يعقل أن يكون جزاء المحسن كجزاء المسي، ولا تتقبل النفس الإنسانية أن يترك الظالم دون عقاب، وألا ينصف المظلوم أو المحزون أو المعدم من الظالم الباغي المترف، وألا يعوض عن كمده وحرمانه في الدنيا.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟! [القلم 68/ 34- 36] .
__________
(1) هذه أَمْ المنقطعة التي هي بمعنى «بل» للإضراب الانتقالي، ويراد بالهمزة الاستفهامية:
الإنكار.
(23/194)
وإذا ثبت قرآنا ودينا وعقلا وفطرة أن هنالك فرقا واضحا بين المؤمن وغيره، وأن للمؤمن حياة سعيدة دائمة في الجنان، وأن للكافر عذابا أليما في النيران، فما الطريق إلى السعادة؟ الطريق قوله تعالى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إن طريق السعادة الأبدية هو اتباع القرآن الذي أنزله الله هدى ورحمة للمؤمنين، وهو كثير الخير والبركة، فيه الشفاء لمن تمسك به، والنجاة لمن تبعه، وقد أنزله تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه. قال الحسن البصري: والله ما تدّبره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- ليس خلق السموات والأرض عبثا وهزلا ولعبا، وإنما له غاية عظمي وهدف صحيح وهو الدلالة على قدرة الله. والذين يظنون أن الله خلقهما باطلا عبثا هم الكفار، فيا ويلهم من عذاب النار.
2- تدل هذه الآية: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ.. على إثبات الحشر والنشر والمعاد (أو القيامة) لأنه إذا لم يكن خلقهما باطلا، كان القول بالحشر والنشر لازما، وكان كل من أنكر القول بالحشر والنشر شاكّا في حكمة الله في خلق السماء والأرض.
3- إذا لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدنى من حال العاصي، لذا وبّخ تعالى الشاكين في الحشر والنشر، وأنكر عدم التسوية بين المؤمن والكافر، وبين الصالح والمفسد.
(23/195)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
4- الآية هذه: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ رد واضح على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد.
5- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذّ (سرعة القراءة) ، إذ لا يصح التدبر مع الهذّ. وقال الحسن البصري: تدبر آيات الله اتباعها.
6- القرآن الكريم ذكرى وعظة لأولي الألباب، أي أصحاب العقول الراجحة، فالعاقل هو المستفيد من آي القرآن، والقرآن هو الذي يذكره بضرورة التوبة والإنابة إلى الله إذا زاغ أو انحرف.
قصة سليمان عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
(23/196)
الإعراب:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ المقصود بالمدح محذوف، وهو سليمان أو داود، وهو إلى سليمان أقرب.
الصَّافِناتُ الْجِيادُ الأول نائب فاعل عُرِضَ والثاني صفته، والْجِيادُ: جمع جواد، أو جمع جائد.
حُبَّ الْخَيْرِ منصوب على أنه مفعول به، والمعنى: أنه آثر حب الخير، لا أنه أحبّ حبّا، أو منصوب على المصدر، بوضع حُبَّ الاسم موضع الاحباب الذي هو المصدر، والوجه الأول أوجه.
حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي الشمس، وإنما أضمر لدلالة الحال، مثل كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن 55/ 26] أي الأرض، لدلالة الحال، وإن لم يجر لها ذكر.
البلاغة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ المسح هنا حقيقة أي مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وقيل: المسح كناية عن العقر والذبح.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بينهما طباق، لأنهما بمعنى أعط من شئت، وامنع من شئت.
المفردات اللغوية:
نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان، إذ ما بعده تعليل للمدح وهو أواب أَوَّابٌ رجّاع إلى الله بالتسبيح والذكر في جميع الأوقات، أو بالتوبة بِالْعَشِيِّ ما بعد الزوال عُرِضَ عَلَيْهِ على سليمان الصَّافِناتُ القائمات، أو القائمة على ثلاث وطرف الحافر الرابع، أي يرفع إحدى يديه أو رجليه، ويقف على مقدم حافرها، مع القوائم الأخرى، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يكون إلا في العرب الخلّص، مأخوذ من صفن يصفن صفونا. الْجِيادُ جمع جواد، وهو الذي يسرع في عدوه أو جريه، والجواد من الناس: السريع البذل. والمعنى: أن الخيول إذا استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت، وكانت ألف فرس عرضت عليه، كالعرض العسكري اليوم.
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت أو أردت حب الخير وهو هنا الخيل، وأصل الخير: المال الكثير، ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها،
قال ص فيما أخرجه أحمد عن جابر: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
(23/197)
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي أحببت الخيل وحصل حبها عن ذكر ربي وأمره، لا عن الشهوة والهوى. وليس المراد كما يذكر القصاصون: أنه آثر رؤية الخيل عن صلاة العصر حتى غابت الشمس تَوارَتْ بِالْحِجابِ اختفت وغابت الشمس، واستترت بما يحجبها عن الأبصار. والحجاب:
بالحاجز أو بالليل.
رُدُّوها عَلَيَّ ردوا الخيل الصافنات علي استمتاعا بالنعمة، أي كفاها ركضا وعدوا فَطَفِقَ مَسْحاً شرع يمسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وليس المعنى: جعل يذبحها ويعقرها بالسيف لتفويت صلاة العصر عليه، فهذا لا يليق بالنبوة. بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي بسيقانها وأعناقها، فيربّت عليها ويدللها ويمسح نواصيها بيده، لا أنه ذبحها وعرقب أرجلها تقربا إلى الله تعالى، حيث اشتغل بها عن الصلاة، وتصدق بلحمها، فعوضه الله خيرا منها وأسرع، وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، فهذا من الإسرائيليات الدخيلة.
فَتَنَّا سُلَيْمانَ ابتليناه واختبرناه بمرض، وقال البيضاوي: وأظهر ما قيل فيه: ما
روي مرفوعا أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فرسانا» «1» .
ومن الإسرائيليات في تفسير الابتلاء: أن الله ابتلاه بسلب ملكه، وذلك لتزوجه بامرأة عشقها، وكانت تعبد الصنم في دار من غير علمه، وكان ملكه في خاتمه، فنزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة، على عادته، فجاءها جنّي في صورة سليمان، فأخذه منها.
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، وقيل: الجسد: هو نصف الإنسان الذي ولدته امرأته، وقيل: هو ذلك الجني، وهو صخر أو غيره، جلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير وغيرها، فخرج سليمان في غير هيئته، فرآه على كرسيه، وقال للناس: أنا سليمان، فأنكروه. وهذان التفسيران المقولان غير صحيحين في الظاهر والثاني منهما من تتمة القصة الدخيلة من الإسرائيليات.
ثُمَّ أَنابَ رجع تائبا إلى الله من ترك الأفضل وهو عدم تعليق الأمر بمشيئة الله، وهذا عظيم على نبي، لأن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صدر عني من الذنب وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي امنحني ملكا لا يكون لأحد من بعدي أن يملك مثله.
__________
(1) أخرجه البخاري، دون أن يذكر أنه تفسير للآية.
(23/198)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ جعلناها منقادة لأمره رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها، فلا تزعزع ولا تعصف حَيْثُ أَصابَ قصد وأراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر لاستخراج الدر واللؤلؤ منه وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وآخرين منهم مشدودين في القيود والسلاسل، وهم مردة الشياطين.
هذا عَطاؤُنا أي هذا ما أعطيناك من الملك العظيم الذي طلبته، من السيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فأعط من شئت، وامنع من شئت بِغَيْرِ حِسابٍ لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال لك: كم أعطيت ولم منعت؟
لَزُلْفى قربة في الآخرة وَحُسْنَ مَآبٍ وحسن مرجع، وهو الجنة.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية- قصة سليمان بن داود عليهما السلام، فيها تعداد النعم التي أنعم الله بها على سليمان، كما أنعم على أبيه داود من قبل، ليشكر المحسن، ويتعظ المسيء الذي يرى في قصتي داود وسليمان عظة وعبرة، فإنهما ملكا ملكا عظيما، لم يحجبهما عن شكر الله، وعبادته وطاعته، وتقدير نعمه الكثيرة، فأين ملكهما من زعامة قريش وأمثالهم؟!.
التفسير والبيان:
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي وآتينا داود ابنا نبيا، كما قال عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل 27/ 16] وإلا فقد كان له بنون غيره، وهذا الابن ما أحقّه بالمدح والثناء، فهو نعم العبد، لأنه توّاب رجّاع إلى الله، كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات.
روى ابن أبي حاتم عن مكحول قال: لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له: يا بني ما أحسن؟ قال: سكينة الله والإيمان، قال: فما أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان، قال: فما أحلى؟ قال: روح الله بين عباده- أي رحمته- قال: فما
(23/199)
أبرد؟ قال: عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض، قال داود عليه السلام: فأنت نبي.
ثم ذكر الله واقعتين لسليمان من وقائع توبته فقال:
الواقعة الأولى:
قصة عرض الخيل: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي اذكر أيها الرسول مادحا حين عرض على سليمان عليه السلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول الصافنات (أي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة) والجياد: السراع في العدو، لينظر إليها ويتعرف أحوالها ومدى صلاحيتها لمهامها، وليستمتع بما أنعم الله عليه منها.
فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي قال سليمان: إنني أحببت هذه الخيل وآثرتها عن غيرها حبا حصل عن ذكر ربي وأمره، لا بهواي وشغفي، وكانت ذات أعداد كثيرة، تعدو حتى غابت عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وبه يتبين أن حبه لها لم يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل للجهاد في سبيل الله، وتقوية دينه، وتثبيت دعائمه، وقد كان ذلك مندوبا إليه في دينهم.
هذا هو التفسير المتعين الذي يتفق مع مركز النبوة وشرف الرسالة ودلالة الحال في تعداد النعم لا النقم على سليمان، فلا يصح التفسير بشيء يتنافى مع هذا، لا سيما وقد أمر الله تعالى نبينا ص أن يتأسى بداود وسليمان، كما في مطلع الآيات. واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ...
ثم أعاد سليمان عرض الصافنات أمامه قائلا:
رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي أعيدوا هذه الخيل
(23/200)
إلي، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها، تشريفا لها وتكريما وتدليلا وسرورا بها، وتفحصا لأحوالها وإصلاح ما قد يطلع عليه من عيوبها، لأنها عدة الجهاد، ووسيلة الحرب، لرد العدوان، ودفع غارات المعتدين. وقال أكثر المفسرين: معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها، أي قطعها، لأنها شغلته عن صلاة العصر. وهذا بعيد على نبي شاكر نعم ربه، يعاقب ما ليس أهلا للعقاب.
الواقعة الثانية:
إلقاؤه جسدا على كرسيه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أي تالله لقد اختبرنا سليمان عليه السلام باختبار آخر، وهو الفتنة في جسده، كما اختار الرازي، حيث ابتلاه الله بمرض شديد في جسمه، حتى نحل جسمه، وأصبح هزيلا، ثم أناب، أي رجع إلى حال الصحة «1» .
وبعض المفسرين كما ذكرت عن البيضاوي وكذا أبو حيان «2» يفسر هذه الفتنة بما عزم عليه من الطواف على سبعين من نسائه، تأتي كل واحدة بفارس مجاهد في سبيل الله، دون أن يقول: إن شاء الله، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، هو الذي ألقي على جسده، فالجسد الملقى هو المولود شق رجل.
وقيل: إن الملقى شيطان، وهذا قول باطل من الزنادقة. قال ابن كثير:
وهذا وغيره من الإسرائيليات، وهي من المنكرات، من أشدها ذكر النساء «3» .
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 209
(2) البحر المحيط: 7/ 397
(3) تفسير ابن كثير: 4/ 35 وما بعدها.
(23/201)
قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي قال سليمان: ربّ اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله، وهذا من سمو الإحساس بالخطيئة، فقد تكون شيئا لا يخلو عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن الأنبياء أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما
قال ص فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وامنحني ملكا عظيما لا يتأتى لأحد غيره مثله، إنك يا ربّ أنت الكثير الهبات والعطايا، فأجب دعائي.
قال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة، ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربّه معجزة، فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك، زيادة خارقة للعادة، بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.
وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه «1» .
فأجاب الله تعالى دعاءه وأعطاه نعما خمسة، فقال:
1- فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ أي فذلّلنا له الرّيح، وجعلناها منقادة لأمره، تجري ليّنة طائعة في قوّة وسرعة، دون عواصف مضطربة ولا أعاصير، تحمله إلى أي جهة قصد وأراد. ووصف الرّيح هنا بكونها رخاء لا يتعارض مع آية أخرى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ [الأنبياء 21/ 81] لأن المراد بالعاصفة هنا القوية الشديدة، لا الهائجة
__________
(1) الكشاف: 3/ 15
(23/202)
المضطربة، فهي في قوة الرياح العاصفة، لكنها كانت طيّبة غير خطرة، أو أنها كانت بحسب الحاجة، ليّنة مرة، وعاصفة أخرى.
2- وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي وذلّلنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره، إما في بناء المباني الشاهقة، وإما في الغوص في البحار لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان، وإما في أعمال أخرى.
3- وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وسخرنا له شياطين آخرين هم مردة الشياطين، سخّروا له حتى قرنهم في القيود والسلاسل، قمعا لشرّهم، وعقابا لهم.
4- هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذه نعمة رابعة هي حرية التصرف فيما أعطاه الله إياه من الملك العظيم، والثراء والغنى، والسيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم، فقد أذن له ربّه بأن يمنح من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا حساب عليه في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال له: كم أعطيت، ولم منعت؟
5- وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي وإن له في الآخرة لقربة وكرامة عند الله، وحسن مرجع، وهو الجنة، وفيض ثواب، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- من مزيد فضل الله على عبده داود عليه السلام أن وهبه ولدا ورث عنه الملك والنبوة.
2- ومن نعم الله على عبده سليمان عليه السلام أنه أنعم عليه بالخيل
(23/203)
الصّافنات الجياد، التي تعدّ عدّة الحرب، وآلة القتال المهمة في مواجهة الأعداء، وكان عددها ألف فرس يجاهد عليها في سبيل الله تعالى.
3- لقد أحبها سليمان عليه السلام، لأنها حققت له تنفيذ أوامر ربّه في ربطها للجهاد، فكان يعرضها أمامه في عرض عسكري مهيب، يرهب العدو، وكانت تمتاز بسرعة الجري أو العدو، حتى إنها غابت عنه بسبب شدة الغبار وبعد المسافة.
4- لم يقتصر سليمان عليه السلام على عرضها أمامه للمرة الأولى، وإنما طلب إعادتها إليه، فشرع في مسح سيقانها ونواصيها بيده، تكريما لها، وتفحّصا لأحوالها حتى يعالج ما قد يكون بها من عيوب.
5- امتحن الله تعالى سليمان عليه السلام بالمرض، كما يمتحن عباده المؤمنين، قيل: كان ذلك بعد عشرين سنة من ملكه، ثم ملك بعد الاختبار عشرين سنة أخرى، كما ذكر الزمخشري.
واشتدّ به المرض حتى أصبح لشدّة ضعفه- كما تقول العرب: لحما على وضم، وجسما بلا روح، ثم عاد إلى صحته وحالته الأولى.
وطلب المغفرة من ربّه على ما قد يكون من ذنب في تقديره كان سببا لمرضه، وهذا من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فقد يكون ترك الأفضل والأولى عند أصحاب السمو والدرجة العالية، وعلى رأسهم الأنبياء، بمثابة ذنب عندهم، وهو عند غيرهم ليس بذنب.
6- أجاب الله دعاء سليمان عليه السلام، فأمده بنعم عظمي، هي: تسخير الرّيح له، تحمله إلى أي مكان أراد، وتسخير الشياطين للخدمة في مجالات الحياة المختلفة من بناء وغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، والتسلّط على مردة الشياطين، حتى يقيّدهم بالأغلال والسلاسل، كفّا لشرّهم ومنع أذاهم.
(23/204)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
ومنحه حرية التّصرّف في الملك والمال، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، دون حساب ولا رقيب، ودون مراجعة أو نقص.
وكذلك جعله مقرّبا عند الله، مكرّما عند ربّه في الجنة، مغمورا بالثواب الجزيل، فائزا برضا ربّه.
والخلاصة: لقد منح الله سليمان خيري الدنيا والآخرة، وجمع له بين الملك والنبوة كأبيه داود عليهما السلام، وسخّر الله له ملكا عظيما وسلطة شاملة على الإنس والجن والشياطين. وهذا لم يتأت لأحد قبله ولا بعده.
قصة أيوب عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
الإعراب:
أَيُّوبَ إِذْ نادى أَيُّوبَ: عطف بيان، وإِذْ: بدل اشتمال منه.
رَحْمَةً مِنَّا منصوب إما لأنه مصدر، أو لأنه مفعول لأجله.
البلاغة:
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ في هذا الإسناد مراعاة الأدب مع الله تعالى، فإنه أسند المرض والضرر الذي أصابه إلى الشيطان أدبا، وإن كان الخير والشر بيد الله تعالى لحكمة يعلمها.
(23/205)
المفردات اللغوية:
أَيُّوبَ هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وامرأته ليا بنت يعقوب، الراجح أنه قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، وكان موطنه أرض عوص: جزء من جبل سعير، أو بلاد أدوم. أَنِّي بأني. بِنُصْبٍ بضرّ، والنّصب (بالضّم) والنّصب (بفتحتين) كالرّشد والرّشد: المشقة والتعب. وَعَذابٍ ألم مضرّ، كما في آية أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء 21/ 83] . ونسب ذلك إلى الشيطان- وإن كانت الأشياء كلها من الله- تأدّبا مع الله تعالى.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اضرب بها الأرض، فضرب فنبعت عين ماء. مُغْتَسَلٌ ماء تغتسل به وتشرب منه. بارِدٌ وَشَرابٌ تغتسل وتشرب منه، فاغتسل وشرب، فذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره.
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرّقهم، أو أحييناهم بعد موتهم. وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي ورزقه مثلهم. رَحْمَةً مِنَّا أي لرحمتنا عليه. وَذِكْرى عظة وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجوء إلى الله فيما يحيق بهم. لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول.
ضِغْثاً حزمة صغيرة من الحشيش والريحان ونحوهما، أو قضبان. فَاضْرِبْ بِهِ زوجتك. وَلا تَحْنَثْ بترك ضربها، والحنث في اليمين: إذا لم يفعل ما حلف عليه. روي أن زوجته ليا بنت يعقوب عليه السلام ذهبت لحاجة، وأبطأت، فحلف إن برئ ليضربنّها مائة ضربة، فحلّل الله يمينه بذلك، وهي رخصة باقية في الحدود للضرورة كمرض ونحوه. نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من قصص الأنبياء في هذه السورة، والمقصود بها كغيرها الاعتبار، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام ممن أفاض الله عليهما أصناف النعم، فكانت قصتهما لتعليم الشكر على النعمة، وأيوب كان ممن خصّه الله تعالى بأنواع البلاء، فكانت قصته لتعليم الناس الصبر على الشدائد، كأن الله تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب
(23/206)
عليه السلام، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ أي واذكر أيها الرسول لقومك صبر أيوب على مرضه مدة طويلة هي نحو من ثماني عشرة سنة، حين نادى ربّه بأني قد مسني الضّر ومسّني الشيطان بمشقة وألم مضر، وإنما نسب ذلك الضر إلى الشيطان أدبا مع الله تعالى كما تقدم. والذي يجب اعتقاده أن هذا المرض لم يكن منفّرا الناس منه، وإنما هو مجرد مرض جلدي يشفى بالمياه المعدنية أو الكبريتية، لأن شرط الأنبياء: السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
إن رسول الله ص قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين «1» ، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنبا، ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة، لم يرحمه الله تعالى، فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له.
فقال أيوب عليه السلام: لا أدري ما تقول، غير أن الله عزّ وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله تعالى، فأرجع إلى بيتي، فأكفّر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق.
__________
(1) يمكن تأويل هذا الرفض بالبعد المعتاد عن كل مريض، شفقة ورحمة، لا نفورا من المرض.
(23/207)
قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها، أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم، أبطأ عليها، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه السلام أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فاستبطأته، فالتفتت تنظر، فأقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته، قالت: أي، بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فو الله القدير على ذلك، ما رأيت رجلا أشبه به منك، إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا هو، وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض» .
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي قلنا له: اضرب برجلك الأرض، فركض (ضرب) فنبعت عين جارية، فاغتسل فيها، وشرب منها، فخرج صحيحا معافى، بريئا من المرض.
وهذا دليل على أن مرضه كان من الأمراض الجلدية غير المعدية ولا المنفّرة، وإنما كانت مؤذية متعبة تحت الجلد، كالإكزيما والحكة ونحوهما، مما يمكن شفاؤه بالمياه المعدنية أو الكبريتية المفيدة في تلك الأمراض.
وكما تمّ الشفاء من المرض أعاد الله له أهله وولده وماله، فقد كان ذا مال جزيل وأولاد كثيرين وسعة من الدنيا، فقال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، رَحْمَةً مِنَّا، وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي منحناه أهله وضاعفناهم، إما أن الله تعالى أحياهم بعد أن أماتهم، والله قادر على كل شيء، وإما أنه تعالى جمعهم له بعد تفرقهم، وأكثر نسلهم، وزادهم، فكانوا مثلي ما كانوا قبل ابتلائه، رحمة من الله به، وتذكرة لأصحاب العقول السليمة، والإيمان أن عاقبة الصبر الفرج، وأن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا.
(23/208)
ثم ذكر الله تعالى له رخصة في التّحلل من يمينه، فقال:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ، وَلا تَحْنَثْ أي وخذ بيدك حزمة كبيرة من القضبان، فاضرب بها زوجتك التي حلفت أن تجلدها مائة جلدة إن برئت من مرضك، ولا تحنث في يمينك، أي لا تترك العمل بمقتضى اليمين، بسبب إبطائها في الرجوع، وهي ليا بنت يعقوب، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف.
ثم أثنى الله سبحانه على أيوب عليه السلام قائلا:
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده، وذهاب ماله وأهله وولده، نعم العبد أيوب، إنه رجّاع إلى الله بالتوبة والاستغفار، زيادة في حسناته ورفع درجته، لا بسبب ذنب جناه، فجازيناه بتفريج كربته، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، ولكن إيمان الأنبياء المطلق التام الذي يعرّفهم أن الله عليم بهم، قد لا يطلبون من الله شيئا لإذهاب همهم وغمهم.
روي عن أيوب عليه السّلام أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: «اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت» ، وكان يقول في مناجاته: «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا، ومعي جائع أو عريان» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
1- لا مانع من دعاء الله تعالى والشكوى إليه عند المصاب، وإن كان أيوب عليه السلام صبر مدة طويلة على المرض، ثم دعا ربّه لتفريج نوعين من المكروه: الألم الشديد في الجسم، والغمّ الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات، لذا ذكر الله تعالى لفظين وهما النّصب والعذاب.
(23/209)
2- على المؤمن أن يتدرّع بالصّبر عند الشدائد، فقد أمر الله النّبي ص بالاقتداء بأيوب عليه السلام في الصبر على المكاره، وكذلك بغيره من الأنبياء مثل داود وسليمان عليهما السلام.
3- لم يكن مرض أيوب عليه السلام منفّرا، لأن شرط النّبوة: السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا، وإنما كان مرضه تحت الجلد، كأمراض الحكمة، مما ليس بمعد، وإن كان مؤلما ومزعجا. وهو مرض حسي، تناول البدن بدليل قوله مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء 21/ 83] ، ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، وفَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء 21/ 84] ، وارْكُضْ بِرِجْلِكَ وهذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ.
4- في هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا، بدليل حلف أيوب على ضرب امرأته. والذي أباحه القرآن هو ضرب النساء حال النشوز، لقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إلى أن قال:
وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء 4/ 34] . كذلك دلّ قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء 4/ 34] ، على أن للزوج ضرب امرأته تأديبا لغير نشوز.
5- إن الضرب بالضغث رخصة من الله تعالى لأيوب عليه السلام تحلّة اليمين، جزاء على تلك الخدمة الطويلة التي قدمتها له زوجته أثناء مرضه.
واختلف العلماء بعدئذ، هل هذا الحكم عام أو خاص بأيوب وحده؟ للعلماء في ذلك رأيان:
الرأي الأول:
قالت الحنفية- الذين يقولون: شرع من قبلنا شرع لنا-: إن الحكم عام، فمن حلف ليضرب مائة ضربة، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مائة، فضرب بها، برّ في يمينه، ولا كفّارة عليه، لأن الله قد رخّص لأيوب عليه السلام هذا،
(23/210)
وجعله غير حانث به، وما دام غير حانث فهو بارّ. وهذا في المريض العليل غير الصحيح السليم «1» .
وكذلك قالت الشافعية والحنابلة: يجوز إقامة الحدّ في المرض الذي لا يرجى برؤه، بأن يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة، لما
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن سهل بن حنيف: «أنّ النّبي ص أمر في رجل أضنى أن يأخذوا له مائة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة» .
قال الشافعي: إذا حلف ليضربنّ فلانا مائة جلدة، أو ضربا، ولم يقل: ضربا شديدا، ولم ينو ذلك بقلبه: يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، ولا يحنث.
والشافعي الذي لا يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا اعتمد في ذلك على ما ثبت في السّنّة النّبوية. وأما الإمام أحمد فيقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا.
الرأي الثاني:
قالت المالكية الذين يرون أن شرع من قبلنا شرع لنا: إن هذه رخصة خاصة بأيوب عليه السلام، بدليل توجيه الخطاب وبما ذكر للترخيص من العلة. قال ابن العربي: وإنما انفرد مالك في هذه المسألة عن القاعدة لتأويل بديع: هو أن جريان الأيمان عند مالك في سبيل النّيّة والقصد أولى،
لقول رسول الله ص فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنّيّات»
والنّيّة أصل الشريعة وعماد الأعمال ومعيار التكليف. وقصة أيوب هذه لم يصح كيفية يمين أيوب فيها، حتى نلتزم شريعته فيها «2» . وهذا قول الليث أيضا.
ونهج ابن القيم في (أعلام الموقعين) الذي حارب فيه الحيل منهج المالكية، وقرر أن هذه الفتيا خاصة الحكم، فإنها لو كانت عامة الحكم في حقّ كل أحد، لم
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 4/ 382 وما بعدها.
(2) أحكام القرآن: 4/ 1640
(23/211)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
يخف على نبي كريم موجب يمينه، ولم يكن في قصها علينا كبير عبرة، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره لنعتبر به، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا. ويدلّ عليه اختصاص قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل، كما في نظائرها، فعلم أن الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره، وتخفيفا عن امرأته، ورحمة بها. وأيضا فإنه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما قال: وَلا تَحْنَثْ.
6- فضيلة الصبر عظيمة، لذا وصف الله نبيه أيوب بأنه صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله، وبأنه أوّاب، أي كثير التأويب والرجوع إلى الله في كل أموره.
قصة إبراهيم وذريته عليهم السلام- إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل-
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
الإعراب:
إِبْراهِيمَ بدل من عِبادَنا أو (عبدنا) أو عطف بيان.
(23/212)
بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ على قراءة التنوين هذه تكون ذِكْرَى بدلا من بِخالِصَةٍ وتقديره: إنا أخلصناهم بذكرى الدار، ويجوز نصبه ب بِخالِصَةٍ لأنه مصدر كالعافية والعاقبة.
وقرئ بترك التنوين بجعل ذِكْرَى مجرورا بالإضافة وهي إضافة بيان.
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ جَنَّاتِ: بدل منصوب من لَحُسْنَ مَآبٍ.
ومُفَتَّحَةً صفة لجنات، وفيه ضمير عائد إلى جَنَّاتِ وتقديره: جنات عدن مفتحة هي، أو حال وعامله ما في المتقين من معنى الفعل. والْأَبْوابُ إما مرفوع ب مُفَتَّحَةً وإما مرفوع بدلا من ضمير مُفَتَّحَةً. تقول: فتحت الجنان: إذا فتحت أبوابها، قال تعالى:
وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 78/ 19] .
مُتَّكِئِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا، ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ما لَهُ: حال من: لَرِزْقُنا، أو خبر ثان ل إِنَّ.
البلاغة:
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ استعارة تصريحية، استعار الْأَيْدِي للقوة في العبادة، والْأَبْصارِ للتبصر في الدين.
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ بينها وبين ما يأتي في المقطع الآتي مقابلة وهي: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ.
هذا ما تُوعَدُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب للعناية بهم.
المفردات اللغوية:
عِبادَنا وقرئ: عبدنا.
أُولِي الْأَيْدِي أصحاب القوة في العبادة. وَالْأَبْصارِ أصحاب البصائر في الدين والفقه فيه ومعرفة أسراره. أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين لنا. بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها هي ذِكْرَى الدَّارِ أي تذكر الدار الآخرة والعمل لها.
الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من أبناء جنسهم، جمع مصطفى. الْأَخْيارِ المفضلين عليهم في الخير، جمع خيّر: وهو المطبوع على فعل الخير. إِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم الخليل. وَالْيَسَعَ اللام زائدة، وهو نبي، ابن اخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم صار نبيا.
وَذَا الْكِفْلِ ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب، واختلف في نبوته ولقبه، والأصح أنه نبي،
(23/213)
قيل: فرّ إليه مائة نبي من القتل فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفّل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة. كُلٌّ كلهم. مِنَ الْأَخْيارِ جمع خيّر، كما تقدّم.
هذا ذِكْرٌ هذا ذكر وشرف وتنويه لهم بالثناء الجميل، أو هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر وهو القرآن. لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع في الآخرة. جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات استقرار وثبات، يقال: عدن بالمكان: أقام به. مُتَّكِئِينَ فِيها أي على الأرائك، كما في آية أخرى.
قاصِراتُ الطَّرْفِ لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أَتْرابٌ جمع ترب، أي لدات متساوون في السّنّ، بنات ثلاث وثلاثين سنة، حتى لا تحصل الغيرة بينهنّ، ولأن التّحاب بين الأقران أثبت.
هذا المذكور. ما تُوعَدُونَ به. لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل الحساب، فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء. نَفادٍ انقطاع، أي دائم له صفة الدوام.
المناسبة:
هذه مجموعة قصص من الأنبياء في هذه السورة، ذكر الله فيها قصص إبراهيم وذريته الأنبياء، يراد بها العظة والعبرة، والتعليم لنا، والتّخلق بأخلاقهم، والعمل بأعمالهم التي من أجلها استحقوا ما أعدّ الله لهم ولأمثالهم في هذه الآيات من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. وهي معطوفة على بداية القصص في هذه السورة، كأنه تعالى قال: «فاصبر على ما يقولون، واذكر عبدنا داود» [الآية 17] إلى أن قال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحاق في دعوة بني إسرائيل إلى الرشاد، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره، وصبر إسماعيل للذبح، وصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين، فيقول:
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي واذكر العمل الصالح وصبر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي القوة في العبادة
(23/214)
والبصيرة النافذة، فإنهم دأبوا على الطاعة، وقويناهم على العمل المرضي، وأحسنوا وقدموا خيرا، وآتيناهم البصيرة في العلم والفقه في الدين، والعمل النافع فيه.
وعلة ذلك:
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ أي خصصناهم بخصلة خالصة هي العمل للآخرة، والتزام أوامرنا ونواهينا، لتذكرهم الدار الآخرة والإيمان بها، وذلك شأن الأنبياء.
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ أي وإنهم لمن المختارين من أبناء جنسهم، المطبوعين على فعل الخير، فلا يميلون للأذى، ولا تنطوي قلوبهم على الضغينة والحقد والحسد والبغض لأحد، ولا يرتكبون شرّا ومعصية، فهم أخيار مختارون.
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ أي واذكر أيضا صبر إسماعيل واليسع وذي الكفل وأعمالهم الصالحة، فكل منهم من الأخيار المختارين للنبوة.
وبعد أن أمر الله تعالى رسوله بالصبر على سفاهة قومه وذكر جملة من الأنبياء، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين وحال الكافرين من الجزاء، ومقرّ كل واحد من الفريقين، فقال تعالى:
هذا ذِكْرٌ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ هذه الآيات القرآنية التي تعدد محاسنهم تذكّر لهم وتنويه، وذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به أبدا، وإن لهم وللمتقين أمثالهم لحسن مرجع يرجعون فيه في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنّته. وهذا شروع فيما أعدّ لهم ولأمثالهم من النعيم والسعادة في الدار الآخرة.
(23/215)
ثم فسّر الله تعالى المقصود بالمرجع والمآب الحسن قائلا:
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي إن ذلك المآب هو في جنات إقامة دائمة، مفتحة لهم أبوابها، فإذا جاءوها فتحت لهم أبوابها إكراما لهم، تفتحها لهم الملائكة ليدخلوها مكرمين. وفي هذا إيماء بتخصيصها لهم وبسعتها وروعتها وبهائها الذي تسرّ به النفوس.
مُتَّكِئِينَ فِيها، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ أي تراهم متكئين في الجنات على الأرائك والأسرّة، يطلبون ما لذّ وطاب مما شاؤوا من أنواع الفاكهة الكثيرة المتنوعة، وأنواع الشراب الكثير العذب الطيب، وغيرهما، فمهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة 56/ 18] .
والسبب في تخصيص الفاكهة والشراب بالذكر: ترغيب العرب فيها، لأن ديارهم حارة قليلة الفواكه والأشربة، وفيه إيماء بأن طعامهم لمجرد التّفكّه والتّلذّذ لا للتّغذي، لعدم حاجتهم إليه بسبب خلق أجسامهم للدوام، فلا تحتاج لبدائل المتلفات والتّحللات.
وبعد وصف المسكن والمأكول والمشروب، ذكر تعالى الأزواج، فقال:
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي ولهم زوجات قاصرات طرفهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غيرهم، وهم لدات متساويات في السّن، متساويات في الحسن والجمال، يحب بعضهنّ بعضا، فلا تباغض ولا غيرة عندهنّ.
ثم ذكر الله تعالى ما وعد به المتقين من الثواب قائلا:
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي هذا المذكور من صفات الجنة هو الذي وعد به تعالى عباده المتقين، وهو الجزاء الأوفى الذي وعدوا به، وأجلّ ليوم الحساب في الآخرة بعد البعث والنشور من القبور.
(23/216)
وصفة هذا النعيم الدوام، فقال تعالى:
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي إن هذا الذي أنعمنا به عليكم لرزق دائم لا انقطاع له، ولا فناء أبدا، كقوله عزّ وجلّ: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 16/ 96] ، وقوله جلّ وعلا: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108] ، وقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق 84/ 25] ، أي غير منقطع، وقوله سبحانه: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [الرعد 13/ 35] .
فقه الحياة أو الأحكام:
جعل الله تعالى هؤلاء الصّفوة المختارة من الأنبياء مع من تقدّمهم قدوة طيبة وأسوة حسنة للنبي ص وللمؤمنين من بعده، في الصّبر والعمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والفقه في الدين.
وسبب اصطفائهم إيمانهم بالدار الآخرة وتذكرهم لها، وعملهم المحقق لرضوان الله ومغفرته ودخول جنانه فيها، فهم يذكرون الآخرة، ويرغبون فيها، ويزهدون في الدنيا.
وذكرهم في القرآن المتلو إلى يوم القيامة إشادة بهم، وذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به فيها أبدا.
ولهم ولكلّ المتقين مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة، إذ لهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، مفتحة الأبواب، تفتحها الملائكة تكريما لهم.
يتمتعون بنعيم الجنان في مسكن مريح يتكئون فيه على الأرائك، ولهم ما يطلبون من أنواع الفاكهة الكثيرة والشراب الكثير.
(23/217)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
ولهم أيضا أزواج قاصرات الطّرف لا ينظرن إلى غيرهم، وهنّ لدات أتراب على سنّ واحدة، متساوين في الحسن والجمال والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة.
ثم ذكر الله تعالى أن هذا الموصوف بهذه الصفات هو الجزاء والثواب الذي وعد به المتقين، ثم أخبر تعالى عن دوام هذا الثواب. وهذا دليل على أن نعيم الجنة لا ينقطع.
عقاب الطاغين الأشقياء
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
الإعراب:
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ.. هذا: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر هذا.
هذا فَلْيَذُوقُوهُ.. هذا يجوز فيه النصب والرفع، أما النصب فبتقدير فعل يفسره فَلْيَذُوقُوهُ أي فليذوقوه هذا فليذوقوه، والفاء زائدة في مذهب أبي الحسن الأخفش، مثل:
هذا زيد فاضرب. وأما الرفع: فهو على أنه مبتدأ، وخبره: حَمِيمٌ، وفَلْيَذُوقُوهُ اعتراض، والفاء للتنبيه، أو هو المخصوص بالذم، أي بئس المهاد هذا المذكور، أو مبتدأ وخبره فَلْيَذُوقُوهُ ويرفع حَمِيمٌ على تقدير (هو حميم) ، أو خبر مبتدأ، تقديره: الأمر هذا، ويرفع حَمِيمٌ على تقدير: هو حميم.
(23/218)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ: آخَرُ مبتدأ، ومِنْ شَكْلِهِ صفة له، ولهذا حسن أن يكون مبتدأ، مع كونه نكرة، وأَزْواجٌ خبر المبتدأ. ويجوز جعل أَزْواجٌ مبتدأ ثانيا، ومِنْ شَكْلِهِ خبر ل أَزْواجٌ والجملة منهما خبر المبتدأ الأول الذي هو آخَرُ.
ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ: ما في موضع رفع بالابتداء، ولَنا خبره، ولا نَرى حال من ضمير لَنا. وكُنَّا نَعُدُّهُمْ صفة ل رِجالًا. ومِنَ الْأَشْرارِ في موضع نصب، لتعلقه ب نَعُدُّهُمْ. وتجوز إمالة مِنَ الْأَشْرارِ لوجود الراء المكسورة.
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ: تَخاصُمُ إما بدل من لَحَقٌّ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره (هو تخاصم) أو خبر بعد خبر ل إِنَّ أو بدل من ذلِكَ على الموضع.
البلاغة:
الْأَشْرارِ الْأَبْصارُ أَهْلِ النَّارِ فيها مراعاة الفواصل من المحسنات البديعية.
فَبِئْسَ الْمِهادُ شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.
المفردات اللغوية:
لِلطَّاغِينَ الكفار الذين كذبوا بالله ورسله، وتجاوزوا حدود الله. مَآبٍ مرجع ومصير. يَصْلَوْنَها يدخلونها. الْمِهادُ الفراش. هذا العذاب، المفهوم مما بعده.
حَمِيمٌ ماء شديد الحرارة. وَغَسَّاقٌ شديد البرودة، وهو ما يسيل من صديد أهل النار.
وَآخَرُ أي وعذاب آخر، وقرئ: «وأخر» بالجمع، أي وأنواع عذاب آخر. مِنْ شَكْلِهِ مثل المذوق في الشدة والكراهية، أو مثل المذكور من الحميم والغساق. أَزْواجٌ أصناف أو أجناس عذابهم.
هذا فَوْجٌ أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، والفوج: الجمع الكثير من أتباع الضلال. مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ داخل معكم النار بشدة. لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا سعة عليهم ولا ترحيب بهم، وهذا ما يقوله الرؤساء لأتباعهم. صالُوا النَّارِ داخلون النار بأعمالهم مثلنا.
قالُوا: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم أحق بما قلتم. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي الكفر. فَبِئْسَ الْقَرارُ المقر وهو جهنم، فلنا ولكم النار.
قالُوا أي الأتباع أيضا. عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا أي ذا ضعف، بأن يزيد على العذاب مثله، فيصير ضعفين، كقوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الأحزاب 33/ 68] . وَقالُوا أي الرؤساء الطاغون، وهم في النار. مِنَ الْأَشْرارِ الأراذل
(23/219)
الذين لا خير فيهم، يريدون بهم فقراء المسلمين الذين يحتقرونهم ويسترذلونهم ويسخرون بهم.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا استفهام إنكاري، إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في تسخيرهم في الدنيا، أي الأجل أنا قد اتخذناهم مسخرين في أعمالنا، ولم يكونوا كذلك، لم يدخلوا النار؟ وقرئ بضم السين، أي كنا نسخر بهم. أَمْ زاغَتْ مالت. عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي أم هم معنا، ولكن لم ترهم أعيننا، وهم فقراء المسلمين كعمار وبلال وصهيب وسلمان.
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ ذلك الذي حكينا عنهم واجب وقوعه، لا بد أن يتكلموا به، ثم بيّن ما هو، فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي تنازعهم ومخاصمة بعضهم بعضا.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى ثواب المتقين ومآل السعداء، وصف بعده عقاب الطاغين وحال الأشقياء المحرومين، ليتم التقابل والمقارنة بين الفريقين، ويقترن الوعد بالوعيد، فيقبل على الطاعة، ويجتنب المعصية، ويتحقق الهدف المنشود وهو الإصلاح والتهذيب.
التفسير والبيان:
هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أي هذا المذكور هو جزاء المؤمنين، أو الأمر هذا كما ذكر، وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله عز وجل، المكذبين لرسله، لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله عز وجل:
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي إنهم يدخلون جهنم ويلفحهم حرها من كل جانب، فبئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، أي بئس ما تحتهم من نار جهنم، مشبها النار بالمهاد، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] .
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أي هذا حميم فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، وهو أمرتهكم وسخرية بذوق العذاب، وهو ماء حار شديد الحرارة
(23/220)
يشوي الجلود، وماء بارد مؤلم لا يستطاع شربه لشدة برودته، أو هو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد.
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أي ولهم أنواع أخرى من العذاب مثل الحميم والغساق، أشد كراهية وإيلاما كالزقوم، والصعود والسّموم، والزمهرير، يعاقبون بها، من الشيء وضده. فقوله: أَزْواجٌ أي ألوان من العذاب المختلفة المتضادة.
ثم وصف الله تعالى كلام أهل النار مع بعضهم بعضا، فقال:
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي تقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كبير داخل معكم، فلا مرحبا بهم، أي لا كرامة لهم، وهم يدخلون النار كما دخلناها، ويستحقونها كما استحققناها. والمراد من قولهم: لا مَرْحَباً بِهِمْ الدعاء عليهم. وهذا قول صادر من السادة أو الرؤساء والقادة عن الأتباع المنبوذين في الدنيا، والمراد به الإخبار من الله تعالى عن انقطاع المودة بين الكفار، بل إن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة.
فيجيبهم الأتباع قائلين:
1- بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، فَبِئْسَ الْقَرارُ أي قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم لا كرامة لكم، وأنتم أحق بهذا منا، فإنكم أضللتمونا ودعوتمونا إلى هذا المصير وأوقعتمونا فيه، فبئس المقر جهنم لنا ولكم. والمراد من هذا الكلام التشفي منهم، كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف 7/ 38] .
2- قالُوا: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي قال الأتباع أيضا عن الرؤساء داعين عليهم: ربنا عاقب الذين أوردونا هذا المورد في
(23/221)
النار وقدموا لنا هذا العذاب عقابا مضاعفا في النار، عقابا على الكفر، وعقابا على الإضلال، كما قال تعالى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أي لكل منكم عذاب بحسبه [الأعراف 7/ 38- 39] وقال سبحانه: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 67- 68] . ويؤيده
الحديث الصحيح عند مسلم عن جرير بن عبد الله: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» .
ثم تحدث الكفار عن أناس كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة، فقال تعالى:
وَقالُوا: ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟ أي قال المشركون بعضهم لبعض تعجبا وتحسرا: إننا نفتقد في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم، فما لنا لا نراهم معنا في النار؟ يعنون في زعمهم فقراء المؤمنين، كعمّار وخبّاب وصهيب وبلال وسالم وسلمان.
قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول: ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا؟ وهذا ضرب مثل، وإلا فكل الكفار، هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار. فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم، فقالوا هذا القول.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي الأجل أنا قد سخرناهم في الدنيا في أعمالنا، أو سخرنا منهم، وكانوا أهل الكرامة فأخطأنا، فلم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم نعلم مكانهم في النار؟ قال الحسن البصري: كل ذلك قد فعلوه، اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم، أي وهم في الجنة. وقوله:
سِخْرِيًّا بضم السين وكسرها، قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: بالكسر هو الهزء، وبالضم: هو التذليل والتسخير.
(23/222)
وهذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على اتخاذهم سخريا في الدنيا.
ثم أكد الله تعالى حدوث هذا التخاصم والتنازع قائلا:
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بدّ أن يتكلموا به، أو هذا الذي أخبرناك به يا محمد أمر واقع حتما يوم القيامة، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للأتباع، وما قالته الأتباع لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر الله تعالى ألوانا من العذاب في النار للكفار يوم القيامة، وتلك الألوان أو الأنواع هي ما يأتي:
1- إن مصير الظالمين الكافرين شر مرجع ومآب ومنقلب يصيرون إليه.
2- إنهم يصلون جهنم، أي يدخلونها، وبئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم، وهو ما تحتهم من النار.
3- إن شرابهم الحميم والغسّاق، والحميم: الماء الحار الشديد الحرارة، والغساق: ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد.
4- لهم أصناف وألوان أخرى من العذاب كالزمهرير والسموم وأكل الزقوم والصعود والهوي، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة، والجميع مما يعذبون به، ويهانون بسببه.
5- قال ابن عباس: إن القادة إذا دخلوا النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: هذا فَوْجٌ يعني الأتباع، والفوج: الجماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي داخل النار معكم، فقالت السادة: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا اتسعت منازلهم في النار، والمراد به الدعاء. فقال القادة أو الملائكة: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كما صليناها.
(23/223)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ من قول رؤسائهم بعضهم لبعض.
6- رد الأتباع على الرؤساء بقولهم: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أنتم دعوتمونا إلى العصيان فبئس القرار لنا ولكم. وقالوا أيضا: ربنا من سوّغ لنا هذا وسنّه وتسبب في عذابنا هذا فضاعف عذابه، عذابا على الكفر، وعذابا على الإضلال.
وكل كلام من الفريقين فيه زيادة تبكيت وإيلام وإزعاج للفريق الآخر.
7- زعم الكفار في الدنيا أن أعداءهم في الدنيا وهم فقراء المؤمنين العرب أو الموالي غير العرب، كبلال وصهيب وسلمان من أهل النار، فافتقدوهم بحسب زعمهم في النار معهم، فلم يجدوهم، فلاموا أنفسهم على خطئهم باتخاذهم سخريا في الدنيا. وهذا لون آخر من التعذيب النفسي الداخلي.
قال مجاهد وغيره: يسألون أين عمار، أين صهيب، أين فلان، يعدون ضعفاء المسلمين، فيقال لهم: أولئك في الفردوس.
8- إن هذا التخاصم والتنازع الذي يزعج أهل النار أمر واقع حتما في النار، وهو حق ثابت، يجب الإيمان به.
بعض أدلة صدق النبي ص
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
(23/224)
الإعراب:
قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ: هُوَ نَبَأٌ مبتدأ وخبر، وعَظِيمٌ صفة، وأَنْتُمْ مبتدأ، وخبره مُعْرِضُونَ، وعَنْهُ متعلق بالخبر وهو مُعْرِضُونَ.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ: أَنَّما إما مرفوع نائب فاعل ل يُوحى وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأنما أنا نذير، وإِلَيَّ يقوم مقام نائب الفاعل ل يُوحى والوجه الأول أوجه.
المفردات اللغوية:
قُلْ يا محمد لكفار مكة. مُنْذِرٌ مخوف بالنار. الْقَهَّارُ لخلقه. الْعَزِيزُ الذي لا يغلب أو الغالب على أمره.
الْغَفَّارُ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء.
قُلْ يا محمد للمشركين. هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ خبر مهم جدا. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي إن القرآن الذي أنبأتكم به وجئتكم فيه بما لا يعلم إلا بوحي هو مهم جدا، وأنتم معرضون عنه لتمادي غفلتكم، فإن العاقل لا يعرض عن مثله.
بِالْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة، وهم أشراف الخلق، أي ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى.
إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم حين قال الله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة 2/ 30] .
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا أني بيّن الإنذار.
المناسبة:
هذه الآيات عود على بدء السورة الداعية إلى التوحيد وإثبات نبوة النبي ص، والمعاد، فهي تقرير للتوحيد، ووعد ووعيد للموحدين والمشركين بسبب الإعراض عن دعوة النبي محمد ص، وإثبات للبعث الذي يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين بعد إنذار النبي ص في الدنيا بعقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد.
وهذا دليل على أن السورة إلى آخرها في أحسن وجوه الترتيب والنظم.
(23/225)
التفسير والبيان:
قُلْ: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي قل أيها الرسول للكفار بالله، المشركين به من أهل مكة وغيرهم، المكذبين لرسوله ص: إنما أنا مخوف لكم من عقاب الله وعذابه، مبلّغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد، مثل عقاب الأمم السابقة في الدنيا كعاد وثمود، وأحوال عذاب جهنم في الآخرة.
وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي ليس هناك إلا إله واحد لا شريك له، قهار لكل شيء سواه، قد قهر كل شيء وغلبه.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أي مالك جميع السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، ومتصرف فيه، وهو الذي يغلب ولا يغلب، فلا يغالبه مغالب إذا عاقب العصاة، وهو غفار الذنوب لمن أطاعه، ولمن شاء من عباده إذا تاب، ولمن التجأ إليه.
ثم توعدهم تعالى على مخالفة أمر الله تعالى ورسوله ص والإعراض عن القرآن، فقال:
قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي قل أيها الرسول لمشركي مكة وغيرهم: إن هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا، وأن الله واحد لا شريك له، وأن القرآن وحي منزل من عند الله، هو خبر عظيم مهم جدا، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، فهو ينقذكم من الضلالة إلى النور، لكنكم أنتم معرضون عما أقول، لا تتفكرون فيه. وفي هذا توبيخ لهم وتقريع، لكونهم أعرضوا عنه، فعليهم العدول عن خطأهم.
ثم ذكر تعالى ما يدل على نبوة محمد ص، فقال:
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى، إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي ما كان لي قبل أن
(23/226)
يوحى إلي علم باختلاف الملأ الأعلى في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه، فلولا الوحي من أين كنت أدري بتلك المغيبات.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا للإنذار الواضح، والتبليغ البيّن، لا لأمر آخر من تسلط أو ملك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبان الله تعالى في هذه الآيات بعض أدلة صدق النبي ص في نبوته، وأوضح بعض مهامه وواجباته.
أما مهمته: فهي إنذار من عصاه بالنار، وتخويف عقاب الله من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد.
وكذلك تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله، المنزه عن الشريك والنظير، وأنه سبحانه القهار لكل شيء، وهذا يدل على كونه واحدا، وأن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء أصلا، مثل هذه الأوثان والجمادات التي لا تضر ولا تنفع.
ولما كانت صفة الْقَهَّارُ توجب الخوف الشديد، أردفه تعالى بذكر صفات ثلاث له دالة على الرحمة والفضل والكرم:
أولها- كونه ربا للسموات والأرض والعناصر الأربعة (الماء، والهواء، والنار، والتراب) والمواليد الثلاثة (الإنس والجن والحيوان) .
ثانيها- كونه عزيزا (أي منيعا قويا لا مثل له) فهو قادر على كل الممكنات، فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء.
(23/227)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
ثالثها- كونه غفارا لذنوب عباده المطيعين المخلصين في العبادة.
والمنذر به: هو الحساب والثواب والعقاب والنبوة والقرآن، وهذا خبر عظيم القدر، فلا ينبغي أن يستخف به. وليس من مهام النبي التسلط أو التجبر أو تحقيق النفوذ.
وأما بعض أدلة النبوة وإنزال الوحي عليه: فهو ما يخبر عنه القرآن الكريم من أنباء الملأ الأعلى وهم الملائكة حين اختصموا في أمر آدم حين خلق فقالوا:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة 2/ 30] وقال إبليس:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف 7/ 120] فهذا البيان من محمد ص عن قصة آدم وغيره من الغيبيات لا يتصور إلا بتأييد إلهي، وحينئذ قامت المعجزة على صدقه.
فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه.
وقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال في العقائد ومنع التقليد.
قصة آدم عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
(23/228)
الإعراب:
قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ الحق الأول بالرفع: إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: أنا الحق أو فالحق قسمي أو مني، وإما مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: فالحق متى، ويقرأ بالنصب على تقدير فعل، تقديره: الزموا الحق أو اتبعوا الحق، أو بتقدير حذف حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، والدليل على أنه قسم: قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.
وفَالْحَقُّ الثاني: منصوب ب أَقُولُ أي أقول الحق، وهو اعتراض بين القسم وجوابه.
وقرئ: فالحقّ والحقّ أقول، بالجر فيها على القسم، وإعمال حرف الجر في القسم مع الحذف، كما تقول: الله لأفعلن، (و) الله لأذهبن، وهي قراءة شاذة.
البلاغة:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيد بمؤكدين: لفظ كل، ولفظ أَجْمَعُونَ.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ رَبُّكَ أي اذكر حين ذلك. إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ هو آدم.
سَوَّيْتُهُ أتممته وعدّلت وأكملت خلقته. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته بنفخ الروح فيه، وأضاف الروح إلى نفسه لشرفه وطهارته، والروح: جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه.
فَقَعُوا لَهُ فخروا له أو اسقطوا له. ساجِدِينَ تكرمة وتبجيلا له، وهو سجود تحية بالانحناء، لا سجود عبادة.
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيدان، الأول لإفادة العموم، والثاني لإفادة الاجتماع في السجود.
إِبْلِيسَ هو أبو الجن، وكان من الملائكة. اسْتَكْبَرَ تعاظم. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، أو باستكباره عن أمر الله تعالى، واستنكافه عن الطاعة. ما مَنَعَكَ ما صرفك وصدك. خَلَقْتُ بِيَدَيَّ خلقته بنفسي من غير توسط أب وأم، واليد: القدرة، وهو تمثيل
(23/229)
للخلق المستقل وللدلالة على أنه معتنى بخلقه، فهذا تشريف لآدم، فإن كل مخلوق تولى الله خلقه.
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟ أي تكبرت الآن عن السجود من غير استحقاق، أم كنت من المتكبرين المتفوقين المستحقين للترفع عن طاعة الله، فتكبرت عن السجود، لكونك منهم، وهو استفهام توبيخ.
قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إبداء للمانع. فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة أو من السموات.
رَجِيمٌ مرجوم مطرود من الرحمة. لَعْنَتِي طردي. فَأَنْظِرْنِي فأمهلني. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يبعث الناس. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وقت النفخة الأولى. فَبِعِزَّتِكَ بسلطانك وقهرك. لَأُغْوِيَنَّهُمْ لأضلنهم. الْمُخْلَصِينَ المؤمنين الذين أخلصتهم للعبادة وعصمتهم من الضلالة.
فَالْحَقُّ المراد بالحق: إما اسمه عز وجل أو الحق الذي هو نقيض الباطل، عظمه الله باقسامه به، أي فالحق مني أو فالحق قسمي، وجواب القسم: لَأَمْلَأَنَّ. وَالْحَقَّ أَقُولُ أحق الحق وأقوله. مِنْكَ أي من ذريتك وجنسك. وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أي من ذرية آدم.
المناسبة:
هذه هي القصة الأخيرة في هذه السورة، وقد ذكرت في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف. والمقصود منها منع الحسد والكبر، لأن امتناع إبليس عن السجود كان بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا ص بسبب الحسد والكبر، وذكرت هنا لتكون زاجرا للكفار عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
التفسير والبيان:
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي اذكر يا محمد قصة خلق آدم أبي البشر، حين قال الله للملائكة: إني سأخلق بشرا هم آدم وذريته، مِنْ طِينٍ تراب مخلوط بالماء، كما في آية أخرى: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر 15/ 26] .
(23/230)
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فإذا أتممت خلقه وعدلته وأكملته، وجعلته حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه، فاسجدوا له، أي سجود التحية والتكريم، لا سجود العبادة. وهو أمر واجب بالسجود. والنفخ تمثيل لإفاضة مادة الحياة فيه، فليس هناك نافخ ولا منفوخ.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أي فامتثل الملائكة كلهم لأمر الله، وسجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وسجدوا مجتمعين في آن واحد، لا متفرقين.
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي سجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع مستكبرا متعاظما ولم يكن من الساجدين، جهلا منه بأنه طاعة، وكان استكباره استكبار كفر، فصار من الكافرين بمخالفة أمر الله وأنفته من السجود واستكباره عن طاعة الله، أو إنه كان من الكافرين في علم الله.
قالَ: يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قال الله له: يا إبليس ما الذي صرفك وصدك عن السجود لآدم، الذي توليت بنفسي خلقه من غير واسطة أب وأم، هل استكبرت عن السجود الآن، أم أنك كنت من القوم المتعالين عن ذلك؟ والمراد إنكار الأمرين معا.
فأجاب قائلا:
قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي إنني خير من آدم، فإني مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار خير وأشرف من الطين في زعمه، لما فيها من صفة الارتفاع والعلو، وأما التراب فهو خامد هابط لا ارتفاع فيه.
قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ قال الله تعالى: فاخرج من الجنة أو
(23/231)
من السموات أو من زمرة الملائكة، فإنك مرجوم بالكواكب، مطرود من رحمة الله ومحل أنسه ومن كل خير.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي وإن طردي مستمر دائم ما دامت الدنيا إلى يوم الجزاء والقيامة، ثم في الآخرة يلقى من عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق.
قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي قال إبليس: رب أمهلني حيا، ولا تعاجلني بالإماتة إلى اليوم الذي يبعث فيه الناس، أي آدم وذريته بعد موتهم. طلب هذا ليوسوس لآدم وذريته، فيثأر من آدم الذي كان سببا لطرده من رحمة الله.
قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قال الله تعالى:
فإنك من الممهلين، إلى اليوم الذي قدره الله لفناء الخلائق، وهو عند النفخة الأولى. وقد طلب إبليس الإنظار (الإمهال) إلى يوم البعث، ليتخلص من الموت، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث، لم يمت، فأنظره الله إلى وقت الصعق لا إلى البعث. فلما أمن الهلاك تمرد وطغى وتحدى قائلا:
قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي فإني أقسم بعزتك (سلطانك وقهرك) أن أضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم، وإدخال الشبه عليهم، إلا الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم من الضلالة والهوى والشيطان، فهؤلاء لا أقدر على إضلالهم وإغوائهم، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر 15/ 42] .
فأجابه الله تعالى:
قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
(23/232)
أي قال الله: أنا الحق أو الحق مني ملء جهنم من إبليس وأتباعه، وأقول الحق:
لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين، وممن تبعك من ذرية آدم، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية. فهذا قسم من الله تعالى لإبليس أنه سيدخله وأتباعه النار حتى تمتلئ منهم. وقال الزمخشري: وَالْحَقَّ أَقُولُ أي ولا أقول إلا الحق، على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد.
فقه الحياة أو الأحكام:
قصة آدم عليه السلام هذه مع إبليس اللعين: تصوير بالغ للأمر الإلهي، وبيان مدى طاعته، وتقرير العقاب على المخالف، وعناصر القصة هي:
- لقد أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشرا من التراب، فإذا خلقه وأحياه، فيجب عليكم أن تسجدوا له إكراما وتحية، لا عبادة وتأليها.
- فامتثل الملائكة وسجدوا كلهم مجتمعين لآدم خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه إلا إبليس الذي كان من جنس الجن، فخانه طبعه وجبلته، فأنف من السجود لآدم، جهلا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى.
- سأله ربه سؤال تقرير وتوبيخ عن سبب امتناعه من السجود لما خلق الله، أكان ذلك استكبارا عن السجود أم كان من المتكبرين على ربه، فتكبر لهذا؟
- أجاب إبليس بأنه خير من آدم، لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، والنار في زعمه أشرف من الطين لما فيها من خاصية الارتفاع والاندفاع والتعالي. وهذا جهل منه، لأن الجواهر أو العناصر متجانسة متساوية، فقاس وأخطأ القياس.
(23/233)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
- كان عقابه الإخراج من الجنة، والرجم بالكواكب والشهب، والطرد والإبعاد من رحمة الله إلى يوم القيامة، لأن اللعن منقطع حينئذ.
- أراد الملعون ألا يموت، فطلب تأخيره إلى يوم البعث، فلم يجبه الله إلى ذلك، وإنما أخره إلى الوقت المعلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخّر إليه استهانة به.
- لما أمن إبليس الهلاك طغى وتمرد وتحدى ربه، وأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات والمعاصي، وإدخال الشبه عليهم، ودعوتهم إلى المعاصي، وقد علم أنه لا يتمكن إلا من الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه.
لهذا استثنى من تسلطه عباد الله الذين أخلصهم لطاعته وعبادته وعصمهم منه.
- أقسم الله بذاته، وأخبر أنه لا يقول إلا الحق أنه سيملأ جهنم من إبليس وأتباعه، عقابا على مخالفتهم أوامر الله، وإصرارهم على ارتكاب المعاصي.
حال الداعي وحال الدعوة ومعجزة القرآن
[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
الإعراب:
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أصله: (لتعلمون) إلا أنه لما اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أوجبت بناءه، لأنها أكدت الفعلية، فردته إلى أصله في البناء، فحذفت النون، فاجتمع ساكنان: الواو والنون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة قبلها. والمعنى: لتعرفنّ، لذا تعدى إلى مفعول واحد. واللام: لام قسم مقدر، أي والله لتعلمن.
(23/234)
المفردات اللغوية:
ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة والوحي والقرآن. مِنْ أَجْرٍ جعل أو عوض.
الْمُتَكَلِّفِينَ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي أو المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فأنتحل النبوة والقول على الله. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ما القرآن إلا عظة بليغة للإنس والجن والعقلاء، دون الملائكة.
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ لتعرفن يا كفار مكة وغيركم خبر صدقه وعاقبة خبره وهو ما فيه من الوعد والوعيد، بإتيانه يوم القيامة، وذلك لمن آمن به ومن أعرض عنه.
المناسبة:
هذه خاتمة شريفة لهذه السورة، يتبين فيها حال الداعي وهو الرسول ص وهو أنه لا يأخذ أجرا ومالا على هذه الدعوة، ويظهر فيها كيفية الدعوة وهي أنها لا تقوّل فيها وإنما هي وحي من عند الله، ودين يشهد بصحته العقل، وتتحدد فيها مهمة القرآن بأنه عظة للعالمين، وستظهر معجزته ووعده ووعيده يوم القيامة.
التفسير والبيان:
قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: ما أطلب منكم من جعل أو مال تعطونيه على تبليغ رسالتي ووحي الله والنصح بالقرآن وغيره من الوحي، وما أنا من المتقوّلين على الله، حتى أقول ما لا أعلم، أو أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه.
والتكلف: التصنع والتقول والاختلاق.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما هذا القرآن، أو ما أدعوكم إليه إلا موعظة للخلق أجمعين، والعاقل من يشهد بصحته. ولِلْعالَمِينَ الإنس والجن. ونحو الآية: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] وقوله تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] .
(23/235)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ لتعرفن أيها الكفار خبره وصدقه، من الدعوة إلى الله وتوحيده، والترغيب في الجنة، والتحذير من النار، بعد زمان قريب، إما بعد الموت، وإما يوم القيامة. قال الحسن البصري: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لم يطلب النبي ص على تبليغ دعوته عوضا ماديا، ولم ينشد تحقيق مكسب مالي أو مطمع دنيوي كالحكم والسلطة والجاه، وهذا دليل على صدقه في نبوته، لأن من الظاهر أن الكذاب لا بدّ من أن يظهر طمعه في طلب الدنيا، وكان ص بعيدا عن الدنيا، عديم الرغبة فيها.
2- لم يكن النبي ص متكلفا متقوّلا ولا متخرّصا ما لم يؤمر به من عند ربه، فهو مبلّغ وحي الله بأمانة متناهية دون زيادة ولا نقص. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيكم ص: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: قال رسول الله ص: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: هم الرحماء بينهم، قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى، قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلّفون» .
3- تتلخص دعوة النبي ص في أصول ثمانية، هي الأصول المعتبرة في دين الله، ويشهد بصحتها كل ذي عقل سليم وطبع مستقيم وهي:
(23/236)
أولا- الدعوة إلى الإقرار بوجود الله.
ثانيا- الدعوة إلى تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 42/ 11] .
ثالثا- الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة.
رابعا- الإقرار بكونه منزها عن الشركاء والأضداد.
خامسا- الامتناع عن عبادة الأوثان التي هي مجرد جمادات، ولا منفعة في عبادتها، ولا مضرة في الإعراض عنها.
سادسا- تعظيم الأرواح الطاهرة المقدسة، وهم الملائكة والأنبياء.
سابعا- الإقرار بالبعث والقيامة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] .
ثامنا- الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة «1» .
4- إن ما دعا إليه النبي ص من الوعد والوعيد والإيمان بالقرآن هو عظة بليغة للعالمين، أي الجن والإنس.
وسيعلم الكفار نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق وصدق بعد زمان قريب، إما بعد الموت وإما يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 236
(23/237)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزّمر
مكيّة، وهي خمس وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الزمر لأن الله تعالى ذكر في آخرها زمرة الكفار الأشقياء مع الإذلال والاحتقار [71- 72] وزمر المؤمنين السعداء مع الإجلال والإكرام [73- 75] .
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة ص من وجهين:
الأول- إنه تعالى ختم سورة ص واصفا القرآن بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وابتدأ هذه السورة بقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل، فهما كالآية الواحدة، بينهما اتصال وتلاحم شديد.
الثاني- ذكر تعالى في آخر ص قصة خلق آدم عليه السلام، وذكر في القسم الأول من هذه السورة أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلا بخلق آدم المذكور في السورة المتقدمة.
(23/238)
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة الحديث عن التوحيد وأدلة وجود الله ووحدانيته، وعن الوحي والقرآن العظيم.
ابتدأت هذه السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من الله تعالى على رسوله ص، وأمر الرسول ص بإخلاص الدين لله، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، وتوضيح شبهة المشركين في اتّخاذ الأصنام آلهة شفعاء، وعبادتها وسيلة إلى الله تعالى، والنّعي عليهم في عبادة الأوثان.
وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية الله، من خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة، ثم نددت بطبيعة المشرك وتناقضه حين يدعو الله حال الضر، وينساه حال الرخاء. ثم عادت لإيراد بعض هذه الأدلة كإنزال المطر وإنبات النبات.
ثم ذكرت مقارنة بين المؤمنين وبين الكافرين، حيث يسعد الأوائل في الدنيا والآخرة، ويشقى الآخرون فيهما، ويتمنون الفداء حين يرون العذاب.
وأشادت بعظمة القرآن الكريم حيث تقشعر من آياته جلود المؤمنين الخائفين، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله، على عكس المشركين الذين تنقبض قلوبهم عند سماع توحيد الله، كما أن القرآن يتضمن أمثالا للناس لعلهم يتذكرون.
ومن هذه الأمثال يتضح الفرق بين من يعبد إلها واحدا، وبين من يعبد آلهة متعددة لا تسمع ولا تجيب، كالعبد المملوك لسيد واحد، والمملوك لعدة شركاء متخاصمين فيه. ثم رد تعالى على المشركين الذين يتخذون الأصنام شفعاء من دون الله، ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون.
(23/239)
وأخبر الله تعالى عن موت النّبي ص وموت أصحابه، وأن الله هو المهيمن على الأرواح، فيتوفّى بعضها في أجلها، ويترك بعضها إلى أجل آخر.
ثم فتح باب الأمل أمام المسرفين، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم إذا تابوا، وأوضح ما يرى على وجوه الذين كذبوا على الله أهل النار يوم القيامة من كآبة وحزن.
وأعقب ذلك ببيان أحوال القيامة، وحدوث نفختين: الأولى للإماتة، والثانية للإحياء من القبور، ثم يأتي الحساب والقضاء بالحق، وإيفاء كل نفس ما عملت.
وختمت السورة بتقسيم الناس يوم القيامة فريقين: فريق الكافرين الذين يساقون زمرا وجماعات إلى جهنم، ويشاهدون من أهوال المحشر، وفريق المؤمنين الذين يساقون إلى الجنان وتحييهم الملائكة، ويشاهدون في الجنة النعيم المقيم الذي يستدعي الحمد التام لله رب العالمين، ويرون الملائكة حافين حول العرش يسبحون بحمد ربهم.
فضلها:
أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ص يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان ص يقرأ في كل ليلة: بني إسرائيل- أي الإسراء- والزّمر.
(23/240)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
مصدر القرآن والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، ومِنَ اللَّهِ: خبره، ويجوز كونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل. وقرئ تَنْزِيلُ بالنصب، على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ.. وَالَّذِينَ: مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره:
يقولون: ما نعبدهم، ويجوز جعل الخبر: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. ويكون «يقولون» المحذوف حال في ضمير اتَّخَذُوا تقديره: والذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين: ما نعبدهم. وجملة ما نَعْبُدُهُمْ في موضع نصب ب «يقولون» المقدر، لأن الجمل تقع بعد القول محكية في موضع نصب.
المفردات اللغوية:
الْكِتابِ القرآن الْعَزِيزِ القوي في ملكه الْحَكِيمِ في صنعه، يضع الأشياء في موضعها المناسب إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ بِالْحَقِّ بالحق متعلق ب أَنْزَلْنا أي ملتبسا بالحق، قائما عليه، أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين، خاليا من الشرك والرياء، أي موحدا الله.
(23/241)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي لله وحده الدين صافيا نقيا، لا يستحقه غيره، لأنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي المتخذون من دون الله نصراء وهم كفار مكة الذين اتخذوا الأصنام آلهة. ما نَعْبُدُهُمْ يقولون: ما نعبدهم.
زُلْفى قربى، مصدر بمعنى التقريب. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبين المسلمين. فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
لا يَهْدِي لا يوفق للاهتداء إلى الحق. مَنْ هُوَ كاذِبٌ في نسبة الولد إليه.
كَفَّارٌ شديد الكفر بعبادته غير الله.
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما قال المشركون: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ لاختار من خلقه ما يشاء غير ما قالوا: إن الملائكة بنات الله، وعزيز ابن الله، والمسيح ابن الله. سُبْحانَهُ تنزيها له عن اتخاذ الولد. الْقَهَّارُ القاهر كل شيء من خلقه.
سبب النزول: نزول الآية (3) :
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا: أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال:
أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
التفسير والبيان:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي هذا الكتاب العظيم وهو القرآن تنزيل من الله تعالى، العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه، يضع الأشياء في مواضعها المناسبة، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، كما قال عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] .
(23/242)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن مقترنا بالحق، أي إن كل ما فيه حق، من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف الشرعية، ولم ننزله باطلا لغير شيء.
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا نصلح العبادة إلا لله وحده، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد. والإخلاص: أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، ولا يقصد شيئا آخر. والدين: العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله، واعتقاد أنه لا شريك له. ولهذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى:
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا لله العبادة والطاعة الخالصة من شوائب الشرك والرياء وغيره. وأما ما سواه من الدين فليس بدين الله الخالص الذي أمر به، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له.
وقوله: أَلا لِلَّهِ يفيد الحصر، أي أن يثبت الحكم في المذكور، وينتفي عن غيره.
وإذا كان رأس العبادة الإخلاص لله، فطريق المشركين مذموم، كما قال تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي وأما المشركون الذين والوا غير الله تعالى، وهي الأصنام التي عبدوها من دونه، فيقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله تقريبا، ويشفعوا لنا عنده في حوائجنا.
وهؤلاء عاقبتهم وخيمة كما قال تعالى مهددا لهم:
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان
(23/243)
يوم القيامة، ويفصل في خلافاتهم، ويجزي كل عامل بعمله، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يرشد لدينه، ولا يوفق للاهتداء إلى الحق، من هو كاذب مفتر على الله، في زعمه أن لله ولدا، وأن الآلهة تشفع له وتقربه إلى الله، مغال في كفره باتخاذ الأصنام آلهة، وجعلها شركاء لله، من غير دليل عقلي ولا نقلي مقبول.
ثم رد الله تعالى على زعمهم اتخاذ الله ولدا، فقال:
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لو شاء الله اتخاذ ولد، وهو لا يحتاج لذلك، لاختار من جملة خلقه ما يشاء أن يختاره، ولكان الأمر على خلاف ما يزعمون، فيختار أكمل الأولاد وهم الأبناء، لا البنات كما زعموا، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق، فلم يبق إلا أن يختار ما يريد هو، لا ما يزعمون.
ثم نزّه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد، فقال:
سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي تنزه الله وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي يفتقر إليه كل شيء، وهو الغني عما سواه، قهر الأشياء فدانت له وخضعت وذلت، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
1- إن القرآن العظيم تنزيل من رب العالمين، وكل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف حق لا مرية فيه، وصدق يجب العمل
(23/244)
به. والدليل على نزوله من عند الله: أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزا، لأنه كلام الله الموحى به إلى رسوله ص، لما عجزوا عن معارضته.
2- العبادة والطاعة لا تكون إلا لله وحده، فلله الدين الخالص الذي لا يشوبه شيء.
روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء، أريد به وجه الله، وثناء الناس، فقال رسول الله ص: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه» ثم تلا رسول الله ص: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ.
وروى ابن جرير عن أبي هريرة حديثا قدسيا بلفظ: «من عمل عملا أشرك فيه غيري، فهو له كله، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك» .
3- قال ابن العربي عن آية: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ: هي دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان: إن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطره، ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر، بغير نية «1» .
4- اعتمد المشركون في عبادتهم الأصنام واتخاذها شفعاء عند الله على وهم لا يعتمد أصلا على أساس مقبول من العقل والنقل، إذ كيف يعقل أن تكون الأصنام والجمادات وسيلة تقرب إلى الله؟ وكذلك لا يعقل أن تكون هذه الأصنام تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون المقصود من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى من جعلت تماثيل لها، لأن هذه المخلوقات عاجزة عن جلب الخير لنفسها أو دفع الضر عنها، فكيف تحقق ذلك لغيرها؟!!
__________
(1) أحكام القرآن: 4/ 1644
(23/245)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
ويلاحظ أن ظاهرة الشرك قديمة، وجاءت الرسل لتفنيدها وإبطالها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] .
5- أجاب الله تعالى عن شبهة المشركين مقتصرا في الجواب على مجرد التهديد، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة، فيجازي كلا بما يستحق.
ثم قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يوفق للدين الذي ارتضاه، وهو دين الإسلام، ولا يرشد إلى الهداية من كذب على الله وافترى عليه، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه.
6- أبان الله تعالى بعدئذ أنه لا ولد له كما يزعم جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى، فلو أراد تعالى أن يسمي أحدا من خلقه بأنه ولد، ما جعله عز وجل إليهم، سبحانه، أي تنزه وتقدس ربنا عن الولد، فهو الله الواحد الأحد، القهار لكل شيء.
من أدلة التوحيد وكمال القدرة وكمال الاستغناء
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
(23/246)
الإعراب:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ متعلق ب خَلَقَ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ذلِكُمُ: مبتدأ، ورَبُّكُمْ: خبره، ولَهُ الْمُلْكُ: خبر آخر، والْمُلْكُ: مرفوع بالجار والمجرور، وتقديره: ذلكم ربكم كائن له الملك. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيه وجهان: الرفع على أنه خبر آخر للمبتدأ، والنصب على أنه منصوب على الحال، وتقديره: منفردا بالوحدانية.
البلاغة:
تَكْفُرُوا تَشْكُرُوا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ يلقي هذا على هذا، والتكوير: اللف على الجسم المستدير، وهذا يدل على كروية الأرض، ومنه كوّر المتاع والعمامة: ألقى بعضه على بعض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذلل وطوع، وجعلهما منقادين له يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى لوقت معين محدود هو يوم القيامة الْعَزِيزُ القوي الغالب على كل شيء الْغَفَّارُ لذنوب عباده إذا شاء وإذا تابوا. والآية دليل على وجود الله ووحدانيته وقدرته.
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فيه ثلاث دلالات على وجود الله وتوحيده وقدرته: خلق آدم عليه السلام أولا من غير أب وأم، ثم خلق حواء منه أو من جنسه، ثم شعّب الخلق منهما. وثُمَّ معطوف على محذوف تقديره: مثل خلقها، للدلالة على مباينتها لها في الفضل والمزية، فهو- كما قال الزمخشري- من التراخي في الحال والمنزلة، لا من
(23/247)
التراخي في الوجود «1» وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى لكم وقسم، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم- الضأن والمعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكرا وأنثى. وهي جمع أزواج، والزوج: اسم لكل واحد معه غيره، فإن انفرد فهو فرد خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي بالتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحما فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة أو الصلب ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحق للعبادة والمالك لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رحمة عليهم وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ لأنه سبب فلا حكم، أي وإن تشكروا الله فتؤمنوا يرض الشكر لكم وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بحديث النفس، فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى في الآية المتقدمة كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا غالبا، أي كامل القدرة، أعقبه ببيان الأدلة الدالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه، فذكر ثلاثة أدلة: خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم، وتذليل الشمس والقمر لقدرته، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكرا وأنثى، وفي كل دليل من هذه الأدلة أدلة ثلاثة أبينها بمشيئة الله هنا.
__________
(1) يعني أن ثُمَّ كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي، تكون أيضا لمطلق الترتيب.
والمعطوف عليه هنا مقدر هو خلقها.
(23/248)
التفسير والبيان:
الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي:
أ- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أبدع وأوجد العالم العلوي من السموات والأرض إبداعا قائما على الحق والصواب، لأغراض ضرورية وحكم ومصالح، فلم يخلقهما باطلا وعبثا، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدل على وجود الإله القادر، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، فهو واحد، كامل القدرة، كامل الاستغناء عن غيره.
ب- يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي يغشي كلا منهما الآخر، حتى يذهب ضوءه أو ظلمته، أو يجعلهما متتابعين متعاقبين، يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، كقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف 7/ 54] وقوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد 57/ 6] .
وهذا دليل على كروية الأرض أولا: لأن التكوير: اللف على الجسم المستدير، وعلى دورانها حول نفسها ثانيا، لأن تعاقب الليل والنهار والنور والظلمة لا يتم دون دوران.
ج- وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وجعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ومصالحهم، وكل منهما يسير في فلكه إلى منتهى دورته، وإلى وقت معين محدود في علم الله، وهو انتهاء الدنيا، ومجيء القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء 21/ 104] .
وذيّل الآية بالدلالة على المراد وهو إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة، فقال:
(23/249)
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أَلا: تنبيه، أي تنبهوا، أي إن خلق هذا العالم العلوي وأجرامه العظيمة من غالب قادر على الانتقام ممن عاداه، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة، ولا أحد مثله في ذلك، والجمع بين هاتين الصفتين للدلالة على أنه مع عزته وعظمته وكبريائه وكمال قدرته، هو غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، يغفر لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه، فإن الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة، فأتبعه بوصف الْغَفَّارُ الذي يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة لا تعني الطمع من دون فعل، وإنما توجب الرجاء والرغبة في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له. والخلاصة: إن هذا التذييل للترغيب في العمل الموجب للمغفرة، بعد الترهيب الموجب للحذر.
ثم أتبعه بدليل آخر:
الدليل الثاني وأقسامه من العالم السفلي:
أ- خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام، ثم جعل من جنسها «1» زوجها، وهي حواء، ثم شعّب الخلق منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء 4/ 1] وهذا الجزء من الدليل في عالم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلة ثلاثة. والمشهور في قوله: مِنْها أنه خلق حواء من ضلع آدم، ولم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها.
ب- وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي وقضى لكم وقسم وخلق وأعطاكم من ظهور الأنعام (وهي الإبل والبقر والضأن والمعز) ثمانية أزواج من كل صنف ذكرا وأنثى، كما قال تعالى:
__________
(1) وهذا رأي الرازي. [.....]
(23/250)
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام 6/ 143] أي ذكر وأنثى لكل منها.
ج- يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ أي يبتدئ خلقكم ويقدره في بطون أمهاتكم في مراحل متدرجة من الخلق، حيث يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يتكون العظام، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب، ثم تنفخ فيه الروح، فيصير إنسانا خلقا آخر في أحسن تقويم.
وتكون مراحل الخلق في ظلمات أغشية ثلاثة، هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، والأغشية- كما يقول الأطباء-: هي الغشاء المنباري، والخربون، والغشاء اللفائفي.
ثم ذيّل هذه الآية كالآية السابقة بما يشير إلى الهدف وهو الإيمان بالموجد الخالق المنشئ، فقال تعالى:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان هو الرب المربي لكم، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، ولا يشاركه أحد فيه، فلا تنبغي العبادة إلا له، فكيف تصرفون عن عبادته، مع ما يوجب استحقاقه لها، إلى عبادة غيره؟ أو كيف تعبدون معه غيره، وكيف تتقبل عقولكم ذلك؟
ثم أبان الله تعالى أن ثمرة هذه العبادة لكم، والله غني على الإطلاق، فقال:
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي إن تكفروا بالله بعد توافر أدلة وجوده وتوحيده وقدرته، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال
(23/251)
تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] .
وفي صحيح مسلم: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا» .
ثم ذكر الله تعالى ما يأمر به ويرضاه وما ينهى عنه ولا يرضاه، فقال:
وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي لا يحب الله تعالى الكفر ولا يأمر به، لأنه مرتع الضلال والانحراف والذل لمعبودات لا ضرر منها ولا نفع فيها، وهو سبب الشقاوة في الدارين.
وإن تشكروا الله على نعمه، يرض لكم الشكر ويحبه ويزدكم من فضله، لأن الله عز وجل هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم أعلن الله تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام، فقال:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا من الآثام والذنوب والجرائم، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شر. وقد وردت هذه الآية في القرآن الكريم خمس مرات. وهي كقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر 74/ 38] .
والجزاء على قدر العمل، فقال تعالى:
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي ثم مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة، فيخبركم بأعمالكم من خير وشر، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره أي مكنونات النفوس، فلا تخفى عليه خافية.
(23/252)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على الآتي:
1- الأدلة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد: هي خلق السموات والأرض وما بينهما، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر لمصالح العباد والمخلوقات، وخلق الإنسان في أصله أو باتخاذ الأسباب الظاهرية، وخلق ثمانية أزواج أو أصناف من الأنعام، من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن المعز اثنين، كل واحد زوج، والأزواج ثمانية تشمل الذكر والأنثى.
2- دل تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها.
3- ودل تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة، على كمال قدرة الله ودقة نظامه ومراعاته مصالح العباد.
4- ينبه الله تعالى على أنه عزيز غالب، غفار ستّار لذنوب خلقه برحمته، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة، رهبة من الله عز وجل، ورغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله تعالى.
5- مراحل خلق الإنسان تحدث متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظم ثم لحم. ويبدأ تكون الإنسان في داخل ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
6- إن الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم، وهو المالك الواحد الأحد، كما قال تعالى: رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
(23/253)
فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟
7- إذا كفر جميع الناس فلا يضرّون الله، والله هو الغني عنهم، لكن لا يرضى الله الكفر لعباده ولا يحب ذلك منهم، وإن شكروه رضي بالشكر وأمر به، ومصير جميع الخلائق إلى ربهم، فيخبرهم بما قدموا من خير أو شر.
والآية دليل على أن الإرادة غير الرضا، وهو مذهب أهل السنة، فقد يريد الله شيئا، لكن لا يرضى به، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس، وهو لا يرضاه، والرضا: ترك اللوم والاعتراض، وليس هو الإرادة.
8- من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وذلك يدفع إلى العمل، ويمنع الخمول والكسل، ويخلّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه، دون تأثر بأفعال الآخرين، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان.
9- دل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ على إثبات البعث والقيامة، ودل قوله سبحانه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ على شمول علم الله بالكليات والجزئيات، وبالكبائر والصغائر، وبالفعل الحاصل والقول المقول، وبما يسبقه من نية وحديث نفس وعزم وهمّ وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول.
(23/254)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
تناقض الكفار واستقامة المؤمنين
[سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
الإعراب:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أَمَّنْ بالتشديد: بإدخال «أم» بمعنى بل والهمزة على «من» بمعنى الذي، وليس بمعنى الاستفهام، لأن «أم» للاستفهام، فلا يدخل على ما هو استفهام. وفي الكلام محذوف تقديره: العاصون ربهم خير أم من هو قانت، ودخل على هذا المحذوف أيضا: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وقرئ بالتخفيف على أن تكون الهمزة للاستفهام بمعنى التنبيه، ويكون في الكلام محذوف تقديره: أمن هو قانت يفعل كذا كمن هو على خلاف ذلك.
ودخل على هذا المحذوف: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي.. أو أن تكون الهمزة للنداء، وتقديره: يا من هو قانت أبشر فإنك من أهل الجنة، لأن ما قبله يدل عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. ويَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في موضع الحال، أو الاستئناف للتعليل.
البلاغة:
يَرْجُوا يَحْذَرُ بينهما طباق.
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أمر أريد به التهديد، مثل اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام 6/ 135 ومواضع أخرى] .
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إيجاز بالحذف، أي كمن هو كافر.
(23/255)
المفردات اللغوية:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي الكافر ضُرٌّ شدة دَعا رَبَّهُ تضرع مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه خَوَّلَهُ نِعْمَةً أعطاه إنعاما وملكه نَسِيَ ترك الضر ما كانَ يَدْعُوا الذي يتضرع إلى كشفه إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وهو الله، من قبل النعمة أَنْداداً شركاء، جمع ندّ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عن سبيل دين الإسلام، وقرئ ليضل وكل من الضلال والإضلال نتيجة، وليسا غرضين.
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا بقية أجلك، وهو أمر تهديد، فيه إشعار بأن الكفر نوع تشهي لا سند له، وإقناط للكافر من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هذا استئناف على سبيل المبالغة.
قانِتٌ طائع خاشع آناءَ اللَّيْلِ ساعاته وَقائِماً للصلاة يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يخاف عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي جنته، وفي الكلام محذوف تقديره: كمن هو عاص بالكفر أو غيره قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ نفي لاستواء الفريقين، أي لا يستويان، وكما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
سبب النزول: نزول الآية (9) :
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ؟: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ الآية، قال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة.
المناسبة:
بعد بيان فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنه لا دليل لهم على عبادتها، وبيان أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، وأن الله غني عما سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر الله تعالى هنا تناقض الكفار بالرجوع إلى
(23/256)
الله وقت الشدة، وتركه وقت الرخاء. ثم أردفه ببيان مدى صلابة المؤمنين في دينهم، وتمسكهم بمبدئهم، فهم لا يرجعون إلا إلى الله، ولا يعتمدون إلا على فضل الله.
التفسير والبيان:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ، نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ هذا موقف متناقض من الكفار، فإذا أصاب الكافر شدة من مرض أو فقر أو خوف، تضرع إلى ربه، راجعا إليه تائبا، مستغيثا به في تفريج كربته، وكشف ما نزل به، ثم إذا منحه نعمة أو أعطاه وملكه، وصار في حال رخاء ورفاهية، نسي ذلك الدعاء والتضرع، أو نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل.
وجعل لله شركاء من الأصنام أو غيرها، يعبدها، ليصير وتكون نتيجته وعاقبته الضلال والإضلال، يضل بنفسه، ويضل الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله والدخول في الإسلام، فسبيل الله: الإسلام والتوحيد، والأنداد الأوثان والأصنام، ولام لِيُضِلَّ لام العاقبة.
والمعنى الأول (وهو أنه عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله) مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] .
والمعنى الثاني (وهو أنه في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع) مثل قوله تعالى:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس 10/ 12] .
(23/257)
والمعنى الثالث (جعل الأنداد الشركاء لله) كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] .
لكل هذا هدد الله وأوعد ذلك الكافر المتناقض على ما فعل، فقال:
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قل أيها الرسول لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه: استمتع أيها الإنسان بكفرك تمتعا قليلا أو زمانا قليلا هو مدة أجلك، فمتاع الدنيا قليل، فإنك في الآخرة من أصحاب النار الخالدين فيها أبدا، ومصيرك إليها عن قريب، كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم 14/ 30] وقوله سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] .
ثم ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون دائما إلا على ربهم، فقال:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا، أم المؤمن بالله، الذي هو مطيع خاشع يصلي الله في ساعات الليل، وخشوعه مستمر حال سجوده وحال قيامه، يخاف الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فيجمع بين الخوف والرجاء، وتلك هي العبادة الكاملة، التي يفوز بها صاحبها؟! الجواب واضح. قال أبو حيان: وفي الآية دليل على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار.
قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هل يستوي العلماء والجهال؟ إنما يتعظ بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة، لا الجهلاء، وإنما يعرف الفرق بين الصنفين العاقل، لا الجاهل.
لا يستوي الفريقان، فإن العالم الذي يدرك الحق ويعرف منهج
(23/258)
الاستقامة، فيتبعه ويعمل به، لا يستوي أبدا مع الجاهل الذي يخبط خبط عشواء، ويسير في متاهة وضلال.
والمراد بالإتيان بهذه الآية لنفي استواء الفريقين بطريق الاستفهام: هو تأكيد نفي المساواة بين الفريقين الأولين: الكافر المتناقض والمؤمن المطيع الخاشع، فكما أنه لا يستوي العالم والجاهل، لا يستوي المؤمن والمشرك الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيل الله، الأول في قمة الخير والعلم، والآخر في أسفل دركات الشر والجهل.
قال أبو حيان: دلت الآية على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين: العلم والعمل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله، ونجاة العبد من سخطه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى وجود موقفين متعارضين بين الناس، فريق الكافرين وفريق المؤمنين.
أما الكافر: فهو متناقض، تراه يستغيث بالله راجعا إليه مخبتا مطيعا له إذا أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف، لإزالة تلك الشدة عنه، فإن سلم ونجا وعوفي، وصار في حال اطمئنان واستقرار ورخاء ورفاهية، بفضل من الله وحده، نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه.
ولا يقتصر أمره على مجرد النسيان والهجر أو الترك، وإنما يتجاوز ذلك إلى اعتقاد الشرك بالله، واتخاذ الأوثان والأصنام شركاء لله.
(23/259)
بل لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه، بل يضل غيره بفعله أو قوله، ويدعوه إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثما على إثمه.
لهذا حق أن يوجّه له التهديد الشديد والوعيد الأكيد بأن يتمتع بكفره زمنا قليلا، فإن مصيره في النهاية إلى النار.
وأما المؤمن: فهو سوي غير متناقض، مستقيم غير مضطرب، صلب في دينه غير متزعزع، يثبت في جميع أحواله على حال واحدة، من الإيمان الراسخ بالله، والاستقامة على أمر الله، فهو إذن ليس كالكافر الذي مضى ذكره.
تراه مصليا خاشعا لربه في جنح الظلام، والناس نيام، يناجي ربه، جامعا بين الخوف والرجاء.
ثم أكد الله تعالى وجه الفرق بين المؤمن والكافر بالمقارنة بين العالم والجاهل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. ثم إن الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فهو بمنزلة من لم يعلم، وفي هذا إشارة إلى أن الكافر أو المشرك أو العاصي جاهل وإن كان عالما بعلوم الدنيا، فإنما يتذكر ويعتبر ويتعظ بهذه المقارنات أصحاب العقول من المؤمنين.
ويلاحظ الترتيب في تعداد أوصاف المؤمن، بدأ فيها بذكر العمل في وصفه بكونه قانتا ساجدا قائما، ثم ختمها بذكر العلم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في العمل والعلم، فالعمل هو البداية، والعلم هو النهاية.
ثم إنه تعالى نبّه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل بالمواظبة عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما دائما بما يجب عليه من الطاعات.
(23/260)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
وقوله تعالى: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ.. تنبيه عظيم على فضيلة العلم وفضل العلماء.
وقوله سبحانه: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أن إدراك التفاوت بين العلماء والجهال ومعرفته لا يكون إلا من أولي الألباب، أي العقول السليمة.
قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع، فلا جرم تركوه «1» .
نصائح للمؤمنين في العبادة ووعدهم ووعيد عبدة الأصنام
[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 20]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 251
(23/261)
الإعراب:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ حَسَنَةٌ: مبتدأ، وخبره: الجار والمجرور قبله، وفِي يتعلق ب أَحْسَنُوا إذا أريد بالحسنة: الجنة، وب حَسَنَةٌ إذا أريد بالحسنة ما يعطى للعبد في الدنيا، مما يستحب فيها، والوجه الأول أوجه، لأن الدنيا ليست بدار جزاء.
قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي اللَّهَ: منصوب ب أَعْبُدُ ومُخْلِصاً: حال من ضمير أَعْبُدُ أو من ضمير قُلِ ودِينِي مفعول مُخْلِصاً وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها أَنْ: مصدرية في موضع نصب بدل من مفعول اجْتَنَبُوا تقديره: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت. ولَهُمُ الْبُشْرى لَهُمُ: في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو الَّذِينَ والْبُشْرى مرفوع ب لَهُمُ لوقوعه خبرا للمبتدأ.
البلاغة:
فَوْقِهِمْ وتَحْتِهِمْ بينهما طباق.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ جناس اشتقاق.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أسلوب تهكمي، لأن إطلاق الظلة على النار المحرقة تهكم.
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ.. وضع فيه الظاهر موضع ضمير الَّذِينَ اجْتَنَبُوا للدلالة على مبدأ اجتنابهم والتمييز بين الحق والباطل.
مَنْ فِي النَّارِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أنه واقع في العذاب.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مقابلة بين حال أهل النار وحال أهل الجنة.
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مجاز مرسل، أطلق المسبب (دخول جهنم) وأراد السبب (الكفر والضلال) ، لأن الضلال سبب لدخول النار.
(23/262)
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذاب ربكم بلزوم طاعته. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة، وقيل: حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسر عليه الإحسان بالطاعة في وطنه، فليهاجر إلى مكان يتمكن فيه من الطاعة وترك المنكرات ومخالطة الكفار. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لأجل الطاعة. أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير مكيال ولا ميزان.
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء، موحدا له. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ بأن أكون. أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه. قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي من الشرك، وهو أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصا له دينه، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم، ولذا رتب عليه قوله:
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ غيره، وهذا تهديد لهم. الْخاسِرِينَ أي الكاملين في الخسران الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ بالضلال وَأَهْلِيهِمْ بالإضلال، ونوع الخسارة: التخليد في النار وعدم الوصول إلى الجنة. الْمُبِينُ البيّن الواضح ظُلَلٌ طبقات من النار، جمع ظلّة.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الذي يخوف به عباده المؤمنين ليتقوه، بدليل نهاية الآية: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ.
الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان، فهو مشتق من الطغيان للمبالغة، والتاء فيه مزيدة للتأكيد مثل رحموت وملكوت (واسع الرحمة والملك) والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها. أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أقبلوا ورجعوا.
لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة والثواب. هَداهُمُ اللَّهُ لدينه. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟ حَقَّ ثبت ووجب، وتُنْقِذُ تخرج، والهمزة للإنكار، والكلام جملة شرطية معطوفة على محذوف، دل عليه الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب، فأنت تنقذه. والمعنى: لا تقدر على هدايته، فتنقذه من النار.
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه. غُرَفٌ جمع غرفة وهي الحجرة. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت تلك الغرف. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، منصوب بفعله المقدر، لأن
(23/263)
قوله: لَهُمْ غُرَفٌ في معنى الوعد. لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الوعد، لأن الخلف نقص، وهو على الله تعالى محال.
سبب النزول:
نزول الآية (17- 18) :
فَبَشِّرْ عِبادِ:
أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ الآية، أتى رجل من الأنصار النبي ص، فقال: يا رسول الله، إني لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكا، فنزلت فيه الآية:
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
نزول الآية (17) :
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ:
زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
المناسبة:
بعد نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أمر الله تعالى رسوله ص بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، والأمر بإخلاص الدين لله في العبادة، حتى تكون خالية من الشرك والرياء، والتحذير من خسارة النفس والأهل لئلا يصلوا نار جهنم، ثم ذكر الله تعالى تهديده ووعيده لعبدة الأصنام، وأردفه بوعد المبتعدين عن عبادتها وعن كل ألوان الشرك، ليقترن الوعد بالوعيد، والترهيب بالترغيب، كما هي عادة القرآن.
التفسير والبيان:
قُلْ: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا، اتَّقُوا رَبَّكُمْ قل أيها الرسول: يا عباد الله
(23/264)
الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا، اتقوا عذاب ربكم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والاستمرار على طاعته وتقواه.
وعلة الأمر:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي الصحة والعافية والظفر والغنيمة والعزة والسلطان، وفي الآخرة وهي الجنة والمثوبة الطيبة الجزيلة. وتنكير حَسَنَةٌ للتعظيم للدلالة على كمالها.
ثم رغبهم في الهجرة للتمكن من التقوى والطاعة، فقال:
وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أي إذا لم تتمكنوا من التقوى في بلد، فهاجروا إلى حيث تمكن طاعة الله، والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان ومستنقعات الكفر، أسوة بالأنبياء والصالحين، كما قال تعالى:
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء 4/ 97] .
ثم ذكر أجرهم على الهجرة والصبر على مفارقة الأوطان، فقال:
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إنما يوفيهم الله أجرهم في الجنة في مقابلة صبرهم على الهجرة وترك الأوطان بغير حساب، أي بغير كيل ولا وزن، وبما لا يقدر على حصره وحسبانه حاصر وحاسب.
وهذا دليل على أن مجرد الإيمان بالقلب أو إعلان الإسلام دون تقوى ولا عمل بأوامر الله واجتناب نواهيه لا يكفي إطلاقا.
ثم ضم تعالى إلى الأمر بالتقوى الأمر بالإخلاص في العبادة والطاعة، فقال:
قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده، إخلاصا خاليا من الشرك والرياء وغير ذلك. وهذا وإن كان
(23/265)
أمرا للرسول ص، فهو لوم على عبادة الأوثان، من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» .
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرت بأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة في مخالفة دين الآباء الوثنيين، وتوحيد الله، وأول من انقاد لله تعالى من أهل العصر أو القوم، لأنه أول من خالف عبّاد الأصنام.
قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي قل لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان: إني أخشى إن عصيت ربي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده، وترك الدعوة المعادية للشرك وتضليل أهله عذاب يوم شديد الهول، وهو يوم القيامة. وهذا تعريض بهم بطريق الأولى والأحرى.
ثم أكد الأمر بالإخلاص في الطاعة للدلالة على أنه يعبد الله وحده، ولترسيخ المعنى في الأذهان، فقال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مرة أخرى: أمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له «1» ، وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، فلا أعبد غيره، لا استقلالا، ولا على جهة الشركة.
ثم هددهم وأوعدهم قائلا:
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي اعبدوا ما أردتم أن تعبدوه من غير الله، من الأوثان والأصنام، فسوف تجازون بعملكم، وهذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ والتبرؤ منهم.
__________
(1) إن تقديم المفعول في الآية: اللَّهَ أَعْبُدُ على الفعل يفيد القصر، أي لا أعبد أحدا غير الله.
(23/266)
ثم حذرهم من عاقبة الخسران يوم القيامة قائلا:
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي قل لهم أيها الرسول: إنما الخاسرون كل الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بالضلال والشرك والمعاصي، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أضلوهم وأوقعوهم في العذاب الدائم يوم القيامة، وهذا هو الخسران البيّن الظاهر الواضح، فلا خسران أعظم منه، إذ لا مجال لتعويض الخسارة.
ثم وصف حالهم في النار لبيان نوع الخسران فقال:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي لهم أطباق متراكمة من النار الملتهبة عليهم، من فوقهم ومن تحتهم، أي أن النار محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف 7/ 41] وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت 29/ 55] .
وسمى ما تحتهم ظللا، لأنها تظلل من تحتها من أهل النار، ففي كل طبقة من طبقات النار طائفة من طوائف الكفار.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي ذلك العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ليرهب به عباده، لينزجروا عن المعاصي والمآثم والمحارم، فيا عبادي اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي. وهذا التحذير والتنبيه نعمة عظمي صادرة من فيض رحمة الله وفضله، حتى لا يفاجأ الناس بالعذاب، ومن أنذر فقد أعذر.
وبعد إيراد هذا الوعيد لعبدة الأصنام، ذكر الله تعالى وعده لمن اجتنب عبادتها، فقال:
(23/267)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ، لَهُمُ الْبُشْرى أي والذين أعرضوا عن عبادة الأصنام والشيطان، وأقبلوا على عبادة الله معرضين عما سواه، لهم البشارة العظمى بالثواب الجزيل، وهو الجنة، إما على ألسنة الرسل، أو حين الموت أو عند البعث. وهي بشارة شاملة لمن نزلت الآية في حقهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية كقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يونس 10/ 64] .
والطاغوت «1» : يطلق على الواحد والجمع، ويشمل عبادة الأوثان والشيطان، لأن الشيطان هو الآمر بتلك العبادة والمزيّن لها، فهو سبب الكفر والعصيان.
فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي بشر بالجنة أيها الرسول عبادي المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، والذين يستمعون القول الحق، من كتاب الله وسنة رسوله، فيفهمونه، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه، كما قال تعالى لموسى عليه السلام: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف 7/ 145] .
وهذا مدح لهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الذين وفقهم للصواب في الدنيا والآخرة، وهم ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة.
__________
(1) وقرئ: الطواغيت.
(23/268)
ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلا:
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي أأنت مالك أمر الناس، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده، فأنت تخلصه من النار؟
والمعنى: إنك لا تقدر على هدايته، فتنقذه من عذاب النار. والآية تسلية لرسول الله ص، لأنه كان حريصا على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من كان من أهل الضلالة والهلاك، لا تستطيع هدايته.
ثم أعاد الله تعالى الإخبار عن جزاء المتقين السعداء للحض على التقوى، فقال:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية، لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض، والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها، ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء، فأخبر أنه وعد من الله وعده للمتقين المؤمنين، ووعد الله حق ثابت، لا ينقض ولا يخلف.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- أمر الله المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى: وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، مما يدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، كما يدل على أن الإيمان يبقى مع المعصية.
2- للتقوى فوائد جلّى، فللمتقين حسنة في الدنيا من صحة وعافية ونصر
(23/269)
وسلطان وجاه وغنى، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم.
3- لا عذر للمقصرين في الإحسان والطاعة، فمن صد عن طاعة الله في بلد، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات، اقتداء بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
والمقصود من الآية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ الترغيب في الهجرة من مكة حيث كانت واجبة في صدر الإسلام، والصبر على مفارقة الأوطان.
4- الصبر: هو الرضا بمفارقة الأوطان والأهل، واحتمال البلايا وفجائع الدنيا في طاعة الله تعالى. وثواب الصبر مفتوح غير مقيد بحدود، فكل من رضي بما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجره. وهذا يشابه ثواب الصوم،
لقوله ص عن ربه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الصوم لي وأنا أجزي به» .
عن الحسين رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله ص يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا» ثم تلا النبي ص:
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
قال النحاس: لفظ صابر يمدح به، وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت: صابر على كذا.
ثم إن الأجر على الصبر إنما هو بحسب الوعد من الله، لا بحسب الاستحقاق.
5- أمر الله تعالى رسوله ص مرتين في هذه الآيات للتأكيد بإخلاص
(23/270)
العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، دون أن تكون مشوبة بشائبة الشرك أو الرياء أو غير ذلك. وأمة الرسول ص من بعده مأمورة بذلك، لأن أمر الرسول ص أمر للأمة، والبدء به تعليم وإرشاد وجعله قدوة لأمته.
كذلك أمر الله تعالى رسوله ص بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة، وكان ذلك فعلا، فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى ذلك.
وأمر الرسول ص أيضا بأن يخاف عذاب يوم القيامة.
وكل هذه الأوامر تعريض بالمشركين وتعليم وإرشاد للمؤمنين.
6- قوله تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس إباحة ولا إذنا وإقرارا لعبادتهم الأصنام، وإنما هو أمر تهديد ووعيد وتقريع، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام 6/ 135] .
7- إن الخسارة الكبرى التي لا تعوض للمشركين والكافرين هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بسبب الضلال عن الدين الحق، والإضلال للأتباع عن دين الله. قال ابن عباس: ليس من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. ومن عمل بطاعة الله، كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [المؤمنون 23/ 10] .
8- للكفار عذاب يحيط بهم من كل جانب في نار جهنم يوم القيامة. وهو عذاب شديد، لذا خوّف الله به عباده المؤمنين وأولياءه المتقين، فيا أولياء الله، اتقوا الله ربّكم من هذا العذاب، بإخلاص التوحيد والطاعة. وهذا وعيد شديد لعبدة الأصنام.
(23/271)
9- وعد الله بالجنة المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين الذي زين لهم تلك العبادة، والذين أنابوا إلى الله، أي رجعوا بالكلية إلى عبادته وطاعته.
وهؤلاء فعلا هم الذين انتفعوا بعقولهم، وهم الذين ميّزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، ففهموا أوامر الله، واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله ص.
10- الهداية بيد الله تعالى وحده، لذا خاطب الله رسوله ص مسليا له:
أفأنت تنقذ من النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ويلاحظ أن الهداية والضلال من خلق الله تعالى وإيجاده، كخلق جميع أعمال الإنسان، أما تحصيلهما واكتسابهما واختيارهما فمن العبد، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف 18/ 17] .
11- لما بيّن الله تعالى أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم، بيّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف، أي علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية كبناء منازل الأرض، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.
والجنة مزدانة بأبهى أنواع الجمال، فهي تجري من تحت غرفها الأنهار، أي هي جامعة لأسباب النزهة، وقد وعد الله بها عباده الأتقياء وعدا محققا كائنا لا شك فيه، كما أوعد الكافرين بالنار، وإن الله لا يخلف الميعاد الذي وعد به الفريقين.
(23/272)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
حال الدنيا
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
الإعراب:
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً يَجْعَلُهُ: فعل مضارع مرفوع، وقرئ بالنصب، وهي قراءة ضعيفة.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تعلم مِنَ السَّماءِ ماءً من السحاب مطرا فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ أدخله عيونا وأمكنة نبع، والينابيع: جمع ينبوع: وهو عين الماء يَهِيجُ ييبس ويجف فَتَراهُ مُصْفَرًّا تشاهده بعد الخضرة مثلا مصفرا أَلْوانُهُ أنواعه وأصنافه حُطاماً فتاتا مكسرا لَذِكْرى تذكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسوّاه لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول، فهم لا غيرهم الذين يتذكرون به للدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها، وفي طاعة الله، وصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها، وهي قصر مدتها وسرعة زوالها.
وإنما قدم وصف الآخرة، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود عرضا.
التفسير والبيان:
ألم تشاهد أيها الرسول وكل مخاطب أن الله أنزل من السحاب مطرا، فأدخله
(23/273)
وأسكنه في الأرض، ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء، ثم تسقى به الأرض، فيخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا أنواعه، كبّر وشعير وخضار وغيرهما، ومختلفا ألوانه، من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر وغيرها من الألوان البديعة الأخاذة.
ثم ييبس ويجف، فتراه مصفرا بعد خضرته ونضارته، ثم يصير متفتتا متكسرا، وإنّ فيما تقدم ذكره من إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة، وتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.
فهؤلاء يعلمون بأن حال الحياة الدنيا كحال هذا الزرع في سرعة الزوال والانقطاع، وذهاب بهجتها، وتلاشي رونقها ونضارتها، ولم يبق لديهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر.
ونظير الآية قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف 18/ 45] .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية تدل على قدرة الله في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، فهو قادر على ذلك، كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء، أي إنزال المطر من السحاب.
وهي أيضا ترغب في الآخرة لخلودها، وتنفر من الدنيا لتوقيتها وقصر مدتها وسرعة زوالها وانقضائها.
فهذه الدنيا الفانية متاعها زائل، وزخرفها باهت، وهي متحولة متغيرة لا تبقى على حال واحدة، ونهايتها محتومة، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها
(23/274)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ
[الرحمن 55/ 26- 27] وقال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] .
والخلاصة: أن الآية مثل لحال الدنيا، يتعظ بها كل ذي عقل سليم، بعيد النظر، عميق الفكر والتأمل، ينظر إلى المستقبل الحتمي نظرة اليقظ الحذر، المستعدّ العامل.
الهداية للإسلام
[سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 26]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
الإعراب:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً كتابا بدل من أحسن.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ الواو للحال، وقد: مقدّرة.
(23/275)
البلاغة:
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ؟ إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ل حذف خبره وتقديره:
كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ وجوابه كمن أمن منه بدخول الجنة.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي وقيل لهم، وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا للظلم عليهم وإشعارا بما يوجب القول لهم، وهو: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
يَهْدِي ويُضْلِلِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
شَرَحَ فتح وبسط، والمراد: خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبول الإسلام صَدْرَهُ أي قلبه، فاهتدى، من حيث إن الصدر محل القلب منبع الروح المتعلق بالنفس القابلة للإسلام، وجواب الاستفهام محذوف تقديره: كمن طبع الله على قلبه، بدليل ما بعده وهو: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ويل: كلمة عذاب، والقاسية قلوبهم: المعرضة عن قبول القرآن، والقسوة: جمود القلب وصلابته. وقوله المتقدم: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني نور المعرفة والاهتداء إلى الحق، والنور:
البصيرة والهدى،
قال ص: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح»
وسيأتي الحديث بتمامه مُبِينٍ بيّن واضح.
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أي القرآن كِتاباً قرآنا مُتَشابِهاً في النظم والمعنى، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز، وحسن النظم، والدقة، وصحة المعنى والإحكام مَثانِيَ جمع مثنى، من التثنية: التكرار، أي ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرهما تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تضطرب وتتحرك وترتعد خوفا عند ذكر وعيده يَخْشَوْنَ يخافون تَلِينُ تطمئن وتسكن إِلى ذِكْرِ اللَّهِ عند ذكر وعده ذلِكَ الكتاب هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخرجه من الضلالة.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يجعله درقة (ترسا) يقي به نفسه أشد العذاب، بأن يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه، والجواب محذوف تقديره: كمن أمن منه بدخول الجنة لِلظَّالِمِينَ كفار مكة وأمثالهم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ذوقوا وباله وجزاءه.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذبوا رسلهم في إتيان العذاب فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها الْخِزْيَ الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالقتل والسبي والإجلاء والخسف والمسخ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كان المكذبون يعلمون عذاب الآخرة ما كذبوا.
(23/276)
سبب النزول: نزول الآية (23) :
اللَّهُ نَزَّلَ:
روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: نزل على النبي ص القرآن، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا؟
فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.
وعن ابن عباس: أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدّثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر، فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى، وما يوجب الإعراض عن الدنيا، أوضح أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوّر القلوب، ثم أوضح أن من أضله الله فلا هادي له، وأن من يلقى في النار ليس كمن آمن وأمن، فدخل الجنة، وأن مكذبي الرسل لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة.
التفسير والبيان:
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟ أي أفمن وسّع الله صدره للإسلام، فقبله واهتدى بهديه، فهو بسبب هذه الهداية على بصيرة ونور من ربه يفيض عليه، أي نور المعرفة والاهتداء إلى الحق، كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته، فصار في ظلمات الضلالة وبليّات الجهالة؟!.
والمعنى: أنه لا يستوي المهتدي المهدي الموفق للإسلام والحق ومن هو قاسي القلب، البعيد عن الحق، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً، فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا
(23/277)
لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
[الأنعام 6/ 122] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله، قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ كيف انشرح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر: أن رجلا قال:
يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» .
ثم ذكر عقاب قساة القلوب للدلالة على الكلام المحذوف الذي قدر، فقال:
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي فالعذاب الشديد لمن لا تلين قلوبهم عند ذكر الله، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، أولئك قساة القلوب في ضلال واضح عن الحق، وغواية ظاهرة لكل الناس.
أخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» .
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص قال: «قال الله تعالى: اطلبوا
(23/278)
الحوائج من السّمحاء، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي» .
وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
ثم وصف الله القرآن الذي يشرح الصدر، فقال:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي الله «1» نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز، وصحة المعاني، وقوة المباني، وبلوغه أعلى درجات البلاغة، وتثنى فيه القصص وتردد، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، ويثنى في التلاوة فلا يملّ سامعه، ولا يسأم قارئه.
إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، كما قال الزجاج، وتضطرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد. ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة، قال قتادة: هذا نعت أولياء الله، نعتهم بأنها تقشعر جلودهم، ثم تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان.
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي ص إذا قرئ عليهم القرآن، كما نعتهم الله، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
__________
(1) الابتداء باسم الله وإسناد ضمير نَزَّلَ إليه: فيه تفخيم للمنزّل ورفع منه، كما تقول: الملك أكرم فلانا.
(23/279)
قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الكتاب أو القرآن هو هداية الله يهدي به من يشاء هدايته ويوفقه للإيمان، وهذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك، فهو ممن أضله الله.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من يخذله الله عن الإيمان بالقرآن من الفساق والفجرة، فلا مرشد له.
ثم أبان الله تعالى سبب التفرقة بين المهتدي والضال، فقال:
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ هذا مثل قوله تعالى:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فصلت 41/ 40] . والمعنى:
أمن يتقحم نار جهنم، فلا يجد ما يتقي به سوى وجهه، ليتقي العذاب الشديد يوم القيامة، كمن هو آمن لا يعتريه شيء من المخاوف أو المكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء المخاوف، بل هو سالم من كل سوء، مطمئن في جنة الله؟! أي لا يستوي هذا وذاك، كما قال عز وجل: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك 67/ 22] .
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وحين يقال للكافرين:
ذوقوا جزاء كسبكم من المعاصي في الدنيا، كقوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة 9/ 35] .
ثم ذكر تعالى عذاب مكذبي الرسل من الأمم الماضية في الدنيا، فقال:
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي إن بعض
(23/280)
الأمم الماضية الذين كذبوا الرسل، أهلكهم الله بذنوبهم، وأتاهم العذاب من جهة لا يترقبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم، فأذاقهم الله الذل والهوان بما أنزل بهم من العذاب والنكال، كالخسف والمسخ والقتل والسبي والأسر وغير ذلك.
ثم إن عذاب الآخرة أشد وأنكى وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لكونه في غاية الشدة والدوام، لو كانوا ممن يعلم ويتفكر ويعمل بمقتضى علمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لا يستوي المهتدي الذي شرح الله صدره للإسلام، فهو على هدى من ربه، ومن طبع على قلبه وحرم الهداية، فالويل ثم الويل لقساة القلوب المعرضين عن ذكر الله، فهم في ضلال واضح.
2- القرآن الكريم هو أحسن الحديث، أي أن أحسن ما يسمع هو ما أنزله الله وهو القرآن، وهذه هي الصفة الأولى للقرآن.
ومن خصائصه وصفاته: أنه متشابه بعضه مع بعض في الحسن والحكمة والإحكام أي في النظم والمعنى، ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وأنه مثاني أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام، وتثنى تلاوته فلا يملّ منه، وأنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فالنفس المؤمنة به تضطرب وتخاف مما فيه من الوعيد، ثم تطمئن وتسكن عند سماع آيات الرحمة. وأنه هدى الله الذي يهدي به من يشاء هدايته، وأما من يضله ويخذله من الفساق والفجار المعرضين عنه، فلا مرشد له. فهذه صفات خمس للقرآن المجيد.
3- لا يستوي عقلا وعدلا وواقعا رجلان: أحدهما يرمى به مكتوفا في
(23/281)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
النار، فأول شيء تمس منه النار وجهه، ومن هو آمن من العذاب لا يتعرض لشيء من المكروه والمخاوف. ويقال للظالمين الكافرين تبكيتا وتوبيخا:
ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
4- إن عقاب الأمم الماضية المكذبة بالرسل نوعان: عقاب في الدنيا بالمسخ والخسف والزلزلة والصيحة والريح الصرصر والغرق والقتل والأسر والتشريد والذل والهوان ونحو ذلك، مما أتاهم من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وعقاب آخر أشد وأنكى وأكبر وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لو علموا به وتفكروا وتأملوا، وعملوا بمقتضى علمهم.
والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب.
عربية القرآن وضرب الأمثال فيه
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
الإعراب:
قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً: توطئة للحال أو حال مؤكدة، وعَرَبِيًّا: حال من القرآن.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا.. بدل من مَثَلًا تقديره: ضرب الله مثلا مثل رجل، فحذف المضاف.
(23/282)
وفِيهِ شُرَكاءُ مرفوع بالظرف على المذهبين: البصري والكوفي، لأن الظرف وقع صفة لقوله: رَجُلًا. ورَجُلًا سَلَماً معطوف على قوله: رَجُلًا الأول، أي مثل رجل سالم.
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا تمييز.
المفردات اللغوية:
ضَرَبْنا جعلنا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه يَتَذَكَّرُونَ يتعظون غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه، ولا لبس ولا اختلاف يَتَّقُونَ الكفر.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد، وضرب المثل: تشبيه حال غريبة بحال أخرى مثلها مُتَشاكِسُونَ متنازعون مختلفون لسوء أخلاقهم وطباعهم سَلَماً سالما خالصا هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي لا يستوي العبد المملوك لجماعة، والعبد لواحد، فإن الأول يحتار فيمن يخدم من أسياده إذا طلبوه وهو مثل للمشرك، والثاني مثل للموحد.
الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له وحده، لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر أهل مكة والكفار لا يعلمون ما ينتظرهم من العذاب، فيشركون بالله غيره، لفرط جهلهم.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك يا محمد ميت، والكل سواء في الموت، ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت. نزلت الآية لما استبطؤوا موته ص. والميّت (بالتشديد) من سيموت، والميت (بالتخفيف) من مات ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها الناس، فيه تغليب المخاطب على الغائب تَخْتَصِمُونَ تحتكمون للقضاء فيما حدث بينكم من المظالم.
المناسبة:
بعد بيان صفات القرآن الخمس المتقدمة والتي على رأسها أنه أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ذكر تعالى خواص أخرى للقرآن: هي أنه يضرب فيه الأمثال للناس تخويفا وتحذيرا، وأنه قرآن متلو إلى يوم القيامة، وأنه عربي اللسان، وغير ذي عوج، أي بريء من التناقض.
(23/283)
ثم ذكر فيه مثلا عجيبا للمؤمن الموحد والمشرك، يدل على فساد مذهب المشركين، بعد أن أفاض تعالى في شرح وعيد الكفار في هذه السورة.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لقد بيّنا للناس المطلوب فيه بضرب الأمثال، من كل مثل يحتاجون إليه في أمر دينهم، ومن أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن، لعلهم يتعظون، فيعتبرون. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت 29/ 43] . والخلاصة: أن الحكمة في ضرب الأمثال للناس هي أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرتدعوا عن غيهم.
ووصف القران بصفات ثلاث: هي كونه قرآنا أي كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر 15/ 9] . وكونه عربيا بلسان عربي مبين، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته، كما قال سبحانه: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] .
وكونه غير ذي عوج، أي براءته من التناقض، كما قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] . وذلك لعلهم يتقون ما حذرناهم منه من بأس الله وسطوته.
وإنما قدم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ على لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لأن التذكر متقدم على الاتقاء، لأنه إذا اتعظ به وفهم معناه، حصل الاتقاء والاحتراز.
ثم ذكر تعالى مثلا للمؤمن الموحد والكافر المشرك، فقال:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا، فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ، وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ
(23/284)
يَسْتَوِيانِ مَثَلًا
؟ أي ضرب الله مثلا للمشرك في صنعه لا في معبوده، الذي يعبد أكثر من إله، بحالة رجل عبد مملوك يملكه عدد من الرجال، مختلفون فيما بينهم، متنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، متعاسرون، لسوء أخلاقهم وطباعهم، كل له رأي وحاجة، فإذا طلب كل واحد من السادة من هذا العبد شيئا أو حاجة، فماذا يفعل، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك المشرك في عبادته آلهة متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة.
وضرب الله مثلا آخر للمؤمن الموحد بحالة رجل آخر مملوك لشخص واحد، لا يشاركه فيه غيره، فإذا طلب منه شيئا لبّاه دون ارتباك ولا حيرة، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله، ولا يسعى لإرضاء غير ربه، فهل يكون في طمأنينة أم في حيرة؟
هذان المملوكان هل يستويان صفة وحالا؟ أي لا يستوي هذا وهذا، فكذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟
ولما كان هذا المثل ظاهرا بيّنا جليا، قال تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي الحمد لله على إقامة الحجة عليهم، وعلى أن الحمد لله لا لغيره، وعلى التوفيق للإسلام والحق، بل أكثر الناس لا يعلمون هذا الفرق، فيشركوا مع الله غيره.
ونظرا لجهل أكثر الناس بالحق وعدم انتفاعهم بهذا المثل، أخبر تعالى تهديدا بالموت بأن مصير الخلائق كلهم إلى الله، وهناك يتقاضون في المظالم بين يدي الله، فقال:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أي إنك أيها الرسول ستموت، وهم سيموتون، ثم يحصل التقاضي عند الله، فيما اختلفتم
(23/285)
فيه في الدنيا من التوحيد والشرك، وسيحكم الله بينكم يوم القيامة، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين.
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ.. نعي أجل رسول ص وإعلام الصحابة بأنه يموت ولا يخلد في الدنيا، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت، وهو أيضا حث لكفار قريش على انتهاز الفرصة، والمسارعة إلى الإيمان، وتلقي الوحي عن النبي ص، لأن إقامته فيهم قليلة، وليس خالدا بينهم.
وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ليس خاصا بالمؤمنين والكافرين في التخاصم بينهم في الدار الآخرة، وإنما هي شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الآخرة. وهو دليل على أن محمدا ص سيخاصم قومه ويحتج عليهم بأنه قد بلغهم الرسالة وأنذرهم، وهم يخاصمونه، ويعتذرون بما لا معنى له.
روى الترمذي- وقال: حسن صحيح- عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله ص: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير رضي الله عنه: أي، رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا، مع خواص الذنوب؟ قال ص:
«نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» .
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أول الخصمين يوم القيامة جاران» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «والذي نفسي بيده، إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا» .
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
(23/286)
ص: «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية، فيفلحون عليه، فيقال له: سدّ ركنا من أركان جهنم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
1- القرآن الكريم كتاب شامل كامل لم يترك شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلا بينه وأجلاه، حتى بالأمثال الموضحة للناس معانيه ومراميه، قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] .
والقرآن الكريم عظة وتذكير، وسبب اتقاء الكفر وتكذيب الرسل.
وخواصه: أنه قرآن متلو في المحاريب وغيرها إلى يوم القيامة، ونزل بلسان عربي مبين، ولا تناقض ولا اختلاف فيه.
2- إن مذهب المشركين في عبادة الأوثان وتعدد الآلهة فاسد باطل لا يقبله عاقل صحيح العقل، ومن عوامل بطلانه وتهافته أنه لا يحقق لذويه غاياتهم، وأبسط دليل على ذلك هو هذا المثل الذي ضربه القرآن هنا للمؤمن الموحد والكافر المشرك.
مثل الأول الذي يعبد الله وحده: مثل رجل عبد مملوك لسيد واحد، يستطيع إرضاءه وتحقيق مراده. ومثل الثاني الذي يعبد آلهة متعددة: مثل رجل عبد مملوك لعدة شركاء، يطلبون منه في الخدمة مطالب متعارضة، فكيف يستطيع إرضاء الكل؟ وأخلاقهم متباينة، ونياتهم متغايرة، لا يلقاه أحد إلا استخدمه في حوائجه الخاصة، فتراه يلقى منهم العناء والنصّب والتعب الشديد، وهو مع ذلك لا يرضي واحدا منهم بخدمته، لكثرة الحقوق والواجبات الملقاة على عاتقه، مما يجعله ينفر ويأبق ويهرب ولا يستمر على هذا النحو من العذاب.
(23/287)
أما الذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده، عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم؟! لذا ختم الله تعالى بيانه بتعليمنا فضله علينا، وإرشادنا إلى حمده وشكره والثناء عليه على أن هدانا للإسلام، ووفقنا للحق، بعد ظهور الحجة على الكافرين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق، فيتبعونه.
3- إن مصير جميع الخلائق إلى الله لحسابهم وتصفية منازعاتهم والقضاء العدل فيهم، سواء المؤمنون والكافرون، فيتخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم،
وورد في خبر عن ابن منده عن ابن عباس: «إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاجّ الروح الجسد» .
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحملت عليه» .
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله ص قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله ص: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» .
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.
(23/288)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
[الجزء الرابع والعشرون]
[تتمة سورة الصافات]
وعيد المكذبين ووعد المصدقين
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
الإعراب:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ: الَّذِي: مبتدأ، وخبره:
أُولئِكَ. وإنما جاز أن يقع أُولئِكَ خبرا للذي، وأُولئِكَ جمع، والَّذِي واحد، لأن الَّذِي يراد به الجنس، فلهذا جاز أن يقع خبره جمعا.
البلاغة:
مَثْوىً لِلْكافِرِينَ فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم.
يُضْلِلِ وهادٍ ويَهْدِ ومُضِلٍّ بينهما طباق.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟ استفهام إنكار للنفي، مبالغة في الإثبات، والعبد: رسول الله ص، ويحتمل إرادة الجنس، وفسر بالأنبياء. وهكذا كل استفهام إنكاري مثل: أَلَمْ نَشْرَحْ [الشرح 94/ 1] ، أَلَمْ أَعْهَدْ [يس 36/ 60] دخل على نفي، يفيد معنى التقرير والتثبيت بالدليل، إذ نفي النفي إثبات.
(24/5)
المفردات اللغوية:
فَمَنْ أَظْلَمُ.. أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بنسبة الشريك والولد إليه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ وهو القرآن الذي جاء به محمد ص مَثْوىً مقاما ومأوى لِلْكافِرِينَ اللام تحتمل العهد (أي كفار قريش) والجنس: جميع الكفار، وذلك يكفيهم جزاء لأعمالهم.
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو النبي ص وَصَدَّقَ بِهِ هم أتباعه المؤمنون، كأبي بكر الصديق، فالذي: بمعنى الذين، لذا قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الشرك جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ.. أسوأ وأحسن بمعنى السيء والحسن، كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان. وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ: ويعطيهم ثوابهم على الطاعات في الدنيا. والَّذِي عَمِلُوا: ما عملوه من المعاصي. وخص الأسوأ للمبالغة، فإنه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. ويقابلهم بالأحسن في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم في أعمالهم.
بِكافٍ عَبْدَهُ أي يكفي عبده النبي ص وعيد المشركين وكيدهم وَيُخَوِّفُونَكَ الخطاب للنبي ص، والتخويف من قريش بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام، بأن تقتله أو تخبله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ تركه في الضلال والاعتقاد بما لا ينفع ولا يضر فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم إلى الرشاد وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ يوفقه للإيمان بِعَزِيزٍ غالب منيع قوي قاهر ذِي انْتِقامٍ أي ينتقم ممن عاداه وعادى رسوله ص.
ويقال: «بلى» بعد كل من الاستفهامات الثلاثة في الآيات: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟
سبب النزول: نزول الآية (36) :
وَيُخَوِّفُونَكَ: أخرج عبد الرزاق عن معمر: قال لي رجل: قالوا للنبي ص: لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبّلنّك، فنزلت:
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
(24/6)
المناسبة:
بعد أن بالغ واستقصى الله تعالى في بيان وعيد الكفار، وأردفه بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا.. أتى هنا بأسوأ اعتقادهم وهو تكذيب الله بإثبات ولد له أو شريك، وتكذيب الرسول ص بعد إثبات صدقه بالأدلة القاطعة، وختمه بوعيدهم في جهنم.
ثم أتبعه بوعد الصادق المصدوق ووعد أتباعه المصدقين المؤمنين من تكفير السيئات ومنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
التفسير والبيان:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ هذا نوع آخر من قبائح أفعال الكفار المشركين، وهو أنهم يكذبون الله، ويكذبون القائل المحق وهو رسوله الكريم ص، والمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة وحرّم وحلل من غير أمر الله، وكذب بما جاء به رسول الله ص من دعوة الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث والنشور.
فهم جمعوا بين طرفي الباطل: كذب على الله تعالى، وتكذيب رسول الله ص بعد قيام الأدلة القاطعة على كونه صادقا في ادعاء النبوة.
وقوله: إِذْ جاءَهُ أي وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ترو ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به.
ثم أردفه بوعيدهم فقال:
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ بلى، أي أليس في نار جهنم الواسعة
(24/7)
العريضة مقام ومأوى وسكنى لهؤلاء الكافرين. وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم، وهو الكفر. والمراد: ألا يكفيهم العذاب في جهنم جزاء على أعمالهم؟ وهو استفهام تقرير وإثبات، لا نفي.
ثم أتبع الوعيد السابق بوعد الصادقين المصدقين، فقال:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي أما الذي جاء بالصدق والقول الحق وهو رسول الله ص وخاتم الأنبياء وإمام الرسل، والذين صدقوا به وآمنوا بأنه رسول من عند الله وهم أتباعه المؤمنون، وأيقنوا أن القرآن كلام الله تبيان كل شيء وخير وسعادة للبشرية جمعاء، فأولئك هم الذين اتقوا الله، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان.
وثواب هؤلاء ما قال تعالى:
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي لهم ما يطلبون عند ربهم في الجنان، من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، فضلا عن أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم. والإحسان كما
ثبت في الصحيح لدى الشيخين عن عمر عن رسول الله ص، قال: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .
وعلة هذا الجزاء:
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وعدهم الله بما سبق ليكفر عنهم سيء ما عملوا، ويجزيهم أجرهم كاملا بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ. وإذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى.
(24/8)
وقوله: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.
ثم ذكر تعالى أنه يكفي المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ويمنع عنهم ما يخوفونهم به، فقال:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي أن الله سبحانه يكفي من عبده وتوكّل عليه، فيدفع عنه الويلات والمصائب، ويعطيه جميع المرغوبات، كقوله:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 137] .
وعبر بلفظ الاستفهام لإنكار النفي، مبالغة في الإثبات، والمراد تقرير ذلك في النفوس، والإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه وأظهره بحيث لا ينكره أحد، لأنه ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، فهو تعالى عالم بحاجات العباد، وقادر على توفيرها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء عبده ما يريد.
والمراد بعبده: النبي ص وجميع عباد الله، بدليل قراءة «عباده» .
روى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ص يقول: «أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع به» .
وبعد أن ذكر الله تعالى المقدمة وهي كفاية العباد، رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال:
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي ويخوفك أيها الرسول المشركون ويتوعدونك بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا، فلا تخف مما يخوفونك به من آلهتهم وجنودهم، فإن الله يحميك مما يضرك، وليس عند آلهتهم نفع ولا ضرر. وقد عرفنا في سبب النزول أن المشركين خوفوا
(24/9)
النبي ص مضرّة الأوثان، فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنك بسوء. ولما بعث النبي خالدا إلى كسر العزّى قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقدم لها شيء، فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف.
والآية دليل على أن الله يحمي نبيه ص من السوء، ويكفيه وأتباعه الدين والدنيا، إذ لما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثا باطلا.
ثم أبان الله تعالى مدى قدرته وسلطانه ليبطل توعد المشركين ويبين جهلهم، فقال:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أي من حق عليه القضاء بضلالة، لسوئه وفسقه وعصيانه، فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما.
فلا مضل له أبدا.
والمراد أن خلق المهتدين والضالين بيد الله، فهو الفاعل، وليس لمن عداه أي تأثير في ذلك، فلا راد لفضله، ولا مانع لمراده، لذا هدد كفار قريش قائلا:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟ أي أليس الله بغالب لكل شيء قاهر له، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو منيع الجناب، لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه القوي الذي لا أقوى منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله ص.
والخلاصة: إن الآية وعد للمؤمنين، وعيد لكفار قريش وأمثالهم.
(24/10)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- لا أحد عند الله أظلم ممن كذب عليه، فزعم أن له ولدا وشريكا، وكذّب بالقرآن الذي جاء به النبي المصطفى ص.
2- يكفي هؤلاء الجاحدين مقرا ومقاما جهنم، وساءت مصيرا.
3- إن النبي ص الذي جاء بالصدق والحق، وأتباعه الذين صدقوا به كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، هم المتقون الله حق التقوى، الذي وحّدوه فلم يشركوا به شيئا، وتجنبوا عذابه وعقابه ومعاصيه.
4- قد أثبت الله تعالى للذي جاء بالصدق وصدق به أربعة أحكام:
الأول- أنهم هم المتقون، كما تقدم.
الثاني- أن لهم ما يشاءون عند ربهم من الكرامة والنعيم في الجنة، ذلك جزاء المحسنين وهو الثناء في الدنيا، والثواب في الآخرة. وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب الإنسان فيه، ويدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه.
الثالث- أن الله يكرمهم ولا يؤاخذهم بسيئاتهم، ويثيبهم على الطاعات في الدنيا بأحسن أعمالهم وهي الجنة. وهذا يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.
الرابع- بدد الله كل تخويفات المبطلين التي يرددونها ويشيعونها كثيرا، بإثبات كفايته عباده وحمايته لهم من كل سوء أو شر، سواء أكان مصدر الجن أو الإنس الأشرار، أو الأصنام في زعم عبدتها مع أنها لا تضر ولا تنفع. قال إبراهيم عليه السلام فيما حكى القرآن عنه: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ
(24/11)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
[الأنعام: 6/ 81] .
5- قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ دليل على خلق الأعمال وإرادة الكائنات من الله الذي ينتقم ممن عاداه أو عادى رسله. ودليل أيضا على أن من يضله الله بتركه في غيه وضلالته، فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا، ومن يهديه الله إلى الحق والصواب، فما له من مضل أبدا.
تزييف طريقة عبدة الأصنام وتهديدهم
[سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 40]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
الإعراب:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ.. ما تَدْعُونَ هو المفعول الأول، وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية. وفيها العائد على ما وهو لفظ «هن» .
كاشِفاتُ.. مُمْسِكاتُ كل منهما خبر المبتدأ، ويقرأ كل منهما بالتنوين وترك التنوين، فمن نوّن نصب «ضرّه» و «رحمته» باسم الفاعل، ومن ترك التنوين جرهما بالإضافة، وهي لا تفيد هنا تعريفا، لأنها في نية الانفصال، لأن اسم الفاعل ليس بمعنى الماضي، والأصل هو التنوين، وإنما يحذف للتخفيف.
البلاغة:
ضُرِّهِ ورَحْمَتِهِ بينهما طباق.
(24/12)
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ اللام لام القسم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. قُلْ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ.. أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله وليست آلهتكم، إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه، أو أرادني بنفع هل يمسكنه عني؟ لا، وتَدْعُونَ تعبدون، ومِنْ دُونِ اللَّهِ الأصنام. والضر: الشدة والبلاء، والرحمة: النعمة والرخاء. وقال: كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ: لما يصفونها به من الأنوثة، تنبيها على ضعفها.
حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا في إصابة الخير ودفع الضر، وتقرر بهذا أن الله هو القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يثق الواثقون لعلمهم بأن الكل منه تعالى.
عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم، وهو اسم للمكان أستعير للحال. إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي على حالتي، فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإن خزي أعدائه دليل غلبته، وقد أخزاهم الله يوم بدر وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ عذاب دائم، وهو عذاب النار.
سبب النزول: نزول الآية (38) :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ:
روي عن مقاتل أن النبي ص سألهم، فسكتوا، فنزل ذلك.
وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام، معتمدا على أصلين:
الأول- أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم.
والثاني- أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر.
(24/13)
التفسير والبيان:
أقام الله تعالى الدليل على وحدانيته بإقرار المشركين أنفسهم بذلك، فقال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ أي إذا سألت المشركين عن خالق السموات والأرض، اعترفوا بأنه هو الله سبحانه، مع عبادتهم للأوثان. وإذا اعترفوا، فكيف قبلت عقولهم عبادة غير الخالق، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ مع أن هذه المعبودات لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا، كما قال موبخا لهم:
قُلْ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ، هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ، هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟ أي إذا أقررتم بأن الله تعالى خلق الأشياء كلها، فأخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الشدة والضرر، أو هل تستطيع أن تمنع عني ما أراده الله لي من الخير والنعمة والرخاء؟ وإذا كانت في الواقع لا تملك شيئا ولا قدرة لها على شيء، فكيف تجوز عبادتها؟! وأنث قوله: هُنَّ كاشِفاتُ وهُنَّ مُمْسِكاتُ وهي الأصنام للتنبيه على كمال ضعفها وتحقيرها وتعجيزها، فإن الأنوثة مظنة الضعف، ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويسمونها: اللات والعزى ومناة.
قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قل أيها النبي: الله كافيني أو كافيّ في جميع أموري من جلب النفع ودفع الضر، فلا أخاف تلك الأصنام التي تخوفونني بها، وإنما أخاف الله الذي عليه لا على غيره يتوكل المؤمنون، ويعتمد المعتمدون.
وذلك كما قال هود عليه السلام: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ
(24/14)
لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
[هود 11/ 54- 56] .
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي ص فقال: «يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف.
واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا، رفع الحديث إلى رسول الله ص قال: «من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس، فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل» .
ثم هدد الله المشركين وأوعدهم بقوله:
قُلْ: يا قَوْمِ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي قل أيها النبي: يا قومي، اعملوا ما شئتم، اعملوا على حالتكم وطريقتكم التي أنتم عليها من عداوة رسالتي، واعتداد بالقوة والشدة، واجتهدوا في أنواع المكر، فإني على حالتي ومنهجي وطريقتي التي أنا عليها في الدعوة إلى توحيد الله ونشر دينه بين الناس، فسوف تعلمون وبال ذلك، ومن سيأتيه عذاب يهينه ويذله في الدنيا بعد افتخاره واستكباره، فيظهر
(24/15)
عندئذ أنه المبطل وخصمه المحقّ، ويحل عليه عذاب دائم مستمر لا محيد له عنه يوم القيامة، وهو عذاب النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تدرجت في الإثبات من وجوب الاعتقاد بوحدانية الله إلى ضرورة عبادته وحده، إلى معرفة علمه وقدرته وتمكنه من إنفاذ تهديده ووعيده في الوقت المناسب.
ولكن ما أغبى المشركين وأجهلهم وأحمقهم وأسخفهم!! إنهم مع عبادتهم الأوثان مقرّون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق القادر العالم الحكيم الرحيم، فكيف يعبدون سواه؟ وكيف يخوفون رسول الله ص بآلهتهم الخرقاء العاجزة التي هي مخلوقة لله تعالى، وهو رسول من عند الله الذي خلقها وخلق السموات والأرض؟! وبعد اعترافهم بهذا، ألا يدركون أن هذه الأصنام جمادات صماء، لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر؟ فإن أراد الله عبده بشدة وبلاء، فلا تستطيع هذه الأصنام دفعه ورفعه وإزالته، وإذا أراد الله إمداد عبده بنعمة ورخاء، فلا تتمكن من حجب رحمته وإمساكها ومنعها، وترك الجواب لدلالة الكلام عليه، يعني فسيقولون: لا تكشف ولا تمسك.
وأما المؤمن أو العاقل، فإنه لا يلتفت إلى تخويف المشركين بالأصنام الصماء كما في الآية السابقة: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، ويعلن أنه معتمد على الله، متوكل عليه، ويجب أن يعتمد عليه المعتمدون.
كذلك يصر المؤمن بالبقاء على منهجه وطريقته في عبادة الله وحده ويهزأ بكل من ضل عن هذا المنهج، وسوف تنجلي الحقائق، وتتبين ما تتمخض عنه
(24/16)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
الأحداث والأيام، ويدرك الكفار أنهم مهزومون، واقعون في عذاب مهين مذل في الدنيا، وعذاب شديد دائم في الآخرة.
والخلاصة: كما يقول المثل: «من فمك أدينك يا إسرائيل» : إنه تعالى انتزع منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله، ثم سألهم أو استخبرهم عن أصنامهم:
هل تدفع شرا وتجلب خيرا؟ لبيان عدم صلاحيتها للألوهية والربوبية، وللتنبيه على الجواب عن قوله تعالى المتقدم: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فهي معدومة الهيبة والإخافة.
مظاهر القدرة التامة والعلم الكامل لله عز وجل
[سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 48]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
(24/17)
الإعراب:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها: الَّتِي معطوف بالنصب على الْأَنْفُسَ أي ويتوفى التي لم تمت في منامها. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي الأنفس الأخرى: وهي التي لم يقض عليها الموت، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وإِلى أَجَلٍ مُسَمًّى منصوب ب يُرْسِلُ.
.. الشَّفاعَةُ جَمِيعاً جَمِيعاً حال من الشَّفاعَةُ. وإنما قال جَمِيعاً والشَّفاعَةُ واحد في لفظه، لأنه مصدر، والمصدر يدل على الجمع، كما يدل على الواحد، فحمل جميع على المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ إما منصوب على المصدر، بحذف الزيادة، لأن أصله «أوحد إيحادا» أو على الحال أو على الظرف، والوجه الأول أوجه الوجوه. وإِذا الأولى والثانية شرطيتان، والثانية فجائية كالفاء التي تربط الجواب بالشرط.
البلاغة:
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ استفهام إنكار.
الْغَيْبِ والشَّهادَةِ بينهما طباق، وكذا بين اهْتَدى وضَلَّ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ.. فيها مقابلة بين الله تعالى والأصنام، وبين الاستبشار والاشمئزاز. والمقابلة: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، وهو من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ نزلنا عليك القرآن لأجل الناس، ليحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية. بِالْحَقِّ متعلق بانزلنا أي ملتبسا بالحق ملازما له.
(24/18)
فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي فاهتداؤه نفع به نفسه. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها على نفسه، أي فإن وباله لا يتخطاها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكّل عليهم لتجبرهم على الهدى، بل عليك البلاغ فحسب.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ يقبضها عند انتهاء آجالها. وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي ويتوفى غير الميتة وقت النوم، وهي التي لم يحضر أجلها، يتوفاها في منامها. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ولا يردها إلى البدن الذي خرجت منه. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي النائمة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت موتها. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من التوفي والإمساك والإرسال.
لَآياتٍ دلالات على كمال قدرة الله وحكمته. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الحياة والموت، فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، وقريش لم يتفكروا في ذلك.
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذت قريش. مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي اتخذوا الأصنام آلهة عند الله بزعمهم، تشفع لهم عند الله. قُلْ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً قل لهم: أيشفعون، ولو لم يملكوا الشفاعة وغيرها؟ لا وَلا يَعْقِلُونَ أنكم تعبدونهم، ولا يعقلون غير ذلك.
قُلْ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي هو مختص بها ومالك الشفاعة كلها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، ولا يستقل بها أحد. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيكون الملك له أيضا حينئذ. وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي دون آلهتهم. اشْمَأَزَّتْ نفرت وانقبضت، والاشمئزاز: أن يمتلئ غما، فيحدث انقباض في القلب، وضيق في النفس، يظهر أثره في الوجه وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام. يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: امتلاء القلب سرورا، حتى تنبسط له بشرة الوجه.
ويستبشرون هنا لفرط افتتانهم بالأصنام ونسيانهم حق الله تعالى.
اللَّهُمَّ أي يا الله. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعها. عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما شوهد. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم، في أمر الدين، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وأحاط بهم جزاؤه.
(24/19)
سبب النزول: نزول الآية (45) :
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ: أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها نزلت في قراءة النبي ص النجم عند الكعبة وفرحهم عند ذكره الآلهة. أي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. الآيات من سورة النجم [19- 23] .
المناسبة:
بعد بيان أدلة وحدانية الله وقدرته، وتوضيح فساد مذاهب المشركين بالأدلة والبراهين، وإتباعه بالوعد والوعيد، سرّى الله عن قلب نبيه ص ضيقه وانزعاجه لإصرارهم على الكفر، وأزال عنه الخوف، فأعلمه بإنزال القرآن العظيم عليه بالحق لنفع الناس واهتدائهم به، وهذا أول مظاهر قدرته. ثم أتبعه بمظهرين آخرين للقدرة هما قبضه الأرواح بانتهاء آجالها، وكونه مالك الشفاعة، ثم ذكر بعدهما بعض قبائح المشركين وعيوبهم واشمئزازهم من ذكر الله.
ثم أردف كل ذلك بأمور ثلاثة:
الأول- ذكر الدعاء العظيم المتضمن وصف الله بالقدرة التامة في قوله:
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم وصفه بالعلم الكامل في قوله عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.
الثاني- ظهور أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم في قوله: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
الثالث- ظهور آثار تلك السيئات التي اكتسبوها في قوله: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا.
(24/20)
التفسير والبيان:
يخاطب الله رسوله محمدا ص بقوله:
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي إنا نحن رب العزة وإله الكون نزّلنا عليك يا محمد القرآن العظيم، لأجل الناس، أي والجن، ولبيان ما كلّفوا به، وإنذارهم به، أنزله ربك مقرونا مصحوبا بالحق ملتبسا به، وهو دين الإسلام. قال الزمخشري: لِلنَّاسِ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشّروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغني، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها «1» ، قال تعالى:
فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي فمن عرف طريق الحق وسلكها، فاهتداؤه لنفسه، ويعود نفع ذلك إلى نفسه، ومن حاد عن طريق الحق، فضلاله على نفسه، ويرجع وبال ذلك على نفسه، وما أنت أيها الرسول بموكل أن يهتدوا، ولا بمكلف في حملهم على الهداية، بل عليك البلاغ، وقد فعلت، كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود 11/ 12] وقوله سبحانه: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقوله عز وجل: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] .
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من أنواع قدرته وتصرفه في الوجود، بعد إنزال القرآن، فقال:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي إن الله هو
__________
(1) الكشاف: 3/ 33
(24/21)
الذي يقبض الأنفس أو الأرواح حين انقضاء آجالها بالموت، الوفاة الكبرى، بما يرسل من الملائكة الذين يقبضونها من الأبدان، ويقطع تعلقها بالأجساد.
وكذلك يتوفى الأنفس التي لم يأت أجلها الوفاة الصغرى عند المنام، تشبيها للنائمين بالموتى، حيث يمنعهم من التمييز والتصرف كالموتى بالفعل، مع بقاء الأرواح في أبدانهم.
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي يمسك الأنفس والأرواح التي قضى عليها الموت الحقيقي، أي لا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل النفس النائمة إلى الأجساد حين اليقظة، بأن يعيد إليها إحساسها، إلى أجل مسمى، هو وقت الموت.
إن في ذلك المذكور من التوفي التام والإمساك لنفوس، والإرسال لنفوس أخرى لعلامات عجيبة دالة على كمال قدرة الله الباهرة، وحكمته البديعة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا، وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام 6/ 60- 61] فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، وفي هذه الآية هنا ذكر الكبرى ثم الصغرى،
وقال النبي ص: «لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تصحون» .
واختلف العلماء في النفس والروح
هل هما شيء واحد أو شيئان؟ قال ابن عباس: إن في ابن آدم نفسا وروحا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس: التي بها العقل والتمييز، والروح:
(24/22)
هي التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم. والأظهر أنهما شيء واحد، كما تدل الآثار الصحاح الآتية في استنباط الأحكام.
وقال الرازي: النفس الإنسانية: عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء، وهو الحياة. ففي وقت الموت: ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه، وذلك هو الموت. وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن دون باطنه، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد، إلا أن الموت انقطاع تام كامل، والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه «1» .
ونظرا لشبه النوم بالموت في بعض الأوجه، إذ النوم موت أصغر، والموت نوم أكبر، يسنّ عند النوم الدعاء التالي،
ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» .
وخرج البخاري عن حذيفة قال: كان رسول الله ص إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول:
«اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» .
ثم ذم الله تعالى اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئا من الأمر، إذ هي جمادات لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، فقال:
__________
(1) تفسير الرازي: 26/ 286
(24/23)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي بل هل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله؟ أي لا ينبغي لهم ذلك، وردّ الله عليهم بقوله:
قُلْ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أي قل لهم أيها النبي وأخبرهم: كيف تتخذون تلك الأصنام شفعاء لكم، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها، ولا يعقلون شيئا من شفاعة أو غيرها، ولا يدركون أنكم تعبدونهم؟
ثم أعلمهم الله تعالى بصفة جازمة عن ملكه بنفسه جميع أنواع الشفاعات قائلا: قُلْ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إن الله تعالى هو مالك جميع أنواع الشفاعة، وليس لأحد منها شيء، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن ارتضاه وأذن له، كما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] .
والسبب أن الله تعالى هو مالك السموات والأرض، وهو المتصرف في جميع شؤونها، وإليه مصيركم بعد البعث. وعليه، تجب العبادة لمالك النفع والضر في الدنيا، ومالك الجزاء والحساب في الآخرة على جميع الأعمال. وفي هذا تهديد ووعيد بالاعتماد على من دون الله في أي شيء.
ثم ذكر الله تعالى بعض قبائح المشركين وغرائبهم، فقال:
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي إن من سيئات المشركين الكبرى أنه إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، انقبضوا ونفروا واغتاظوا، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالبعث بعد الموت، وإذا ذكر الذين من دونه، أي الأصنام والأنداد، أو الآلهة المزعومة، كاللات والعزّى ومناة، كما ورد في سورة النجم، إذا هم يفرحون ويسرّون. ومدار المعنى على قوله: وَحْدَهُ أي إذا أفرد الله بالذكر، ولم
(24/24)
يذكر معه آلهتهم، اشمأزوا، أي نفروا وانقبضوا، وإذا ذكرت آلهتهم مع الله سروا وفرحوا.
وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله أساس السعادة وعنوان الخير، وأما ذكر الأصنام وهي الجمادات، فهو رأس الجهالة والحماقة.
قال الزمخشري: ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل واحد منهما غاية في بابه، لأن الاستبشار: أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه.
وبعد بيان مذمة المشركين وفساد عقولهم في حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد، أمر الله نبيه بالالتجاء إليه والدعاء المنجي من لوثاتهم، فقال:
قُلِ: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي ادع الله قائلا: يا الله خالق السموات والأرض، ويا عالم السر والعلانية، أنت تفصل بين عبادك، يوم المعاد، فتجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءته، حتى يظهر المحق من المبطل، وترتفع خلافاتهم التي كانت بينهم في الدنيا. وفطر السموات والأرض:
جعلها على غير مثال سابق.
وقوله: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دليل على صفة الله بالقدرة التامة، وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ دليل على وصف الله بالعلم الكامل، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما.
أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ص إذا قام من الليل، افتتح صلاته: اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين
(24/25)
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
وأخرج الإمام أحمد الحديث المتقدم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله ص قال: «من قال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، إلا قال الله عز وجل لملائكته يوم القيامة: إن عبدي قد عهد إلي عهدا، فأوفوه إياه، فيدخله الله الجنة» .
وأخرج أحمد أيضا والترمذي عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق: «أمرني رسول الله ص أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، ربّ كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه على نفسي» .
ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أشياء في وعيد هؤلاء المشركين، فقال:
1- وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ولو أن هؤلاء الكفار المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال والذخائر، وملكوا مثله معه أي منضما إليه، لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد يوم القيامة، جزاء ظلمهم. وهذا وعيد شديد وإقناط نهائي من الخلاص.
2- وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي وظهر لهم من أنواع العقاب والسخط والعذاب المعد لهم، ما لم يكن في حسابهم ولا خطر في بالهم.
(24/26)
وهذا يقابل صفة الثواب في الجنة:
«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وهو مأخوذ من الآية: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] .
3- وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وظهر لهم جزاء وآثار تلك السيئات والمآثم التي اكتسبوها في الدنيا، وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا، من إنذار الرسول ص الذي كان ينذرهم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- سلّى الله نبيه عما كان يعظم عليه ويحربه من عدم إيمان قومه، وأخبره أنه أنزل عليه النعمة العظمى، وهو القرآن المجيد مصحوبا بالحق، وهو دين الإسلام، لينتفع به الناس، ويحققوا حاجاتهم.
فمن اهتدى، فثواب هدايته إنما هو له، ومن ضل عن الحق، فعقاب ضلاله إنما هو عليه.
وليس النبي ص بموكل عليهم ولا ذا سلطان قاهر، حتى يجبرهم على الإيمان.
2- من مظاهر قدرة الله تعالى العظيمة أنه يقبض الأنفس والأرواح عند انتهاء آجالها، ويقبض الأنفس عن التصرف في الأجسام، ويمسك أرواح الموتى في الملأ الأعلى، ويرد الأنفس إلى الأجساد بعد النوم، فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي
(24/27)
في المنام، فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
والأظهر أن النفس والروح شيء واحد كما تقدم، لما دلت عليه الآثار الصحاح، منها
حديث مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله ص على أبي سلمة، وقد شقّ بصره «1» فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر»
وحديث مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، فذلك حين يتبع بصره نفسه» .
وحديث ابن ماجه عن النبي ص قال: «تحضر الملائكة، فإذا كان الرجل صالحا، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وابشري بروح وريحان وربّ راض غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء» .
وفي صحيح مسلم عند أبي هريرة قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقّاها ملكان يصعدان بها» .
وقال بلال في حديث الوادي: «أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك» .
والصحيح أن الروح: جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة.
3- إن في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت لدلالات على قدرة الله لقوم يتفكرون في خلق الله.
4- لم يتفكر الكفار بنحو صحيح، بل اتخذوا الأصنام شفعاء، مع أنها لا تملك شيئا من الشفاعة ولا تعقل، لأنها جمادات.
5- الله تعالى هو مالك الشفاعة كلها، ومالك السموات والأرض، وإليه مصير الخلائق وحسابهم يوم البعث والمعاد.
__________
(1) أي انفتح.
(24/28)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
6- تميز المشركون بالجهل والحماقة، فإذا ذكر الله وحده دون أصنامهم انقبضوا ونفروا، وإذا ذكرت الأوثان ظهر في وجوههم البشر والسرور.
7- الله تعالى مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وعالم الغيب والشهادة، أي السر والعلانية، والحاكم الفصل بين العباد في خلافاتهم الدنيوية.
8- لو ملك المكذبون المشركون جميع ما في الأرض من أموال وثروات لقدموه فداء رخيصا لافتداء أنفسهم من سوء عذاب يوم القيامة.
9- يفاجأ الكفار بأنواع من العقاب لم تخطر ببالهم، ولا جرى تقديرها في حسابهم.
10- يظهر للكفار يوم القيامة آثار المحارم والآثار والكفر والمعاصي، من ألوان العقاب، ويحيط بهم وينزل جزاء ما كانوا به يستهزئون في الدنيا من الإنذارات والبعث والعذاب والحساب الشديد.
دعاء الإنسان عند الضر وجحوده عند النعمة وإعلامه بأن الرزق بيد الله
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
(24/29)
البلاغة:
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي أصاب جنس الإنسان، وهو معطوف على قوله: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ لبيان تناقضهم، بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضرّ، دعوا من اشمأزوا من ذكره، دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم.
خَوَّلْناهُ أعطيناه وملكناه تفضلا نِعْمَةً إنعاما عَلى عِلْمٍ على علم مني بوجوه كسبه، أو علم من الله بأني له أهل ومستحق، وضمير أُوتِيتُهُ عائد على النعمة، وذكّر الضمير، لأن المراد شيء من النعمة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي بل النعمة امتحان له، أيشكر أم يكفر، وتأنيث هي مراعاة للفظ النعمة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن تخويل النعمة استدراج وامتحان. وهو دليل على أن المراد بالإنسان الجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كقارون وقومه الراضين بها، وأنث ضمير قالَهَا لأن المراد هو الجملة أو الكلمة التي هي: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء سيئات أعمالهم وجزاء أعمالهم، وسماه سيئة، لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة، رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو مِنْ هؤُلاءِ المشركين، ومِنْ للبيان، أو للتبعيض سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء كسبهم كما أصاب أولئك، وقد أصابهم، فإنهم قحطوا سبع سنين، وقتل صناديدهم في بدر وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين عذابنا.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء ابتلاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأن الحوادث كلها من الله، سواء بالبسط أو بالتضييق.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى بعض قبائح المشركين، أتبعه بحكاية نوع آخر من القبائح، وهو أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى، وفي حال النعمة وهي السعة في المال أو العافية في النفس، يزعمون أن
(24/30)
حصول ذلك بكسبهم وجهدهم وجدّهم، وهذا تناقض قبيح صارخ. والحقيقة أن ما أوتوه من النعمة فتنة واختبار ليعرف شكرهم أو كفرهم، وأما مقالتهم فهي قديمة قالها كثير قبلهم كقارون وغيره.
ثم أبان تعالى أن الله وحده مصدر الرزق، يوسعه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، بدليل اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، سواء من المؤمنين والكافرين، وليس جمع الثروة أو ضعفها بعقل الرجل وجهله، أو كياسته وخبرته وغباوته، وإنما بتوفيق الله وتيسيره.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن سوء طبع الإنسان وحاله، فيقول:
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي إذا أصاب الإنسان المشرك وغيره ضر من فقر أو مرض أو غيرهما، تضرع إلى الله عز وجل، واستعان به لكشف الضر عنه، وإذا أعطاه الله نعمة من مال أو جاه أو غيرهما، بغى وطغى، وقال: إنما أعطيته على علم ومهارة مني بوجوه المكاسب، أو لما يعلم الله تعالى من استحقاقي وتأهلي له. قيل: نزلت في حذيفة بن المغيرة.
والحقيقة: ليس الإعطاء لما ذكرت، وليس الأمر كما زعمت، بل هو محنة لك، واختبار لحالك، وقد أنعمنا عليك بهذه النعمة لنختبرك فيما أنعمنا عليك، أتشكر أم تكفر؟ أتطيع أم تعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدّعون ما يدّعون.
ويلاحظ أن لفظ النعمة مؤنث، ومعناه مذكر، لذا حينما قال: بَلْ
(24/31)
هِيَ فِتْنَةٌ
راعى التأنيث، وحينما قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ راعى التذكير، وكلا الأمرين جائز.
ثم أوضح الله تعالى قدم مقالتهم وسبقهم بها، فقال:
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي قد قال هذه المقالة أو الكلمة، وهي قولهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم، كقارون وغيره، فما صح قولهم، ولم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا، ولا نفعهم جمعهم المال الكثير، لذا قال تعالى:
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوقبوا في الدنيا كالخسف بقارون وبداره الأرض، وسيعاقبون أشد العذاب في الآخرة. ونظير الآية قوله تعالى عن قارون: قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص 28/ 78] .
وقوله سبحانه: وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ 34/ 35] .
ثم هدد الله تعالى وأوعد مشركي مكة بعقاب مماثل، فقال:
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي والذين ظلموا من هؤلاء الموجودين من الكفار، ومنهم مشركو مكة، سيصيبهم أيضا وبال كسبهم الأعمال المنكرة، كما أصاب من قبلهم، من القحط والقتل والأسر والقهر، وما هم بفائتين على الله، هربا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة، ودليل قدرته العظمى ما قال:
(24/32)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي أو لم ير هؤلاء المشركون أن الله يوسع الرزق لمن يشاء توسعته له، ويقبضه لمن يشاء قبضه وتضييقه عليه، إن في ذلك لدلالات عظيمة وعلامات مؤثّرة لقوم يؤمنون بالله وحده وبسلطانه وبقدرته. وقد خص المؤمنين، لأنهم المنتفعون بالآيات.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- إن حال الإنسان قلق مضطرب، لا وفاء عنده، ولا ثبات لديه على المبدأ، فتراه عند الشدة يستجير بالله ويستغيث به لينجو من محنته، وعند النعمة يبغي ويطغى ويبطر ويزعم أن النعمة بجهده ومهارته واستحقاقه وأهليته لها.
2- الحق أن الثروة والغنى والفقر ليست ميزان قربى العبد من ربه، فقد يمنح الله المؤمن ويمنع الكافر، وقد يفعل العكس، لحكمة بالغة له في ذلك، والنعمة مع الكفر والمعصية استدراج وابتلاء واختبار، ليعرف كون العبد شاكرا أم جاحدا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار.
3- لقد زعم كثير من الناس قديما وحديثا أن إعطاءهم المال لعلم ومهارة لديهم، وعلم من الله باستحقاقهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، وأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، وسيصيب الذين أشركوا من أمة النبي ص وهم كل الأمم جزاء كسبهم في الدنيا بالجوع والقتل مثلا، وفي الآخرة بعذاب جهنم، وما هم فائتين الله ولا سابقيه.
4- إن الله تعالى وحده هو مصدر الرزق، يمنح منه ما يشاء، ويمنعه عمن يشاء، وفي ذلك عبرة للمؤمنين، وخص المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر
(24/33)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد تكون استدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما.
مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
الإعراب:
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى: أَنَّ وصلتها: في موضع نصب، مفعول لأجله.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي جواب قوله تعالى: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ والجواب ببلى لأنها تأتي في جواب النفي، لأن المعنى: ما هداني الله وما كنت من المتقين، فقيل له: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي، فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ، فلولا أن معنى الكلام النفي، وإلا لما وقعت بَلى في جوابه. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَنْ: مخففة من الثقيلة.
(24/34)
البلاغة:
آية قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا.. فيها: إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، وإضافة عباد إليه للتشريف، والتفات من التكلم إلى الغيبة، إذ الأصل: تسرفوا، ولا تقنطوا من رحمتي، وإضافة الرحمة في قوله مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى الله باعتبار لفظ الجلالة جامعا لجميع الأسماء والصفات، وقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ جملة معرّفة الطرفين، مؤكدة بإن وضمير الفصل، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ وضع فيه الاسم الظاهر موضع الضمير، لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ قوله: جَنْبِ اللَّهِ: كناية عن حق الله وطاعته.
المفردات اللغوية:
عِبادِيَ هذه الإضافة مخصوصة بالمؤمنين في عرف القرآن.
أَسْرَفُوا أي تجاوزوا الحد في أفعالهم، بالإسراف أو الإفراط في المعاصي لا تَقْنَطُوا لا تيأسوا من مغفرته وتفضله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عفوا منه، ولو بعد تعذيب، وتقييد المغفرة بالتوبة خلاف الظاهر، كما قال البيضاوي، ويدل على إطلاقها فيما عدا الشرك قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] والتعليل بقوله هنا: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. لكن هذا متروك لمشيئة الله وتفضله، وليس هو القانون العام.
وَأَنِيبُوا ارجعوا وتوبوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا أخلصوا العمل لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ بمنعه، إن لم تتوبوا، وذكر الإنابة بعد المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم، لا تحصل بدونه، كما قال الزمخشري، أي إن المغفرة لا تحصل لكل أحد من غير توبة وإخلاص في العمل، وهو القانون العام.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن بَغْتَةً فجأة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه، فتتداركون التقصير في الأعمال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول نفس، وتنكير نفس لأن القائل بعض الأنفس، أو للتكثير يا حَسْرَتى أي يا حسرتي وندامتي فَرَّطْتُ قصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ جانبه أي طاعته وعبادته وطلب مرضاته وَإِنْ وإني السَّاخِرِينَ المستهزئين بدينه وكتابه وأهله.
(24/35)
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالطاعة والإرشاد إلى الحق فاهتديت الْمُتَّقِينَ عذابه، باتقاء الشرك والمعاصي كَرَّةً رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المؤمنين الذين أحسنوا العقيدة والعمل بَلى، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي القرآن، وهو سبب الهداية، وهو رد من الله على القائل:
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي الذي في قوله معنى النفي أي أن بَلى حرف لا يجاب به إلا بعد النفي.
وَاسْتَكْبَرْتَ تكبرت عن الإيمان بها. وتذكير الخطاب على المعنى، وقرئ بالتأنيث عودا للنفس.
سبب النزول: نزول الآية (53) :
قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا: أخرج الشيخان: البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا ص، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لنا توبة- أو أن لما عملنا كفارة-؟ فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 68- 70] ونزل: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية.
والمراد من آيات الفرقان: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآية.
وأخرج الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله ص قال: سمعت رسول الله ص يقول: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟
فسكت النبي ص، ثم قال: «ألا، ومن أشرك- ثلاث مرات» .
وأخرج أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ص شيخ كبير، يدعم على عصا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غدرات
(24/36)
وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال ص: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال:
بلى، وأشهد أنك رسول الله، فقال ص: قد غفر لك غدراتك وفجراتك.
وأخرج الحاكم والطبراني عن ابن عمر قال: كنا نقول: ما لمفتتن توبة، إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله ص المدينة، أنزل فيهم:
قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن أهل مكة قالوا:
يزعم محمد أن من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله، لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم، وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس، ونحن أهل شرك؟ فأنزل الله: قُلْ: يا عِبادِيَ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن أوعد الله تعالى الكافرين بشتى أنواع الوعيد، أردفه ببيان كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق عباده المؤمنين، بغفران ذنوبهم إذا تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا العمل له، لترغيب الكفار في الإيمان بالله تعالى وترك الضلال، وكثيرا ما تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. قال أبو حيان: وهذه الآية: قُلْ: يا عِبادِيَ عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته.
التفسير والبيان:
قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي قل أيها الرسول: يا عباد الله الذين أفرطوا في المعاصي واستكثروا منها، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى، فإن الله يغفر كل ذنب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] إن الله كثير
(24/37)
المغفرة والرحمة، فلا يعاقب بعد التوبة. قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها، ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه «1» .
وقال الشوكاني: وهذه الآية أرجى آية في كتاب الله، لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه، لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقّب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك:
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ...
وتقييد المغفرة بالتوبة والإنابة وإخلاص العمل مأخوذ من الآية التالية:
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ.. الآية ومن الأحاديث المتقدمة في سبب النزول، فباب الرحمة واسع، كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء 4/ 110] .
أخرج الطبراني عن سنيد بن شكل قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 2/ 255 وآل عمران 3/ 2] . وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] . وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف (أي الزمر) : قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 58
(24/38)
وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] فقال له مسروق:
صدقت «1» .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي الكنود قال: مرّ عبد الله- يعني ابن مسعود- رضي الله عنه على قاض، وهو يذكّر الناس، فقال: يا مذكّر، لم تقنط الناس من رحمة الله؟ ثم قرأ: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
ثم ذكر الله تعالى تقييد المغفرة بشرطين، فقال:
1- الإنابة والتوبة: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي ارجعوا إلى الله بالتوبة والطاعة، واجتناب المعاصي، والاستسلام لأمره، والخضوع لحكمه، من قبل مجيء عذاب الدنيا بالموت، ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا يمنع عذابه عنكم، أي قبل حلول النقمة.
2- اتباع القرآن: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي واتبعوا القرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، والتزموا طاعته واجتنبوا معاصيه، أي اتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، والقرآن كله حسن.
وذلك من قبل مجيء العذاب فجأة، وأنتم غافلون عنه، لا تشعرون به.
وهذا تهديد ووعيد شديد واضح.
ثم حذر الله تعالى من التعلل بالأماني والتحسر على الماضي في وقت لا ينفع فيه ذلك، فقال:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 59
(24/39)
1- أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي بادروا إلى التوبة والعمل الصالح، واحذروا أن تقول نفس مجرمة مفرطة في التوبة والإنابة: يا ندامتي وحسرتي على تقصيري في الإيمان بالله، وطاعته، وبالقرآن والعمل به، وإنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين، غير موقن ولا مصدّق بشيء من ذلك.
2- أَوْ تَقُولَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي أو أن تقول: لو أن الله أرشدني إلى دينه، لكنت ممن يتقي الله، ويجتنب الشرك والمعاصي.
3- أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي أو أن تقول حين معاينة العذاب: ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا، فأكون من المؤمنين بالله، الموحّدين له، المحسنين في أعمالهم، وبإيجاز: تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل.
فرد الله تعالى بقوله:
بَلى، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي، فَكَذَّبْتَ بِها، وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي نعم، لقد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي المنزلة في القرآن في الدار الدنيا، وقامت حججي عليك، فكذبت بها، واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الجاحدين لها، والمعنى: قد كنت متمكنا من التصديق والمتابعة، فلماذا تطلب الرجعة إلى الدنيا الآن؟! ولن تنفعك الرجعة ولا فائدة منها لقوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام 6/ 28] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
(24/40)
1- إن لله تعالى أن يغفر جميع الذنوب الصادرة من المؤمنين، ويعفو عن الكبائر منها أيضا. وهذا متروك لمشيئة الله وفضله.
2- يغفر الله تعالى الذنوب بالتوبة من الشرك والكفر والمعاصي، والإنابة والرجوع إلى الله بالإخلاص والعمل الصالح، والخضوع له والطاعة لأوامره واجتناب نواهيه.
ومحل ذلك كله في الدنيا قبل مجيء العذاب بالموت، وتعذر التخلص منه، أو المنع منه بناصر أو معين.
3- العمل: هو اتباع القرآن العظيم، بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، والتزام أوامره وطاعته، واجتناب نواهيه ومعصيته. ويلاحظ أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بشيئين:
الأول: الإنابة والتوبة.
الثاني: متابعة الأحسن، وهو القرآن، كما قال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 39/ 23] والقرآن كله حسن، واتباعه: العمل بما أمر الله في كتابه، واجتناب معصيته.
4- يأتي المقصر يوم القيامة بثلاثة أشياء:
أولها- الحسرة على التفريط في الطاعة، وأنه ما كان إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول وبأولياء الله المؤمنين في الدنيا.
ثانيها- التعلل بفقد الهداية، وهذا قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الله عنه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 148] فهي كلمة حق أريد بها باطل.
(24/41)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
ثالثها- تمني الرجعة إلى الدنيا، كما قال: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا، إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون 23/ 99- 100] .
5- أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال: التعلل بفقد الهداية باطل، لأن الهداية كانت حاضرة، والأعذار زائلة، ولكن العبد كذب بالقرآن، وتكبر عن اتباع آياته، وكان من الكافرين بها، الجاحدين لها.
حال المشركين المكذبين وحال المتقين يوم القيامة
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
الإعراب:
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ الَّذِينَ: مفعول تَرَى ووُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال، واستغني عن الواو لمكان الضمير في قوله: وُجُوهُهُمْ. ولو نصب وُجُوهُهُمْ على البدل من الَّذِينَ لكان جائزا حسنا.
لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ حال، أو استئناف لبيان المفازة.
المفردات اللغوية:
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بنسبة الولد والشريك إليه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ لما ينالهم من الشدة، ويعتريهم من الذل والحسرة مَثْوىً مقام أو مأوى لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان والطاعة.
والاستفهام: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ تقرير وإثبات لأنهم يرون كذلك.
(24/42)
وَيُنَجِّي اللَّهُ من جهنم الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك الذي هو الكذب على الله بِمَفازَتِهِمْ بفوزهم بالجنة وفلاحهم، بأن يجعلوا في الجنة، وتفسيرها بالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب، فإن سبب منجاتهم العمل الصالح، ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها.
المناسبة:
بعد وعيد المشركين بما سبق من أهوال القيامة، ووعد المتقين بالعفو والمغفرة والنعيم، ذكر الله تعالى نوعا آخر من الوعيد والوعد، وهو حال الفريقين يوم القيامة، حال المكذبين، وحال المتقين، فتسودّ وجوه الفريق الأول، وتبيضّ وجوه الفريق الثاني.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي واذكر أيها الرسول خبرا مهما هو حين ترى يوم القيامة الذين كذبوا على الله في دعواهم له شريكا وصاحبة وولدا، وجوههم مسودة بكذبهم وافترائهم، لما أحدق بهم من شدة وحزن وكآبة، ولما شاهدوه من العذاب وغضب الله ونقمته.
إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله، الذين أبوا الانقياد للحق. والكبر: هو بطر الحق وغمط الناس، كما في الحديث الصحيح. وفي
حديث آخر أخرجه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ص: «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذّرّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم..» .
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ هذا حال الفريق الآخر في مواجهة فريق المشركين المكذبين، وهو أن الله ينجي الذين اتقوا الشرك ومعاصي الله من عذاب جهنم، ينجيهم بفوزهم، أي بنجاتهم
(24/43)
من النار، وفوزهم بالجنة، وينفي السوء والحزن عنهم يوم القيامة، بل هم آمنون من كل فزع.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على شيئين:
الأول- اسوداد وجوه الكفار المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه، مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته، والزج بهم في نار جهنم، في أشد حالات الذل والمهانة والصغار.
الثاني- نجاة المتقين الشرك والمعاصي من النار، وفوزهم بالجنة. والآية الثانية في شأنهم تدل على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب يوم القيامة، وتأكد هذا بقولهم: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 21/ 103] .
وقد فسر النبي ص هذه الآية في حديث أبي هريرة، قال: «يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة، وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف، قال له: لا ترع، فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به، فإذا كثر ذلك عليه قال: فما أحسنك! فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ أنا عملك الصالح، حملتني على ثقلي، فو الله لأحملنك، ولأدفعنّ عنك، فهي التي قال الله: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
(24/44)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
دلائل الألوهية والتوحيد
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
الإعراب:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ؟ «غير» : إما منصوب ب أَعْبُدُ أي أعبد غير الله فيما تأمروني به، وإمّا منصوب ب تَأْمُرُونِّي لأنه يقتضي مفعولين: الثاني منهما بحرف جر، كقولك: أمرتك الخير، أي بالخير. فالياء: هي المفعول الأول، وغير: مفعول ثان. وأعبد: في موضع البدل من «غير» تقديره: أتأمروني بغير الله أن أعبد.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ: منصوب باعبد أو منصوب بتقدير فعل، أي بل اعبد الله فاعبد. والفاء: زائدة عند الأخفش، وغير زائدة عند غيره.
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ.. الْأَرْضُ: مبتدأ، وقَبْضَتُهُ: خبره، وجَمِيعاً:
حال.
البلاغة:
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استعارة، شبه الخيرات والبركات والأرزاق بخزائن، واستعار لها لفظ المقاليد أي المفاتيح، والمعنى: خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.
(24/45)
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ استعارة تمثيلية، مثّل لعظمته وكمال قدرته وحقارة السموات والأرض بالنسبة للقدرة بمن قبض شيئا عظيما بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية.
المفردات اللغوية:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ قيّم يتولى التصرف فيه لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مفاتيح خزائنها من المطر والنبات وغيرهما، لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ القرآن ودلائل قدرة الله أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أنفسهم، وهذا عائد على فريق المكذبين الذين نسبوا لله ولدا وشريكا، وما قبله اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد، مطلع على أفعالهم، مجاز عليها.
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد، وتَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك. وقرئ تَأْمُرُونِّي بتخفيف النون، مثل: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي تبشرونني.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. كلام على سبيل الفرض، والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة، وتنبيه الأمة. وأفرد الخطاب: باعتبار كل واحد. واللام الأولى: موطئة للقسم، والأخيرتان للجواب. وعطف الخسران على إحباط: الأعمال:
من عطف المسبب على السبب. ولَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ليذهبن هباء منثورا. والإحباط: الإبطال.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ.. رد لما أمروه به وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظّموه حق التعظيم اللائق به، حيث جعلوا له شريكا ووصفوه بما لا يليق به وَالْأَرْضُ جَمِيعاً أي الأراضي السبع قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مقبوضة له في ملكه وتصرفه، والقبضة: المرة من القبض وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مجموعات بقدرته. وهذه الآية تنبيه على عظمة الله وكمال قدرته وحقارة الأجرام العظام بالنسبة لقدرته، وفيها دلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه. والآية على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا، كما ذكر الزمخشري والبيضاوي. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه وتقدس وتعاظم الله عما يشركون معه، فما أبعد ما ينسب إلى الله من الولد والشريك عن قدرته وعظمته.
هذا واليمين تطلق على اليد، وعلى القدرة والملك، وعلى القوة: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة 69/ 45] أي بالقوة والقدرة، والمعنى لأخذنا قوته وقدرته. قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
(24/46)
سبب النزول:
نزول الآية (64) :
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ..؟: أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال: قال المشركون للنبي ص: أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله:
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ إلى قوله: مِنَ الشَّاكِرِينَ. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله ص إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ..
الآية.
نزول الآية (67) :
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ:
أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: مرّ يهودي بالنبي ص فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه- أي على إصبع-، والأرضين على ذه- أي على إصبع-، والماء على ذه- أي على إصبع-، والجبال على ذه- أي على إصبع-، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: غدت اليهود، فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فزعوا أخذوا يقدرونه، فأنزل الله:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قالوا: يا رسول الله، هذا الكرسي، فكيف العرش؟ فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل
(24/47)
الشرك، عاد إلى تبيان دلائل الألوهية والتوحيد. ثم نعى على الكافرين أمرهم رسول الله ص بعبادة الأصنام، وأنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، إذ لو عرفوه لما جعلوا الجمادات شركاء له في العبودية.
التفسير والبيان:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي إن الله تعالى هو مبدع الأشياء كلها وخالقها جميعها، الموجودة في الدنيا والآخرة، لا فرق بين شيء وآخر، وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها والقائم بحفظها وتدبيرها، فهي محتاجة إليه في وجودها وبقائها معا. وهذا دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو مالك أمرها وحافظها، وهذا استعارة لملكه خيراتها وأرزاقها، أو كناية عن انفراده تعالى بحفظها وتدبيرها وملك مفاتيحها، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، أي مفاتيحها. وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أو عطف بيان، أو تعليل لها، ورأى بعضهم أنها جملة مستأنفة.
والمعنى الجامع للجملتين: أن السلطان والملك، والتصرف في كل شيء، والتدبير والحفظ هو لله تعالى.
وروى ابن أبي حاتم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله ص عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال:
ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان، تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير..»
يعني أن قائل ذلك تفتح له خزائن السموات والأرض، ويصيبه خير كثير، وأجر كبير.
(24/48)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي والذين جحدوا آيات الله في القرآن وبراهينه في الأكوان الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وأنه مالك السموات والأرض ومدبرهما، أولئك هم الذين خسروا أنفسهم، وخلدوا في نار جهنم، جزاء كفرهم.
ثم أمر الله رسوله بتوبيخ المشركين على الدعوة لعبادة الأصنام، فقال:
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي قل أيها الرسول لكفار قومك الذين دعوك إلى عبادة الأصنام قائلين: هو دين آبائك: أتأمروني أيها الجهلة بعبادة غير الله بعد أن قامت الأدلة القطعية على تفرده بالألوهية، فهو خالق الأشياء كلها وربها ومدبرها، فلا تصلح العبادة إلا له سبحانه.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي إن أمركم لعجيب، فلقد أوحي إلي وإلى من قبلي من الرسل أن الإله المعبود هو الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أشرك نبي- على سبيل الفرض والتقدير- ليحبطن ويبطلن عمله، وليكونن من الذين خسروا أنفسهم، وضيعوا دنياهم وآخرتهم.
وإذا كان الشرك موجبا إحباط عمل الأنبياء فرضا، فهو محبط عمل غيرهم بطريق الأولى، كما قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام 6/ 88] .
ثم انتقل من النهي عن الشرك إلى الأمر بعبادة الله وحده، فقال تعالى:
بَلِ، اللَّهَ فَاعْبُدْ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدّقك، واعبده وحده، ولا تعبد معه أحدا سواه، وكن من الشاكرين إنعامه عليك بالتوفيق والهداية للإيمان بالله وحده، وتشريفك بالرسالة والدعوة إلى دين الله تعالى.
(24/49)
وبعد أن نعى الله تعالى ما أمر به المشركون نبيّ الله من عبادة الأوثان، نعى عليهم أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، فقال:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموا الله حق تعظيمه، وما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه إلها غيره، وهو الذي لا أعظم ولا أقدر منه.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ص، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله ص حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ص: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية.
وروى أحمد ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله ص قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ورسول الله ص يقول هكذا بيده، يحركها يقبل بها ويدبر: يمجّد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله ص المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به» .
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي والحال أن الأرض تحت تصرف الله وملكه، والسموات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته وإرادته، تنزه وتقدس الله عما يشركون به من المعبودات التي جعلوها شركاء لله، فالمراد باليمين: القدرة.
وهذه الجملة في رأي الخلف تمثيل لحال عظمة الله تعالى وكمال تصرفه ونفاذ
(24/50)
قدرته بحال القابض على الأرض كلها والسموات جميعها. ويرى السلف وجوب الإيمان بهذه الظواهر، والاعتقاد بالقبضة واليمين، لأن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، ويقولون: رأي السلف أسلم، ورأي الخلف أحكم. وإني أميل إلى الأسلم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، سمعت رسول الله يقول: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- إن الله تعالى خالق الأشياء كلها، ومنها أعمال العباد.
2- إن الله سبحانه هو القائم بحفظ الأشياء وتدبيرها من غير مشارك، وهو سبحانه مالك أمر السموات والأرض وحافظها، وهذا التعبير من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها.
3- إن الذين كفروا بالقرآن والحجج والدلالات الدالة على وجود الله ووحدانيته وكمال عظمته وقدرته هم الخاسرون أنفسهم في الدنيا والآخرة. وصريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر.
4- من العجب العجاب صدور أمرين من المشركين: أولهما- أن يطلبوا من النبي ص عبادة أصنامهم، ليعبدوا معها إلهه. وثانيهما- أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، ولم يعظموه حق التعظيم، إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها.
5- وصف الله تعالى المشركين بالجهل، لأنهم لم يتفكروا بخالق الأشياء
(24/51)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
ولا بكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض، وعبدوا أصناما جمادات لا تضر ولا تنفع، ومن فعل مثل ذلك فهو في غاية الجهل.
6- إن الشرك والكفر محبط مبطل لجميع أعمال الكفار والمشركين، ولو كانت صالحة، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة، بسبب أرضية الكفر التي قامت عليها.
ومن ارتد أيضا ومات على الكفر، لم تنفعه طاعاته السابقة، وحبطت أعماله كلها، لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [البقرة 2/ 217] . وعليه من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.
7- السموات والأرض كلها تحت ملك الله وقدرته وتصرفه، وليس ذلك بجارحة لأنه نزه نفسه عنها فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية.
نفختا الصور والفصل في الخصومات وإيفاء كل واحد حقه
[سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
(24/52)
الإعراب:
يَنْظُرُونَ حال من ضميره.
البلاغة:
يَنْظُرُونَ يُظْلَمُونَ يَفْعَلُونَ بينها توافق الفواصل في الحرف الأخير، مما يوحي بروعة البيان وكمال الجمال.
المفردات اللغوية:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى التي يموت بها الخلائق كلهم، والصُّورِ بوق أو قرن ينفخ فيه فَصَعِقَ مات أو غشي عليه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فإنهم يموتون بعد ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى النفخة الثانية للبعث من القبور فَإِذا هُمْ جميع الخلائق الموتى قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ ينتظرون ما يفعل بهم.
وَأَشْرَقَتِ أضاءت بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، وما قضى به من الحق وَوُضِعَ الْكِتابُ وضع كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال للحساب وَالشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقضي بين العباد بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وصلت كل نفس إلى حقها، وحصلت على الجزاء وَهُوَ أَعْلَمُ عالم بِما يَفْعَلُونَ فلا يحتاج إلى شاهد.
المناسبة:
بعد بيان أدلة عظمة الله وكمال قدرته بتصرفه في الكون وتدبيره، وخلقه كل شيء، ذكر الله تعالى مقدمات يوم القيامة الدالة أيضا على تمام القدرة وعظمة السلطان، وهي نفختا الصور مرتين، الأولى للإماتة، والثانية للبعث من القبور، ثم الفصل بالحق والعدل بين الخلائق للحساب والجزاء، وإيصال الحق إلى كل واحد.
(24/53)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وما فيه من الآيات العظيمة الباهرة الدالة على كمال القدرة وتمام العظمة الإلهية، فيقول:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي هذه هي النفخة الأولى للموت، حيث ينفخ إسرافيل في الصور الذي هو بوق أو قرن، فيموت من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض، والصعق: الموت في الحال.
إلا من شاء الله ألا يموت حينئذ كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل نفسه الذين يموتون بعد ذلك. قال قتادة: لا ندري من هم؟.
ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للبعث من القبور، فيقوم الخلق كلهم أحياء على أرجلهم ينظرون أهوال القيامة وما يقال لهم أو ينتظرون ما يفعل بهم، بعد أن كانوا عظاما ورفاتا، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] وقال سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 52] وقال جل وعلا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ، إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم 30/ 25] .
ثم ذكر الله تعالى بعض أحوال يوم القيامة:
1- وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي أضاءت أرض المحشر وأنارت بتجلي الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء، وبما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق بين عباده.
2- وَوُضِعَ الْكِتابُ أي وضعت كتب وصحائف أعمال بني آدم بين
(24/54)
يدي أصحابها، إما باليمين وإما بالشمال، كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء 17/ 13] وقال سبحانه: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف 18/ 49] .
3- 4: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ أي وجيء بالأنبياء إلى الموقف، ليسألوا عما أجابتهم به أممهم، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] وجيء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم من الملائكة الحفظة التي تقيد أعمال العباد كما قال تعالى:
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق 50/ 21] والسائق: يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها، وكذا من أمة محمد ص الذين يشهدون على الأمم بما بلغتهم به رسلهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة 2/ 143] .
وكذلك يجاء بالشهداء المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة بالبلاغ على من بلّغوه، فكذّب بالحق.
وبعد فصل الخصومات، بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل شخص حقه، فقال معبرا عن هذا المعنى بأربع عبارات:
1- وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي وقضي بين العباد بالعدل والصدق.
2- وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد في عقابهم، ويكون جزاؤهم على قدر أعمالهم، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40]
(24/55)
3- وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي وفيت وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر.
4- وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أي والله عالم بما يفعل العباد في الدنيا، من غير حاجة إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة، وقطع المعذرة. وأتى بهذا الحكم للدلالة على أنه تعالى يقضي بالحق عن علم تام، فلا يحتمل وجود أي خطأ في ذلك الحكم. والمقصود:
بيان أن كل مكلف يصل إلى حقه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- يكون يوم القيامة نفختان: النفخة الأولى منهما يموت بها الخلق، ويحيون في الثانية. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل:
إنه يكون معه جبريل،
لحديث ابن ماجه في السنن عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله ص: «إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران»
وحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري أيضا قال: «ذكر رسول الله ص صاحب الصور، وقال: عن يمينه جبرائيل، وعن يساره ميكائيل» .
2- اختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلّدين أسيافهم حول العرش، لحديث مرفوع عن أبي هريرة ذكره القشيري، وحديث عبد الله بن عمر الذي ذكره الثعلبي. وقيل: إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام،
لحديث أنس الذي ذكره الثعلبي والنحاس أن النبي ص تلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فقالوا: يا نبيّ الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: «هم جبريل وميكائيل
(24/56)
وإسرافيل وملك الموت»
ثم ذكر أنه يؤمر جبريل بإماتة نفس إسرافيل وميكائيل وملك الموت، ثم يميت الله جبريل، ففي هذا الحديث: «إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام» .
قال القرطبي: وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه، أي استثنائه.
3- يكون البعث: بأن يبعث الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء من قبورهم، وتعاد إليهم أبدانهم وأرواحهم، فيقومون ينظرون، ماذا يؤمرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.
4- تستنير أرض المحشر وتضيء بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده، والظلم ظلمات، والعدل نور. أو إنها تستنير بنور خلقه الله تعالى، فيضيء به الأرض.
وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح:
«تنظرون إلى الله عز وجل، لا تضامّون في رؤيته» «1»
أي لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك.
5- إن أحوال الحكم والقضاء سبع: أن يوضع كتاب الأعمال بين آخذ بيمينه وآخذ بشماله، ويجاء بالنبيين والشهداء، فيسألون عما أجابت الأمم أنبياءها، ويقضى بين الناس بالصدق والعدل، ولا يظلمون، فلا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم، وتوفى كل نفس ما عملت من خير أو شر، والله أعلم بما فعلت كل نفس في الدنيا.
__________
(1) وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون، ولا تضارون، ولا تضامّون، ولا تضارّون. أي لا يلحقكم ضير.
(24/57)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
أحوال أهل العقاب وأهل الثواب
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
الإعراب:
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ (73) جواب إِذا: إما محذوف تقديره: حتى إذا جاءوها فازوا أو نعموا، والواو فيه للحال بتقدير: قد، أو قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، أو قوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها. والوجه الأول أوجه.
طِبْتُمْ حال.
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ حَافِّينَ: حال، لأن المراد ب تَرَى رؤية البصر لا رؤية القلب. وواحد حافين: حاف. وقال الفراء: هذا لا واحد له، لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلا مجتمعين.
(24/58)
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ الجملة حال ثانية.
البلاغة:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً مقابلة بينهما، قابل بين حال السعداء وحال الأشقياء. والمقابلة كما تقدم: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة.
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ استعارة، تشبيها بحال الوارث وتصرفه في إرثه.
المفردات اللغوية:
وَسِيقَ من السوق: وهو الحث على السير بعنف وشدة وإزعاج، بقصد الإهانة والاحتقار زُمَراً الزمر: جماعات أو أفواجا متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، بمقدار تفاوتهم في الضلالة والشر فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها، وهو جواب إذا، وفتح أبواب جهنم عند مجيئهم ليبقى حرها إليهم، إهانة لهم. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا وتوبيخا رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم آياتِ رَبِّكُمْ القرآن وغيره وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ويخوفونكم وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار، قال البيضاوي: وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وجبت عليهم كلمة الله بالعذاب، وهو الحكم عليهم بالشقاوة بسبب أعمالهم، وأنهم من أهل النار، وقيل: هو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 119] .
قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس، والمخصوص بالذم محذوف سبق ذكره، أي بئس المأوى جهنم، وهذا دليل على أن تكبرهم عن الحق سبب لدخول النار.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي أسرع بهم بلطف إلى دار الكرامة جماعات، على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي والحال أنه قد فتحت لهم الأبواب قبل مجيئهم تكريما وتعظيما، وحذف جواب إِذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم منتظرين استقبالهم، والجواب المقدر: دخلوها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي
(24/59)
فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي مخلدين فيها على الدوام أو مقدّرين الخلود، والفاء للدلالة على ان طِبْتُمْ سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه تعالى، لأنه يطهره.
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ عطف على الفعل المقدر جوابا ل إِذا وهو: دخلوها صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب والجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، يريدون المكان الذي استقروا فيه، وقد أورثوها، أي ملكوها وجعلوا ملاكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، على سبيل الاستعارة نَتَبَوَّأُ ننزل مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ننزل في أي مقام أردنا من الجنة الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
حَافِّينَ محدقين من حول العرش ومحيطين حوله. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ من كل جانب. ومِنْ مزيدة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهون ربهم من كل نقص، ملتبسين بحمده، قائلين: سبحان الله وبحمده، والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به. وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ حكم بين جميع الخلائق بالعدل، فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بيننا من الحق، والقائلون هم المؤمنون المقضي بينهم، أو الملائكة، وقد طوي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم. والخلاصة: لقد ختم استقرار الفريقين بالحمد لله.
المناسبة:
بعد بيان أحوال أهل القيامة مجملا، بقوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أبان الله تعالى بالتفصيل أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب، ثم وصف ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة المحدقين الحافين حول العرش، الذين يسبحون بحمد ربهم، ينزهونه عن النقائص، ويشكرونه، ويقولون بعد استقرار الفريقين في الجنة والنار: الحمد لله رب العالمين على ما أنعم به، وقضى بالحق بين الخلائق.
(24/60)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء الكفار، كيف يساقون إلى النار، فيقول:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي يساق الكافرون بربهم إلى النار، سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد، جماعات متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، لكل جماعة قائد: هو رأسهم في الكفر وداعيتهم إليه. ونظير الآية:
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور 52/ 13] أي يدفعون إليها دفعا.
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إليها، فتحت لهم أبوابها السبعة سريعا ليدخلوها ولتعجل لهم العقوبة، ويختصوا بنارها.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ أي وقال لهم خزنتها من الملائكة الزبانية الأشداء القوى حفظة النار والقائمين عليها، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل: ألم يأتكم رسل من جنسكم وأنفسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، يتلون عليكم آيات ربكم التي أنزلها لإقامة الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، ويحذرونكم من شر هذا اليوم، ويخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم إليه.
قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي أجابهم الكفار معترفين قائلين لهم: بلى، قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكن كذبناهم وخالفناهم، ووجبت كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 119] .
ونظير الآية: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي
(24/61)
ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ
[الملك 67/ 8- 10] .
وبعد هذا الإقرار أجيبوا بإصدار حكم الجزاء، فقال تعالى:
قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي تقول لهم الملائكة الحفظة على النار: ادخلوا في أبواب جهنم التي فتحت لكم، مقدّرا لكم فيها من قبل الله الخلود والبقاء، ماكثين فيها إلى الأبد، لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها، فبئس المسكن الدائم جهنم، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه.
وإنما أبهم القائل وأطلق، ولم ينسب إلى قائل معين، ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه، بما حكم العدل الخبير عليهم به.
ثم يخبر الله تعالى عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون إلى الجنة مكرّمين، فيقول:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي وتسوق الملائكة المؤمنين بإعزاز وتشريف وتكريم وفدا إلى الجنة، جماعة بعد جماعة: المقربون، فالأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع أمثالهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع الصديقين، والشهداء مع بعضهم، والعلماء مع أقرانهم.
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية، بعد مجاوزة الصراط، واقتص لهم من مظالم الدنيا، وكانت قد فتحت أبوابها لاستقبالهم بالحراس.
ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ: «وأنا أول من يقرع باب الجنة» .
(24/62)
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال:
يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال ص: سبقك بها عكاشة» .
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء» .
وأخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمّى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» .
وروى أحمد عن الحسن عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «مفاتيح الجنة: شهادة أن لا إله إلا الله» .
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي وقال خزنة الجنة للمؤمنين: سلامة لكم من كل آفة ومكروه، طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي، وطاب جزاؤكم في الآخرة،
كما أمر رسول الله ص أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم عن علي: «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة- أو مؤمنة»
فادخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، لا زوال ولا تحول عنها، ولا موت ولا فناء فيها.
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي وقال المؤمنون الأتقياء الذين عملوا
(24/63)
الصالحات إذا عاينوا الجنة وما فيها من نعيم مقيم وثواب وافر: الحمد والشكر لله العظيم الذي أنجزنا وعده بالبعث والثواب بالجنة، والذي وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران 3/ 194] ، وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر 35/ 34- 35] .
وجعلنا ملاك الجنة المتصرفين فيها، نرث أرض الجنة، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] .
وأين شئنا حللنا، نتخذ في الجنة من المنازل ما نشاء حيث نشاء، فنعم الأجر أجرنا على عملنا، ونعم أجر العاملين: الجنة.
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج، قال النبي ص: «أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ «1» ، وإذا ترابها المسك» .
ثم أخبر الله تعالى عن حال الملائكة المحدقين حول العرش، فقال:
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي وترى أيها السعيد المؤمن جماعات الملائكة محيطين محدقين بالعرش المجيد، يسبّحون الله (ينزهون الله عن كل نقص وجور) ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه، ويحمدونه ويشكرونه على أفضاله ونعمه، قائلين: سبحان الله وبحمده.
__________
(1) أي قباب اللؤلؤ، مفرده جنبذة: وهي ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة، يقال: مكان مجنبذ: مرتفع (لسان العرب) .
(24/64)
والحال أيضا أنه قد قضي بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار، ونطق المؤمنون والملائكة والكون أجمعه بالحمد والشكر لله ربّ العالمين من الإنس والجن، في حكمه وعدله وقضائه بين المؤمنين وبين أهل النار بالحق المطلق الذي لا خطأ فيه.
وأبهم القائل وأطلق هنا كالسابق للدلالة على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد. قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام 6/ 1] ، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ويلاحظ أن المؤمنين حمدوا ربّهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم أرض الجنة، يتبوّءون منها حيث يشاءون، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق، والحكم بالعدل بين الناس جميعا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات ما يأتي:
1- توفى كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار، والمؤمن إلى الجنة.
2- يساق أهل النار إليها بسرعة وعنف، إهانة لهم واحتقارا، وهم حينذاك جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، وتفتح أبواب جهنم عند وصولهم إليها، وتقول لهم سدنتها تقريعا وتوبيخا: ألم تأتكم الرسل من جنسكم لتبليغكم الكتب المنزلة عليكم، وإنذاركم وتخويفكم لقاء وقتكم هذا؟
3- يجيب أهل النار: نقر ونعترف بقيام الحجة علينا بمجيء الرسل، ولكن وجب العذاب على الكفار، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 119] .
(24/65)
4- دلّت هذه الآية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ.. على أنه لا تكليف ولا إيجاب لشيء من الشرائع والأحكام قبل مجيء الشرع، لأن الملائكة بيّنوا أنه ما بقي للكفار علّة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب، لما بقي في هذا الكلام فائدة.
5- تقول الملائكة بعد سماع جواب الكافرين: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
6- يقاد الأتقياء بلطف وإعزاز وإكرام، من الشهداء والزهاد والعلماء والقرّاء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته، ويؤتى بهم إلى الجنة، فيجدون أبوابها مفتحة لهم: جَنَّاتِ عَدْنٍ، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص 38/ 50] ويذكر خزنة الجنة لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث:
الأولى- قولهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ يبشّرونهم بالسلامة من كل الآفات.
الثانية- قولهم: طِبْتُمْ من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا.
الثالثة- قولهم: فَادْخُلُوها خالِدِينَ والتعليل بالفاء يدلّ على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة.
7- سبب التفرقة بين أهل النار وأهل الجنة في فتح الأبواب، حيث فتحت أبواب النار بغير الواو، وفتحت أبواب الجنة بالواو: هو احتقار الفريق الأول وتخصيصهم بالنار، وإعزاز الفريق الثاني وإكرامهم بالاستقبال والاستعداد، فلا تفتح أبواب النار إلا عند دخول أهلها فيها، وتفتح أبواب الجنة قبل وصول أهلها إليها، ولذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها.
8- إذا خاطبت الملائكة المتقين بالكلمات الثلاث السابقة، قال المتقون عند
(24/66)
ذلك وبعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده بنعيم الجنة، وأورثنا أرض الجنة، فنعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتنا.
9- يكون الملائكة في جوانب العرش وأطرافه، قائلين: سبحان الله وبحمده، متلذذين بذلك لا متعبدين به، أي يصلون حول العرش شكرا لربهم، بعد أن قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل، ويقول المؤمنون والملائكة ونحوهم:
الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه، ونصرنا على من ظلمنا. ويرى الرازي أن قوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين الملائكة، وهو دليل على أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حدّ محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 27/ 24
(24/67)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر أو: المؤمن
مكيّة، وهي خمس وثمانون آية.
تسميتها:
تسمى هذه السورة سورة غافر، لافتتاحها بتنزيل القرآن من الله غافر الذنب وقابل التوب، والغافر من صفات الله وأسمائه الحسنى. وتسمى أيضا سورة (المؤمن) ، لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبه هذه السورة لما قبلها من ناحيتين:
الأولى- التشابه في الموضوع: فقد ذكر في كل من السورتين أحوال يوم القيامة وأحوال الكفار في يوم المحشر.
الثانية- الترابط بين خاتمة السورة السابقة ومطلع هذه السورة، فقد ذكر في نهاية سورة الزمر أحوال الكفار الأشقياء والمتقين السعداء، وافتتحت سورة غافر بأن الله غافر الذنب لحث الكافر على الإيمان وترك الكفر.
ومناسبة الحواميم السبع لسورة الزمر: تشابه الافتتاح بتنزيل الكتاب ورتبت الحواميم إثر بعضها، لاشتراكها بفاتحة حم وبذكر الْكِتابِ بعد حم وأنها مكية، بل ورد في حديث أنها نزلت جملة واحدة، وفيها شبه من ترتيب ذوات (الراء) الست. ذكر السيوطي عن
(24/68)
ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ولم يتخللها نزول غيرها، وذلك مناسبة واضحة لوضعها هكذا.
ويقال لها أيضا: آل حم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم، أو قال: الحواميم.
وقال النبي ص: «لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هنّ روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم» .
وقال رسول الله ص لأصحابه في بعض الغزوات- فيما رواه أبو عبيد-: «إن بيّتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون- أو لا تنصرون» .
وروى الحافظ أبو بكر البزار والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «من قرأ آية الكرسي، وأول حم المؤمن، عصم ذلك اليوم من كل سوء» .
مشتملاتها:
سورة غافر والحواميم السبع مكية، فهي تعنى بأصول العقيدة كسائر السور المكية، لذا جاءت آياتها عنيفة شديدة التأثير لإثبات وحدانية الله وتنزيل القرآن والبعث، ووصف ملائكة العرش، وإنهاء الصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل أو فريق الهدى وفريق الضلال.
وقد ابتدأت بإعلان تنزيل الكتاب الكريم من الله المتصف بالصفات الحسنى، وهاجمت الكفار الذين يجادلون بالباطل، ثم وصفت مهام ملائكة العرش.
(24/69)
وأخبرت عن طلب أهل النار الخروج منها لشدة العذاب، ورفض هذا الطلب، وأقامت الأدلة على وجود الله القادر، وخوّفت من أهوال القيامة، وأنذرت الكفار من شدائد ذلك اليوم.
ثم لفتت الأنظار لموضع العبرة من إهلاك الأمم الغابرة وهو كفرهم بالآيات البيّنات التي جاؤوا بها، وخصّت بالذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون، وما دار من حوار بين فرعون وقومه وبين رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، وما فعله فرعون الطاغية من قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، خشية انتشار الإيمان في قومه، وانتهاء القصة بهلاك فرعون بالغرق في البحر مع جنوده، ونجاة موسى وقومه جند الإيمان في ذلك العصر.
وتلك هي قصة الإيمان والطغيان.
وقد أردف ذلك بإعلان خذلان الكافرين، ونصر الرسل والمؤمنين نصرا مؤزرا في الدنيا والآخرة.
وختمت القصة بأمر النبي ص بالصبر على أذى قومه كما صبر موسى وغيره من أولي العزم.
ثم أوردت السورة الأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته، وضربت المثل للمؤمن بالبصير، وللكافر بالأعمى، فالمؤمن نيّر القلب والبصيرة بنور الله، والكافر مظلم النفس يعيش في ظلمة الكفر.
وأتبعت ذلك ببيان نعم الله على عباده من الأنعام والفلك وغيرها.
وختمت السورة بما يؤكد الغرض المهم منها: وهو الاعتبار بمصرع الظالمين المكذبين، وما يلقونه من أصناف العذاب، ومبادرتهم إلى الإيمان حين رؤية العذاب، ولكن لا ينفعهم ذلك، فإن سنّة الله الثابتة ألا يقبل إيمان اليأس أو حال رؤية البأس.
(24/70)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
مصدر تنزيل القرآن وحال المجادلين في آياته
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
الإعراب:
حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الرازي: الأقرب ها هنا أن يقال حم اسم للسورة، فقوله حم مبتدأ، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خبر، والتقدير: إن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب، فقول: تَنْزِيلُ مصدر، لكن المراد منه: المنزل.
ويرى القرطبي وغيره أن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ، والخبر مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
ويجوز أن يكون تَنْزِيلُ خبرا لمبتدأ محذوف، أي هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ ويجوز أن يكون حم مبتدأ، وتَنْزِيلُ خبره، كما قال الرازي، والمعنى: إن القرآن أنزله الله وليس منقولا، ولا مما يجوز أن يكذّب به. وغافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ إما نعتان أو بدلان، ويجوز النصب على الحال. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو نكرة ويكون خفضه على البدل.
وحم: قرئ بالسكون، وهو المشهور على الأصل في الحروف المقطعة، وقرئ «حاميم»
(24/71)
بفتح الميم، والفتح إما لالتقاء الساكنين، لأنه أخف الحركات، أو أن يكون فتح الميم علامة النصب بتقدير فعل، أي اتل حم.
أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل الكل من اللفظ أو الاشتمال من المعنى.
البلاغة:
الذَّنْبِ والتَّوْبِ بينهما طباق.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وارد بصيغة الحصر.
المفردات اللغوية:
حم تقرأ هكذا: حاميم بالسكون، أو بالفتح حاميم، وهذه الحروف المقطعة المبدوء بها بعض السور للتنبيه على إعجاز القران وتحدي العرب أن يأتوا بمثله، وللدلالة على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات والجمل العربية.
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ القوي في ملكه، العليم بخلقه، قال البيضاوي: لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم، الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة. غافِرِ الذَّنْبِ للمؤمنين التائبين. وَقابِلِ التَّوْبِ يقبل منهم التوبة فضلا منه ورحمة. شَدِيدِ الْعِقابِ للكافرين. ذِي الطَّوْلِ صاحب الفضل والإنعام على عباده، وذو الغنى والسعة أيضا، وإيراد هذه الصفات للترغيب والترهيب والحثّ على الإيمان. الْمَصِيرُ المرجع، فيجازي المطيع والعاصي.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ القرآن. إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكة وأمثالهم، فيه تسجيل صفة الكفر على المجادلين في القرآن بالباطل والطعن فيه لإدحاض الحق. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ لا تغترّ بإمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات الرابحة بقصد المعاش، فإن عاقبتهم النار والهلاك. والتقلب في البلاد: التصرف والتنقل.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ كذبت قوم نوح بالرسل وعادوهم، وكذلك كذبت الأحزاب (الجماعات) من بعدهم كعاد وثمود وغيرهما. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء هَمَّتْ عزمت. لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه بما أرادوا من تعذيب وقتل، فيحبسوه ويأسروه ويعذبوه ويقتلوه. بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له. لِيُدْحِضُوا يزيلوا به الحق. فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك والعقاب. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم، بأن وقع موقعه.
حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت كلمته أي حكمه بالهلاك وقضاؤه بالعذاب. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لكفرهم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي وتلك الكلمة هي أنهم مستحقون للنار.
(24/72)
سبب النزول: نزول الآية (4) :
ما يُجادِلُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات بيان مصدر نزول القرآن: وهو أنه من عند الله، الذي وصف نفسه بصفات ست، ثم مناقشة الكفار الذين جادلوا في آيات الله بالباطل أي بقصد الطعن فيها وإدحاض الحق، فاستحقوا التهديد بعذاب الله وهو أنهم في النار.
حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ حم: من الحروف المقطعة في فواتح السور، للتنبيه على مضمون السورة وعلى إعجاز القرآن المكون نظمه من حروف اللغة العربية التي ينطق بها العرب وينظمون بها الأشعار ويدبّجون بها الخطب الرنانة، ومع ذلك لا يستطيعون معارضته، لأنه كلام الله تعالى.
والقرآن المتلو بين الناس على الملأ منزّل من عند الله، ليس بكذب عليه، والله الذي أنزله هو العزيز أي الغالب القوي القادر القاهر، والعليم أي البالغ العلم التام بخلقه وما يقولونه ويفعلونه، الذي يعلم السر وأخفى.
ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقال:
غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ،
(24/73)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
أي إن الله منزل القرآن هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة بمشيئته، وقابل توبتهم المخلصة، وشديد العقاب لأعدائه، وذو التفضل والإنعام والسعة والغنى، ينعم بمحض إحسانه تعالى، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا صاحبة ولا ولد، وإليه المرجع والمآب في اليوم الآخر، لا إلى غيره.
ثم ذكر تعالى أحوال المجادلين في القرآن بقصد إبطاله وإطفاء نوره، فقال:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، فهم يجادلون بالباطل بقصد دحض الحق، كوصفهم القرآن بأنه شعر أو سحر أو أساطير الأولين، فلا تغترّ أيها النبي وكل مؤمن بشيء من رفاهية الدنيا التي تراهم فيها، كالتجارة في البلاد، وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية الدمار والهلاك، وهذا تسلية للنبي ص، كما قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران 3/ 196- 197] ، وقال سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] .
ويلاحظ أن الجدال نوعان: جدال في تقرير الحق، وجدال في تقرير الباطل، أما الجدال بالحق لبيان غوامض الأمور والوصول إلى فهم الحقائق: فهو جائز مشروع، اتخذه الأنبياء أسلوبا في دعوتهم إلى الدين الحق، قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود 11/ 32] ، وقال تعالى لنبيه محمد ص: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] .
وأما الجدال بالباطل كالمذكور هنا فهو مذموم، كما قال تعالى: ما ضَرَبُوهُ
(24/74)
لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
[الزخرف 43/ 58] ، وهو المشار إليه في
قوله ص: «لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر» ، «إن جدالا في القرآن كفر» .
قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن، قوله:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [البقرة 2/ 176] .
ثم أخبر الله تعالى عن تشابه أقوام الأنبياء في تكذيب رسلهم، فقال:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي كذبت قبل قوم قريش قوم نوح (وهو أول رسول بعثه الله للنهي عن عبادة الأوثان) والجماعات الذين تخربوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وأصحاب لوط وقوم فرعون، بتكذيب رسلهم، فعوقبوا أشد العقاب.
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي وعزمت وحرصت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه، لحبسه وتعذيبه وإصابة ما يريدون منه أو قتله، فمنهم من قتل رسوله، وخاصموا رسولهم بالشبهة وبالباطل من القول، ليردوا الحق الواضح الجلي، وليبطلوا الإيمان.
روى أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ص قال: «من أعان باطلا ليدحض به حقا، فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله ص» .
وقال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان.
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل بالعذاب، وأهلكتهم، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج 22/ 44] . فانظر كيف عقابي الذي عاقبتهم
(24/75)
به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا، وليعتبر قومك يا محمد بهذا، فإني أعاقبهم بعقاب مماثل، وإنهم يمرون على بلادهم ومساكنهم، فيعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب، وأكّد هذا المعنى بقوله:
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي ومثل ذلك عذاب كل كافر، والمعنى: وكما وجب العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم، وجب على الذين كفروا بك يا محمد، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، فالسبب واحد والعلة واحدة، وذلك العذاب هو استحقاقهم النار.
والمراد بكلمة العذاب هي أنهم مستحقون النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- إن تنزيل القرآن من الله ذي العزة والعلم، فهو ليس منقولا ولا مما يصحّ أن يكذّب به.
2- وصف الله تعالى نفسه بستّ صفات تجمع بين الترغيب والترهيب، وتفتح باب الأمل للعصاة والكفار للمبادرة إلى ساحة الإيمان والتزام جادة الاستقامة على أمر الله ومنهجه. وتشير القصتان التاليتان إلى مدى فعالية هذا الأسلوب القرآني في إصلاح البشرية.
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ.. الآية، وقال: اعمل ولا تيأس.
(24/76)
وروى ابن أبي حاتم أيضا والحافظ أبو نعيم عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر، فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، تتابع في هذا الشراب. فدعا عمر كاتبه، فقال:
اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه.
فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده، ويقول:
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قد حذّرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي. فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع.
فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زلّ زلّة، فسدّدوه ووثّقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.
3- قد يعفو الله تعالى عن الذنوب الصغائر بتوبة أو بغير توبة، وقد يعفو أيضا عن الكبائر كالقتل والسرقة والزنى بعد التوبة، وإطلاق الآية غافِرِ الذَّنْبِ يدل على كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة، إذا شاء وأراد.
ولكن قبول التوبة من الذنب يقع على سبيل التفضل والإحسان من الله، وليس بواجب على الله، لأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل.
وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله بإيجاب منه على نفسه، لا بإيجاب غيره عليه.
(24/77)
4- في الآية إيماء بترجيح جانب الرحمة والفضل على جانب الغضب والعدل، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شَدِيدِ الْعِقابِ ذكر قبله أمرين، كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وذكر بعده ما يدلّ على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله:
ذِي الطَّوْلِ.
5- إن الجدال لتقرير الباطل لدحض الحق وإبطال الإيمان، بالاعتماد على الشبهات، بعد البيان القرآني وظهور البرهان الإلهي: كفر وضلال وجحود لآيات الله وحججه وبراهينه.
والجدال في آيات الله أن يقال مثلا عن القرآن: إنه سحر أو شعر أو من قول الكهنة، أو أساطير الأولين، أو إنما يعلّمه بشر، ونحو ذلك.
أما الجدال لتوضيح الحق ورفع اللّبس والرّد إلى الحق، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقرّبون، قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت 29/ 46] .
6- لا يغترن أحد بإمهال الكفرة والعصاة وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يترددون في البلاد للتجارة وطلب المعاش، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإنه وإن أمهلهم فإنه سينتقم منهم كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية.
7- المثال المتكرر في القرآن الكريم: هو أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة برسلها، الذين جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان، وقد لمس الناس آثار ذلك الهلاك في ديارهم ومساكنهم، لذا قال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي كيف كان عقابي إياهم، أليس وجدوه حقا؟! 8- إن مثل الذي وجب (حق) على الأمم السالفة من العقاب، يجب
(24/78)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
(يحق) على الذين كفروا في كل زمان ومكان، سواء من قريش وغيرهم، فهم على وشك نزول العقاب بهم.
محبة الملائكة حملة العرش للمؤمنين ونصرتهم
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
الإعراب:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ مبتدأ، وخبره: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.
وَمَنْ صَلَحَ معطوف على هم ضمير وَأَدْخِلْهُمْ.
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ مَنْ اسم موصول، مبتدأ، وخبره جملة فَقَدْ رَحِمْتَهُ.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هم الملائكة الكروبيون الذين هم أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا، وحملهم العرش عند بعضهم: مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، والْعَرْشَ مركز تدبير العالم، وهو حقيقة، الله أعلم به. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يقرنون التسبيح (تنزيه الله عن كل النقائص) بالحمد والشكر، فيقولون: سبحان الله وبحمده. وَيُؤْمِنُونَ بِهِ بالله تعالى، أي يصدقون ببصائرهم بوحدانية الله. وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يطلبون المغفرة لهم، فهم يشفعون لهم ويلهمون المؤمنين ما يوجب المغفرة، ويحملونهم على التوبة، وفيه تنبيه على أن المشاركة في
(24/79)
الإيمان توجب النصح والشفقة. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي يقولون ربّنا، وهو بيان لقوله: يَسْتَغْفِرُونَ. والمعنى: يا ربنا، لقد وسعت رحمتك كل شيء، ووسع علمك كل شيء.
فَاغْفِرْ المغفرة: الستر. تابُوا من الشرك. وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ دين الإسلام.
وَقِهِمْ احفظهم واصرف عنهم. عَذابَ الْجَحِيمِ عذاب النار.
جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة دائمة. الْعَزِيزُ القوي الغالب القاهر. الْحَكِيمُ في صنعه.
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ احفظهم من عذابها أي جزاء السيئات. وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة للمؤمنين، بيّن هنا أن أشرف المخلوقات وهم حملة العرش والذين هم حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، فلا تبال بالكفرة أيها الرسول، ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا، فإن حملة العرش ومن حوله ينصرونك.
التفسير والبيان:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إن الملائكة حملة العرش ومن حوله من الملائكة الكروبيين الذين هم أفضل الملائكة يقرنون بين التسبيح (التنزيه) الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات الثناء والتمجيد، ويصدقون بوجود الله ووحدانيته ولا يستكبرون عن عبادته، فهم خاشعون له، أذلاء بين يديه، ويطلبون المغفرة للذين آمنوا من أهل الأرض ممن آمن بالغيب.
ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم السلام، فهم يؤمّنون على دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب، كما
ثبت في صحيح مسلم: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب، قال الملك: آمين، ولك بمثله» .
ونحن نؤمن بحمل الملائكة العرش، ونترك الكيف والعدد لله عز وجل،
(24/80)
ورأى بعض المفسرين أن المراد بالحمل: التدبير والحفظ، والعرش أعظم المخلوقات، ونؤمن به كما ورد.
وذكر ابن كثير أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كانوا يوم القيامة كانوا ثمانية، كما قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة 69/ 17] «1» .
وفائدة وصف الملائكة بالإيمان، مع أن التسبيح والتحميد يكون مسبوقا بالإيمان: هو إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتاب الله بالصلاح لذلك، وكما عقّب أعمال الخير بقوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد 90/ 17] فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى هي التنبيه على أن إيمانهم كغيرهم سواء بطريق النظر والاستدلال لا غير، لا بالمشاهدة والمعاينة «2» .
وصيغة استغفارهم للمؤمنين هي:
رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، فاستر واصفح عن الذين تابوا عن الذنوب، واتبعوا سبيل الله وهو دين الإسلام، واحفظهم من عذاب الجحيم- عذاب النار.
قال خلف بن هشام البزار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بكى، ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله، نائما على فراشه، والملائكة يستغفرون له.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 4/ 71
(2) الكشاف: 3/ 45، تفسير الرازي: 27/ 32 [.....]
(24/81)
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ربنا وأدخلهم جنات الإقامة الدائمة التي وعدتهم بها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، بأن كان مؤمنا موحدا قد عمل الصالحات، اجمع بينهم وبينهم، تكميلا لنعمتك عليهم، وتماما لسرورهم، فإن الاجتماع بالأهل أكمل للبهجة والأنس، إنك أنت القوي الغالب الذي لا يغالب، الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك.
ونظير الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] .
قال مطرّف بن عبد الله الشّخيّر: أنصح عباد الله للمؤمنين: الملائكة، ثم تلا هذه الآية: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ الآية، وأغشّ عباده للمؤمنين: الشياطين.
وقال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة، سأل عن أبيه وابنه وأخيه، أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم قرأ سعيد بن جبير هذه الآية:
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ودعاؤهم إيجابي وسلبي، يشمل دخول الجنان ومنع العقاب، فقال تعالى:
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي واحفظهم من العقوبات أو العذاب وجزاء السيئات التي عملوها، بأن تغفرها لهم، ولا تؤاخذهم بشيء منها، وأبعد عنهم ما يسوؤهم من العذاب،
(24/82)
ومن تقيه السيئات يوم القيامة، فقد رحمته من عذابك، وأدخلته جنتك، وهذا هو الفوز الساحق الأكبر الذي لا فوز أفضل منه.
وفائدة استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين الموعودين المغفرة وعدا لا خلف فيه: زيادة الكرامة والثواب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- أخبر الله تعالى عن الملائكة حملة العرش بثلاثة أشياء: التسبيح المقرون بالتحميد، والإيمان الكامل بالله تعالى وحده لا شريك له، والاستغفار للمؤمنين شفقة عليهم. ويلاحظ أنه قدم التسبيح والتحميد على الاستغفار، لأن التعظيم لأمر الله مقدم على الشفقة على خلق الله.
والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق، والتحميد: الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق، والأول إشارة إلى الجلال، والثاني إشارة إلى الإكرام، كما قال تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 78] .
والعرش أعظم المخلوقات، نؤمن به، وندع أمر وصفه لله عز وجل. لكن يجب تنزيه الله عن التحديد والتجسيم والتكييف والحصر في مكان معين.
2- احتج كثير من العلماء بهذه الآية: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ.. في إثبات أن الملك أفضل من البشر، لأن الملائكة لما فرغوا من الثناء على الله والتقديس، اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم، وهم المؤمنون. وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم، وإلا لبدؤوا بأنفسهم قبل غيرهم، بدليل
قوله ص: فيما رواه النسائي عن جابر «ابدأ بنفسك»
وقوله تعالى لنبيه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد 47/ 19] فأمر محمدا ص أن يستغفر لنفسه، ثم لغيره.
(24/83)
3- تدل هذه الآية أيضا على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين، لأن الاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب، أما طلب النفع الزائد وهو زيادة الثواب للمؤمنين، فإنه لا يسمى استغفارا.
4- قال أهل التحقيق: إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن زلة سبقت.
5- إن الدعاء في أكثر الأحوال يبدأ بلفظ «ربنا» كما فعل الملائكة في دعائهم: رَبَّنا وَسِعْتَ.. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ.. ومن أرضى الدعاء: أن ينادي العبد ربه بقوله: «يا رب» .
6- السنة في الدعاء: أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى، ثم يذكر الدعاء عقيبه، بدليل هذه الآية، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين، بدؤوا بالثناء، فقالوا: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وكذلك بدأ إبراهيم الخليل بالثناء أولا على الله الهادي، الرزاق، الشافي، المحيي، الغفار، ثم قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء 26/ 78- 83] . والعقل والأدب يدلان أيضا على هذا الترتيب.
7- وصف الملائكة الله تعالى في ثنائهم بقولهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً بثلاث صفات: الربوبية والرحمة والعلم، والربوبية إشارة إلى الإيجاد والإبداع، والرحمة إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر، وأنه تعالى خلق الخلق للرحمة والخير، لا للإضرار والشر.
8- قوله سبحانه: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً دليل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات.
9- اشتمل دعاء الملائكة على الخير كله وعلى أشياء كثيرة للمؤمنين وهي:
(24/84)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
أ- طلب الغفران للتائبين من الشرك والمعاصي، الذين اتبعوا دين الإسلام.
ب- الوقاية من عذاب جهنم حتى لا يصل إليهم.
ج- إدخالهم جنات عدن، قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار:
ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصدّيقون والشهداء وأئمة العدل.
وإدخال أقاربهم معهم أيضا من الآباء والأزواج والذريات.
د- إن صونهم من جزاء السيئات، أي وقايتهم في الدنيا من العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة والوقاية من عذاب السيئات دليل على رحمة الله بدخول الجنة، وتلك هي النجاة الكبيرة.
والخلاصة: إن أكمل الدعاء: ما طلب فيه ثواب الجنة، والنجاة من النار.
اعتراف الكفار بذنوبهم وباستحقاقهم العقاب الأخروي والتذكير بقدرة الله وفضله
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
(24/85)
الإعراب:
لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مبتدأ وخبر، واللام لام الابتداء، وقعت بعد يُنادَوْنَ لأنها في معنى: يقال لهم.
إِذْ تُدْعَوْنَ إِذْ: ظرف زمان، وعامله: إما: لَمَقْتُ اللَّهِ أو مَقْتِكُمْ أو تُدْعَوْنَ أو فعل مقدر، تقديره: مقتكم إذ تدعون، أي حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم، وقيل:
تقديره: اذكروا إذ تدعون.
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ يَوْمَ: بدل منصوب من قوله يَوْمَ التَّلاقِ وهذا منصوب على أنه مفعول به لفعل: ينذر، لا الظرف، لأن الإنذار لا يكون في يوم التلاق، وإنما يكون الإنذار به، لا فيه. وهُمْ بارِزُونَ: جملة اسمية في موضع جر بإضافة يَوْمَ إليها.
ولِمَنِ الْمُلْكُ مبتدأ وخبر والْيَوْمَ منصوب متعلق بمدلول قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ أي لمن استقر الملك في هذا اليوم، أو متعلق بنفس الْمُلْكُ. أو يوقف على الْمُلْكُ، ويبتدأ: الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي هو مستقر لله الواحد القهار في هذا اليوم.
البلاغة:
أَمَتَّنَا. وأَحْيَيْتَنَا بينهما طباق.
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ.. استفهام يراد به التمني، وأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون.
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بينهما مقابلة، قابل بين التوحيد والشرك، والكفر والإيمان.
(24/86)
وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً مجاز مرسل، أطلق الرزق الذي هو مسبب وأراد المطر الذي هو سبب في الأرزاق.
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ الرُّوحَ كناية عن الوحي، لأنه كالروح للجسد.
المفردات اللغوية:
يُنادَوْنَ يوم القيامة من قبل الملائكة، فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم، وهو أشد البغض. أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الأمارة بالسوء. إِذْ تُدْعَوْنَ أي إن مقت الله حين دعيتم إلى الإيمان به في الدنيا، فكفرتم. أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين، بأن خلقتنا أمواتا أولا، ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا، فإن الإماتة: جعل الشيء عادم الحياة، إما ابتداء، أو انتقالا من الحياة إلى الموت. وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا بالشرك والكفر بالبعث. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع من الخروج من النار لنطيع ربنا. مِنْ سَبِيلٍ طريق، فنسلكه. جوابهم: لا.
ذلِكُمْ أي العذاب الذي أنتم فيه. بِأَنَّهُ بسبب أنه. إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ عبد الله وحده دون غيره. كَفَرْتُمْ بالتوحيد. وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ يجعل له شريك في العبادة. تُؤْمِنُوا تصدقوا بالإشراك. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ فالقضاء لله في تعذيبكم بالعذاب السرمدي. الْعَلِيِّ عن أن يشرك به أحد من خلقه ويسوّى به. الْكَبِيرِ العظيم الكبير على من أشرك به بعض مخلوقاته في العبادة.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائل قدرته وتوحيده وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب الرزق وهو المطر. وَما يَتَذَكَّرُ يتعظ بالآيات المستقرة في الفطر والعقول. إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الشرك.
فَادْعُوا اللَّهَ اعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم له وشق عليهم. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي الله عظيم الصفات، المنزه عن مشابهة المخلوقات.
ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه. يُلْقِي الرُّوحَ الوحي سمي روحا، لأنه كالروح للجسد.
مِنْ أَمْرِهِ من قوله، وهذه أخبار ثلاثة بعد قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ. لِيُنْذِرَ يخوف النبي الملقى عليه الوحي الناس. يَوْمَ التَّلاقِ يوم اجتماع وتلاقي الخلائق للحساب أمام الله، فإنه يوم يلتقي فيه أهل السماء والأرض والعابد والمعبود والظالم والمظلوم والأعمال والعمال.
بارِزُونَ ظاهرون لا يسترهم شيء، أو خارجون من قبورهم. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لسؤال وما يجاب به، يسأله تعالى ويجيب نفسه، فهو القهار لخلقه.
(24/87)
لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسب الخلائق سريعا، يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما ورد في الحديث.
المناسبة:
بعد بيان أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله، بيّن الله تعالى أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم، ويسألون الرجوع إلى الدنيا، ليتلافوا ما فرط منهم.
وبعد ذكر ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، ذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، بإظهار البيّنات والآيات، وإنزال الرزق من السماء، وإلقاء الوحي على من يشاء من عباده، لإنذار الناس بالعذاب يوم الحساب.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن مناداة الكفار يوم القيامة وهم يتلظون في النار، فيقول:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي تنادي الملائكة الكافرين يوم القيامة، وهم يعذبون في نار جهنم، فيمقتون أنفسهم، ويبغضونها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار، قائلين لهم: أيها المعذّبون أنفسهم في هذه الحالة، إن بغض الله لكم حين عرض عليكم الإيمان في الدنيا من طريق الأنبياء، فتركتموه وكفرتم وأبيتم قبوله، أشد من بغضكم أنفسكم حين عاينتم عذاب النار يوم القيامة، ففي الآية حذف وتقديم وتأخير، أي لمقت الله إياكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم.
(24/88)
فيجيبون بقولهم:
قالُوا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي قال الكفار المعذبون: ربنا أمتنا مرتين، حين كنا نطفا في أصلاب الآباء قبل الحياة الظاهرة، وحين أصبحنا أمواتا بعد حياتنا الدنيوية، وأحييتنا مرتين أيضا: الأولى في الدنيا، والثانية عند البعث، كما قال تعالى في آية أخرى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة 2/ 28] .
فاعترفنا بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا، من تكذيب الرسل، والإشراك بالله وترك توحيده، وإنكار البعث، ولكنه اعتراف وندم في وقت لا ينفعهم فيه الندم، فهل لنا طريق إلى الخروج من النار والرجوع إلى الدنيا، لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة 32/ 12] وقال سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام 6/ 27] وقال عز وجل: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ، قالَ: اخْسَؤُا فِيها، وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون 23/ 108] .
فأجيبوا بالرفض مع بيان السبب، فقال تعالى:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي أنتم هكذا على وضعكم، وإن رددتم إلى الدار الدنيا: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام 6/ 28] فلا رجعة لكم، وتظلمون في العذاب، بسبب أنكم كنتم إذا دعي الله وحده دون غيره في الدنيا، كفرتم به وتركتم توحيده باستمرار، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها، تؤمنوا بالإشراك به وتجيبوا
(24/89)
الداعي إليه، فالحكم لله وحده دون غيره، ولا يحكم إلا بالحق وبمقتضى الحكمة، وهو المتعالي عن المماثل في ذاته وصفاته، والأكبر من أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك، فقوله: الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ دلالة على الكبرياء والعظمة.
ثم ذكر الله تعالى ما يدل على كمال قدرته وكبريائه وعظمته، فقال:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً، وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ الله تعالى هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده وعلامات قدرته، بما أودع في سمائه وأرضه من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، وهو سبحانه الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه، مع أنه من ماء واحد وتراب واحد، مما يدل على قدرته وعظمة صنعه، ولكن ما يتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة إلا من يرجع إلى ربه، بالتأمل والتفكر والنظر في آيات الله، ثم بالطاعة والإذعان إليه.
ولما قرر الله تعالى ما يوجب توحيده، صرح بالمطلوب وهو الإقبال بالكلية على الله تعالى، والإعراض عن غير الله، فقال:
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم، ولو كره الكافرون منهجكم ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم.
ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله ص كان يقول عقب الصلوات المكتوبات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» .
(24/90)
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ص قال: «ادعوا الله تبارك وتعالى، وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» .
ثم ذكر تعالى أيضا ثلاث صفات أخرى من صفات الجلال والعظمة، فقال:
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ أي هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الصفات، وهو صاحب العرش ومالكه وخالقه والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، وهو الذي ينزل الوحي على من يريد من عباده الذين يختارهم لرسالته وتبليغ أحكامه، وهم الأنبياء، ليقوموا بإنذار الناس بالعذاب يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، ويلتقي الأولون والآخرون.
وسمي الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيى الأبدان بالأرواح. والمراد بقوله: مِنْ أَمْرِهِ أي من شرائعه التي يوحي بها إلى أنبيائه ليمتثلوا ويسيروا في حياتهم بموجبها.
ونظائر الآية كثيرة، مثل قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل 16/ 2] ونحو قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء 26/ 193- 195] .
ومن صفات يوم القيامة أيضا ما يلي:
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي إن يوم التلاق هو اليوم الذي هم فيه ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لاستواء الأرض، وهم خارجون من قبورهم في العراء،
(24/91)
لا يخفى على الله شيء من أعمال العباد التي عملوها في الدنيا، سرا أو علانية، كما في آية أخرى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ، لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] .
ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله الواحد الأحد، القاهر عباده وكل شيء بقدرته، قهرهم بالموت، ثم بالبعث الشامل. وقد أورد هذا المعنى لتقريره في الأذهان بصورة سؤال يسأل فيه الرب تعالى، يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ أي يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه، فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
والخلاصة: ذكر تعالى هنا أربع صفات ليوم القيامة: هي كونه يوم التلاق، وكون الخلق فيه ظاهرين جميعا أمامه لا يسترهم شيء، وكونه يوما لا يخفي الله فيه من الأعمال شيئا، والمقصود بذلك الوعيد، فإنه تعالى إذا جمع الخلق، يجازي كلا بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكون الملك المطلق فيه لله عز وجل.
ثم ذكر تعالى صفة خامسة وسادسة ليوم القيامة، تبينان صفات عدل الله في حكمه بين خلقه، وفضله ورحمته، فقال:
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إن يوم القيامة هذا هو يوم الجزاء وثواب كل عامل بعمله، من خير وشر، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد، بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه، وإن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة كما قال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] وقال: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] ولأنه تعالى لا يحتاج إلى تفكر، ويحيط علمه بكل شيء، فلا يغيب عنه مثقال ذرة.
وذكر سرعة الحساب في هذا الموضع لائق جدا، لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم، بيّن
(24/92)
أنه سريع الحساب، وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال.
وقد روى مسلم في صحيحة حديثا في بيان منع الظلم في الحساب عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ص، فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا- إلى أن قال- يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
1- إن الله تعالى يحب الخير لعباده ويكره الكفر والشر لهم، لذا كان مقته وبغضه للكفار في وقت تعذيبهم بالنار أشد من بغضهم أنفسهم في ذلك الوقت، لأنها أوبقتهم في المعاصي.
2- احتج أكثر العلماء بآية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ في إثبات عذاب القبر، بناء على تفسير السدّي: أنهم أميتوا في الدنيا، ثم أحياهم في القبور للسؤال، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما جنح إلى هذا التفسير، لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة؟.
كذلك تدل هذه الآية على حصول الحياة في القبر.
3- يعترف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم العقاب يوم القيامة، ويندمون على ذلك، لكن لا ينفعهم فيه الندم والاعتراف.
4- يطلب الكفار الرجوع إلى الدنيا للإيمان والطاعة، ولكن لا رجعة لهم.
(24/93)
5- إن تعذيب الكفار بسبب إعراضهم عن الإيمان بالله وبالبعث وبالرسل في الدنيا التي هي دار التكليف والعمل، وتركهم التوحيد، واختيارهم الشرك والمعاصي.
6- أقام الله تعالى آيات وأدلة كثيرة على وجوده وتوحيده وقدرته وحكمته، ومنها هنا آيات السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبحار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا، ومنها إنزال الرزق بإنزال المطر سبب الحياة والبركة والخير.
ويلاحظ أنه جمع في هذه الآية بين رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبإنزال الرزق من السماء قوام الأبدان.
ولكن ما يتعظ بهذه الآيات، فيوحد الله إلا من ينيب ويرجع إلى طاعة الله، والمعنى: إنّ لمس وإدراك دلائل توحيد الله كالشيء المستقر في العقول، والاشتغال بالشرك وبعبادة غير الله مانع يحجب أنوار العقل والفكر، فإذا تخلى العبد عن الشرك، وأناب إلى الله، زال الغطاء، واستنار القلب، فحصل الفوز التام، وظهرت سبيل النجاة.
7- وكما أن من صفات كبرياء الله وإكرامه: كونه مظهرا للآيات، منزلا للأرزاق، فله صفات ثلاث أخرى من صفات الجلال والعظمة، وهي كونه رفيع الصفات، خالق العرش ومدبره ومالكه، منزل الوحي والنبوة على من يشاء من عباده. وسمي الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح، كما تقدم.
8- ما على العباد أمام هذه الصفات العليا إلا عبادة الله وحده لا شريك له، مخلصين له العبادة والطاعة، حتى ولو كره الكافرون عبادة الله، فلا تعبدوا أيها المؤمنون غيره.
(24/94)
9- إنما يبعث الله الرسل لإنذار يوم البعث يوم تلاقي الخلائق جميعهم في أرض المحشر، ويوم يكونون ظاهرين في صعيد واحد، لا يسترهم شيء، لاستواء الأرض، وذلك اليوم لا يخفى على الله شيء من العباد ومن أعمالهم، وهو اليوم الذي يظهر فيه السلطان المطلق والملك التام لله الواحد القهار، ويقول سبحانه بعد فناء الخلق وهلاك كل من في السموات ومن في الأرض: لمن الملك في هذا اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: لله الواحد القهار. وفي تفسير آخر: أن السائل غير الله، والمجيب هم أهل المحشر، ورجح هذا القرطبي، فقال:
أصح ما قيل فيه: ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر مناد ينادي:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا.
ثم أردف القرطبي قائلا: والقول الأول ظاهر جدا، لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدّعين وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبهم ودعاويهم. ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطيّ السماء: «أنا الملك، فأين ملوك الأرض» كما في حديثي أبي هريرة وابن عمر، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟! «1» .
10- ومن صفات ذلك اليوم: أن تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وأنه لا ظلم فيه، فلا ينقص أحد شيئا من عمله، وإن الله سريع الحساب، فلا يحتاج إلى تفكر واستدلال، لأنه تعالى العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 300- 301
(24/95)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
في ساعة واحدة.
جاء في الخبر: «ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» .
والخلاصة: ذكر الله تعالى ست صفات ليوم القيامة: وهي كونه يوم التلاق، وكون الخلق بارزين ظاهرين فيه، ولا يخفى على الله منهم شيء، ويظهر فيه الملك التام لله الواحد القهار، وتجزى فيه كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا ظلم في الحساب الذي هو سريع الإجراء والتنفيذ وتحقيق المطلوب.
أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة
[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 22]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
الإعراب:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ إِذِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ الذي هو مفعول به ل أَنْذِرْهُمْ لا ظرف، لأن الإنذار لا يكون يوم الآزفة. والْقُلُوبُ مبتدأ، ولَدَى الْحَناجِرِ خبر. وكاظِمِينَ
(24/96)
حال من ضمير لَدَى أو حال من أصحاب القلوب. و: من في مِنْ حَمِيمٍ زائدة، تقديره:
ما للظالمين حميم ولا شفيع. ويُطاعُ جملة فعلية صفة ل شَفِيعٍ.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا.. فَيَنْظُرُوا إما منصوب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن» أو مجزوم عطفا على يَسِيرُوا وكَيْفَ في موضع نصب، لأنها خبر كانَ وعاقِبَةُ: اسم كان المرفوع، وفي كَيْفَ ضمير يعود على العاقبة. ويجوز جعل كانَ تامة، فلا تحتاج إلى خبر، فيكون كَيْفَ ظرفا ملغى لا ضمير فيه. وكذلك كانُوا في قوله: الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ يجوز فيها الوجهان، ويكون أَشَدَّ إذا جعلت كانَ بمعنى «وقع» حالا. وقُوَّةً تمييز. وجملة كان واسمها وخبرها مفعول: ينظروا. وكانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً جواب كَيْفَ.
البلاغة:
ما لِلظَّالِمِينَ أي الكفار، فيه وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بهم، وإنه لظلمهم.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ استفهام إنكاري.
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة، سميت بها لأزوفها، أي قربها، يقال: أزف الرحيل يأزف أزفا: قرب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ ترتفع خوفا عند الحناجر أي الحلوق، جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى. لِلظَّالِمِينَ الكفار كاظِمِينَ ممتلئين غما حَمِيمٍ قريب نافع أو محب وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ مشفع أي تقبل شفاعته، ولا مفهوم للوصف: يُطاعُ إذ لا شفيع لهم أصلا كما قال تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ [الشعراء 26/ 100] أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا.
يَعْلَمُ الله خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة، كالنظرة الثانية إلى الحرام، واستراق النظر إليه، فالمراد الأعين الخائنة: وهي التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه وَما تُخْفِي الصُّدُورُ القلوب، أي ما تكتمه الضمائر. والجملة خبر خامس للقلوب، للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلّق العلم والجزاء.
(24/97)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق، فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون، أي كفار مكة مِنْ دُونِهِ أي الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فكيف يكونون شركاء لله؟ وهذا تهكم بهم، لأن الجماد لا يقال فيه: إنه يقضي أو لا يقضي إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم، وهذا تعليل وتقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق، ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، وتعريض بحال ما يدعونه من دونه.
عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ من قلاع ومصانع وقصور ومدائن حصينة فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أهلكهم واقٍ حافظ يدفع عنهم السوء أو العذاب.
بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والأحكام الواضحة إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ ليس هناك عقاب أشد منه.
المناسبة:
بعد بيان كون الأنبياء ينذرون الناس يوم التلاق، أتى بأوصاف هائلة رهيبة أخرى ليوم القيامة، لتخويف الكفار بعذاب الآخرة، ثم خوفهم بعذاب الدنيا المماثل لإهلاك الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل.
التفسير والبيان:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ أي خوف أيها الرسول الكفار يوم القيامة، ليؤمنوا ويقلعوا عن الشرك، ذلك اليوم الذي لكأن القلوب تزول من مواضعها من الخوف، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق، حال كون أصحابها مكروبين ممتلئين غما.
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي وحال كون أولئك الكافرين ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع مشفع تقبل شفاعته لهم.
والمقصود بالآية تخويف الكفار وترويعهم من شدة الخوف وأهوال يوم
(24/98)
القيامة. وفي الآية إشارة إلى أن الكفار يوم القيامة يشتد خوفهم، حتى لكأن قلوبهم لدى حلوقهم، وفيها تصريح بعدم جدوى شفاعة الأصنام كما زعموا وتأملوا.
والقيامة وإن طال زمانها في تقدير الناس إلا أنها آتية من غير أي شك فيها، وكل آت قريب، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وقال جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء 21/ 1] وقال سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] وقال عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً، سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك 67/ 27] .
ثم أعلمهم تعالى بشمول علمه وضبطه ودقته، فقال:
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي إن الله يعلم النظرة الخائنة التي ينظرها العبد إلى المحرّم، ويعلم ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة، حتى حديث النفس أو خواطر النفس. وهذا يعني أن علم الله تام محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها، ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حق الحياء، ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة، وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر، أي مضمرات القلوب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمرّ به وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطّلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها «1» .
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(24/99)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي والله يحكم بالحكم العادل، فيجازي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة، ويجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي والذين يعبدونه من الأصنام من غير الله، لا يتمكنون من القضاء بشيء، أي فلا يحكمون بشيء، ولا يملكون شيئا، لأنهم لا يعلمون شيئا، ولا يقدرون على شيء، فالذي تجب عبادته هو القادر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فإن الله سميع لأقوال خلقه، بصير بأفعالهم، فيجازيهم عليه يوم القيامة.
وهذا وعيد لهم على أقوالهم وأفعالهم وأنه يعاقبهم عليه، وتصريح بعدم جدوى عبادة الأصنام والأوثان والأنداد وغيرها من المعبودات، وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضي أو لا يقضي.
هذه موجبات التخويف من عذاب الآخرة، ثم خوفهم الله تعالى بعذاب الدنيا، فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي أرشدهم الله تعالى إلى الاعتبار بغيرهم، والمعنى: أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد، فينظروا مآل حال الذين مضوا من الكفار المكذبين بالأنبياء، وما حل بهم من العذاب والنكال، مع أنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من كفار مكة وأمثالهم، وأبقى آثارا في الأرض، بما عمروا فيها من الحصون والقصور، وأقاموا من المدن والحضارات.
فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وما كان لهم من دافع يدفع عنهم العذاب، وللكافرين أمثالها. وهذا تحذير واضح للكافرين في كل زمان بما حل بالأمم الغابرة.
(24/100)
ونظير بعض الآية: قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف 46/ 26] وقال سبحانه: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الروم 30/ 9] .
ثم ذكر الله تعالى علة إهلاكهم وتدميرهم، فقال:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَكَفَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي ذلك الأخذ والإهلاك بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق، فكفروا بما جاءوهم به، فأهلكهم الله ودمّر عليهم، إن الله ذو قوة عظيمة وبطش شديد، يفعل كل ما يريده، لا يعجزه شيء، وعقابه أليم شديد وجيع لكل من عصاه، فيا أيها الكفار والعصاة اعتبروا واتعظوا بغيركم، فالسعيد من وعظ بغيره.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات شيئان: التخويف من عذاب الآخرة، والتحذير من عذاب الدنيا.
أما عذاب الآخرة: فقد ذكر الله تعالى ثمانية أسباب موجبة للخوف وهي «1» :
1- أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من العذاب لمن أذنب.
2- أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن زال القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة.
3- لا يمكنهم أن ينطقوا لشدة ما اعتراهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب القلق والاضطراب.
4- ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع يطاع فيهم، فتقبل شفاعته.
__________
(1) تفسير الرازي: 27/ 52
(24/101)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
5- أنه سبحانه عالم بكل شيء صغير أو كبير، دقيق أو جليل، وهذا يوجب شدة الخوف.
6- الله يقضي بالحق المطلق والعدل التام، وهذا أيضا يوجب عظم الخوف.
7- لا فائدة مما عول عليه المشركون من شفاعة الأصنام، فهم لا يقضون بشيء.
8- إن الله يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ونحوها من المعبودات الباطلة، ويبصر خضوعهم وسجودهم لها.
وأما عذاب الدنيا: فأمام هؤلاء الكفار المكذبين لرسول الله محمد ص نماذج وألوان من عذاب الأمم القديمة المكذبة رسلها، وقد نزل بهم العذاب لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل، وهؤلاء الحاضرون يشاهدون آثار دمارهم وهلاكهم، والله يحذر الكفار قوم الرسول من مثل أفعال أولئك الماضين، وقد ختم الكلام بقوله: إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ مبالغة في التحذير والتخويف.
قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان
- 1- تعذيب بني إسرائيل والتهديد بقتل موسى
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
(24/102)
البلاغة:
وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فيه وضع الظاهر وهو الْكافِرِينَ موضع الضمير أي كيدهم لتعميم الحكم والدلالة على العلة وهي الكفر.
كَذَّابٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا أي المعجزات وَسُلْطانٍ حجة وبرهان مُبِينٍ ظاهر واضح، والعطف بين الآيات والسلطان لتغاير الوصفين فِرْعَوْنَ ملك مصر وَهامانَ وزير فرعون وَقارُونَ كان ثريا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعنون موسى عليه السلام، وفيه تسلية لرسول الله ص وبيان عاقبة من هو أشد بطشا من الذين كانوا من قبلهم وأقربهم زمانا.
بِالْحَقِّ بالصدق قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ استبقوهم أحياء، والمعنى: أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من قتل الأولاد الذكور وإبقاء النساء أحياء للخدمة وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع.
وَقالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فيه غاية الكيد والحقد والتجلد وعدم المبالاة بدعاء ربه ليمنعه منه إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام. أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي ما يفسد دنياكم من القتل والتجارب وإثارة الفتن إن لم يقدر أن يبطل دينكم وَقالَ مُوسى لقومه لما سمع كلام فرعون إِنِّي عُذْتُ استعذت واستجرت واستعنت، وبدأ ب «إن» للتأكيد والدلالة على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ خص اسم الرب، لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وقوله: وَرَبِّكُمْ للحث على الاقتداء به، فيتعوذوا بالله مثله ويعتصموا بالتوكل عليه مثله
(24/103)
مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لم يسم فرعون، وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة بحيث تشمل فرعون وغيره من الجبابرة، ولاستخدام طريقة التعريض التي هي أبلغ. والتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ذكر هذا لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، استكمل وصف القسوة والجرأة على الله وعلى عباده.
المناسبة:
لما سلّى الله تعالى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضا بذكر قصة موسى عليه السلام التي دلت على أنه مع قوة معجزاته، كذبه فرعون وهامان وقارون، وقالوا عنه: هو ساحر كذاب.
ولكن في النهاية انتصر عليهم، وتلك بشارة لنبينا ص بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي تالله لقد أرسلنا موسى بالمعجزات التي هي الآيات التسع كاليد والعصا، وبحجة بينة واضحة وبرهان قوي.
إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ، فَقالُوا: ساحِرٌ كَذَّابٌ أرسلنا موسى إلى فرعون ملك مصر، وهامان وزيره، وقارون أغنى أهل زمانه، فقالوا عنه: إنه ساحر مخادع مجنون مموه، كذاب فيما زعم أن الله أرسله، كما قال تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات 51/ 52- 53] .
وخص هؤلاء الطغاة بالذكر، لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، وغيرهم تابع لهم. وشأن الجبابرة عدم الإصغاء للحجة والمنطق واللجوء إلى القوة، كما قال
(24/104)
تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم، وهي معجزاته الظاهرة الواضحة.
قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي قال أولئك الطغاة: عودوا إلى قتل الذكور وترك النساء، لئلا يكثر جمعهم، ولكي يضعف شأنهم. وهذه هي المرة الثانية بالأمر بذلك بعد بعثة موسى، وكانت المرة الأولى قبل ولادة موسى، لأجل تفادي وجوده، ولإذلال الشعب الإسرائيلي، ولتقليل عددهم، لئلا ينصروا عليهم. ولكن الله تعالى أحبط كيدهم وأفشل خطتهم كما قال:
وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي وما مكرهم وقصدهم تقليل عدد بني إسرائيل إلا في ضياع وذهاب سدى، لم يحقق فائدة لهم، فإنهم لما باشروا قتلهم أولا، فما أفادهم، وعاش موسى، فكذلك لا يفيدهم تجديد مأساة القتل الجماعي، وسيكون النصر للمؤمنين.
ولكنه زاد في هذه المرة العزم على قتل موسى، فقال:
وَقالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي قال فرعون لقومه: دعوني أقتل موسى، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، ولا أبالي به. وهذا في الظاهر استهانة بدعاء رب موسى، وفي الباطن كان يرتعد من دعائه، فقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه.
وسبب القتل ما قال تعالى:
إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي إني أخشى أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام، ويدخلكم في
(24/105)