وبه يتبين أن الله تعالى سخر لسليمان الإنس، فكان له عساكر كثيرون منهم، والجن لصناعة المباني الضخمة والأواني الواسعة والقدور السابغة، والطير، كما سيأتي في قصة الهدهد.
3- قصة النملة:
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي حتى إذا قدم سليمان ومن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، وهي- كما يقال ولم يثبت- واد بالشام أو بغيره كثير النمل، نادت نملة هي ملكة النمل، كما فهم سليمان: يا أيها النمل، ادخلوا بيوتكم، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده، دون أن يشعروا بذلك.
وقوله: لا يَحْطِمَنَّكُمْ كما جاء في الكشاف: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، أي ادخلوا لا يحطمنكم، مثل: اجتهد لا ترسب، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، أي في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا.
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي فتبسم شارعا في الضحك بعد أن فهم قولها، تعجبا من تحذيرها، أو سرورا بما خصه الله به من فهم غرضها، وقال: ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه قياما بواجب الشكر على النعمة، واجعلني إذا توفيتني في الجنة في زمرة الصالحين من الأنبياء والأولياء الصلحاء.
وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا نعمة الدين، فإن الولد إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له.(19/276)
وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها كافية في وجوب الشكر، مستحقة للحمد والثناء على المتفضل المنعم بها. وفيه الدليل على البر بالوالدين والدعاء لهما بعد موتهما.
ومن وقائع فهم سليمان كلام النمل: ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: «خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن نعمة العلم من أجل النعم وأشرفها وأرفعها رتبة، وإن من أوتي العلم فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] .
2- كان إرث سليمان من والده داود عليهما السلام هو النبوة والملك، وليس وراثة مال، وإلا لكان جميع أولاد داود التسعة عشر فيه سواء. والمقصود أنه صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، كما
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي الدرداء مرفوعا: «العلماء ورثة الأنبياء»
أي ورثتهم في العلم والحكمة وفهم أمور الدين والدنيا على حقيقتها. ودليل ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: إنا معشر الأنبياء «لا نورث» .
3- تقتضي نعمة العلم وغيره شكر المنعم وحمده على فضله وإحسانه، كما فعل داود وسليمان عليهما السلام، ودل قولهما على تواضع العلماء والاعتقاد بأنه وإن فضلا على كثير، فقد فضل عليه أناس مثلهما، وهذا مشابه لقول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.(19/277)
4- عدد الله في القصة نعما ثلاثا على سليمان عليه السلام: هي تعليمه منطق الطير وإيتاؤه الخير الكثير، وتسخير الجن والإنس والطير، وفهمه خطاب النملة. وأصوات الطيور والبهائم هو منطقها، وفي مناطقها معاني التسبيح وغير ذلك، كما أخبر تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
5- بدأ سليمان عليه السلام في تعداد هذه النعم قائلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا تشهير لنعمة الله، وتنويه بها، واعتراف بمكانها، ودعوة الناس إلى التصديق برسالته بذكر المعجزة وهي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.
6- اشتمل دعاء سليمان عليه السلام على طلب الإلهام من الله شكر ما أنعم به عليه، وعلى توفيقه لزيادة العمل الصالح والتقوى، فهو عليه السلام بعد أن سأل ربه شيئا خاصا وهو شكر النعمة، سأل شيئا عاما وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى.
7- دل قوله: فَهُمْ يُوزَعُونَ على جواز اتخاذ الإمام والحكام وزعة (أي عرفاء) يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
هذا.. وقد علّق ابن العربي على قول عثمان: «ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن» فقال:
وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافّة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها،(19/278)
وقصّروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية منها، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها.
ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور «1» .
8- ما حكاه تعالى من قول النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حسن اعتذار، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله ضاحِكاً إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، وسرور النبي بأمر الآخرة والدين، لا بأمر الدنيا.
9- أفهم الله تعالى النملة هذا الكلام لتكون معجزة لسليمان عليه السلام.
10- أودع الله في كل حيوان غرائز معينة، يهتدي بها إلى ما ينفعه، ويمتنع بها عما يضره. ومن درس طبائع الحيوانات وعرف خصائصها، أدرك فيها عجائب مثيرة، وإلهامات غريبة، وذلك يدعو إلى الإيمان بالله الخالق الموجد الملهم، وسبحانه أبدع كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون حينما قال له ولأخيه هارون: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه 20/ 49- 50] .
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1438.(19/279)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
- 2- قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 28]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)
الإعراب:
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً عَذاباً: إما منصوب على المصدر، بجعل العذاب الذي هو اسم قائما مقام «تعذيب» ويجوز إقامة الأسماء مقام المصادر، كقولهم: سلمت عليه سلاما، وكلمته كلاما، وإما منصوب على المفعول بتقدير حذف حرف الجر، أي لأعذبنه بعذاب. وليست اللام في لَيَأْتِيَنِّي لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في أثر قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ أجراه مجراه.(19/280)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ غَيْرَ إما صفة مصدر محذوف، أي فمكث مكثا غير بعيد، أو وصف لظرف محذوف، أي فمكث وقتا غير بعيد.
مِنْ سَبَإٍ اسم مصروف للحي أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسما لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. والصحيح أن سَبَإٍ اسم رجل، كما في كتاب الترمذي.
أَلَّا يَسْجُدُوا أَلَّا بالتشديد، أصلها «أن لا» وأن: في موضع نصب، لتعلقه ب يَهْتَدُونَ و (لا) : زائدة. ومن قرأ بالتخفيف، جعل أَلَّا للتنبيه، وجعل (يا) حرف نداء، والمنادي محذوف، وتقديره: يا هؤلاء اسجدوا، فحذف المنادي لدلالة حرف النداء عليه.
البلاغة:
أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فيها مراعاة فواصل الآيات. ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ تعجب.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي التأكيد المكرر للدلالة على العزم المشدد على الفعل.
أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ بينهما طباق السلب.
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ جناس ناقص.
تُخْفُونَ تُعْلِنُونَ بينهما طباق.
أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ طباق بالمعنى، وهو أبلغ من المطابقة باللفظ لأن الجملة الثانية اسمية، وهي تفيد الثبوت.
المفردات اللغوية:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ بحث عنه، والتفقد: طلب ما فقد، والطير: اسم جنس لكل طائر ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ تعجب من عدم رؤيته الهدهد، ظنا منه أنه حاضر محجوب عنه لساتر أو غيره. وأم منقطعة للإضراب، أي فلما لاح له أنه غائب، أضرب عن ذلك وقال: بل أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أي تعذيبا شديدا كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، فلا يمتنع من هوام الأرض لعجزه عن الطيران، أو كجعله في قفص أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بقطع حلقومه، ليعتبر به غيره أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ببرهان بين ظاهر أو بحجة بينة على عذره.(19/281)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي ظل الهدهد غائبا زمانا يسيرا ثم عاد، والمراد الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ اطلعت على ما لم تطلع عليه، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، أي اطلع على حال سبأ. وفي هذا الخطاب تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به، للدلالة على محدودية العلم عند سليمان مِنْ سَبَإٍ اسم مدينة في اليمن، والمراد أهلها، سميت باسم جد لهم وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، فمن جعله اسما للقبيلة منعه من الصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر، جعله مصروفا، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل بِنَبَإٍ يَقِينٍ خبر مهم محقق.
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ أو لأهلها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المراد كثرة ما أوتيت مما يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة وَلَها عَرْشٌ هو سرير الملك عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي كأنهم كانوا يعبدونها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادة الشمس وغيرها من مقابيح أفعالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الحق والصواب فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه.
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: أن يسجدوا له، فزيدت (لا) وأدغم فيها نون «أن» كما في آية لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد 57/ 29] أي ليعلم الْخَبْءَ المخبوء من كل شيء كالمطر والنبات وغيره من المغيبات، ويُخْرِجُ الْخَبْءَ يظهره، وهو يشمل إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات وإنشاء الأشياء وإبداعها وَيَعْلَمُ ما يخفون في قلوبهم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتهم.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هو استئناف جملة ثناء، مشتمل على عرش الرحمن، في مقابلة عرش بلقيس، وبينهما بون عظيم قالَ: سَنَنْظُرُ أي قال سليمان للهدهد: سنتعرف أَصَدَقْتَ فيما أخبرتنا به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي من هذا النوع، والتغيير من الجملة الفعلية إلى الاسمية للمبالغة، فالجملة الاسمية أبلغ من: «أم كذبت فيه» ولمراعاة الفواصل.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا صورة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ:
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ انصرف أو تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه فَانْظُرْ تأمل وفكّر ماذا يَرْجِعُونَ ما يردّون من الجواب وماذا يقول بعضهم لبعض.(19/282)
المناسبة:
بعد بيان تسخير الجن والإنس والطير لسليمان عليه السلام، أبان الله تعالى هنا أن سليمان تفقد طير الهدهد، فلم يجده، ثم حضر فأخبره عن مملكة بلقيس، وعن عبادتهم الشمس.
التفسير والبيان:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ، فَقالَ: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أي بحث سليمان عن الهدهد بين جنوده، وكان له علم بمنطق الطير، وكانت الطيور مسخرة له كالريح وغيرها، فقال متعجبا: كيف لا أرى الهدهد؟ علما بأنه لم يأذن له بالغياب، بل هو من الغائبين دون أن أعلم بغيبته. وفي العبارة قلب، أي ما للهدهد لا أراه؟! وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا؟ أي مالك؟.
وذكر المفسرون أن سبب بحثه عنه أنه كان يدل على مكان وجود الماء تحت الأرض، بنقره فيها، فيستخرج منها من طريق الجن أو الشياطين، كما كان يرشد سليمان وجنوده إلى الحد الفاصل بين قريب الماء وبعيده أثناء السير بفلاة من الأرض.
وحين تثبّت من غيابه توعده بالعذاب إذا كان بغير عذر مقبول، فقال تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي أنه هدده بالقتل أو بالتعذيب والعقاب الشديد كنتف ريشه إلا أن يأتي ببرهان واضح يبين عذره، أي إن التهديد والوعيد كان بأحد أمرين إن لم يأت بالأمر الثالث وهو العذر الواضح البيّن.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي غاب الهدهد زمانا يسيرا ثم جاء فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال(19/283)
لسليمان: اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك، وجئتك من مدينة سبأ بخبر صدق متيقّن، والأكثر على أن سَبَإٍ مصروف لأنه اسم بلد. وأهل سبأ: هم حمير وهم ملوك اليمن. والأكثر على أن الضمير في فَمَكَثَ يعود للهدهد، ويحتمل أن يكون لسليمان، والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل، أي غير وقت طويل.
وقد كان الهدهد ماهرا بالدفاع عن نفسه بتلطف وقدرة على اجتذاب النظر إليه وإصغاء السمع لكلامه، وأنه كان يقوم برحلة استكشاف علمية لمملكة سبأ ومعرفة أحوال أهلها في الملك والتدين. ثم عرّف سليمان ببعض المعارف بالرغم مما أوتيه من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة، للتنبيه على وجود العلم والمعرفة عند من هو أضعف منه، وللإرشاد إلى ضرورة تواضع العلماء.
قال الزمخشري: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: أن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه «1» .
ومضمون خبر الهدهد ثلاثة أمور هي في هذه الآية:
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي إني وجدت في بلاد سبأ مملكة عظيمة ذات مجد تملكهم امرأة هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها قبلها ملكا عظيم الملك، وأعطيت من متاع الدنيا الشيء الكثير من شراء وغنى، وملك وأبهة، وجيش مسلح بأنواع مختلفة من معدات القتال، وبإيجاز: أوتيت من كل شيء تحتاجه المملكة في زمانها، ولها سرير عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، تجلس عليه، فوصفه بالعظم أي في الهيئة ورتبة السلطان، قال المؤرخون: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد، رفيع البناء، محكم الصنع، فيه ثلاث مائة طاقة من مشرقه ومثلها
__________
(1) الكشاف: 2/ 448.(19/284)
من مغربه، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحا ومساء. وهذا ما أشارت إليه الآية التالية المبينة عقيدتهم الدينية.
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من غير الله، وزيّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فصاروا يرون السيء حسنا، ومنعهم الشيطان عن طريق الحق وعبادة الله الواحد الأحد، فأصبحوا لا يهتدون إليه.
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، وهو الخالق المبدع الذي يخرج إلى الوجود بعد العدم كل شيء مخبوء مغيب في السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن والمخلوقات، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال.
ونظير الآية في القسم الأول منها: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت 41/ 37] . ونظيرها في القسم الآخر: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد 13/ 10] .
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي أنه بعد بيان الدليل على وجود الله وتوحيده، وهو افتقار العالم إليه، نزهه وأبان عظمته، فذكر أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فكل عرش مهما عظم فهو دونه، ومنها عرش بلقيس، فكان الواجب إفراده بالعبادة. فوصف الهدهد عرش بلقيس بالعظم(19/285)
بالنسبة أو بالإضافة إلى عرش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض.
فأجاب سليمان عليه السلام طير الهدهد عن دفاعه عن نفسه لتبرئة ساحته، حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم فقال:
قالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي قال سليمان:
سنتعرف على مدى صحة قولك، أصادق في إخبارك هذا، أم أنك كاذب في مقالتك، لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك به؟.
والمغايرة بين الجملتين الفعلية والاسمية في هذه الآية، وجعل الثانية اسمية للمبالغة كما بينا، وإفادة ثبات صفة الكذب عليه، وأنه مداوم على الكذب لا ينفك عنه. ووسيلة الاختبار هي:
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي إن سليمان عليه السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها، يدعوها فيه إلى الإيمان والإسلام لله عز وجل، وأعطاه ذلك الهدهد، وأمره أن يلقيه إليهم، ثم يبتعد عنهم قريبا، ويتأمل رد الفعل، وما يراجع بعضهم بعضا القول، ويناقش فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- القائد يتفقد عادة جيشه وجنوده، وقد فعل ذلك سليمان عليه السلام أثناء مسيره ومروره بوادي النمل، فتفقد جنس الطير وجماعتها التي كانت تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها. وكان سبب تفقده ما تقتضيه عادة العناية بأمر الملك، والاهتمام بعناصر الجيش وبكل جزء منها، كما دل ظاهر الآية. وقال(19/286)
عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر «1» . والخلاصة:
استنبط العلماء من الآية استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.
2- قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً دليل على أن الحدّ أي العقوبة على قدر الذنب، لا على قدر الجسد، ولكن يرفق بالمحدود في الزمان والصفة.
وأما ذبحه فدليل على أن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع.
3- قوله تعالى: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، دليل على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب، ودليل على أن الصغير يقول للكبير، والمتعلم للعالم: عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه.
4- الاعتذار الصحيح مقبول عند أهل الحق والإيمان، فقول الهدهد:
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ دفع فيه عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح.
5- كانت بلقيس ملكة سبأ، وكان هذا عرفا معمولا به عند القدماء، وعند المعاصرين غير المسلمين. أما في شرعنا
فقد روى البخاري من حديث ابن عباس
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 178.(19/287)
أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملّكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ولا بأن يكتب لها منشور (أو مسطور) بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» «1» .
وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وما روي عن عمر أنه قدّم امرأة على حسبة السوق لم يصح، فلا يلتفت إليه، وإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث.
6- كانت أمة بلقيس ممن يعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى، وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم أي ما هم فيه من الكفر، وصدهم عن طريق التوحيد، فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده، وزين لهم ألا يسجدوا لله، أو فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وعلى هذا تكون (لا) زائدة، مثل: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف 7/ 12] أي أن تسجد.
وهذا دليل على أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به قطعا.
ثم آمنت تلك الأمة واهتدت إلى الإقرار بنبوة سليمان ودعوته إلى التوحيد، كما سيأتي بيانه.
7- إن الله الذي خلق فسوى، وأخرج المخبوء في السموات والأرض كالمطر من السماء والنبات والكنوز من الأرض، هو الذي تجب عبادته، وهو الذي يستحق العبادة. والآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة:
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 183.(19/288)
فقوله: يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث، ومن الأرض بالنبات. وأما العلم فقوله:
وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ.
8- قول الهدهد أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ وقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ دليل على أنه داع إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له، لذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتله، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب:
النملة والنحلة والهدهد والصرد» .
9- قوله تعالى: أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم، بباطن أعذارهم لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد.
وفي الصحيح: «ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل» .
وقد قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه.
لكن للإمام أن يمتحن المعتذر إذا تعلق بالأمر حكم من أحكام الشريعة، كما فعل سليمان بالتثبت من صدق الهدهد.
10- دلت آية: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا ... على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعوتهم إلى الإسلام، وقد كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وإلى كل جبار، كما دلت الآية على سرعة الهدهد في تبليغ الكتاب إليهم، وعلى إيتائه قوة المعرفة وفهم كلامهم، وأن الملكة فهمت الكتاب فورا بواسطة مترجم، وعلى حسن آداب الرسل أن يتنحوا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، للتشاور فيها.(19/289)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
- 3- جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 37]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
الإعراب:
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ في «أن» ثلاثة أوجه:
الأول- أن تكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، أي بألا تعلوا عليّ.
الثاني- أن تكون في موضع رفع على البدل من كِتابٌ وتقديره: إني ألقي إلي كتاب ألا تعلوا.
الثالث- أن تكون مفسرة بمعنى «أي» كقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي امشوا، ولا موضع لها من الإعراب.
أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ كل من أَذِلَّةً والجملة بعدها حال من الهاء والميم في لَنُخْرِجَنَّهُمْ.(19/290)
المفردات اللغوية:
قالَتْ بلقيس لأشراف قومها الْمَلَأُ أشراف القوم وخاصتهم كِتابٌ كَرِيمٌ لكرم مضمونه أو مرسلة، أو لأنه كان مختوما أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أي ألا تتكبروا علي وتنقادوا للأهواء مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين مستسلمين. وهذا الكتاب مع وجازته تضمن المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع وصفاته، والنهي عن الترفع الذي هو داء المعاندين والمتكبرين، والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل.
الْمَلَأُ أشراف القوم أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا علي بالرأي في هذا الأمر قاطِعَةً أَمْراً باتة في أمر أو مبرمة أمرا حَتَّى تَشْهَدُونِ أي حتى تحضروني أي بمحضركم، وقد استعطفتهم بذلك ليظهروا إخلاصهم التام في الدفاع عنها أُولُوا قُوَّةٍ قدرة جسدية وعددية وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب شدة وشجاعة ونجدة وثبات في الحرب ماذا تَأْمُرِينَ أي ماذا توجهين إيانا بأوامرك فنطيعك أَفْسَدُوها بالتخريب وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ مرسلو الكتاب. ويلاحظ أنها لما أحست ميلهم إلى القتال، جنحت إلى الصلح لأن الحرب سجال، لا يدري عاقبتها.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بيان لما ترى تقديمه للمصالحة بإرسال هدية تدفع بها عن ملكها بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ من قبول الهدية أو ردها، فإن كان ملكا قبلها، وإن كان نبيا لم يقبلها فَلَمَّا جاءَ الرسول بالهدية ومعه أتباعه فَما آتانِيَ اللَّهُ من النبوة والملك خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من الدنيا بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنكم لا تهتمون إلا بزخارف الدنيا.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ارجع أيها الرسول إلى بلقيس وقومها بما أتيت من الهدية لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بمقاومتها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من بلدهم سبأ، سميت باسم أبي قبيلتهم أَذِلَّةً بذهاب ما كانوا فيه من العز وَهُمْ صاغِرُونَ أسرى مهانون محتقرون، إن لم يأتوا مسلمين.
المناسبة:
بعد إرسال سليمان عليه السلام كتابه إلى بلقيس وقومها مع الهدهد، ذكر الله تعالى مضمون الكتاب، وتشاور بلقيس في شأنه مع مستشاريها، فارتأوا القتال، وارتأت المهادنة والصلح بإرسال هدية إليه تدفع بها عن بلادها ويلات الحروب، ولا مانع لديها من إعطائه خراجا دائما مقابل ترك القتال.(19/291)
التفسير والبيان:
قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي قالت بلقيس لأشراف قومها ومستشاريها وأركان دولتها ومملكتها: يا أشراف القوم، إني ألقي إلي كتاب كريم: لأن مرسلة نبي الله سليمان، وهو ملك كريم، ولحسن مضمونه وجمال عباراته، ولأنه كان مختوما،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني: «كرامة الكتاب: ختمه»
وكان صلّى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاتخذ لنفسه خاتما كما أن فيه عجيب أمر حامله، وهو طائر ألقاه به إليها، ثم تولى عنها أدبا، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك.
ومضمون الكتاب:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي قرأت الكتاب على أشراف قومها، وكان في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة شاملا أمورا ثلاثة:
1- البسملة الدالة على إثبات الله ووحدانيته وقدرته ورحمته.
2- النهي عن الترفع الذي يحجب وصول الحق إلى النفوس، والنهي عن الانقياد للأهواء.
3- الأمر بالإسلام الجامع لأصول الفضائل، أو الأمر بالانقياد والطاعة لأمر سليمان.
قال العلماء: لم يكتب أحد: بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام. وبه ثبت أن هذا الكتاب على وجازته جامع كل ما لا بد منه من أمور الدين والدنيا.(19/292)
ثم استشارتهم في شأن الرد على الكتاب، وهذا من الحكمة والديمقراطية ونبذ الاستبداد: قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، أَفْتُونِي فِي أَمْرِي، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أي قالت بلقيس: يا أشراف القوم، أشيروا عليّ في شأن هذا الكتاب الذي أرسل إلي من نبي الله سليمان عليه السلام، ما كنت مبرمة أمرا ولا قاضية في شأن حاسم حتى يكون بحضوركم ومشاورتكم فيه.
وهذا دال على حسن سياستها ورشادها وحكمتها، فإنها استعطفتهم ليعينوها على اتخاذ الرأي الأفضل والأخلص والأصوب، فأجابوها بإظهار الاستعداد للقتال والحرب والدفاع عن المملكة:
قالُوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي قال أشراف القوم: نحن أصحاب قوة جسدية وعددية، وذوو نجدة وشجاعة وشدة وثبات في الحروب. ثم فوضوا إليها أمر إعلان الحرب، قائلين: نحن على أتم الاستعداد من جانبنا للحرب، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا، ففيه إظهار القوة الذاتية والعرضية، وإظهار الطاعة لها إن أرادت السلم والمصالحة.
فناقشتهم في ذلك، لعلمها بقوة سليمان وجنوده وجيوشه، وما سخر له من الجن والإنس والطير، فآثرت السلم على الحرب، وقالت: إني أخشى أن نحاربه، فيتغلب علينا، ويصيبنا جميعا الهلاك والدمار. فمالت إلى المصالحة، وتبين أنها أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، ولهذا حكت لهم ما يفعله الملوك الأشداء:
قالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً، وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي قالت بلقيس لهم حين أظهروا استعدادهم لقتال سليمان:
إن الملوك إذا دخلوا بلدا عنوة، خرّبوه وأتلفوا الديار والأموال، وأذلوا أعزة(19/293)
أهلها بالقتل أو الأسر، وأهانوهم غاية الهوان، لتتحقق لهم الغلبة والرهبة، ويفعلون هكذا.
وقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ الأقرب أنه من كلامها الذي أرادت به أن هذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت.
وهذا تحذير لقومها من محاربة سليمان ومجيئه إليهم ودخوله بلادهم، وبعد أن استبعدت فكرة الحرب، لجأت إلى الوسائل الودية ومنها المسالمة والمصالحة، واقترحت إرسال هدية إليه، وكان ذلك هو الرأي السديد.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ، فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي وإني ألجأ إلى هذه التجربة وهي بعث هدية إليه، تليق بمثله، وأختبر أمره، أهو نبي أم ملك؟ وأنظر ماذا يكون جوابه بعدئذ، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا، أو يفرض علينا خراجا نرسله إليه في كل عام، فنأمن جانبه، ويترك قتالنا ومحاربتنا.
قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس.
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عساكر عن أبي هريرة وهو حسن: «تهادوا تحابوا، وتصافحوا يذهب الغل عنكم» .
وقال ابن عباس وغيره: قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك، فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
وكانت الهدية عظيمة مشتملة على ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك، قال ابن كثير: والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب، فماذا كان موقف سليمان من الهدية؟:(19/294)
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ، قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي لما جاء الرسول ومعه أتباعه بالهدية إلى سليمان، لم ينظر إليها، وأعرض عنها، وقال منكرا عليهم: أتمدونني بمال؟ أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ إن الله تعالى أعطاني خيرا كثيرا مما أعطاكم وهو النبوة، والملك الواسع العريض، والمال الوفير، فلا حاجة لي بهديتكم، وإنما أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف وتفرحون بها، وأما أنا فلست طالبا للدنيا الزائلة، وإنما أطالبكم بالدخول في دين الله وترك عبادة الشمس، ولا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ أي ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإنا سنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله رب العالمين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- أدب الخطاب وخصوصا في مجال الدعوة إلى الله تعالى في مكاتبات الملوك ورؤساء الدول مطلوب شرعا، لذا وصفت بلقيس كتاب سليمان عليه السلام بأنه كتاب كريم، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبّا ولا لعنا، ويؤيده قول الله عز وجل إلى نبيه صلّى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 16/ 125] وقوله لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] .(19/295)
والوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف بدليل قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة 56/ 77] .
2- كانت عادة المتقدمين في المكاتبة أو المراسلة أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وسار السلف الصالح من أمتنا على هذا المنهج معاملة بالمثل،
قال ابن سيرين، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم، فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه»
وقال أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم.
لكن لو بدأ الكاتب بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوها في ذلك، فالأحسن في زماننا ومن عدة قرون أيضا أن يبدأ الكاتب بالمكتوب إليه، ثم بنفسه، لأن البداية بنفسه تعدّ منه استخفافا بالمكتوب إليه، وتكبرا عليه.
3- إذا كانت التحية واردة في رسالة ينبغي على المرسل إليه أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام.
4- اتفق العلماء على البدء بالبسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها لأنه أبعد من الريبة،
وجاء في الحديث المتقدم: «كرامة الكتاب ختمه»
واصطنع النبي صلّى الله عليه وسلم خاتما، ونقش على فصه:
«لا إله إلا الله محمد رسول الله» .
5- كان مضمون كتاب سليمان مع وجازته مشتملا على المقصود وهو إثبات وجود الله وصفاته الحسنى، والنهي عن الانقياد للهوى والنفس والترفع والتكبر، والأمر بالإسلام والطاعة، بأن يأتوه منقادين طائعين مؤمنين.(19/296)
والبسملة في هذا الموضع آية قرآنية بإجماع العلماء، فيكفر منكرها هنا.
6- المشاورة أمر مطلوب في كل شيء عام أو خاص ما لم يكن سرا لأنها تحقق نفعا ملحوظا للتوصل إلى أفضل الآراء وأصوبها، وخصوصا في الحروب والمصالحات وقضايا الأمة العامة، فإنه ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة، قال الله له: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء، ومدح الله تعالى الفضلاء بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 38] .
والمشاورة نهج قديم، وبخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس قبل إسلامها: قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالت ذلك لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم في أمرهم، ومدى طاعتهم لها. وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده، وربما كان في استبدادها مكمن الخطر والضعف والسقوط في النهاية.
وقد نجحت في هذه المشاورة، فسلّموا الأمر إلى نظرها، مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ ثم وجّهتهم إلى مراعاة قوة الملوك وشدة بأسهم، حماية لهم وحفظا لبلادهم، وأن من عادتهم الإفساد والتخريب، والتدمير والإهلاك، والإذلال والإخراج من البلاد، وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.
7- كان من حسن نظر الملكة بلقيس وتدبيرها اختبار أمر سليمان بإرسال هدية عظيمة إليه، فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض إلا اتباعهم على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية، وللهدية تأثير في كسب المودة والمحبة، واستلال الحقد والضغينة، وإنهاء الخصومة والمشاحنة.(19/297)
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عائشة يقبل الهدية ويثيب عليها، ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها لأنه قال لها في كتابه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة لأنها تورث المودة، وتذهب العداوة،
روى مالك عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشحناء»
وعن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم، فإن الهدية تذهب السّخيمة» .
وروى البزار عن أنس بإسناد ضعيف: «تهادوا، فإن الهدية تسلّ السخيمة» .
قال القرطبي: وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة.
أما سليمان عليه السلام فإنه رد هدية بلقيس لأنها كانت بدلا عن السكوت عن الحق وعن الدعوة إلى الإسلام والإيمان، وواجب الرسل التبليغ دون أجر، ودون مهادنة أو مساومة لأن غرضهم إرضاء الله، ونشر العقيدة والفضيلة والإخلاص في عبادة الله تعالى. لذا انضم إلى رده الهدية إنذارهم بالحرب والقتال بجيوش لا طاقة لهم على مقاومتها، وتهديدهم بالإخراج من أرضهم أذلة قد سلبوا ملكهم وعزمهم، مهانين محتقرين إن لم يسلموا.
وقد حقق الإنذار الغاية منه، فجاءت بلقيس مع حاشيتها وجنودها مسلمين منقادين طائعين، كما أبانت الآيات التالية.(19/298)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
- 4- إسلام بلقيس وولاؤها وزيارتها لسليمان عليه السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 44]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
الإعراب:
عِفْرِيتٌ: التاء فيه زائدة، ووزنه فعليت، كغزويت، أي قصير، والعفريت: القوي النافذ، وجمعه عفاريت.
وَصَدَّها ما كانَتْ.. ما: إما فاعل «صد» وإما منصوب بصد، بتقدير حذف حرف الجر، وفاعل صَدَّها ضمير وهو الله، أي صدها الله عما كانت تعبد، أي عن عبادتها. وإنها بالكسر على الابتداء، وبالفتح: إما بدل مرفوع من ما إذا كانت فاعلا، وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنها كانت.(19/299)
أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
عَ
إما ظرف، وإما حرف وبنيت على الفتح لأنها قد تكون ظرفا أحيانا، وكانت الحركة فتحة لأنها أخف الحركات، فإن سكنت العين فهو حرف لا غير.
البلاغة:
تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
فيهما جناس الاشتقاق.
كَأَنَّهُ هُوَ تشبيه مرسل مجمل، أي كأنه عرشي في الهيئة.
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ استعارة، استعار رجوع الطرف للسرعة في الإتيان بالعرش، مشبها السرعة بالتقاء الجفنين الذي هو ارتداد الطرف. ومثله وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَتَهْتَدِي لا يَهْتَدُونَ بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها العرش: سرير الملك، أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بعد التمويه على العرش، فينظر أتعرفه أم تنكره مُسْلِمِينَ منقادين طائعين عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ خبيث مارد قوي شديد قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ مجلسك للقضاء، وكان من الغداة إلى نصف النهار عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ لقادر مؤتمن على ما فيه من الجواهر وغيرها، لا أنقص منه شيئا ولا أبدّله.
قال سليمان: أريد أسرع من ذلك قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ المنزل هو آصف بن برخيا وزيره، كان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهو المشهور. وقيل: إنه الخضر عليه السلام، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو ملك أيد الله تعالى به سليمان، وقيل:
إنه سليمان نفسه، قال الرازي: وهو الأقرب.
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي قبل أن يرجع إليك بصرك إذا نظرت به إلى شيء، ويَرْتَدَّ يرجع، والطرف: تحريك الأجفان، والمراد بذلك السرعة العظيمة على سبيل الاستعارة، كما يقال: آتيك به مثل لمح البصر، أو قبل أن تغمض عينك، ويراد الإسراع الشديد في الإحضار مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ساكنا حاصلا بين يديه قالَ: هذا أي الإتيان لي به فَضْلِ تفضل وإحسان لِيَبْلُوَنِي ليختبرني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي أشكر بأن أراه فضلا من الله بلا حول مني ولا قوة، وأقوم بحقه، أم أجحد الفضل بنسبته إلي، وأقصر في أداء واجب الشكر يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأجلها لأن ثواب شكره له وَمَنْ كَفَرَ النعمة فلم يشكرها غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ بالتفضل والإنعام عليه ثانيا.(19/300)
نَكِّرُوا لَها عَرْشَها غيروه أي بتغيير هيئته وشكله بزيادة أو نقص وغير ذلك أَتَهْتَدِي إلى معرفته لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته، قصد بذلك اختبار عقلها أَهكَذا عَرْشُكِ أمثل هذا عرشك كَأَنَّهُ هُوَ أي فعرفته، ولم تقل: هو، لاحتمال أن يكون مثله، وذلك من كمال عقلها، فشبّهت عليهم كما شبهوا عليها.
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ هذا من كلام سليمان وقومه، وهو معطوف على محذوف تقديره: قد أصابت في جوابها، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، ثم قالوا: ونحن أوتينا العلم بالله وبقدرته قبل علمها وكنا منقادين لحكمه، ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام. ويصح أن يكون من تتمة كلام بلقيس، متصلا بقوله كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة بما تقدم من الآيات، وكنا خاضعين منقادين لله عز وجل. ثم إن قوله: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية من كلام رب العزة. ومعنى صَدَّها أي منعها عن عبادة الله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ على قراءة كسر إنها يكون المعنى: صدها أي منعتها عبادة الشمس عن عبادة الله، وإنها من قوم كافرين، فهو استئناف وابتداء كلام جديد، وعلى قراءة الفتح أنها يكون المعنى: صدّها نشوؤها بين أظهر الكفار، أو تعليل لما سبق، أي: لأنها.
َّرْحَ
القصر وكل بناء عال جَّةً
ماء مجتمعا كثيرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوضه، روي أن أرضية القصر أو صحنه بني من زجاج أبيض شفاف، وأجري تحته ماء عذب، فيه سمك، ووضع سليمان سريره في صدر الصرح، وجلس عليه، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا، فكشفت عن ساقيها.
ْحٌ مُمَرَّدٌ
أملس نْ قَوارِيرَ
من زجاج الَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي فلما دعاها إلى الإسلام، اعترفت بظلمها نفسها بعبادة غير الله وأسلمت لله كائنة مع سليمان، أي خضعت.
المناسبة:
بعد أن رجعت الرسل بهديتها إلى الملكة بلقيس، وأخبروها بما قال سليمان، أخبرت قومها بمضمون رأيها السابق وأنه لا طاقة لهم بمواجهة سليمان وجنوده، ثم استجابت لطلبه، وأقبلت هي وقومها تسير إليه في جنودها معظمة سليمان، ناوية متابعته في الإسلام، فسرّ سليمان عليه السلام بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، وبعث الجن يأتونه بأخبارهم.(19/301)
التفسير والبيان:
لما اقترب وفد بلقيس من بلاد الشام، جمع سليمان عليه السلام جنده من الجن والإنس، وخاطبهم بقوله:
قالَ: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي قال سليمان: يا أيها السادة الأعوان، من منكم يستطيع الإتيان بعرش (سرير) بلقيس قبل وصولها مع وفدها إلينا منقادين طائعين، ليكون ذلك دليلا على صدق نبوتنا، ومعجزة إلهية تعرف بها أن مملكتها صغيرة أمام عجائب الله وبدائع قدرته؟ فأجابه بعض جنده:
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي قال شيطان مارد من الجن: أنا أحضره إليك قبل انفضاض مجلس حكمك وقضائك، وكان يمتد إلى منتصف النهار، ثم أكد عزمه وضمن نتيجة فعله بقوله: وإني على حمله لقادر غير عاجز، أمين غير خائن، لا آخذ منه شيئا، ولا أمسّ ما فيه من الجواهر واللآلئ.
ثم أجابه آخر بعد أن قال سليمان: أريد أعجل من ذلك، لأنه أراد بإحضار هذا السرير عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد بعده، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها، بأن يأتي بخارق عظيم وهو إحضار سريرها من بلادها في اليمن بعد أن تركته محفوظا، قبل وصولها إليه:
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي قال عالم من علماء أسرار الكتاب الإلهي: أنا أحضره في لمح البصر قبل أن تغمض عينك وقبل أن يرجع إليك نظرك.(19/302)
وهذا العالم: قيل: كان من الملائكة إما جبريل أو غيره من الملائكة، أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وقيل: كان من الإنس وهو آصف بن برخيا وزير سليمان وهو المشهور من قول ابن عباس، وكان يعلم الاسم الأعظم، إذا دعا به أجيب. أو هو الخضر عليه السلام، والراجح في رأي الرازي أنه سليمان عليه السلام لأنه أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي، وقال أبو حيان:
ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. والمهم أنه حدث ما وعد به هذا العالم، والله أعلم به.
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ أي فلما عاين سليمان وجماعته وجود سرير بلقيس الذي أتي به من بلاد اليمن السعيدة، ورآه ساكنا قائما بين يديه، قال: هذا من نعم الله علي ليختبرني أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا حول ولا قوة مني، أم أجحد فأنسب العمل لنفسي. وفائدة الشكر ومضرة الجحود والكفر ترجع إلى الإنسان نفسه، لذا قال:
وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أي ومن شكر النعمة فإن نفع الشكر عائد إليه، لا إلى الله تعالى لأنه بالشكر تدوم النعم، ومن جحد النعمة ولم يشكرها، فإن الله غني عن العباد وعبادتهم وعن شكرهم لا يضره كفرانهم، كريم في نفسه، وإن لم يعبده أحد، لا يقطع النعمة عن عباده بسبب إعراضهم عن شكره، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] وقال سبحانه حكاية لقول موسى: وَقالَ مُوسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] .
وجاء في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم(19/303)
وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» .
ثم أمر سليمان عليه السلام بتغيير صفات عرش بلقيس، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، كما حكى تعالى:
قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي قال سليمان لأتباعه: غيّروا هيئة عرشها وصفته وشكله لنختبر حالها، وننظر في إمكاناتها العقلية وملاحظاتها الفكرية ومقدار ذكائها، أتهتدي إليه، فتعرف أنه عرشها، أم تكون غير مهتدية إليه أو تائهة عنه متحيرة في الحكم وإبداء الرأي؟
وذلك يدل على قدرة الله تعالى بنقله من مكان بعيد إلى بلاد الشام، وعلى صدق سليمان عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَتْ، قِيلَ: أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ أي حين قدمت، عرض عليها عرشها (سرير الملك) وقد غيّر وزيد فيه ونقص، فسئلت عنه: أمثل هذا عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا، فقالت: كأنه هو، أي يشبهه ويقاربه، ولم تجزم أو تقطع يقينا بأنه هو، لاحتمال أن يكون مثله بسبب بعد مسافته عنها.
وكان جوابها جواب سياسي بارع ذكي محنّك، دل على كمال عقلها ودهائها، وثبات شخصيتها، وأنها في غاية الذكاء والحزم، فشبهت عليهم من حيث شبهوا عليها.(19/304)
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ الظاهر كما قال أبو حيان أن هذا الكلام ليس من كلام بلقيس، وإن كان متصلا بكلامها، فقيل- وهو قول مجاهد-: من كلام سليمان، أي أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها، وكنا في كل ذلك موحدين خاضعين لله تعالى، وقيل: من كلام قوم سليمان وأتباعه «1» . قال ابن كثير: ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح «2» ، كما سيأتي.
ثم أبان الله تعالى عذر بلقيس في عدم إعلانها الإسلام قبل ذلك فقال:
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي ومنعها عن عبادة الله وإظهار الإسلام ما كانت تعبد من غير الله وهو عبادة الشمس، فإنها كانت من قوم وثنيين كانوا يعبدون الشمس، فتأثرت بالبيئة التي نشأت فيها، ولم تكن قادرة على تغيير عقيدتها، حتى جاءت إلى بلاد سليمان الذي أحسن عرض الإسلام عليها، وأقنعها بصحته ووجوب الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته، فهو رب الكون جميعه، ورب الكواكب كلها، شمسها وقمرها ونجومها العديدة.
لَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها، قالَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
هذا جار على عادة استقبال الملوك والرؤساء في قصور الضيافة الفخمة، فقد قال لها وفد الاستقبال السليماني: ادخلي هذا القصر المشيد العالي، فإنه بني لاستقبال العظماء، وليريها سليمان ملكا أعز من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها، وكان صحنه من الزجاج الأبيض الشفاف، فلما رأت مدخله الفخم ظنت وجود ماء مجتمع كثير فيه، فكشفت عن ساقيها، فقال لها سليمان: إنه قصر مصنوع من الرخام الأمرد ذي السطح الأملس، ومن
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 78.
(2) تفسير ابن كثير: 3/ 365.(19/305)
الزجاج الصافي، وأن الماء يجري تحته لا فيه، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء.
وحينئذ استدلت بكل ما رأت على التوحيد والنبوة فأعلنت إسلامها، وأراد الله لها الخير والهداية، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
أي يا ربي، إني ظلمت نفسي في الماضي بعبادة غيرك، وأسلمت مع إسلام سليمان، وخضعت لله رب العوالم كلها من الإنس والجن.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- استدعى سليمان عليه السلام عرش بلقيس (كرسي الملك) من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ليريها قدرة الله العظمى، ويجعله دليلا على نبوته لأخذه من قصرها دون جيش ولا حرب، وقبل أن تأتي هي وجماعتها إليه مستسلمين.
2- ظهرت قدرة الله على يد مؤمن عالم بكتاب الله وبأسراره وبالاسم الأعظم، فجيء بعرش بلقيس بسرعة خاطفة، وكان هذا العالم بإقدار الله وتوفيقه أقدر من عفريت الجن- وهو القوي المارد- الذي استعد للإتيان به، في زمن أطول، ولكنه سريع وقريب وقصير أيضا، إذ كان في مدة زمن القضاء اليومي، وأما زمن العالم فهو بمقدار إطباق الأجفان وفتحها.
وفي هذا دلالة على سمو مرتبة العلم ورفعة العلماء في الدنيا والآخرة إذا عملوا بعلمهم صالحات الأعمال.
قال القشيري: وقد أنكر كرامات الأولياء من قال: إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. وعند هؤلاء يكون ما فعل العفريت ليس من المعجزات، ولا من(19/306)
الكرامات، فإن الجنّ يقدرون على مثل هذا.
وعلى أي حال، تم نقل العرش من اليمن إلى الشام بقدرة الله العظمى، وإن وجدت الوسيلة في الظاهر، كفلق البحر لموسى عليه السلام، بضرب العصا، فإن الفالق هو الله تعالى، وليس العصا.
3- إن ما حدث من إحضار العرش بهذه السرعة هو معجزة لسليمان عليه السلام، والمعجزات خوارق للعادات، لا تخضع لمقاييس الأحوال العادية، ولا يصدق بالمعجزة إلا مؤمن بقدرة الله، أما الكافر الملحد أو المادي الذي لا يصدق إلا بما يقدمه العلم التجريبي، فإن إقناعه بذلك عبث. وقد أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة، وتؤمن بنبوته.
4- إن ظهور المعجزة على يد الأنبياء أمر موجب للشكر والحمد الكثير لله عز وجل، لتأييدهم بها، ولإظهار عجزهم الحقيقي أمامها، لذا قال سليمان لما رأى العرش ثابتا مستقرا عنده: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي هذا النصر والتمكين من فضل الله ربي، لينظر أأكون شاكرا حامدا، أما كافرا بالنعمة جاحدا؟
5- لا يرجع نفع الشكر إلا إلى الشاكر نفسه لأنه بالشكر يحقق تمام النعمة ودوامها والمزيد منها، وبه تنال النعمة المفقودة أيضا. وأما ضرر الكفر والجحود فعائد كذلك إلى الكافر نفسه، ومع كفره فإن الله غني عن شكره، كريم في التفضل والإنعام عليه بالرغم من الكفر.
6- إن تنكير العرش وتغيير هيئته فيه استثارة البحث، وإمعان النظر، وإعمال العقل، وتركيز الانتباه إلى آية المعجزة، وقد بدا كل هذا في جواب بلقيس كَأَنَّهُ هُوَ. قال عكرمة: كانت حكيمة، فقالت: كَأَنَّهُ هُوَ.
وقال مقاتل: عرفته، ولكن شبّهت عليهم، كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها:(19/307)
أهذا عرشك؟ لقالت: نعم هو.
7- قوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها.. إذا كان من قول سليمان وهو الظاهر فيراد به أنه أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وإذا كان من قول بلقيس، فيراد به أنه أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل آية العرش هذه، وكنا مسلمين منقادين لأمره.
8- ما أجمل تقديم هذا الاعتذار عن تأخر إسلام بلقيس إلى لقاء سليمان، وهو تأثرها بالبيئة وعقيدة أهل المملكة، فقد منعها أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر، وكانت من قوم كافرين غير مؤمنين بوجود الله ووحدانيته.
9- أراد سليمان أيضا بالإضافة إلى إظهار المعجزة لنبوته بإحضار عرش بلقيس أن يبهرها بقوة ملكه، وعزة سلطانه، وأن ذلك أعزّ وأمنع من مملكتها الغنية، وبلادها الخصبة، وقصورها المشيدة. كما أنها شهدت في صرح سليمان فنا رائعا في البناء والهندسة المعمارية ما لا مثيل له حتى في أوج العصر الحاضر وعظمة تقدم العلم والفن في القرن العشرين، ولعل عظمة بناء المسجد الأقصى خير مثال على تقدم فن البناء وعظمته في عهد سليمان عليه السلام.
10- تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
وأخيرا يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس، وأحسن ما أذكره هنا قول الرازي: والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها: اختاري من قومك من أزوجك(19/308)
منه، فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجها إياه، ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم «1» .
خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام
يحسن أن أوجز هنا خصائص سليمان ومعجزاته ونعم الله عزّ وجلّ عليه مما ذكر في القرآن كله، بعد أن أوردت هذه السورة مواقف أربعة متميزة في قصته، وحينئذ أكون قد ذكرت إلى هنا مجملا قصص عشرين نبيا أو أكثر تحت عنوان: أضواء من التاريخ على قصة أو حياة كل نبي أو رسول.
ومن المعلوم أن سليمان ذكر في القرآن (16) ست عشرة مرة في سور:
البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وأوضح الآن نعم الله الكثيرة عليه وهي ما يأتي «2» :
1- ذكاؤه وفراسته في القضاء: منح الله تعالى سليمان عليه السلام ذكاء نادرا وإصابة في القضاء والحكم، بدليل قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم الراعي، فكان حكمه كما بينا في سورة الأنبياء أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام، كما قال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء 21/ 78- 79] .
2- تعليمه منطق الطير: إن الله تعالى علّم سليمان منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، كما تبين في تفسير الآية [16] من سورة النمل:
__________
(1) تفسير الرازي: 24/ 201
(2) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 317- 348، ط رابعة.(19/309)
يا أَيُّهَا النَّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.. أي أوتي نعما كثيرة، ومنها تعليمه كلاما لا يعلمه سواه.
3- تسخير الرياح له: كان لسليمان بساط الريح ينقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الريح حيث يشاء، فيأمرها بأن تهب في ناحية ما، كما قال تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء 21/ 81] ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص 38/ 36] ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ 34/ 12] .
4- تربية الخيول وهي الصافنات الجياد للجهاد: كان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا،
قال صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عروة البارقي-: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والأجر والمغنم» .
وكان سليمان يستعرضها كالعروض العسكرية اليوم بمناسبات وطنية أمام الرؤساء، وكان يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي.
وقد أعاد عرضها أمامه يمسح سوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، وهذا هو المقصود من الآيات:
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ، فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص 38/ 30- 33] . وأما تفسير هذه الآيات بما يتنافى مع منصب النبوة، كالاشتغال بالخيول عن صلاة العصر، ثم تقطيع أعناقها وسوقها، فهو باطل لا أصل له، كما ذكر الرازي في تفسيره الكبير.
5- فتنة سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه: ذكر الله تعالى بعد قصة عرض الصافنات الجياد هذه الفتنة، فقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ(19/310)
جَسَداً ثُمَّ أَنابَ، قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ
[ص 38/ 34- 37] ، وقد اختار الرازي في تفسير هذه الآيات أن سليمان ابتلي بمرض شديد أضناه، أي أثقله حتى صار لشدة المرض كأنه جسد أو جسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى الصحة.
واختار العلامة أبو السعود والألوسي في تفسير هذه الآيات
ما ورد في الصحيحين مرفوعا: أنه- أي سليمان- قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» .
والمراد بالسبعين الكثرة وليس تمام العدد، كما هو المألوف في الاستعمال العربي والقرآني لكلمة (سبعين) مثل: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة 9/ 80] أي إن تستغفر لهم كثيرا.
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية فلم تصح ولا يعول عليها.
6- إسالة عين القطر (النحاس المذاب) له: أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ 34/ 12] .
7- تسخير الجنّ له: عدد الله تعالى في الآية السابقة في سورة سبأ النعم العظمى التي أنعم بها على سليمان عليه السلام، فقال: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ(19/311)
بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ
[سبأ 34/ 12- 13] . وقال سبحانه بعد ذكر تسخير الرّيح: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص 38/ 37] . وبه تبين أن الله جلّ جلاله سخر الجنّ كما سخر له الرّيح، فكانت الجن من جنده، تطيعه بما يأمر، وتعمل له ما يشاء من ضخم المباني والعمائر والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، والقدور الراسيات والجفان (الآنية الواسعة) التي كأنها الحياض لسعتها.
8- إسلام ملكة سبأ والإتيان بعرشها: عرفنا في البيان المتقدم في سورة النمل لقصة سليمان مع بلقيس ملكة سبأ أن طير الهدهد أخبره بوجود ملكة عظيمة في سبأ من بلاد اليمن تعبد مع قومها الشمس من دون الله، وأن لها عرشا عظيما مزينا بأنواع الجواهر واللآلئ، فأرسل سليمان رسالة لها مع الهدهد مضمونه:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
فاستجابت بلقيس مع قومها لطلب سليمان بعد أن أقنعتهم بألا طاقة لهم بمواجهة جنود سليمان، وآثرت بكمال عقلها وفطنتها السلم والمصالحة والمسالمة والموادعة على الحرب والقتال، بالرغم من توافر قوة عسكرية كبيرة عندها:
نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ.
فشيّد لها سليمان صرحا عظيما ومرّد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لخوض الماء لئلا تبتل ثيابها بالماء، ثم أحضر لها عرشها من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، ليكون دليلا على صدق نبوته، ومعجزة على صحة رسالته، وآية على قدرة الله العجيبة في خرق العادات وتجاوز المحسوسات، مما لم يكتشف العلم سره ونواميسه إلى الآن، فما كان من بلقيس إلا أن أسلمت وآمنت برسالة سليمان، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
.(19/312)
9- قصة النملة: كان سليمان بتعليم الله وإرشاده يفهم أيضا لغة النمل، كما يفهم منطق الطير، وذلك كله من المعجزات الخارقة للعادة، وقد بيّنا كيفية فهم سليمان خطاب النملة في بني جنسها: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل 27/ 17- 19] .
10- موت سليمان عليه السلام: أعمى الله موت سليمان على الجان المسخرين لخدمته في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئا على عصاه (منسأته) بعد موته مدة طويلة نحوا من سنة كما يقال، فلما أكلتها الأرضة (دابة الأرض) ضعفت وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وهو أمامهم، وتبينت الجن والإنس أنهم لا يعلمون الغيب قطعا، فقال تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ [سبأ 34/ 14] . وهذا من تكريم الله لسليمان عليه السلام، وإلقاء هيبته على الجنّ والإنس حتى بعد موته.(19/313)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام مع قومه
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِتَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
الإعراب:
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن اعبدوا الله. وأَخاهُمْ مبتدأ، وفَرِيقانِ خبر المبتدأ، وإذا:
خبر ثان، أي فبالحضرة هم فريقان. ويَخْتَصِمُونَ جملة فعلية في موضع نصب حال من ضمير فَرِيقانِ.(19/314)
اطَّيَّرْنا أصله: تطيرنا، فأبدلت التاء طاء، وسكنت وأدغمت الطاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل وكسرت لسكون ما بعدها.
تَقاسَمُوا فعل أمر، أمر بعضهم بعضا بالتقاسم والتحالف على أن يبيتوه وأهله. وقرئ بالياء «يقاسموا» على أنه فعل ماض لأنه إخبار عن غائب.
مَهْلِكَ أَهْلِهِ بمعنى الهلاك، وقرئ: مَهْلِكَ وأراد به الإهلاك مصدر «أهلك» وقرئ «مهلك» وأراد به الهلاك من «هلك» والمشهور في المصدر الفتح، والكسر قليل لأن الكسر يكون في المكان والزمان، فيكون «مهلك» بالكسر كالمرجع بمعنى الرجوع.
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أَنَّا بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنا دمرناهم، فتكون كانَ ناقصة، أو عاقِبَةُ: اسمها، وكَيْفَ: خبرها. ومن قرأ بالكسر إنا فعلى الابتداء، وعاقِبَةُ اسم كانَ، وكَيْفَ خبرها، وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ خبر مقدم لأن الاستفهام له صدر الكلام. ويحتمل أن تكون كانَ تامة أي وقع، وعاقِبَةُ فاعل، ولا تفتقر إلى خبر، وكَيْفَ في موضع نصب على الحال، أي انظر على أي حال وقع أمر عاقبة مكرهم، ثم بين العاقبة بقوله: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ.
خاوِيَةً حال من بُيُوتُهُمْ وعامله ما في فَتِلْكَ من معنى الإشارة أي أشير إليها خاوية، وتقرأ بالرفع على أنها خبر للبيوت، أو خبر ثان، أو خبر لمبتدأ مقدر أي هي خاوية، أو بدل من «البيوت» أو خبر تلك، وبُيُوتُهُمْ عطف بيان على فَتِلْكَ.
البلاغة:
بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةِ طباق. وتسمية العذاب أو العقاب بالسيئة مجاز.
يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ طباق.
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ للتحضيض.
اطَّيَّرْنا طائِرُكُمْ جناس اشتقاق.
وَمَكَرُوا وَمَكَرْنا مشاكلة، سمى تعالى إهلاكهم مكرا على سبيل المشاكلة.
المفردات اللغوية:
أَخاهُمْ من القبيلة. أَنِ اعْبُدُوا بأن وحدوا الله. فَإِذا هُمْ ففاجئوا التفرق.
فَرِيقانِ فريق مؤمن وفريق كافر. يَخْتَصِمُونَ يتنازعون ويجادل بعضهم بعضا. قالَ:(19/315)
يا قَوْمِ
قال صالح للمكذبين. لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل الرحمة، أو بالعقوبة التي تسوء صاحبها قبل التوبة، حيث قلتم: إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب.
هلا. تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ من الشرك. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبول التوبة فلا تعذبوا، فإنها لا تقبل عند نزول العذاب.
اطَّيَّرْنا تشاءمنا بك حيث فرقتنا، والطيرة: تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا. بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين، حيث قحطوا المطر وجاعوا. طائِرُكُمْ شؤمكم أي ما يصيبكم من الخير أو الشر. عِنْدَ اللَّهِ أي هو قدره أتاكم به، أو عملكم المكتوب عنده.
تُفْتَنُونَ تختبرون بالخير والشر أو تعاقب السراء والضراء.
فِي الْمَدِينَةِ مدينة ثمود وهي الحجر. تِسْعَةُ رَهْطٍ تسعة رجال، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، وأما النفر فهو من الثلاثة إلى التسعة. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوائب الصلاح، والإفساد: بالمعاصي كاقتطاع جزء من الدراهم والدنانير، والصلاح: بالطاعة. قالُوا قال بعضهم لبعض. تَقاسَمُوا احلفوا. لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ لنباغتن صالحا وأهله الذين آمنوا به ليلا، أي نقتلهم ليلا. لِوَلِيِّهِ لولي دمه وهو من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. ما شَهِدْنا ما حضرنا. مَهْلِكَ هلاك، وقرئ مَهْلِكَ أي إهلاك، أي فلا ندري من قتلهم.
وَمَكَرُوا مَكْراً بهذا التواطؤ على الاغتيال، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر.
وَمَكَرْنا مَكْراً جازينا بتعجيل عقوبتهم. لا يَشْعُرُونَ بذلك. دَمَّرْناهُمْ أهلكناهم.
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بصيحة جبريل، أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم. خاوِيَةً خالية. بِما ظَلَمُوا بظلمهم أي كفرهم. لَآيَةً لعبرة وموعظة. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قدرتنا فيتعظون. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بصالح، وهم أربعة آلاف. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك أو الكفر والمعاصي، فلذلك خصوا بالنجاة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة موسى وداود وسليمان، وهم من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب، وهم ثمود أي عاد الأولى، وصالح أخوهم في النسب، بقصد تذكير قريش والعرب وتنبيههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله بالعبادة، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.(19/316)
وكل هذه القصص من التاريخ الغابر دليل على أن محمدا رسول الله، وأنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وإنذار وتهديد لكل كافر أو مشرك.
التفسير والبيان:
لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي وتالله لقد بعثنا إلى قبيلة ثمود العربية أخاهم في النسب والقبيلة بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، فانقسموا فريقين: فريق مؤمن مصدق برسالته وبما جاء به من عند ربه، وفريق كافر مكذّب بما جاء به.
وأصبح الفريقان يتجادلان ويتنازعان في الدين، كل فريق يقول: الحق معي، وغيري على الباطل، كما قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف 7/ 75- 76] .
قالَ: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ أي قال صالح:
يا قومي، لم تطلبون أو تتعجلون نزول العقاب أو العذاب قبل أن تطلبوا من الله رحمته أو ثوابه إن عملتم بما دعوتكم إليه وآمنتم بي، والمقصود: أن الله مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه بالإيمان، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكان هذا جوابا لهم حينما توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب إن لم يؤمنوا بالله وحده، فقالوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 77] .
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي هلا تطلبون من الله المغفرة وتتوبون إليه من كفركم لكي ترحموا!! لأنه إذا نزل العذاب لم تنفعكم التوبة فكان جوابهم:(19/317)
قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي قال قومه بغلظة وشدة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن معك ولم نر خيرا منكم إذ تتابعت علينا الشدائد، ووقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم، وكانوا لشقائهم لا يصاب أحد منهم بسوء إلا قالوا: هذا من قبل صالح وأصحابه. قال مجاهد: تشاءموا بهم.
وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف 7/ 131] .
وسمي التشاؤم تطيرا من عادة العرب بزجر الطير أي رميه بحجر ونحوه، فإن تحول يمينا تفاءلوا، وسموه السانح، وإن اتجه يسارا تشاءموا وسموه البارح.
قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي قال صالح: شؤمكم وتفاؤلكم وما يصيبكم من شر أو خير هو قدر الله أتاكم به، وهو مكتوب عند الله، والله يجازيكم على ذلك، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم. وسمي القضاء والقدر طائرا لسرعة نزوله بالإنسان. وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء 4/ 78] .
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي بل إنكم قوم تختبرون بالطاعة والمعصية، حين أرسلني الله إليكم، فإن أطعتم أجزل الله لكم الثواب، وإن عصيتم حل بكم العقاب. وقال ابن كثير: والظاهر أن المراد بقوله: تُفْتَنُونَ أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. وعلى أي حال، فإن القصد بيان أن سبب نزول الشر بهم هو عصيانهم.
ثم أخبر الله تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، وعن كون مدينة ثمود مرتع الفساد الكثير فقال:(19/318)
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي وكان في مدينة ثمود وهي الحجر تسعة نفر أوغلوا في الفساد الذي لا أثر للصلاح فيه، فكانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وهم الذين تواطؤوا على عقر الناقة وعلى قتل صالح ومن آمن به، فقال تعالى:
قالُوا: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي قال بعضهم لبعض في المشاورة بشأن صالح بعد أن عقروا الناقة: احلفوا لنباغتنه وأهله الذين آمنوا معه ليلا، فنقتلنهم، فهذا تحالف على قتل نبي الله صالح عليه السلام ليلا قتل غيلة، ثم تحالفوا على أن يقولوا لأولياء الدم أو القصاص إذا مات: ما حضرنا هلاكهم، ولا ندري من قتلهم، وإنا لصادقون في قولنا، أي إننا لم نحضر هلاك أحد الجانبين وهو أهل صالح، وإن فعلوا الأمرين معا. قال الزمخشري: وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم.
وهذا من الزمخشري على طريقة المعتزلة في أن العقل يدرك الحسن والقبح قبل الشرع، والكذب قبيح عقلا.
وكان تآمرهم على قتل صالح بعد أن توعدهم على عقرهم الناقة فقال لهم:
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] .
ولكن الله كادهم وأحبط مؤامرتهم وجعل الدائرة عليهم، فقال: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ودبروا مؤامرة وكادوا كيدا خفيا، ولكنا جازيناهم وأهلكناهم، وعجلنا لهم العقاب، دون أن يشعروا بمجيئه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أي فتأمل أيها الرسول وكل سامع كيف كان مصير تأمرهم أنا أهلكناهم وقومهم جميعا، ولم نبق أحدا منهم إلا الذين آمنوا بصالح عليه السلام.(19/319)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي وكان من آثار إنزال العذاب بهم أن أصبحت مساكنهم خالية بسبب ظلمهم أنفسهم، إن في هذا العقاب لعبرة وموعظة لأناس أهل معرفة وعلم، يعلمون بسنة الله في خلقه، وبأن النتائج مرتبطة بالأسباب، فالويل كل الويل لمن كفر بالله وكذب رسله، ولم يقلع عن طغيانه وعناده وكفره.
أما المؤمنون فهم دائما ناجون كما قال سبحانه:
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي ونجينا من العذاب صالحا النبي ومن آمن به إذ ساروا إلى بلاد الشام ونزلوا بالرملة من فلسطين لأن الإيمان واتقاء عذاب الله بطاعته سبب دائم للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة.
والمقصود تذكير قريش والعرب وتحذيرهم بأنهم إن استمروا في كفرهم وعنادهم عذبوا كما عذّب أمثالهم، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين المصدقين برسالته ينجيهم الله برحمة منه وفضل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- من البداهة أن ينقسم الناس بعد النبوة إلى فريقين: فريق مؤمن وفريق كافر، وليس هذا شرا، وإنما هو أثر طبيعي من آثار الرسالة النبوية، وهو حجة على الكافرين وليس ذريعة لهم في معاداة الأنبياء.
2- المخاطبون بالرسالة الإلهية هم المخطئون المقصرون بتفويت فرصة الخير على أنفسهم، لذا قال صالح عليه السلام لقوله: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب، فكانوا يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب. وهم لم يدركوا أن الإيمان سبب للرحمة، والكفر سبب للعذاب.(19/320)
3- لقد استبد الجهل والعناد بقوم صالح فقالوا بغلظة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن بك، والشؤم: النحس، ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطّيرة أي التشاؤم، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفّرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت،
فنهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز: «أقرّوا الطير على وكناتها»
أي أعشاشها ولا تنفروها،
وفي رواية: «مكناتها» .
ورد صالح على قومه: قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي مصائبكم عند ربكم، وأنتم قوم تمتحنون، وقيل: تعذبون بذنوبكم.
4- إن قادة السوء ودعاة الكفر من أشد الناس عذابا يوم القيامة، ويضاعف لهم العذاب، لذا خصص القرآن التنديد بتسعة رجال من أبناء مدينة صالح وهي الحجر، وكانوا عظماء المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، ويدعون قومهم إلى الكفر والضلال. وكان قدار بن سالف الذي عقر الناقة أحد هؤلاء التسعة زعماء الاجرام. وزاد من طغيانهم أنهم عقروا الناقة، وتآمروا على قتل نبي الله صالح عليه السلام، فكانوا عتاة قوم صالح، مع أنهم كانوا من أبناء أشرافهم.
5- إن كل مكر أو تدبير خفي أو مؤامرة دنيئة كالتآمر على قتل نبي، ذو عاقبة سيئة، فلا يحيق المكر السيء إلا بأهله، لذا كان عقاب قبيلة ثمود بسبب كفرهم وطغيانهم التدمير والإهلاك بصيحة جبريل عليه السلام وبإمطار الملائكة عليهم حجارة قاتلة قتلتهم. قال القرطبي: والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة.
6- بقيت آثار الدمار شاهدة على سوء أفعال ثمود، فصارت بيوتهم خالية من(19/321)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
السكان، بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر والفساد والمعاصي، وفي ذلك عبرة للمعتبر.
7- نجّى الله الذين آمنوا بصالح لأنهم مؤمنون اتقوا الله وخافوا عذابه، قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. وهذا أيضا بشارة بالرحمة والنجاة لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة، فاللهم يا ربنا ثبّت علينا الإيمان، والإخلاص في عبادتك، وجنبنا العصيان، فإنا نخاف عذابك، ونجّنا من عذاب الدنيا وأهوال عذاب الآخرة يا أرحم الراحمين.
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
الإعراب:
وَلُوطاً منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ استفهام توبيخي وإنكاري.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً أي واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا، لدلالة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا في قصة صالح السابقة عليه. إِذْ قالَ بدل مما قبله على تقدير: اذكر، وظرف على تقدير: أرسلنا الْفاحِشَةَ اللواط. وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تعلمون فحشها، من بصر القلب لأن اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصر بعضكم بعضا انهماكا في الفاحشة، وإعلانا بها، فتكون أفحش.(19/322)
شَهْوَةً بيان لإتيانهم الفاحشة، وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل، لا قضاء الوطر. مِنْ دُونِ النِّساءِ اللاتي خلقن لذلك. تَجْهَلُونَ عاقبة فعلكم، أو تفعلون فعل من يجهل قبحها، أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح.
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة في هذه السور، لكن تتمتها في بداية الجزء التالي، قصد بها كما قصد بغيرها من القصص السابقة التحذير من مخالفة أوامر الله، واقتراف الفواحش أو المعاصي الكبيرة، لئلا ينزل بالعصاة من العذاب مثل ما نزل بمن قبلهم.
التفسير والبيان:
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أي واذكر أيها الرسول لقومك قصة لوط حين أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين فقال منكرا عليهم وموبخا لهم: أتأتون الفاحشة وهي إتيان الذكور دون الإناث، مع علمكم بقبحها، واقتراف القبيح من العالم أشنع من غيره، أو في حال رؤية بعضكم بعضا إذ تأتون في ناديكم المنكر. ثم صرح بما يفعلون بعد الإبهام فقال:
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ هذا تكرار للتوبيخ، أي كيف تقبلون إتيان الرجال من غير النساء، فهذا شذوذ جنسي، وانتكاس للفطرة، وترك لما أحل الله لكم من الاستمتاع بالنساء، والحقيقة أنكم قوم جهلاء سفهاء، لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا، وتجهلون عاقبة هذا الأمر الشنيع، ولا تميزون بين الحسن والقبيح، فتفضلون العمل الشنيع على المباح لكم من النساء. كما قال تعالى في آية أخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء 26/ 165- 166] .(19/323)
وإذا فسرت تُبْصِرُونَ بالعلم، ثم قال تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء جهلاء؟ والجواب كما ذكر الزمخشري أنه أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة، مع علمكم بذلك، أو تجهلون العاقبة، أو أنه أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، أي أنهم سفهاء ماجنون.
ولا نرى حملة تشنيع على منكر مثل هذه الحملة الشديدة، فقوله الرِّجالَ شذوذ يأباه الحيوان، وقوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ انحراف عن الشيء الطبيعي والأفضل، وأنه خطأ بالغ وفعل قبيح، وقوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصف ثابت لازم لهم بأنهم يفعلون فعال الجهلاء السفهاء الذين لا يميزون ولا يعقلون الفرق بين الحسن والقبيح.
وإزاء هذه الحملة، وبالرغم من عنفها وقسوتها أجابوا عنها بما لا يصلح أن يكون جوابا مقبولا ولا معقولا في ميزان العقلاء، وهو ما سيأتي في مطلع الجزء التالي.
آمنت بالله انتهى الجزء التاسع عشر(19/324)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
[الجزء العشرون]
[تتمة سورة النمل]
تتمة قصة لوط عليه السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
المفردات اللغوية:
آلَ لُوطٍ أهله. يَتَطَهَّرُونَ ينزهون أنفسهم عن أفعالنا. قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أنزلنا عليهم حجارة السجيل، فأهلكتهم. فَساءَ بئس. مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس المطر مطرهم، وهم المنذرون بالعذاب.
التفسير والبيان:
هذه تتمة قصة لوط عليه السلام مع قومه، تتضمن جوابهم عن إنذاره: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي لقد أعلن القوم إصرارهم على تعاطيهم الفاحشة المنكرة، وأجابوا لوطا عليه السلام بعد التشاور فيما بينهم: أخرجوا لوطا وأهله ومن معه من بلدتنا، فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم، ونرتاح من وعظهم وإرشادهم، فإن البلدة بلدتنا، ولوط وجماعته قوم أغراب عنا.
وسبب هذا الإخراج أو الإبعاد:
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي إنهم يتحرجون من أفعالنا، ولا يقروننا على(20/5)
صنيعنا، وهذا صنيع الفساق في كل زمان، لا يريدون تعكير فسادهم بكلام المصلحين، ليبقوا منغمسين في الرذيلة دون منغص أو معترض.
فلما عزموا على إخراج لوط وأهله من بلدتهم دمّر الله عليهم، وللكافرين الفاسقين أمثالها، وأنجى الله المؤمنين الصالحين، قال تعالى:
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي نجينا لوطا ومن آمن معه برسالته من أهله، أما امرأته التي كانت راضية بأفعالهم القبيحة، ومتواطئة معهم، فتدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم، فإنا حكمنا بجعلها من الباقين في العذاب، لأن من رضي بالمنكر وإن لم يفعله فهو مقرّ به، فله جزاء الفاعلين.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي وأنزلنا عليهم حجارة من سجيل وهو الحاصب، فأبادهم وخسف بهم الأرض، فبئس المطر مطر المنذرين بالعذاب الذين قامت عليهم الحجة، ووصلهم الإنذار الإلهي، فخالفوا الرسول وكذبوه، وهمّوا بإخراجه من قريتهم، وتلك هي عاقبة الفاسقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
اقتضت عدالة الله تعالى ألا يعذب قوما إلا بعد إنذار، وألا يعجل لهم العقاب إلا بعد نصح وإرشاد وإمهال. وهذا ما فعله نبي الله لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم، فإنه وبخهم وأنكر عليهم بشدة فعلتهم القبيحة الشنيعة التي يعلمون أنها فاحشة، وذلك أعظم تجريما وأكبر إثما ومعصية، ويقال: إنهم كانوا يتعاطون هذه الفاحشة جهارا نهارا، ولا يستترون من بعضهم بعضا، عتوا منهم وتمردا.
ثم صرح لوط عليه السلام بذكر تلك الفعلة الشنيعة، وأعلنها لفرط قبحها(20/6)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
وسوئها، ووصفهم بأنهم جاهلون أمر التحريم أو العقوبة، والآن يعلمهم بشدة الحرمة، وينذرهم بقبح العقاب وألم العذاب.
لكن القوم أمعنوا في ضلالهم، وازدادوا غيا في فسقهم، وأصروا على معصيتهم، وتآمروا فيما بينهم على طرد لوط وأهله من قريتهم، قائلين على سبيل الاستهزاء منهم: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن أدبار الرجال.
فكان مقتضى الرحمة الإلهية أن ينجي الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته، وتورعوا من التدنس برجس هؤلاء العصاة الفساق، إلا امرأته التي كانت راضية بأفعال قومها القبيحة، أضحت باقية معهم في العذاب.
وكان من مقتضى العدل أن يجازي الله هؤلاء المصرين على العصيان وارتكاب الفاحشة، والذين أنذروا بالعقاب فلم يقبلوا الإنذار، فأنزل الله عليهم من السماء حجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، فأهلكوا جميعا، وما أسوأ ذلك المصير المشؤوم!!
أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)(20/7)
الإعراب:
آللَّهُ خَيْرٌ ... مبتدأ وخبر، والأظهر- كما قال ابن الأنباري- أن كلمة خَيْرٌ هنا للمفاضلة، فإنه وإن لم يكن في آلهتهم خير، فهو بناء على اعتقادهم، فإنهم كانوا يعتقدون أن في آلهتهم خيرا. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ما صلة زائدة، قَلِيلًا صفة مصدر مقدر، أي تذكرا قليلا يذكرون، والمراد به النفي، مثل: قل ما يأتيني، أي لا يأتيني.
البلاغة:
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ استفهام يقصد به التبكيت والتهكم.
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة، أي أمام نزول المطر، استعار اليدين للإمام.
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بينهما طباق.
قَراراً أَنْهاراً يُشْرِكُونَ يَعْدِلُونَ يَعْلَمُونَ تَذَكَّرُونَ فيها مراعاة الفواصل، الذي هو من محاسن الكلام.
المفردات اللغوية:
قُلِ أيها الرسول. الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك الكفار الفجار من الأمم الخالية.
اصْطَفى اختار، والأنبياء هم المصطفون المختارون. خَيْرٌ لمن يعبده. أَمَّا يُشْرِكُونَ أصله أم ما يشركون فأدغم الميمان ببعضهما، وهم أهل مكة الذين يشركون بالله تعالى آلهة أخرى، أي هل شركهم خير لهم؟ وهو تهكم بهم وتسفيه لرأيهم إذ من المعلوم ألا خير أصلا فيما أشركوه، حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير وهو الله. أَمَّنْ أي بل أم من. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وَأَنْزَلَ لَكُمْ لأجلكم. فَأَنْبَتْنا فيه(20/8)
التفات من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع لا يقدر عليه غيره تعالى، لذا قال: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي لعدم قدرتكم عليه.
حَدائِقَ بساتين مسورة، جمع حديقة. ذاتَ بَهْجَةٍ حسن ورونق. شَجَرَها شجر الحدائق. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل له شريكا، وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟
يَعْدِلُونَ يميلون أو ينحرفون عن الحق الذي هو التوحيد، فيشركون بالله غيره.
قَراراً مكانا يستقر عليه الإنسان، فلا يميد بأهله. خِلالَها وسطها، وبين جهاتها المختلفة، جمع خلل: أي وسط. رَواسِيَ جبالا ثوابت، ثبّت بها الأرض. بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بين العذب والمالح، لا يختلط أحدهما بالآخر. حاجِزاً فاصلا بين الشيئين. لا يَعْلَمُونَ الحق، وهو التوحيد، فيشركون به.
الْمُضْطَرَّ الذي أحوجته الشدة إلى اللجوء والضراعة إلى الله، واللام فيه للجنس، لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع السوء عنه وعن غيره. خُلَفاءَ الْأَرْضِ خلفاء فيها، بأن ورّثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم، من الخلافة:
وهي الملك والتسلط، والإضافة بمعنى في، أي يخلف كل قرن القرن الذي قبله. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خصكم بهذه النعم العامّة والخاصة. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تتعظون، وما زائدة لتقليل القليل، والمراد به العدم أو الحقارة التي لا فائدة منها.
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ يرشدكم إلى مقاصدكم. فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم ليلا، وبعلامات الأرض نهارا. والظلمات: ظلمات الليالي، أضافها إلى البر والبحر للملابسة. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام المطر. عَمَّا يُشْرِكُونَ به غيره، فهو تعالى القادر الخالق، المنزه عن مشاركة العاجز المخلوق. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بداية خلق الإنسان الأول من التراب، وبدء خلق سلالة الإنسان في الأرحام من نطفة. ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت. والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالبراهين عليها. مِنَ السَّماءِ بالمطر. وَالْأَرْضِ بالنبات. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟
الحق أنه لا يفعل شيئا مما ذكر إلا الله، ولا إله معه. بُرْهانَكُمْ حجتكم على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إشراككم، فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص أربعة أنبياء مع أقوامهم، وإهلاكهم بسبب شركهم ووثنيتهم، والإدلال على كمال قدرته ونصر رسله على أعدائهم، أمر(20/9)
رسوله صلّى الله عليه وسلم بحمد الله تعالى على تلك النعمة، والسلام على الأنبياء كافة، لأدائهم واجب التبليغ لرسالة ربهم على أكمل وجه، ثم رد على عبدة الأوثان ببيان الأدلة المختلفة على وحدانيته وتفرده بالخلق، وقدرته، وإخلاص العبادة له.
التفسير والبيان:
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بحمد الله وشكره على نعمه على عباده التي لا تعدّ ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العلا والأسماء الحسنى، وأن يسلّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لتبليغ رسالته، وهم رسله وأنبياؤه الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه. وأما كون الخطاب لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم فلأن القرآن منزل عليه، وكل ما فيه فهو مخاطب به صلّى الله عليه وسلم إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.
ومن تلك النعم نجاة رسله ونصرتهم وتأييدهم، وإهلاك أعدائه.
ونظير الآية قوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصافات 37/ 180- 182] .
وهذا تعليم لنا بأن نحمد الله تعالى على جميع أفعاله، ونسلّم على عباده المصطفين الأخيار.
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أي هل الله الذي يتصف بالعظمة والقدرة التامة خير أم ما يشركون به من الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، وتبكيت لهم، وتهكم بحالهم لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى. والمقصود به التنبيه على نهاية ضلالهم وجهلهم، علما بأنه لا خير أصلا فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما كانت الموازنة بحسب اعتقادهم وجود منفعة في آلهتهم المزعومة.(20/10)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال: «بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم» .
ثم انتقل من التوبيخ والتبكيت إجمالا إلى الرد المفصل على عبدة الأوثان ببيان الأدلة على أنه تعالى إله واحد لا شريك له، قادر على كل شيء لأنه الخالق لأصول النعم وفروعها، فكيف تصح عبادة ما لا منفعة منه أصلا؟ وتلك الأدلة أنواع:
1- ما يتعلق بالسموات: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي أعبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات في ارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من كواكب نيّرة ونجوم زاهرة وأفلاك دائرة، وخلق الأرض الصالحة للحياة الهادئة، وجعل فيها الجبال والسهول، والأنهار والوديان، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، والحيوانات المختلفة الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لأجل عباده من السماء مطرا جعله رزقا لهم، فأنبت به بساتين ذات بهجة ونضارة، وشكل حسن ومنظر بهي، ولولاه ما حصل الإنبات، ولم تكونوا تقدرون على إنبات الأشجار والزروع.
فهو المنفرد بالخلق والرزق، فهل يصح بعدئذ وجود إله مع الله يعبد؟ كما قال تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون 23/ 91] .
بل هؤلاء المشركون قوم يميلون عن الحق إلى الباطل، وينحرفون عن جادة الصواب، فيجعلون لله عدلا ونظيرا.
ونظير الآية كثير مثل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] ونحو(20/11)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت 29/ 63] .
هذا.. وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أم في أَمَّنْ وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ وهو أن أَمَّا متصلة لأن المعنى أيهما خير، وفي أَمَّنْ منقطعة بمعنى «بل» .
2- ما يتعلق بالأرض: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أعبادة الأوثان العديمة النفع والضرر خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان وغيره، لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وجعل فيها الأنهار العذبة الطيبة لسقاية الإنسان والحيوان والنبات، وجعل فيها جبالا ثوابت شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم، وجعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا، أي مانعا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بذاك، لتبقى الغاية من التفرقة بينهما متحققة، فإن الماء العذب الزلال لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار، والماء المالح في البحار ليكون مصدرا للأمطار، وليبقى الهواء فوقه نقيا صافيا لا يفسد بالرائحة الكريهة التي تحدث عادة في تجمعات المياه العذبة.
أيوجد إله مع الله فعل هذا وأبدع هذه الكائنات؟! بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فيتبعونه، ولا يعرفون قدر عظمة الإله المستحق للعبادة.
ونظير الجزء الأول من الآية: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً [غافر 40/ 64] ونظير آية حاجز البحرين: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان 25/ 53] .(20/12)
3- ما يتعلق عموما باحتياج الخلق إلى الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي أتلك الآلهة الجمادات الصماء خير أم من يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه المرض أو الفقر أو المحنة إلى التضرع إلى الله تعالى، ويرفع عنه السوء أو الضرر الذي أصابه من فقر أو مرض أو خوف أو غيره، ويجعلكم ورثة من قبلكم من الأمم في سكنى الأرض والديار والتصرف فيها، فيخلف قرنا لقرن وخلفا لسلف، كما قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الأنعام 6/ 165] .
أيعقل وجود إله مع الله بعد هذا؟ وهل يقدر أحد على ذلك غير الله المتفرد بهذه الأفعال؟ ولكن ما أقل تذكركم نعم الله عليكم، ومن يرشدكم إلى الحق ويهديكم إلى الصراط المستقيم.
4- ما يتصل باحتياج الخلق إلى الله تعالى في وقت خاص: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أتلك الآلهة التائهة خير أم من يرشدكم في أثناء الظلمات البرية أو البحرية إذا ضللتم الطريق بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل 16/ 16] وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام 6/ 97] .
ومن يرسل الرياح مبشرات أمام نزول الغيث الذي يحيي به الأرض بعد موتها، أيكون هناك إله مع الله فعل هذا؟ تنزه الله المتفرد بالألوهية المتصف بصفات الكمال عن شرك المشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر؟! 5- ما له صلة بإبداع الخلق والحشر والنشر: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ،(20/13)
وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
أي أتلك الآلهة العاجزة خير، أم الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق من غير مثال سبق، ثم يميته، ثم يعيده إلى الحياة الأولى مرة أخرى، كما قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج 85/ 13] وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] وهو الذي يرزقكم بما ينزّل من السماء من أمطار، وبما ينبت من بركات الأرض.
أيوجد إله آخر فعل هذا مع الله حتى يتخذ شريكا له؟ قل لهم أيها الرسول: قدّموا برهانكم على صحة ما تدّعون من عبادة آلهة أخرى إن كنتم صادقين في ذلك مع أنفسكم ومع غيركم. والواقع أنه لا حجة لهم ولا برهان يقبله عاقل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون 23/ 117] .
قال أبو حيان: ناسب ختم كل استفهام بما تقدمه، فلما ذكر العالم العلوي والسفلي وما امتنّ به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، ختمه بقوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي عن عبادته أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق، فلا يعبد إلا موجد العالم، ولما ذكر جعل الأرض مستقرا وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على ضرورة تعقل ذلك والتفكر فيه، ختمه بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ختمه بقوله: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره، ولما ذكر الهداية في الظلمات وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم لا تهدي وهم يشركون بها، ختمه بقوله: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى «1» .
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 91.(20/14)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت هذه الآيات الأدلة على إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته الشاملة، وتتلخص هذه الأدلة بالخلق والإيجاد، والتفرد في دفع الضرر، وجلب النفع والخير، والقدرة على الحشر والنشر، ويتجلى ذلك فيما يأتي:
1- إهلاك كفار الأمم الخالية جميعا لإصرارهم على الشرك والوثنية وارتكابهم كبائر المعاصي وعظائم الفواحش.
وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى تعليم وإرشاد إلى حمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية الذين زرعوا الشرك والمعصية في ديارهم، مما يجب التخلص منهم، وفي هذا عبرة وعظة.
ويؤخذ من ذلك الاستفتاح بالتحميد لله والسلام على الأنبياء والمصطفين من عباده، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ جيلا عن جيل هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في فواتح الأمور المفيدة وفي المواعظ والخطب.
2- قوله سبحانه: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ تبكيت للمشركين وتوبيخ وتهكم على حالهم وضلالهم، لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى.
3- الله تعالى هو خالق السموات والأرض، ومنزل المطر، ومنبت الشجر والزرع والثمر في الحدائق الغنّاء ذات الأنواع والأشكال والألوان المختلفة، والمناظر الجميلة الرائعة الحسن والبهاء، فيكون قطعا هو المستحق للعبادة دون غيره لأنه لا يتهيأ للبشر ولا لغيرهم ولا يتيسر لهم ولا يمكنهم أن يخلقوا شيئا مما ذكر، فهم عجزة عن مثل ذلك.
4- قال القرطبي في قوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها:(20/15)
يستدل به لقول مجاهد على منع تصوير أي شيء، سواء أكان له روح أم لم يكن.
ويعضده
ما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا شعيرة» .
وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز، كما يجوز الاكتساب به أخرج مسلم أيضا أن ابن عباس قال للذي سأله أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا، فاصنع الشجر وما لا نفس له.
5- الله عز وجل هو الذي جعل كرة الأرض اليابسة صالحة للحياة، بجعلها قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وزودها بالهواء الذي لا تمكن الحياة بدونه، وجعل فيها الأنهار للسقي، والجبال الثوابت لتمسكها وتمنعها من الحركة، وجعل بين البحرين: العذب والمالح مانعا من قدرته، لئلا يختلط الأجاج بالعذب.
إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غير الله، فلم يعبد المشركون ما لا يضر ولا ينفع؟ ولكن أكثرهم يجهلون الله، فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية.
6- الله تعالى وحده مصدر الرحمة الذي يدفع الضرر، فيجيب دعاء المضطر (وهو ذو الضرورة المجهود) ويكشف السوء (الضر) ويجعل الناس خلفاء الأرض أي سكانها جيلا بعد جيل، فيموت قوم وينشئ الله آخرين، أمع الله ويلكم أيها الناس إله؟ ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا نعم الله عليكم، والمراد نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.
وهذا دليل على أن الله تعالى ضمن إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، لأن التضرع إليه ينشأ عن الإخلاص، وعدم تعلق القلب بسواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، سواء وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو(20/16)
فاجر، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها، جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس 10/ 22] وقوله: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت 29/ 65] أي أن الله تعالى أجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم، وقال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت 29/ 65] .
وفي الحديث الصحيح: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شكّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»
وفي صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجّهه إلى أرض اليمن: «واتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب» .
7- الله تعالى وحده مصدر الخير والنفع، فهو الذي يرشد الطريق في ظلمات البر والبحر حال السفر إلى البلاد البعيدة، وهو الذي يرسل الرياح مبشرات قدام المطر، فهل يوجد إله مع الله يفعل ذلك ويعينه عليه؟ تنزه الله عما يشرك به المشركون من دونه.
8- الله الذي يقرّ المشركون أنه الخالق الرازق هو الذي يعيد الخلق يوم القيامة إلى الحياة الجديدة لأن من قدر على ابتداء الخلق فهو قادر حتما على الإعادة، وهو أهون عليه، أيوجد إله مع الله يخلق ويرزق ويبدئ الخلق ويعيده؟ فيا أيها المشركون مع الله إلها آخر، قدّموا حجتكم أن لي شريكا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله، إن كنتم صادقين مع أنفسكم في ادعاء أن له شريكا.(20/17)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
لا يعلم الغيب إلا الله
[سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
الإعراب:
الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ اللَّهُ: بدل مرفوع من «من» لأنه استثناء من منفي.
بَلِ ادَّارَكَ أي تتابع، وأصله «تدارك» فأبدل من التاء دالا، وأدغم الدال في الدال.
وقرئ «ادّرك» أي تناهي علمهم وكمل في أمر الآخرة.
فِي الْآخِرَةِ فِي بمعنى الباء، والمضاف محذوف، أي بل ادّرك علمهم بحدوث الآخرة، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من حدوثها.
عَمُونَ أصله «عميون» فاستثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها، فسكنت الياء، والواو بعدها ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وكان حذفها أولى من حذف واو الجمع، لأن واو الجمع دخلت لمعنى، وهي لم تدخل لمعنى، فكان حذفها أولى.
البلاغة:
بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ استعارة، استعار العمى للتعامي عن الحق، وعدم التفكر في أدلة إثباتها.
المفردات اللغوية:
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والناس الْغَيْبَ ما غاب عنهم إِلَّا اللَّهُ لكن الله يعلمه، فالاستثناء منقطع وَما يَشْعُرُونَ أي كفار مكة وغيرهم أَيَّانَ أي متى يُبْعَثُونَ ينشرون، أي يخرجون من القبور للحساب والجزاء بَلِ أي هل ادَّارَكَ تتابع وتلاحق واستحكم، وقرئ: «ادّرك» بوزن أكرم، أي انتهى علمهم وتكامل. والمراد أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والبينات على أن القيامة كائنة لا محالة، لا يعلمونه كما(20/18)
ينبغي، وإذا سألوا عن وقت مجيء القيامة فليس الأمر كذلك، فهم في شك منها بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي فهم في الحقيقة في شك وحيرة عظيمة من حصول القيامة، كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهو جمع عم: وهو أعمى القلب والبصيرة، وهو أبلغ مما قبله.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه المختص بالقدرة التامة الفائقة العامة، أتبعه بما هو أيضا من لوازم الألوهية وهو أنه المختص بعلم الغيب، فثبت أنه هو الإله المعبود لأن الإله هو المتمكن من المجازاة لأهل الثواب والعقاب.
التفسير والبيان:
قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أي قل أيها الرسول لجميع الخلق: لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله.
فقوله: إِلَّا اللَّهُ استثناء منقطع، أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل، فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام 6/ 59] وقال: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 34] .
روى مسلم وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم ما يكون في غد، فقد أعظم الفرية على الله لأن الله يقول: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
ولما نفى عنهم علم الغيب على العموم، نفى عنهم علم الغيب المخصوص بوقت الساعة فصار منتفيا مرتين، فقال:
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وما يدري أهل السموات والأرض بوقت(20/19)
الساعة، كما قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف 7/ 187] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض، فلا يشعر الكفار وغيرهم في أي وقت يكون البعث للحساب والجزاء، وإنما تأتيهم الساعة فجأة.
ثم أكد الله تعالى جهلهم بيوم القيامة فقال:
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي بل انتهى علمهم بالآخرة، وعجز عن معرفة وقت حدوثها، والمراد: أن ما توصلوا إليه من أدلة إثبات الآخرة تلاشى شيئا فشيئا، حتى لم يعد لها قيمة ذات بال.
ثم وصفهم بالحيرة في الآخرة فقال:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي بل الكافرون (أي جنسهم) في حيرة شديدة من تحقق الآخرة ووجودها، أي شاكون في وجودها ووقوعها، كما قال تعالى:
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
[الكهف 18/ 48] أي أن لن نجعل للكافرين منكم:
ثم وصفهم الله بالتعامي عن التفكر والتدبر في أمر الآخرة، فقال:
بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي بل هم في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها، لا يفكرون فيها في أعماق نفوسهم، فهم عمي البصيرة لا البصر، وهذا أسوأ حالا من الشك.
قال أبو حيان: هذه الإضرابات الثلاثة ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذلك عدّاه بمن دون «عن» «1» .
__________
(1) التفسير الكبير: 7/ 93.(20/20)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى أنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فذلك مما اختص الله به، فيكون هو الإله المستحق للعبادة.
ودلت على أن الكفار وغيرهم لا يشعرون بوقت القيامة حتى تأتيهم فجأة، وعلى أن علمهم بأدلة إثباتها معدوم، فهم جهلة بها ولا علم لهم فيها، وهم أيضا في شك منها في الدنيا وفي حيرة شديدة من شأن وجودها، وقلوبهم عمياء عن إدراكها وعما يوصل إلى الحق في شأنها.
إنكار المشركين البعث
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
الإعراب:
رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم، واللام زائدة، كاللام في قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ أي بوأنا إبراهيم.(20/21)
البلاغة:
أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ استفهام إنكاري، وتكرار همزة أَإِنَّا للمبالغة في التعجب والإنكار.
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وعيد وتهديد.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ تأكيد بإن، واللام لترسيخ المعنى.
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ بين تُكِنُّ أي تخفي ويُعْلِنُونَ طباق.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا أيضا في إنكار البعث بعد بيان عماهم عن الآخرة.
لَمُخْرَجُونَ من القبور أو من حال الفناء إلى الحياة. إِنْ هذا ما هذا. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب الأقدمين، جمع أسطورة: وهي ما سطره الأقدمون من خرافات وأحاديث. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي هلاكهم بالعذاب لإنكارهم البعث.
ضَيْقٍ في ضيق صدر. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم، أي فإن الله يعصمك من الناس، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم، أي لا تهتم بمكرهم وتآمرهم عليك، فإنا ناصروك عليهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود، أو الوعد بالعذاب. رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم بمعنى تبعكم ولحقكم.
بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي أصابهم بعض العذاب وهو القتل ببدر، وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت.
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي ومنه تأخير العذاب عن الكفار. لا يَشْكُرُونَ نعم الله عليهم ومنه تأخير العذاب لإنكارهم وقوعه. تُكِنُّ صُدُورُهُمْ تخفيه. وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. غائِبَةٍ التاء المربوطة أو الهاء للمبالغة، والمعنى: أيّ شيء في غاية الخفاء على الناس، كالتاء في علّامة ونسابة، والأصل: غائب. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن، وهو اللوح المحفوظ، فكل شيء يعلمه الله قديما، ومنه تعذيب الكفار.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جهل الكفار بالآخرة، أردفه بما قالوا عنها، مما يدل على إنكارهم لها. وأما مناسبة هذه الآيات لجملة السورة فهي أنه تعالى لما تكلم في حال مبدأ الخلق، تكلم بعده في حال المعاد لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من(20/22)
الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم، فإذا ثبت كونه تعالى قادرا على كل الممكنات، وعالما بكل المعلومات، ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل إنسان عن أجزاء بدن غيره، وثبت أنه قادر على إعادة التركيب والحياة إلى تلك الأجزاء، وإذا ثبت إمكان ذلك، ثبت صحة القول بالحشر أو المعاد.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا، أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي وقال المشركون منكرو البعث، الذين كفروا بالله وكذبوا رسله: أنخرج من قبورنا أحياء، بعد مماتنا، وبعد أن بليت أجسادنا وصارت ترابا؟ فهذا حكاية لاستبعادهم إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي ما زلنا نسمع كثيرا بهذا نحن وآباؤنا، ولا نلمس له حقيقة ولا وقوعا ولم نر قيام أحد بعد موته، والمراد أن هذا تاريخ غابر محكي، أكل عليه الدهر وشرب.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بإعادة الأبدان إلا أسطورة، أي خرافة وأكذوبة، يتناقلها الناس عن بعضهم، وليس لها حقيقة، ولم يقم عليها دليل مقبول.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى الصواب في ذلك وعما ظنوا من الكفر وعدم المعاد بصيغة الوعيد والتهديد، فقال: قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي قل لهم أيها الرسول: سيروا في أرض الحجاز والشام واليمن وغيرها، فانظروا مصير من سبقكم من المكذبين، إنهم اغتروا بدنياهم، وفتنوا بزخارفها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا وجود البعث، فأهلكهم الله بذنوبهم، وبقيت ديارهم آثارا شاهدة عليهم للعبرة والعظة، ونجى الله رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته من الإيمان بالله(20/23)
وبالبعث، وتلك سنة الله في كل من كذب رسله، وسيعاقبكم بمثل عقابهم إن لم تبادروا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
ثم سلّى الله نبيه صلّى الله عليه وسلم عن إعراضهم عن قوله ورسالته فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي ولا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المكذبين عن رسالتك، ولا تكن ضيق الصدر حزينا مكروبا مهموما من كيدهم وتآمرهم عليك، فإن الله مؤيدك وناصرك وعاصمك من الناس، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.
ثم حكى الله تعالى إنكارا آخر من الكفار غير الساعة، وهو إنكار عذاب الله، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يقول هؤلاء المشركون في مكة وغيرهم في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك: متى وقت هذا العذاب الذي تعدنا به، إن كنتم أيها الرسول والمؤمنون به صادقين في ادعائكم وقولكم؟ يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي قل لهم يا محمد: عسى أن يكون ردفكم أي لحقكم وتبعكم واقترب منكم بعض ما تستعجلون وقوعه من العذاب، وهو القتل والعذاب والنكال يوم بدر. فقوله: رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم واللام زائدة، وقال ابن كثير: وإنما دخلت اللام في قوله:
رَدِفَ لَكُمْ لأنه ضمن معنى: عجل لكم، كما قال مجاهد في تفسير ذلك.
قال الزمخشري: عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم،(20/24)
وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده «1» .
ثم ذكر تعالى سبب تأخير العقاب، فقال:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي وإن الله لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يسبغ إنعامه عليهم في الدنيا، مع ظلمهم لأنفسهم، ويترك معاجلتهم بالعقوبة على كفرهم ومعاصيهم، ولكنهم مع ذلك كله لا يشكره أكثرهم على فضله، ولا يشكره إلا القليل منهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي وإن ربك ليعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، كما قال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد 13/ 10] وقال: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] والمراد أنه تعالى عالم بمكائد المشركين للرسول، وسيجازيهم على ذلك.
ثم أبان الله تعالى حقيقة شاخصة عامة وهي أن كل ما في الكون محفوظ في اللوح المحفوظ، فقال:
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي وما من شيء غائب مخفي في السموات والأرضين إلا وهو موجود معلوم محفوظ في اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه الله تعالى كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه، وعالم غيب السموات والأرض من أمر الخلائق قاطبة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج 22/ 70] وقال حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ
__________
(1) الكشاف 2/ 460.(20/25)
فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- تكرر في القرآن الكريم حكاية إنكار المشركين البعث، فهم يعدّونه من خرافات الأقدمين المتوارثة، وكانت الأنبياء يقرّبون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت قريب.
2- وبما أن واقعة البعث أمر غيبي يحدث في المستقبل، فإن الله تعالى أجاب المنكرين له بالنظر في مصير المكذبين لرسلهم، المنكرين وقوع البعث، نظرة تأمل في القلوب والبصائر في بلاد الشام والحجاز واليمن وغيرها، هل دام لهم العز والسلطان، أم دمّر الله ديارهم بسبب كفرهم؟.
3- كانت درجة إحساس النبي صلّى الله عليه وسلم عالية جدا، ومرهفة إرهافا مفرطا، فتألم وحزن لإعراض قومه عنه، فسرّى عنه القرآن همومه، ونهاه عن حمل الهموم والأحزان على كفار مكة إن لم يؤمنوا، كما نهاه عن الضيق أي الحرج من مكرهم وتدبيرهم وقولهم: متى أو أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا؟
4- أجابهم الحق تعالى عن استبطاء نزول العذاب بالترهيب مرة وبالترغيب مرة أخرى، فأنذرهم بأن بعض عذابهم قد اقترب منهم ودنا من ساحتهم، وذلك في أول لقاء عسكري فاصل بينهم وبين المؤمنين في موقعة بدر، فيقتل رؤساؤهم ويؤسر أشرافهم، ورغّبهم بالتوبة والإيمان، وذكّرهم بفضله سبحانه على الناس في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، ولكن أكثرهم لا يشكرون فضله ونعمه.
5- وأبان لهم أن مصير خططهم ومؤامراتهم إلى الخيبة والفشل، فإن الله يعلم(20/26)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
ما تخفي صدورهم وما يظهرون من الأمور، فيحبط مشاريعهم، كما أنه تعالى يعلم جميع ما أخفى عن خلقه وغيّبه عنهم، وهذا عام بعد خاص، وقد أثبت تعالى في اللوح المحفوظ ما أراد، ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته، فكيف يخفى عليه ما يسرّ هؤلاء وما يعلنونه؟! وإذا كان الله عليما بكل نشاطاتهم المشبوهة وتحركاتهم المريبة، فيستحيل وقوع ما يريدون من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم أو النيل من رسالته، أو تحقيق الظفر على المسلمين.
إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
البلاغة:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ: في هذا الفعل المضارع استعارة تبعية، استعار ما يتكلم به الإنسان الناطق إلى القرآن، لتضمنه نبأ الأولين، فكان كالإنسان الذي يقصّ على الناس الأخبار.
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ بِهادِي الْعُمْيِ استعارة تمثيلية، فقد عبر بالموتى والصم والعمي تمثيلا لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.(20/27)
المفردات اللغوية:
يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ الموجودين في زمان نبينا أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يخبرهم بأكثر نواحي الاختلاف كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح لَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ من العذاب وخص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به يَقْضِي بَيْنَهُمْ يفصل بين بني إسرائيل كغيرهم يوم القيامة بِحُكْمِهِ بما هو حكمه الذي هو الحق والعدل وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، فلا يرد قضاؤه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضي فيه، فلا معقب لحكمه.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، ولا تبال بمعاداتهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الدين البيّن، وصاحب الحق جدير بالثقة بنصر الله وحفظه، فإنه سينصرك على الكفار إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ تعليل آخر للأمر بالتوكل، من حيث إنه يقطع الأمل بمتابعتهم ومعاضدتهم، فضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي، لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم، ولا برؤية ما يرشدهم إلى الإيمان مُدْبِرِينَ راجعين فارّين هاربين لأن إسماعهم في هذه الحال أبعد.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ لأن الهداية لا تحصل إلا بالصبر إِنْ تُسْمِعُ أي ما يجدي إسماعك سماع فهم وقبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يصدق بالقرآن فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون بتوحيد الله.
المناسبة:
بعد أن أتمّ الله تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد بالأدلة الكونية، الحسية والعقلية، أعقب ذلك بإثبات النبوة بأدلة أعظمها القرآن الكريم المشتمل على المعجزات، وإذا كان معجزا دل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يدعيه.
التفسير والبيان:
إن الكتاب الذي أورد الأدلة على إثبات صفات الكمال لله تعالى، وإثبات البعث لإقامة العدل بين الخلائق بالثواب والعقاب، وهما أصلان للدين، هو هذا القرآن المتضمن وجوه الإعجاز التالية:
1- الإخبار عن قصص الأنبياء المتقدمين: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا القرآن العزيز يخبر بني(20/28)
إسرائيل، وهم حملة التوراة والإنجيل، بالحق في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها، كاختلافهم في عيسى عليه السلام، فاليهود افتروا عليه، والنصارى غلوا في شأنه، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل: أنه عبد من عباد الله، ونبي من أنبيائه ورسله الكرام. وهذه الحقيقة وغيرها من القصص لا تعرف إلا بالوحي الإلهي من عند الله تعالى لأن محمد صلّى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن كان أميا لا يقرأ لا يكتب، ولم يتتلمذ على أحد من العلماء للتعلم ومعرفة شؤون الثقافة، ولأن هذه القصص المذكورة في القرآن موافقة لما في التوراة والإنجيل.
2- إثبات التوحيد والبعث والنبوة وأحكام التشريع بدلائل عقلية:
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن هذا القرآن لهاد للمؤمنين إلى طريق الرشاد، ورحمة لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة، كالتوحيد والحشر والنبوة وصفات الله الحسنى، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
وهو أيضا هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه غاية الفصاحة والبلاغة حتى عجزت البشر عن معارضته، فدل على إعجازه، وخروجه عن طاقتهم، وأنه وحي منزل من إله حكيم حميد قدير. وخص المؤمنين في الآية لأنهم المنتفعون به.
وبعد بيان خصائص إعجاز القرآن الدالة على صدق الرسالة النبوية أتبعه بذكر أمرين:
الأول- إقامة الدليل على عدل الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي إن ربك الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقضي بين المصيب والمخطئ منهم بحكمه العادل، وهو القوي القادر على الانتقام من المبطل منهم، ومكافأة المحسن منهم، فلا يرد قضاؤه، العليم بأفعال عباده وأقوالهم، فيقضي بالصواب المطابق للواقع لأنه العليم بمن يقضي له وبمن يقضي عليه.(20/29)
ومعنى يَقْضِي.. بِحُكْمِهِ أي يقضي يوم القيامة بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما، أو أراد أنه يقضي بحكمته.
الثاني- أمر النبي بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي ثق بالله واعتمد عليه وفوض جميع أمورك إليه، وبلّغ رسالة ربك، ولا تلتفت إلى أعداء الله، فإنك أنت على الحق الواضح، وإن خالفك فيه من خالفك من أهل الشقاء. وهذه هي العلة الأولى للتوكل على الله، ثم علل ذلك بعلة أخرى فقال:
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي إنك لا تستطيع أن تسمعهم شيئا ينفعهم، فهم حين توليهم مدبرين معرضين عنك كالموتى لا يتأثرون بما يتلى عليهم ولا يفهمونه، وكالصم الذين لا أمل في سماعهم فلا يسمعون بحال، وكالعمي الذين لا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء أصلا لأن على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقر الكفر، وفي نفوسهم استعلاء واستكبارا عن الرضوخ للحق. وفي هذه العلة الثانية قطع طمع النبي عن الكفار، فيقوى قلبه على إظهار مخالفة أعداء الله، بأن بيّن له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمي، فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، ولأن الإنسان ما دام يطمع في أن يأخذ من أحد شيئا، فإنه لا يجرأ على مخالفته.
وهذا سبب قوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي.
ومعنى قوله: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد وأدبر عن الداعي كان أبعد عن إدراك صوته.
والخلاصة: إنه تعالى أمر رسوله بالتوكل عليه والإعراض عما سواه لأنه على الحق المبين، وغيره على الباطل، ولأنه لا أمل ولا مطمع في مساندة المشركين، ولا في استجابتهم لدعوة الحق.(20/30)
والمراد من نفي الإسماع للموتى الإسماع الذي يمكن أن يعقبه إجابة وتفاعل وتفاهم، فلا يعارضه ثبوت السماع من جانبهم دون أن يتمكنوا من الرد أو إجابة من يكلمهم، كما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وأنه صلّى الله عليه وسلم سلّم على قبور أهل بدر، وكما
ثبت في صحيح البخاري ومسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب (بئر) بدر، فقيل له: يا رسول الله، إنما تكلّم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» .
ثم أكد الله تعالى ما سبق فقال:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي وما أنت أيها الرسول بمستطيع أن تهدي العمي عن ضلالتهم، أي تردهم عن الضلال بالهدى لأن على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما أتيت به نظرا مؤديا إلى الحق، وما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي يصدقون بها، فهم مسلمون مخلصون التوحيد لله، خاضعون لله، ولا يستجيب لك إلا من هو مبصر القلب، يستخدم سمعه وبصره في إدراك الأمور على وجهها الصحيح، مستعد لقبول الحق، فهذا هو المسلم الذي أسلم وجهه لله، يعني جعله سالما لله تعالى خالصا له.
فقه الحياة أو الأحكام:
يثبت الله تعالى بهذه الآيات صدق النبوة وصحة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك بالقرآن الذي أنزله على قلب نبيه، مشتملا على وجوه عديدة من الإعجاز.
منها: أنه يبين لبني إسرائيل الموجودين حال نزوله ما اختلفوا فيه، لو أخذوا به، وذلك ما حرّفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.(20/31)
ومنها: أن القرآن هاد من الضلالة إلى الحق والاستقامة والرشاد، ورحمة لمن صدّق به بما اشتمل عليه من الأدلة العقلية على التوحيد والبعث والنبوة وشرح صفات الله تعالى ونعوت جلاله، وبما انطوى عليه نظمه من سمو الفصاحة والبلاغة، حتى عجز البشر عن معارضته، مما يدل على أنه كلام الله المعجز الدال على صدق الرسالة النبوية.
ثم ذكر الله تعالى دليل عدله، فهو سبحانه يقضي بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وهو العزيز أي المنيع الغالب الذي لا يردّ أمره، العليم الذي لا يخفى عليه شيء.
ثم أمر الله تعالى نبيه بالتوكل على الله، أي تفويض أمره إليه واعتماده عليه، فإنه ناصره، لأنه على الحق المبين، أي الظاهر، ولأن هؤلاء الكفار أشبه بالموتى لتركهم التدبر، فلا حسّ لهم ولا عقل، وبمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون، وكالعميان الذين لا يميزون طريقهم، فهم تائهون حائرون، كما قال سبحانه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة 2/ 171] .
ثم ذكر الله تعالى قاعدة عامة في مسيرة الدعوة للنبي صلّى الله عليه وسلم بقوله:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وما تسمع إلا المستعد لقبول الحق، المهيأ للإيمان بآيات الله، المخلوق للسعادة، فهم مخلصون في التوحيد. أما الكافر المعاند المعرض عن آيات ربه فلا أمل في إيمانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس 10/ 96- 98] .(20/32)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
من أمارات القيامة ومقدماتها
- 1- إخراج دابة الأرض وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله أمام ربهم
[سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 86]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
الإعراب:
أَنَّ النَّاسَ أَنَّ بالفتح: إما في موضع نصب مفعول به ل تُكَلِّمُهُمْ أي تخبرهم، أي تخبرهم أن الناس، وإما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، أي تكلمهم بأن الناس، وبِآياتِنا في موضع نصب متعلق ب يُوقِنُونَ أي كانوا لا يوقنون بآياتنا. ومن قرأ بالكسر: «إن» فعلى الابتداء والاستئناف.
البلاغة:
أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه أسلوب التوبيخ والتأنيب.
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فيه ما يسمى في علم البديع بالاحتباك، وهو أن يحذف من أوله ما أثبت في آخره وبالعكس، وبيانه هنا: جعلنا الليل مظلما(20/33)
ليسكنوا فيه، والنهار مبصرا ليتصرفوا فيه، فحذف «مظلما» لدلالة مُبْصِراً عليه، وحذف «ليتصرفوا فيه» لدلالة لِيَسْكُنُوا فِيهِ.
المفردات اللغوية:
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي إذا دنا أو قرب وقوع معنى القول وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب الذي ينزل بالكفار أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ كائنا حيا يدب على الأرض، وهو الجسّاسة تُكَلِّمُهُمْ تنبئهم وتخبرهم أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي أن أكثر الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله الدالة على مجيء الساعة، والله أعلم بحقيقة تلك الدابة، ولعلها إنسان عادي، والمهم الإخبار عن تكذيب الجم الغفير من الناس بوقوع القيامة.
وَيَوْمَ أي واذكر يوم القيامة نَحْشُرُ نجمع مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من للتبعيض فَوْجاً جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا من للتبيين، وهم الرؤساء المتبعون يُوزَعُونَ يجمعون بمنع أولهم وإيقافه من أجل آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف المناقشة والحساب حَتَّى إِذا جاؤُ مكان الحساب أو المحشر قالَ تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ أنبيائي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً
الواو للحال، أي أكذبتم بآياتي بادي الرأي، ولم تتأملوا بحقيقتها، ولم تنظروا نظرا يحيط علمكم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب، فمعنى: لم تحيطوا بها علما: لم تدركوا حقيقة كنهها. والواو للعطف، أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها؟ أي النظرة السطحية لها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك، وهو استفهام للتبكيت، إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل، وأما: فيه إدغام «ما» الاستفهامية ب «ذا» الموصول، أي ما الذي كنتم تعملون فيما أمرتم به؟
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حلّ بهم العذاب، وهو كبّهم في النار بعد ذلك بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم، وهو الشرك والتكذيب بآيات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ لا حجة لهم أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أَنَّا جَعَلْنَا خلقنا لِيَسْكُنُوا فِيهِ ليستريحوا فيه ويهدأوا مُبْصِراً يبصر فيه بضوئه أسباب المعيشة ليتصرفوا فيه، وجعل الإبصار للنهار وهو لأهله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على قدرة الله تعالى، وهي تدل على الأمور الثلاثة: التوحيد والحشر وبعثة الرسل لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصوا بالذكر لانتفاعهم بها في الإيمان لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص لا يكون إلا بقدرة قاهرة، وإن من قدر على إبدال الظلمة بالنور من مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة من مواد الأبدان.(20/34)
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى الدلائل على كمال قدرته وكمال علمه، وفرع على ذلك القول بإمكان البعث والحشر والنشر، ثم أوضح كون القرآن معجزا، ونبّه بإعجازه على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، أردف ما سبق ببيان مقدمات قيام القيامة، وهي إما كالعلامة للقيامة كإخراج دابة الأرض، وإما أن تقع عند قيام القيامة كنفخ الصور.
وإنما أخر تعالى الكلام عن علامات القيامة عن إثبات النبوة، لأن هذه الأشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق.
التفسير والبيان:
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي أنه في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، واستحقاقهم العذاب الموعود به، وذلك قرب مجيء الساعة، يخرج الله للناس دابة من الأرض تحدثهم أن أكثر الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون.
ولعل تلك الدابة هي إنسان كما قال بعض المفسرين الجدد لوصفها بالكلام ولأن كل ما يدب على الأرض فهو دابة.
وسميت تلك الدابة في الآثار بالجسّاسة، وورد في شأنها أحاديث آحاد، منها
ما رواه مسلم وأهل السنن عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غرفة، ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة(20/35)
خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن، تسوق أو تحشر الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» .
وأما موضع خروجها فهو:
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم: من أين تخرج الدابة؟ فقال:
«من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى، يعني المسجد الحرام» «1» .
وبعد ذكر العلامة الأولى لقيام الساعة ذكر تعالى العلامة الثانية وهي:
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً، مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا، فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً، أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ويوم نجمع يوم القيامة جماعة من رؤساء كل أمة من الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله، ونحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا في موقف الحشر والحساب، حتى إذا جمعوا ووقفوا بين يدي الله عز وجل للحساب والنقاش، فيقول الله لهم توبيخا وتبكيتا: أكذبتم بآياتي الدالة على لقاء هذا اليوم، غير ناظرين بما يحيطكم علما بحقيقة الآيات، وإذا لم تتأملوا فيها، فبماذا كنتم تشغلون أنفسكم أو تعملون فيها من تصديق أو تكذيب؟! فقوله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بمعنى: بل ماذا كنتم تعملون؟! وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا، فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أي وحينئذ يحل العذاب بأولئك المكذبين بآيات الله بسبب ظلمهم، أي تكذيبهم وكفرهم، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كما قال تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات 77/ 35] .
ثم ذكر الله تعالى دليل التوحيد والحشر والنبوة، فقال:
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي ألم يعلم هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا خلقنا الليل للسكن والنوم
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: 3/ 375 وما بعدها. [.....](20/36)
والراحة والقرار بعد عناء التعب في النهار، وخلقنا النهار منيرا مشرقا للتصرف أو التقلب في المعايش والمكاسب والأسفار والتجارات وغيرها من شؤونهم التي يحتاجونها، إن في ذلك الخلق والإيجاد لدلالات على قدرة الله على البعث بعد الموت، للجزاء والحساب، وعلى توحيده، لقوم يصدقون بالله ورسله.
فمن تأمل في تعاقب الليل والنهار والانتقال من حال شبيهة بالموت إلى حال الحركة والحياة، أدرك أن القيامة كائنة لا محالة، وأن الله سيبعث من في القبور.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن مفاجات يوم القيامة وأهوالها كثيرة وغريبة ومذهلة، فمن مقدماتها:
إخراج دابة من الأرض عند استحقاق العذاب تخبر بأن أكثر الناس كانوا لا يصدقون بآيات الله.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .
واختلف المفسرون في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا، قال القرطبي: أول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح عليه السلام، وهو أصحها- والله أعلم- لما
ذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدابة فقال: «لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة، خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب، فارفضّ الناس منها شتّى ومعا..» الحديث.(20/37)
وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله: «وهي ترغو» والرغاء إنما هو للإبل وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب، فانفتح له حجر، فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل «1» .
ثم ذكر الله تعالى بعض الأمور الواقعة بعد قيام القيامة وهو حشر زمرة وجماعة من كل أمة، ممن يكذب بالقرآن وبالأدلة الدالة على الحق، فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب، وقال قتادة: أي يردّ أولهم على آخرهم، حتى إذا حضروا الموقف قال الله: أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دليلا على توحيدي، ولم تعلموا بحقيقتها، وإنما أعرضتم عنها مكذبين جاهلين غير مستدلين؟ ثم يقول لهم تقريعا وتوبيخا: ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها.
ولكن وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم، فهم لا ينطقون، أي ليس لهم عذر ولا حجة.
ثم أقام الله تعالى دليلا على البعث والتوحيد والنبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر، وهو خلق الليل للنوم والاستقرار، وخلق النهار المنير المشرق الذي يبصر فيه الناس الأشياء للحركة ونشاط الحياة وسعي الرزق، إن في ذلك لدلالات على قدرة الله وتوحيده وإمكانه الحشر لقوم يؤمنون بالله. أما وجه دلالته على التوحيد فهو أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور بدقة متناهية لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وأما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرة الله تعالى على هذا التقليب فهو قادر على القلب من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة، وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع الناس، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الناس منافع عظيمة، فما المانع من بعثتهم إلى الناس لتحصيل تلك المنافع؟
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 235.(20/38)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
- 2- النفخ في الصور وتسيير الجبال
[سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
الإعراب:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ.. يَوْمَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكر يوم ينفخ.
صُنْعَ اللَّهِ منصوب على المصدر لأن ما قبله يدل أنه تعالى صنع ذلك، فكأنه قال: صنع صنعا الله، ثم أضاف المصدر إلى الفاعل.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ.. مَنْ شرطية مبتدأ، وفَلَهُ الجواب، خبر المبتدأ.
وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ من قرأ «فزع» بالتنوين، كان (يوم) منصوبا بالمصدر، أو ب آمِنُونَ تقديره: وهم آمنون يومئذ من فزع ومن قرأ بغير تنوين كان (يوم) مجرورا بالإضافة، كقوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج 70/ 11] . أي أنه في حالة إضافة «فزع» تكسر ميم «يومئذ» وتفتح، وفي حال تنوين «فزع» تفتح ميم «يومئذ» .
البلاغة:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ بينهما طباق.
تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ تشبيه بليغ، أي تمر كمرّ السحاب في السرعة، حذفت فيه الأداة ووجه الشبه.(20/39)
المفردات اللغوية:
الصُّورِ البوق الذي ينفخ فيه، والمقصود هنا: النفخة الأولى من إسرافيل فَفَزِعَ خاف، والمراد هنا الخوف الشديد المفضي إلى الموت من الهول، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ألا يفزع بأن ثبّت قلبه، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ملك الموت.
وعن ابن عباس: هم الشهداء إذ هم أحياء عند ربهم يرزقون وَكُلٌّ أَتَوْهُ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، أو راجعون إلى أمره، وتنوين كُلٌّ عوض عن المضاف إليه، أي وكلهم بعد إحيائهم يوم القيامة أتوه داخِرِينَ صاغرين، والتعبير ب أَتَوْهُ بالماضي لتحقق وقوعه.
وَتَرَى الْجِبالَ تبصرها وقت النفخة تَحْسَبُها تظنها جامِدَةً ثابتة في مكانها لعظمها وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي في السرعة لأن الأشياء الكبار إذا تحركت في سمت واحد، فلا تكاد تتبين حركتها. وهنا شبهها بالسحب التي تسيرها الرياح صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، تقديره: صنع الله ذلك صنعا أَتْقَنَ أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ عالم بظواهر الأفعال وبواطنها، فيجازيهم عليها.
بِالْحَسَنَةِ أي الإيمان والعمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي له ثواب بسببها وليس هذا للتفضيل، إذ لا فعل خير منها، وفي آية أخرى: عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ الفزع هنا:
الخوف من العذاب، وهم: أي الفاعلون الحسنة وأما الفزع الأول في قوله فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ فهو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع، وهول يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به بِالسَّيِّئَةِ الإشراك بالله والمعاصي فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقيت منكوسة، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، وذكرت لأنها موضع الشرف من الحواس، فغيرها من باب أولى هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ما تجزون إلا جزاء عملكم من الشرك والمعاصي.
وهذا القول المستفهم به للتبكيت.
المناسبة:
بعد ذكر العلامة الأولى لقيام القيامة وهي خروج الدابة للكلام والحديث، ذكر الله تعالى علامتين أخريين لقيام القيامة وهما النفخ في الصور، وتسيير الجبال، ثم ذكر أحوال المكلفين يوم القيامة وأنهم قسمان: المطيعون الأبرار الذين يعملون الحسنات، فيثابون خيرا منها ويأمنون الفزع من العذاب، والعصاة(20/40)
الأشقياء الذين يعملون السيئات، فيكبّون على وجوههم في النار، جزاء عملهم.
التفسير والبيان:
العلامة الثانية- نفخ الصور:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي اذكر أيها الرسول للناس هول يوم نفخة الفزع في الصور، وهو كما جاء في الحديث: قرن ينفخ فيه، إذ يخاف جميع من في السموات ومن في الأرض خوفا شديدا، يؤدي بهم إلى الموت إلى من شاء ربك، بأن ثبت قلبه فلا يخاف، وهم بعض الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل: هم الشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وهناك نفختان: نفخة الفزع في هذه الآية وهي النفخة الأولى، ونفخة الصعق (أي الموت) المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر 39/ 68] والنفخة الثانية: نفخة البعث التي في تتمة الآية السابقة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وفي آية أخرى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس 36/ 51] .
وفي حديث الصور: إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع من في السموات ومن في الأرض.
فالنفخ إذن مرتان: مرة ليموت الكل إلا من شاء الله، ومرة ليحيي الكل للحساب، ومن استثني أولا يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية.
وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي وكل واحد من الخلائق يأتون إلى الموقف بين(20/41)
يدي الله للسؤال والحساب أذلاء صاغرين، صغار ذل إن كانوا كفارا، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين، لا يتخلف أحد عن أمر ربه، كما قال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء 17/ 52] وقال: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم 30/ 25] وقال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج 70/ 43] .
العلامة الثالثة- تسيير الجبال:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وتنظر إلى الجبال فتراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تزول بسرعة عن أماكنها، وتسير كما يسير الغمام بتأثير الرياح، لأن الجسم الكبير إذا تحرك برتابة لا تكاد حركته تبين، كما قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً [الطور 52/ 9- 10] وقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف 18/ 47] وقال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 20] وقال:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 105- 107] .
وتسير الجبال- وإن دكت عند النفخة الأولى- يحدث بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، ليشاهدها أهل المحشر، فيبدل الله الأرض غير الأرض والسموات، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم 14/ 48] . وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة، لكن الظاهر أن ذلك في الآخرة لأن الكلام هنا عن يوم القيامة.
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي ذلك الصنع هو فعل الله بقدرته(20/42)
العظيمة، الذي أحكم كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع.
إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ هذا علة النفخ في الصور والبعث للحساب والجزاء، أي إن الله تعالى عليم بما يفعل عباده من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
ثم بيّن الله تعالى حال المكلفين السعداء والأشقياء بعد قيام القيامة فقال:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ أي من جاء مؤمنا بالله وحده لا شريك له، عاملا الصالحات، فله على ذلك الثواب الجزيل عند ربه في جنات النعيم، يأمن من الفزع الأكبر، وهو الخوف من عذاب القيامة، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء 21/ 103] وقال سبحانه: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فصلت 41/ 40] وقال عز وجل: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ 34/ 37] .
والحسنة: الإيمان والعمل الصالح، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة: هي لا إله إلا الله. وخَيْرٌ هنا ليس أفعل تفضيل، فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله، كما قال عكرمة، وإنما المراد مضاعفة الثواب ودوامه لأن العمل ينقضي، والثواب يدوم، فالخير: الثواب، وقيل: للتفضيل، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله. ومَنْ لابتداء الغاية أي له خير من الخيور، مبدؤه ونشوؤه منها أي من جهة هذه الحسنة. وقد رتب الله على مجيء المكلف بالحسنة شيئين: الثواب والأمن من العذاب.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ومن أشرك بالله وارتكب المعاصي، ومن لقي الله مسيئا لا حسنة له، أو قد رجحت سيئاته على حسناته، كل بحسبه، فيلقى في النار، ويقال لهم أي للكفار والعصاة: هل هذا إلا جزاء عملكم في الدنيا من شرك ومعصية؟(20/43)
ويلاحظ أن هذه الآيات كلها في قمة البلاغة والفصاحة والإيجاز المفيد معاني عديدة متلاحقة، قال الزمخشري: فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن تنظيمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوي، وأخرس الشّقاشق «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن نفخ إسرافيل في الصور نفخة مرعبة وهي النفخة الأولى ونفخة الصعق يموت من رعبها الخلائق كلهم إلا من شاء ربك من الملائكة أو الناس.
وهي العلامة الثانية لقيام القيامة.
قال القرطبي: والصحيح في الصور: أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل.
قال مجاهد: كهيئة البوق. والصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان، لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما ترجع إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما، أي فزعوا فزعا ماتوا منه، ثم تأتي نفخة البعث وهي النفخة الثانية التي يحيى بها العباد ليجتمعوا في أرض الجزاء «2» .
ولا يتخلف أحد من الخلائق من عهد آدم إلى قيام الساعة عن المثول حيا أمام الله تعالى، لقوله سبحانه: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي ذليلين صاغرين.
2- وبعد قيام القيامة وبعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق يحدث تسيير الجبال من أماكنها، ثم تتلاشى وتتبدد كالعهن، أي الصوف المندوف. يقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة، ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها،
__________
(1) الكشاف: 2/ 463، والشقاشق: الخطباء الماهرون في الكلام، جمع شقشقة وهي في الأصل لهاة البعير.
(2) تفسير القرطبي: 13/ 240.(20/44)
وإبراز ما كانت تواريه فأول الصفات: الاندكاك، وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش وذلك إذا صارت السماء كالمهل (أي الزيت المذاب) وقد جمع الله بينهما فقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج 70/ 8- 9] . والحال الثالثة: أي تصير كالهباء، وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن. والحال الرابعة: أن تنسف، والحال الخامسة: أن الرياح ترفعها على وجه الأرض، فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، والحال السادسة:
أن تكون سرابا «1» .
3- إن تغيير معالم الأرض من جبال وغيرها، وتبديد السموات وغير ذلك من فعل الله الذي أتقن بصنعه كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع.
4- الناس صنفان يوم القيامة: سعداء وأشقياء، فالسعداء: هم المؤمنون الذين عملوا الأعمال الصالحة، وهؤلاء لهم الثواب الجزيل، والأمن من عذاب الله. والأشقياء: هم الكفار والمشركون والعصاة الذين ارتكبوا في الدنيا السيئات، وهؤلاء يطرحون في النار على وجوههم، ويقال لهم: هل هذا إلا جزاء أعمالكم؟
والثواب الممنوح من الله للسعداء وهو الخير اسم جنس، فسر بمضاعفته بعشرة أمثاله في آية أخرى، فإن الله تعالى يعطي بالحسنة الواحدة عشرا، أما جزاء السيئة فلا يضاعف فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام 6/ 160] .
__________
(1) المرجع السابق: 242- 243.(20/45)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
الاشتغال بعبادة الله وحمده وتلاوة القرآن
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
المفردات اللغوية:
هذِهِ الْبَلْدَةِ مكة، وتخصيصها بهذه الإضافة: إضافة رَبَّ إليها تشريف لها وتعظيم لشأنها. الَّذِي حَرَّمَها أي الله الذي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم الإنسان، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها (عشبها الرطب) وذلك من نعم الله على قريش حيث رفع عن بلدهم العذاب والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب. وقرئ: التي حرمها.
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا، فهو ربه وخالقه ومالكه. مِنَ الْمُسْلِمِينَ لله بتوحيده، أي المنقادين الثابتين على ملة الإسلام. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي وأن أواظب على تلاوته لينكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا، وأتلوه أيضا عليكم تلاوة الداعية إلى الإيمان. لِنَفْسِهِ لأجلها، فإن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ المخوفين قومهم من عذاب الله، فليس علي إلا التبليغ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها يريكم آياته القاهرة في الدنيا كوقعة بدر، أو في الآخرة، فتعرفون أنها آيات الله، ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي إنما يمهلهم لوقتهم، فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة، وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب، أمر رسوله بهذه الخاتمة اللطيفة بأن يقول(20/46)
للمشركين هذه المقالة، مبينا لهم أنه قد أتم أمر الدعوة، وقد كملت، ولم يبق عليه إلا الاشتغال بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحمده وشكره على نعمه العظمى، وبتلاوة القرآن، أي أن مهمة إعلان الدعوة من جانبه انتهت، وبقي عليهم التفكير في الاستجابة لهذه الدعوة، وتدبر آي القرآن التي تكفي في إرشادهم، وأنها إن لم تفدهم فقد أفادته، فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها، فإني مصرّ عليها، غير مرتاب فيها.
التفسير والبيان:
قل: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها أي قل لهم أيها الرسول: إنما أمرت أن أعبد رب مكة الذي حرمها على الناس، فجعلها شرعا وقدرا حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر طيرها، ولا يخوّف فيها خائف، يجبى إليها ثمرات الدنيا من كل ناحية.
وخص مكة بالذكر تشريفا لها، لأن أول بيت وضع للعبادة كان فيها، كما قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش 106/ 3- 4] . وفي هذا توبيخ لأهل مكة على ترك عبادة الله، والاتجاه نحو عبادة الأصنام.
ونظير الآية: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي، فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [يونس 10/ 104] .
وقد أبان النبي صلّى الله عليه وسلم مظاهر تحريم مكة،
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد(20/47)
شوكة، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاها»
أي عشبها الرطب.
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا وتصرفا، دون أي شريك، وهذا من عطف العام على الخاص، أي هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه، لا إله إلا هو.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرني ربي أن أكون من الموحّدين، المخلصين، المنقادين لأمره، المطيعين له.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي وأمرني ربي أن أتلو القرآن على الناس، وأن أتلوه وحدي ليل نهار، لتتكشف لي أسراره، وأتعرف دائما على أدلة الكون المودعة في آياته، فيزداد إيماني، وتشرق نفسي.
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتدى إلى الحق والإيمان فإنما يهتدي لأجل نفسه، ومن آمن برسالتي واتبعني فقد رشد، وأمن عذاب ربه.
وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي ومن ضل وأخطأ طريق الحق والإيمان والرشاد، وكذب بدعوتي وبما جاءني من عند الله وهو القرآن، فعليه وزر ضلاله، وإنما أنا من المنذرين المخوفين قومهم عذاب الله، وليس علي إلا الإنذار والتبليغ، وقد أديت المهمة وأبلغتكم ما يوحى إلي، وخلصت من العهدة، وحسابكم على الله، كما قال تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود 11/ 12] .
وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها أي وقل أيها الرسول:
لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإنذار إليه، ولله الحمد على ما أنعم على من نعمة النبوة، وعلى ما علّمني ووفقني لتحمل أعباء الرسالة(20/48)
والعمل بما أنزل علي، وإنه سبحانه سيريكم آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته وأمارات عذابه وسخطه، ويتبين لكم صدق دعوتي، فتعرفون كل ذلك، ولكن حين لا ينفعكم الإيمان.
ونظير الآية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت 41/ 53] .
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل عما يعمله المشركون وغيرهم، بل هو شهيد على كل شيء، ولكن يؤخر عذابهم إلى أجل على وفق إرادته وحكمته. وهذا تقرير لما سبق من الوعد والوعيد، وتبشير للنبي بأن الله ناصره ومخزي أعدائه الكافرين.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس لا يغترنّ أحدكم بالله، فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرّة» .
وروى أيضا عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أمر النبي صلّى الله عليه وسلم ومثله أمته في هذه الآيات بأوامر ثلاثة هي:
1- تخصيص الله وحده بالعبادة دون اتخاذ شريك له. ووصف الله نفسه بأمرين:
أحدهما- أنه رب هذه البلدة أي مكة، واختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لها، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه.
وقد حرمها لتحريمه فيها أشياء على من يحج، ولأن اللاجئ إليها آمن،(20/49)
ولأنه لا ينتهك حرمتها إلا ظالم، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها.
والثاني- وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا وتصرفا، فهو خالق لجميع النعم، ومالك جميع من في الكون، ومتصرف بملكه كما يشاء، جلّ جلاله.
2- أن يكون من المسلمين: أي المنقادين لأمره، الموحّدين له.
3- أن يتلو القرآن، أي يقرأه لنفسه وعلى الناس لتبليغهم إياه. فمن اهتدى في هذه الأصول الثلاث المقررة في هذه السورة وهي التوحيد والحشر والنبوة فله ثواب هدايته، ومنفعة اهتدائه راجعة إليه، ومن ضل أو انحرف عن هذه الأصول، فما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين، وما هو إلا رسول منذر من جملة المنذرين، أي المخوفين قومهم من العذاب.
ثم ختم تعالى السورة بهذا التوجيه الحميد لرسوله صلّى الله عليه وسلم ولكل مؤمن وهو أن يحمد الله على نعمه وعلى هدايته، والله تعالى سيري خلقه آياته في أنفسهم وفي غيرهم، فيعرفون بها دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسهم وفي السموات وفي الأرض، كقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 20- 21] .
والله شهيد على كل شيء، وليس هو بغافل عما يعمله الخلائق أجمعون، فيجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.(20/50)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القصص
مكية، وهي ثمان وثمانون آية
تسميتها:
سميت سورة (القصص) لما فيها من البيان العجيب لقصة موسى عليه السلام من حين ولادته إلى حين رسالته، التي يتضح فيها أحداث جسام، برز فيها لطف الله بالمؤمنين وخذلانه الكافرين. ثم ذكر فيها قصة قارون من قوم موسى المشابهة للقصة الأولى في تقويض أركان الطغيان، طغيان السلطة عند فرعون، وطغيان المال عند قارون.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لسورتي النمل والشعراء في أنها تفصيل لما أوجز فيهما من قصة موسى عليه السلام، مبتدئا ببيان استعلاء فرعون وظلمه، وذبحه أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم، خوفا عليه من الذبح، ثم انتشال فرعون له وتربيته في قصره عنده إلى سن الشباب، حيث حدثت حادثة قتله القبطي، التي استوجبت فراره من مصر إلى مدين، وزواجه بابنة شعيب عليه السلام، ثم مناجاته ربه وبعثه إياه رسولا، وما تبع ذلك.
كذلك فصلت هذه السورة موقف القرآن من توبيخ المشركين على إنكارهم يوم القيامة، من خلال الإخبار بإهلاك الكثيرين من أهل القرى بسبب ظلمهم، والتساؤل عن شركاء الله يوم القيامة وما يدور بينهم وبين عبدتهم من(20/51)
نقاش انتهى بتبرئهم من عبادتهم، وإيراد الأدلة المتضافرة لإثبات قدرة الله على الخلق والإيجاد والبعث والإعدام.
كما أن هناك ربطا من وجه آخر بين سورتي النمل والقصص، فقد أوجز هنا ما فصّل في السورة المتقدمة من إهلاك قوم صالح وقوم لوط، ومن بيان مصير من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة.
ما اشتملت عليه السورة:
تلتقي هذه السورة مع ما سبقها من سورتي الشعراء والنمل في بيان أصول العقيدة: التوحيد والرسالة والبعث في ثنايا قصص الأنبياء، وإيضاح الأدلة المثبتة لهذه الأصول في قضايا الكون وعجائبه البديعة ونظمه الفريدة.
وكان الطابع الغالب على هذه السورة تبيان قصة موسى مع فرعون التي تمثل الصراع بين طغيان القوي وضعف الضعيف، لكن الأول على الباطل والثاني على الحق، وأعوان الباطل هم جند الشيطان وأعوان الحق هم جند الرحمن.
كان فرعون معتمدا على سلطانه وقوته وثروته، فطغى وبغى، واستعبد شعب بني إسرائيل، وزاد في غلوه أنه ذبح الأبناء، واستحيا النساء، وادعى الربوبية ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] وأفسد في الأرض.
واستوجب ذبح الأطفال إلقاء موسى في اليم، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه، ثم تربيته في قصر فرعون، إلى أن بلغ أشده وصار رشيدا قويا، فقتل قبطيا قتلا خطأ، فهرب من مصر إلى أرض مدين، فتزوج بابنة شعيب عليه السلام، ومكث راعيا ماشيته عشر سنين، ثم عاد إلى مصر، فناجى ربه في الطور، وأيده الله بمعجزات أهمها معجزة العصا واليد، فبلغ رسالة ربه، لكن كذبه فرعون وقومه علوا واستكبارا، فأغرقهم الله في البحر.(20/52)
وذلك شبيه بإنكار قريش نبوة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم مع ما جاءهم به من الحق، فوصفوه بالسحر المفترى، وتنكروا للإيمان برسالته بأعذار واهية، فأنذرهم القرآن بعذاب مماثل لقوم فرعون، وأبان لهم أن الله لا يعذب قوما إلا بعد إرسال رسول إليهم، وأن الرسول باختيار الله تعالى لا بحسب أهواء المشركين، وأن آلهتهم المزعومة ستتبرأ من عبادتهم يوم القيامة، وأن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له، وأنه القادر على بعث الأموات، كما قدر على بدء الخلق، وإيجاد تعاقب الليل والنهار. وسيشهد الأنبياء على أممهم بتبليغ رسالات ربهم، وقد آمن جماعة من أهل الكتاب، وسيعطون أجرهم مرتين، وأن الهداية بيد الله تعالى، لا بيد رسوله، فلن يتمكن من هداية من أحب.
وأعقب ذلك بقصة مشابهة هي قصة قارون من قوم موسى واعتماده على طغيان الثروة والمال كاعتماد فرعون على طغيان السلطة والحكم، فكان مصيره أشأم من مصير فرعون وهو الخسف به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين.
وكل من خبر القصتين برهان قاطع على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يكن حاضرا معهم، ولم يتعلم ذلك من معلم.
وختمت القصتان بإعلان مبادئ:
أولها- أن ثواب الآخرة يكون للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
وثانيها- أن الإيمان بالله وباليوم الآخر هو طريق السعادة الموجب لمضاعفة الحسنات ومقابلة السيئات بجزاء واحد، وتحقيق النصر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على أعدائه، وعودته إلى مكة فاتحا بعد تهجيره منها.(20/53)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
وثالثها- بيان نهاية العالم كله وهي الهلاك الشامل، وانفراد الله تعالى بالبقاء والدوام، والحكم والحساب، ورجوع البشر كافة إليه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ونحوها: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 25- 26] .
قصة موسى عليه السلام
- 1- نصرة المستضعفين
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
الإعراب:
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أَهْلَها وشِيَعاً مفعولا جَعَلَ لأنه بمعنى (صيّر) .
يَسْتَضْعِفُ الجملة حال من فاعل جَعَلَ أو صفة شِيَعاً أو استئناف كلام جديد. ويُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ... بدل منه.
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً الهاء والميم مفعولا (جعل) لأنه بمعنى (صيّر) .
وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ فرعون وما عطف عليه: مفعول أول ل نُرِيَ وهو من رؤية البصر، وهو في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد، فلما تعدى بالهمزة صار متعديا إلى مفعولين، والمفعول الثاني هو: ما كانُوا يَحْذَرُونَ.(20/54)
البلاغة:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الإشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبة القرآن في الكمال.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا نُرِيدُ حكاية حال ماضية لاستحضار تلك الصورة في الذهن لأن ذلك معطوف على جملة إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ من حيث إنهما واقعان تفسيرا للنبأ. وإرادة المنة بخلاصهم من فرعون هي في المستقبل، فلا يمنع ذلك إرادة استضعافهم في الماضي، ولما كانت الإرادة الأولى قريبة الوقوع من الثانية جعلت كالمقارنة لها.
المفردات اللغوية:
طسم تقرأ: طا، سين، ميم، بمد السين والميم وإدغام النون في الميم. وهذه الحروف المقطعة وأمثالها كما بينا مرارا للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية، فكون العرب أساطين البيان، وفرسان الفصاحة والبلاغة، عجزوا عن معارضته، دليل على أنه فوق مستوى البشر، وأنه من لدن حكيم حميد، إله الكون أجمعين. تِلْكَ هذه الآيات. آياتُ الْكِتابِ الإضافة بينهما بمعنى (من) . الْمُبِينِ المظهر الحق من الباطل.
نَتْلُوا نقرؤه بقراءة جبريل، ويجوز أن يكون بمعنى (ننزله) مجازا. نَبَإِ خبر مهم، وقوله: مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ معناه بعض نبئهما. بِالْحَقِّ الصدق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأجلهم، وخص المؤمنون لأنهم المنتفعون به. عَلا تجبر واستكبر، وقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر: استئناف مبين لذلك البعض، أي بعض خبر موسى وفرعون. شِيَعاً فرقا وأصنافا يستخدمهم في أعماله من بناء وحفر وحرث ونحو ذلك من مشاق الأعمال، ويؤلب بعضهم على بعض، زارعا بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا. يَسْتَضْعِفُ يجعلهم ضعفاء مقهورين، وهم بنو إسرائيل. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ المولودين. وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ يبقي نساءهم أحياء، وسبب هذا الفعل أن كاهنا قال لفرعون: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده، وذلك كان من غاية حمقه، فإنه لو صدّق لم يندفع الأمر بالقتل، وإن كذب فما الداعي لما فعل؟! إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بالقتل وغيره، فاجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد. أَنْ نَمُنَّ نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه. أَئِمَّةً قادة يقتدى بهم في الخير في أمر الدين والدنيا. وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ملك فرعون وقومه. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر والشام، والتمكين: يراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها. وَهامانَ وزير فرعون. ما كانُوا يَحْذَرُونَ يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه.(20/55)
التفسير والبيان:
طسم بيّنت المراد بهذه الحروف في المفردات.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه آيات من الكتاب الواضح الجلي الكاشف لحقائق أمور الدين، وما كان وما يكون.
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه حقا وصدقا كأنك تشاهد، وكأنك حاضر، من أجل قوم يصدقون برسالتك وبما أنزل إليك من ربك، فتطمئن به قلوبهم، كقوله تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف 12/ 3] .
وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شيئا أو بعضا من قصة موسى وفرعون، للعبرة والعظة، وإقامة الدليل على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن العظيم وحي يوحى، وليس من وضع البشر.
وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أن القرآن للناس أجمعين للإشارة إلى أن الانتفاع به لا يكون إلا لمن صدق بأنه كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي إن فرعون ملك مصر تجبر في أرضها واستكبر، وبغى وطغى وقهر أهلها.
وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي جعل أبناء مصر فرقا وأحزابا مختلفة، وسخر كل طائفة في مصالحه العمرانية والزراعية وغير ذلك من أمور دولته، وبذر بينهم بذور الفتنة والعداوة والبغضاء، حتى لا يتفقوا، أخذا بسياسة المستعمر: «فرّق تسد» .
وهذا مضاد لسياسة الإسلام- بالمعنى العام- والهدي الإلهي كله القائم على التأليف والجميع على قلب واحد، وإشاعة روح المحبة والتسامح والود والوئام(20/56)
والصفاء بين الرعية، وهذا في الواقع هو المبدأ الأمثل الذي يريح الحاكم، ويقوّي الأمة، ويبني أمجادها، ويحقق لها الانتصارات المتلاحقة.
يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يجعل جماعة منهم أذلة مقهورين، وهم بنو إسرائيل. ومظاهر الاستضعاف هي:
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي يقتل مواليدهم الذكور، ويبقي إناثهم أحياء، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من وجود غلام منهم كان فرعون وأهل مملكته قد تخوفوا من ظهور غلام منهم يكون سبب هلاكهم وذهاب دولتهم على يديه، وذلك لأن الكهنة قالوا له: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال المنجّمون له ذلك، أو رأى رؤيا، فعبّرت كذلك.
قال الزجّاج: العجب من حمقه، لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل.
إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر، فيقتل بلا ذنب، وينشر الرعب والإرهاب بلا مسوغ، وهذا شأن الظلمة العتاة الذين يستبد القلق والاضطراب في نفوسهم، فيرتكبون مثل هذه الفظائع. ولو شعروا يوما أو أكثر بالطمأنينة والراحة، ونشر عليهم الإيمان أجنحته وظلاله الوادعة، لعاشوا في استقرار وأمان، ولم يعيثوا في الأرض فسادا، ولما احتاجوا إلى مثل هذا العسف والظلم المؤذن بدمارهم.
وبعد أن ذكر تعالى هذه الصفات الخمس الذميمة للعتاة وهي الاستعلاء في الأرض، والاستضعاف، وقتل الأبناء، وإبقاء الإناث، والإفساد، ذكر في مقابلها خصائص خمسا للمستضعفين من بني إسرائيل وهي: إنقاذهم من الظلم، وجعلهم القادة بعد فرعون وقومه، وجعلهم ورثة مصر والشام، وجعل السلطة لهم فيها، وإظهار ما كان يحذره فرعون وهامان وجنودهما من دمارهم وذهاب(20/57)
ملكهم على يد بني إسرائيل، فقال تعالى:
1- وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ أي وأردنا التفضل والإنعام على المستضعفين من بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وأذلهم بتخليصهم من بأسه، وإنقاذهم من ظلمه.
وتساءل الزمخشري بقوله: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم، وإذا أراد الله شيئا كان، ولم يتوقف إلى وقت آخر؟ ثم أجاب عنه بأنه لما كانت منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.
2- وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي ونجعلهم قادة وولاة وحكاما متقدمين في الدين والدنيا.
3- وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ الذين يرثون ملك فرعون وأرضه وما في يده، كقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] وقوله سبحانه: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء 26/ 59] .
4- وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نجعل لهم السلطة وإنفاذ الأمر وإطلاق الأيدي في أرض مصر والشام.
5- وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي نجعلهم يبصرون ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل. وقد أنفذ الله أمره، وحقق حكمه، بأن جعل دمار فرعون وقومه على يد من رباه وأنشأه على فراشه وفي داره، وعلى سفرته وطعامه بعد أن جعله الله رسولا وأنزل عليه التوراة ليعلم أن رب السموات والأرض هو القاهر الغالب على أمره، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.(20/58)
والواضح أن هذه الخصائص تكون ما دام بنو إسرائيل عاملين بأصل شريعتهم وبكتابهم المنزل غير المبدل ولا المحرف، والذي فقد ولم يعد له وجود، ومضمون التوراة في الوضع الأصلي يلتقي مع مضمون القرآن، فإذا ما انحرفوا عن العقيدة الصحيحة والشريعة المنزلة، زالت عنهم هذه الخصائص.
فقه الحياة أو الأحكام:
تبين من الآيات ما يأتي:
1- القرآن العظيم أبان الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ولا ينتفع من هديه إلا القوم المصدقون به، الذين يعلمون أنه من عند الله.
2- يجب اجتناب الاستعلاء في الأرض، والتعزز بكثرة الأتباع، وهما من سيرة فرعون وقارون. وكانت قصتهما حجة على مشركي قريش وأمثالهم، فكما أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، فكذلك قرابة قريش لمحمد صلّى الله عليه وسلم.
3- كان علو فرعون وتجبره من كفره، وكانت ممارسات ظلمه وعتوه كثيرة متنوعة، فكان يستذل طائفة من بني إسرائيل، يذبح أطفالهم الذكور، ويترك الإناث أحياء، إهانة لهم واحتقارا، وكان من البغاة المفسدين في أرض دولته.
والظلم والكبرياء سبيل الدمار والهلاك، فأهلكه الله، ونجّى بني إسرائيل من العسف والطغيان.
4- كافأ الله المستضعفين من بني إسرائيل، وشأنه دائما الرفق بالضعفاء، فأنقذهم من بأس فرعون، وجعلهم ولاة وملوكا، كما قال تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة 5/ 20] ، وورّثهم ملك فرعون فسكنوا مساكن القبط المصريين، كما قال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف 7/ 137] ، وأقدرهم على أرض مصر والشام وأهلها، فاستولوا عليها، وأراد(20/59)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
أن يري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافون من تدمير ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل، فلم يفده قتل الألوف من الأولاد الأبرياء، وتحقق مراد الله تعالى، فهو النافذ الحكم والسلطان على الإطلاق.
- 2- إلقاء موسى في اليم بعد ولادته وإرضاعه والبشارة بنبوته
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 14]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِأَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)(20/60)
الإعراب:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ.. اللام في لِيَكُونَ يسميها البصريون لام العاقبة، أي كان عاقبة التقاطهم العداوة والحزن، وإن لم يكن التقاطهم له لهما. ويسميها الكوفيون لام الصيرورة، أي صار لهم عدوا وحزنا، وإن التقطوه لغيرهما.
قُرَّتُ عَيْنٍ.. إما خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة عين، وإما مبتدأ، وخبره:
لا تَقْتُلُوهُ.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الجملة حال من الملتقطين.
إِنْ كادَتْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي إنها.
بَلَغَ أَشُدَّهُ إما جمع شدّة كنعمة وأنعم، وإما جمع شدّ، نحو قدّ وأقدّ، وإما واحد مفرد، وليس في الأسماء المفردة ما هو على وزن أفعل إلا «أصبغ» و «آجر» و «أيمن» وآنك: وهو الرصاص المذاب الخالص.
البلاغة:
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ عبر بالجملة الاسمية عن الفعلية: سنرده ونجعله، للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.
أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها استعارة، شبه ما ألقى في قلبها من الصبر بربط الشيء خشية ضياعه، مستعيرا لفظ الربط للصبر.
لا تَقْتُلُوهُ خاطبت امرأة فرعون زوجها بصيغة الجمع بدل صيغة المفرد «لا تقتله» للتعظيم.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ توافق الفواصل من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
وَأَوْحَيْنا وحي إلهام، مثل وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل 16/ 68] أو وحي منام. أَنْ أَرْضِعِيهِ ما أمكنك إخفاؤه. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بأن يحسّ به أحد. الْيَمِّ البحر أي النيل. وَلا تَخافِي غرقه. وَلا تَحْزَنِي لفراقه، والخوف: غم لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن: غم يحدث بسبب مكروه حصل. إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب بحيث تأمنين(20/61)
عليه. وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ بشارة بالرسالة والنبوة. فأرضعته ثلاثة أشهر، ولما ألح فرعون في طلب المواليد وأرسل الجواسيس للبحث، وضعته في تابوت مطلي بالقار من الداخل، وألقته في بحر النيل ليلا. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط: أخذ الشيء فجأة من غير طلب له ولا إرادة. أي التقط أعوان فرعون التابوت صبيحة الليل، ووضعوه بين يديه، ففتحه وأخرج موسى منه.
لِيَكُونَ لَهُمْ في عاقبة الأمر. عَدُوًّا ينقض لهم جذور تدينهم. وَحَزَناً يزيل ملكهم، وحزن: اسم فاعل من حزن كأحزن، وقرئ «حزنا» .
وَهامانَ وزير فرعون. خاطِئِينَ آثمين عاصين، من الخطيئة وهي هنا الشرك، مأخوذ من خطئ: تعمد الخطأ. أما أخطأ: فمعناه لم يصب، بغير تعمد. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وقد همّ مع أعوانه بقتله. قُرَّتُ عَيْنٍ أي هو قرة عين، أي مصدر فرح وسرور، يقال: قرّت به العين، أي فرحت وسرّت. لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع. أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبناه، فإنه أهل له. هُمْ لا يَشْعُرُونَ أي والحال أنهم لا يشعرون بعاقبة أمرهم معه، وأنهم مخطئون في التقاطه وفي طمع النفع منه.
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من العقل، لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون عدو بني إسرائيل، مثل قوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم 14/ 43] أي لا عقول فيها. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لتظهر بأنه ابنها. أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بالصبر، أي سكّناه وثبتناه. لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بوعد الله.
وجوابدل عليه ما قبله.
قُصِّيهِ اقتفي أثره وتتبعي خبره حتى تعلمي مصيره. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي أبصرته عن بعد اختلاسا. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يدرون أنها أخته وأنها ترقبه. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ قبل رده إلى أمه، أي منعناه أن يرتضع من المرضعات، فلم يقبل ثدي واحدة من المراضع المحضرة له. فَقالَتْ أخته. هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يتكفلون أو يضمنون إرضاعه والقيام بشؤونه لأجلكم. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته.
كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائه. وَلا تَحْزَنَ حينئذ بفراقه. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لتعلم علم مشاهدة أن وعد الله برده إليها صدق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون بهذا الوعد، ولا بأن هذه أخته وهذه أمه، فمكث عندها إلى أن فطمته، ثم تربى عند فرعون.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ غاية نموه، وهو مفرد جاء على وزن الجمع، وبلوغ الأشد: من ثلاثين إلى أربعين سنة، فإن العقل يكمل حينئذ. وَاسْتَوى اكتملت أو نضجت قواه الجسدية والعقلية(20/62)
ببلوغ أربعين سنة. آتَيْناهُ حُكْماً حكمة أي معرفة أسرار الشريعة. وَعِلْماً فقها في الدين.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزيناه نجزي المحسنين لأنفسهم.
التفسير والبيان:
بعد بيان منة الله على بني إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون في قوله تعالى:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ابتدأ تعالى بذكر أوائل نعمه عليهم فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أي وألهمنا أم موسى إرضاعه ما أمكنها إخفاؤه عن العدو، فأرضعته ثلاثة أو أربعة أشهر كما يقال.
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي أي فإذا خفت عليه من القتل بسبب سماع أحد من الجيران صوته، فألقيه في بحر النيل، ولكن لا تخافي عليه حينئذ من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض جواسيس فرعون الذين يبحثون عن الولدان، وغير ذلك من المخاوف، ولا تحزني لفراقه.
وهكذا طمأنها الحق تعالى عن مخاوفها وهواجسها الجديدة بعد إلقائه في البحر، بإلقاء الأمان والسكينة في قلبها لأن عناية الله ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله منذ بدء الحمل وفي عهد الطفولة.
وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتا، ومهدت فيه مهدا، فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وألقته في النيل، فذهب مع الماء واحتمله على سطحه، حتى مرّ به على دار فرعون، فالتقطه الجواري وذهبن به إلى امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، فلما كشفت عنه، أوقع الله محبته في قلبها، فآثرت الإبقاء عليه، ولم تزل تكلم فرعون حتى تركه لها.
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي إنا سنرده عليك لتكوني أنت المرضعة له، وسنجعله نبيا مرسلا إلى أهل مصر والشام.(20/63)
وقد جمعت هذه الآية الواحدة بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين والأمران: هما أرضعيه وألقيه، والنهيان: هما وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي، والخبران: هما إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ، والبشارتان: في ضمن الخبرين، وهما الرد والجعل من المرسلين.
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي فأخذه أهل فرعون، لتكون عاقبة أمره أن يكون عدوا لهم بمجاهدته بمخالفة دينهم، وموقعا لهم في الحزن بإغراقهم وزوال ملكهم.
ولام لِيَكُونَ لام العاقبة، وليست لام التعليل لأنهم لم يريدوا قطعا بالتقاطه ذلك، ولكن الله جعل دمارهم بما صنعت أيديهم، فالتقطوه وربوه، ليكون في نهاية أمره سببا لمأساتهم وتحقق ما توقعوه من زوال ملكهم. قال الرازي: واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب الكشاف وهو أن هذه اللام هي لام التعليل، على سبيل المجاز دون الحقيقة لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره، فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه، فإن اتخاذه عدوا لم يكن سبب التقاطهم له، ولكن شبهت المحبة والتبني بالسبب الذي يؤدي إلى الفعل، ويفعل الفعل لأجله، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع.
وسبب ذلك على يد موسى عليه السلام هو ما قاله تعالى:
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي إن هؤلاء كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم الله بأن ربّى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، فهو من الخطيئة أي الإثم، ويصح أن يكون من الخطأ فإنهم كانوا مخطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم. قال الحسن البصري: معنى كانُوا خاطِئِينَ ليس من الخطيئة، بل المعنى: وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم.(20/64)
أما جمهور المفسرين فقالوا: معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، كما ذكرنا.
وأما سبب عدم قتله فهو تشفع امرأة فرعون له، فقال تعالى:
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ أي قالت زوجة فرعون له: هو قرة عين لنا أي يكون لنا سلوى، وتقرّ به عيوننا، وتفرح به نفوسنا، فلا تقتلوه، لأن الله تعالى ألقى عليه المحبة، فكان يحبه كل من شاهده عليه السلام، كما قال سبحانه: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه 20/ 38- 39] .
وكما هو مصدر سرور وسكن وسلوى قد يكون نافعا:
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لعله يكون سببا للنفع والخير، لما رأيت فيه من مخايل اليمن وأمارات النجابة، أو نتخذه ولدا ونتبناه، لما يتمتع به من الوسامة والجمال، ولم يكن لها ولد من فرعون، فحقق الله أملها بأن هداها به وأسكنها الجنة بسببه، ولكن لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم بسببه وعلى يده، وأنه سيظهر على يديه من الحكمة والحجة ومعجزة النبوة ما سيكون سببا في تكذيبهم له، مما يؤدي إلى هلاكهم، فالله تعالى وحده عالم الغيب والشهادة، ينصر رسله، ويؤيد دينه، ويخذل أعداءه، ليكون ذلك عبرة وعظة للمؤمن والكافر.
وإذا كان الفرح غمر قلب آسية امرأة فرعون، فإن الوساوس والهواجس ألمت بقلب أمه، فقال تعالى:(20/65)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أصبح فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر فارغا من كل شيء من شواغل الدنيا إلا من موسى، كما أنه طار عقلها، وسيطر عليها الخوف والفزع، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، وكادت من شدة حزنها وأسفها أن تظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها أنها أمه، لولا أن الله ثبّتها وصبّرها، لتكون من المصدقين الواثقين بوعد الله برده إليها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
والخلاصة: لولا تثبيت الله قلبها وتصبيره إياها لكشفت أمرها، وباحت بسرها، وأظهرت أنه ابنها، بحكم العاطفة والشفقة، فألهمها الله أن تتعرف خبره بأخته:
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي وقالت أم موسى لابنتها الكبيرة التي تعي ما يقال لها: تتبعي أثره، وتعرفي خبره، واطلبي شأنه من نواحي البلد، فخرجت لذلك، فهداها الله لمقرّ وجوده في بيت فرعون، وأبصرته عن بعد أو من بعيد، وهم لا يحسون بأنها تتعقبه، وتتعرف حاله، وأنها أخته.
وتتابعه عناية الله ويسوقه القدر إلى إرجاعه لمهد أمه، فقال تعالى:
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ، فَقالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟ أي ومنعنا موسى أن يرضع ثديا غير ثدي أمه قبل رده إلى أمه وقبل مجيء أخته، لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه، والتحريم: استعارة للمنع، لأن من حرم عليه الشيء فقد منعه. فقالت أخته لما رأت ارتباكهم واهتمامهم برضاعه: أتريدون أن أدلكم على أهل بيت يتكفلون بشأنه وإرضاعه وتربيته، وهم حافظون له، ناصحون، يعنون بخدمته والمحافظة عليه؟(20/66)
قال ابن عباس: فلما قالت ذلك، أخذوها وشكّوا في أمرها، وقالوا لها:
وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك، ورجاء منفعته، أي عطائه، فلما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها، فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاء جزيلا، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها.
ثم سألتها آسية أن تقيم عندها، فترضعه، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادا، ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دارّ «1» .
جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى، ترضع ولدها، وتأخذ أجرها» .
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فأرجعناه إلى أمه بعد التقاط آل فرعون له، من أجل أن تقر عينها بابنها وتسرّ بوجوده لديها وسلامته عندها، ولا تحزن عليه بفراقه، ولتتيقن أن وعد الله فيما وعدها من رده إليها حق لا شك فيه حين قال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن رسولا، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا من كمال الأخلاق.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكم الله في
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/ 382.(20/67)
أفعاله وعواقبها المحمودة في الدنيا والآخرة، فربما كان الأمر كريها إلى النفوس في الظاهر، محمود العاقبة في الحقيقة ونفس الأمر، كما قال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة 2/ 216] وقال تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء 4/ 19] .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى، آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ولما اكتملت قواه الجسدية والعقلية آتيناه الحكمة والعلم وفقه الدين وعلم الشريعة، ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه نجزي المحسنين على إحسانهم. وقد رجح الرازي أن المراد بالحكم هنا الحكمة والعلم، لا النبوة «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- قد يطلق الوحي على الإلهام لأن الوحي لا يكون إلا لنبي، وقد أجمع العلماء على أن أم موسى وأم عيسى لم تكن واحدة منهما نبية، وإنما ذلك من قبيل الإلهام، كإلهام النحل اتخاذ البيوت.
وقد ألهم الله أم موسى بعد ولادته أن ترضعه، فإذا خافت عليه من القتل ألقته في البحر، دون خوف عليه من الغرق ولا حزن على فراقه، فإن الله تكفل برده إليها وبجعله من الأنبياء المرسلين إلى أهل مصر.
2- قد يقصد الإنسان شيئا ويحدث شيء آخر، فإن أهل فرعون التقطوا موسى الصغير ليكون لهم قرّة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، ولله في خلقه شؤون.
__________
(1) تفسير الرازي 24/ 232.(20/68)
3- كان إنقاذ موسى من البحر سببا في إسعاد الناس برسالته وإنزال التوراة عليه، وهداية آسية امرأة فرعون إلى الإيمان بالله تعالى، بعد أن أقنعت زوجها فرعون بإبقائه وعدم قتله رجاء أن يكون مصدر نفع لهم أو أن يتبنوه، علما بأنها كانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه، قالوا له: إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء (إبقاء الأولاد) وولد موسى في عام الذبح. يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه، فرأت فيه صبيا صغيرا، فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.
4- لا يشعر الناس بتدبير الله وتخطيطه، وقد تكرر ذلك المعنى في الآيات فقال تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [9] أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه، ثم كرر تعالى ذلك في الآية [11] ثم قال: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
5- هجمت الوساوس والمخاوف والهواجس على قلب أم موسى، وطار عقلها لوقوع ابنها في يد فرعون عدو الإسرائيليين، وقاربت أن تظهر أمره لولا أن ثبّتها الله وصبّرها وملأ قلبها بالإيمان والاطمئنان والسكينة، لتكون من المصدقين بوعد الله حين قال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ.
6- كان لأخت موسى الذكية الحصيفة مريم بنت عمران كاسم مريم أم عيسى عليه السلام دور طيب ناجح في إقناع حاشية فرعون وامرأته بمن يقبل ثديها من النساء، لحاجتها إلى عطاء الملك، وطيبها وطيب رائحتها، دون أن يشعروا أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر، حتى رأتهم قد أخذوه، فأرشدتهم بلباقة إلى أهل بيت يكفلونه، وهم للملك ناصحون، يحرصون على مسرّته، ويطمعون في عطائه.(20/69)
7- إن تدبير الله الخفي الذي لا يصلح غيره في أي شيء أشد نفاذا وأنجح خطة من تدبير البشر، فقد منع موسى الطفل من الارتضاع من قبل مجيء أمه وأخته، ثم رده إليها، وفاء بوعده لها، وكان قد عطف الله قلب العدو عليه، ولتعلم أن وعد الله حق، أي لتعلم وقوعه، فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون.
8- لم يؤت الله النبوة لأحد غير يحيى وعيسى عليهما السلام قبل بلوغ سن الأربعين الذي تكتمل فيه القوى العقلية والجسمية، وتحقيق هذا في شأن موسى، فإنه لما بلغ أشده، أي غاية نموه، ونضج وبلغ أربعين سنة آتاه الله النبوة والحكمة قبل النبوة والعلم والفقه في الدين، يروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة.
وكما جزى الله موسى على طاعته وصبره على أمر ربه، وجزى أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله، فرد ولدها إليها وهي آمنة، ووهب له العقل والحكمة والنبوة، كذلك يجزي كل محسن.
الخلاصة: أن هذا الفصل من قصة موسى عليه السلام بيان لما أنعم الله عليه في صغره من إنجائه من القتل والغرق في النيل، وما أنعم عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة والنبوة والرسالة إلى بني إسرائيل والمصريين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى، إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.. [طه 20/ 37- 40] .(20/70)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
- 3- قتل المصري خطأ وخروجه من مصر
[سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
الإعراب:
هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أراد بالجملة حكاية حال كانت فيما مضى، كقوله تعالى:
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف 18/ 18] فأعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي، على حكاية الحال. وقوله: مِنْ عَدُوِّهِ أي من أعدائه، وعدو: يصلح للواحد والجمع.
خائِفاً يَتَرَقَّبُ خبر أصبح المنصوب. ويجوز أن يكون فِي الْمَدِينَةِ خبرها، وخائِفاً حال منصوب. والَّذِي مبتدأ مرفوع، وخبره إما يَسْتَصْرِخُهُ وإما(20/71)
فَإِذَا ويستصرخه في موضع نصب على الحال.
يَسْعى صفة رجل، أو حال منه إذا جعل: من أقصى المدينة صفة له.
البلاغة:
رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ استعطاف.
جَبَّاراً لَغَوِيٌّ مُبِينٌ صيغ مبالغة على وزن فعّال وفعيل. وكذلك الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بينهما طباق أي بين «جبار» وهو المفسد في الأرض وبين كلمة الْمُصْلِحِينَ.
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ التأكيد بإن واللام ليناسب مقتضى الحال، ليجد موسى مخرجا.
المفردات اللغوية:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي دخل موسى مصر آتيا من قصر فرعون، وقيل: منف مدينة فرعون، أو عين شمس من نواحي مصر. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل: كان وقت القيلولة، أو بين العشاءين. مِنْ شِيعَتِهِ إسرائيلي، أي من حزبه وجماعته الذين شايعوه وتابعوه في الدين، وهم بنو إسرائيل. وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ قبطي، أي من مخالفيه في الدين، وهم القبط. فَاسْتَغاثَهُ طلب منه الغوث والنصرة والإعانة، ولذلك عدّي بعلى، وقرئ: فاستعانه. فَوَكَزَهُ فضرب القبطي بجمع كفه أي بيده، وكان شديد القوة والبطش، وقرئ: فلكزه، أي فضرب به صدره. فَقَضى عَلَيْهِ قتله خطأ، فأنهى حياته، ولم يكن قصد قتله، ودفنه في الرمل.
هذا أي قتله. مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه الذي هيج غضبي. ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وسماه ظلما، واستغفر منه، لاستعظام الصغائر، بل وكان ذلك قبل النبوة في عهد الشباب، في سن دون الثلاثين لأنه أوحي عليه في سن الأربعين بعد زواجه بابنة شعيب في مدين، ورعيه الماشية عشر سنوات. إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم. مُضِلٌّ موقع في الضلال والخطأ. مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال.
قالَ موسى نادما. ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتله. فَاغْفِرْ لِي فاستر ذنبي. فَغَفَرَ لَهُ باستغفاره. الْغَفُورُ لذنوب عباده. الرَّحِيمُ بهم. رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي بحق(20/72)
إنعامك علي بالمغفرة اعصمني فهو استعطاف، أو هو قسم محذوف الجواب، أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي فلن أكون معينا لمن أجرم بعد هذه إن عصمتني.
خائِفاً يَتَرَقَّبُ ينتظر ما يناله من أذى أي استقادة أو قود (قصاص) . اسْتَنْصَرَهُ طلب نصره وعونه. يَسْتَصْرِخُهُ يستغيث به على قبطي آخر. لَغَوِيٌّ ضال. مُبِينٌ بيّن الغواية. فَلَمَّا أَنْ زائدة. يَبْطِشَ يضرب بسطوة وقوة وصولة. بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى والمستغيث به. قالَ القبطي المصري، أو قال الإسرائيلي المستغيث لأنه سماه غويا، فظن أنه يبطش به. إِنْ تُرِيدُ ما تريد. جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ تتطاول على الناس ولا تنظر العواقب. مِنَ الْمُصْلِحِينَ يبغون الإصلاح بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن. ولما قال هذا سمع القبطي، وانتشر الحديث وبلغ الخبر إلى فرعون وملئه، فعلم أن القاتل موسى، فأخبر فرعون بذلك، فأمر فرعون الذبّاحين بقتل موسى، فهموا بقتله.
وَجاءَ رَجُلٌ هو مؤمن آل فرعون. أَقْصَى الْمَدِينَةِ آخرها أو من أبعد جهاتها.
يَسْعى يسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم. إِنَّ الْمَلَأَ أشراف قوم فرعون.
يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك، وسميت المشاورة ائتمارا، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر به. فَاخْرُجْ من المدينة. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ في الأمر بالخروج. واللام للبيان، وليس صلة للناصحين لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول. يَتَرَقَّبُ يتلفّت يمنة ويسرة.
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله به على موسى عليه السلام من إنجائه صغيرا من الذبح على يد فرعون، وإيتائه الحكمة والعلم كبيرا تهيئة للنبوة، ذكر ما أنعم به عليه من الخروج آمنا من مصر بعد قتله قبطيا مصريا، كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين.
التفسير والبيان:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي ودخل موسى المدينة التي كان يسكنها فرعون، وهي قرية على بعد فرسخين من مصر، هي- كما قال(20/73)
الضحاك- عين شمس، وذلك في وقت لا يتوقع دخوله فيها، وهو إما وقت القيلولة في نصف النهار وقت الظهيرة والناس نيام، أو ما بين المغرب والعشاء.
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي فوجد موسى في تلك المدينة رجلين يتضاربان ويتنازعان، أحدهما إسرائيلي من حزبه وجماعته، والآخر قبطي مصري مخالف لموسى في العقيدة والدين، وهو طباخ فرعون، كان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلي من موسى النجدة والعون على عدوه القبطي، فضربه موسى بيده، فقضي عليه، أي كان الضرب مفضيا إلى الموت، وواراه التراب، دون أن يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى.
ثم ندم موسى على ما فعل، فقال: هذا الحادث من تزيين الشيطان وإغرائه.
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي إن الشيطان عدو للإنسان، مضل له أي موقع له في الضلال والخطأ، بيّن العداوة والإضلال، ثم تاب من فعله فقال:
قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي أي قال موسى: يا رب، إني ظلمت نفسي بهذا الفعل، وهو قتل نفس بريئة، فاستر لي ذنبي، ولا تؤاخذني بما جنت يدي، فإني أتوب إليك، وأندم على فعلي.
وقد عدّ ذلك ذنبا، لأن القتل لا يحل أصلا، وذلك معروف من شرائع الأنبياء المتقدمين. قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه، وإن هذا كان قبل النبوة.
روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت(20/74)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الفتنة تجيء من هاهنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله عز وجل: وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» .
فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي فعفا عنه وقبل توبته، إنه تعالى الستار لذنوب عباده المنيبين إليه، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة والإنابة، فشكر موسى ربه:
قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي قال موسى: يا رب اعصمني من الخطأ بحق ما أنعمت علي من المعرفة والحكمة والتوحيد، ومن الجاه والعز والنعمة، فلن أكون إن عصمتني معينا لمن ظلم وأجرم وأشرك. أو أقسم بإنعامك علي بهذه النعم الكثيرة لأتوبن، ولن أناصر المشركين.
قال القشيري: ولم يقل لما أنعمت علي من المغفرة لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل.
وذكر الماوردي وغيره أن الإنعام بالمغفرة أو الهداية. قال القرطبي: فَغَفَرَ لَهُ يدل على المغفرة، والله أعلم.
وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود 11/ 113] .(20/75)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي فصار موسى بعد حادثة قتل القبطي المصري خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل، فيطلب به، وصار يتلفت ويتوقع أن يقتل بسبب جنايته، فسار في بعض الطرق متخفيا مستترا، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري، يطلب منه العون والغوث على مصري آخر، فقال له موسى: إنك ظاهر الغواية، كثير الفساد والشر والضلال.
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ أي فلما أراد موسى زجر عدوهما وهو القبطي، قال له مستنكرا مستهجنا: أتريد الإقدام على قتلي كما قتلت نفسا البارحة، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي، قال الرازي: والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى فهذا القول إذن منه، لا من غيره، وأيضا فقوله: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولا للكافر.
وقال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي مبين، ورآه على غضب، ظن- لما همّ بالبطش- أنه يريده لخوره وضعفه وذلته، فقال هذا القول، وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف لأنه لم يكن يعلم بحادثة الأمس غير هذا العبري، فلما سمعها ذلك القبطي، نقلها إلى فرعون، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى.
إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون قتّالا بطاشا، مستعليا، كثير الأذى في الأرض، دون أن تنظر في العواقب، ولا تريد أن تكون من أهل(20/76)
الإصلاح الذين يفصلون في خصومات الناس بالحسنى والحكمة، ولو كان أحد الخصوم من ذوي القربى أو العشيرة الواحدة.
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ: يا مُوسى، إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، يخفي إيمانه عن الناس، من أبعد مكان في المدينة، يسرع ليخبر موسى بما دبره القوم من سوء له، وقال: يا موسى، إن فرعون وأشراف دولته يتشاورون فيك، ويدبرون مؤامرة لقتلك، فاخرج بسرعة من البلد، إني لك ناصح أمين. ووصف بالرجولة لسلوكه طريقا أقرب من طريق المبعوثين وراء موسى.
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فخرج موسى من مدينة فرعون خائفا على نفسه يتلفّت، ويترقب متابعة أحد له.
قالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قال موسى في هذه المحنة الشديدة: رب نجني من هؤلاء الظالمين: فرعون وملئه، فاستجاب الله دعاه ونجاه ووصل إلى مدين، كما قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه 20/ 40] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وقوع حادثة قتل خطأ غير عمد من موسى عليه السلام.
2- ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز (الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين) ونسب الفعل إلى الشيطان، وقال: رب، إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فغفر له، وحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر ثم لم يزل عليه السلام يعدّد ذلك(20/77)
على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. وكان ذلك القتل قبل النبوة، كما عرفنا.
والقتل الخطأ ذنب، بدليل إيجاب الكفارة عليه في شرعنا، ولأنه لا يخلو عن إهمال أو تقصير أو تجاوز الحدود المألوفة، قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء 4/ 92] .
3- كان من توابع توبة موسى عليه السلام من فعله أنه أقسم بما أنعم الله عليه ألا يظاهر ولا يعاون مجرما.
ويصح أن يكون قوله: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ استعطافا كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة أو غيرها من النعم كالمعرفة والحكمة والتوحيد، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا (معينا) للمجرمين.
4- دلت آية فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة. قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين.
وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة، أو برى لهم قلما؟ فيجمعون في تابوت من حديد، فيرمى به في جهنم» .
وفي حديث آخر رواه الديلمي عن معاذ: «من مشى مع ظالم فقد أجرم»
ويروى أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته، ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، أزلّ الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام» .
5- دل قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً على أن الخوف غريزة(20/78)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
في النفس البشرية، وإن كان المرء قويا كموسى عليه السلام، كما أن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه، وهو أيضا سبيل الأمان. وكان خوفه من الملاحقة والطلب، فقد يؤخذ غرّة على حين غفلة.
6- يوصف الشرير بأنه غوي (خائب) مبين، ويوصف القاتل بأنه جبار، أي قتّال، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق. والجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن.
7- إن الإيمان رابطة وثيقة بين المؤمنين، لذا بادر مؤمن آل فرعون وهو حزقيل بن صبور، ابن عم فرعون إلى إخبار موسى عليه السلام بمكيدة فرعون وملئه له، وأنهم يتشاورون في قتله بالقبطي الذي قتله بالأمس، ونصحه بالخروج مسرعا من مدينة فرعون أو من مصر.
8- شأن المؤمن دائما أن يلجأ إلى الله تعالى، فقد خرج موسى عليه السلام من مصر، خائفا يترقب الطلب، قائلا: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
فنجاه الله ووصل إلى بلاد مدين.
- 4- ذهاب موسى عليه السلام إلى أرض مدين وزواجه بابنة شعيب عليه السلام
[سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)(20/79)
الإعراب:
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ يُصْدِرَ بالضم: مضارع فعل رباعي، والمفعول محذوف، أي حتى يصدر الرعاء إبلهم ومواشيهم. وقرئ بالفتح على أنه مضارع فعل ثلاثي.
أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا إِحْداهُما مصدرية، أي أجر سقيك لنا، وليست موصولة لأنها لو كانت موصولة، كان المعنيّ بها الماء، والأجر على السقي أو العمل لا على الماء أو العين.
تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من إِحْداهُما وعامله جاءت وعَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع نصب على الحال من ضمير تَمْشِي وعامله تَمْشِي.
عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي تأجرني نفسك في ثماني سنوات، وثَمانِيَ منصوب على الظرف.
أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي: منصوب ب قَضَيْتُ وما: زائدة، والْأَجَلَيْنِ مجرور بالإضافة، وتقديره: أيّ الأجلين قضيت، وقَضَيْتُ مجزوم(20/80)
ب أَيَّمَا وفاء فَلا.. مع ما بعده مجزوم لأنه جواب الشرط، والجملة: في موضع نصب مفعول قالَ.
ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مبتدأ وخبر.
البلاغة:
رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ استعطاف وترحم.
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
تَوَجَّهَ قصد بوجهه تِلْقاءَ تجاه مَدْيَنَ قرية شعيب على مسيرة ثمانية أيام من مصر، وسميت باسم مدين بن إبراهيم عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي قال ذلك توكلا على الله وحسن ظن به، لأنه لم يكن يعرف طريقها، وسواء السبيل: الطريق الأقوم، والطريق الوسط إليها، وكان هناك ثلاثة طرق، فأخذ في أوسطها وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وصل إلى بئر فيها كانوا يستقون منها وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً جماعة كثيرة من الناس مختلفين، يسقون مواشيهم.
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ سواهم تَذُودانِ تمنعان وتطردان أغنامهما عن الماء، خوفا من السقاة الأقوياء قالَ موسى لهما ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان مع هؤلاء؟ يُصْدِرَ الرِّعاءُ يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، وحينئذ نسقي خوف الزحام ومزاحمة الرجال، يقال:
صدر عن الماء مقابل ورد: انصرف عنه، وقرئ: يصدر الرعاء أي يرجعون من سقيهم، والرعاء:
جمع راع وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يقدر أن يسقي.
فَسَقى لَهُما مواشيهما من بئر أخرى بقربهما، رحمة عليهما، بأن رفع حجرا عنها لا يرفعه إلا عشرة أنفس أو سبعة، بالرغم من تعبه وجوعه وجرح قدمه. ثُمَّ تَوَلَّى انصرف إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة كانت هناك، هروبا من شدة الشمس، وكان جائعا مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير، ويطلق على الطعام، كما في الآية، وعلى المال كما في آية إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة 2/ 180] وعلى القوة كما في آية: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان 44/ 37] وعلى العبادة كما في آية:
وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ [الأنبياء 21/ 73] فَقِيرٌ محتاج.
فرجعتا إلى أبيهما في زمن أقل مما كانتا ترجعان فيه، فسألهما عن ذلك، فأخبرتاه بمن سقى لهما، فقال لأحدهما: ادعيه لي فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي شدة حياء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال، أي مستحيية متخفرة، قيل: كانت الصغرى منهما، وقيل:(20/81)
الكبرى، واسمها صفوراء أو صفراء، وهي التي تزوجها موسى لِيَجْزِيَكَ ليكافئك أو ليثيبك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا جزاء سقيك لنا. وقد أجابها موسى ليتبرك برؤية الشيخ، ويستظهر بمعرفته، لا طمعا في الأجر، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاما، فامتنع عنه، وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا، أو لا نطلب على عمل خير عوضا، فأجابه شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، أو قال: لا، عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام. علما بأن من فعل معروفا، فأهدي إليه شيء، لم يحرم أخذه.
قَصَّ روى له القصة وأخبره بحاله الْقَصَصَ مصدر بمعنى الحديث المقصوص أي المخبر به، من قتله القبطي، وقصدهم قتله، وخوفه من فرعون نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فرعون وقومه إذ لا سلطان له على مدين.
قالَتْ إِحْداهُما التي استدعته الكبرى أو الصغرى اسْتَأْجِرْهُ اتخذه أجيرا يرعى غنمنا بدلنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فإنها أخبرته عن رفعه حجر البئر، وعن قوله لها أثناء السير: امشي خلفي، وقابل حياءها بحياء، فلما جاءته وعلم بها، صوّب رأسه فلم يرفعه.
والجملة تعليل جامع، يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار. وللمبالغة فيه جعل خيرا اسما، وذكر الفعل بلفظ الماضي، للدلالة على أنه أمين مجرب معروف.
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ الكبرى أو الصغرى عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي تكون أجيرا لي أو تأجر نفسك مني في رعي غنمي ثَمانِيَ حِجَجٍ سنين، جمع حجة أي سنة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً رعي عشر سنين فَمِنْ عِنْدِكَ التمام وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ باشتراط العشر سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ للتبرك مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة.
قالَ موسى ذلِكَ الذي قلته بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أطولهما وأقصرهما للرعي قَضَيْتُ وفيتك إياه فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ بطلب الزيادة عليه، أو فلا مجاوزة للحد، أي فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثماني وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي على ما نقول أنا وأنت حفيظ أو شاهد، فتم العقد بذلك.
المناسبة:
بعد أن تمالأ فرعون وقومه على قتل موسى، وأخبره مؤمن من آل فرعون بما عزموا عليه، ونصحه بالخروج من مصر، فخرج متجها إلى أرض مدين، ماشيا، برعاية الله وهدايته الطريق، للنسب الذي بين الإسرائيليين وبين أهل مدين،(20/82)
لأن مدين من ولد إبراهيم، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وهناك تزوج بابنة شعيب عليه السلام، ثم عاد إلى مصر بعد أن أوتي النبوة في الطريق.
التفسير والبيان:
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ، قالَ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي لما اتجه موسى جهة مدين تاركا مدينة فرعون لأنه كما بينا وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو كان من بني إسرائيل، لكن لما لم يكن عالما بالطريق، اعتمد على فضل الله تعالى، قائلا:
ربي اهدني الطريق الأقوم، فامتن الله عليه، وهداه إلى الصراط المستقيم، واختار الطريق الوسط من بين ثلاث طرق، وكان يسأل الناس عن كيفية الطريق، بحكم العادة. قال ابن إسحاق: خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر (أي راحلة) وبينهما مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. ومدين:
شمال خليج العقبة في بلاد فلسطين.
وكانت أحداث مدين كما يلي:
1- حال الرعاء على الماء: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ: ما خَطْبُكُما؟ قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي ولما وصل إلى مدين، وورد ماءها، وكان لها بئر يرده رعاة الماشية، فوجد جماعة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم، ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرعاة الآخرين، لئلا يؤذيا وتختلط أغنامهما مع غيرها، فلما رآهما موسى عليه السلام رقّ لهما ورحمهما، فسألهما: ما شأنكما وما خبركما لا تردان الماء مع هؤلاء؟ قالتا: لا نسقي غنمنا، أي لا نتمكن من سقي الغنم إلا بعد فراغ هؤلاء(20/83)
القوم من السقي، وأبونا شيخ كبير هرم لا يستطيع الرعي والسقي بنفسه، مما ألجأنا إلى الحال التي ترى. وهذا شأن الضعيف مع القوي دائما، يشرب القوي أولا من الماء الصافي، ويشرب الضعيف بقية الماء. وفي هذا اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
2- السقي للمرأتين والمناجاة: فَسَقى لَهُما، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ: رَبِّ، إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي فسقى غنمهما لأجلهما من بئر مغطى بصخرة، لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، كما روى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أعاد الصخرة على البئر، ثم انزوى إلى ظل شجرة للراحة، فناجى ربه قائلا: إني لمحتاج إلى الخير القليل أو الكثير وهو الطعام، لدفع غائلة الجوع. وإنما عدى فقيرا باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
وفيه دلالة على أنه سقى لهما في حر من الشمس، وعلى كمال قوة موسى عليه السلام، وعلى أنه رغم نعومة عيشه في بلاط فرعون كان مخشوشنا جلدا صابرا.
قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل، وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة.
3- الفرج بعد الشدة: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي لما رجعت المرأتان سريعا بالغنم إلى أبيهما استغرب وسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها، فجاءت إحداهما تمشي مشي الحرائر، مستحيية، متخمرة بخمارها، ساترة وجهها بثوبها، ليست جريئة على الرجال،(20/84)
فقالت في أدب وحياء وخفر: إن أبي يطلبك ليكافئك على إحسانك لنا، ويعطيك أجر سقيك لغنمنا.
واختلف العلماء في تعيين الأب من هو، والجمهور- أو المشهور عند كثير من العلماء- على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهما ابنتاه «1» . وليس في ذلك شيء يأباه الدين كما قال الرازي.
وقد أجابها موسى عليه السلام للتبرك بالشيخ، لا طلبا للأجرة، روي أنها لما قالت لِيَجْزِيَكَ كره ذلك، ولما قدم إليه الطعام امتنع، وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا، حتى قال شعيب عليه السلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا فضلا عن أن الضرورات تبيح المحظورات.
وتبع موسى المرأة إلى منزل أبيها، وطلب منها أن تسير خلفه كيلا ينظر إليها، وأن ترشده إلى الطريق، وهي خلفه، وهذا من أدب الرجال الذين أعدهم الله للنبوة.
4- حديث الأمان مع الشيخ الكبير: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ: لا تَخَفْ، نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي فلما جاء موسى إلى الشيخ، وأخبره عن قصته مع فرعون وقومه في كفرهم وطغيانهم، وظلمهم بني إسرائيل، وتآمرهم على قتله وسبب خروجه من بلده مصر، قال له: لا تخف واطمئن وطب نفسا، فإنك نجوت من سطوة الظالمين، وخرجت من مملكتهم، ولا سلطان لهم في بلادنا، فاطمأن موسى وهدأت نفسه من القلق.
5- طلب البنت استئجار القوي الأمين: قالَتْ إِحْداهُما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي قالت إحدى ابنتي الشيخ
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 114، تفسير ابن كثير: 3/ 384(20/85)
الكبير التي ذهبت تدعوه لأبيها: يا أبت استأجره لرعي هذه الغنم، فإن خير مستأجر هو لأنه القوي على حفظ الماشية والقيام بشؤونها، المؤتمن الذي لا تخاف خيانته.
وصفته بأفضل صفات الأجير: القوة في القيام بالأمر، والأمانة في حفظ الشيء. ومصدر هاتين الصفتين ما شاهدت من حاله، قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اختلف عليّ الطريق، فاقذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال: أَكْرِمِي مَثْواهُ وصاحبة موسى حين قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.
6- مصاهرة موسى لشعيب: قالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي إن شعيب اقتنع بأن موسى رجل قوي أمين، فقال له: أريد مصاهرتك وتزويجك إحدى هاتين البنتين، فاختر ما تشاء، وهما صفوريا وليا، والمهر: أن ترعى غنمي ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين، فهو إليك، وإلا ففي الثماني كفاية.
ولا أشاقك بعد ذلك بشيء من المناقشة في الوقت أو غيره، وستجدني صالحا على العموم، ومن ذلك حسن المعاملة، ولين الجانب. وإنما قال: إِنْ شاءَ اللَّهُ للتبرك والاتكال على توفيق الله ومعونته.
فأجابه موسى بقوله:
قالَ: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي قال(20/86)
موسى لصهره: الأمر على ما قلت، لي الخيار في إحدى البنتين، وفي إحدى المدتين: ثماني أو عشر سنين، كل واحد على ما شرط على نفسه، فإن أتممت عشرا فمن عندي، وإن قضيت ثمانيا فقد برئت من العهد، وخرجت من الشرط، فلا حرج علي من اختيار إحدى المدتين، وليس لك أن تطالبني بزيادة عليهما، وإن كان المهيأ للنبوة سيختار الأكمل، وإن كان مباحا غير لازم، وقد فعل موسى عليه السلام أكمل الأجلين.
روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سألت جبريل، أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما» «1»
هو المعاهدة التي حدثت بين موسى وشعيب عليهما السلام.
وقوله: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وقوله: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي أطول الأجلين الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان. وقوله: فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا يعتدي أحد على آخر في طلب الزيادة.
وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي والله حفيظ أو شاهد على ما ألزم كل واحد نفسه به للآخر. والوكيل في الأصل: الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدّي بعلى. وهذا من قول موسى، وقيل: هو من قول شعيب والد المرأة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- انتقل موسى عليه السلام ماشيا من مصر إلى مدين شمال خليج العقبة بفلسطين مدة ثماني ليال.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 386.(20/87)
2- ليس سقي ابنتي شعيب عليه السلام الماشية بمحظور في الدين، ولا يأباه الدين والمروءة جريا على عادة العرب وأحوالهم.
3- لم يذق موسى عليه السلام طعاما في طريقه إلى مدين سبعة أيام، حتى التصق بطنه بظهره، فلجأ إلى الدعاء تعريضا، ولم يصرح بالسؤال، وإنما طلب إنزال أي خير قليل أو كثير، فدل هذا الكلام على الحاجة إلى الطعام أو إلى غيره، إلا أن المفسرين حملوا هذا الكلام على الطعام. قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق على الله.
وفي هذا إشعار بهوان الدنيا على الله.
4- إن سقي موسى عليه السلام ماشية المرأتين اللتين عجلتا بالذهاب إلى أبيهما كان سببا في دعوته وتناوله الطعام عند شعيب عليه السلام، وإجابة لدعائه ومناجاته ربه.
وبالرغم من حاجته إلى الطعام قال موسى: لا آكل، إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا، فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام، فحينئذ أكل موسى عليه السلام.
5- دل قوله: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ على أن سلطان الحكام كان محصورا في إقليم معين، فكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون.
6- دل قوله تعالى: قالَتْ إِحْداهُما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ على مشروعية الإجارة، وهي فعلا كانت مشروعة في كل ملة، لحاجة الناس إليها، وتحقيق مصالحهم بها.
7- قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ فيه دليل على جواز عرض الولي ابنته على الرجل لخطبتها، وهذه سنة شائعة قديمة، فقد عرض صالح(20/88)
مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الواهبة نفسها على النبي صلّى الله عليه وسلم، أخرج البخاري والنسائي عن ابن عمر قال: «لما تأيمت حفصة من حذافة بن خنيس السهمي قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر» وكذلك قال لأبي بكر، لكنهما امتنعا لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكرها بخير، فلم يفشيا سره، وفهما أنه يريد الزواج بها.
8- قوله: أُنْكِحَكَ دليل على أن النكاح إلى الولي، لا للمرأة لأن صالح مدين تولاه، وهو رأي جمهور العلماء، وخالف في ذلك أبو حنيفة، كما تقدم في تفسير آيات النكاح.
9- والآية تدل أيضا على أن للأب أن يزوّج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها لأنها بلغت حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة، فإنه يزوجها بغير رضاها، لأنه لا إذن لها ولا رضا بغير خلاف.
10- استدل الشافعية بآية: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح فقط. وقال المالكية: ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد، بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية، فكذلك النكاح، والذي خص به النبي صلّى الله عليه وسلم كون الزواج بلا مهر، لا الزواج بلفظ الهبة.
11- قوله تعالى: إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عرض للزواج، لا عقد لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له.
12- قال مكّي: في هذه الآية خصائص في النكاح، منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حدّ أول الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا.
أما التعيين فالواقع أنه تم في اتفاق آخر، وإنما عرض الأمر مجملا، وعيّن بعد ذلك.(20/89)
وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه، بل هو مسكوت عنه، فإما أنهما اتفقا عليه، وإلا فهو من أول وقت العقد.
وأما الزواج بمنفعة الإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر أقره شرعنا، بدليل ما روى الأئمة من الزواج على شيء من القرآن، وفي بعض طرقه: «فعلّمها عشرين آية وهي امرأتك» .
وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: كرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، والحنفية، وأجازه ابن حبيب والشافعية والحنابلة، بدليل هذه الآية.
وأما قول مكي: دخل ولم ينقد، ففيه خلاف، منعه ابن القاسم، فليس للزوج الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار، وأجازه متأخر والمالكية لأن تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب.
13- دلت الآية على اجتماع عقدين هما الإجارة والزواج، وقد أجازه ابن العربي المالكي على الصحيح لأن الآية تدل عليه، وقد قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع، أو بين بيع ونكاح «1» . ومنعه ابن القاسم في المشهور، وقال: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده لاختلاف مقاصدهما، كسائر العقود المتباينة.
14- يدل قوله تعالى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ على جواز ذكر الخدمة مطلقا، دون بيان نوع العمل، مع بيان الأجل فقط، وقد أجازه مالك وقال: إنه جائز ويحمل على العرف. فلم يكن لصالح مدين إلا رعي الغنم.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى نوع العمل لأنه مجهول.
15- أجمع العلماء على جواز استئجار الراعي شهورا معلومة، بأجرة
__________
(1) أحكام القرآن 3/ 1464.(20/90)
معلومة، لرعاية غنم معدودة. فإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت الإجارة عند المالكية عملا بالعرف. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها.
16- دلت آية ثَمانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ على مذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، أنه يصح ويختار المشتري، فبأيهما أخذ يصح، وحمل
الحديث المروي في سنن أبي داود: «من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا»
على هذا المذهب.
17- استدل الحنابلة بهذه الآية المتقدمة على صحة استئجار الأجير بطعامه وكسوته، ويؤيدهم
ما رواه ابن ماجه في السنن عن عتبة بن المنذر السّلمي قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقرأ طسم، حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه» . «1» .
18- قال مالك: وليس على الراعي ضمان، وهو مصدّق فيما هلك أو سرق لأنه أمين كالوكيل، ولا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال، ولصاحب المال تضمينه إن كان من أهل الفسوق والفساد.
19-
روى عيينة بن حصن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفّة فرجه» .
والإجارة بالعوض المجهول كشيء مما تلده الغنم لا تجوز، فإن ولادة الغنم غير معلومة
لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة نهى عن الغرر
،
وروى البزار بسند ضعيف عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح.
__________
(1) لكن فيه راو ضعيف الرواية عند الأئمة هو مسلمة بن علي الخشني الدمشقي البلاطي.(20/91)
والمضامين: ما في بطون الإناث، والملاقيح: ما في أصلاب الفحول. على أن راشد بن معمر أجاز الإجازة على الغنم بالثلث والربع. وقال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه، وبه قال أحمد.
20- الكفاءة في النكاح معتبرة، واختلف العلماء هل في الدّين والمال والحسب أو في بعض ذلك؟ والصحيح لدى المالكية جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات 49/ 13] .
وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا، فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه، ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك.
21- إذا اشترط ولي المرأة لنفسه شيئا، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده، ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما- أنه جائز، والآخر- لا يجوز، فهو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام.
ويؤيد الرأي الأول ما جرى من شعيب حيث اشترط لنفسه إجارة الرعي ثماني سنين، وترك المهر مفوضا، ونكاح التفويض جائز، ويجب حينئذ مهر المثل.
22- يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال: وتطوع بكذا، فينفذ الشرط على حدة، ويترك الطوع لتنفيذه مختارا على حدة. وهذا ما فعله شعيب حيث ذكر اشتراط الإجارة ثماني سنين، وترك التطوع لموسى، وهو سنتان أخريان إن شاء.
23- قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فيه جعل الإشهاد عليهما في الزواج بالله تعالى، ولم يشهد شعيب وموسى عليهما أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في الزواج على قولين:
أحدهما- وهو قول الجمهور: أنه لا ينعقد الزواج إلا بشاهدين.(20/92)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
والثاني- قال مالك: إنه ينعقد دون شهود لأنه عقد معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح: الدّفّ.
- 5- عودة موسى عليه السلام إلى مصر ونبوته
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
الإعراب:
أَنْ يا مُوسى أَنْ مفسرة لا مخففة في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بأن يا موسى.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ معطوف على قوله: أَنْ يا مُوسى.(20/93)
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ تَهْتَزُّ جملة فعلية، في موضع الحال من الهاء والألف في رَآها أي مهتزة مشبهة جانا. وَلَّى: أصله وَلَّى فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبها ألفا، وهو جواب «لمّا» . ومُدْبِراً حال من ضمير وَلَّى وعامله وَلَّى. ولَمْ يُعَقِّبْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير وَلَّى وهو العامل فيها أيضا.
فَذانِكَ بُرْهانانِ مبتدأ وخبر، وذان: تثنية ذا، قرئ بتخفيف النون وتشديدها، والتشديد عوض عن حذف ألف ذا التي كانت في الواحد.
البلاغة:
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ تشبيه مرسل مجمل، حذف فيه وجه الشبه، فصار مجملا.
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ كناية، كنى بالجناح عن اليد لأنها للإنسان كالجناح للطائر.
المفردات اللغوية:
قَضى ... الْأَجَلَ أتم المدة المحددة المتفق عليها بينهما، وهو رعيه عشر سنين وَسارَ بِأَهْلِهِ زوجته بإذن أبيها نحو مصر، روي أنه قضى أقصى الأجلين، ثم عزم على الرجوع آنَسَ أبصر من بعيد مِنْ جانِبِ الطُّورِ من الجهة التي تلي الطور: وهو اسم لجبل في سينا بِخَبَرٍ عن الطريق، وكان قد أخطأها أَوْ جَذْوَةٍ جمرة ملتهبة أو عود غليظ في رأسه نار تَصْطَلُونَ تستدفئون.
مِنْ شاطِئِ الْوادِ من جانب الْأَيْمَنِ لموسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ المكان الذي بارك الله فيه لموسى لسماعه كلام الله فيها مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت نابتة على الشاطئ، وهي شجرة عناب أو عليق أو عوسج أَنْ يا مُوسى أي يا موسى تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ الجانّ: الحية الصغيرة التي توجد في الدور ولا تؤذي، أي تشبه الحية في الهيئة والجثة، أو السرعة، أو الجني في سرعة الحركة وعظم الخلقة وَلَّى مُدْبِراً أدبر هاربا منهزما منها من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يا مُوسى أي نودي يا موسى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من المخاوف، فإنه لا يخاف لدي المرسلون.
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخلها في طوق قميصك وأخرجها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب كبرص ونحوه وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع مِنَ الرَّهْبِ الخوف الحاصل من إضاءة اليد، بأن تدخلها في جيبك (فتحة القميص من جهة الرأس) وعبر عن اليد بالجناح لأنها للإنسان كالجناح للطائر.(20/94)
فَذانِكَ أي العصا واليد بُرْهانانِ دليلان مرسلان، أو حجتان فاسِقِينَ خارجين عن حدود الله، فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.
المناسبة:
بعد أن أتم موسى عليه السلام أوفى الأجلين، عزم على العودة إلى مصر، لزيارة أقاربه، وبينا هو في الطريق، وكانت الليلة باردة شاتية، أبصر من ناحية جبل الطور نارا، فطلب من أهله المكث في مكانهم، ليحضر لهم جذوة نار، فناداه ربه، وآتاه النبوة والرسالة.
التفسير والبيان:
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ... لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي فلما أكمل الأجلين وأتمهما وهو رعي غنم شعيب عشر سنين، وهذا مستفاد أيضا من الآية الكريمة حيث قال تعالى فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي الأكمل منهما، وأن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين، وليس فقط عقيب أحدهما، وهو قضاء الأجل.
وسار إلى ما يريد مع أهله أي زوجته، أبصر نارا تضيء على بعد من ناحية جبل الطور، فطلب من أهله المكوث في مكانهم حتى يذهب إلى النار، فيأتي من أهلها بخبر الطريق أو بقطعة أو شعلة من النار ليستدفئوا بها من البرد، وذلك لأنه سار في ليلة مظلمة مطيرة باردة، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى منفردا مع أهله.
وخاطب أهله بقوله: امْكُثُوا بصيغة الجمع للتعظيم. وقوله:
بِخَبَرٍ فيه دلالة على أنه ضل الطريق، وقوله: لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فيه دلالة على البرد.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي فلما وصل إلى مكان وجود النار التي(20/95)
رآها من بعيد، ناداه ربه من جانب الوادي الأيمن، أي عن يمين موسى من ناحية الغرب، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص 28/ 44] مما يدل على أنه قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه.
ناداه ربه في البقعة المباركة من ناحية الشجرة: يا موسى، إني أنا الله رب العالمين، إني أنا ربك فاخلع نعليك، إنك بالوادي المقدس طوى، أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين، الفعال لما يشاء، لا إله غيره، ولا رب سواه، تنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
ووصف البقعة بكونها مباركة، لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه. ومن الأولى: مِنْ شاطِئِ والثانية: مِنَ الشَّجَرَةِ لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة.
وقد خلق الله تعالى في موسى أثناء ذلك علما يقينيا بأن ذلك الكلام هو كلام الله، وسمع الكلام القديم من الله تعالى، لا من الشجرة، على رأي أبي الحسن الأشعري، وسمع الصوت والحرف المخلوق في الشجرة والمسموع منها، على رأي أبي منصور الماتريدي.
ثم أيده بمعجزتين هما:
أولا- وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ونودي بأن ألق عصاك التي في يدك، فألقاها فصارت حية تسعى، فعرف وتحقق أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات أو ثعبان، لسرعة حركتها، أو شبهها بالجانّ من حيث الاهتزاز والحركة، لا من حيث المقدار، ولّى هاربا ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه لأن طبع البشر ينفر من ذلك.(20/96)
فهدّأ الحق تعالى روعه قائلا:
يا مُوسى، أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ، إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي يا موسى ارجع إلى مكانك أو مقامك الأول، ولا تخف من الحية أو الثعبان، فأنت آمن من كل سوء.
ثانيا- اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي أدخل يدك في جيب أو فتحة قميصك العليا من جهة الرأس، ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، ولها شعاع، كأنها قطعة قمر، من غير عيب ولا برص فيها.
وإزالة لخوفه من الآيتين المعجزتين السابقتين قال تعالى له:
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي وضع يدك على صدرك، يذهب عنك ما تجده من الخوف، فكان إذا خاف من شيء ضم إليه يده، فإذا فعل ذلك ذهب ما طرأ عليه من الخوف. وقوله: مِنَ الرَّهْبِ أي من أجل الرهب.
وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده أو يخيفه، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة سبحانه.
قال ابن عباس: كل خائف إذا وضع يده على صدره، زال خوفه.
فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي فتلك الآيتان المعجزتان وهما إلقاء العصا وجعلها حية تسعى، وإدخال يدك في جيبك، فتخرج بيضاء من غير سوء، هما دائما دليلان قاطعان واضحان على قدرة الله وصحة نبوتك، يؤيدانك في رسالتك إلى فرعون وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع، إنهم قوم خارجون عن طاعة الله، مخالفون لأمره ودينه، فكانوا جديرين بإرسالك إليهم مؤيدا بهاتين المعجزتين.(20/97)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
1- يسير المهيّؤون للنبوة بتوجيه وإلهام من الله تعالى، فلما انتهي موسى من الوفاء بما عاهد عليه شعيب من رعي غنمه مهرا للزواج بابنته، اتجه عائدا مع زوجته إلى مصر، في ليلة ظلماء شاتية باردة، مشيا من دون راحلة في الإياب كما كان الحال في الذهاب من مصر إلى مدين، وكان قد أتم أكمل الأجلين، عملا بخلق النبوة، وأخذا بالأكمل، كما ثبت في الخبر عن نبينا عليه السلام.
وفي أثناء الطريق الذي أخطأه وفي شدة البرد التي ألمت به وبأهله رأى نارا من بعيد، فطلب من أهله المقام في المكان الذي وقفا فيه، وبادر إلى الإتيان بشعلة نار أو قطعة جمر للتدفئة، وللسؤال من أهل النار عن الطريق.
2- دل قوله: وَسارَ بِأَهْلِهِ على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوامة وزيادة الدرجة، إلا أن يلتزم لها أمرا، فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به شروط الزواج.
3- كان ترائي النار استدعاء من رب الكون لمائدة تكليم رب العزة وإيتائه النبوة والرسالة، وهنيئا لموسى عليه السلام بتلك الدعوة التي هي أكرم وأشرف دعوة على الإطلاق، إذ صار بضيافتها كليم الله، ورسول رب العالمين إلى عظيم الطغاة فرعون وحاشيته.
4- ناداه ربه بكلام لطيف في بقعة مباركة من شاطئ الوادي المقدس الأيمن: على يمين موسى، طوى من ناحية شجرة، على الجانب الغربي اتجاها، من جبل الطور، وكان مطلع النداء التعريف بالمنادي: إني أنا الله رب العالمين. وهذا نفي لربوبية غيره سبحانه.(20/98)
فصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل، لا من رسله لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة، وقد أمر بها بعد هذا الكلام وهو: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي من المرسلين لقوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وقوله إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ 5- أيده الله بمعجزتي العصا واليد، فخاف منهما لأول وهلة، ثم هدّأ الله روعه، وسكّن خوفه، وأعاده بعد الهرب إلى ساحة المناجاة مع ربه، وجعل له علاجا للخوف بضم يده إلى صدره، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون، وإما من الثعبان، فأوحى الله له: إذا هالك أمر يدك وشعاعها، فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت.
6- قدمنا قول ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده، فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. وهكذا تكون محن الأنبياء عليهم السلام دائما فرجا ومخرجا للأمة. وبه تبين الهدف من قوله:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وهو خروج اليد بيضاء، ومن قوله: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وهو إخفاء الرهب.
وقد تساءل الزمخشري ثم الرازي بقوله: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وفي الآخرة مضموما إليه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل من اليدين جناح «1» .
__________
(1) الكشاف: 2/ 473، تفسير الرازي: 24/ 247 وما بعدها.(20/99)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
- 6- نبوة هارون وتكذيب فرعون
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
الإعراب:
يُصَدِّقُنِي بالرفع وصف ل رِدْءاً. وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر بتقدير حرف الشرط، أو على أن جزم القاف لكثرة الحركات، كقولهم في: عضد: عضد، والوجه الأول أوجه.
بِآياتِنا متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا، أو متعلق ب نَجْعَلُ أي نسلطكما بها.
بَيِّناتٍ حال إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الهاء: ضمير الأمر والشأن.
البلاغة:
يُصَدِّقُنِي يُكَذِّبُونِ بينهما طباق.
سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ مجاز مرسل عن التقوية، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب لأن شد العضد يستلزم شد اليد، وشد اليد مستلزم للقوة.(20/100)
المفردات اللغوية:
إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً هو القبطي (المصري، الفرعوني) أَنْ يَقْتُلُونِ أي به أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أبين رِدْءاً معينا يُصَدِّقُنِي بتوضيح ما قلته، وتقرير الحجة وإقامة الأدلة، ومجادلة المشركين وتزييف الشبهة.
سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به ونعينك به، والعضد: ما بين المرفق إلى الكتف سُلْطاناً غلبة وتفوقا أو حجة قوية فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بسوء بَيِّناتٍ واضحات مُفْتَرىً مختلق فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي كائنا في أيامهم رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ أي عالم يعلم أني محق وأنتم مبطلون والضمير في عِنْدِهِ عائد للرب وَمَنْ معطوف على بِمَنْ المتقدمة عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة في الآخرة، والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأن الدنيا خلقت جسرا للآخرة، والمقصود منها بالذات: هو الثواب والعقاب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في الآخرة، والظالمون:
الكافرون.
المناسبة:
بعد أن قال الله سبحانه: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ علم موسى عليه السلام أنه يذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، فطلب من الله تعالى ما يقوي قلبه، ويزيل خوفه من فرعون، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا، فأجابه الله إلى طلبه.
وكان الرسولان موسى وهارون محاجين فرعون في الربوبية بحجة ساطعة، فلم يكن منه إلا المكابرة والعناد، والافتراء والاتهام الزائف بأن المعجزتين سحر مختلق.
التفسير والبيان:
لما أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون، الذي خرج من ديار مصر فرارا منه، وخوفا من سطوته:(20/101)
قالَ: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً، فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي قال موسى:
يا ربّ كيف أذهب إلى فرعون وقومه، وقد قتلت منهم فرعونيا، فأخاف إذا رأوني أن يقتلوني ثأرا منهم.
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي إن أخي هارون أفصح لسانا مني، وأحسن بيانا بسبب ما في لساني من لثغة أو عقدة من حين الصغر حين تناولت الجمرة، لما خيرت بينها وبين التمرة، فوضعتها على لساني، فحصل فيه شدة في التعبير، فاجعل معي هارون أخي رسولا وزيرا ومعينا يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل، ويوضح البراهين والأدلة، ويفنّد الشبهات المثارة من قبل هؤلاء الجاحدين، وإني أخاف أن يكذبوني في رسالتي. ونظير الآية: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 27- 32] .
فأجابه الله تعالى إلى طلبه:
قالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً، فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي قال الرب لموسى: سنقويك ونعزّز جانبك بأخيك الذي سألت أن يكون نبيا معك، كما قال تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 36] وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم 19/ 53] ونجعل لكما حجة قاهرة، وغلبة ظاهرة على عدوكما، فلا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما، بسبب إبلاغكما آيات الله تعالى.
قال بعض السلف عن طلب موسى بعثة أخيه هارون: ليس أحد أعظم منّة على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام، فإنه شفع فيه، حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه، ولهذا قال تعالى في حق موسى: وَكانَ(20/102)
عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً
[الأحزاب 33/ 69] . وقال السدي: إن نبيين وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة.
بِآياتِنا، أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ أي اذهبا بآياتنا، أو نجعل لكما سلطانا، أي نسلطكما بآياتنا، أو لا يصلون إليكما أي تمتنعون منهم بآياتنا، أنت يا موسى وأخوك ومن آمن بكما وتبعكما في رسالتكما الغالبون بالحجة والبرهان لأن حزب الله دائما هم الغالبون.
وتعليق الآيات بالسلطان يجعل انقلاب العصا حية معجزة، ومانعا أيضا من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، ولذا يجوز الوقوف على إِلَيْكُما ويكون في الكلام تقديم وتأخير، كما يجوز الوصل.
ثم أبان تعالى موقف فرعون من محاجة موسى وهارون فقال: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ، قالُوا: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي حين عرض موسى وهارون على فرعون وملئه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة الواضحة والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره، قالوا: ما هذا إلا سحر مفتعل مصنوع، مكذوب موضوع، وما سمعنا بما تدعونا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له في أيام الأسلاف، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى.
وهذا مجرد تمسك بالتقليد الذي لا دليل على صحة العمل به. فأجابهم موسى:
وَقالَ مُوسى: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي أجاب موسى فرعون وملأه بقوله: ربي الله الذي لا إله غيره الذي خلق كل شيء ويعلم غيب السموات والأرض أعلم مني ومنكم(20/103)
بالمحق من المبطل، وبمن جاء بالحق الداعي إلى الرشاد، وأهله للفلاح الأعظم، ومن الذي له العاقبة المحمودة في الدنيا بالنصر والظفر والتأييد، وفي الآخرة بالثواب والرحمة والرضوان كقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرعد 13/ 22- 23] وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 42] ، وسيفصل بيني وبينكم، إنه لا يفلح المشركون بالله عز وجل، ولا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع، بل يكونون على ضد ذلك.
وفي الآية أسلوب أدبي رفيع من الخطاب والجدل والمناظرة، فهو لم يعلن أنه المحق وغيره المبطل الضال، وإنما ردد ذلك ليجعل للعقل في النقاش دورا في الحكم النهائي وتغليب الأصح الأصوب، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلم للمشركين: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ 34/ 24] .
كما أن نهاية الآية زجر لهم عن العناد الذي ظهر منهم، وإيماء بأنهم خاسرون في هذا الجدال، وسيكون لهم الخيبة والفشل في المستقبل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- ضرورة التسلح بمختلف القوى المادية والمعنوية عند لقاء العدو، فقد طلب موسى من ربه تأييده بأخيه هارون، ليكون له عونا ووزيرا، ومدافعا ومبينا حجج الله وبيّناته في دعوة فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإنه إذا لم يكن له وزير ولا معين لا يكادون يفقهون عنه، وربما تعرّض لأذى، فيدفعه عنه.
2- إن السؤال المنطقي والدعاء المناسب للحال مستجاب متحقق، لذا أجاب الله طلب موسى عليه السلام، وقال له: سنقويك بأخيك، ونجعل لكما حجة(20/104)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
وبرهانا، فلا يصلون إليكما بالأذى، وتمتنعان منهم بآياتنا، فأنتما وأتباعكما الغالبون عليهم بآياتنا، أي سائر المعجزات.
3- لقد أعمى فرعون وقومه إدراك الحق، فتمسكوا بالمكابرة والعناد، واعتصموا بتقليد الآباء والأسلاف الذي لا حجة ولا دليل عليه، وهذا مذموم عقلا وعادة، لذا قالوا: ما هذه المعجزات إلا سحر مكذوب مفترى، ولم نسمع بدعوة التوحيد والتخلي عن الإشراك في التاريخ الغابر، ولا قيمة لتلك الحجج العقلية التي أوردها موسى لإثبات توحيد الله تعالى!!.
4- لا بد من استعمال الحكمة في الإجابة والجدال والمناظرة للسلاطين والحكام الجبابرة، كفرعون الطاغية، توقيا من الأذى، وتأملا في اللين، والإذعان للحق، لذا كان جواب موسى حكيما حين أعلن أن الله أعلم بمن جاء بالرشاد من عنده سبحانه، ومن المستحق لدار الجزاء، وإنه لا يظفر الظالمون أنفسهم بالشرك والكفر والمعصية بشيء عند الله وفي الآخرة.
- 7- محاجة فرعون في ربوبية الله تعالى وعاقبة عناده مع قومه
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 43]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)(20/105)
الإعراب:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَوْمَ منصوب من أربعة أوجه: إما لأنه مفعول به توسعا، كأنه قال: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما معطوف بالنصب على موضع الجار والمجرور وهو: فِي هذِهِ الدُّنْيا وإما منصوب بما دل عليه قوله: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول، وإما منصوب على الظرف بالمقبوحين، أي وهم من المقبوحين يوم القيامة.
بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً كلها منصوبات على الحال من الْكِتابَ.
البلاغة:
فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ قال الزمخشري (2/ 477) : ولم يقل: اطبخ لي الآجرّ، لأنه أول من عمل الآجرّ، فهو يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة. وأمر هامان- وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين- منادى باسمه بيا في وسط الكلام: دليل التعظيم والتجبر.
بَصائِرَ لِلنَّاسِ تشبيه بليغ، حذفت فيه أداة الشبه ووجه الشبه، أي أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس.
المفردات اللغوية:
هامانُ وزير فرعون فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاصنع لي الآجرّ أي الطوب، قال عمر رضي الله عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجرّ: ما علمت أن أحدا بنى بالآجر(20/106)
غير فرعون صَرْحاً قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أصعد وأرتقي، ثم أنظر إليه وأوقف عليه، كأنه توهم أنه لو كان، لكان جسما في السماء يمكن الترقي إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعائه إلها آخر وأنه رسول.
فِي الْأَرْضِ أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق لا يُرْجَعُونَ بالنشور فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم فِي الْيَمِّ في البحر المالح، فغرقوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ حين صاروا إلى الهلاك. وقوله: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ قال البيضاوي: فيه تفخيم لشأن الآخذ، واستحقار للمأخوذين، كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف، وطرحهم في اليم.
أَئِمَّةً قادة، قدوة للضلال يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يدعون إلى موجبات النار من الكفر والمعاصي وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم لَعْنَةً طردا عن الرحمة، وخزيا الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المبعدين المخزيين.
الْكِتابَ هنا التوراة الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنوار للقلوب في عصرهم، تبصر بها الحقائق، وتميز بين الحق والباطل وَهُدىً إلى الشرائع التي هي سبيل الله تعالى وَرَحْمَةً لمن آمن به لأنهم لو عملوا بالتوراة لنالوا رحمة الله يَتَذَكَّرُونَ يتعظون بما في ذلك الكتاب من المواعظ.
المناسبة:
قوبل موسى وهارون في دعوتهما القوية إلى توحيد الله تعالى بكفرين عظيمين:
الأول- ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي أي نفي إله غيره، وادعاء ألوهية نفسه.
والثاني: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أي محاولة الصعود والارتقاء إلى السماء لرؤية إله موسى. وكل من الأمرين جهل وعتو وطغيان واستكبار، فكانت عاقبته الغرق في الدنيا، والطرد من رحمة الله في الآخرة.
وفي مقابل هذا الكفر آتى الله موسى التوراة نورا وهدى ورحمة.(20/107)
التفسير والبيان:
وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي أي وقال فرعون الطاغية الجبار ملك مصر: يا أيها القوم، لم أعلم بوجود إله غيري، أي إن إله موسى غير موجود، وإنما أنا الإله، كما قال تعالى في آية أخرى حاكيا عنه:
فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات 79/ 23- 26] . دعا قومه إلى الاعتراف بألوهيته، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم، كما قال تعالى:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الزخرف 43/ 54] .
وليس قصده من ادعاء الألوهية كما أبان الرازي «1» كونه خالقا السموات والأرض، وإنما وجوب تعظيمه وعبادته، أي عبادة الملك صاحب السلطة والنفوذ المطلق والانقياد التام لأوامره. وهذا من إغراءات الحكم والسلطان، وغرور الملك والعظمة.
فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فاصنع لي يا هامان الوزير آجرّا، تبني لي به قصرا عاليا جدا، شامخا في الفضاء حتى أصعد به وأرتقي إلى السماء، فأشاهد إله موسى الذي يعبده، توهما منه أنه جسم كالأجسام المادية الأخرى. وإني لأعتقد أنه كاذب في قوله: إن هناك ربا آخر غيري، كما في آية أخرى: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً، وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر 40/ 36- 37] .
وقد أراد فرعون بادعاء الألوهية وبناء أعلى صرح في زمانه التلبيس
__________
(1) تفسيره المعروف بالتفسير الكبير: 24/ 253.(20/108)
والترويج على الناس، والإظهار لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون. ثم ذكر الله تعالى سبب غروره وعناده فقال:
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ أي لقد طغى فرعون وقومه وأتباعه وتجبروا، وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد، ولا حساب ولا عقاب، وكل من توهم ذلك هان عليه الطغيان والاستكبار والاستعلاء في الأرض، ولم يعلموا أن الله رقيب عليهم ومجازيهم بما يستحقون، لذا أبان تعالى عقابهم العاجل في الدنيا بعد تهديدهم بعقاب الآخرة فقال:
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة، فلم يبق منهم أحد، فانظر أيها المتأمل في قدرة الله وعظمته وآياته كيف كان مصير هؤلاء الظالمين الذي ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وادعى كبيرهم الألوهية من دون الله.
ثم ذكر الله تعالى ما يوجب مضاعفة عذابهم فقال:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ أي وجعلنا فرعون وأشراف قومه قادة ضلال في تكذيب الرسل وإنكار وجود الإله الصانع، فلم يكتفوا بضلال أنفسهم، بل قاموا بإضلال غيرهم، فاستحقوا جزاءين: جزاء الضلال والإضلال، ولا أمل لهم في النجاة ونصرة الشفعاء، فهم يوم القيامة لا نصير ولا شفيع لهم ينصرهم من بأس الله ويدفع عنهم عذاب الله، فاجتمع عليهم خزي الدنيا وذل الآخرة، كما قال:
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي وألزمناهم بصفة دائمة في الدنيا لعنة وخزيا وغضبا على ألسنة المؤمنين والأنبياء المرسلين، كما أنهم يوم القيامة من المطرودين المبعدين عن رحمة الله، كما قال تعالى:(20/109)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ، بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود 11/ 99] .
وأما موسى وجند الإيمان بعد إغراق فرعون وقومه، فلهم نور التوراة:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى، بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي لقد أنعم الله على عبده ورسوله موسى الكليم عليه السلام بإنزال التوراة بعد ما أهلك فرعون وقومه ومن تقدمهم من قوم نوح وهود وصالح ولوط، ليكون ذلك الكتاب مصدر إشعاع للحياة وأنوارا للقلوب، يميز به بين الحق والباطل، وهداية من الضلال والعمى، ورحمة لمن آمن به، وإرشادا إلى العمل الصالح، لعل الناس يتذكرون به ويتعظون، ويهتدون بسببه.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى، ثم قرأ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- نفي فرعون ألوهية الله عز وجل وادعاؤه الألوهية، قال ابن عباس:
كان بين قوله: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وبين قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أربعون سنة، وكذب عدو الله، بل علم أن له ثمّ ربّا هو خالقه وخالق قومه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
2- بناء أعلى صرح شامخ للصعود إلى الله ورؤيته، فخاب وضل وخسر.
3- تعاظم فرعون وجنوده عن الإيمان بموسى ظلما وعدوانا دون أن تكون(20/110)
لهم حجة تدفع ما جاء به موسى، وتوهموا أنه لا معاد ولا بعث. ويقابل الاستكبار بالباطل الاستكبار بالحق الذي هو لله تعالى، فهو المتكبر في الحقيقة، المبالغ في كبرياء الشأن،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه فيما رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحة عن أبي هريرة وابن عباس: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار، ولا أبالي» .
4- بالرغم من أن فرعون وقومه كانوا عارفين بوجود إله هو الله تعالى، كما تبين، إلا أنهم كانوا ينكرون البعث: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فلأجل ذلك تمردوا وطغوا.
5- كان عقابهم في الدنيا الإغراق في البحر المالح وهو البحر الأحمر، في صبيحة يوم واحد، بل في دقائق معدودة، وإلزامهم اللعن أي البعد عن الخير، وفي الآخرة هم من المطرودين، المبعدين عن رحمة الله، الممقوتين.
6- لهم عقاب مضاعف إذ كانوا في ضلال وأئمة ضلال ودعاة إلى عمل أهل النار، وزعماء كفر، يدعون الناس إلى الكفر ويتبعونهم فيه، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أشد وأكثر،
جاء في الحديث النبوي الذي رواه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي: «من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
7- البقاء للأصلح، فقد نجى الله موسى وقومه، وأنزل عليه التوراة منارا للحق وتبصرا به، وهدى من الضلالة إلى الرشاد، ورحمة للمؤمنين بها، لعل الناس يتعظون ويرجعون إلى ربهم من قريب، ويذكرون هذه النعمة، فيؤمنوا في الدنيا، ويثقوا بثواب الله في الآخرة. قال يحيى بن سلّام: هو أول كتاب- يعني التوراة- نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام.(20/111)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
وكان إنزال التوراة بعد إهلاك القرون الأولى (الأمم الماضية المكذبة) مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وقيل: من بعد إغراق فرعون وقومه وخسف الأرض بقارون، ولعل ذلك إشعار بشدة الحاجة إليها، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها، وحاجة الناس إلى تشريع جديد ينظم لهم شؤون حياتهم.
الحاجة إلى إرسال الرسل وبعثة محمد صلّى الله عليه وسلم
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
الإعراب:
تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا خبر ثان ل كُنْتَ.
وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رَحْمَةً: إما منصوب على المصدر، وإما مفعول لأجله، أي ولكن فعل ذلك لأجل الرحمة، وإما خبر كان مقدرة، أي ولكن كان رحمة من ربك.
البلاغة:
أَنْشَأْنا قُرُوناً مجاز عقلي، أريد به: أمما في تلك الأزمنة، والعلاقة زمانية.
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ جناس اشتقاق. وقوله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ حذف منه الجواب لدلالة السياق عليه، أي ولولا خشية وقوع المصيبة بهم ما أرسلناك يا محمد رسولا إليهم، فهو إيجاز بالحذف.(20/112)
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، أريد به بما كسبوا لأن أكثر الأعمال تزاول بالأيدي.
المفردات اللغوية:
وَما كُنْتَ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي ما كنت حاضرا بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي بجانب الجبل أو الوادي أو المكان الغربي من موسى حين المناجاة، فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى إِذْ قَضَيْنا أوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي أمر الرسالة إلى فرعون وقومه، والمعنى: كلفناه وعهدنا إليه بالرسالة أمرا ونهيا وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين لما حدث، فتعلمه وتخبر به.
أَنْشَأْنا قُرُوناً أوجدنا أمما مختلفة من بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي بعد الأمد وطال عمرهم، فنسوا العهود، وحرّفت الأخبار، وتغيرت الشرائع، واندرست العلوم، وانقطع الوحي. وحذف المستدرك بعد لكِنَّا وأقام سببه مقامه وتقديره: فجئنا بك رسولا، وأوحينا إليك خبر موسى وغيره ثاوِياً مقيما، يقال: ثوى بالمكان يثوي به: أقام أَهْلِ مَدْيَنَ قوم شعيب تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرأ عليهم آياتنا التي فيها قصتهم، فتخبر بها بعد معرفتها كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك ومخبرين لك بها، أي أرسلناك بالرسالة المتضمنة أخبار المتقدمين.
بِجانِبِ الطُّورِ جبل الطور إِذْ نادَيْنا حين نادينا موسى أن خذ الكتاب بقوة وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن علمناك وأرسلناك رحمة من ربك لِتُنْذِرَ قَوْماً هم أهل مكة وغيرهم يَتَذَكَّرُونَ يتعظونالأولى امتناعية مُصِيبَةٌ عقوبة أو عذاب في الدنيا والآخرة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بما كسبوا من الكفر والمعاصيأَرْسَلْتَ أي هلا، وهي تحضيضية، تفيد الحث على حدوث ما بعدها فَنَتَّبِعَ آياتِكَ المرسل بها، وجواب لولا محذوف، أي لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم، لما أرسلناك رسولا. والمراد أن إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وكل رسول قبله كان لقطع أعذار الناس، وإبطال احتجاجهم بعدم الاعلام والتبليغ.
المناسبة:
بعد أن قص الله تعالى قصة موسى وهارون مع فرعون وقومه وما تضمنه من غرائب الأحداث والعبر، وأوحى الله تعالى بجميع تلك الأخبار إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، ذكّره بإنعامه عليه بذلك وبما خصه من المغيبات التي لا يعلمها، لا هو ولا قومه، وأبان الحاجة إلى رسالته، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد(20/113)
الرسل. وكل ذلك برهان على أن القرآن وحي من عند الله، وعلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث أخبر بالغيوب الماضية وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب.
التفسير والبيان:
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وما كنت يا محمد حاضرا بجانب المكان أو الجبل الغربي- غرب موقف موسى حين كلم الله موسى، وأوحى إليه أمر الرسالة، وأعطاه ألواح التوراة، وألزمه العهد، وما كنت من الحاضرين لذلك، فتعلمه وتخبر به.
ولكنا أعلمناك بخبره ليكون برهانا على نبوتك، إذ تخبر بأخبار الماضين كأنها واقعة أمامك، وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب، مما يدل على كون ذلك الإخبار بوحي من عند الله تعالى، ثم بين سبب ذلك الإخبار:
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي والسبب الداعي إلى الإخبار عن الماضين وإنزال الوحي مجددا في القرآن الكريم وجود أمم كثيرة من بعد موسى، بعد بها الأمد، وطال عليها العهد، فاندرست العلوم، وتغيرت الشرائع، ونسي الناس حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين، فجئنا بك يا محمد رسولا تجدد العهد الإلهي، وتبين للناس رسالة الله إليهم، كما قال سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ، قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة 5/ 19] .
والآية تنبيه على المعجزة، إذ الإخبار عن قصة مضى عليها مئات السنوات، دون مشاهدة ولا حضور لأحداثها، دليل واضح على نبوة المخبر، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتلا ذلك مؤيدات أخرى مشابهة:(20/114)
1- وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي وما كنت مقيما بين قوم شعيب في مدين، تقرأ عليهم آياتنا المنزلة، حين أخبرت عن النبي شعيب عليه السلام وما قال لقومه وما ردوا عليه، ولكن- ذات الجلالة- نحن أوحينا إليك ذلك، وأرسلناك للناس رسولا، وأيدناك بهذه الآيات المعجزات، لتكون برهانا على صحة نبوتك وصدق رسالتك، ولولا خبر الوحي ما علمت بذلك ولا أخبرت أحدا بشيء.
2- وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي وما كنت يا محمد أيضا بجانب جبل الطور حين مناداة موسى وتكليمه ومناجاته، حتى تعرف تفاصيل الخبر وتحدث بين الناس. وهذا شبيه بقوله المتقدم: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ولكنه ورد بصيغة أخرى أخص مما سبق وهو النداء، أي مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه «1» .
ولكن علمناك وأخبرناك وأنزلنا عليك القرآن المتضمن تلك الأخبار وغيرها، وأرسلناك رحمة مهداة منه بك وبالعباد المرسل إليهم، لتنذر قوما هم العرب لم ينذروا قبل، بأس الله وعذابه إن لم يؤمنوا به، وظلموا على وثنيتهم وضلالهم، لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل، فيصيروا من أهل السعادة.
والثابت تاريخيا أنه لم يأت إلى العرب رسول بعد إسماعيل عليه السلام، وأما رسالة موسى وعيسى فكانت خاصة ببني إسرائيل فقط.
__________
(1) الظاهر أن الله تعالى كلم موسى مرتين: مرة حين البعثة، ومرة حين اختار سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل للميقات ليظهروا توبتهم من عبادة العجل، ولما كلمه الله وهم يسمعون كلام الله تمردوا وعصوا وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.(20/115)
ثم صرح الله تعالى بسبب إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَيَقُولُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولولا قول الناس ومنهم العرب إذا أصابتهم مصيبة العذاب على كفرهم: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يبين لنا صحة الاعتقاد أو التوحيد، ونظامك الشرعي للحياة، فنؤمن بك ربا واحدا، ونعمل بشريعتك، ما أرسلناك للناس رسولا.
ولكنا بعثناك رسولا نذيرا تقيم عليهم الحجة، وتبلغهم رسالة ربهم في العقيدة والأخلاق ودستور الحياة، وتقطع عذرهم وتبطل حجتهم بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير، كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء 4/ 165] وقال سبحانه: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ.. [الأنعام 6/ 156- 157] . وهذا كله من رحمة الله بعباده ألا يعذب إنسانا إلا بعد بيان، ولا يعاقب إلا بعد تكليف وإرسال رسول.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات موضوعين:
الأول- إقامة بعض الأدلة على كون القرآن موحى به من عند الله وعلى صحة نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم: وهي الإخبار عن أحوال الأنبياء المتقدمين وقصصهم مع أقوامهم. وخص بالذكر قصتين: هما أولا- مناجاة الله موسى وتكليمه في جبل الطور في المكان الغربي من موقف موسى في الوادي المقدس طوى، حيث(20/116)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
بعثه رسولا، وأنزل عليه ألواح التوراة، وثانيا- قصة شعيب مع قومه أهل مدين.
ولولا الإخبار القرآني بذلك، ما علم بالخبر محمد صلّى الله عليه وسلم وقومه العرب ومنهم أهل مكة، وإنما فعل تعالى ذلك رحمة منه برسوله صلّى الله عليه وسلم وبعباده، لينذرهم بها، وينذر العرب الذين لم يشاهدوا تلك الأخبار.
الثاني- بيان الحكمة من إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بل وكل الرسل: وهي تبليغ شريعة الله ووحيه، وتصحيح العقيدة، وإعلان كلمة التوحيد، حتى لا يبقى لهم عذر بالجهل بالأحكام أو الاعتقاد بعد بلوغ خبر الرسل لهم، وإكمال البيان، وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان وإقامة الحجة وبعثة الرسل.
وهذا يدل على مبلغ الحاجة الداعية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.
تكذيب أهل مكة بالقرآن وبرسالة النبي صلّى الله عليه وسلم.
[سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 51]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُواأُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)(20/117)
البلاغة:
أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسىهنا: أي هلا للتحضيض، لا لامتناع الوجود.
قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ يراد بالأمر هنا التعجيز.
المفردات اللغوية:
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل على محمد الرسول المؤيد بالمعجزات.
أُوتِيَ هلا. مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما والكتاب جملة واحدة. أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أولم يكفر أمثالهم من بني جنسهم في الرأي والمذهب، وهم كفرة زمان موسى، وكان فرعون عربيا من أبناء عاد. قالُوا: سِحْرانِ أي القرآن والتوراة، وقرئ: ساحران، أي موسى وهارون أو موسى ومحمد. تَظاهَرا تعاونا وتناصرا. وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ أي من النبيين والكتابين. كافِرُونَ جاحدون.
هُوَ أَهْدى مِنْهُما من الكتابين، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين: موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. صادِقِينَ في قولكم: إنا ساحران مختلفان، ويراد بذلك الإلزام والتبكيت. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي لدعائك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدّي إليه حذف الدعاء غالبا، والمراد: فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به. يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ في كفرهم، إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ.. استفهام بمعنى النفي. بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ في موضع الحال للتأكيد، أو التقييد، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى. وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير، فنزل القرآن منجما مفرقا يتصل بعضه ببعض، ويتبع نزول الكتب المتقدمة. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون فيؤمنوا ويطيعوا.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن كفار مكة وغيرهم أنهم عند الخوف من المصيبة(20/118)
قالوا: هلا أرسلت إلينا رسولا، فنتّبع آياتك، بيّن أنه بعد إرسال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم إلى أهل مكة قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل، فكفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة محمد، وتعلقوا بشبهة قبل البعثة، وبعد البعثة، مما يدل على أنه لا قصد لهم سوى الزيغ والعناد، لذا طلبوا معجزات مادية كمعجزات موسى كاليد والعصا، وقد كفر أمثالهم المعاندون قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات، ووصفوه بالسحر، فإن استطاعوا الإتيان بكتاب آخر غير كتابي موسى ومحمد، فليأتوا به، وما أنزل القرآن منجما إلا لتجديد الذكرى والعبرة.
التفسير والبيان:
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي حينما جاء الحق من عند الله وهو القرآن المنزل على رسول الله، قال أهل مكة الذين لم يأتهم رسول من قبل، على وجه التعنت والعناد والتمادي في الكفر والجهل والضلال: هلا أوتي محمد مثلما أوتي موسى قبله من المعجزات والآيات الكثيرة مثل العصا واليد وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى وانفجار الماء من الحجر، ونحو ذلك من الآيات الباهرة التي أجراها الله على يدي موسى حجة وبرهانا له على فرعون وقومه وبني إسرائيل.
ولكن هذا مجرد عناد ومكابرة وتهرب من الإيمان:
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أولم يكفر أمثالهم من البشر المعاندين بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة، وهم الذين كفروا في زمان موسى بما جاء به، فهذا شأن المكابرين المعاندين دائما.
قالُوا: سِحْرانِ تَظاهَرا، وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أي قال هؤلاء القوم المشركون في مكة: القرآن والتوراة سحران، ومحمد وموسى ساحران، تعاونا على التدجيل والتضليل، وصدّق كلّ منهما الآخر، وإنا بكلّ منهما(20/119)
كافرون، لا نصدق بما جاءا به.
فتحداهم الله بأن يأتوا بكتاب آخر أهدى للبشر:
قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل يا محمد لقومك: ائتوا بكتاب آخر من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن، وأكثر نفعا وهداية، لكي أتبعه مع غيري، إن كنتم صادقين فيما تقولون أو تدّعون، وتدافعون به الحق، وتعارضون به من الباطل.
وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق، ولم يفعلوا ما كلفتهم به من الإيمان بالقرآن وبرسالتك، فاعلم أنهم في عقائدهم الباطلة يتبعون أهواءهم بلا دليل ولا حجة، فهم جماعة أهواء.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً أي وليس هناك أشد ضلالا عن طريق الهدى والرشاد ممن سار مع هواه، وانقاد لشهواته بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، ولم يقم له دليل صائب عن الله، وهذا دليل على بطلان أو فساد التقليد في العقائد، وأنه لا بدّ من الحجة والاستدلال.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إن الله لا يوفق للحق والرشاد الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان، وتكذيب الرسل، واتّباع الأهواء. وهذا عام يتناول كل كافر.
وأما حكمة إنزال القرآن منجما فهي:
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي ولقد أتبعنا بعض القرآن بعضا في النزول لقريش، حسبما تقتضي الحكمة، وتدل عليه المصلحة، ويلائم كل(20/120)
عصر وأوان، لعلهم وأمثالهم من البشر يتعظون ويتنبهون إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، فيؤمنوا بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه، وهو مصدّق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- إن خطة الكفار واحدة في كل زمان، دأبهم المكابرة والعناد والإنكار، وطلب المعجزات المادية المحسوسة، فإنه بالرغم من حدوثها لن يؤمنوا لأن المكذب بمعجزة واحدة مكذب بكل المعجزات.
وإذا نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم مثل معجزات موسى عليه السلام كانقلاب العصا حية، واليد البيضاء، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانفجار الحجر بالماء، وإنزال المنّ والسلوى، وكتابة الألواح في التوراة، وتكليم الله له، وإنزال القرآن جملة واحدة كالتوراة، إذا نزل مثل ذلك فهم معتصمون بالكفر مقيمون عليه.
2- إن حجة الكفار في تكذيب كتب الله ورسله واحدة أيضا، وهي الاتهام بأن تلك الكتب سحر مختلق، وأولئك الرسل سحرة مبطلون، بل إنهم متواطئون على السحر والتدجيل، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
3- إن اليهود علّموا المشركين أن يقولوا لمحمد صلّى الله عليه وسلم: لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة. وهؤلاء اليهود الذين توارثوا الكفر هم الذين كفروا بما جاء به موسى من قبل، فقالوا في موسى وهارون: هما ساحران، فقلدهم كفار قريش وقالوا عن موسى ومحمد مثل ذلك القول، واتفق الفريقان على الكفر بكلّ من التوراة والإنجيل والقرآن، وعلى الكفر بموسى وعيسى ومحمد على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.(20/121)
4- يقابل التحدي والعناد بتحدّ أشد منه، فإذا كفرتم معاشر اليهود والمشركين بكتب الله المنزلة على رسله، فأحضروا كتابا أهدى منها يتبعه الناس، ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر، ومسوغا لما أنتم عليه، إن كنتم صادقين في أن تلك الكتب سحر مفترى، وقد مهر اليهود والعرب بالسحر.
5- إذا لم يؤمن الناس بهذا القرآن ولم يأتوا بكتاب من عند الله، فهم أهل ضلال وأهواء، يتبعون ما تملي عليهم شهواتهم وآراؤهم الخاصة وشياطينهم، دون حجة لهم ولا دليل.
6- لا أحد أضل ممن سار مع هواه، فهو ظالم، والله لا يوفق الظالمين للخير، وهداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين.
7- لقد تتابع إنزال الكتب من عند الله، وإرسال الرسل، وأخبار الأنبياء بعضها ببعض، كتابا بعد كتاب، ورسولا بعد رسول، وخبرا بعد خبر، وتتابع أيضا نزول القرآن منجما مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، وعلى وفق الحكمة والمصلحة، ليستمر صوت التذكير والتنبيه، وتتجدد الدعوة إلى الإيمان حالا بعد حال، وزمانا إثر زمان.
ثم خلد الله صوت الحق الإلهي بهذا القرآن، وجعله ذكرى متجددة دائمة للأجيال، بما تكفل له من الصون والحفظ عن التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، وبما اشتمل عليه من التنوع في الأسلوب والخطاب وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ونصائح ومواعظ، إرادة أن يتذكر الناس به فيؤمنوا به ويعملوا بموجبه، فيفلحوا، ويقلعوا عن اتباع الأديان الباطلة المنسوخة، وعن الأهواء والشهوات البائدة الفارغة، والوثنية البدائية المنافية لكرامة الإنسان، والمصادمة للعقل البشري السوي.(20/122)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
8- لا يقبل التقليد في العقائد، وإنما لا بدّ من غرس العقيدة بالحجة والبرهان.
9- نبّه القرآن بتحدي العرب وغيرهم الإتيان بمثله على عجز محاكاته على الدوام، وأنه كتاب موحى به من عند الله تعالى، فهو حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] .
10- تنطق الآيات جملة وتفصيلا بالدلالة على نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم.
إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
المفردات اللغوية:
مِنْ قَبْلِهِ أي قبل القرآن، بدليل قوله الآتي: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ أي صدقنا بأنه كلام الله تعالى. مُسْلِمِينَ منقادين خاضعين لله تعالى. يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بالكتابين: كتابهم والقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم على العمل بهما. وَيَدْرَؤُنَ يدفعون. بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي بالطاعة المعصية،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذرّ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» .
يُنْفِقُونَ يتصدقون.
اللَّغْوَ هو الساقط من القول، والمقصود به هنا الشتم والأذى من الكفار. أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرما. سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام متاركة لهم وتوديع أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه.
لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم ولا نريدها، ولا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل، فنعاملكم بالمثل.(20/123)
سبب النزول: نزول الآية (52) :
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ: أخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم رفاعة- يعني أباه- إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فآمنوا فأوذوا، فنزلت: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. وأخرج أيضا عن قتادة قال:
كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق، حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، فآمنوا به، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام.
وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ عليهم: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا «1» .
وعلى كل حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الدليل على أن القرآن وحي من عند الله، وعلى صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، أكد ذلك بأن جماعات من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وحده قبل نزول القرآن، أسلموا وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، حين اقتنعوا بصدقه وصحة ما أنزل عليه، فكان غير أهل الكتاب أولى بالإيمان أو الإسلام.
التفسير والبيان:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ أي إن جماعة من علماء أهل الكتاب الأولياء الأصفياء، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا النبي محمدا صلّى الله عليه وسلم، آمنوا بالقرآن، لمطابقته لأصول كتبهم المتقدمة، وبشارة تلك
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 393 [.....](20/124)
الكتب بمحمد وتطابق الأوصاف عليه. فقوله: مِنْ قَبْلِهِ أي قبل القرآن.
وهُمْ بِهِ أي بالقرآن أو بمحمد صلّى الله عليه وسلم أو بهما معا يصدّقون.
وللآية نظائر كثيرة منها: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة 2/ 121] ، ومنها: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران 3/ 199] ، ومنها: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ: سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الإسراء 17/ 107- 108] .
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أي وإذا قريء عليهم القرآن، قالوا: صدقنا به، وآمنا بأنه الكلام الحق الصدق الثقة من ربّنا، وكنا مصدقين بالله مسلمين له أي موحدين، مخلصين لله، مستجيبين له، من قبل نزول هذا القرآن، أو من قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم.
وهذا دليل على قدم إيمانهم، لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدم النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، فمدحهم تعالى بهذا المدح العظيم وقال:
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول وهو كتابهم، ثم بالثاني وهو القرآن لهم ثواب مضاعف مرتين، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمانين، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس، فإنهم لم يأبهوا بإيذاء قومهم.
ونظير الآية: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد 57/ 28] ،
وورد في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن(20/125)
بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة، فأدّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها» .
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتاب، فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا» .
وبعد أن مدحهم الله تعالى بالإيمان أولا، أثنى عليهم بالطاعات البدنية في قوله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ثم بالطاعات المالية في قوله:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم باشتغالهم بالطاعات والأفعال والأخلاق الحسنة في قوله: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ فقال:
- وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون السيئة بالحسنة، فلا يقابلون السيء بمثله، ولكن يعفون ويصفحون.
- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من رزق الله الحلال في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم، ويؤدون الزكاة المفروضة، والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات.
- وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي وإذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام وهو الساقط من القول من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب، أعرضوا عن أهله، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم، بل كانوا كما قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان 25/ 72] .
وقالوا إذا سفه عليهم سفيه، وكلّمهم بما لا يليق: لنا أعمالنا فنحن المسؤولون عنها ثوابا وعقابا، ولكم أعمالكم عليكم تبعاتها، لا نرد عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، أو سلمكم الله مما أنتم فيه، لا نريد اتباع طريق(20/126)
الجاهلين ولا نحبها ولا نصاحب أهلها، ونؤثر الكلام الطيب، ولا نقابل الكلام القبيح بمثله. ونظير الآية وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] قال الحسن رحمه الله عن كلمة سَلامٌ عَلَيْكُمْ: هذه الكلمة تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين.
روى محمد بن إسحاق في سيرته: أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن.
فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به، وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم.
فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.
ويقال: إن هؤلاء النفر النصارى من أهل نجران «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 394، وهو مروي عن عروة بن الزبير.(20/127)
1- إذا كان الإيمان بالله صحيحا منسجما مع الوحي الثابت الصحيح، سهل التقاء رافدي الإيمان، وتيسر الدمج بين الإيمانين، إن تجرد الإنسان عن العصبية والهوى، والمصلحة الذاتية، والنفع المادي. وهذا ما تحقق لجماعة من أهل الكتاب من بني إسرائيل، آمنوا بالله ربّا واحدا لا شريك له قبل القرآن بمقتضى كتابهم السماوي، ثم آمنوا بالقرآن، لمطابقته مع أصل ذلك الكتاب المتقدم، وهؤلاء كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، ومن أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام، وكانوا أئمة النصارى، منهم بحيرا الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. وقيل: أكثر من ذلك.
2- هؤلاء المؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب يضاعف لهم الثواب أو الأجر مرتين: مرة لإيمانهم بكتابهم، ومرة لإيمانهم بالقرآن بسبب صبرهم على الأذى الذي يلقونه من الكفار.
3- المؤمن الكامل الإيمان شأنه الاشتغال بمرضاة الله تعالى، فيبادر إلى الطاعات البدنية والمالية، ويتحلى بالخلق الفاضل، وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب بأنهم يقابلون السيئة بالحسنة، أي بالاحتمال والعفو والصفح والكلام الحسن، وهذا من مكارم الأخلاق، وينفقون من أموالهم في الطاعات والقربات، فيحسنون إلى البائسين والمعوزين، وفي ذلك حضّ على الصدقات، ويعرضون عن لغو الكلام، فلا يتكلمون بالكلام القبيح، وإنما ينطقون دائما بالكلام الطيب، فإذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم، أعرضوا عنه، أي لم يشتغلوا به،
قال صلّى الله عليه وسلم لمعاذ في حديث أبي ذر المتقدم والمروي أيضا عن معاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»
ومن الخلق الحسن: دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا، بالإعراض عنه ولين(20/128)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
الحديث، وهذا مؤيد لمعنى الآية: وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام متاركة ومفارقة، لنا ديننا ولكم دينكم، فهذا ليس من التحية في شيء.
ولا نبتغي الجاهلين، أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة، ولا نرغب في مصاحبتهم، ولا نودّ معاشرتهم، ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم.
الرد على شبهات المشركين
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 61]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)(20/129)
الإعراب:
رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا مفعول لأجله.
وَكَمْ أَهْلَكْنا كَمْ: منصوبة ب أَهْلَكْنا.
بَطِرَتْ مَعِيشَتَها منصوب بحذف حرف الجر، أي بطرت في معيشتها، ولا يجوز نصبه على التمييز، لأن التمييز لا يكون إلا نكرة، ومعيشتها: معرفة.
البلاغة:
إِنَّكَ لا تَهْدِي وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بينهما طباق السلب.
حَرَماً آمِناً مجاز عقلي، نسب الأمن إلى الحرم، وهو لأهله، وعلاقته المكانية.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً ... أورد الكلام بصيغة الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا.
المفردات اللغوية:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته، أي لا تقدر أن تدخله في الإسلام. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيدخله في الإسلام، والهداية نوعان: الدلالة والإرشاد إلى الخير، والتوفيق بعد توافر أصل الهداية. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ عالم بالمستعدين للهداية. وَقالُوا أي قريش. نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ننتزع منها بسرعة، أي نخرج من البلاد. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن من الإغارة والقتل، بحرمة البيت الذي فيه ويتناحر العرب حوله، وهم آمنون فيه. يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه ويجمع فيه، جبى الماء: جمعه، والجابية: الحوض العظيم. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل مكان. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا رزقا لهم من عندنا. لا يَعْلَمُونَ أن ما نقوله حق، فهم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا. والمعنى المراد: فإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف نعرّضهم للخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي كم من أهل قرية كانت حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. فقوله: بَطِرَتْ مَعِيشَتَها من البطر: وهو الأشر وقلة احتمال النعمة، والمراد من بطرت: بغت وتجبرت ولم ترع حق الله في زمن معيشتها. إِلَّا قَلِيلًا أي لم تسكن إلا فترات قليلة للمارة يوما أو بعضه، من شؤم معاصيهم.
وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم، إذ لم يخلفهم أحد في ديارهم وتصرفاتهم.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته. أُمِّها أصلها وعاصمتها (قصبتها) وأعظمها.(20/130)
رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو في الكفر. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أسباب الدنيا. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي تتمتعون وتتزينون به أيام حياتكم ثم يفنى. وَما عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه. خَيْرٌ في نفسه من ذلك، لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. وَأَبْقى أدوم وأبدي. أَفَلا تَعْقِلُونَ تتفكرون، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرئ يعقلون وهو أبلغ في الموعظة. وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً وعدا بالجنة، فإن حسن الوعد بحسن الموعود. فَهُوَ لاقِيهِ مدركه لا محالة، لامتناع الخلف في الوعد، ولذلك عطفه بالفاء المتضمنة معنى السببية.
كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي يزول عن قريب، ويختلط بالآلام والمتاعب.
مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعذاب بالنار، وقوله: ثُمَّ للتراخي في الزمان أو الرتبة. والمراد بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ المؤمن، وبقوله: كَمَنْ مَتَّعْناهُ الكافر، أي لا تساوي بينهما، وهذه الآية كالنتيجة التي قبلها، ولذلك رتب عليها بالفاء.
سبب النزول:
نزول الآية (56) :
إِنَّكَ لا تَهْدِي:
أخرج مسلم وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش، يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وأخرج النسائي وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ في أبي جهل وأبي طالب؟ قال: نعم.
نزول الآية (57) :
وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناسا من قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن نتبعك تخطفنا الناس، فنزلت.(20/131)
وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك، وعبارته- كما في البيضاوي-: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب- وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلو العدد- أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى الآية.
نزول الآية (61) :
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ: أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ الآية، قال: نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه: أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.
المناسبة:
بعد بيان إيمان طوائف من أهل الكتاب، ذكر الله تعالى شبهة المشركين في امتناعهم عن الإيمان، ثم رد عليها بأجوبة ثلاثة، مفتتحا الكلام بتقرير أن الهداية للدين وهي هداية التوفيق هي لله تعالى لا لرسوله، وأثبت له في آية.
أخرى هي وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى 42/ 52] هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
التفسير والبيان:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية من أحببت هدايته هداية توفيق، فليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، والله هو الذي يستطيع هداية من يشاء هداية توفيق وشرح صدر، بأن يقذف نورا في قلبه، فيحيى به، كما قال سبحانه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ(20/132)
[الأنعام 6/ 122] وله الحكمة البالغة، وربّك هو العالم بالمستعدين للهداية، فيهديهم، لأنهم مستحقون لها، وعالم أيضا بالمستعدين للغواية، فلا يهديهم، لأنهم لا يستحقونها. والمراد بالآية تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم في عدم تمكنه من هداية قومه.
ويلاحظ أنه لا دلالة في ظاهر هذه الآية على كفر أبي طالب، لكن الثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما بينت، قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمدا وصدقوه، تفلحوا وترشدوا،
فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا عم، تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى، قال: يا ابن أخي، قد علمت أنك صادق، ولكني أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبّة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف» .
قال القرطبي: والصواب أن يقال: أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو نص البخاري ومسلم.
ونظير الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] وقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] .
والخلاصة: أن الهداية- كما ذكر الرازي:- بمعنى الإلجاء والقسر غير جائز، لأن ذلك قبيح من الله تعالى في حق المكلف، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو(20/133)
الحاجة، وهما محالان، ومستلزم المحال محال، فذلك محال من الله تعالى، والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة «1» .
ثم أخبر الله تعالى عن شبهة المشركين في عدم إيمانهم بالنبي صلّى الله عليه وسلم، واعتذارهم بعذر واه، فقال:
وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي قال المشركون:
نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا ما حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، ويخرجونا من ديارنا.
فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بثلاثة أجوبة:
1- تأمين الحرم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي إن هذا الاعتذار كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحرم آمن معظّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنا لهم إن أسلموا واتبعوا الحق؟
ومن خصائص الحرم المكي: أنه يحمل إليه من سائر الثمار في كل البلدان، كما تحمل إليه أصناف المتاجر والأمتعة، تفضلا بالرزق من عند الله، ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون «2» لما فيه الخير والسعادة، ولا يتفكرون ليعلموا الأحق بالعبادة، ويقلعوا عن عبادة ما سواه.
2- التذكير بإهلاك الأمم: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي ليعلم
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 3
(2) فطن للشيء يفطن بالضم فطنة، وفطن- بالكسر- فطنة أيضا.(20/134)
هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النعم أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النعم، فكثيرا ما أهلك الله من القرى أي أهلها التي أبت الإيمان، وكفرت، وبغت وطغت وأشرت، وجحدت بأنعم الله وأرزاقه المغدقة، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها، لا يسكن فيها أحد إلا لمدة قليلة، يبيت فيها المارة يوما أو بعض يوم، وأصبح الوارث هو الله لأنها رجعت خرابا ليس فيها أحد يخلفهم فيها. ويقال للشيء الذي ترك بلا مالك: إنه ميراث الله، لأنه المالك الحقيقي للكون، والباقي بعد فناء خلقه.
ونظير الآية قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل 16/ 112] .
ثم أخبر تعالى عن عدله في إنزال العقاب، فقال:
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي وما كانت عادة ربك وسنته أن يهلك المدن والقرى بأهلها حتى يرسل في أصلها وعاصمتها وأكبرها رسولا يبين لهم الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وأحقيته بالعبادة، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ولا عذر بعدم معرفة الحق، فيهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولا يهلك أهل القرى أو أحدا من خلقه إلا وهم ظالمون أنفسهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات.
وهذا دليل على عدل الله في خلقه، فلا عقاب إلا بعد بيان، ولا إهلاك مع إيمان، وإنما العقاب والهلاك حال الظلم واجتراح المعاصي، واقتراف المنكرات والآثام التي أكبرها الشرك بالله تعالى.(20/135)
وللآية نظائر كثيرة منها: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] .
وفي الآية دليل على أن النبي الأمي وهو محمد صلّى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى (مكة) رسول إلى جميع القرى من عرب وعجم، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى 42/ 7] وقال سبحانه: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقال عز وجل: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] .
3- التدين أو الإيمان لا يضيع منافع الدنيا: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، أَفَلا تَعْقِلُونَ أي إن الدنيا وما فيها من زينة وزخرف ومتاع فانية حقيرة بالنسبة لما أعده الله لعباده الصالحين من المنافع والنعم في الدار الآخرة، فكل ما أعطيتم أيها الناس من أموال وأولاد وزينة وزخارف، فهو مجرد متاع مؤقت وزينة زائلة، لا يجدي عند الله شيئا، وهو زائل وزهيد إذا قيس بنعم الآخرة، فنعيم الآخرة باق دائم خير في ذاته من متاع الدنيا، كما قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 16/ 96] وقال سبحانه: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران 3/ 198] وقال عز وجل: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 16- 17]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الثابت: «والله، ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر ماذا يرجع إليه» !!
أفلا يعقل ويتفكر من يقدّم الدنيا على الآخرة، أفلا يتدبر من يؤثر الفاني على الباقي!! ألا فليفكر الإنسان في اختيار ما هو الخير الدائم له، ويترك الشر الذي يصيبه بالأذى.
ثم أكّد الله تعالى ذلك المعنى فقال:(20/136)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي فليقارن الإنسان ليعلم ترجيح ما عند الله وتفضيله على زينة الدنيا، وكيفية المقارنة: أفمن هو مؤمن بكتاب الله مصدق بوعد الله وثوابه على صالح الأعمال بالجنة وجزيل النعيم، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أياما قلائل، ثم يصير أمره يوم القيامة من المعذبين في نار جهنم؟! فقولهم: إنا تركنا الدين خشية فوات منافع الدنيا خطأ وقول غير سديد لأن الدين لا يفوت تلك المنافع، فهي حقيرة في ميزان الله، وإنما يكون إيثار الدنيا مفوتا لمنافع الآخرة، وسببا أيضا للعقاب الدائم في الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يلي:
1- يخص الله تعالى بعض خلقه بخلق الهداية ومعرفة طريق الجنة، ويمنع البعض منها، ولا يسأل عما يفعل. وليس معنى الهداية والضلال القسر والإلجاء عليهما فذلك غير جائز شرعا وعقلا، وهو قبيح من الله تعالى في حق الإنسان المكلف بالتكاليف الشرعية.
ولقد بان من سبب النزول الثابت في الصحيحين أن أبا طالب مات على غير الإيمان، والله أعلم.
2- الله تعالى هو المختص بعلم الغيب، فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي.
3- قال مشركو مكة للنبي صلّى الله عليه وسلم معتمدين على شبهة واهية وتعلل مرفوض أو عذر غير واقعي ولا منطقي: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا (مكة)(20/137)
لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم. قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي.
4- أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة:
الأول- أنه سبحانه جعل حرم مكة ذا أمن، فكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فقد أمّنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم، فما الذي يمنعهم من الإيمان بعد توافر الأمان؟! ومن مزايا الحرم المكي بعد الأمن أنه يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد، فضلا ورزقا من عند الله، ولكن أكثر المكيين لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من رزقهم وأمّنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم.
وخلاصة هذا الجواب: أنه تعالى لما جعل الحرم آمنا، وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى، مقبلين على عبادة الأوثان، فلا حرج في إيمانهم إذ لو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى.
فهذا رد أول على تعللهم بترك الإيمان.
الثاني- بعد أن بيّن تعالى ما خص به أهل مكة من النعم، أتبعه ببيان ما أنزله على الأمم الماضية المنعمين بنعم الدنيا بسبب تكذيب الرسل، فإذا توهموا أنه لو آمنوا لقاتلتهم العرب، فذلك وهم باطل لأن الخوف في ترك الإيمان أكثر.
فكم من قوم كفروا، ثم حلّ بهم الدمار، ولما قالوا: إنا لا نؤمن خوفا من زوال نعمة الدنيا، بيّن الله تعالى لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم، لا الإقدام على الإيمان والدليل أنه تعالى أهلك كثيرا من(20/138)
الأقوام بسبب البطر وهو ألا يحفظ حق الله تعالى في الغنى، فأصبحت مساكنهم غير مسكونة بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من السكنى أو سكونا قليلا، فلم يسكنها إلا المسافرون أو المارة بالطريق يوما أو بعض يوم، وكان الله هو الوارث لها بعد هلاك أهلها.
ومن المعلوم أنه إذا لم يبق للشيء مالك معين قيل: إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه.
ثم أوضح الله تعالى سنته في الإهلاك: وهي أنه لم تكن عادة الله أو سنته أن يهلك القرى الكافرة، حتى يبعث في عاصمتها وأعظمها رسولا، كما أرسل إلى أهل مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم، ثم لم يهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لظلمهم ولإصرارهم على الكفر بعد إعذارهم وإنذارهم. وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم.
والخلاصة: أن إهلاكهم لا يكون إلا بأمرين:
استحقاقهم الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة، والإلزام ببعثة الرسل.
الثالث- إن قول أهل مكة: تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا خطأ عظيم لأن ما يتمتعون به مدة حياتهم زائل، وما عند الله خير وأبقى، أي أفضل وأدوم، أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟! أما إنه خير: فلأن المنافع في الآخرة أعظم، ولأنها خالصة عن الشوائب، أما منافع الدنيا فمشوبة بالمضار، بل المضار فيها أكثر.
وأما إنها أبقى: فلأنها دائمة غير منقطعة، ومنافع الدنيا منقطعة، وإذا قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما، ثم إن نصيب كل واحد من منافع الآخرة إذا قورن بمنافع الدنيا كلها يعدّ كالذرة بالقياس إلى البحر.(20/139)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
وهل يعقل التسوية بين الموعود وعدا حسنا وهو الجنة وما فيها من الثواب والممتع بمتاع الدنيا، أي الذي أعطي منها بعض ما أراد، ثم يوم القيامة كان من المحضرين في النار. قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم. وقال الثعلبي: وبالجملة، فإنها نزلت في كل كافر متّع في الدنيا بالعافية والغنى، وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله، وله في الآخرة الجنة.
والخلاصة: تترجح منافع الآخرة على منافع الدنيا بأمرين: الدوام والبقاء، وعدم العقاب، أما منافع الدنيا فهي إلى انقطاع وفناء، ويحصل بعدها العقاب الدائم إذا لم تقترن بطاعة الله.
5- دل قوله سبحانه: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا، كان خارجا عن حد العقل السليم.
واستدل الشافعي رحمه الله بهذا القول على أن من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس، صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأن أعقل الناس من أعطى القليل، وأخذ الكثير، وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى.
تقريع المشركين يوم القيامة بأسئلة ثلاثة
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)(20/140)
الإعراب::
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ حذف مفعولا الفعل: تَزْعُمُونَ، أي تزعمونهم شركائي.
هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا خبر المبتدأ الثاني، أي:
هؤلاء هم الذين أغوينا.
ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ كَما: إما نافية، وإما مصدرية، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا، والوجه الأول أوجه.
البلاغة:
أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ استفهام على سبيل التهكم والسخرية.
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تشبيه مرسل.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ فيه استعارة تصريحية تبعية، وقلب، وتضمين، أستعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم، وأصله: فعموا عن الأنباء، وضمّن معنى الخفاء فعدي ب (على) .
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ منصوب بفعل محذوف: اذكر، أو معطوف على: يوم القيامة في الآية السابقة (61) . كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما. حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب وثبت مقتضى القول وحصل مؤداه، وهو قوله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] وغيره من آيات الوعيد، أي ثبت القول عليهم بدخول النار، وهم رؤساء الضلالة.
هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا قال صاحب الكشاف: هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا أي أضللنا: صفة المبتدأ، وأَغْوَيْناهُمْ الخبر، وكاف كَما صفة مصدر محذوف تقديره: أغويناهم، فغووا غيا، مثل ما غوينا، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا، ولم نكرههم على الغي لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا، لا قسرا وإلجاء، فلا فرق إذن بين(20/141)
غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، والغواية: الضلال. تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم أي من عبادتهم إيانا. ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ كَما نافية، أي ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم.
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام الذين تزعمون أنهم شركاء الله. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يجيبوا دعاءهم، لعجزهم عن الإجابة والنصرة. وَرَأَوُا الْعَذابَ أبصروه هم. لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في الدنيا، لما رأوه في الآخرة.
فَعَمِيَتْ خفيت. الْأَنْباءُ الأخبار والحجج التي تنجيهم. يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، لم يجدوا خبرا لهم فيه نجاة، أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، وأصله:
فعموا عن الأنباء، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يأتي من خارج. فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة.
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك. وَآمَنَ صدق بتوحيد الله. وَعَمِلَ صالِحاً أدى الفرائض، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح. مِنَ الْمُفْلِحِينَ الناجحين عند الله، وعسى: تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.
المناسبة:
بعد بيان كون التمتع في الدنيا بزخارفها دون طاعة الله وشكره على نعمه سببا في عذاب الكافر يوم القيامة، أبان الله تعالى حالة الإهانة والتقريع للمشركين أو الكافرين حين يسألهم الله تعالى يوم القيامة ثلاثة أسئلة يحارون في الجواب عنها، وهي السؤال عن آلهتهم التي عبدوها في الدنيا، وعن دعوتهم لها، وعما أجابوا به الرسل الذين دعوهم إلى الإيمان بربهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة بحيث يناديهم ويسألهم عن ثلاثة أشياء:
الأول- السؤال عن نصرة الآلهة المزعومة: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي واذكر أيها الرسول يوم ينادي الحق تعالى(20/142)
هؤلاء المشركين، فيقول لهم: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا من الملائكة والجن والكواكب والأصنام والأنداد والأشخاص، وتزعمون أنهم شركائي، هل يشفعون لكم، وهل ينصرونكم أو ينتصرون؟ والمقصود من السؤال الإهانة والتحقير، والتقريع والتنديد، فلا جواب لديهم لأنهم عرفوا يوم القيامة بطلان ما كانوا عليه، وأدركوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة.
ونظير الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام 6/ 94] .
ثم ذكر جواب أئمة الضلال ودعاة الكفر، فقال:
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا، تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق فيهم مؤداه ولزمهم الوعيد، بقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] : ربنا هؤلاء الأتباع الذين آثروا الكفر على الإيمان كان غيهم باختيارهم، كما أن غينا باختيارنا، فإن إغواءنا وإضلالنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية والضلال قسرا وإكراها، بل كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد والأعمال. والمراد أن تبعة غيهم عليهم لا علينا.
ونحن نتبرأ إليك منهم، ومن عقائدهم وأعمالهم، ومما اختاروه من الكفر والعصيان، وهم في الحقيقة ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شياطينهم، فالمعبودون شهدوا أنهم أغووا الأتباع فاتبعوهم، ثم تبرؤوا من عبادتهم.
وذلك كما قال تعالى في آية أخرى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ(20/143)
عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا
[مريم 19/ 81- 82] وقال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقال عز وجل: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة 2/ 166] .
السؤال الثاني- السؤال عن جواب الآلهة لدفع العذاب: وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، فَدَعَوْهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَأَوُا الْعَذابَ، لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أي وقيل للمشركين بالله: ادعوا شركاءكم آلهتكم ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون في الدار الدنيا، فدعوهم لفرط الحيرة والدهشة، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الجواب، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب عن الجواب، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب المحدق بهم لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين في الدنيا. وعلى هذا جواب لَوْ محذوف، أي ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون.
ونظير الآية: وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 52- 53] .
والقصد من هذا السؤال التوبيخ والتقريع وكشفهم أمام الناس، بدعائهم من لا نفع له ولا فائدة ترتجى منه، فهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة، وأن العذاب مقرر لهم ثابت عليهم. وفي ذلك ردع وزجر عن الشرك وخرافاته في الدنيا.
السؤال الثالث- السؤال عن التوحيد وإجابة الأنبياء: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ أي واذكر يوم ينادي الله تعالى المشركين لمعرفة جوابهم للمرسلين إليهم، وكيف كان حالهم معهم، وعن التوحيد الذي دعوا(20/144)
إليه، وهذا كما يسأل العبد في قبره: من ربّك، ومن نبيك، وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول: هاه هاه لا أدري، فلا جواب له يوم القيامة غير السكوت. وفي هذا إثبات النبوات، وإعلان التوحيد، والبراءة عن الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ، فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي فخفيت عليهم الحجج، وعموا عن أوجه الدفاع عن أنفسهم يوم القيامة، ولم يجدوا بدا من السكوت، ولا يسأل بعضهم بعضا كما يسأل الناس في المشكلات، لما اعتراهم من الدهشة والذهول، ولتساوي الناس جميعا في عمى الأنباء عنهم والعجز عن الجواب، حتى الأنبياء، كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ، قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 5/ 109] فما ظنك بهؤلاء الضلال؟! وسميت حججهم أنباء (أخبارا) لأنها أخبار يخبرونها.
وبعد بيان الصورة القاتمة لحال هؤلاء المشركين وتوبيخهم، ذكر الله تعالى حال التائبين ترغيبا في التوبة والبراءة عن الكفر، فقال:
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي فأما الذين تابوا من المشركين، وصدقوا بالله وتوحيده، وأخلصوا العبادة له، وآمنوا بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، وعملوا الأعمال الصالحة في الدنيا من فرائض وغيرها، فهم ناجون فائزون برضوان الله ونعيمه في الجنة يوم القيامة. وعسى من الله على سبيل التحقق، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة، وأما من العبد فتوقع وترج أن يفلح ويفوز بما طلب.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات تنبيها وإنذارا مسبقا، وتوبيخا، وزجرا عن الكفر، كي يتدارك الإنسان أمره في الدنيا، كيلا يفاجأ بالمصير المشؤوم يوم القيامة.(20/145)
وفيها تفنيد لمزاعم الكفار في شفاعة الآلهة المختلقة، ونصرتها لعابديها في عالم الحساب في الآخرة.
ففي التساؤل الأول تتبدد الآمال، وتزول الرجاءات، وتنقطع الأطماع، فلا يجد العابدون فائدة في نصرة الشركاء وشفاعتهم لهم، ويتبرأ بعضهم من بعض، فالشياطين يتبرءون ممن أطاعهم، والرؤساء يتبرءون ممن قبل منهم، وتقع الكارثة، ويبهت المجرمون الكافرون، كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] .
وفي التساؤل الثاني تشتد الحيرة وتسيطر الدهشة، فيستغيث الكفار بآلهتهم التي عبدوها في الدنيا لتنصرهم وتدفع عنهم عذاب يوم القيامة، فلا يجدون جوابا لاستغاثتهم، ولا صدى لدعائهم، ولا ينتفعون أصلا بهم، وودّوا حين رأوا العذاب محدقا بهم لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إلى الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه وبما جاء به رسوله.
وفي التساؤل الثالث وهو الأمر الحاسم يطلب منهم الجواب عما أجابوا به رسل الله وأنبياءه الكرام لما بلغوهم رسالات ربهم، ولكنهم يسكتون بسبب الحيرة والهول واستيلاء الدهشة عن الجواب، وتخفى عليهم الحجج، فلا يجدون حجة لهم يوم القيامة، ولا يتمكنون من سؤال بعضهم بعضا عن الحجج لأن الله تعالى أدحض حججهم، وأخرس ألسنتهم، إذ كل ما يقولونه باطل محض لا خير فيه.
وفي هذا إثبات التوحيد والنبوة.
وأمام هذه الصورة الكئيبة والحالة المفجعة، فتح الله أمام أولئك المشركين والكفار باب الأمل بالفوز والفلاح وإحراز السعادة، وهو باب التوبة، وطريق أهل الحق والإيمان، وحكم سبحانه أنه بالرغم من سوء حال المشركين الماضية في الدنيا لو تابوا من الشرك، وصدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر،(20/146)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، لكانوا بالتأكيد من جانب الله من الفائزين بالسعادة، فإن «عسى» من الله واجبة، ومن جانبهم على طريق الأمل والرجاء وتوقع النجاة والفوز.
وفي هذا ترغيب في التوبة والتخلص من ظلمة الكفر، وضلال الشرك، وإعمال الفكر في طريق العودة إلى الله إيمانا بوجوده ووحدانيته، وتصديقا بالكتب والرسل والبعث، ومبادرة إلى القيام بالتكاليف الإلهية.
صاحب الحق المطلق في الاختيار المستحق للحمد والعبادة
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
الإعراب:
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ: ما الأولى: اسم موصول بمعنى الذي، في موضع نصب مفعول به ل يَخْلُقُ. وما الثانية: نافية لا موضع لها من الإعراب.
البلاغة:
تُكِنُّ ويُعْلِنُونَ الْأُولى وَالْآخِرَةِ بين كل طباق.
المفردات اللغوية:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ فيه إثبات حرية الخلق والاختيار لله عز وجل، دون موجب عليه ولا مانع له. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فيه نفي الاختيار عن المشركين وغيرهم، والخيرة:
هي الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله أن ينازعه أحد في اختياره. تَعالى تعاظم وتقدس عن إشراكهم. تُكِنُّ صُدُورُهُمْ تخفي أو تسرّ قلوبهم من(20/147)
الكفر وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلم والحقد عليه وغير ذلك. وَما يُعْلِنُونَ يظهرون بألسنتهم من الطعن في الرسول صلّى الله عليه وسلم وغيره. وَهُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقها إلا هو. فِي الْأُولى الدنيا. وَالْآخِرَةِ الجنة. لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في كل شيء دون مشاركة أحد. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور.
المناسبة:
بعد توبيخ المشركين على اتخاذ الشركاء ودعوتهم للشفاعة والنصرة، أبان الله تعالى أنه هو صاحب الاختيار المطلق في تعيين الشفعاء، لا المشركون، وكذا في اصطفاء بعض المخلوقات للرسالة والنبوة وتمييزهم عن غيرهم، فكان اختيار المشركين جهلا وغباء وضلالا. وسبب كون الاختيار لله: أنه العالم بالخفايا والظواهر، وأنه لإنعامه المستحق للعبادة، فلا يستحقها إلا هو، وأنه صاحب القضاء النافذ في كل شيء، وأن إليه المرجع والمآب للسؤال والحساب.
التفسير والبيان:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أنه تعالى يخبر أنه المنفرد بالخلق والاختيار دون منازع ولا معقب، والمعنى: ربك يا محمد وكل سامع صاحب الحق المطلق في خلق ما يشاء، واختيار ما يريد، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه، يختار أقواما لأداء الرسالة، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء المهمة، ويمنح الحق في الشفاعة لمن يريد، يميز بعض مخلوقاته على بعض.
وليس للمشركين ولا لغيرهم أن يختاروا شيئا، فيقولوا مثلا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] أي إما على الوليد بن المغيرة أو على عروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف. فقوله تعالى ما كانَ:(20/148)
ما نافية على الصحيح كما نقل عن ابن عباس وغيره، ولأن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا نزّه تعالى نفسه في منازعة أحد في سلطانه، فقال: سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزيها لله وتقديسا وتعاليا عن إشراك المشركين، وعن أن ينازعه أحد في اختياره وخلقه من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئا.
والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إلى الله تعالى، ليس لأحد فيه شركة ومنازعة.
ثم بيّن الله تعالى كون اختياره مبنيا على علم ثابت صحيح فقال:
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي وربك أيها العبد المخلوق يعلم ما تخفيه صدورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وسرائرهم من الكيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وعداوته، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق، كما قال:
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد 13/ 10] .
وهذا العلم الشامل المطلق صادر ممن له خصائص الألوهية وكونه الإله الفرد الصمد، فقال:
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هو المنفرد بالألوهية، فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار غيره، فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.
وفيه تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، منزها عن النقائص والآفات، لذا كان هو المستحق للحمد والشكر كما قال:
لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي إنه تعالى وحده المستحق للحمد والشكر، والعبادة، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة لأنه بعدله وحكمته يمنح النعم ويفيض الخير على مخلوقاته.(20/149)
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي وهو تعالى له القضاء النافذ في كل شيء، فلا معقّب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، الرحيم اللطيف الخبير، وإليه ترجع جميع الخلائق يوم القيامة، فيجزي كل عامل بعمله من خير أو شر، ولا يخفى عليه منهم خافية في الأرض ولا في السماء.
وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة، ونهاية تقوية القلب للمطيعين، فلا يخل بميزان العدل، يجازي المحسنين على طاعتهم، ويعاقب العصاة على عصيانهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء، لا إلى المشركين.
2- الخلق أو الاختيار لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، كما قال: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب 33/ 36] .
روى الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لي واختر لي»
وروى ابن السني مرفوعا عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «يا أنس، إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق قلبك، فإن الخير فيه» .
ومن هنا شرعت صلاة الاستخارة، بأن يتوضأ ويصلي ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (الكافرون) وفي الثانية (الإخلاص) .
روى البخاري في صحيحة عن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل:(20/150)
اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» قال: ويسمي حاجته.
قال العلماء: وينبغي له أن يفرّغ قلبه من جميع الخواطر، حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله، فإن وجد انشراحا وسرورا وارتياحا فالأمر خير، وإن وجد انقباضا وضيقا، فالأمر شر.
3- إن اختيار الملائكة والرسل لأداء الرسالة إلى الله، فهو يصطفي منهم ما يشاء على وفق الحكمة والمصلحة والعلم الشامل، وليس ذلك لأحد من الناس، كما تبادر إلى بعض المشركين أن تكون الرسالة لأحد زعيمين قويين في المال والأولاد والسلطة والنفوذ: إما الوليد بن المغيرة، وإما عروة بن مسعود، كما تقدم بيانه.
4- تقدس وتمجد الله عن إشراك المشركين.
5- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء.
6- الله جل جلاله هو المنفرد بالألوهية والوحدانية، وجميع المحامد له، ولا حكم إلا إليه، وإليه المرجع والمصير.(20/151)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
أدلة العظمة والسلطان الإلهي وتأكيد تقريع المشركين
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
الإعراب:
لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل، ولم يقل: لتسكنوا فيهما لأن السكون إنما يكون بالليل لا بالنهار، وقوله: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي في النهار لأن الابتغاء للرزق إنما يكون بالنهار في العرف والعادة.
البلاغة:
مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ وكذا يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ؟ استفهام للتبكيت والتوبيخ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لف ونشر مرتب، ذكر الليل والنهار، ثم أعاد السكن إلى الليل، وابتغاء الرزق إلى النهار بالترتيب.
المفردات اللغوية:
قُلْ لأهل مكة وغيرهم. أَرَأَيْتُمْ أخبروني. سَرْمَداً دائما متصلا متتابعا.
بِضِياءٍ نهار تطلبون فيه المعيشة. أَفَلا تَسْمَعُونَ ذلك سماع تدبر وتفهم واستبصار، فترجعوا عن الإشراك. تَسْكُنُونَ فِيهِ تستقرون وتستريحون فيه من متاعب الأشغال. أَفَلا(20/152)
تُبْصِرُونَ
ما أنتم عليه من الخطأ في الإشراك، فترجعوا عنه. وقدم السمع لأن استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر.
لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار بأنواع المكاسب. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ اذكر يوم. أَيْنَ شُرَكائِيَ.. تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به أو أن الأول لتقرير فساد آرائهم، والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند أو دليل، وإنما كان محض تشه وهوى. وَنَزَعْنا أخرجنا. شَهِيداً هو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. فَقُلْنا للأمم. هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما قلتم من الإشراك وما كنتم تدينون به. فَعَلِمُوا حينئذ. أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد. وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم غيبة الضائع، أو تاه. ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الباطل وهو أن معه شريكا آخر، تعالى عن ذلك.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه الخالق المختار، وسفّه آراء المشركين في عبادتهم غير الله، وبعد أن أبان أنه المستحق للحمد على ما تفضل به من النعم، أردفه بإيراد بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه وهي النعم التي لا يقدر عليها سواه، لتذكير الناس بما يجب عليهم من الحمد له، وشكر المنعم المتفضل به. ثم كرر قوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ على جهة الإبلاغ والتأكيد، ثم ذكر شهادة نبي كل أمة على أعمالهم في الدنيا، زيادة في الغم وإثباتا للجرم.
التفسير والبيان:
يمتن الله على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما فقال:
- قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ أي قل أيها الرسول للمشركين بالله:
أخبروني إن جعل الله وقتكم كله ظلاما، فجعل الليل عليكم دائما متتابعا إلى يوم القيامة، فيحصل لكم السأم والضجر والضرر، كالمناطق القطبية التي يكون فيها(20/153)
الزمن كله ليلا لمدة ستة أشهر، ثم يكون مثلها نهارا، فمن الإله غير الله الذي يتمكن من الإتيان بضياء النهار، أفلا تسمعون ذلك سماع تدبر وتفهم وتفكر، فتقلعوا عن الإشراك بالله لأن كل من سوى الله عاجز عن ذلك وغيره؟ ثم ذكر العكس فقال:
- قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أي وقل لهم أيضا أيها الرسول: أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارا، فجعل النهار دائما متصلا إلى يوم القيامة دون أن يعقبه ليل، فتتعب الأبدان وتكل الأجسام من كثرة الحركات والأشغال، فمن ذلك الإله غير الله يستطيع الإتيان بليل تستقرون وتستريحون فيه من عناء التعب، أفلا تبصرون هذه الظاهرة والحقيقة الدالة على القدرة الإلهية التامة، فتعلموا أن المستحق للعبادة والتأليه هو الله المنعم بهذه النعم؟
- وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ومن رحمته بكم أيها الخلق تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما، فجعل لكم الليل ظلاما للراحة والسكن والاستقراء وهدوء النفس من عناء العمل النهاري، وجعل لكم النهار مضيئا لتبصروا فيه منافعكم، وتحصلون فيه معايشكم، وتتنقلوا فيه بالأسفار من بلد لآخر، ويمتلئ بالحركات والأشغال، بحثا عن موارد الرزق، وقضاء الحاجات بأنس ومتعة لا يتوافران في العمل الليلي، فتشكروا الله بأنواع العبادات ليلا ونهارا على ما أنعم به عليكم من هذه النعم دون أن يشاركه فيها شريك؟
دلّ هذا بحق على أن تعاقب الليل والنهار من أعظم النعم على المخلوقات، بل ومن البراهين الدالة على كمال القدرة الإلهية، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان 25/ 62](20/154)
ونحو ذلك من الآيات الكثيرة. وهذا التعاقب لأغراض ثلاثة: أن تسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر، وهو النهار، ولإرادة شكركم على المنفعتين معا.
ويلاحظ أنه تعالى قرن قوله أَفَلا تَسْمَعُونَ بالليل، لمناسبته له، ففي سكون الليل وظلامه يكون إعمال السمع أفيد، ففيه يدرك الإنسان ما لا يدركه بالبصر من منافع وفوائد. ثم قرن قوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ بالنهار، لمناسبته له، ففي ضوء النهار يكون إعمال البصر أوقع، ففيه يدرك الإنسان بعينه من المنافع والفوائد والعظات ما لا يدركه السمع أثناء الضجة والحركة، وعلى هذا كان التذييل بما هو الأليق بكل من الليل والنهار.
وأما سبب التذييل بكل منهما فهو الحث على الانتفاع بما يسمعون ويبصرون تأملا وتدبرا، فلما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر.
ثم أعاد الله تعالى النداء لمن عبد مع الله إلها آخر على رؤوس الأشهاد على سبيل التوبيخ والتقريع فقال:
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ أي واذكر أيها الرسول للمشركين يوم يناديهم ربك، فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في دار الدنيا أنهم شركائي، ليخلّصوكم مما أنتم فيه.
والقصد من تأكيد هذا النداء مرة ثانية التنبيه على أنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما أنه لا شيء أدعى لمرضاته من توحيده تعالى.
قال القرطبي: والمناداة هنا ليست من الله لأن الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة 2/ 174] لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكّتهم، ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 209.(20/155)
ويترتب على هذا النداء التوبيخي زيادة غمهم وفرط حزنهم وألمهم، وقد أكد ذلك بالإشهاد عليهم، ليعلم أن التقصير منهم، فيكون ذلك زائدا في غمهم، فقال:
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، فَقُلْنا: هاتُوا بُرْهانَكُمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وأخرجنا أو أحضرنا من كل أمة شاهدا عليهم وهو نبيهم أو رسولهم، كما قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر 39/ 69] وقال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا، ويشهد محمد صلّى الله عليه وسلم على الأنبياء جميعا.
وقلنا لهم: أحضروا برهانكم على صحة ما ادعيتموه من أن لله شريكا، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا، وعلموا علم اليقين حينئذ أن الحق في الألوهية لله وحده، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا شريك له في ملكه وسلطانه، وذهب عنهم أو تبدد باطلهم وافتراؤهم، وتضليلهم وكذبهم الذي كان منهم في الدنيا بنسبة الشريك لله، فلم ينفعهم شيئا، كما غابت عنهم آلهتهم غيبة الشيء الضائع، فلم ينفعوهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- إن تعاقب الليل والنهار دليل على عظمة الله وقوة سلطانه وتوحيده، وهو أيضا نعمة ورحمة بالمخلوقات جميعا من إنسان وحيوان ونبات وجماد، أما بالنسبة للإنسان ففي الليل دعة وهدوء، وسكون وراحة من عناء العمل، وفي النهار حركة وعمل وتكسب وطلب لرزق الله تعالى.
وتلك النعمة تستوجب الشكر، وتستحق حمد الله على الدوام، ويكون(20/156)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
الشكر بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل.
2- تتكرر مناداة الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها أمام الله تعالى يوم القيامة، ففي المرة الأولى لا يستجيبون، فتظهر حيرة أتباعهم وعابديهم، وفي المرة الأخرى يسكتون، وذلك كله توبيخ وتقريع للمشركين وزيادة خزي وتحقير أمام الخلائق قاطبة.
3- يزداد غم المشركين وتتضاعف حسرتهم وكمدهم وألمهم حين يشهد عليهم بأعمالهم نبيهم المبعوث إليهم في الدنيا لدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته، ويطلب منهم إحضار حجتهم على صحة أو صدق ادعائهم، ولكنهم يعجزون، ويدركون إدراكا جازما أن الأنبياء صادقون فيما جاؤوا به، وأن الله وحده هو الإله الحق، ويذهب عنهم ويبطل كل ما كانوا يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة أخرى تعبد.
قصة قارون
- 1- بغيه على قوم موسى واغتراره بماله
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)(20/157)
الإعراب:
ما إِنَّ مَفاتِحَهُ ما اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب ب آتَيْناهُ وصلته:
إِنَّ وما عملت فيه. وكسرت إِنَّ لأنها متى وقعت في موضع يصلح اسما وفعلا، كانت مكسورة، والاسم الموصول يدخل على الجملة الاسمية والجملة الفعلية. وأُولِي واحدها ذو من غير لفظها.
عَلى عِلْمٍ عِنْدِي في موضع الحال.
البلاغة:
لا تَفْرَحْ الْفَرِحِينَ وكذا الْفَسادَ الْمُفْسِدِينَ بين كل جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
قارُونَ هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام. مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه لأن موسى هو ابن عمران بن قاهث، وكان أيضا ابن خالته، وممن آمن به.
فَبَغى عَلَيْهِمْ تكبر عليهم وتجبر بكثرة المال وظلمهم وطلب أن يكونوا تحت أمره. الْكُنُوزِ جمع كنز: وهو المال المدخر، يقال: كنز المال: جمعه وادخره. مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ تثقل خزائنه أي صناديقه، جمع مفتح، أو مقاليده أي مفاتيحه جمع مفتح وهو ما يفتح به. بِالْعُصْبَةِ الجماعة الكثيرة. أُولِي الْقُوَّةِ أصحاب الشدة. قَوْمُهُ المؤمنون من بني إسرائيل. لا تَفْرَحْ بكثرة المال، أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا دون الآخرة.
وَابْتَغِ اطلب. فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال. الدَّارَ الْآخِرَةَ أي ثوابها، بأن تنفقه في طاعة الله. وَلا تَنْسَ تترك ترك المنسي. نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي حظك منها بأن تأخذ منها ما يكفيك أو أن تعمل فيها للآخرة. وَأَحْسِنْ للناس بالصدقة. وَلا تَبْغِ تطلب. الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بأمر يكون علة للظلم والبغي أي بعمل المعاصي. لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يعاقبهم.(20/158)
أُوتِيتُهُ أي المال. عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي معرفة مني ومهارة في اكتساب المال، قيل:
إنه علم التجارة. مِنَ الْقُرُونِ الأمم. وَأَكْثَرُ جَمْعاً للمال. وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام، فإنه تعالى مطلع عليها، معاقبهم عليها لا محالة.
المناسبة:
بعد تقريع المشركين وتوبيخهم، ذكر الله تعالى قصة قارون لبيان عاقبة الكافرين والمتجبرين في الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف والزلزلة، وهو في الآخرة كالمشركين من أهل النار.
أضواء من التاريخ على قصة قارون:
عرفنا أن قارون هو ابن يصهر بن قاهث جدّ موسى، فهو ابن عمه، وقال ابن عباس: وكان أيضا ابن خالته. وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم، فنافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله.
فهو رجل من بني إسرائيل، آتاه الله مالا كثيرا، حتى إن مفاتيح خزائنه كان تنوء بحملها عصبة من الرجال. نصحه أهل الوعظ والإرشاد من قومه بالبعد عن البطر والتجبر والإفساد في الأرض، وأن يستعمل ماله في مرضاة الله، مع الانتفاع ببعضه في مصالح الدنيا بقدر الكفاية، وألا ينفقه فيما يغضب الله تعالى، حتى لا يتعرض لزوال النعمة، فأبى الامتثال لنصح الناصحين، وقال في ماله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي والظاهر أنه جمعه بما لديه من ذكاء وخبرة في شؤون التجارة، ولكنه غفل عن بطش الله بالمتجبرين المتكبرين من أمثاله في الأمم الغابرة الذين كانوا أشد منه قوة وأكثر جمعا للمال.
وقد استبد به الكبر والخيلاء أن كان يخرج في موكب مهيب وزينة فاخرة باهرة، فافتتن بعض الناس بمظاهره، وتمنوا أن يؤتوا مثله من المال، فقال لهم(20/159)
أهل العلم والبصر والحكمة: لا تفتتنوا به ولا تطمعوا، فثواب الله خير للمؤمن الذي يعمل الصالحات، فكان عاقبة طغيانه وظلمه وجحوده نعمة الله أن خسف الله به وبداره الأرض، دون أن يجد له نصيرا أو معينا.
التفسير والبيان:
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ أي إن قارون الذي أصبح مضرب المثل والغنى والثروة والظلم والعتو كان من بني إسرائيل، فتجبر وتكبر بكثرة ماله، وتجاوز الحد في ظلمهم، وطلب منهم أن يكونوا تحت إمرته، مع أنه قريبهم:
وظلم ذوي القربى أشد غضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي وأعطيناه من الأموال النقدية والعينية المدخرة التي يثقل بحمل مفاتيح خزائنها العصبة (الجماعة الكثيرة) القوية من الناس. قال ابن عباس: إن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء.
فنصحه الوعاظ بمواعظ خمس قائلين:
1- إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي قال له جماعة من بني إسرائيل من النصحاء، حينما أظهر التفاخر والتعالي: لا تبطر ولا تفرح بما أنت فيه من المال، فإن الله لا يحب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، ولا يستعدون للآخرة، أي يبغضهم ويعاقبهم، كقوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد 57/ 23] .
2- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي استعمل ما وهبك الله من هذا(20/160)
المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة.
3- وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك حظك من لذات الدنيا التي أباحها الله من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والزواج، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك (زوارك) عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. وهذه هي وسطية الإسلام في الحياة، قال ابن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» .
4- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى خلقه كما أحسن الرب إليك، وهذا أمر بالإحسان مطلقا بعد الأمر بالإحسان بالمال، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه، وحسن اللقاء، وحسن السمعة، أي أنه جمع بين الإحسان المادي، والإحسان الأدبي أو الخلقي.
5- وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس، فإن الله يعاقب المفسدين، ويمنعهم رحمته وعونه وودّه.
ولكن قارون أبى النصح فقال:
قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي قال قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: أنا لا أحتاج لما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال، لعلمه بأني أستحقه، ولمعرفتي وخبرتي بكيفية جمعه، فأنا له أهل، كما قال تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر 39/ 49] أي على علم من الله بي، وقال سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: هذا لِي [فصلت 41/ 50] أي هذا أستحقه.(20/161)
فأجابه الله بقوله:
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً، وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي أولم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم حتى لا يغترّ بكثرة ماله وقوته أنه قد كان من هو أكثر منه مالا، وما كان ذلك منا عن محبة له، أو أنه أهل له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم، ولا يسأل المجرمون عن كثرة ذنوبهم، أي إذا عاقب الله تعالى المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن أنواع ذنوبهم ومقدارها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فلا حاجة به إلى السؤال. فالمراد بذلك سؤال الاستفسار والاستعلام، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وسؤال الاستعتاب، كما قال تعالى: ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل 16/ 84] . هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات 77/ 25- 26] .
ونظير الآية: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] .
ولا يتنافى هذا مع سؤالهم في وقت آخر سؤال توبيخ وإهانة، كما في قوله سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- البغي مرتعه وخيم، والظلم مؤذن بخراب العمران والديار.
2- إن كثرة المال محنة وبلاء، وسبب للطغيان والفساد.
3- الجاهل الذي لا علم لديه، أو علمه ناقص هو الذي يغترّ بماله، ويبطر(20/162)
عند النعمة، فإن الله تعالى يعاقب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون نعمة الله تعالى عليهم.
4- إن أصول الحضارة الإسلامية أربعة: العمل الصالح ابتغاء ثواب الآخرة، وعمارة الدنيا بإتقان دون أن تستولي على مشاعر الإنسان، والإحسان إلى الناس إحسانا ماديا ومعنويا أو خلقيا، وقمع الفساد والعصيان والخراب.
فمن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في التجبر والبغي، وألا يضيع عمره في غير العمل الصالح في دنياه إذ الآخرة هي التي يعمل لها، فنصيب الإنسان: عمره وعمله الصالح فيها، بأن يطيع الله ويعبده كما أنعم عليه، وألا يعمل بالمعاصي والإفساد، فإن الله يجازي المفسدين.
5- الله تعالى مصدر الخير والرزق، وما العبد إلا وسيلة، يجب عليه أن يعمل ويكتسب، والله هو الرازق الميسر له أسباب الرزق، المانح له الثراء والمال، فيكون هو المستحق للشكر على تلك النعمة.
فمن الغباء والجهل أن ينسب الإنسان الخير والفضل لنفسه ومواهبه، أو يدعي أنه الحقيق الجدير بما أعطي، أو ينخدع بأن ما أعطيه دليل على محبة الله ورضاه عنه، فقد يكون العطاء فتنة واستدراجا، وليس قرينة الرضا والمودة.
لذا كان اغترار قارون بكثرة ماله، وادعاؤه أنه أهل له عبثا باطلا.
6- أهلك الله كثيرا من الأمم الخالية الكافرة، وهم أشد قوة من قارون، وأكثر جمعا للمال منه، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم.
7- لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم سؤال استعلام واستعتاب، فالله عليم بكل شيء، ولا يقبل اعتذارهم ولا عتبهم، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما بينا.(20/163)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
- 2- بعض مظاهر بغي قارون وكبريائه
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُأَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
الإعراب:
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أراد: وقال الذين فحذف الواو كما حذفت من قوله تعالى: سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف 18/ 22] أي ورابعهم.
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ وَيْكَأَنَّ «وي» : منفصلة من «كأن» بمعنى أعجب، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وكأن الله: بلفظ التشبيه، لكن ليس بمعنى التشبيه، أي إن الله.
أَنْ مَنَّ اللَّهُ.. أن مخففة من الثقيلة من غير عوض، وإن كانت قد دخلت على الفعل، وتقديره: لولا أن الأمر والشأن منّ الله علينا لخسف بنا. وقرئ لخسف وخسف ولا يخسف بنا. فعلى القراءة الأولى: معناه: لخسف الله بنا والجار والمجرور في موضع نصب بالفعل، وعلى القراءة الثانية: الجار والمجرور في موضع رفع، لقيامه مقام نائب الفاعل، وعلى القراءة الثالثة حذفت الكسرة تخفيفا، والقراءة الرابعة كقراءة لخسف بنا للبناء للمجهول.(20/164)
البلاغة:
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ تأكيد الجملة بإن واللام لأن السامع شاك متردد.
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ كناية، كنّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ بِالْأَمْسِ.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَخَرَجَ قارون عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ في موكب مهيب يتبعه الركبان متحلين بملابس الذهب والحرير على خيول وبغال متحلية، وكانوا أربعة آلاف. الدُّنْيا للتنبيه مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ في الدنيا، تمنوا مثله، لا عينه حذرا من الحسد، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ لصاحب نصيب عَظِيمٍ واف في الدنيا أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة وما وعد الله فيها، فالمراد بالعلم: علم الدين وأحوال المتقين وَيْلَكُمْ الويل: الهلاك أو العذاب، والمراد هنا: الزجر عما لا ينبغي ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة بالجنة خَيْرٌ مما أوتي قارون في الدنيا وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يتلقى الجنة المثاب بها إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي.
فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون، وخسف: غار في الأرض، والمراد: جعلنا عاليها سافلها فِئَةٍ جماعة أعوان مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره، بأن يمنعوا عنه الهلاك وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين من عذاب الله تعالى بِالْأَمْسِ من قريب وَيْكَأَنَّ اللَّهَ أي ألم تر أن الله، وكلمة «وي» اسم فعل بمعنى أتعجب، وكأن: للتشبيه في الأصل، وليس المراد بها هنا التشبيه، وإنما المراد: بل إن الله يَبْسُطُ يمدّ ويعطي وَيَقْدِرُ يضيق ويقتر بمقتضى مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يوجب القبض.
المناسبة:
هذا فصل آخر من قصة قارون، فبعد أن ذكر الله تعالى بغيه على بني إسرائيل وتجبره عليهم، أعقبه ببيان بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فقام باستعراض عظمته وقوته وأبهته، تعاليا على الناس، وإذلالا للنفوس، وكسرا للقلوب، فعاقبه الله بالخسف والزلزال، وأصبح المعجبون بحاله متعجبين مما حل به، وأدركوا أن الإمداد بالرزق الإلهي لا لكرامة ومنزلة للإنسان عند الله، كما أن حجب الرزق لا لهوان وسخط.(20/165)
التفسير والبيان:
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوما على قومه في زينة عظيمة وتجمل باهر، من مراكب وملابس عليه وعلى حاشيته، بقصد التعالي على الناس، وإظهار العظمة والأبهة. قال الرازي: وليس في القرآن إلا هذا القدر «1» ، يعني أن وصف الزينة كما يذكر بعض المفسرين لا دليل عليه.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي فلما خرج في مظاهر الأبهة كان طبيعيا أن يفتتن بعض الناس به، وهم السذّج والجهال الذين يريدون الحياة الدنيا، ويميلون إلى زخارفها وزينتها، فتمنوا أن لو كان لهم مثل ما أعطي، وقالوا: يا ليت لنا من الأموال والثروات والأوضاع ما لقارون، لنتمتع بها مثله، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا. وهذه نزعة جبلّيّة في الإنسان، فهو دائما يطمع في السعة واليسار:
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات 100/ 8] .
وفي مقابلة هذا الفريق يوجد فريق آخر هم أهل الحكمة والعلم وبعد النظر:
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي وقال علماء الدين وأهل العلم النافع: ويلكم أي انزجروا وارتدعوا عن هذه التمنيات والأقوال، فإن جزاء الله ومثوبته لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون وما تتمنون، ولكن لا يتلقى الجنة أو المثوبة ولا يوفق لها إلا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي، الراغبون في الدار الآخرة، الراضون بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار، المترفعون عن محبة الدنيا، وذلك كما
جاء في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 17.(20/166)
واقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] .
ثم ذكر تعالى عقاب قارون فقال:
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ أي بعد أن اختال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم، زلزلنا به وبداره الأرض، فابتلعته وغاب فيها جزاء بطره وعتوه، كما
ثبت في صحيح البخاري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يجرّ إزاره، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» .
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي ما أغنى عنه ماله ولا حاشيته، ولا دفعوا عنه نقمة الله ونكاله، ولا كان هو في نفسه منتصرا لها، فأصبح لا ناصر له من نفسه ولا من غيره.
ولا داعي لبيان أسباب الخسف المروية في التفاسير، فإنها كما ذكر الرازي في أكثر الأمر متعارضة مضطربة، والأولى طرحها، والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب «1» .
وحينئذ ظهرت العبرة للمعتبر، وتبين المفتونون بمال قارون حقيقة الأمر:
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي صار الذين رأوه في زينته وتمنوا في الماضي القريب أن يكونوا مثله يقولون: ألم تر أن الله يمدّ الرزق لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء، وليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة، كما
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 18.(20/167)
جاء في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» .
أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لولا لطف الله بنا، وإحسانه إلينا، لخسف بنا الأرض، كما خسف بقارون لأنا وددنا أن نكون مثله، وألم تر أن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به، المكذبين رسله، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة، مثل قارون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- لقد استبد البغي والغرور والبطر والكبر بقارون، فتعالى على قومه بني إسرائيل، وأراد إظهار أبهته وعظمته أمامهم، فخرج عليهم في يوم عيد في موكب مهيب مزدان بمتاع الحياة الدنيا من الثياب والتجمل والدواب.
2- انقسم الناس في شأن قارون بعد هذا الاستعراض فريقين: فريق ينبهر بسطحيات الأمور، فأعجب بهذا المظهر، وتمنى أن يكون مثل قارون في الثروة والمال والعزة والجاه، وهؤلاء هم الماديون في كل زمان.
وفريق نور الله بصيرته، ولم يغتر بمظاهر الدنيا وزخارفها، وإنما نظر إلى الحقائق، وأدرك أن الدنيا فانية، وأن السعادة بالفوز في الآخرة، وهؤلاء هم العلماء المؤمنون العارفون بمصير العالم والإنسان وهم أحبار بني إسرائيل، فقالوا لأصحابهم الفريق الأول: ويلكم (كلمة زجر) ثواب الله أي الجنة ونعيمها خير من مال قارون وجاهه، وهي لمن آمن وعمل الأعمال الصالحة، ولا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله. ويلاحظ أن الضمير في قوله:
وَلا يُلَقَّاها يراد به الجنة لأنها المعنية بقوله تعالى: ثَوابُ اللَّهِ.(20/168)
3- كان عقاب قارون في الدنيا الخسف به وبداره الأرض، فأصبح كأن لم يكن، وله في الآخرة عذاب النار، ولم يكن له في الحالين جماعة ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله، وما كان من المنتصرين الممتنعين من العذاب.
4- إن في ذلك لعبرة للمتأمل، فقد ندم الذين تمنوا أن يكونوا مثله، وتنبهوا إلى حقيقة الأمر، وتعجبوا من تعجيل العقاب، وأدركوا أن سعة الرزق ليست دليلا على رضوان الله، كما أن تقتير الرزق ليس علامة على سخط الله، وحمدوا الله على فضله ورحمته وعصمته من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر وما نزل به من العقاب، وأيقنوا أن لا فلاح ولا فوز عند الله للكافرين به، المكذبين رسله، الجاحدين نعمته.
5- إن عاقبة الكبر والتعالي وخيمة، وإن الاغترار بالأموال والأوصاف نذير سوء، ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب «العجائب الغريبة» عن نوفل بن مساحق قال: رأيت شابا في مسجد نجران، فجعلت أنظر إليه، وأتعجب من طوله وتمامه وجماله، فقال: ما لك تنظر إلي؟ فقلت: أتعجب من جمالك وكمالك. فقال: إن الله ليعجب مني، قال: فما زال ينقص حتى صار بطول الشبر، فأخذه بعض قرابته في كمه، وذهب به.
وهذا واضح اليوم حين يفترس السرطان جسد الإنسان، فيتآكل عظمه من الداخل تدريجيا، ويضمر ويصيبه الهزال الشديد، حتى يصبح قزما صغيرا، ثم يموت.(20/169)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
- 3- محل الجزاء ومقداره والعبرة من قصة قارون
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
الإعراب:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ تِلْكَ: مبتدأ، والدَّارُ الْآخِرَةُ: إما خبر، فيكون قوله تعالى: نَجْعَلُها في موضع نصب على الحال أو في موضع رفع خبر بعد خبر، وإما عطف بيان، فيكون قوله: نَجْعَلُها خبر المبتدأ.
البلاغة:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إلا مثلها بينهما مقابلة.
فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع الظاهر وهو السيئات موضع الضمير أي «عملوها» تهجينا لحالهم، بتكرير إسناد السيئة لهم.
المفردات اللغوية:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة، وتلك: إشارة تعظيم، كأنه قال: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ قهرا وتكبرا وغلبة وَلا فَساداً ظلما على الناس، كما أراد فرعون وقارون وَالْعاقِبَةُ المصير المحمود لِلْمُتَّقِينَ عقاب الله أو ما لا يرضاه الله، بفعل الطاعات.
بِالْحَسَنَةِ الفعلة الطيبة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا وقدرا ووصفا وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ الفعلة المنكرة الخبيثة إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون، فحذف المثل، وأقام مقامه: ما كانُوا يَعْمَلُونَ مبالغة في المماثلة.(20/170)
المناسبة:
بعد بيان قول أهل العلم: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ أبان الله تعالى محل هذا الجزاء وهو الدار الآخرة، وجعله للمؤمنين المتقين المتواضعين الذين لا يتكبرون على الناس ولا يفسدون فيهم، بظلمهم وأكل حقوقهم، ثم بيّن بعدئذ مقدار ذلك الجزاء الذي يحصل لهم: وهو أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، فأكثر، فضلا من الله ورحمة، وجزاء السيئة مثلها، لطفا من الله وعدلا. وذلك كله عبرة بقصة قارون المتجبر المتكبر الباغي.
التفسير والبيان:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً أي إن الدار الآخرة ونعيمها الدائم الذي لا يحول ولا يزول، ولا عناء فيه ولا مشقة، يجعلها ربك لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم بغير حق، ولا فسادا بأخذ أموالهم بغير حق.
ولم يعلق الوعد بالنعيم بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما. وقال: تِلْكَ على جهة التعظيم للجنة والتفخيم لشأنها، يعني تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها.
قال علي رضي الله عنه- فيما رواه ابن جرير عنه-: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل في قوله تعالى:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ.. الآية.
قال ابن كثير: وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره، فإن ذلك مذموم، كما
ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» .(20/171)
وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل، فهذا لا بأس به،
فقد ثبت- فيما روي مسلم وأبو داود- أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» .
وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي والمصير المحمود وهو الجنة لمن اتقى عذاب الله وخاف عقابه، بعمل الطاعات، وترك المحظورات المحرّمات، ولم يكن كفرعون الطاغية الجبار الكافر بالله، ولا كقارون الباغية الفاجر المكذب رسل الله، الذي يريد الفساد في الأرض والاستعلاء.
ثم بين الله تعالى حال الجزاء على الأعمال فقال:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي من جاء بالخصلة الحسنة يوم القيامة، فله خير منها ذاتا ومقدارا وصفة، فثواب الله خير من حسنة العبد، والله يضاعفه أضعافا كثيرا، فضلا من الله ورحمة وإحسانا.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ومن أتى بالفعلة القبيحة المنكرة شرعا وعقلا وعرفا صحيحا مقبولا، فلا يجزى عليها إلا مثلها رحمة وعدلا، كما قال تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل 27/ 90] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
1- الجنة ونعيمها والعاقبة المحمودة للمؤمنين المتقين المتواضعين الذين لا يقصدون رفعة وتكبرا على الإيمان والمؤمنين، ولا فسادا بعمل المعاصي وأخذ المال بغير حق، وذلك من لم يكن مثل فرعون وقارون. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يردد هذه الآية حتى قبض.(20/172)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وقوله: عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً دليل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود، لا مجموعهما. والعلو: الرفعة والتكبر. والفساد: يعم كل أنواع الشر.
2- من أتى بالخصلة الحسنة، ومنها: لا إله إلا الله، فله منها خير، ومن جاء بالفعلة السيئة، ومنها الشرك فيعاقب بما يليق بعمله.
وهذا من فضل الله العظيم ورحمته بالناس أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.
قصص النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
الإعراب:
أَعْلَمُ مَنْ جاءَ.. مَنْ: في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه أَعْلَمُ وتقديره:
يعلم من جاء بالهدى، كقوله: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام 6/ 117] أي يعلم من يضل، ووجب التقدير لامتناع الإضافة.(20/173)
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَجْهَهُ: مستثنى منصوب. ويجوز فيه الرفع على الصفة، وتكون إِلَّا بمعنى غير، مثل: قام القوم إلا زيد، بالرفع على الوصف، كقولهم: قام القوم غير زيد، وكقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي غير الفرقدين.
البلاغة:
إِلَّا وَجْهَهُ مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، أي ذاته المقدسة.
المفردات اللغوية:
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أنزله عليك، وأوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي بلده مكة، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظافرا منتصرا، علما بأن السورة مكية. وقيل: المعاد: هو المقام المحمود الذي وعده ربه أنه يبعثه فيه يوم القيامة، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة.
أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أَعْلَمُ بمعنى عالم، ومَنْ منتصب بفعل يفسره: أعلم، أي فالنبي هو الجائي بالهدى، جوابا لقول كفار مكة: إنك في ضلال، والحقيقة أنهم هم في ضلال الْكِتابُ القرآن إِلَّا رَحْمَةً أي لكن ألقي إليك رحمة من ربك، أي لأجل الترحم ظَهِيراً معينا وناصرا لِلْكافِرِينَ على دينهم الذي دعوك إليه، بمداراتهم، والتحمل منهم، والإجابة إلى طلبهم.
وَلا يَصُدُّنَّكَ أصله: ولا يصدونك، حذفت نون الرفع للجازم، والواو الفاعل لالتقائها مع النون الساكنة عَنْ آياتِ اللَّهِ أي عن قراءتها والعمل بها. بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي لا ترجع إليهم في ذلك وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي وادع الناس إلى توحيده وعبادته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بإعانتهم، علما بأنه لم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه وَلا تَدْعُ تعبد هالِكٌ معدوم إِلَّا وَجْهَهُ إلا ذاته لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور من قبوركم.(20/174)
سبب النزول: نزول الآية (85) :
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ.
وقال مقاتل: إنه صلّى الله عليه وسلم خرج من الغار- غار ثور حين الهجرة- وسار في غير الطريق، مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام، وقال له: تشتاق إلى بلدك ومولدك؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: نعم، فقال جبريل عليه السلام: فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ
يعني إلى مكة ظاهرا عليهم. قال الرازي:
وهذا المعنى أقرب لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه، وفارقه وحصل العود، وذلك لا يليق إلا بمكة، وإن كان سائر الوجوه محتملا، لكن ذلك أقرب «1» .
المناسبة:
قال الرازي أيضا: ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة، واستقصى في ذلك، شرح له ما يتصل بأحواله، فقال: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» .
وهذا يعني أن الله تعالى بعد أن قص في هذه السورة على رسوله قصص موسى مع فرعون، وقصص قارون مع قومه بني إسرائيل، وبيّن هلاك كل من
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 21.
(2) المرجع والمكان السابق.(20/175)
الطاغيتين، أعقبه بذكر قصص النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإخراجهم أو تهجيرهم إياه من مكة، ثم عوده إليها ظافرا منتصرا، متابعا دعوته إلى عبادة الله وتوحيده.
التفسير والبيان:
يأمر الله رسوله بإبلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس، ويخبره بأنه سيرده إلى معاد فقال:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إن الله الذي أوجب عليك العمل بالقرآن وافترض عليك أداءه إلى الناس، لرادّك إلى بلدك الحبيب:
مكة فاتحا ظافرا منتصرا، بعد خروجك منها مهاجرا. وكان هذا هو الفتح الأعظم الذي تم به الاستيلاء على معقل الكفر والوثنية، وتحطيم الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة.
وهو وعد صادق منجز من الله لرسوله، حينما كان في مكة في طريقه إلى المدينة، فاطمأن لذلك وهدأت نفسه. قال المحققون: وهذا أحد ما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر، فيكون معجزا.
ولما وعد الله تعالى رسوله الرد إلى معاد أمره أن يقول للمشركين (كفار مكة) توبيخا لهم حينما اتهموه بأنه في ضلال القول الآتي:
قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قل أيها الرسول لمن خالفك وكذبك من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم: الله تعالى العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة هو عالم بالمهتدي مني ومنكم، وعالم بالضال ضلالا بينا ظاهرا، وعالم بمن جاء بالهدى- يعني نفسه صلّى الله عليه وسلم- وهو القرآن، وبما يستحقه من الثواب في معاده، وإعزازه بالإعادة إلى مكة،(20/176)
وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار، ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، فينصر المؤمن، ويخذل الكافر.
ثم قال تعالى مذكرا نبيه نعمته العظيمة عليه وعلى الناس إذ أرسله إليهم:
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وما كنت أيها النبي تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل إليك، وأن القرآن ينزل على قلبك، فتعلم به أخبار الماضين، وتعرف منه دستور الحياة، وتشريع المجتمع الذي فيه سعادتهم ونجاتهم، ولكن إنما أنزل ربك الوحي عليك وألقى عليك الكتاب، رحمة منه بك وبالعباد بسببك.
وبناء عليه كلفه ربه بأمور خمسة هي:
1- فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي فلا تكن معينا للكفار بأي حال، ولكن فارقهم وخالفهم، وكن عونا للمسلمين، والله مؤيدك وحافظك.
2- وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تتأثر بهم ولا لمخالفتهم لك، ولا تركن إلى قولهم، فيصدّوك عن اتباع آيات الله المنزلة إليك، وتبليغها للناس، فإن الله معك، ومؤيد دينك، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] .
3- وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي وادع إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، وبلّغ دينه، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهل. وهذا أمر بالصدع أو الجهر بالدعوة، وفيه تشدد بدعوة الكفار والمشركين، ولكن في مظلة الأمن والسلام، والمهادنة والموادعة.(20/177)
4- وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي واحذر أن تكون مع الذين أشركوا بربهم، فجعلوا له شريكا وندا، فتكون من الهالكين، لأن من رضي بطريقتهم كان منهم.
وهذا النهي عن مظاهرة المشركين ونحو ذلك من باب إلهاب الحماس، وتهييج العاطفة، وإثارة الغيرة على استقلال دين التوحيد وعبادة الله.
ثم فسر ذلك بقوله:
5- وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي ولا تعيد مع الله إلها آخر، ولا تدع في أي عمل من الأعمال إلها غير الله لأنه لا تليق العبادة إلا له، ولا جدوى في الدعاء لغيره، ولا تنبغي الألوهية إلا لعظمته، ولا معبود يستحق العبادة سواه، كما قال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمّل 73/ 9] أي فاتخذه وكيلا في أمورك، وهو نعم الوكيل.
وهذا وإن كان واجبا على الكل، إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل التعظيم.
ثم بيّن الله تعالى صفات الألوهية التي تفرد بها فقال:
أولا- كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي كل من في الوجود فان إلا ذات الله المقدسة، فهو الدائم الباقي، الحي القيوم، الذي يميت الخلائق ولا يموت، كما قال سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 26- 27] .
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»(20/178)
ومقتضى هذا أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس، فإنه الأول والآخر، الذي هو قبل كل شيء، وبعد كل شيء.
ثانيا- لَهُ الْحُكْمُ أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ في الخلق، ولا معقب لحكمه.
ثالثا- وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مصير جميع الخلائق إليه، فإليه ترجعون يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- ختم الله تعالى سورة القصص ببشارة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم برده إلى مكة، قاهرا لأعدائه، فاتحا البلد الحرام، مكسرا الأصنام، معلنا انتهاء عهد الشرك والوثنية، رافعا راية التوحيد إلى الأبد بأنه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وهذا إشارة إلى الهجرة وإلى فتح مكة أيضا.
2- يستخدم القرآن أحيانا أسلوب اللين والحكمة وإثارة الانتباه والتفكير في حقيقة دعوة الإسلام، فلا يحسم الأمر ليترك سبيلا للمناقشة والأخذ والرد، وهذا من فنون السياسة الرفيعة المستوى، لذا أمر الله نبيه أن يقول: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قل لكفار مكة وأمثالهم إذا قالوا: إنك لفي ضلال مبين: ربي هو العالم بالمهتدي والضال: أنا أم أنتم.
3- لا علم لأحد، ولا علم لرسوله أن الله تعالى يرسله نبيا رسولا إلى الخلق أجمعين، وينزل عليه القرآن نورا وهدى ونبراسا ودستورا للحياة وتشريعا خالدا صالحا على الدوام للإنسانية جمعاء.(20/179)
ولكن رحمة الله برسوله وبعباده اقتضت إرسال الرسول، وإنزال القرآن حكما عدلا وقولا فصلا.
4- كلّف الرسول صلّى الله عليه وسلم بخمسة أمور: ألا يكون عونا ولا مساعدا للكافرين في جميع الأحوال، وأن يمضي في تبليغ رسالة ربه وأمره وشأنه دون أن تمنعه أقوال الكفار وكذبهم وأذاهم عن مواصلة الطريق في الدعوة إلى الله، وأن يعلن الدعوة إلى توحيد الله، وألا يكون مع المشركين لأن من رضي بطريقتهم كان منهم، وألا يعبد مع الله إلها غيره، فإنه لا إله إلا هو، وهذا نفي لكل معبود وإثبات لعبادة الله تعالى.
5- وصف الحق تعالى نفسه بصفات ثلاث: هي كل شيء في الوجود هالك فان غير الله تعالى، وله الحكم النافذ في الدنيا والآخرة، وكل المخلوقات راجعة إليه للحساب والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.
وهذا يعني: ليس كل شيء هالكا من غير رجوع، بل كل شيء هالك، وله رجوع إلى الله تعالى.(20/180)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العنكبوت
مكية، وهي تسع وستون آية.
تسميتها:
سميت سورة العنكبوت لأن الله تعالى شبّه الذين اتخذوا الأصنام وغيرها آلهة بالعنكبوت التي اتخذت بيتا ضعيفا واهنا، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً.. الآية [41] .
موضوعها:
موضوع السورة كسائر السور المكية تقرير أصول العقيدة وهي الوحدانية، والرسالة، والبعث والجزاء، وتثبيت الإيمان في القلوب في جميع الأحوال، وبخاصة وقت الابتلاء والمحنة، فافتتحت بالإخبار عن فتنة الإنسان، وختمت بالحديث عن هداية المجاهدين نفوسهم إلى أقوم السبل ونصرة الله لهم.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في بيان أمثلة واقعية من الصراع بين الحق والباطل، وبين الضعف والقهر، وبين أثر الصمود والصبر على الإيمان وأثر الانسلاخ منه، ففي سورة القصص ذكر الله تعالى استعلاء فرعون وجبروته، وتفريقه الناس شيعا، واستضعافه بني إسرائيل بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم،(20/181)
ونجاة موسى عليه السلام مع قومه، ونصره على الطغاة وإغراقهم، كما ذكر الله قصة قارون الباغية وعقابه بالخسف.
وفي هذه السورة ذكر الله قصة المسلمين في مكة الذين فتنهم المشركون عن دينهم، وعذبوهم على الإيمان بنحو أقل من تعذيب فرعون بني إسرائيل، حثا لهم على قوة التحمل والصبر، وتسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، ثم ذكر نجاة نوح عليه السلام في سفينته مع جند الإيمان، وإغراق قومه الذين كذبوه.
كما أن بين السورتين تشابها في الإشارة إلى موضوع الهجرة، ففي خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وفي خاتمة هذه السورة الإشارة إلى هجرة المؤمنين: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[56] .
وكذلك يوجد ارتباط بين السورتين في تحديد الغاية والغرض، ففي سورة القصص بيان العاقبة المحمودة للمتقين المتواضعين: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
[83] وفي هذه السورة تقرير العاقبة الحسنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [58] .
ثم إنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وأعقبه بما يبطل قول منكري الحشر: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رد في مطلع هذه السورة على منكري الحشر القائلين: لا فائدة في التكاليف إذ لا مرجع بعد الهلاك والزوال، ومضمون الرد أن للتكليف فائدة وهي أن يثيب الله الشكور ويعذب الكفور.(20/182)
مشتملات السورة:
اشتملت هذه السورة على ما يأتي:
1- إعلان اختبار المؤمنين على الشدائد والمحن في الدنيا، وبيان فائدة جهاد النفس، ومعرفة مدى صلابة الإيمان وقت الشدة، فالمؤمن هو المجاهد الصابر الذي لا يلين أمام الأحداث الجسام، ويظل ثابت العهد كالطود الشامخ دون أن يتزحزح عن إيمانه وعقيدته، وأما مهتز الإيمان أو المنافق، فيظهر الإيمان أحيانا، ولكنه لا يتحمل الأذى في سبيل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ ... وحينئذ يعلم الله المؤمنين علم انكشاف وإظهار كما يعلم المنافقين، لكنه سبحانه عالم بذلك سلفا.
2- الحديث عن محنة الأنبياء التي هي أشد وأصعب من محنة المؤمنين، فقد قص الله على رسوله وعلى المؤمنين قصة نوح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وهود، وصالح، وموسى، وهارون، ليعلموا أن الله نصرهم، وأهلك أقوامهم:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. الآية [40] .
3- محاجة المشركين بضرب الأمثال لهم تقريعا وتوبيخا، ومحاجة أهل الكتاب بالحسنى واللين والحكمة.
4- إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم بمعجزة إنزال القرآن عليه علما بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وتفنيد بعض شبهات المشركين في نبوته، واستعجالهم العذاب المحقق نزوله بهم.
5- الإذن للمؤمنين بالهجرة من ديارهم فرارا بدينهم من الفتن، وترغيبهم بالصبر، وإبعاد خوف الموت عن نفوسهم فإن الموت محقق في كل مكان وزمان،(20/183)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
وتبشيرهم بالعاقبة الحسنة إذا عملوا الصالحات، وزهدوا في الدنيا لأن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية الحقة.
6- اعتراف المشركين بأن الله هو خالق السموات والأرض وأنه هو الرازق، وأنه كاشف الضر والمنجي من المخاطر، وذلك يتضمن الحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح.
7- الامتنان على أهل مكة بإقامتهم في الحرم الآمن، مع خوف من حولهم، ثم كفرهم بهذه النعمة وغيرها بالإشراك بالله، وتكذيب رسوله، وهو غاية الظلم.
8- بيان جزاء المؤمنين الذين صبروا أمام المحن والشدائد، وجاهدوا في سبيل الله بالنفس والمال، واجتازوا المحنة بأمان وسلام.
اختبار الناس وجزاؤهم
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)(20/184)
الإعراب:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا أَنْ يُتْرَكُوا: منصوب ب حَسِبَ سدّ مسد مفعوليها. وأَنْ يَقُولُوا: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن يقولوا.
ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما: إما في موضع رفع بمعنى: ساء الشيء أو الحكم حكمهم، وإما في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون.
البلاغة:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. استفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار.
صَدَقُوا والْكاذِبِينَ بينهما طباق.
فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ التأكيد بإن واللام لأن المخاطب منكر.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل.
المفردات اللغوية:
الم هذه الحروف الهجائية تنبيه على إعجاز القرآن، ووقوع الاستفهام بعدها دليل على استقلالها بنفسها أَحَسِبَ النَّاسُ أظن الناس، والاستفهام إنكاري، وتدخل حَسِبَ على الجملة للدلالة على جهة ثبوتها أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، بل يمتحنهم الله بمشاقّ التكاليف، كالهجرة والجهاد ومقاومة الشهوات والقيام بالطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ يختبرون ويمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم بالتعرض للشدائد.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي ليظهرن صدقهم وكذب المكذبين، وينوط به ثوابهم وعقابهم. وهذا تعلق حالي وعلم مشاهدة يتميز به الفريقان، ولا ينافي تعلق علم الله القديم بكل شيء، فهو عالم بما خلق قبل الخلق.
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر والمعاصي، فإن العمل يعم أفعال القلوب والأعضاء أَنْ(20/185)
يَسْبِقُونا
يفوتونا فلا ننتقم منهم، أي الفوت عن الجزاء على مساويهم ساءَ بئس الحكم هذا ما يَحْكُمُونَ الذي يحكمونه، أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا. مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي يأمل ويطمع في لقائه وثوابه وجزائه في الجنة، وقيل: يخاف لقاءه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ أي فإن الوقت المحدد للقائه أو هو الموت لجاء لا محالة، فليستعد له وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأفعالهم.
وَمَنْ جاهَدَ نفسه بالصبر على الطاعة والكف عن الشهوات، وبذل جهده في مقاومة الأعداء بالنفس أو المال فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فإن منفعة جهاده له إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ عن الإنس والجن والملائكة، وعن عبادتهم، فلا حاجة به إلى طاعتهم، وإنما كلف عباده رحمة بهم ومراعاة لصلاحهم لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ بعمل الصالحات فيسقط عقابها بثواب الحسنات وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصالحات، وأَحْسَنَ إما بمعناه أو بمعنى حسن، وهو منصوب بنزع الخافض: الباء، والمعنى لنجزينهم بأحسن جزاء لأعمالهم، وهو أن يجازي الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة.
سبب النزول:
روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين، وقيل: في عمار، وقد عذب في الله، أخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:
نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله: أَحَسِبَ النَّاسُ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآية قال: أنزلت في أناس كانوا بمكة، وقد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون، فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتّبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل 16/ 110] .(20/186)
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن قتادة قال: أنزلت الم، أَحَسِبَ النَّاسُ في أناس من أهل مكة خرجوا، يريدون النبي صلّى الله عليه وسلم، فعرض لهم المشركون، فرجعوا، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم، فخرجوا فقتل من قتل، وخلص من خلص، فنزل القرآن: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.
وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم يومئذ: «سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. الآية.
التفسير والبيان:
الم هذه الحروف المقطعة بدئ بها لتنبيه السامع وطلب إصغائه وإشعاره بإعجاز القرآن الدال على كونه كلام الله الحكيم الخبير.
وقد لاحظ الرازي «1» أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن، كأوائل سورة البقرة الم، ذلِكَ الْكِتابُ وآل عمران الم ... نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والأعراف المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ويس يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وص ص، وَالْقُرْآنِ وق ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، والحواميم (غافر أو المؤمن، وفصلت أو السجدة، والشورى) إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت، والروم.
وقد حصل التنبيه في القرآن بغير حروف التهجي التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى في أول سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 26 وما بعدها.(20/187)
وفي أول سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وفي أول سورة التحريم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
والسبب في بدء هذه السورة بهذه الحروف، وليس فيها الابتداء بالقرآن أو الكتاب هو الإشارة إلى مبدأ التكليف، وجميع التكاليف فيها ثقل على النفس، فبدئ بحروف التنبيه للفت النظر إلى خطورة ما يلقى بعدها.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أظن الناس بعد خلقهم أن يتركوا بغير اختبار بمجرد قولهم: آمنا بالله ورسله، وهم لا يمتحنون بمشاق التكاليف كالهجرة والجهاد في سبيل الله، ومقاومة الشهوات، ووظائف الطاعات والفرائض المالية والبدنية من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها، والتعرض للمصائب في الأنفس والأموال والثمرات، ليتميز المؤمن المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ونجازي كل واحد بحسب عمله.
وهذا استفهام إنكار، معناه أن الله تعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما
جاء في الحديث الصحيح: «أشدّ الناس بلاء:
الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد له في البلاء» .
ونظير هذه الآية قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] .
وقد بينت أن هذه الآية نزلت في بعض المؤمنين في مكة، الذين كان كفار(20/188)
قريش يعذبونهم على الإسلام ويؤذونهم بأشد أنواع الإيذاء، كعمار بن ياسر وأمه سميّة وأبوه ياسر، وعيّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام.
ويظهر أن التعرض للأذى باق في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم ما دام هناك إسلام يمثل جوهر الحق، وعقيدة صحيحة تتحدى تيارات الإلحاد والكفر والعلمانية وأوضار الوثنية في كل أنحاء الأرض، وما دام قرآن مجيد يحافظ على وجود المسلمين، ويتلى في كل مكان. ولن تفلح قوى الشر في إخفات صوت الإسلام، ودفن صرح التدين، وتصفية جند الإيمان بالله عز وجل، قال ابن عطية: وهذه الآية، وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال، فهي باقية في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر لأن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك.
وليس الافتتان والإيذاء بدعا بين المسلمين، وإنما هو سنة الله الدائمة في خلقه في الماضي والحاضر والمستقبل، لذا قال تعالى تسلية لهم: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي وتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين، بل والأنبياء القدامى بأنواع عديدة من الشدة والمشقة والضرر، كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 146] .
والهدف من الاختبار أن يعلم الله علم ظهور وانكشاف، أي يظهر الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، وسيجازي كل واحد بما قدّم. والله يعلم سلفا ما كان وما يكون وما لم يكن، ولو كان كيف يكون، بإجماع أهل السنة والجماعة، لذا قال ابن عباس في مثل قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ: إلا لنرى لأن الرؤية تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.(20/189)
ويلاحظ أنه تعالى قال في حق المؤمنين: الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل، أي وجد منهم الصدق، وقال في حق الكافرين: الْكاذِبِينَ بصيغة اسم الفاعل الدالة على الثبات والدوام. هذا فضلا عن أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة.
وقد ورد في السنة الصحيحة أخبار ونماذج من تعذيب المؤمنين قبل الإسلام، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرتّ قال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال:
قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» .
وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: «دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرّه بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدّها عليك!! قال: إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:
الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها «1» ، وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء» .
والخلاصة: أن الحياة ميدان كفاح وجهاد وشقاء وعناء، وكلما عظمت
__________
(1) وفي الجامع الصغير للسيوطي: «يجوبها» أي يخرقها ويقطعها، وهو أولى.(20/190)
المسؤولية عظم قدر المسؤول، وكلما أهملت المسؤولية أو التبعة أهمل المسؤول، فالتكليف دليل التكريم، وهو رمز الشخصية وإثبات الذات، ولا طعم للحياة دون عمل وتكليف لأن لذة الحياة ومتعتها أن يعمل الإنسان لغاية وهدف معين، وإلا كان الأمر عبثا موقعا في السأم والحيرة، فالحمد لله على التكليف، والشكر له على الابتلاء والاختبار، ليتميز العامل من العابث، والملتزم المتقن من المتسيب الذي لا يبالي بشيء.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يفوتونا فلا نجازيهم؟ لن يفلتوا من عذابنا، بئس ما يظنون، وبئس الحكم ما حكموا بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله، ولا يعاقبون، إنه حكم مغلوط سيء رديء، يتنافى مع مقتضى العقل والشرع والعدل.
قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل والأسود، والعاص بن هشام، وعتبة والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاص بن وائل.
وبعد بيان أن من ترك التكليف عذّب، بيّن سبحانه أن من آمن بالآخرة وعمل لها، يجد ثواب عمله فقال:
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي من كان يتوقع الخير ويطمع ويأمل في ثواب الله الجزيل في الدار الآخرة، ويعمل صالحا، فإن الله سيحقق له رجاءه، ويوفيه عملا كاملا غير منقوص، فإن وقت البعث والحياة الثانية بالحشر كائن لا محالة، والله سميع الدعاء وجميع أقوال عباده لا يخفى عليه منهم شيء، عليم بصير بكل الكائنات، يعلم عقائدهم وأعمالهم، ويجازي كل واحد بما عمل. وهذا دليل على تأكد حصول الوعد(20/191)
والوعيد، وحث على المبادرة بالعمل الصالح الذي يصدق الرجاء ويحقق الأمل ويكتسب به القربة عند الله والزلفى.
وأجل الله: يمكن أن يكون المراد به الموت، ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بعد الحشر.
وقوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ شرط وجزاء، والمراد وعد المطيع بما يعده من الثواب، فمن كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت بثوابه، يثاب على طاعته عنده، ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو.
لكن نفع التكليف للمكلف لا لله تعالى:
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي ومن جاهد نفسه وهواه، فأدى ما أمر الله به وانتهى عما نهى عنه، فإن ثمرة جهاده تعود له، ونفع عمله لنفسه لا لغيره، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت 41/ 46] ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء 17/ 7] فإن الله غني عن أفعال عباده وجميع خلقه من الإنس والجن.
ونوع جزاء المطيع هو:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنه تعالى مع غناه عن الخلائق جميعهم، فإنه يجازي أحسن الجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال، بأداء الفرائض وفعل الخيرات، من مواساة البائسين وإغاثة المظلومين، ودعم أمتهم بالنفس والنفيس، وأحسن الجزاء: هو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الواحد(20/192)
منها بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- الدنيا دار ابتلاء واختبار وتكليف بالشاق من الأعمال، فلا يكفي مجرد إعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله، بل لا بدّ من الابتلاء بأنواع المصائب، وألوان الطاعات لأن المقصد الأسمى من العبادة محبة الله، كما
ورد في الخبر الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه»
فإذا قال الإنسان: آمنت بالله بلسانه، فقد ادعى محبة الله في الجنان، فاحتاج إلى شهود تصدقه، وأداء الطاعات والقربات، واجتناب المحظورات شهود عيان للتصديق.
ويكون الابتلاء سبيلا للرقي من أول الدرجات إلى أعلى الدرجات، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] وقال سبحانه: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء 4/ 95] .
2- الابتلاء سنة الله في خلقه، وعادته في عباده، فقد ابتلى الله الماضين كإبراهيم الخليل ألقي في النار، وكيحيى الحصور الذي قتل، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله، فلم يرجعوا عنه، كما تقدم بيانه، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون وقومه، كما ابتلوا بقارون، وأصابهم الجهد الشديد، وابتلي المؤمنون بعيسى بمن كذبه وأعرض عنه، وهمّ بقتله، وهم اليهود وحكام عصره.
3- الهدف من الابتلاء إظهار صدق الصادقين في إيمانهم وتبيّنه في واقع الأمر، وكشف كذب الكاذبين الذين يدّعون الإيمان بالله، وهم كافرون به.(20/193)
4- لن يفلت الكافرون والمجرمون والعصاة من العقاب، فإن ظنوا الإفلات، فبئس الحكم حكمهم.
5- لا بدّ من أن يجازي المحسن بإحسانه يوم القيامة.
6- هذه الحقائق الثلاث المتقدمة وهي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يطمع في لقاء ربه، حاصلة لا شك فيها، ولكن من جاهد في الدين، وصبر على قتال الكفار، وأعمال الطاعات، فإنما يسعى لنفسه، ويكون ثواب ذلك كله له، ولا يرجع إلى الله شيء من النفع، ومن أهمل جهاد نفسه، ولم يؤد طاعة ربه، ولم يتجنب الحرام، فإنما يسيء لنفسه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت 41/ 46] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء 17/ 7] .
والله غني عن أعمال عباده، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
7- إن نوع جزاء العمل الصالح لا مثيل له في الدنيا عند أحد من الخلائق، فإن الله تعالى يغطي السيئات بالمغفرة، ويضاعف الحسنات وثواب الطاعات، ولا يهمل شيئا منها مهما قلّ، وإنما يقدره على أحسن وجه وأكمله، ويجازي الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات بأحسن أعمالهم.
8- الآيات في الجملة تعرّف بحقائق الدنيا، فهي قائمة على الابتلاء والاختبار، وتشحذ العزائم لزرع العمل الصالح في الدنيا، وتؤكد أن يوم الجزاء قريب الحصول، لإقامة العدل بين المحسن والمسيء، وتبين أن العمل الصالح خير للإنسان نفسه لا لغيره، والله غني عن العالمين.
9- دلت آية وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ على وجوب إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له لأن من علم أن الله يراه(20/194)
ويبصره يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن نفعه له، ومقدّر بقدر عمله، يكثر منه.
10- الجزاء على العمل بحكم الوعد لا بالاستحقاق. وتدل الآية المتقدمة على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه ليس هناك سلطان أعلى من الله يوجب شيئا عليه، والعبد أدنى منه، وتدل أيضا على أن الله تعالى ليس في مكان معين، وليس على العرش على الخصوص، لأن العرش من مخلوقات الله، والله غني عنهم.
11- في هذه الآية أيضا بشارة وإنذار، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين، فلو أهلك عباده فلا شيء عليه لغناه عنهم، وهذا يوجب الخوف العظيم، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده، لا شيء عليه لاستغنائه عنه، وهذا يوجب الرجاء التام.
12- قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يفيد التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه.
والإيمان: التصديق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره. والعمل الصالح: كل ما أمر الله به، فيصير صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحا، ولا بقاء للعمل الصالح إلا إذا كان لوجه الله الباقي حتى يبقى، وما لا يكون لوجهه لا يبقى، لا بنفسه لأنه عرض زائل، ولا بالعامل لأنه ميت هالك، ولا بالمعمول له لأن غير الله فان، فالعمل الصالح: هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله.
والنية: شرط في الصالحات من الأعمال، وهي قصد الإيقاع لله. والعمل الصالح: لا يرتفع إلا بالكلم الطيب وهو الإيمان، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل.(20/195)
وقد ذكر الله في الآية نوعين من أعمال العبد: الإيمان والعمل الصالح، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين: تكفير السيئات وهو في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن وهو في مقابلة العمل الصالح.
وهذا كما قال الرازي يقتضي أمورا ثلاثة:
الأول- المؤمن لا يخلد في النار لأنه بإيمانه تكفر سيئاته، فلا يخلد في النار.
الثاني- الجزاء الأحسن المذكور هنا غير الجنة لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة، ولا يبعد أن يكون الجزاء الأحسن هو رؤية الله عز وجل.
الثالث- الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا، فيستر الله عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسّن حالة صاحبه في الدنيا، فيجزى الجزاء الأحسن في العقبى، والإيمان لا يبطله العصيان، بل هو يغلب المعاصي ويسترها، ويحمل صاحبها على الندم «1» .
13- أجمل الله حال المسيء بقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ.. إشارة إلى التعذيب، وحال المحسن بقوله: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ثم فصل حال المحسن بآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه، وفضله أعم من عدله.
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 34.(20/196)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
صلابة المكلفين ومظاهر فتنة المؤمنين وتهديد الكافرين والمنافقين
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
الإعراب:
وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ فيه حذف الجار والمجرور، أي ولنحمل خطاياكم عنكم.
البلاغة:
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فهو مجمل.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ استعارة، شبه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل الإنسان معنويا.(20/197)
المفردات اللغوية:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أمرنا، وصى بمعنى أمر معنى وتصرفا. حُسْناً أي بأن يفعل معهم حسنا، أي فعلا ذا حسن بأن يبرهما، أو هو الحسن نفسه مبالغة، كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه، وقرئ: حسنا وإحسانا. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ما ليس لك بإشراكه علم، أو ما ليس لك بألوهيته علم، أي معلوم، كأنه قال: لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، عبر عن نفي الألوهية بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه. فَلا تُطِعْهُما في الإشراك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق الجزاء. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيكم به.
لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم، وهم الأنبياء والأولياء، بأن نحشرهم معهم. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. فِتْنَةَ النَّاسِ أذاهم له في الصرف عن الإيمان. كَعَذابِ اللَّهِ في صرف المؤمنين عن الكفر، فيطيعهم فينافق. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ اللام لام القسم، ومجيء النصر بالفتح للمؤمنين والغنيمة. لَيَقُولُنَّ حذفت منه نون الرفع: ليقولونن لتوالي النونات، وحذفت الواو: ضمير الجمع لالتقاء الساكنين. إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين والإيمان، فأشركونا في الغنيمة. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ أي بعالم. بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق؟ بلى.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا بقلوبهم. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين: لام قسم. اتَّبِعُوا سَبِيلَنا طريقنا الذي نسلكه في ديننا. وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي عنكم في اتباعنا، إن كانت لكم خطايا، والأمر بمعنى الخبر. مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: مزيدة، والتقدير: وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم. أَثْقالَهُمْ أوزارهم أو ذنوبهم التي اقترفتها أنفسهم. وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي ذنوبا أخرى معها لما تسببوا له بالإضلال وحمل الآخرين على المعاصي، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت. عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها.
سبب النزول:
نزول الآية (8) :
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ: روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم(20/198)
طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، فنزلت: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ.
وتوضيح ذلك في رواية الترمذي: أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارّا بأمّه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعيّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به.
وقال ابن عباس في آية وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا: نزلت في جميع الأمة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق.
نزول الآية (10) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ: نزلت في المنافقين. قال مجاهد:
نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.
وقال ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدّوا، والذين نزلت فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ(20/199)
الآية «1» [النساء 4/ 97] . وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد، وكان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخوين لأمه، ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه.
نزول الآية (12) :
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حسن التكاليف وثواب الآتي بها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر أن الإتيان بها واجب ولو كان ذلك بمخالفة الوالدين اللذين يجب الإحسان إليهما والطاعة، فلا يكون ذلك مانعا من الإيمان ورفض الشرك ومقاومة معصية الله تعالى.
ثم ذكر أن العامل بالصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء.
وبعد أن أبان الله تعالى حال صنفين من المكلفين: المؤمن حسن الاعتقاد والعمل، والكافر المجاهر بكفره وعناده في قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أردف ذلك ببيان حال الصنف الثالث وهم المنافقون بقوله:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ.
ثم ذكر الله تعالى محاولات الكفار في فتنة المؤمنين عن دينهم، ودعوتهم بالرفق واللين إلى الشرك، ومساومتهم واستعدادهم تحمل تبعات ذنوب المؤمنين إن كانت.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 196.(20/200)
التفسير والبيان:
تشتمل الآيات على موضوعات ثلاثة: التمسك بالتوحيد ولو بمخالفة أمر الأبوين رغم الأمر بالإحسان إليهما، وأقسام المكلفين الثلاثة، وبعض مظاهر الفتنة عن الدين.
الموضوع الأول:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لقد أمرنا العباد بالإحسان إلى الوالدين ببرهما قولا وفعلا لأنهما سبب وجوده، كما قال تعالى:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء 17/ 23- 24] . ونكّر كلمة حُسْناً ليدل على الكمال.
ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، فإنه وإن حرصا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فلا تطعهما في ذلك، في دعوتهما إلى الاعتقاد فيما ليس معلوما لك إذ كما
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
وإذا كان لا يصح اتباع ما ليس معلوما ثبوته، فلا يجوز اتباع ما علم بطلانه بالأولى، وهذا دليل على أن متابعتهم في الكفر لا تجوز.
والسبب مرجعكم جميعا إلى يوم القيامة، المؤمن والكافر، والبار بوالديه والعاق لهما، فأجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه وصبره على دينه، والمسيء بإساءته، لذا قال محرضا على الصلاح والإيمان:(20/201)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي وإن الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فأصلحوا نفوسهم، وأدوا فرائضهم، لنحشرنهم في زمرة الصالحين: الأنبياء والأولياء، لا في زمرة الوالدين المشركين، وإن كانا أقرب الناس إليه في الدنيا، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب حبا دينيا.
والسبب في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان حال الهادي هنا بعد بيان حال المهتدي قبل ذلك بدليل أنه قال أولا: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ثم قال ثانيا هنا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء، ولهذا قال كثير من الأنبياء: أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كما أنه تعالى ذكر أولا حال الضال بقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ثم هدد المضل بقوله:
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ فصار البيان المتقدم لقسمين من المكلفين: المهتدي والضال، والبيان المتأخر لقسمين آخرين هما: الهادي والمضل «1» .
الموضوع الثاني:
حال المنافقين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي ويوجد فريق من الناس، هم قوم من المكذبين المنافقين الذين يقولون بألسنتهم: صدقنا بوجود الله ووحدانيته، ولكن لم يثبت الإيمان في قلوبهم، بدليل أنه إذا نزلت بهم محنة وفتنة في الدنيا، فآذاهم المشركون لأجل إيمانهم بالله، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام، وكان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف المؤمنين عن الكفر.
وهذا كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج 22/ 11] .
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 36.(20/202)
وهذا دليل على أن التخلي عن الإيمان سهل على المنافق لأنه لم يخالط الإيمان شغاف قلبه، وإنما كان مجرد ترداد على اللسان، لمصالح دنيوية، فإذا تعرض لأدنى أنواع الأذى، ترك الله بنفسه. أما المؤمن الصادق الإيمان فلا يتزحزح عن إيمانه القلبي مهما تعرض لأنواع الأذى، فإن أكره على الردة أمكنه مجاراة المكره باللسان، مع اطمئنان قلبه بالإيمان، فلا يترك الله بحال.
قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال» .
ثم تحدث الله تعالى عن انتهازية المنافقين ونفعيتهم فقال:
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي ولئن تحقق نصر قريب من ربك يا محمد بالفتح والغنيمة لقال هؤلاء المنافقون: إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين، نناصركم على الأعداء، كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ [النساء 4/ 141] .
ثم رد الله عليهم وكشف أمرهم متوعدا مبينا لهم أنه لا تخفى عليه أوضاعهم فقال: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم من الإيمان والنفاق، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان؟ بلى، إن الله عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، فيعلم المؤمن الحق والمنافق الكاذب.
ثم ذكر الله تعالى أنهم معرّضون للاختبار فقال:(20/203)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي وليختبرن الناس بالسراء والضراء، ليتميز المؤمنون من المنافقين، فيعرف من يطيع الله في كل حال، ومن يعصيه وقت الشدة، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] وقال سبحانه بعد وقعة أحد التي كانت محك اختبار وامتحان: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران 3/ 179] .
ويلاحظ أنه تعالى حكم هنا على ما في القلب، فيعلم إيمان المؤمن وهو التصديق، ونفاق المنافق وهو صدقه في قوله باللسان: الله واحد، وأما فيما سبق فقال: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ليميز بين المؤمن القائل بأن الله واحد، وبين الكافر الكاذب في قوله: الله أكثر من واحد، فكان هناك قسمان: صادق وكاذب. وهنا قسم واحد وهو صادق.
الموضوع الثالث:
محاولات فتنة المسلمين عن دينهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي وقال كفار قريش لمن آمن منهم واتبع الهدى بعد بيان أحوال الناس الثلاثة: المؤمن والكافر والمنافق: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا، وأما آثامكم إن كانت لكم آثام ووجد حساب فعلينا وفي رقابنا، كما يقول القائل الجاهل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي. وهذه محاولة فتنة وإغراء للمسلمين على ترك دينهم بالرفق واللين. وقوله: وَلْنَحْمِلْ صيغة أمر من الشخص لنفسه، ولكن يراد بها الخبر، والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، كما يقول الواحد: ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فليس هو في الحقيقة أمر طلب.
فرد الله عليهم تكذيبا لهم:(20/204)
وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي وإنهم لا يتحملون شيئا من ذنوبهم وأوزارهم، وإنهم لكاذبون فيما قالوه: إنهم يحملون عنهم الخطايا، فهم لا يحملون شيئا لأنه لا يحمل أحد وزر أحد، كما قال تعالى:
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر 35/ 18] وقال سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج 70/ 10- 11] وقال جل وعز: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] .
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة هذا القول، فقال:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي إن دعاة الكفر والضلال هؤلاء ليحملن يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم من الناس، من غير أن ينقص من أوزار أتباعهم شيئا، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] وكما
جاء في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» «1»
وفي الصحيح أيضا: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل»
وثبت أيضا: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» . «2» .
وسوف يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون
__________
(1) رواه ابن ماجه في السنن عن أنس بن مالك. [.....]
(2) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة.(20/205)
ويختلفون من البهتان في الدنيا، كما
جاء في الحديث الصحيح: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم، فطرح عليه» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- بالرغم من وجوب أو افتراض بر الأبوين اللذين كانا سببا في وجود الإنسان وتربيته والإنفاق عليه، فإنه لا يجوز إطاعتهما فيما يدعوان الولد إلى الشرك والعصيان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا تجوز متابعتهم في الكفر.
لذا كان قوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ... وعيدا في طاعة الوالدين في معنى الكفر، وأنه تعالى سيجازي كل إنسان بما عمل، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
2- كرر الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لتحريك النفوس إلى نيل مراتب الصالحين: وهم الذين بلغوا نهاية الصلاح وأبعد غاياته، من الأنبياء والأولياء، وإذا وصل المؤمن إلى تلك المرتبة حظي بالثمرة المرجوة وهي الجنة.
3- ينكشف أمر النفاق وشأن المنافقين وقت المحنة، فإذا قال المنافق:
آمنت بالله، ولم يؤمن قلبه، ثم تعرض لأذى أو مصاب، ارتد على عقبيه، وترك الإسلام إلى الكفر، جاعلا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، وما أفسد هذا القياس؟! وتراه يجزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، ولا يصبر على الأذية في الله تعالى.(20/206)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
وإذا تحقق نصر للمؤمنين بالفتح والغنائم طالب هؤلاء المرتدون بنصيب منها قائلين: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أيها المؤمنون، وهم كاذبون.
فرد الله عليهم: الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم، فلا يخفى عليه نفاقهم، والله يعلم المؤمن من المنافق، ويجازي كلّا بما يستحق.
4- حاول الكفار فتنة المسلمين عن دينهم بالرفق واللين والإغراء، ليبينوا أنهم بكثرتهم على الحق، والمسلمون على باطل، وأظهروا استعدادهم لتحمل أوزار المسلمين يوم القيامة، وهم في الحقيقة والواقع كاذبون فيما يقولون، فإنهم لا يتحملون شيئا من أوزار غيرهم.
وإنما على العكس يتحملون الإثم مضاعفا: إثم أنفسهم وإثم إضلالهم غيرهم، فهم دعاة كفر وضلالة، ويسألون يوم القيامة عن افترائهم بأن لا خطيئة في الكفر، وأن لا حشر، وأنهم يتحملون خطايا غيرهم، ويقال لهم حينئذ: لم افتريتم ذلك؟!
قصة نوح عليه السلام مع قومه
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
الإعراب:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً: أَلْفَ سَنَةٍ: منصوب على الظرف، وخَمْسِينَ عاماً: منصوب على الاستثناء.(20/207)
البلاغة:
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً تفنن في التعبير، فلم يقل: إلا خمسين سنة، تحاشيا للتكرار المنافي للبلاغة، إلا إذا كان لغرض كالتفخيم أو التهويل، مثل: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [القارعة 101/ 1- 2] .
المفردات اللغوية:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي مكث في قومه يدعوهم إلى توحيد الله تسع مائة وخمسين سنة، فكذبوه. روي أنه بعث على رأس أربعين، ودعا قومه تسع مائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. قال البيضاوي: ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد، فإن تسع مائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه.
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء، والطوفان في الأصل: اسم لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها. وَهُمْ ظالِمُونَ بالكفر. فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا. وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي الذين أركبهم معه من أولاده وأتباعه المؤمنين، وكانوا ثمانين، أو ثمانية وسبعين، نصفهم ذكور ونصفهم إناث. آيَةً عبرة. لِلْعالَمِينَ لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسله، يتعظون ويستدلون بها.
المناسبة:
بعد بيان التكليف وأقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، ووعيد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم، ذكر الله تعالى قصة أطول الأنبياء عمرا نوح عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن معه إلا قليل.
ثم أتبع ذلك بذكر قصص أنبياء آخرين: إبراهيم، ولوط وهود وشعيب وصالح، لبيان عاقبة الله في المكذبين من المكلفين، وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتثبيته على ما يكابده من أذى الكفرة، وعبرة لمن يعتبر، وتأكيدا لما في بداية السورة الكريمة من أن الابتلاء سنة الحياة.(20/208)
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي تالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام، وهو أول نبي أرسل، إلى قومه الذين كانوا كفارا، لا يؤمنون بالله، وإنما يعبدون الأصنام، فاستمر مقيما معهم ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته، والإيمان بيوم القيامة، فلم يؤمنوا بدعوته، وكذبوه، وما آمن معه منهم إلا قليل: قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح 71/ 5- 6] قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح 71/ 21] .
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ، وَهُمْ ظالِمُونَ أي بعد هذه المدة الطويلة، لم يفدهم البلاغ والإنذار، فأغرقهم الله بالطوفان، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم، فإن الأمر بيد الله تعالى، وإليه ترجع الأمور.
فإن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في دعوة قومه إلى الإيمان بالله، ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر. وكان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر، ومع ذلك ما نجوا، فلا يغتروا فإن العذاب يلحقهم.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ، وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي فأنجينا نوحا والذين آمنوا معه بركوب السفينة التي أوحى الله إليه كيفية صنعها، ثم سارت في البحر، حتى استقرت على جبل الجودي، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء، وجعل ربك سفينة نوح تذكرة لنعمة الله على خلقه كيف أنجاهم من الطوفان، وعبرة وعظة يتأمل بها من يأتي بعدهم من الناس، كيف يعاقب الله من عصوا رسله وكذبوا بأنبيائه، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ،(20/209)
لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
[الحاقة 69/ 11- 12] . والضمير في قوله:
جَعَلْناها عائد إلى السفينة المذكورة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا عرض موجز جدا لقصة نوح مع قومه، فصلت في مواضع أخرى كثيرة من القرآن الكريم. وقد دلت مع هذا الإيجاز على العظة المؤثرة منها، فإنها ذكرت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم لما أسف على إعراض قومه عن دعوته، فأخبره الله تعالى بأن الأنبياء قبلك ابتلوا بالكفار من أقوامهم فصبروا، وخص نوحا بالذكر أولا لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض، بعد أن امتلأت كفرا، وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح عليه السلام، كما تقدم في سورة هود.
روى ابن عساكر عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح» .
واختلف في عمره، قال الحسن البصري: لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال: يا نوح كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاث مائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي، وثلاث مائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان، قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان، دخلت من هذا، وخرجت من هذا.
وبالرغم من هذه المدة الطويلة في الدعوة إلى توحيد الله، لم يؤمن برسالة نوح عليه السلام إلا فئة قليلة.
وظهر في القصة بنحو ملحوظ مصير المؤمنين ومصير الكافرين، أما الأوائل فقد نجاهم الله في السفينة التي كان نوح قد صنعها، فركبوا فيها ونجوا من الغرق، وأما الكافرون المكذبون فقد أغرقهم الله جميعا، وجعل الله السفينة أو العقوبة أو النجاة عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ.(20/210)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
- 1- الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والبعث
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 23]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
الإعراب:
وَإِبْراهِيمَ منصوب عطفا على نوح في آية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أي وأرسلنا إبراهيم، أو عطفا على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكر إبراهيم. والعامل في إِذْ قالَ هو العامل في إِبْراهِيمَ فهو على الأول ظرف لأرسلنا.(20/211)
إِفْكاً إما مصدر نحو كذب ولعب وإما صفة لفعل أي خلقا ذا إفك وباطل.
لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يحتمل كونه مصدرا بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم، وأن يراد المرزوق، وتنكيره للتعميم.
البلاغة:
يُبْدِئُ ويُعِيدُهُ يُعَذِّبُ ويَرْحَمُ بين كلّ طباق.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أسلوب الإطناب للتشنيع عليهم في عبادة الأوثان.
يَسِيرٌ وسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بينهما جناس ناقص غير تام.
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ التصريح باسم الله هنا بعد إضماره في قوله بَدَأَ الْخَلْقَ للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنها أهون.
المفردات اللغوية:
وَاتَّقُوهُ خافوا عقابه. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من عبادة الأصنام. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من غيره وتميزون ما هو شر مما هو خير. أَوْثاناً جمع وثن: وهو ما اتخذ من جص أو حجر، والصنم: ما كان من معدن كنحاس وغيره، والتمثال: ما هو مثال لكائن حي. وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً تقولون كذبا في تسميتها آلهة، وادعاء شفاعتها عند الله، وأنها شركاء لله، وهو دليل على شرّ ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل لا حقيقة له.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لا يقدرون أن يرزقوكم، وهو دليل ثان على شر ما هم عليه، من حيث إن تلك الأوثان لا تجدي شيئا. فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ اطلبوه منه، فإنه المالك له. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، شاكرين له نعمه. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مستعدين للقائه بالعبادة والشكر، فإنكم راجعون إليه.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي تكذبوني. فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبلي من الرسل، فلم يضرهم تكذيبهم، وإنما ضرّ أنفسهم، حيث تسبب لما حلّ بهم من العذاب، فكذا تكذيبكم.
إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلا البلاغ البيّن الذي زال معه الشك.
وهذه الآية: وَإِنْ تُكَذِّبُوا وما بعدها إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ من جملة قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون المذكور اعتراضا، بذكر شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم(20/212)
والوعيد على سوء صنيعهم، وهو توسط بين طرفي قصة، من حيث إن مساقها لتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم والترويح عنه بأن أباه خليل الله مني بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم، وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.
يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم ابتداء من مادة وغيرها. ثُمَّ يُعِيدُهُ يعيد الخلق بعد الموت كما بدأهم. إِنَّ ذلِكَ المذكور من الخلق والإعادة. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء، فكيف ينكرون الثاني؟ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ لمن كان قبلكم وأماتهم، على اختلاف الأجناس والأحوال. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق مرة أخرى، بعد النشأة الأولى التي هي الإبداء، فإنه والإعادة نشأتان، من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم، فالنشأة: الخلق والإيجاد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه البدء والإعادة لأن قدرته لذاته وكل الممكنات بالنسبة إلى ذاته سواء، فيقدر على النشأة الأخرى، كما قدر على النشأة الأولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه. وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردّون بعد موتكم. بِمُعْجِزِينَ ربكم عن إدراككم، أي جاعلين الله عاجزا. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا تفوتونه أينما كنتم، سواء بالتواري في الأرض أو التحصن في السماء. مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. مِنْ وَلِيٍّ قريب، أو متولي الأمر يمنعكم منه. وَلا نَصِيرٍ معين، ينصركم من عذابه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته أو بكتبه. وَلِقائِهِ بالبعث. يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة، فعبر عنه بالماضي لتحقق الوقوع والمبالغة فيه.
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بكفرهم.
المناسبة:
بعد الانتهاء من بيان قصة نوح أبي البشر الثاني عليه السلام، أورد الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وإمام الحنفاء، بقصد عرض نماذج من سيرة الأنبياء للنبي صلّى الله عليه وسلم ليتأسى بهم، ويسلو عما أهمه من إعراض قومه عن دعوته، كما بيّنت.(20/213)
التفسير والبيان:
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك حين دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء عذابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر فيهما، إن كنتم ذوي إدراك وعلم، تميزون به بين الخير والشر، وتفعلون ما ينفعكم.
فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ معناه: أخلصوا له العبادة والخوف. ثم أقام إبراهيم لقومه دليلين على التوحيد وعلى فساد ما هم عليه، وشر ما يسيرون عليه، فقال:
الدليل الأول:
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي إن الأصنام التي تعبدونها من غير الله، ما هي إلا أشياء مصنوعة من جص أو حجر، صنعتموها بأيديكم، فلا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، فسميتموها آلهة، وادعيتم أنها تشفع لكم عند ربكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تكذبون حين تصفونها بأنها آلهة.
فقوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً معناه: تختلقون الإفك أي الكذب والباطل، بتسمية الأوثان آلهة، وشركاء لله، أو شفعاء إليه.
الدليل الثاني:
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تقدر أن تجلب لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فكيف تعبدونها؟!(20/214)
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي فاطلبوا الرزق من عند الله، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها، فإن غيره لا يملك شيئا، تدركوا ما تطلبون، فكلوا من رزق الله، واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من مزيد الفضل، واستعدوا للقائه، فإليه ترجعون يوم القيامة، وتسألون عما أنتم عليه من عبادة غيره، ويجازي كل عامل بعمله.
ثم أقام إبراهيم دليلا على الرسالة، فقال:
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي وإن تكذبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فإن الأمم السابقة كذبوا رسلهم، ولكن بلغكم ما حلّ بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، فأضروا أنفسهم بذلك، وما المطلوب الواجب على الرسول إلا أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء، وعلى الله الحساب.
فقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ معناه: لا واجب عليه إلا التبليغ، وهو ذكر المسائل والأوامر المنزلة من عند الله، والإبانة: وهي إقامة البرهان على ما جاء به.
وبعد بيان الأصل الأول والاستدلال عليه وهو التوحيد، والإشارة إلى الأصل الثاني وهو الرسالة، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة متلازمة لا يكاد ينفصل ذكر بعضها عن بعض في البيان الإلهي، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أولم يشاهدوا كيفية بدء الخلق؟ فإن الله خلق أنفسهم بعد أن لم يكونوا شيئا(20/215)
مذكورا، وزودهم بالقدرة الجسدية وبطاقات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد، فإن الذي بدأ هذا قادر على إعادته، فإنه سهل عليه، يسير لديه، بل هو أهون عليه، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] .
وبعد إثبات المعاد بالدليل المشاهد في الأنفس، لفت الله تعالى النظر إلى آياته في الآفاق، فقال:
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قل يا محمد: سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السموات وما فيها من الكواكب النيّرة الثوابت والسيارات، والأرضين وما فيها من جبال ومهاد ووديان وبراري وقفار، وأشجار وأثمار، وأنهار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار. وذلك كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 41/ 53] وقوله سبحانه:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور 52/ 35- 36] .
هذا هو المتفرد بالخلق، وذلك دليل على وجوده، ومن قدر على الخلق قدر على الإعادة وإنشاء النشأة الآخرة يوم القيامة، فإن الله قدير على كل شيء، ومنه البدء والإعادة. وقد عبر أولا بلفظ المستقبل كَيْفَ يُبْدِئُ للدلالة على القدرة المستمرة، ثم عبّر بلفظ الماضي كَيْفَ بَدَأَ للعلم بما بدأ.
ويلاحظ أنه تعالى قال أولا أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ بصيغة الاستفهام، ثم قال: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بصيغة الأمر لأن الآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي: وهو الحاصل من غير طلب، والآية الثانية إشارة إلى(20/216)
العلم الفكري الحاصل بالتفكير والطلب، أي سيّروا فكركم في الأرض، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم، لتعلموا بدء الخلق.
ثم ذكر الله تعالى ما يكون بعد الإعادة فقال:
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي إن الله هو الحاكم المتصرف يعذب من يشاء منكم من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، فله الخلق والأمر، وإليه تردون يوم القيامة بعد الموت مهما طال الأمد، فيحاسب الخلائق على ما قدموا، وحسابه حق وعدل لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما
جاء في الحديث الذي رواه أهل السّنن: «إن الله لو عذّب أهل سماواته، وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم» .
وتقديم التعذيب في البيان على الرحمة، مع أن الرحمة سابقة كما
في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي»
لأنه ذكر الكفار أولا، ولمناسبته التهديد السابق بقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا ... وإعادة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ بعد قوله:
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للدلالة على أن التعذيب والرحمة وإن تأخرا، فلا بدّ من حصولهما، فإن إليه الإياب وعليه الحساب، وعنده يدخر الثواب والعقاب.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي وما أنتم أيها البشر بجاعلين الله عاجزا عن إدراككم في أرضه وسمائه، فلا يعجزه أحد من أهل السموات والأرض، ولا يقدر على الهرب من قضائه، بل هو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين ناصر ينصركم ويمنعكم من عذابه إن عذبكم.
وبعد الإفاضة في بيان هذه الأدلة على المعاد، والقدرة الإلهية الفائقة التصور، والتوحيد، هدد كل مخالف وتوعد كل كافر، فقال:(20/217)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي والذين جحدوا بآيات الله أي بدلائل وحدانيته وما أنزله على رسله من البراهين المرشدة إلى ذلك، وكفروا بالمعاد ولقاء الله في الآخرة، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله، بسبب كفرهم، ولهم عذاب مؤلم موجع شديد في الدنيا والآخرة، كما قال: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] .
وتكرار أُولئِكَ في الآية للدلالة على أن كل واحد من اليأس والعذاب لا يوجد إلا في الكفار، وقد أضاف اليأس إليهم بقوله: أُولئِكَ يَئِسُوا فلو طمعوا بالرحمة لأنزلها عليهم، ثم إنه تعالى أضاف الرحمة لنفسه رَحْمَتِي لبيان عمومها لهم ولزومها له، ولم يضف العذاب لنفسه لتخصيصه بالكفار.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كانت دعوة إبراهيم كدعوة جميع الأنبياء عليهم السلام إلى عبادة الله (أي إفراده بالعبادة) وتوحيده واتقاء عذابه بفعل أوامره وترك معاصيه.
وقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره، فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ إثبات الإله، وقوله: وَاتَّقُوهُ نفي الغير.
2- إن الوثنيين يعبدون أصناما من صنع أيديهم ويختلقون الكذب بجعل تلك الأصنام شركاء لله شفعاء عنده، مع أنها لا تملك ضرّا ولا نفعا، ولا تقدر على جلب الرزق لأحد، إنما الرازق الذي يطلب منه الرزق هو الله وحده، فيجب على العباد أن يسألوه وحده دون غيره لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور: إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته، وإما لكونه نافعا في الحال أو في المستقبل، وإما(20/218)
لكونه خائفا منه، فقوله: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها، وقوله: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وقوله: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ معناه اعبدوه لكونه مرجعا يتوقع الخير منه. وقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا تهديد.
3- الله تعالى هو بادئ الخلق، خلق الإنسان والحيوان والنبات والثمار، فتحيى ثم تفنى، ثم يعيدها، ويهلك الإنسان، ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة لأن القادر على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، وذلك هيّن يسير على الله، لأنه إذا أراد أمرا قال له: كُنْ فَيَكُونُ. وبإيراد آية أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ تكون الآيات دالة على الأصول الثلاثة:
التوحيد، والرسالة بقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والحشر.
4- إن آفاق الكون سمائه وأرضه خلقها الله تعالى، وهو الذي يعيد الخلق مرة أخرى لأنه القادر على كل شيء، وهذا يفيد كون الإعادة أمرا مقدورا، وذلك كاف في إمكان الإعادة، وهو تقرير لكون الأمر يسيرا على الله تعالى.
5- الله سبحانه هو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، يعذّب من يشاء تعذيبه بعدله وحكمته وهو تعذيب أهل التكذيب، ويرحم من يشاء رحمته بفضله، وهو رحمة المؤمنين، والجميع عائدون إليه، محاسبون أمامه، ولا يعجزه أحد في السماء والأرض. وهذا كله لتخويف العاصي وتفريح المؤمن.
6- ليس لأحد سوى الله من ولي يتولى أمره حفظا وعناية ورعاية، ولا من ناصر معين يعينه على التخلص من الشدائد.
7- إن الذين كفروا بالقرآن، أو بما أقامه الله من أدلة وأعلام على وجوده وتوحيده وقدرته لا نصيب لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى، فهم أيسوا من(20/219)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
الرحمة، وقد ذكّر الكفار بالله هنا بعد بيان أصلي التوحيد والإعادة وتهديد من خالف.
8- دلّ قوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلّغ شيئا ولم يبيّنه، فإنه لم يأت بالبلاغ المبين، فلا يكون آتيا بما عليه.
- 2- جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به وتعداد النعم عليه
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 27]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
الإعراب:
إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ إِنَّمَا: كافة ومكفوفة، وأَوْثاناً مفعول اتَّخَذْتُمْ واقتصر على مفعول واحد، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ. ومَوَدَّةَ مفعول لأجله، أي إنما اتخذتم الأوثان للمودة فيما بينكم. ويجوز أن تكون (ما) في إِنَّمَا اسما موصولا بمعنى(20/220)
الذي، في موضع نصب لأنها اسم (إن) وصلته اتَّخَذْتُمْ والعائد محذوف تقديره: اتخذتموهم، وهو المفعول الأول ل اتَّخَذْتُمْ والمفعول الثاني أَوْثاناً ومَوَدَّةَ مرفوع خبر (إن) . ومن نون مَوَدَّةَ نصب بَيْنِكُمْ على الظرف، والعامل فيه مَوَدَّةَ. وفِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف للمودة أيضا. وجاز أن يتعلق بها ظرفان لاختلافهما لأن أحدهما ظرف مكان والآخر ظرف زمان.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْآخِرَةِ جار ومجرور متعلق بمحذوف مقدر، أي: وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين، أو متعلق ب الصَّالِحِينَ على رأي بعضهم، فإنه نزلها منزلة الألف واللام التي للتعريف، لا بمعنى التي للذين.
البلاغة:
أَوْ حَرِّقُوهُ على طريقة أسلوب الإيجاز، أي حرقوه في النار، وكذا فَأَنْجاهُ اللَّهُ..
أي ففعلوا فأنجاه الله من النار.
المفردات اللغوية:
جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم له. إِلَّا أَنْ قالُوا كان ذلك قول بعضهم، لكن لما قيل فيهم أو رضي به الباقون، أسند إلى كلهم. حَرِّقُوهُ أحرقوه. فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي فقذفوه في النار، فأنجاه الله منها، بأن جعلها عليه بردا وسلاما. إِنَّ فِي ذلِكَ في إنجائه منها.
لَآياتٍ هي حفظه من أذى النار، وإخمادها مع عظمها في زمان يسير، وإنشاء روض مكانها.
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بها.
مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أي لتتواددوا بينكم وتتواصلوا في اللقاء على عبادتها. يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يتبرأ القادة من الأتباع. وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن الأتباع القادة. وَمَأْواكُمُ مصيركم جميعا. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.
فَآمَنَ لَهُ صدق بإبراهيم لُوطٌ هو ابن أخي إبراهيم واسمه هاران، أو ابن أخته وأول من آمن به. وَقالَ إبراهيم. إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من قومي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، فهجر قومه وهاجر من سواد العراق إلى الشام فنزل فلسطين، ونزل لوط سدوم.
الْعَزِيزُ في ملكه الذي يمنعني من أعدائي. الْحَكِيمُ في صنعه الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. إِسْحاقَ هو الابن الثاني لإبراهيم بعد إسماعيل. وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وحفيد إبراهيم فكان نافلة بعد أن أيس من الولادة من عجوز عقيم (عاقر) . وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته. وَالْكِتابَ يريد به الجنس، ليتناول الكتب الأربعة، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.(20/221)
أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا الرزق الواسع، والمنزل المريح، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل بين أهل الأديان جميعا. لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي في زمرة الكاملين في الصلاح. والصالح لغة: الباقي على ما ينبغي، يقال: طعام صالح، أي باق على حال حسنة.
التفسير والبيان:
بعد أن أقام إبراهيم عليه السلام لقومه الأدلة والبراهين على توحيد الله والرسالة والبعث أو الحشر، وأمرهم بعبادة الله تعالى، وندد بعبادة الأوثان، لم يجدوا جوابا له على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم إلا اللجوء إلى استعمال القوة، كما هو شأن المحجوج المغلوب على أمره المعتمد على جاهه وقوة ملكه، وهذا ما حكاه تعالى عنهم قائلا:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لم يجد قوم إبراهيم جوابا له على مطالبتهم بعبادة الله واتقاء عذابه إلا أن قال كبراؤهم ورؤساؤهم: اقتلوه، أو أحرقوه بالنار تحريقا شديدا، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله وسلمه منها، وجعلها بردا وسلاما عليه، لحفظه له وعصمته إياه. إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالات على وجود الله وقدرته لقوم يصدقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والحجج.
إنه مثل السوء ومدعاة العجب، يدعوهم إبراهيم عليه السلام إلى الخير، ويرشدهم إلى الحق والهدى، فيلقى في النار للتخلص منه، ولكن الله أكبر وأقدر من كيد البشر وقوتهم، فإنه جعل النار المحرقة غير مؤثرة فيه، وإنما صيّرها بردا وسلاما عليه.
وقد وصف الله في آيات أخرى هذا التقابل بين الفعلين، فقال: قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ(20/222)
[الصافات 37/ 97- 98] ، وقال سبحانه: قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء 21/ 68- 70] .
ثم ذكر الله تعالى جواب إبراهيم لقومه بعد النجاة من النار:
وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي قال إبراهيم لقومه مقرعا لهم، وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان: إنما اتخذتم هذه الأوثان لتجتمعوا على عبادتها، ولتتواددوا بينكم، وتقووا الصداقة والألفة بين بعضكم بعضا في حياتكم الدنيا، كاتفاق أهل المذاهب والأهواء على رابطة بينهم تكون سبب تجمعهم وتآلفهم، ولكن تلك الأوثان لا تعقل ولا تنفع ولا تضر، وإنما يكون اتخاذكم هذا لتحصيل المودة لكم في الدنيا فقط.
وستكون حالهم من التنافر والتباعد في الآخرة نقيض ذلك، فقال تعالى:
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ثم تنعكس هذه الحال يوم القيامة، فتنقلب هذه الصداقة والمودة بغضا وحقدا وعداوة، فيتبرأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف 7/ 38] ، وقال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] ثم يكون مصيركم إلى النار، ولن تجدوا حينئذ ناصرا ينصركم، ولا منقذا ينقذكم من عذاب الله تعالى.
هذا حال الكافرين، أما المؤمنون فبخلاف ذلك، يتصافون ويصفحون، ويعفو بعضهم عن بعض، كما ورد في بعض الأحاديث.
ثم ذكر تعالى أنه لم يؤمن بإبراهيم ولم يصدق بما رأى إلا لوط فقال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فلما نجا إبراهيم(20/223)
سليما من النار آمن به لوط، وصدق بنبوته، ولوط: هو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن آزر، ولم يؤمن به من قومه سواه وسارّة امرأة إبراهيم الخليل.
وقال إبراهيم: إني مهاجر من دياركم، متجه إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وقد هاجر من سواد العراق إلى حرّان، ثم إلى فلسطين ونزل لوط بلدة سدوم.
وعلة الهجرة هي كما قال:
إن ربي هو العزيز في ملكه الغالب على أمره، الذي يمنعني من أعدائي، وينصرني عليهم، الحكيم في تدبير شؤون خلقه، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح.
فقوله: وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ يعود الضمير إلى إبراهيم لأنه المكني عنه بقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي من قومه. ويحتمل عود الضمير إلى لُوطٌ لأنه أقرب المذكورين.
ثم عدّد تعالى نعمه على إبراهيم في الدنيا والآخرة لإخلاصه لربه، فقال:
1- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي ووهبنا إلى إبراهيم بعد إسماعيل في حال الكبر إسحاق، وكذا من نسله يعقوب نافلة حفيدا له، كما قال تعالى:
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مريم 19/ 49] ، وقال سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء 21/ 72] .
وفي الصحيحين: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام» .
2- وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي وجعلنا في ذرية إبراهيم النبوة، فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته، ولم يوجد نبي بعده إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،(20/224)
حتى كان آخرهم عيسى بن مريم، مبشرا بالنبي العربي الهاشمي خاتم الرسل على الإطلاق.
وآتيناه الكتاب، فكانت التوراة منزلة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، وكلهم من نسله.
3- وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا بكثرة الذرية والأموال والزوجة الصالحة والثناء الحسن، فجميع أهل الأديان يحبونه ويتولونه، قال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول: هو منا.
4- وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي وإنه يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح الذين لهم الدرجات العلا.
وبهذا جمع الله تعالى له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- أثبت إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه أصول الدين الثلاثة: وهي وحدانية الله، وصحة الرسالة أو النبوة، والبعث والحشر، وأقام البرهان الدامغ على ذلك، فكان جوابهم النابع من تمكن الكفر والعناد والمكابرة هو: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ثم اتفقوا على تحريقه، وهو قتل بالنار أشد نكاية وتعذيبا وتشفيا من القتل العادي.
2- حشد قوم إبراهيم الجموع العظيمة، وجمعوا الأحطاب الكبيرة، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لهبها إلى عنان السماء، ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم، فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فيها، فأنجاه الله وسلّمه،(20/225)
وجعلها عليه بردا وسلاما، كما قال تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء 21/ 69] .
أما كيفية استبراد النار فهو أمر معجز، والمعجز خارق للعادة، والله قادر على كل شيء، بسلب خاصية الحرارة عن النار.
لهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، فاجتمع على محبته جميع أهل الأديان.
3- إن في إنجاء إبراهيم من النار العظيمة، حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها، لآيات للمؤمنين بالله ورسله. وجمع الآيات هنا لأن الإنجاء من النار، وجعلها بردا وسلاما، ولم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به، وغير ذلك، مجموع آيات. وخص الآيات بالمؤمنين لأنه لا يصدق بذلك إلا المؤمنون، وفيه بشارة للمؤمنين بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة.
أما في قصة نوح فقال: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ للدلالة على اتخاذ السفينة وقت الحاجة وصونها عن المهلكات، فهي آية واحدة، وجعلها للعالمين علامة ظاهرة لبقائها أعواما حتى مرّ عليها الناس، ورأوها، فعلم بها كل أحد، وليس المؤمنين فقط.
4- بالرغم من إلقاء إبراهيم في النار، عاد إلى لوم الكفار وبيان فساد ما هم عليه وخطئه، وتمسكهم بالتقليد الأعمى، فقال: إنكم اتخذتم عبادة الأوثان لإيجاد نوع من التوادد والترابط والتواصل فيما بينكم، كالتوافق الذي يحدث بين أهل مذهب معين.
غير أن تلك الروابط واهية غير موثقة، فهي رابطة في الدنيا فقط، ثم تنقطع وتتلاشى في عالم الآخرة، فيقع التباغض والتلاعن والتعادي بينكم(20/226)
يوم القيامة، فتتبرأ الأوثان من عبّادها، والرؤساء من الأتباع، ويلعن الأتباع رؤساءهم، ويكون مأوى الجميع نار جهنم.
5- ليست نار الآخرة كالنار التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره، فإن الكفار في النار، وليس لهم شافع ولا ناصر دافع، ينصرهم ويمنع عنهم عذاب الله تعالى.
6- لوط عليه السلام أوّل من صدق إبراهيم عليه السلام حين رأى النار عليه بردا وسلاما، وتلك معجزة. قال ابن إسحاق: آمن لوط بإبراهيم، وكان ابن أخته، وآمنت به سارّة، وكانت بنت عمه.
7- بعد أن بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي بعد وجود الآية الكبرى، وهي نجاته من النار، ولم يؤمنوا، وجبت المهاجرة لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا، فبقاؤه فيهم عبث ولا جدوى فيه، لذا هاجر من أرض بابل ونزل بفلسطين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وامرأته سارّة. وهو أول من هاجر من أرض الكفر.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه- كما روى البيهقي- أول من هاجر بأهله إلى الحبشة في الهجرة الأولى، بعد لوط.
8- أكرم الله تعالى إبراهيم الخليل بعد هجرته، فمنّ عليه بالأولاد، فوهب له إسحاق ولدا، ويعقوب ولد ولد، من بعد إسماعيل، وجعل في ذريته النبوة، والكتاب، فلم يبعث الله نبيّا بعد إبراهيم إلا من صلبه، وأنزل الكتب الأربعة المعروفة على أناس من ذريته، فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والزبور على داود من ولد إسحاق بن إبراهيم، والقرآن (أو الفرقان) على محمد صلّى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل بن إبراهيم، وآتاه أجره في الدنيا باجتماع أهل الملل عليه، وجعله في الآخرة في زمرة الصالحين.
وكل هذا حثّ على الاقتداء بإبراهيم عليه السلام في الصبر على الدين الحق.(20/227)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
الإعراب:
وَلُوطاً إِذْ قالَ إما منصوب بالعطف على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو عطفا على نوح في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً أي وأرسلنا لوطا، أو منصوب بفعل مقدر، أي واذكر لوطا، وعامل إِذْ هو العامل في لوط والأولى عطفه على إِبْراهِيمَ.
إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ كاف مُنَجُّوكَ في موضع جرّ بالإضافة. وأَهْلَكَ منصوب بفعل مقدر، أي وننجي أهلك.(20/228)
البلاغة:
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ تأكيد بعد مؤكدات، وإطناب بتكرار فعل تأتون لتقبيح عملهم وتوبيخهم.
ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ استهزاء وسخرية، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سبق، أي إن كنت صادقا فائتنا به.
رِجْزاً مِنَ السَّماءِ التنكير لإفادة التهويل، أي عذابا عظيما شديدا.
الْعالَمِينَ الصَّادِقِينَ ظالِمِينَ الْغابِرِينَ وكذا يَفْسُقُونَ يَعْقِلُونَ توافق الفواصل.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً أي واذكر الْفاحِشَةَ الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة، وهي إتيان أدبار الرجال. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع السليمة. الْعالَمِينَ الإنس والجن. وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ الطريق على المارة، بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة، حتى انقطعت الطرق. فِي نادِيكُمُ مجالسكم الخاصة أو متحدثكم. الْمُنْكَرَ الأمر المخالف للشرع، المنفر للطبع السليم كاللواط وأنواع الفحش. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في استقباح الفاحشة وأن العذاب نازل بفاعليه.
انْصُرْنِي في إنزال العذاب. عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ العاصين بإتيان الرجال أو بابتداع الفاحشة، فاستجاب الله دعاءه.
بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب بعده. هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سدوم، قرية لوط.
ظالِمِينَ كافرين. قالُوا أي الملائكة الرسل. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب. سِيءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف، فخاف عليهم قومه، فأعلموه أنهم رسل ربه. وضاق ذرعه أي قصرت طاقته أو قدرته، وضده: طال ذرعه وذراعه، ورحب الذراع: إذا كان قادرا على الشيء لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. رِجْزاً عذابا شديدا، سمي بذلك، لأنه يقلق المعذّب، من قوله: ارتجز أو ارتجس أي اضطرب. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم. آيَةً بَيِّنَةً ظاهرة، وهي آثار خرابها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون أو يستعملون عقولهم في الاستبصار.(20/229)
المناسبة:
بعد أن ذكر الله قصة إبراهيم ذكر قصة لوط عليهما السلام لأنه كان معاصرا له في زمن إبراهيم، ولم يذكر في قصته هنا دعوته إلى التوحيد كسائر الأنبياء، وإنما اقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، وذكر ذلك عنه في موضع آخر حيث قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ [هود 11/ 78، الشعراء 26/ 163] وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجر 15/ 69] وكان قد أتى به إبراهيم وسبقه إليه. واختص لوط بالمنع من عمل قومه الفاحش، فلما يئس من ردعهم وتطهرهم من فاحشتهم، استنصر بربه، فاستجاب له وأهلك قومه، ونجاه مع من آمن به بسبب فحشهم وكفرهم بالله وبرسوله وقطعهم الطرق.
التفسير والبيان:
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي واذكر أيها الرسول لقومك للعبرة والعظة قصة نبي الله لوط عليه السلام حين أرسله الله إلى أهل قرية «سدوم» فأنكر عليهم صنيعهم وقبيح أعمالهم التي ابتدعوها، وقال منكرا عليهم أو محذرا أو موبخا ومقرعا لهم: أتأتون الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح شرعا وطبعا سليما؟! ثم كرر الإنكار عليهم ووضح تلك الفاحشة فقال:
1- أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ؟ أي تأتون الذكران بشهوة كإتيان النساء، ما سبقكم أحد قبلكم من بني آدم إلى هذه الفعلة.
2- وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي تقفون في طريق الناس، وتتعرضون للمارة بقتلهم وأخذ أموالهم وفعل الفاحشة بهم.
3- وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي وتفعلون ما لا يليق من الأقوال(20/230)
والأفعال في مجالسكم الخاصة، دون أن ينكر بعضكم على بعض شيئا من ذلك، فهم ذوو أخلاق سوء. والنادي: المجلس.
روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:
وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال: «يحذفون «1» أهل الطريق، ويسخرون منهم، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» .
وروي عن ابن عباس قال: إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، منها أنهم يتظالمون فيما بينهم، ويشتم بعضهم بعضا، ويتضارطون في مجالسهم، ويخذفون، ويلعبون بالنّرد والشّطرنج، ويلبسون المصبغات. ويتناقرون بالديكة، ويتناطحون بالكباش، ويطرّفون أصابعهم بالحنّاء، وتتشبه الرجال بلباس النساء، والنساء بلباس الرجال، ويضربون المكوس «2» على كل عابر، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسّحاق.
وفسر مجاهد المنكر: بأنه الصفير، ولعب الحمام، والجلاهق «3» والسؤال في المجلس، وحل أزرار القباء.
فكان جوابهم:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فما كان جوابهم بعد نهيهم عن الفاحشة وغيرها إلا قولهم بسبب كفرهم واستهزائهم وعنادهم: عجل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به. وهذا كان في بداية وعظه لهم، فلما ألح عليهم في الإنكار قالوا كما
__________
(1) الحذف أو الخذف: الرمي بالحصى.
(2) رسوم المرور الظالمة.
(3) كعلابط البندق الذي يرمى به.(20/231)
جاء في آية أخرى: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف 7/ 82] .
ولما يئس لوط من استجابة قومه طلب من الله النصرة عليهم فقال:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أي قال لوط داعيا: رب انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض بابتداع الفاحشة.
ومن المعلوم أنه ما طلب نبي من الأنبياء هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 27] أي لا مصلحة ولا خير يرتجى فيهم لا حالا، ولا مآلا في المستقبل.
فاستجاب الله دعاءه، وبعث ملائكة العذاب لنصرته:
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى، قالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي بعث الله ملائكة، فمروا على إبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءهم بما ينبغي للأضياف، فلما رأى أنه لا رغبة لهم في الطعام خاف منهم، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بولد صالح من امرأته «سارّة» وهو إسحاق، ومن بعده يعقوب، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط لأنهم قوم ظالمون أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم رسولهم وتماديهم في الفساد والفحش.
فأخذ إبراهيم يدافع، لعلهم يمهلونهم، ولعل الله يهديهم، وأشفق على ابن أخيه لوط، فقال:
قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي قال إبراهيم مشفقا على لوط: إن في القرية لوطا، وهو غير ظالم، وهو رسول، فقالت الملائكة الرسل: نحن أعلم منك بمن(20/232)
فيها من المؤمنين والكافرين، وإنا لننجي لوطا وأهله وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلا امرأته، فهي من الهالكين لأنها كانت تمالئ القوم على كفرهم وبغيهم وخبائثهم.
ثم قدموا على لوط فدخلوا عليه في صورة شبان حسان، فلما رآهم ضاق بهم، كما حكى تعالى:
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً، وَقالُوا: لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي ولما جاءت الملائكة الرسل إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه، اغتم بأمرهم، وخاف عليهم من قومه، فقالوا له معرضين بحالهم: لا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث، وإنا جئنا لتعذيبهم، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب، إلا امرأتك، فإنها من الهالكين لتواطئها معهم على الفساد، فكانت تدلهم على ضيوفه، وكانت تدافع عنهم، وترضى بأفعالهم.
ثم وصفوا العذاب بقولهم:
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي إننا سننزل على أهل قرية «سدوم» عذابا شديدا عظيما من السماء، تضطرب له نفوسهم، بسبب فسقهم.
وكان العذاب هو الزلزلة التي خسفت بهم الأرض، وصار مكان قريتهم بحيرة لوط (البحر الميت) فاقتلع جبريل عليه السلام قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم، وأرسل الله الحمم وحجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد، ولهذا قال تعالى:
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ولقد تركنا من القرية(20/233)
بعض آثار منازلهم الخربة أو أخبارهم علامة ظاهرة واضحة، وعبرة أو عظة لقوم يتدبرون ويستبصرون بعقولهم الأمور، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات 37/ 137- 138] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآية ما يأتي:
1- أنكر نبي الله لوط على قومه الذين أرسل إليهم في «سدوم» إنكارا شديدا مع التوبيخ والتحذير فعل ثلاثة أمور: ارتكاب الفاحشة (اللواط) وقطع الطريق لأخذ الأموال والفاحشة والاستغناء عن النساء، وفعل المخازي في مجالسهم الخاصة.
2- لقد قابل القوم هذا الإنكار بالاستهزاء والعناد والتكذيب واللجاج، فطلبوا إنزال العذاب الذي يهددهم به إن كان صادقا فيما يقول ظنا منهم أن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه، ثم هددوه في آية أخرى بالطرد والإخراج من قريتهم.
3- تدل الآية على وجوب الحد في اللواطة لأنها فاحشة كالزنى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء 17/ 32] واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه، فما شرع زاجرا في الزنى، يشرع زاجرا في اللواطة.
وهذا وإن كان قياسا إلا أن علة القياس مستفادة من الآية، فتكون منصوصا عليها، والقياس المنصوص العلة متفق على العمل به.
4- ما طلب نبي هلاك قوم إلا إذا يئس من هدايتهم، وعلم أن عدمهم خير من وجودهم، لذا دعا لوط عليه السلام ربه أن ينصره على القوم المفسدين، فأجاب الله دعاءه.
5- إذا نزل العذاب بقوم نجى الله الصالحين المؤمنين منهم كما نجى لوطا وأهله(20/234)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
الذين اتبعوه، وأهلك الظالمين المفسدين مرتكبي الفاحشة كما فعل بقوم لوط وامرأته التي كانت راضية بأفعالهم، وتدلهم على ضيوف لوط، فكان حكمها حكمهم لأن الدال على الشر كفاعله، كما أن الدال على الخير كفاعله.
6- ترك الله تعالى بعض آثار منازلهم الخربة للعبرة والعظة لمن يتأمل من العقلاء بمصير الظالمين ومآل الكافرين في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكى في الآخرة.
7- اشتملت مهمة الملائكة الرسل في ضيافة إبراهيم أمرين:
الأول- البشارة التي هي أثر الرحمة، والإنذار بالإهلاك الذي هو أثر الغضب، ورحمته تعالى سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار.
الثاني- لم يعلل الملائكة البشرى بشيء، فلم يقولوا مثلا: لأنك رسول مخلص أو لأنك مؤمن، أو لأنك عادل، وعللوا الإهلاك بقولهم: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لأن صاحب الفضل المطلق لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم.
قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام مع أقوامهم
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)(20/235)
الإعراب:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً مَدْيَنَ: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
وشُعَيْباً: منصوب بفعل مقدر، تقديره: أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لعاملها.
وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض الَّذِينَ في آية وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أو منصوب بفعل مقدر، تقديره: وأهلكنا عادا وثمودا، بدلالة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنه في معنى الإهلاك، وكلمة ثمودا هنا مصروف لأنه اسم للحي، وورد في مكان آخر ممنوعا من الصرف لأنه بمعنى القبيلة.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ كلها أسماء منصوبة بالعطف على عاداً في جميع الأوجه التي ذكرت، ولا ينصرف للعجمة والتعريف (العلمية) .
البلاغة:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. تقديم المفعول للاهتمام به، وفي الآية إجمال ثم تفصيل.
المفردات اللغوية:
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، وأصلها: أبو القبيلة. وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، فأقيم المسبب مقام السبب. وقيل: إنه من الرجاء بمعنى(20/236)
الخوف، أي واخشوا يوم القيامة. وَلا تَعْثَوْا لا تفسدوا من عثي: أفسد، ومفسدين حال مؤكدة لعاملها. الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، وقيل: صيحة جبريل لأن القلوب ترجف بها.
جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين، أي ماتوا.
وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض مساكنهم، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم بالحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، فكانت قبيلة عاد تسكن الأحقاف قرب اليمن، وثمود تسكن الحجر قرب وادي القرى. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ السوي، سبيل الحق الذي بيّن الرسل لهم. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ذوي بصائر، متمكنين من النظر والاستبصار، ولكنهم لم يفعلوا.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ أي وأهلكنا، وتقديم قارون لشرف نسبه بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحات. سابِقِينَ فائتين عذابنا غير مدركين، بل أدركهم أمر الله، مأخوذ من سبق طالبه: إذا فاته.
فَكُلًّا من المذكورين. أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي عاقبنا بذنبه. حاصِباً ريحا عاصفا فيها حصباء، كقوم لوط، يقال: حصبه يحصبه: إذا رماه بالحصباء: وهي الحجارة الصغيرة.
الصَّيْحَةُ الصرخة الشديدة، كمدين وثمود. مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وقومه. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعذبهم بغير ذنب. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب الذنب والتعرض للعذاب.
المناسبة:
بعد أن قص الله تعالى قصص نوح وإبراهيم ولوط، أردفه بقصص شعيب وهود وصالح وموسى بإيجاز، لفائدة العظة والاعتبار بأحوال هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم.
ويلاحظ أن هذه القصص هنا ذكر فيها القوم جريا على الأصل أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم، ولأن قوم شعيب وهود وصالح كان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، مثلما ذكر قارون وفرعون وهامان لاشتهارهم بالطغيان. أما قوم نوح وإبراهيم ولوط فلم يكن لهم اسم(20/237)
خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي فقيل: قوم نوح وقوم لوط.
التفسير والبيان:
قصة شعيب:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي وأرسلنا إلى مدين نبي الله شعيبا الذي كان من أهل مدين، فأمرهم بعبادة الله وحده، وإخلاص العبادة له، وفعل ما يرجون به ثواب اليوم الآخر، والخوف من بأس الله ونقمته يوم القيامة، ونهاهم عن الإفساد في الأرض، والبغي على أهلها، بإنقاص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، وغير ذلك من المعاصي التي تجب التوبة منها، وأخطرها الكفر بالله ورسوله، كما قال:
فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي فقابلوه بالتكذيب والعناد، والإصرار على الكفر والعصيان، فأهلكهم الله بزلزلة (رجفة) عظيمة، قوضت أركان ديارهم، وصيحة هزت جنبات نفوسهم، وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم، أدى إلى إماتتهم، فأصبحوا في ديارهم ميتين لا حراك بهم، ألقي بعضهم على بعض.
وقد تقدم بيان قصتهم في سور: الأعراف، وهود، والشعراء.
قصة هود وصالح:
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي وأهلكنا عادا قوم هود عليه السلام(20/238)
الذين كانوا يسكنون الأحقاف، وهي قرية من حضرموت في بلاد اليمن، وأهلكنا ثمود قوم صالح عليه السلام الذين كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى، بين الحجاز والشام، ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، وكانت العرب تعرف مساكنهم جيدا، وتمر عليهم كثيرا.
فأنتم يا أهل مكة ويا مشركي العرب قد تبين لكم إهلاكهم من آثار مساكنهم، واطلعتم على معالم عذابهم، فإن الشيطان قد زين لهم أعمالهم من عبادة غير الله، وكفرهم بربهم، واقترافهم المعاصي، وصدهم الناس عن الدين الحق والسبيل الأقوم، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستبصار، فلا عذر لهم في ترك الإيمان بربهم، إلا أنهم لم ينتفعوا بطاقات فكرهم ونظرهم في عواقب الأمور.
أفلا يكون جديرا بكم أن تتعظوا بهؤلاء، فالعاقل من اتعظ بغيره؟!
قصة موسى:
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ، وَما كانُوا سابِقِينَ أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الوفيرة والكنوز العظيمة، وفرعون ملك مصر في زمن موسى، ووزيره هامان. وكان موسى قد جاءهم من عند ربه بالحجج الواضحات الدالة على صدق رسالته، فاستكبروا في الأرض وأبوا تصديقه والإيمان به، وكذبوه وكفروا بالله تعالى وبرسوله، وكانوا خاطئين آثمين عالين مفسدين، ولكنهم لم يكونوا فائتين الله، ولا هاربين من عذابه، بل أدركهم أمر الله وبطشه فإنه القادر القاهر العزيز الغالب.(20/239)
أنواع عقوبات الأقوام المكذبين:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فلقي كل قوم ما يناسبه من العقاب، وأهلكهم الله سبب تكذيبهم الرسل، وكانت عقوباتهم أربعة أنواع:
1- الريح العاصفة: أرسل الله على بعضهم كقوم عاد حاصبا، أي ريحا صرصرا باردة عاتية شديدة الهبوب جدا، تحمل الحصباء (الحجارة الصغيرة) فتلقى عليهم، وتقتلعهم من الأرض، وترفعهم إلى عنان السماء، ثم تصرعهم على الأرض، فيصبحون جثثا هامدة، وذلك لكفرهم وقولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] ؟! 2- الصيحة: وأرسل الله على قوم ثمود الصيحة (أو الرجفة) حين أصروا على كفرهم فلم يؤمنوا، واستمروا على طغيانهم، وهددوا نبي الله صالحا عليه السلام ومن آمن معه وتوعدهم بالإخراج والرجم، فجاءتهم صيحة أخمدت أصواتهم وحركاتهم، ومثلهم أهل مدين.
3- الخسف: عاقب الله قارون الذي طغى وبغى، وعتا وعصا الرب الأعلى، وتكبر وتجبر واختال في مشيته، فخسف به وبداره الأرض، ليكون عبرة لكل عات جبار.
4- الإغراق: أغرق الله قوم نوح بالطوفان لكفرهم وعبادتهم الأصنام، كما أغرق فرعون وهامان وجنودهما في صبيحة يوم واحد، فلم ينج منهم أحد.
وكل عقوبة مما ذكر كانت جزاء وفاقا على ظلمهم وآثامهم، وليس ظلما لهم، كما قال تعالى:(20/240)
وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي وما كان ينبغي لله أن يظلمهم أبدا فيما فعل بهم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم وبظلمهم أنفسهم وكفرهم بالله ربهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
هناك سبب مشترك في عقاب الأمم المتقدمة وإهلاكهم وهو الكفر بالله كفر تحد وعناد، مع الإفساد، في الأرض بالمعاصي الكبائر.
فقوم مدين: رفضوا دعوة نبيهم شعيب عليه السلام الذي قال لهم: الله تعالى واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد بالكفر والظلم والمعصية محرم فلا تقربوه، فكذبوه فيما دعاهم إليه وأخبرهم به.
فعاقبهم الله كما ذكر هنا وفي الأعراف بالرجفة، وفي هود بالصيحة، والأمر واحد، فإن الصيحة كانت سببا للرجفة، أي زلزلة الأرض، إما بسبب صيحة جبريل، وإما بسبب رجفة الأفئدة التي ارتجفت منها، ولما كانت الصيحة عظيمة أحدثت الزلزلة في الأرض، فأصبحوا جاثمين ميتين في ديارهم.
وقبيلتا عاد وثمود: أهلكهما الله تعالى بظلمهم، أما عاد قوم هود عليه السلام فقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] ؟ فأنكروا وجود الإله الخالق القادر، وعتوا وبغوا وتعالوا على الناس، فدمر الله ديارهم بمن فيها بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 6- 7] .
وأما ثمود قوم صالح فكذبوا رسولهم وأعلنوا كفرهم وهددوا نبيهم بالطرد والإخراج من بلدهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله إليهم معجزة لنبيهم صالح، وكان عقابهم كعقاب أهل مدين بالصيحة أو الزلزلة أو الطاغية، وبقيت آثار ثمود وعاد بالحجر والأحقاف شاهدة على ظلمهم، وآية بينة مؤثرة للمعتبرين المتعظين.(20/241)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
ورؤوس الطغيان والبغي في مصر: قارون وفرعون وهامان، استكبروا في الأرض، وظنوا أن الله غير قادر عليهم، فخسف الله بقارون وبداره الأرض، وأغرق فرعون وهامان وجنودهما في البحر.
ولم يكن العقاب بالهلاك ظلما، فكل فئة أخذت بجريرة ذنبها العظيم، وما كان الله ليظلمهم لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر، وإنما ظلموا أنفسهم.
تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 43]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
الإعراب:
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ الكاف: في موضع رفع لأنها خبر المبتدأ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ.. ما: إما بمعنى «الذي» في موضع نصب ب يَعْلَمُ وتقديره: إن الله يعلم الذين يدعون من دونه من شيء، فحذف العائد تخفيفا. وإما أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَدْعُونَ وتقديره: أي شيء تدعون من دونه، وهو قول الخليل وسيبويه.
البلاغة:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً تشبيه تمثيلي، شبه(20/242)
الكفار في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيف النسج قابلا للاختراق والزوال بنفخة هواء. والتشبيه التمثلي: هو ما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد.
المفردات اللغوية:
مَثَلُ المثل: الصفة التي تشبه المثل في الغرابة. أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها.
الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة. اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها تأوي إليه مما نسجته من شبكة واهنة ضعيفة. أَوْهَنَ أضعف البيوت، لا يدفع عنها حرا ولا بردا، كذلك الأصنام لا تنفع عابديها.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذلك ما عبدوها.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ على إضمار القول، أي قل للكفرة: إن الله يعلم الذي يعبدون، والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل. مِنْ دُونِهِ غيره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب القوي في ملكه، الحكيم في صنعه، وهو تعليل لما سبق، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه، فالجماد بالنسبة إلى القادر القاهر على كل شيء، البالغ النهاية في العلم وإتقان الفعل كالمعدوم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا المثل ونظائره. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نجعلها مثلا تقريبا لأفهامهم. وَما يَعْقِلُها يفهمها. إِلَّا الْعالِمُونَ المتدبرون الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم: من عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» .
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك من أشرك بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، دون أن ينفعه معبوده في الدارين، شبّه حال هذا المشرك الذي اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت التي اتخذت بيتا لا يحميها من الأذى، ولا يمنع عنها الحر أو البرد.
ثم أكد ذلك فأوضح أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يعبد وتترك عبادة الله القادر القاهر الحكيم المتقن؟ ثم لفت النظر إلى فائدة ضرب الأمثال وهي التقريب للأفهام وإدراك العقلاء لمغزاها.(20/243)
التفسير والبيان:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً أي صفة المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله، طمعا في نصرهم ورزقهم ونفعهم، والتمسك بهم في الشدائد، كصفة العنكبوت في ضعفها اتخذت لنفسها بيتا يقيها الأذى والحر والبرد، فلم يفدها شيئا، وإذا هبت ريح يصير هباء منثورا.
فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم أصنامهم، ولا تدفع عنهم سوءا، ولا تجديهم شيئا، وتصبح أعمالهم للأوثان مبددة ذاهبة الأثر، كما قال تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] .
ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف هذا البيت، فقال:
وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي وإن أضعف البيوت بيت العنكبوت لأنه يخرب بأدنى شيء، ولا يبقى منه أثر، فكذلك عملهم لا أثر له، فلو كانوا يعلمون علما صحيحا أن أصنامهم وعبادتهم لها لا تنفعهم شيئا، ما فعلوا ذلك، إلا أنهم في الواقع في غاية الجهل، لا يعلمون شيئا من عواقب الأمور، فتراهم يظنون بذلك النفع.
ثم أكد الله تعالى كون تلك المعبودات ليست بشيء، فقال متوعدا عابديها:
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الله يعلم أن الذي يعبدونه من غيره من الأصنام والجن والإنس ليس بشيء، وهو القوي الغالب القادر على الانتقام ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره، الحكيم في صنعه وتدبيره خلقه، يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم.(20/244)
ثم أبان تعالى فائدة ضرب الأمثال، فقال:
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أي هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم، يضربها للناس تقريبا لأفهامهم، وتوضيحا لما التبس عليهم، وما يفهمها ويدركها ويتدبر حقيقتها إلا العلماء الأثبات، المتضلعون في العلم، المتأملون في القضايا والمسائل.
روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: «العالم من عقل عن الله تعالى، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» .
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- إن عبادة الأصنام والأوثان فارغة المحتوى، لا مضمون فيها، ولا هدف لها، وما مثلها في عدم النفع إلا كمثل بيت العنكبوت. قال الفراء: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا.
2- شبّه الله تعالى حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت التي تتخذ أضعف البيوت، ولو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا، وأن هذا مثلهم أو صفتهم، لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. أما قتل العنكبوت فروي عن سيدنا علي جوازه قائلا: إن تركه في البيوت يورث الفقر. وهذا صحيح لأن العناكب من الحشرات السامة.
3- إن الله يعلم ضعف كل ما يعبدون من دونه من ملائكة وكواكب وأصنام وجن وإنس، فرثى لحالهم، وعجب من صنعهم، فنبههم على سطحية تفكيرهم، وسوء اعتقادهم، وأن جميع تلك المعبودات مثل بيت العنكبوت لأن كل ما عدا(20/245)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، فلا معبود بحق إلا الله، ولا إله سواه.
4- إن ضرب الأمثال أي بيانها وعقد المقارنة بين المتشابهات أمر مفيد للناس، لمعرفة حقائق الأمور، ولكن لا يفهم تلك الأمثال إلا العالمون بالله تعالى.
قال أبو حيان: وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة، فتبرزها وتصورها للفهم، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد «1» .
5- حقا إن المشرك في غاية الجهل في الاعتقاد، لذا كانت هذه الآيات تجهيلا للمشركين، حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد، لا علم لديه، ولا قدرة أصلا عنده، وتركوا عبادة القادر القاهر، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة.
أما المسلم المؤمن قلبه بالله فهو واع لما يفعل، مقدر ما يعبد، يبغي الخير في عبادته، ويحسن العمل في اتباع الشرع لأن فيه نجاته وإنقاذه، ويصل إلى مبتغاه فعلا بجلب النفع والخير، ودفع الضرر والشر.
فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 44 الى 45]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
__________
(1) البحر المحيط 7/ 153.(20/246)
المفردات اللغوية:
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ محقا غير قاصد به باطلا، وقصده بالذات من خلقهما إفاضة الخير، والدلالة على ذاته وصفاته، كما أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دلالة على قدرته تعالى. لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون بها في الإيمان، بخلاف الكافرين.
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ القرآن، تقربا إلى الله بقراءته، واستكشافا لمعانيه، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها لأنها تذكر بالله، وتورث النفس خشية، أي من شأنها ذلك. والمنكر: القبيح شرعا وعقلا.
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له، فقال: «إن صلاته تنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب.
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها بالذكر لاشتمالها على الذكر الذي هو العمدة في تفضيلها على سائر الحسنات ونهيها عن السيئات. ويصح أن يكون المعنى: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ منه ومن سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى الناس بالإيمان، وأبان ضعف دليل الكفار على عبادة معبوداتهم، لفت النظر إلى من تجب له العبادة وهو الذي لا يعجزه شيء، وخالق السموات والأرض، والمرشد بكتابه إلى معالم الحق، والمبين طريق العبادة المرضية له وهو الصلاة. كما أن في الآيات تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن إعراض الكفار واليأس منهم، بالتأمل في خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن الدال على أن الرسل السابقين كنوح وإبراهيم ولوط بلغوا الرسالة، وأقاموا الأدلة على الإيمان بالله تعالى، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة.
التفسير والبيان:
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الله تعالى أوجد وأبدع السموات والأرض للدلالة على قدرته العظيمة، وإفاضة الخير، ولحكم وفوائد دينية ودنيوية، فقد خلقهما محقا غير قاصد الباطل، ولم(20/247)
يخلقهما عبثا ولهوا ولعبا، وفي ذلك دلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والألوهية، كما
جاء في رواية عن الله عز وجل: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني»
إلا أنه لم يصح حديثا، ومعناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] .
ولا ينتفع بتلك الدلالات ولا يفهم هذه الأسرار إلا المؤمنون المصدقون بالله ورسوله لأنهم يستدلون بآثار الخلق على وجود المؤثر فيها.
ثم أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس للاستزادة من المعرفة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته فقال:
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي اقرأ يا محمد ومثلك كل مسلم، وأدم تلاوة هذا القرآن وتبليغه للناس، فإنه إمام ونور، وهدى ورحمة، ودليل خير ونجاة، وعلاج ما استعصى من الأزمات والمحن، وتخطي مراحل اليأس والقنوط.
كذلك أمر تعالى بالصلاة قرة عين المؤمن فقال:
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي وأدّ أيها النبي وكل مؤمن فريضة الصلاة ونافلتها تامة الأركان والشروط، مع الخشوع والخضوع لله، واستحضار خشية الله في جميع مراحلها، فهي تشتمل بمواظبتها على شيئين:
ترك الفواحش والمنكرات، وهي عماد الدين، وصلة بين العبد وربه، ودليل الإيمان واليقين، وفرجة المكروب والمحزون، وسبب لتطهير العبد من آثار الذنوب والمعاصي.
جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره من رواية عمران وابن عباس مرفوعا: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا»
وروى أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «حبّب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» .(20/248)
وكل ذلك مشروط بأدائها بخشوع وخضوع وإخلاص كما ذكر، حتى تكون ذات مدلول وروح، وذات إشعاع تملأ النفس استحضارا لعظمة الله والخوف منه، وإلا كانت مجرد حركات وأفعال مادية فاقدة الأثر المقصود منها. ثم أكد تعالى رفعة شأن الصلاة فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وذكر الله وتفقده الناس العابدين برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته، والله عليم بما تصنعون من خير أو شر، وعليم بذات الصدور، يعلم جميع أقوالكم وأفعالكم ونياتكم: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] وفي ذلك وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله في كل الأحوال، فمن يعلم أن الله يسمعه ويراه، لزم الحياء، وخشي العذاب، وأحسن العبادة. ومن أتى بالذكر النافع وهو الحاصل عن علم وتأمل ووعي قلب وتفرغ نفس مما سوى الله، نال المراد، وحقق المبتغى، وأما ما كان مجرد لقلقة باللسان، دون استحضار لعظمة الله وخشوع معه، فلا خير فيه ولا نفع.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- خلق الله السموات والأرض على وجه الإحكام والإتقان والعدل والقسط، ولأهداف وغايات دينية ودنيوية، منها أن الإنسان يستدل بهما على وجود الخالق القادر الكامل الشامل العلم، الذي لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات فيهما، ولا يعجزه شيء فيهما.
2- إن المستفيد من خلق السموات والأرض هو الإنسان، ولا ينتفع في دلالتهما على الاعتقاد بوجود الخالق الواحد إلا المصدقون بالله ورسوله.
3- على المسلم مواظبة التلاوة لآي القرآن، وتبليغ أحكامها المستفادة منها، فإن القرآن كتاب هداية، ودستور حياة فاضلة.(20/249)
4- على المؤمن أيضا استدامة إقامة الصلاة: وهو أداؤها في وقتها بقراءتها، وركوعها وسجودها، وقعودها، وتشهدها، وجميع شروطها.
5- إن الصلوات الخمس لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة تنهى عن الفواحش والمنكرات، وتكفّر ما بينها من الذنوب إذا أديت بحقها وكانت مع استحضار عظمة الله وبأسه،
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» .
وروى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم؟» .
ويؤكده
الحديث المتقدم الذي رواه الطبراني وغيره: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا، ولم يزدد بها من الله إلا مقتا» .
قال أبو العالية في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ:
إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله: القرآن يأمره وينهاه.
6- دل قوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على أن الصلاة أكبر من سائر الطاعات وأفضل من كل العبادات، وأن ذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم ورحمته إياهم أكبر من ذكرهم له في عبادتهم وصلواتهم، وكذلك أن تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ينبغي أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم.(20/250)
روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ: «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» .
وفي حديث آخر: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم» «1» .
7- الذكر النافع: هو الذي يكون مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه، إلا من الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان فله رتبة أخرى.
وذكر الله تعالى للعبد: هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة 2/ 152] .
8- إن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ نوع من الوعد والوعيد، وحث على مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن.
آمنت بالله تعالى انتهى الجزء العشرون
__________
(1) روى الطبراني عن معاذ بن انس حديثا بلفظ: «لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الملأ الأعلى» .(20/251)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
[الجزء الحادي والعشرون]
[تتمة سورة العنكبوت]
طريقة إرشاد أهل الكتاب
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
المفردات اللغوية:
وَلا تُجادِلُوا المجادلة والجدل: الحجاج والمناظرة والمناقشة أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر وبالتوراة والإنجيل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم وضبط النفس، والمشاغبة بالنصح، والتنبيه إلى آيات الله وحججه إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي لكن الظالمون منهم بالإفراط في الاعتداء والعناد والمحاربة، فجادلوهم وعاملوهم بالمثل وَقُولُوا لمن سالمكم وأذعن للحق أو قبل المعاهدة السلمية معكم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي صدّقنا بما أنزله الله إلينا وهو القرآن، وما أنزله إليكم في أصوله الصحيحة من التوراة والإنجيل، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم في ذلك، فهذا من المجادلة بالتي هي أحسن.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يأتي تخريجه: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وملائكته وبكتبه ورسله، فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم، وإن قالوا حقا لم تكذبوهم» .(21/5)
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ خاضعون مطيعون له خاصة، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى.
وَكَذلِكَ ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن، كما أنزلنا إليهم التوراة وغيرها، وكان القرآن وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة كعبد الله بن سلام وأمثاله يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن وَمِنْ هؤُلاءِ أهل مكة أو العرب أو الكتابيين الموجودين في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها وقيام الحجة عليها، والجحد: إنكار الشيء بعد معرفته والعلم به إِلَّا الْكافِرُونَ المتوغلون في الكفر، وهم المشركون وغير المسلمين الذين لا يؤمنون بالإسلام والقرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد أن ظهر لهم أن القرآن حق، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم حق، ثم جحدوا ذلك.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي إنك أمي لم تكن تعرف القراءة والكتابة قبل نزول القرآن، فإن هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الذي نزل على أمي لم يعرف القراءة والتعلم أمر خارق للعادة إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت قارئا كاتبا لشك أهل الباطل كاليهود فيك. وإنما سماهم مبطلين لكفرهم وكونهم غير محقين فيما ذهبوا إليه من التنكر لرسالة الإسلام.
بَلْ هُوَ أي القرآن الذي جئت به آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي هو آيات واضحات الدلالة على الحق في قلوب أهل العلم وهم المؤمنون فيحفظونه من كل تحريف وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي وما ينكر آيات الله إلا الظالمي أنفسهم الذين جحدوا وجه الحق، بعد وضوح دلائل إعجاز تلك الآيات.
المناسبة:
بعد بيان الله تعالى طريقة إرشاد المشركين عبدة الأصنام أو غيرها، أبان الله تعالى طريقة إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى المنكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والقائلين ببقاء شريعتهم وأنها لم تنسخ بشريعة أخرى، مبتدئا بأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به أن يعلنوا إيمانهم بالقرآن وبما تقدمه من التوراة والإنجيل، وبإطاعة الإله الواحد، ثم مبينا إيمان بعض أهل الكتاب وبعض المشركين من أهل مكة بالقرآن، ثم موضحا دليل الإيمان بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو كونه أميا لم يقرأ ولم يكتب، وكون القرآن مشتملا على علوم نافعة فريدة.(21/6)
التفسير والبيان:
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي ولا تحاججوا، ولا تناقشوا اليهود والنصارى إلا بالطريقة الحسنة وبالأسلوب الهادئ اللطيف، إلا الذين ظلموا أنفسهم، وحادوا عن سبيل الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم ينفع معهم أسلوب المنطق والإقناع العقلي، فهؤلاء يعاملون بالمثل، ويرد على عدوانهم ومكابرتهم بطريقتهم نفسها، فيقاتلون ويردعون بالحرب، وهؤلاء- كما قال مجاهد وسعيد بن جبير- هم الذين نصبوا للمؤمنين الحرب، فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وهذا هو العلاج الحاسم كما قال الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف للعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
أما القسم الأول من الآية، فقال قتادة وآخرون: هذه الآية منسوخة بآية السيف ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. واحتجوا بأن الآية مكية. والحق كما قال مجاهد وآخرون أن هذه الآية باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم- من أهل الكتاب- في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ويدعى إلى الله عز وجل وحده لا شريك له، وينبه على حججه وآياته، رجاء إجابته إلى الإيمان، بغير إغلاظ ولا مخاشنة، كما قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. [النحل 16/ 125] وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] . واختار هذا القول ابن جرير الطبري.
وأما القسم الثاني من الآية فلا خوف في محاربته لعدوانه، فيقاتل بما يمنعه ويردعه، قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 57/ 25] .(21/7)
أسلوب الجدال:
1- وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي إذا دعوتم أيها الرسول وأتباعه أهل الكتاب إلى الإيمان برسالة الإسلام، وأخبروكم عما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فلا تصدقوهم لأنه قد يكون كذبا أو باطلا، ولا تكذبوهم لأنه قد يكون حقا أو صحيحا، وإنما قولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا وإليكم وإلى البشر كافة، وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم أي نؤمن بالمنزّل فعلا على موسى وعيسى عليهما السلام، غير المبدّل ولا المؤول، ومعبودنا ومعبودكم الحق واحد لا شريك له، ونحن له خاضعون مطيعون أمره ونهيه.
أخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» .
وأخرج الإمام أحمد أن أبا نملة الأنصاري «1» أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم» .
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم يهدوكم وقد ضلّوا، إما أن تكذّبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل» .
__________
(1) أبو نملة: هو عمارة، أو عمار، أو عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه.(21/8)
وأخرج البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك، لنبلو عليه الكذب» .
2- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب (القرآن) فالذين آتيناهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى، إذا أخذوا هذا القرآن، فتلوه حق تلاوته، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما آمنوا وصدقوا بنزوله من عند الله، وكذلك بعض كفار قريش وغيرهم يؤمنون به لأنه- كما عرفوا من لغة البيان- ليس من كلام البشر، وإنما هو من كلام الله الموحى به إلى نبيه.
وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويطمس معالم الهداية والنور، ويعاند في كفره ويستكبر، فلا يؤمن بالله وحده، ولا يشكر نعمة الله عليه. وهذا تنفير عما هم عليه من الشرك والباطل.
3- وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي وما كنت أيها الرسول في تاريخك مع قومك تقرأ من قبل نزول القرآن من كتاب آخر، ولا تعرف الكتابة ولا تستطيع أن تخط شيئا من الكتاب إذ لو كنت قارئا وكاتبا لشك المشركون الجهلة فيما نزل إليك، وقالوا:
لعل ذلك مأخوذ من كتب سابقة، ولما لم يكن كاتبا ولا قارئا فلا وجه لارتيابهم.
قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يخطّ ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية. وقال النحاس: الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لقريش أنه لا يقرأ(21/9)
ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل الكتاب، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك.
وقوله: مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ لتأكيد النفي، وكذلك قوله:
وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ تأكيد أيضا، وذكر اليمين خرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام 6/ 38] .
والخلاصة: أن صفة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة وتاريخه المعروف بين قومه: أنه رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف 7/ 157] .
فلا وجه أصلا للشك في أن هذا القرآن نزل من عند الله، لا بإيحاء بشر ولا ملك ولا جانّ، وبالرغم من نصاعة هذه الحقيقة، ومع علم قريش بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يحسن الكتابة، اتهموه بأخذه عن الكتب المتقدمة، كما حكى تعالى عنهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] .
وتأكيدا لما سبق أن القرآن منزل من عند الله، قال تعالى:
بَلْ، هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي بل إن هذا القرآن آيات واضحة الدلالة على الحق، وذلك أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم، ولكن ما ينكر وما يكذب بآيات الله النيّرة ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون، أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] .(21/10)
والخلاصة: أن هذا القرآن العظيم ليس من مخترعات البشر، بل هو آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرا ونهيا وخبرا، يفهمه العلماء ويحفظونه، وقد يسر الله عليهم حفظه وتلاوته وتفسيره، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 17] .
وروى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- فضيلة الجدال والنقاش بالأسلوب الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، فذلك أدعى عند العقلاء إلى توفير القناعة، والوصول إلى الإيمان، وتحقيق الهدف المقصود.
2- إن المعاملة بالمثل واللجوء إلى القتال والعنف واستخدام القوة هو السبيل المتعين في الرد على أهل العصبية والعناد والإصرار على الكفر.
3- إن هذه الآية الآمرة بالجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى الله عز وجل بالحجة والمنطق والبرهان آية محكمة، كما قرر أثبات العلماء والمفسرين مثل مجاهد التابعي وغيره، قال القرطبي: وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها: إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر، أو حجة من معقول «1» . وهذا اختيار ابن جرير الطبري وابن العربي. قال ابن العربي: الآية ليست منسوخة، وإنما هي مخصوصة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث باللسان يقاتل به في الله، ثم أمره الله بالسيف واللسان، فمن قاتل قتل، ومن سالم بقي الجدال في حقه،
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 350(21/11)
ولكن بما يحسن من الأدلة، ويجمل من الكلام، ولين الخطاب «1» .
4- بعض أهل الكتاب معتدلون في آرائهم ومعتقداتهم، بعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث، وهؤلاء ينفع معهم الجدال والنقاش، فهم يؤمنون بالله وبكتابهم وباليوم الآخر، ولم يبق إلا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كالإيمان بموسى وعيسى عليهما السلام.
وبعض أهل الكتاب متعصبون حاقدون خلطوا بين التوحيد والتثليث، وحرفوا في الكتاب وغيروا، ونسبوا لله ولدا أو شريكا، ثم صيروه هو الإله، وهؤلاء يصعب معهم الجدال وقد لا ينفع معهم النقاش، ومع ذلك ندعوهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، لأنه لا إكراه في الدين، والإسلام يقر بحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، بعد التبليغ والإنذار، والترغيب والترهيب.
أما المشركون عبدة الأوثان ففي جزيرة العرب لا مجال لإقرارهم على وثنيتهم، وأما في غير جزيرة العرب، فكذلك ندعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
5- النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول القرآن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب بشهادة الكتب السماوية المتقدمة، وبمعرفة قومه الذين عايشوه في مكة مدة أربعين عاما.
وأمّية النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل قاطع واضح على أن القرآن كلام الله العزيز الحكيم.
ثم ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى كتب، وقرأ.
وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي في صلح
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1475 بتصرف.(21/12)
الحديبية كتب بيده: محمد بن عبد الله، ومحا كلمة رسول الله، حينما أصر المشركون على عدم كتابتها.
قال القرطبي: الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى.
وقال: «إنا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب» رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر.
6- آيات القرآن آيات بيّنات واضحات، وليس هذا القرآن كما يقول المبطلون: إنه سحر أو شعر، ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه. وتلك الآيات يحفظها علماء الأمة ويقرءونها، وقد وصف الله المؤمنين بالعلم، لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين، قال كعب الأحبار في صفة هذه الأمة: إنهم حكماء علماء، وهم في الفقه أنبياء.
7- لا ينكر كون القرآن منزلا حقا من عند الله إلا القوم المبطلون الجاهلون وهم المشركون، وإلا الكفار الظالمون الذين جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به.
8- ليس القرآن من مخترعات أحد من الملائكة أو الإنس أو الجن، إذ لا يستطيع الكل على الإتيان بمثله أو بمثل عشر آيات أو بمثل سورة من أقصر سوره. وهذا الإعجاز المتحدي به دليل قاطع على كونه كلام الله الموحى به إلى قلب نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.(21/13)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
بعض مطالب المشركين التعجيزية الإتيان بمعجزات حسية واستعجال بالعذاب
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 55]
وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
البلاغة:
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ تحضيض.
آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ طباق.
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لإفادة القصر عليهم لا غيرهم.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ إطناب بذكر العذاب مرات بقصد الإرهاب والتشنيع على المشركين.
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي بهم، بوضع الظاهر موضع المضمر.(21/14)
المفردات اللغوية:
وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي قال كفار مكة: هلا أنزل على محمد آياتٌ مِنْ رَبِّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى. قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ قل يا محمد لهم: إنما الآيات ينزلها الله كيف يشاء، ولست أملكها، فآتيكم بما تقترحونه. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني إلا إنذار أهل المعصية بالنار بما أعطيت من الآيات.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ آية لما طلبوا أو اقترحوا. الْكِتابَ القرآن. يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم، فهو آية ثابتة مستمرة لا انقضاء لها، يتحداهم، بخلاف سائر الآيات. إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة. وَذِكْرى عظة وتذكرة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن همهم الإيمان دون التعنت.
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يشهد بصدقي. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ويعلم حالي وحالكم. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وهو ما يعبد من دون الله. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ بقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] . وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى معلوم محدد لكل عذاب أو قوم. لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فجأة، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عند نزول الموت بهم.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانه. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ في الدنيا. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. يَوْمَ يَغْشاهُمُ ظرف لكلمة (محيطة) ويَغْشاهُمُ يصيبهم. مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من جميع جوانبهم. وَيَقُولُ الله أو الملك الموكل بالعذاب. ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاءه، فلا تفوتونا.
سبب النزول: نزول الآية (51) :
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم» ، فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ.(21/15)
وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن»
أي يستغني به عن غيره.
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلّى الله عليه وسلّم بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم» .
المناسبة:
بعد بيان كون القرآن منزلا من عند الله، وليس من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر الله تعالى شبهة للمشركين وهي أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تقول: إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، أفلا تأتينا بآية أو معجزة مادية محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي ليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، والله إن أراد ينزلها، وإن لم يرد لا ينزلها، وكفى بالقرآن آية فهو معجزة ظاهرة باقية، والله شهيد عليم يحكم بين عباده.
وبعد بيان الطريقين في إرشاد الفريقين: المشركين وأهل الكتاب، أعلن الله تعالى الإنذار الشامل العام بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ولما أنذروا بالخسران أوضح تعالى أن العذاب لا يأتيهم بسؤالهم أو استعجالهم، وإنما له أجل مسمى اقتضته حكمته وارتضته رحمته.(21/16)
التفسير والبيان:
وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي وقال المشركون تعنتا وتعجيزا وعنادا: هلا أنزل على محمد آية حسية مادية، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء المتقدمين، كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى، تكون دليلا على صدقه، ومعجزة تثبت أنه رسول من عند الله!! فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قل يا محمد لهم:
إنما أمر إنزال الآيات وإرسال المعجزات إلى الله تعالى، فلو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم، لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه سبحانه يعلم أنكم قصدتم بطلبكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى مطلبكم، كما قال:
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها [الإسراء 17/ 59] .
وإنما بعثت نذيرا لكم بيّن الإنذار من عذاب شديد إذا بقيتم على كفركم، لا الإتيان بما تقترحون، فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى، وليس علي هداكم، إنما الهدى على الله الذي قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الإسراء 17/ 97] وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] .
ثم أبان الله تعالى كثرة جهلهم وسخافة عقولهم، حيث طلبوا آيات تدل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما جاءهم، مع إنزال القرآن عليه، فقال:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ أي أما يكفيهم دليلا على صدقك أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا(21/17)
من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، وأبنت الصواب فيما اختلفوا فيه، كما قال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه 20/ 133] .
أخرج الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي قل يا محمد لهم: كفى الله عالما وحكما عدلا بيني وبينكم، فهو أعلم بما صدر منكم من التكذيب، وبما أقول لكم وأبلغكم به من أوامر وإنذارات وبما أرسلني به إليكم، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، كما قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة 69/ 44- 47] وإنما أنا صادق فيما أخبرتكم به، ولهذا أيّدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات.
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السموات والأرض، ومن جملة علمه: أنه يعلم حالي وحالكم، من صدقي وتكذيبكم وإنكاركم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي والذين صدقوا بما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام ونحوها، وجحدوا بوجود الله أو توحيده، مع توافر الأدلة على الإيمان به، أولئك هم الخاسرون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر بالإيمان، وسيجزيهم الله يوم القيامة على ما فعلوا، ويعاقبهم على ما صنعوا من تكذيب برسل الله، مع قيام الأدلة على صدقهم، وإنكار للحق، واتباع للباطل من الإيمان بالطواغيت والأوثان بلا دليل.(21/18)
وقوله: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يقتضي الحصر، أي من أتى بالإيمان الباطل والكفر بالله، فهو خاسر، وكل من آمن بالباطل، فقد كفر بالله.
ثم أخبر الله تعالى عن جهل المشركين وحماقتهم في استعجالهم إيقاع عذاب الله بهم، فقال:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ويتعجل كفار قريش نزول العذاب بهم، كما حكى تعالى عنهم: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
ولولا كون العذاب محددا بوقت معلوم، ولولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة، لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه، وسوف يأتيهم بالتأكيد فجأة، وهم لا يحسون بمجيئه، بل يكونون في غفلة عنه.
ثم أكد تعالى طلبهم نزول العذاب بقوله:
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي يطلبون منك حدوث العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، وإن جهنم ستحيط بهم من كل جانب.
ثم وصف تعالى كيفية إحاطة العذاب بقوله:
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يوم يعمهم العذاب من كل الجوانب، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من كفر ومعاصي، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] وقال سبحانه: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16](21/19)
وقال عز وجل: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء 21/ 39] وقال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر 54/ 48] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم معجزة مادية محسوسة، مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى، على سبيل العناد والمكابرة، لا على سبيل التوصل بحسن نية إلى الإيمان بالله عز وجل وتوحيده.
2- كان الرد القرآني المفحم عليهم أنه: ألا يكفيهم هذا الكتاب المعجز الذي قد تحداهم الله بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه، فعجزوا. ولو أتاهم بآيات موسى وعيسى لقالوا: سحر ونحن لا نعرف السحر، والكلام مقدور لهم، ومع ذلك عجزوا عن المعارضة. وليس من شرط الرسالة وجود المعجزة، فقد علمنا وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب، ولم تعلم لهم معجزة.
3- والقرآن رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، رحمة في الدنيا باستنقاذهم من الضلالة، وفي الآخرة بصرفهم عن النار، وهو أيضا ذكرى في الدنيا بإرشادهم به إلى الحق، ومعجزة باقية يتذكر بها كل إنسان على ممر الزمان. فيكون القرآن أتم من كل معجزة، لأنه باقي الأثر، والمعجزات المادية لم يبق لها أثر، ولأنه بلغ خبره المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، والمعجزات المادية محصورة في مكان واحد.
4- يقال للمكذبين: كفى بالله شهيدا يشهد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق في ادعائه أنه رسول، وأن هذا القرآن كتابه. وهذا إنذار وتهديد يفيد تقريرا وتأكيدا.
5- قوله تعالى: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يخفى عليه شيء:(21/20)
احتجاج على المكذبين في صحة شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم، لأنهم أقروا بعلم الله الشامل، فلزمهم أن يقرّوا بشهادته.
6- إن المشركين أو الكفار الذين يؤمنون بالباطل وهو إبليس أو بعبادة الأوثان والأصنام، ويكفرون بالله لتكذيبهم برسله، وجحدهم لكتابه، وإشراكهم به الأوثان، وإضافة الأولاد والأضداد إليه، هم الخاسرون أنفسهم وأعمالهم في الآخرة. وهذا يشمل أهل الكتاب، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بأن القرآن منزل من عند الله تعالى، فدل ذلك على أن الآية إنذار عام شامل.
7- قال المشركون لفرط الإنكار والإمعان في الكفر: عجل لنا هذا العذاب الذي توعدنا به، كما قال النضر بن الحارث وأبو جهل فيما أخبر القرآن: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] وقالا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] .
8- اقتضت الحكمة الإلهية رحمة بالناس وإعطائهم فرصة كافية للإصلاح والتوبة تأخير العذاب إلى أجل محدد ووقت معين وهو يوم القيامة، فلكل عذاب أجل لا يتقدم ولا يتأخر، بدليل قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام 6/ 67] . وسيأتي العذاب الذي استعجلوه حتما فجأة، وهم لا يعلمون بنزوله.
9- إن كفار قريش وأمثالهم يستعجلون نزول العذاب، وقد أعد الله لهم جهنم، وأنها ستحيط بهم لا محالة، فما معنى الاستعجال؟ وإن ذلك العذاب يصيبهم يوم القيامة من جميع جوانبهم، فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم، ويقال لهم من قبل الملك بأمر الله: ذوقوا ما كنتم تعملون.(21/21)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
الأمر بالهجرة عند تعذر إقامة الشعائر الدينية
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
الإعراب:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً..: غُرَفاً مفعول به ثان ل لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أما قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج 22/ 26] فاللام زائدة في لِإِبْراهِيمَ ومَكانَ الْبَيْتِ: مفعول ثان.
خالِدِينَ فِيها حال من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ: كَأَيِّنْ: في موضع رفع مبتدأ، بمنزلة (كم) ومِنْ دَابَّةٍ:
تبيين له. ولا تَحْمِلُ: في موضع جر لأنها صفة دَابَّةٍ.
اللَّهُ يَرْزُقُها اللَّهُ مبتدأ، وجملة يَرْزُقُها خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع، لأنه خبر كَأَيِّنْ.
البلاغة:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
الإضافة للتشريف والتكريم.
المفردات اللغوية:
إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي إذا لم يتيسر لكم العبادة في بلدة أو إقامة شعائر الدين، فهاجروا إلى أي أرض أخرى تتيسر فيها العبادة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، ولو كان شبرا، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام» .
والفاء في قوله:(21/22)
فَإِيَّايَ
في جواب شرط محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فأخلصوها في غيرها.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تناله لا محالة. تُرْجَعُونَ للجزاء، ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد لذلك الجزاء. لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم، وقرئ: (لنثوينهم) أي لنقيمنهم، من الثواء، أي الإقامة، وتعدية هذا الفعل إلى كلمة غُرَفاً: بحذف مِنَ أي تكون منصوبة بنزع الخافض، أو لأنه أجري مجرى (لننزلنهم) .
خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام. نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وقرئ: «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله، أي نعم هذا الأجر. الَّذِينَ صَبَرُوا أي هم الصابرون على أذى المشركين والهجرة لإظهار الدين وغير ذلك من المحن والمشاق. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولا يتوكلون إلا على الله، فيرزقهم من حيث لا يحتسبون، لأن الرازق هو الله الذي يهيئ الأسباب للرزق وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة.
وَكَأَيِّنْ أي كم. لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تطيق حمله لضعفها. وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم. الْعَلِيمُ بضمائركم.
سبب النزول: نزول الآية (56) :
يا عِبادِيَ
: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، أي في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
نزول الآية (60) :
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ:
عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا:
ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ
أي ليس معها رزقها مدخرا، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.(21/23)
المناسبة:
بعد إنذار المشركين وأهل الكتاب بالخسران وجعلهم من أهل النار، اشتد عنادهم وزاد فسادهم، وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله تعالى بالهجرة إلى بلاد أخرى، إن تعذرت عليهم العبادة في بلادهم، مما يدل على أن المقام في دار الحرب حرام، والخروج منها واجب. وأبان تعالى أن توقع المكروه لا يمنع من الهجرة، فالمكروه إن لم يحدث بالهجرة، وقع بالموت في أي مكان، كما أبان أنه سبحانه تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته حيثما كانوا.
التفسير والبيان:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي أيها العباد المصدقون بي وبرسولي محمد صلّى الله عليه وسلّم، إن أرضي واسعة غير ضيقة، يمكنكم المقام فيها في أي موضع، فإذا تعذرت عليكم العبادة وإقامة شعائر الدين بسبب منع الكفار وأذاهم، فهاجروا إلى المكان الذي تتمكنون فيه من إقامة الشعائر الدينية.
وبالرغم من أن كلمة عِبادِيَ
لا تتناول إلا المؤمنين، فقد أتبعت بوصف الَّذِينَ آمَنُوا
لا للتمييز، بل لمجرد بيان اشتمالهم على هذا الوصف.
فهذا أمر للمؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم، وهو حثّ على إخلاص العبادة لله تعالى.
والمقصود من الهجرة: إعداد المؤمن الكامل المخلص الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة قبل الفتح، ثم زال وجوبها.
أخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم» .(21/24)
ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم فيها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة، ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى، فآواهم وأيدهم بنصره، ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الباقون إلى المدينة المنورة.
وبعد أن أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة والإخلاص فيها وصدق الاهتمام بها، أبان أن الدنيا ليست بدار بقاء، وأمر بالاستعداد إلى دار الجزاء، فقال:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي إن الموت كائن لا محالة بكل نفس، وأينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بدّ منه ولا محيد عنه، سواء في الوطن أو خارجه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب.
والخلاصة: أن المكروه لا بد من وقوعه، فلا يصح أن يصعب على المؤمنين ترك الأوطان ومفارقة الإخوان.
ثم بيّن الله تعالى نوع جزاء المؤمن المهاجر بدينه، فرارا من الشرك والمعاصي فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال من التزام أوامر الله واجتناب نواهيه، لننزلنهم أو لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحت أشجارها الأنهار، على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن، ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا، جزاء لهم على أعمالهم، نعم الجزاء، ونعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين.(21/25)
وهذا الجزاء في مقابل جزاء الكافرين السابق ذكره: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ فكما أن للكافرين النيران، يكون للمؤمنين الجنان أجر عملهم.
ومن صفات هؤلاء العاملين:
الصبر والتوكل:
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إن أولئك المؤمنين الذين صبروا على القيام بواجبات دينهم من صلاة وصيام وهجرة في سبيل الله، وجهاد الأعداء، ومفارقة الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله، وتحمل أذى المشركين، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، فقاموا بما يجب عليهم، ثم تركوا أمر تحقيق النتائج إلى ربهم، من نصر ونجاح ورزق وعزة وغير ذلك.
وذكر صفتي الصبر والتوكل هنا مناسب للمقام، فإن الهجرة والجهاد وترك الأوطان ومفارقة الإخوان تتطلب الصبر على تحمل الأذى، والمواظبة على عبادة الله تعالى والتوكل عليه.
ثم ذكر الله تعالى ما يعين على التوكل وهو معرفة أن الله هو الكافي في رزق مخلوقاته فقال:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين وجدوا، فكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تستطيع جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد، الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره لها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ويكفيه، سواء كان في باطن الأرض، أو طيرا في الهواء، أو حوتا في الماء، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بضمائرهم وأسرارهم وما في قلوبهم.(21/26)
وقد أنجز الله وعده، فكانت أرزاق المهاجرين في المدينة أكثر وأوسع وأطيب، وصاروا بعد زمن قصير حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار. ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مطلوبة واجبة حال وجود أذى الكفار وتعذر إقامة شعائر الدين، فعلى المسلم أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده، فإن كان في حال مضايقة من إظهار الإيمان في أرض، فهاجر إلى أرض أخرى، فإن أرض الله واسعة، لإظهار التوحيد بها. وهذا كان مناسبا للمؤمنين في صدر الإسلام حيث هاجروا من مكة مهد الشرك والوثنية إلى المدينة الطيبة المطهرة، ثم ارتفع الوجوب ولم تعد الهجرة واجبة بعد فتح مكة، وإنما بقيت الهجرة بمعنى هجر السوء وترك ما نهى الله عنه.
والآية نزلت في الهجرة قبل الفتح، لا في الهجرة مطلقا في كل زمان ومن أي بلد، ولكن بعمومها تعد مستندا للقول بوجوب الهجرة على الدوام عند الإمكان إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه.
2- رغّب الله في الهجرة السابقة من مكة إلى المدينة بتحقير أمر الدنيا ومخاوفها وبيان أن البشر كلهم ميتون ومحشورون إلى الله، وما عليهم إلا المبادرة إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل.
3- وعد الله المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه وهو دخول الجنان التي تجري من تحتها الأنهار وإسكانهم المنازل العالية.(21/27)
روى مسلم في صحيحة عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراؤون الكوكب الدرّيّ الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» .
وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى الله بالليل والناس نيام» .
4- من أهم صفات المؤمنين الذين يستحقون الجنان: الصبر على الأذى وعلى مشاق التكاليف الشرعية، والتوكل على الله، فهما صفتان يدلان على العلم بالله تعالى، وهما صفتان مناسبتان أيضا للهجرة والجهاد موضوع الآيات.
5- بدد الله سبحانه مخاوف المهاجرين ومخاطر المغتربين، فأبان أن الموت حتمي في أجل مسمى، فلا يزيد العمر ولا ينقص، سواء أكان الشخص مقيما في موطنه، أم مسافرا مغتربا بعيدا عن بلده، كما قال سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء 4/ 78] .
وأبان أيضا أن الرزق مكفول ومقسوم منه تعالى، كما قال تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات 51/ 22] ومن رحمته سبحانه أنه ييسر الرزق رغدا لكل دابة كل يوم، رغم ضعفها، وأنها لا تدخر شيئا لغد، سواء أكانت الدابة في جوف الأرض أم في ظاهرها أم في أعماق المياه، أم في أعالي الفضاء.(21/28)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
والله تعالى سميع لعباده إذا طلبوا منه الرزق، يسمع ويجيب، عليم إن سكتوا، لا تخفى عليه حاجتهم ولا مقدار حاجتهم.
اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)
البلاغة:
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اللام: لام القسم، والسؤال للكفار من أهل مكة وأمثالهم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فكيف يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك. يَبْسُطُ يوسع لمن يشاء امتحانا.
وَيَقْدِرُ يضيق لمن يشاء ابتلاء. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالحهم ومفاسدهم، ومنها محل البسط والتضييق.
نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ هذا اعتراف منهم بأن الله الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، فكيف يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك. الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك من هذه الضلالة، وعلى تصديقك وإظهار حجتك عليهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ تناقضهم في ذلك، إنهم يتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه، ثم يشركون به الصنم.(21/29)
المناسبة:
بعد بيان أمر المشركين ومطالبهم التعجيزية وسوء أعمالهم، ثم مخاطبة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
ذكر تعالى ما يكون إرشادا للمشرك إذا فكر وتأمل، بأسلوب أدبي رفيع تضمن نصح المفسد أولا، ثم مخاطبة الرشيد، ليسمع المفسد، على طريقة: (إياك أعني واسمعي يا جارة) ، وكأن المتكلم يقول: إن هذا لا يستحق الخطاب، فاسمع أنت، ولا تكن مثل هذا المفسد، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح، وزجر المفسد، ودعوته إلى سبيل الرشاد، وهو الإقرار بوحدانية مبدع العالم، وخالق السماء والأرض وما فيهما، ورازق المخلوقات، ومحيي الأرض بعد موتها.
التفسير والبيان:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي والله لئن سألت يا محمد المشركين بالله: من الذي أوجد وأبدع السموات وما فيها من الكواكب النيّرات، والأرض وما حوته من كنوز ومعادن، وذلّل الشمس والقمر يجريان لمصالح الخلق، وأدى ذلك إلى تعاقب الليل والنهار، لو سألتهم لأجابوا بأن المستقل بالخلق والإيجاد هو الله عز وجل.
وإذ أقروا بذلك واعترفوا، فكيف يصرفون عن توحيد الله وإخلاص العبادة له؟! فإن الاعتراف بأن الله هو الخالق يمنع المشركين من عبادة إله آخر سواه، أو اتخاذ شريك معه، والاعتراف بتوحيد الربوبية الصادر من المشركين بقولهم: «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية، وكثيرا ما يذكر الله تعالى توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية.(21/30)
وبعد الاعتراف بالخلق، ذكر تعالى ما هو سبب لدوام الحياة، وبقاء المخلوقات وهو الرزق، فقال:
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله يوسع الرزق لمن يريد من عباده امتحانا له، ويضيق أو يقتّر على من يريد ابتلاء واختبارا، فالله هو الخالق الرازق لعباده، يقسم وحده الأرزاق على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة، لأن الله عليم بكل شيء من المفاسد والمصالح، ومقتضيات سعة الرزق وتضييقه، فيمنح ويمنع، بما هو الأصلح وما هو خير لعباده في الحالين، ويحصل التفاوت بين الناس في الأرزاق، ويكون هناك الغني والفقير، والله هو العليم بما يصلح كلّا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] وقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] .
ثم ذكر تعالى سبب الرزق وهو إنزال الماء، فقال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ أي ومن الحقائق الثابتة أنك لو سألتهم أيضا عمن ينزل المطر من السحاب، فيحيي به الأرض الجدباء الهامدة التي لا حركة فيها بالنبات الأخضر، لأجابوك بأنه هو الله المبدع الموجد لكل المخلوقات، ثم يتعجب الإنسان من إشراكهم بعد ذلك بعض مخلوقاته.
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي قل يا محمد: الحمد لله على ثبوت الحجة عليهم، واعترافهم بأن الله مصدر جميع النعم، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعقلون هذا التناقض الحاصل منهم، فتراهم يقولون بأن الخالق الموجد المحيي الرازق هو الله، ثم يقولون بألوهية غير الله، فيخالف فعلهم أقوالهم(21/31)
وإقراراتهم، ويعبدون مع الله إلها آخر سواه ليست له مقومات الألوهية، ولا يدركون ما فيه الخير والمصلحة ودفع الضر عنهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- يقر المشركون بأمرين أساسيين:
أولهما- أن الله هو الخالق المبدع المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار.
وثانيهما- أن الله هو الخالق الرازق لعباده، المحيي الأرض بالماء النازل من السحاب، فتصبح الأرض مخضرة بعد جدبها وقحط أهلها.
2- ثم في مجال الأفعال ترى المشركين متناقضين مع أنفسهم، فهم يقرون بوجود الله، ثم يشركون معه إلها آخر من مخلوقاته.
3- وإذا اعترفتم بأن الله خالق كل الأشياء في السماء والأرض، فكيف تشكّون في الرزق؟ فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العباد، وكيف تكفرون بتوحيد الله، وتتحولون عن إخلاص العبادة لله؟
وإذا أقررتم بأن الله يحيي الأرض الجدبة، فلم تشركون به وتنكرون الإعادة؟ ومن قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين.
4- لا يختلف أمر الرزق بالإيمان والكفر، فالتوسيع والتقتير من الله، فلا تعيير بالفقر، فكل شيء بقضاء وقدر، والله عليم بكل شيء من أحوال العباد وأمورهم، وبما يصلحهم من إقتار أو توسيع.
5- يستحق الله الحمد على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته وعلى(21/32)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
إقرار المشركين بوجود الله، ولكن أكثر المشركين لا يتدبرون هذه الحجج، ولا يعون ما فيه النفع والمصلحة الحقيقية.
بيان حال الدنيا واضطراب أوضاع الكفار فيها
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 69]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
الإعراب:
لَهِيَ الْحَيَوانُ يجوز في هاء لَهِيَ الكسر والتسكين، فمن كسر أتى به على الأصل، ومن سكن حذف الكسرة تخفيفا، كما قالوا في كتف وكتف. والحيوان: أصله «الحييان» بياءين، إلا أنه لما اجتمعت ياءان متحركتان، استثقلوا اجتماعهما، فأبدلوا من الياء الثانية واوا كراهية لاجتماع ياءين متحركتين، وكان قلب الثانية أولى من الأولى لأن الثانية هي التي حصل التكرار بها.
وَلِيَتَمَتَّعُوا قرئ بكسر اللام وسكونها، وهي لام الأمر ومعناه التهديد، فمن قرأ بالكسر فعلى الأصل، ومن سكّن فعلى التخفيف، كما قالوا في «كتف كتف» .
البلاغة:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ تشبيه بليغ أي كاللهو واللعب، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.(21/33)
حَرَماً آمِناً مجاز عقلي، أي آمنا أهله.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إيجاز بحذف جواب الشرط، أي لو علموا لما آثروا الدنيا على الآخرة.
يَعْلَمُونَ يُشْرِكُونَ يَكْفُرُونَ فيها مراعاة الفواصل، ذات الإيقاع والتأثير على السمع.
المفردات اللغوية:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تهوين وتحقير، لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي كلهو الصبيان ولعبهم، يبتهجون ساعة ثم يتفرقون متعبين، وأما الطاعات والقرب فمن أمور الآخرة، لظهور ثمرتها فيها. واللهو: الاستمتاع بالملذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيها. لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية التامة التي لا فناء فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ تلك الحقيقة ما آثروا الدنيا عليها.
الْفُلْكِ السفينة السائرة في البحر. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء، أي لا يدعون معه غيره، لأنهم في شدة لا يكشفها إلا الله، فيظهرون في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، فلا يذكرون إلا الله، ولا يدعون سواه. إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام «كي» أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة وكذلك اللام في: وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها، أي قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، أي أن هذه اللام لام التعليل في تقدير الله، ولام العاقبة بالنسبة إليهم.
ويصح أن تكون اللام في الفعلين المذكورين لام الأمر، وهو أمر تهديد فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، يعني أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي جعلنا بلدهم مكة مصونا من النهب والتعدي، آمنا أهله من القتل والسبي. وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختلسون قتلا وسبيا، وهم في أمان. أَفَبِالْباطِلِ أي بعد هذه النعمة الواضحة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله فَبِالْباطِلِ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكا. أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أي كذب بالنبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو القرآن. وقوله لَمَّا فيه تسفيه لهم بأن لم يتوقفوا، ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مأوى، والاستفهام تقرير لثوائهم، أي ألا يستوجبون الثواء في جهنم، وقد افتروا مثل هذا(21/34)
الكذب على الله وكذبوا بالحق!! وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي في حقنا، والجهاد يعم أنواع الجهاد الظاهرة والباطنة لكل الأعداء. لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا طريق السير إلينا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها. وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي المؤمنين بالنصر والعون.
سبب النزول: نزول الآية (67) :
أَوَلَمْ يَرَوْا.. أخرج جويبر عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا، فكنا أكلة رأس، فأنزل الله:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً.
المناسبة:
بعد بيان كون المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي، وهم مع ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء حرصا على زينة الحياة الدنيا ومكاسبها المادية، أوضح الله تعالى أن ما يميلون إليه وهو الدنيا ليس بشيء، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقة التامة التي تستحق الحرص عليها والعمل من أجلها، فلو كان عندهم شيء من العلم ما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
ثم أبان الله تعالى أحوال تخبطهم وتناقضهم، فهم مع شركهم بربهم في الدعاء والعبادة إذا تعرضوا لمحنة أو شدة، رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، ولجؤوا إلى الله وحده، وأخلصوا له النية والدعاء لتخليصهم من الشدة، وتلك نعمة عظمي.
ثم ذكّرهم تعالى بنعمة أخرى تتناسب مع حال الخوف الشديد، وهي حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة بلدهم ومولدهم ومسكنهم البلد الآمن الحرام، بتحصين الله أمنها، ودفع الشرور عن سكانها، لكنهم نفعيون متناقضون(21/35)
جاحدون النعمة في الحالتين: نعمة النجاة ونعمة الأمن في بلدهم، فاستحقوا اللوم والتعنيف، إذ أنهم في أخوف ما كانوا، يدعون الله، وفي آمن ما حصلوا عليه من الأمن السكني، يكفرون بالله، فكيف يكفرون بالله حين الأمن. ويؤمنون به حال الخوف؟!
التفسير والبيان:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقارن الله تعالى بين الدنيا والآخرة، ويخبر بأن الحياة الدنيا حقيرة زائلة لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو يتلهى به، ولعب يتسلى به، وأما الآخرة فهي دار الحياة الدائمة التي لا تزول ولا تنقضي، بل هي مستمرة أبد الآباد، فلو علموا ذلك لآثروا ما يبقى على ما يفنى.
والفرق بين اللهو واللعب: أن اللعب إقبال على الباطل، واللهو: إعراض عن الحق. وليس المراد بالحيوان: الشيء النامي المدرك، وإنما الحيوان مصدر حي كالحياة، لكن فيها مبالغة ليست في الحياة.
ثم يخبر الله تعالى عن حال المشركين حين الترفع عن الدنيا ووقت التعرض للمحنة والشدة، فيقول:
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي إن المشركين عند الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، فهلا يكون هذا منهم دائما؟! فتراهم إذا ركبوا في السفينة، وأحدق بهم الغرق، دعوا الله وحده، مفردين إياه بالطاعة، مخلصين له النية، صادقين في اتجاههم إلى الله، فإذا تحقق لهم الأمن والنجاة من الهلاك، عادوا إلى شركهم، ودعوا الآلهة المزعومة كافرين بنعمة النجاة.(21/36)
ونحو الاية قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] وهذا دليل على أن معرفة الله في فطرة كل إنسان.
ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، ذهب فارّا منها، فلما ركب في البحر، ليذهب إلى الحبشة، اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره، اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبنّ، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنّه رؤفا رحيما، فكان كذلك» .
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ اللام لام العاقبة أو الصيرورة، أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفر بنعمة النجاة، والتمتع بالاجتماع على عبادة الأصنام، وعقد الروابط بسببها، ولكنهم سوف يعلمون عاقبة فعلهم هذا، وسيجازون الجزاء الوفاق على أعمالهم. وهذا وصف لسوء ما يترتب على شركهم، وتهديد ووعيد على بقائهم على كفرهم.
ويصح أن تكون اللام لام الأمر، ويكون المعنى التهديد أي: ليكفروا، كما قال تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقال: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الزمر 39/ 39] فساد ما تعملون.
ثم وصف الله تعالى تناقض المشركين إذ يلجأون إلى الله وحده مخلصين له الدعاء وقت الشدة، ويكفرون بالله ويشركون به حين الأمن في بلدهم مكة، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟! أي أولم يعلم هؤلاء المشركون ما أنعمنا به عليهم من إسكانهم في بلد حرام آمن وهو مكة، لا يتعرضون فيه لقتل وسبي(21/37)
وخطف، فيشكروا الله على هذه النعمة، وهذا امتنان على قريش بما أحلهم من حرم الله الآمن، كما قال سبحانه: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش 106/ 4] .
ولكن عجبا لهم أنهم قابلوا الشكر بالكفر، أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله؟! فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه.
وبعد بيان حالهم العجيبة وتناقضهم، أبان الله تعالى أنهم قوم أظلم من يكون، فقال:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله بالشرك وتكذيب كتابه ورسوله وقوله: إن الله أوحى إليه، ولم يوح إليه شيء، أو قوله إذا فعل فاحشة: إن الله أمر بها، والله لا يأمر بالفحشاء، ألا يستوجب هؤلاء المشركون من أهل مكة وأمثالهم المقام في جهنم؟
وهذا تسفيه آرائهم وتقريع لهم، وتبيين سوء مصيرهم، بطريق الاستفهام التقريري الذي هو أبلغ في إثبات العقاب المنتظر لهم.
وبعد بيان عاقبة الكافرين، أبان الله تعالى عاقبة المؤمنين فقال:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي من جاهد بالطاعة، ونصر دين الله، وقاتل أعداء الله المكذبين بكتابه ورسوله، هداه الله ووفقه إلى طريق الجنة وطريق السعادة والخير في الدنيا والآخرة، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد 47/ 17]
وجاء في الحديث الثابت: «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم» .(21/38)
والله مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والإعانة، والتأييد والحفظ والرعاية والتوفيق، روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام:
«إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- الحياة الدنيا بما فيها من المال والجاه والملبس ملهاة وملعب، أو شيء يلهى به ويلعب، وليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول، كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات.
2- ما يعمل في الدنيا لله من القرب والطاعات هو من الآخرة، وهو الذي يبقى، كما قال تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 27] أي يبقى ما ابتغي به ثواب الله ورضاه.
3- إن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها، وهي الحياة الصحيحة، فلا حياة إلا حياة الآخرة، وعبّر عنها بالحيوان: وهو الحياة، لأن فيها مبالغة ليست في الحياة.
4- المشركون قوم متناقضون، فتراهم في وقت الشدة المستعصية، كما إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق، يدعون الله صادقين في نياتهم، ويتركون دعاء الأصنام وعبادتها، فإذا وصلوا إلى بر الأمان دعوا معه غيره، وما لم ينزل به سلطانا أو حجة، وما لا حقيقة لألوهيته أصلا، فهم يشركون في البر، ولا يشركون في البحر.
5- إن عاقبة الشرك أو ثمرته أن يجحد المشركون نعم الله ويتمتعوا بالدنيا،(21/39)
والله يهددهم ويوعدهم ويقول لهم: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا.
6- جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] وتلك نعمة تستحق الشكر والحمد لله والإذعان له بالطاعة، لا سيما إذا قورنت مكة بما عليه أحوال أهل البلاد الأخرى المجاورة، حيث يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، ويغار بعضهم على بعض.
ولكن المشركين كما تقدم تتناقض أحوالهم، فهم بالشرك أو بإبليس يؤمنون وبنعمة الله وعطائه وإحسانه يكفرون ويجحدون.
7- لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا، وإذا فعل فاحشة قال:
وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف 7/ 28] وكذّب بالقرآن أو بتوحيد الله، وأنكر رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعاقبتهم الثّواء في نار جهنم.
8- إن المجاهدين جهادا عاما في دين الله وطلب مرضاته يوفقهم ربهم إلى سبل الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا» قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 282] .
قال ابن عطية في آية: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا: هي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.(21/40)
9- إن الله لمع المحسنين بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع جميع الناس بالإحاطة والقدرة. فتكون فائدة المجاهدين في طاعة الله أمرين: التوفيق للخير والإيمان والسعادة، والعون والتأييد والحفظ.(21/41)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الروم
مكية، وهي ستون آية.
تسميتها:
سميت سورة الروم لافتتاحها بخبر غلبة الروم، والإخبار عن نصرهم بعدئذ في بضع سنين، وتلك إحدى معجزات القرآن العظيم بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ووقوع الشيء كما أخبر به.
موضوعها:
هو موضوع سائر السور المكية التي تبحث في أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصفات الله تعالى، والإيمان بالرسالة النبوية، وبالبعث والجزاء في الآخرة.
مناسبتها لما قبلها:
تتشابه سورة الروم وسورة العنكبوت التي قبلها في المطلع، فإن كلا منهما افتتح ب الم غير مقرون بذكر التنزيل والكتاب والقرآن، على خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح بالحروف المقطعة، فإنها كلها قرنت بذلك إلا هاتين السورتين وسورة القلم. وقد ذكر في أول هذه السورة ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت هذه الحروف الهجائية لتنبيه السامع والإقبال بقلبه وعقله وروحه على الاستماع.(21/42)
وهناك تشابه آخر بين السورتين من وجوه ثلاثة:
الأول- إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وبدئت هذه السورة بوعد المؤمنين بالغلبة والنصر، وهم يجاهدون في سبيل الله تعالى.
الثاني- إن الاستدلال في هذه السورة على أصول الاعتقاد وأهمها التوحيد جاء مفصلا للمجمل في السورة السابقة مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [19] فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [20] .
الثالث- ترتب على التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب في السورة المتقدمة أن أبغض المشركون أهل الكتاب، وتركوا مراجعتهم في الأمور، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وسبب البغضاء أن المشركين في جدالهم نسبوا إلى عدم العقل: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [63] وطلب مجادلة أهل الكتاب بالحسنى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [46] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله، كما قال تعالى: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [46] .
فلما غلب أهل الكتاب حين قاتلهم الفرس المجوس، فرح المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى أوائل سورة الروم لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق، وإنما قد يريد الله تعالى مزيد ثواب في المحب، فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار للمعادي تعجيل العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر يوم القيامة.
مشتملات السورة:
افتتحت السورة بإثبات النبوة بالإخبار بالغيب، وهو انتصار الروم على الفرس في حرب تقع بينهما في غضون بضع سنوات (من 3- 9 سنوات) ووقع الخبر كما أخبر القرآن، وتلك معجزة القرآن تثبت صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتتضمن البشارة بنصر جند الرحمن على حزب الشيطان.(21/43)
ثم ذكرت أدلة الوحدانية وعظمة القدرة الإلهية بالتأمل في صفحة الكون والنظر في خلق السموات والأرض، والاعتبار بمأساة المكذبين الغابرين وعاقبتهم السيئة، وأردف بعدها أدلة البعث، والأمر بعبادة الله وحده، وذلك مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها.
ونوقش فيها المشركون وضربت لهم الأمثال في أن الشركاء ضعفاء عاجزون لا يملكون لأنفسهم يوم القيامة نفعا، ولا يتمكنون دفع الضر عن أحد، ولا يستطيعون خلق شيء وإيجاده ولا إمداد أحد بالرزق. وكشف القرآن حقيقة حال المشركين كما ذكر في السورة المتقدمة وهي لجوءهم إلى الله وقت الضر، وإشراكهم به وقت الرخاء، وأميط اللثام عن طبيعة الإنسان وهي الفرح بالنعمة، والقنوط حين الشدة إلا من آمن وعمل صالحا.
ونهى الله تعالى عن اتباع المشركين وغيرهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ثم أمر تعالى بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، واجتناب أكل الربا، وتنمية المال بوجوه الحلال وتطهيره بالزكاة.
ثم قارنت السورة بين مصير المؤمنين في روضات الجنان فضلا من الله تعالى، ومصير الكافرين في نيران الجحيم جزاء أعمالهم وكفرهم، وحينئذ تظهر فائدة الإيمان والخير، وظلام الكفر والشر.
وأعقب ذلك إيراد بعض الأدلة الكونية الناطقة بقدرة الله والدالة على وحدانيته من إرسال الرياح مبشرات بالرحمة، وتسيير السفن في البحار، وتمكين المسافرين من التجارة وابتغاء فضل الله في أقطار الأرض، والدلائل الملحوظة في الأنفس من خلق ثم رزق، ثم إماتة، ثم إحياء.
وختمت السورة بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته بأنهم أغلقوا منافذ الهداية، وعطلوا طاقات الفكر والعقل عن النظر في وسائل(21/44)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
الوصول إلى الإيمان بالله، فهم صمّ عمي لا يسمعون ولا يبصرون، وأنهم مهما رأوا من الآيات، وشاهدوا من البراهين والمعجزات، لن يؤمنوا بسبب العناد، والتشبث بمواقع الكفر، والحفاظ على مراكز الزعامة والنفوذ بين العرب.
وهذا يقتضي الصبر على أذى المشركين حتى يأتي النصر، ومتابعة القيام بواجب تبليغ الرسالة، فإنه قد يهتدي بعضهم أو غيرهم، وسيكون النصر في جانب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والخذلان لمن كذب به، ولن يؤثر في مسيرة دعوته كفر الذين لا يوقنون بالبعث بعد الممات.
الإخبار بالغيب في المستقبل
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
الإعراب:
مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ غلب: مصدر مضاف إلى المفعول، وتقديره: وهم من بعد أن غلبوا سيغلبون.
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ظرف مبني على الضم لأنه مقطوع عن الإضافة، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة كلمة واحدة، فلما اقتطع عن الإضافة، نزّل منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني. والبناء على الضم تعويضا عن المحذوف، لأنه أقوى الحركات، ولئلا تلتبس حركة الإعراب بحركة البناء، فلو بني على الفتح أو الكسر، لالتبست حركة الإعراب بحركة البناء.(21/45)
بِنَصْرِ اللَّهِ في موضع نصب، متعلق ب يَفْرَحُ.
وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، والمصدر مضاف إلى الفاعل.
البلاغة:
غُلِبَتِ وسَيَغْلِبُونَ بينهما طباق، وكذا بين قَبْلُ وبَعْدُ.
لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً بينهما طباق السلب.
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ صيغة مبالغة، أي البالغ نهاية العزة وغاية الرحمة.
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ تكرار الضمير لإفادة الحصر، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على استمرار الغفلة.
المفردات اللغوية:
غُلِبَتِ الرُّومُ الروم: أمة ذات مدنية وحضارة وقوة، من ولد روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، كانوا نصارى، غلبتهم فارس الذين كانوا يعبدون الأوثان، ففرح كفار مكة بذلك، وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، وأقرب مكان إلى أرض العرب من جهة الشام، فيها التقى الجيشان، وكان الفرس هم البادئين بالغزو وَهُمْ الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أضيف المصدر إلى المفعول، أي غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس.
فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع: ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى العشر، وقد تم لقاء الجيشين فعلا في السنة السابعة من اللقاء الأول، وغلبت الروم فارس لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل غلب الروم ومن بعده، والمعنى أن غلبة الفرس أولا وغلبة الروم ثانيا تم بأمر الله، أي إرادته وَيَوْمَئِذٍ يوم تغلب الروم.
بِنَصْرِ اللَّهِ أي نصر أهل الكتاب على من لا كتاب له الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ الواسع الرحمة بالمؤمنين وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد للفعل، أي وعدهم الله النصر وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده تعالى بنصرهم لجهلهم وعدم تفكيرهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يشاهدونه منها من المعايش في التجارة والزراعة والبناء والغرس وغير ذلك.
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي أنهم غافلون عن الغاية والمقصود من الحياة، لا تخطر ببالهم، وإعادة هُمْ تأكيد.(21/46)
سبب النزول:
أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت الم، غُلِبَتِ الرُّومُ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة، قبل أن يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم، وهم أهل كتاب؟! فسنغلبكم كما غلب فارس الروم، فأنزل الله: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ.
وأخرج الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي: أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام، فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين، فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا، ولا يقرّنّ الله أعينكم «1» ، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس، كما أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه أبيّ بن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه «2» على عشر قلائص «3» مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت،
__________
(1) لا يسرّنكم.
(2) أراهنك.
(3) جمع قلوص وهي الناقة الشابة الفتية.(21/47)
وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «زايده في الخطر «1» وماده في الأجل»
فخرج أبو بكر، فلقي أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلا، ومات أبيّ من جرح جرحه إياه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموقعة، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي،
وجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تصدّق به» .
وقد كان هذا قبل تحريم القمار، لأن السورة مكية، وتحريم الخمر والميسر بالمدينة. واستدل به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب.
والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب.
التفسير والبيان:
الم هذه الحروف المقطعة التي تقرأ هكذا: «ألف، لام، ميم» للتنبيه على إعجاز القرآن، كما تقدم في أمثالها، وتنبيه السامع على الاستماع بقلبه لما يلقى إليه بعدها.
غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ أي غلبت فارس قوم الروم في أقرب أرض الروم إلى بلاد العرب في مشارف الشام، بين الأردن وفلسطين، وسيغلب الروم فارس في بضع سنين (ما بين الثلاث إلى العشر من السنين) من تاريخ الوقعة الأولى، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
__________
(1) الخطر: السبق الذي يتراهن عليه أي الرهن الذي يخاطر عليه.(21/48)
وهذا إخبار بالغيب عن أمر في المستقبل، أيده الواقع، وقد نزلت الآيات كما بينا حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل. فبعد نزول سورة الروم سنة 622 م ببضع سنين في سنة 627 م أحرز هرقل أول نصر حاسم للروم على الفرس في نينوى على نهر دجلة، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم للقسطنطينية، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة 628 م على يد ولده (شيرويه) .
ولقد كانت هاتان الدولتان مسيطرتين على العالم القديم: فارس في الشرق، والروم في الغرب، وكانتا تتنازعان السيادة على بلاد الشام وغيرها.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي الأمر كله من قبل الغلبة ومن بعدها، فتغلب إحدى الدولتين على الأخرى بقضاء الله وقدره، فهو يقضي في خلقه بما يشاء: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران 3/ 140] فليس الانتصار دائما عن قوة مادية ذاتية، وإنما القوة إحدى وسائل النصر، والمعول في النهاية إرادة الله وقدرته، فقد يتغلب الضعيف على القوي، والقليل على الكثير: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 2/ 249] .
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم ينتصر الروم النصارى أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى الوثنيين المجوس، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والكتاب على من لا دين له ولا كتاب.
يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي ينصر الله من يريد على الأعداء، فهو الفعال لما يريد، وهو القوي الذي لا يغلب، المنتقم من أعدائه،(21/49)
المعزّ أولياءه بقوته وقدرته، الرحيم بعباده المؤمنين، فلا يدع القوي يتحكم بالضعيف، ولا يعاجل بالانتقام على الذنوب، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر 35/ 45] .
روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار عن أبي سعيد الخدري قال:
لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، ففرحوا به، وأنزل الله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وقال جماعة آخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. والمهم أنه لما انتصرت الروم على الفرس، فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى.. الآية [المائدة 5/ 82] .
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد حق من الله، وخبر صدق، والله لا يخلف الميعاد، ولا بد من وقوعه، لأن سنة الله أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بحكم الله وأفعاله القائمة على العدل، لجهلهم بالسنن القائمة في الكون.
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي أكثر الناس لهم علم ظاهري بالدنيا وعلومها المادية كتدبير شؤون المعيشة، وتحصيل الأموال والمكاسب من تجارة وزراعة وصناعة وغيرها، ولكنهم غافلون عن أمور الدين والآخرة، كأنهم عديمو الفكر والنظر، لا ينظرون إلى المستقبل(21/50)
وما ينتظرهم من نعيم مقيم إن آمنوا وعملوا الصالحات، أو عذاب مهين إن كفروا وعصوا أوامر ربهم، فلا يعملون أبدا لما ينفعهم في الآخرة، وعلمهم منحصر في الدنيا، بل لا يعلمون الدنيا على حقيقتها، وإنما يعلمون ظاهرها، وهي ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها، فهم عن الآخرة غافلون.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إثبات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعواه النبوة والرسالة، وإعلام قاطع بأن القرآن كلام الله الذي يعلم وحده الغيب في السموات والأرض. وتلك معجزة واضحة بالإخبار عن مغيبات المستقبل، وقد وقع الأمر كما أخبر القرآن الكريم.
2- الله تعالى متفرد بالقدرة الشاملة النافذة، فكل ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه، وبإرادته وقدرته، فلله الأمر، أي إنفاذ الأحكام سواء قبل هذه الغلبة وبعدها، والله دائما هو القوي العزيز في نقمته، الرحيم لأهل طاعته.
3- يبشر الله تعالى المؤمنين بنصر أهل الكتاب المتعاطفين مع المسلمين، لاجتماعهم على الإيمان بالإله والإيمان باليوم الآخر، على الفرس المجوس الوثنيين الذين لا يؤمنون بشيء من الكتب السماوية، ولا بالله تعالى ولا بالآخرة.
4- وعد الله لا يخلف لأن كلامه حق وصدق، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون وعده، ولا أنه لا خلف في وعده.
5- إن أكثر الناس لا سيما الكفار عاملون بظواهر الأمور الدنيوية من اكتساب الأموال والمعايش ومعرفة شؤون الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم المادية، ولكنهم غافلون عن العلم بالآخرة وعن العمل بها.
قال الزمخشري: أفاد قوله تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أن(21/51)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها وباطنها وحقيقتها: أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة «1» .
الحث على التفكر في المخلوقات الدالة على وجود الله ووحدانيته
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
الإعراب:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ.. ما: حرف نفي، ويَتَفَكَّرُوا قد عدّي إلى أَنْفُسِهِمْ كما عدّي في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 185] .
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا.. عاقِبَةَ: خبر كانَ، والسُّواى اسمها، ومن قرأ عاقبة بالرفع، فهي اسم كانَ، والسُّواى: خبر كان. والسُّواى على وزن «فعلى» تأنيث للاستواء، كالحسنى تأنيث الأحسن.
__________
(1) الكشاف: 2/ 503 [.....](21/52)
وأَنْ كَذَّبُوا مفعول لأجله، أي لأن كذبوا، ويجوز كونه في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أن كذبوا، أو بدل من السُّواى رفعا ونصبا. والسُّواى منصوب بأساؤوا انتصاب المصادر، لأنه مصدر.
البلاغة:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَوَلَمْ يَسِيرُوا إنكار وتوبيخ.
أَساؤُا السُّواى جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أولم يحدثوا التفكر فيها، أو: أولم يتفكروا في أمر أنفسهم، فإنها أقرب إليهم من غيرها، فبالتفكر يرجعون عن غفلتهم ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
ما خَلَقَ متعلق بقول محذوف معناه: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول، وقيل: معناه: فيعلموا لأن في الكلام دليلا عليه. ومعنى قوله: إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى معناه: ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من الانتهاء إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ مثل كفار مكة بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أي لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، أي جاحدون يحسبون أن الدنيا بداية وأن الآخرة لا تكون.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حض على السير في أقطار الأرض، والنظر في آثار المدمرين من قبلهم من الأمم، وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود وَأَثارُوا الْأَرْضَ حرثوها وقلبوها للزرع والغرس وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي عمروا الأرض أكثر من عمارة أهل مكة إياها، فإنهم أهل واد غير ذي زرع. وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهم أضعف حالا فيها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، والآيات الواضحات، والحجج الظاهرات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما يفعل بالظلمة، فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم.
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي ثم كان عاقبتهم العقوبة السوأى، والمراد بها جهنم، والسوأى: تأنيث الأسوأ أي الأقبح، أو مصدر كبشرى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي كانت إساءتهم بأن كذبوا بالقرآن.(21/53)
المناسبة:
هذه الآيات مرتبطة بما قبلها، تتضمن تهديد المشركين وحثهم على التفكر والنظر في المخلوقات الدالة على وجود الله وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه، بعد بيان ما صدر منهم من إنكار الإله بإنكار وعده، وإنكار البعث، كما قال تعالى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي أولم يحدثوا التفكر في عقولهم، أو يفكروا في أمر أنفسهم بأن يجيلوا فيه الفكر، فيقولوا: إن الله لم يخلق الكون من السماء والأرض وما فيهما من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات الكثيرة المتنوعة والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا عبثا ولا باطلا، بل كان خلقها مقرونا بالحق، مصحوبا بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب، فإذا حل الأجل بدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لحساب الله الواحد القهار.
وهذا حثّ لهم على إعمال الفكر السليم الموصل إلى معرفة الله ووحدانيته بالنظر في أنفسهم وما حولهم من مشاهد الكون، والمراد أن أسباب العلم الصحيح ومفاتيح الهداية تعتمد على العقل وأنه متوافر لديهم، لكنهم عطلوه ولم يعملوه فيما يجب إعماله.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أي وإن أكثر الناس ولا سيما الكفار لجاحدون منكرون وجود البعث والحساب لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا لأيقنوا بمعادهم إلى ربّهم بعد الموت.
ثم نبّه الله تعالى على صدق رسله فيما جاؤوا به عن ربهم بما أيّدهم به من(21/54)
المعجزات الباهرات، والدلائل الواضحات المحسوسات من إهلاك من كفر برسالتهم، ونجاة من صدّقهم فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثارُوا الْأَرْضَ، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي أولم يتنقل هؤلاء المنكرون للنبوات، المكذبون بالآخرة في بلاد الأرض، فينظروا بعقولهم وأفهامهم، ويبحثوا في آثار الله، ويسمعوا أخبار الماضين ويتأملوا بمصير المكذبين رسلهم من الأمم الماضية، علما بأنهم كانوا أشدّ قوة من أهل مكة وأمثالهم، وأكثر أموالا وأولادا، وحرثوا الأرض وقلبوها للزراعة والغرس أكثر مما فعل المكيون وسائر العرب لقحط بلادهم، واستغلوا الأرض أكثر من استغلال هؤلاء.
ثم أهلكهم الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والأدلة المحسوسة والشواهد الناطقة بقدرة الله وتوحيده، فما كان عقابهم ظلما، وما كان من شأن الله أن يظلمهم وغيرهم فيما حلّ بهم من العذاب والنكال، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها وذنوبهم السالفة.
فالعاقل من اتّعظ بغيره، وعرف أن زخارف الدنيا ومتاعها من أموال وأولاد لا تغني عنه شيئا يوم القيامة، وقد أكد الله تعالى ذلك بقوله:
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أي ثم كان مصير المسيئين العذاب السُّواى في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم، بسبب تكذيبهم بآيات الله ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، واستهزائهم بها وسخريتهم منها. فقوله أَساؤُا السُّواى معناه: كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون.
والإساءة: التكذيب والاستهزاء، وعبر عن العقاب بالجريمة الصادرة من الكفار، على سبيل المشاكلة.(21/55)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- الحثّ على التفكر في الكون وإيجابه، فإن التأمل في خلق السموات والأرض والأنفس البشرية المخلوقة لحكمة ومصلحة وعدل، والمؤقتة بأجل مسمى تنتهي إليه، دليل على وجود الخالق وتوحيده وقدرته وعلى حدوث الحشر، فقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ يدل على الوحدانية لأن إحكام الخلق والتنزه عن الفساد يمنع من تعدد الآلهة، ففي وجود آلهة فساد وخلل وتعثر، وقوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى دليل على الحشر لأنه يدل على فناء العالم وتخريب الكون، وبما أن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على الإعادة ولأن الخلق بالحق يوجب أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا، كما أخبر القرآن.
2- دلّ قوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة على حدوث الفناء في نهاية عمر الدنيا، وعلى أن لكل مخلوق أجلا، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء.
3- كثير من الناس كافرون بالبعث بعد الموت، وهذا نقص في التفكير، وقلة في العقل، فالعاقل من فكر بالمستقبل، وعمل لما بعد الموت، ولم تغره الحياة الدنيا.
4- التبصر بعبر الماضي درس وعظة، فمن سمع بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، وأدرك مصيرهم، وعرف سبب هلاكهم وتدميرهم، بادر إلى الإيمان بالله عزّ وجلّ، وصدّق رسله الذين جاءوهم بالمعجزات الدالة على صدقهم.
5- الاعتماد على قوة الجسد وسعة المال، ووفرة الثروة والأولاد خطأ محض، فإن كل الأموال والمدنيات وتقدم الحضارات لا تغني أصحابها شيئا يوم القيامة.(21/56)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
6- لقد كان إهلاك الأمم الماضية الجاحدة بربها ورسله وأنبيائه حقا وعدلا، ولم يكن الهلاك بغير ذنب ولا بغير سابق إنذار بالرسل والحجج، وإنما كان بظلمهم أنفسهم بالشرك والعصيان، والتكذيب بآيات الله الدالة على وجوده وتفرده بالألوهية، وتكذيب القرآن والرسول ومعجزاته، واستهزائهم بها.
إثبات الإعادة والحشر وبيان ما يكون وقت الرجوع إلى الله
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
البلاغة:
يَبْدَؤُا ويُعِيدُهُ بينهما طباق.
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المقصود.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ بين الجملتين مقابلة بين حال السعداء والأشقياء.
تُرْجَعُونَ يَتَفَرَّقُونَ يُحْبَرُونَ مُحْضَرُونَ مراعاة الفواصل في الحرف الأخير، وذلك له وقع وتأثير على السمع.(21/57)
المفردات اللغوية:
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئ خلق الناس ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعث الناس ويخلقهم مرة أخرى بعد موتهم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يسكت المشركون متحيرين آيسين لانقطاع حجتهم، يقال: أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته، والمبلس: الساكت المنقطع الحجة، اليائس من الاهتداء إليها وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أي لا يكون ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام شفعاء يجيرونهم من عذاب الله. وجاء التعبير بمعنى الماضي لتحققه وَكانُوا أي يكونون بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي متبرئين منهم، يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم.
يَوْمَئِذٍ تأكيد لقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ. يَتَفَرَّقُونَ أي يتفرق المؤمنون والكافرون. فِي رَوْضَةٍ بستان أو أرض ذات أزهار وأنهار يُحْبَرُونَ يسرّون سرورا تهللت له وجوههم بِآياتِنا القرآن وَلِقاءِ الْآخِرَةِ البعث وغيره مُحْضَرُونَ مدخلون فيه لا يغيبون عنه.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن عاقبة المجرمين إلى الجحيم، وذلك إشارة إلى الإعادة والحشر، أقام الأدلة عليه بأن من بدأ خلق الناس بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بيّن ما يكون وقت الرجوع إليه، وأخبر أن الناس حينئذ فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير.
التفسير والبيان:
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي أن الله كما هو قادر على بداءته وإنشائه، فهو قادر على إعادته، فالله هو الذي بدأ إنشاء الخلق بقدرته وإرادته، فلا يعجز عن رجعته، ثم إليه يعودون يوم القيامة ويحشرون للقضاء بينهم، فيجازي كل عامل بعلمه، ثم وصف حال الأشقياء بقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي ويوم تقوم القيامة للفصل بين الناس والحساب، يسكت المجرمون الذين أشركوا بالله وتنقطع عنهم الحجة من شدة الأهوال، وييأسون ولا يجدون طريقا للخلاص، ولا أملا في النجاة من طريق غيرهم، كما قال:(21/58)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي ولن يجدوا لهم شفعاء من الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، ينقذونهم من عذاب الله، وكانوا بشركائهم وآلهتهم المزعومة جاحدين، متبرئين منهم، إذ خانوهم في أحوج ما كانوا إليهم، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [البقرة 2/ 166- 167] .
وهذا دليل على تبين إفلاسهم وإعلان خسرانهم.
ثم يتميز أهل المحشر إلى فريقين، فقال تعالى:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي ويوم تقوم القيامة يتفرق الناس فرقة لا اجتماع بعدها، كما قال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس 36/ 59] فيؤخذ أهل الإيمان والسعادة إلى الجنان، ويؤخذ أهل الكفر والشقاوة إلى النيران. قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها، لهذا قال تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي فأما المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله واليوم الآخر، والعاملون بما أمر الله به، والمنتهون عما نهى الله عنه، فهم يتنعمون ويسرّون سرورا يملأ القلب والنفس ويظهر البشاشة بما لاحظوا به من روضات الجنان ذات البهجة والخضرة والأنهار الجارية، أي فهم في جنة يسرون بكل مسرة، كما قال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] ،
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي وأما الكافرون الجاحدون بوجود الله ووحدانيته، المكذبون رسله(21/59)
وآياته، المنكرون وقوع البعث بعد الموت، فهم مخلدون في عذاب جهنم، لا غيبة لهم عنه أبدا، ولا فتور له عنهم إطلاقا، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، أُعِيدُوا فِيها [الحج 22/ 22] وقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف 43/ 74- 75] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- الله هو منشئ الخلق، ومعيده بقدرته، وإليه المرجع والمآب.
2- لا يجد المشركون والكفار يوم القيامة حجة لهم يدافعون بها عن شركهم وكفرهم، فتنقطع حجتهم، وييأسون من الاهتداء إليها، كذلك لا يجدون لهم من غيرهم ناصرا ينصرهم ولا شفيعا ينقذهم من عذاب الله، وحينئذ يقولون عن آلهتهم: إنهم ليسوا بآلهة، فيتبرءون منها، وتتبرأ منهم.
3- يحدث انفصال يوم القيامة بين المؤمنين وبين الكافرين، فيتميز الطيبون من الخبيثين، ويقيم المؤمنون في جنان الخلد ذات الرياض الغناء والأنهار الجارية، فيغمرهم الحبور والسرور، وينعّمون ويكرمون، ويقيم الكافرون في عذاب جهنم إقامة دائمة أبدية، فلا يفارقونها، ولا يخفف عنهم فيها شيء من العذاب.
4- لا بد مع الإيمان من العمل الصالح، وهو الائتمار بأمر الله، واجتناب ما نهى عنه لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان، فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات، ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح.
وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره. وهذا هو السبب في ذكر العمل الصالح مع الإيمان، وعدم ذكر العمل السيئ مع الكفر.(21/60)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
تنزيه الله تعالى وحمده في جميع الأحوال
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
البلاغة:
تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ بينهما طباق.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ استعارة، استعار الحي للمؤمن، والميت للكافر.
المفردات اللغوية:
فَسُبْحانَ اللَّهِ سبحان: هو التسبيح، أي التنزيه، وهو إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه، أي سبحوا الله بمعنى صلوا في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته حِينَ تُمْسُونَ تدخلون في المساء، وفيه صلاتان: المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أوضح وأبين.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض، ومعناه: يحمده أهلها وَعَشِيًّا عطف على حِينَ تُمْسُونَ وفيه صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ تدخلون في الظهيرة، وفيه صلاة الظهر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس: تُمْسُونَ صلاة المغرب والعشاء وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر وعَشِيًّا صلاة العصر وتُظْهِرُونَ صلاة الظهر.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال أكثر المفسرين: يخرج الدجاجة من البيضة، والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة، ويخرج البيضة من الطائر، والنطفة من الإنسان، وقال بعضهم: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يحييها بالنبات بعد يبسها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور(21/61)
وتبعثون. والمعنى أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة القادر على إخراج الأشياء من أضدادها، بإخراج الميت من الحي، وإخراج الحي من الميت، وإحياء الميت، وإماتة الحي. وقرئ:
تخرجون.
المناسبة:
بعد بيان عظمة الله تعالى وقدرته في خلق السموات والأرض حين ابتداء العالم، وعظمته حين قيام الساعة (القيامة) حال انتهاء العالم، وافتراق الناس فريقين: فريق الجنة وفريق النار، أمر الله تعالى بتنزيهه عن كل سوء وعما لا يليق به، وبحمده على كل حال لأنه المتفرد بإحياء الميت وإماتة الحي، وإحياء الأرض بعد موتها، كإحياء الناس من قبورهم للبعث، وهذا في وقت الصباح يشبه حال انتقال الإنسان من النوم الذي هو الموتة الصغرى إلى اليقظة التي هي الحياة.
التفسير والبيان:
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي سبحوا الله تعالى ونزهوه وصلّوا له في جميع أوقات النهار والليل، حين ابتداء المساء، وحين طلوع الصباح. وهذا إرشاد من الله تعالى لعباده بتسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء: وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح: وهو إسفار النهار بضيائه، وفي المساء صلاتا المغرب والعشاء، وفي وقت الصباح صلاة الفجر. وقدم الإمساء على الإصباح هنا لأن الليل يتقدم النهار.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي والله تعالى هو المحمود من جميع أهل السموات والأرض من ملائكة وجن وإنس. وهذا اعتراض بحمده مناسب للتسبيح وهو التحميد.(21/62)
وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أي وسبحوه ونزهوه أيضا وقت العشي أو العشاء: وهو شدة الظلام، وفي وسط النهار وقت الظهيرة.
قال الماوردي: الفرق بين المساء والعشاء: أن المساء: بدوّ الظلام بعد المغيب، والعشاء: آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب.
ويلاحظ أن تخصيص هذه الأوقات بالتسبيح إنما هو بسبب وجود معالم الانتقال المحسوس من حال إلى حال، ومن زمن إلى زمن، يشمل جميع أجزاء اليوم، بدءا من الصبح أو النهار وقوة الضياء، إلى الظهر حين تتحول الشمس من جهة المشرق إلى المغرب، إلى العصر حين يبدأ أفول النهار وقدوم العشي، إلى المغرب بدء الظلام، إلى العشاء في شدة الظلام. والمعنى: نزهوا الله عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال في جميع هذه الأوقات المتعاقبة لأن أفضل الأعمال أدومها.
وفي هذا إشارة إلى أصول الإيمان الموجبة للظفر بروضات الجنان، فبعد أن أبان الله تعالى أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل صالحا في قوله:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أعلمنا أن الإيمان تنزيه بالجنان، وتوحيد باللسان، وأن العمل الصالح القيام بجميع الأركان، وكل ذلك تسبيح (تنزيه) وتحميد، يوصل إلى الحبور (السرور والتنعم) في رياض الجنان.
وقد تكرر في القرآن لفت النظر إلى الإضاءة والإظلام، وأن الله فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، كما قال: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس 91/ 3- 4] ، وقال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل 92/ 1- 2] ، وقال: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى 93/ 1- 2] .(21/63)
ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وعظمته الموجبة للتنزيه والتحميد، فقال:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي أن الله تعالى هو القادر على خلق الأشياء المتقابلة، فهو يخرج أولا الإنسان الحي من التراب الميت، ثم من النطفة، والطائر من البيضة، كما يفعل ضدّ هذا، فيخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، واليقظان من النائم، والنائم من اليقظان.
وأما كون النطفة كائنا حيّا فلا تعرفه العرب، ولم يكن التقدم العلمي واضح المعالم في هذا لديهم.
وهذا دليل على كمال القدرة الإلهية وبديع الصنع وعظمة الإله.
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي والله تعالى يحيي الأرض بالمطر، فيخرج النبات من الحب، والحب من النبات، كما قال: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ [يس 36/ 23- 24] ، وقال سبحانه:
وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج 22/ 5] .
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور أحياء بعد أن كنتم أمواتا، وذلك على الله يسير.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجوب تنزيه الله تعالى عن جميع صفات النقص، ووصفه بجميع صفات(21/64)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
الكمال، في جميع الأوقات المتعاقبة، وقرن التسبيح بالتحميد على نعم الله وآلائه، والصلوات المفروضة الخمس بعض مظاهر التسبيح والتحميد لاشتمالها على ذلك. وقد استدل ابن عباس كما تقدم بهذه الآيات على بيان عدد الصلوات الخمس في القرآن.
وذلك دليل على الإيمان، وعلى فضل التسبيح والتحميد،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال حين يصبح: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. الآية، أدرك ما فاته في ليلته، ومن قال حين يمسي، أدرك ما فاته في يومه» .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الآية» .
2- يتجلى كمال قدرة الله عزّ وجلّ ويثبت وجوده بتفرده بالخلق والإيجاد، والإعدام، والإحياء والإماتة، فهو سبحانه يخلق الأشياء المتقابلة أو المتضادة بعضها من بعض، فهو يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها أو يبسها، وكما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحيي الناس بالبعث.
قال القرطبي: وفي هذا دليل على صحة القياس. أي أنه قاس إحياء الموتى من القبور على إحياء الأرض الميتة بالمطر الذي ينبت النبات الأخضر الزاهي.
بعض أدلة الوحدانية والقدرة والحشر
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)(21/65)
الإعراب:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ.. أَنْ خَلَقَكُمْ: في موضع رفع على الابتداء، والجار والمجرور قبلها خبرها، وتقديره: وخلقكم من تراب من آياته.
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ فيه محذوف مقدر تقديره: ومن آياته آية يريكم البرق فيها، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه. ومن النحويين من يجعل تقديره: ومن آياته أن يريكم البرق، كالآيتين المتقدمتين: أَنْ خَلَقَكُمْ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ.
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ جار ومجرور متعلق بمحذوف، إما صفة للنكرة أي دعاكم دعوة كائنة من الأرض، أو في موضع الحال من الكاف والميم في دَعاكُمْ. ولا يجوز أن يتعلق ب تَخْرُجُونَ لأن ما بعد إِذا لا يعمل فيما قبلها.
البلاغة:
خَوْفاً وطَمَعاً يَبْدَؤُا ويُعِيدُهُ بين كلّ منهما طباق.
دَعاكُمْ دَعْوَةً بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَمِنْ آياتِهِ آيات الله تعالى الدالة على قدرته. أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلكم(21/66)
آدم من تراب. ثُمَّ إِذا هي للمفاجاة. أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ بَشَرٌ من دم ولحم تنتشرون في الأرض، تبتغون من فضل الله. مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً بأن خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطف الرجال والنساء، أو المعنى: أنهن خلقن من جنس الرجال، لا من جنس آخر. لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوها، فإن اتحاد الجنس علة للضم والاجتماع، والاختلاف سبب للتنافر. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي وجعل بين الرجال والنساء أو بين أفراد الجنس مودة ورحمة بواسطة الزواج، بخلاف سائر الحيوانات، تنظيما لأمر المعيشة، قال السّدّي:
المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إن في ذلك المذكور لآيات دالة على قدرة الله، لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى، فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم من عربية وغير عربية. وَأَلْوانِكُمْ من بياض وسواد وغيرهما، وأنتم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، أو اختلاف في تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها وجمالها، بحيث وقع التمايز والتعارف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي لدلالات على قدرته تعالى لذوي العقول وأولي العلم، لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن، كما قال تعالى:
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت 29/ 43] .
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ منامكم في زماني الليل والنهار، لاستراحة الجسد والنفس والفكر.
وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي طلبكم المعاش في الليل والنهار. لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم وتدبر واستبصار واعتبار. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ أي إراءتكم بتقدير. (أن) كقول الشاعر:
ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أو الفعل فيه منزل منزلة المصدر، مثل: «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» أو صفة لمحذوف تقديره: آية يريكم بها البرق.
الْبَرْقَ شرارة كهربائية تظهر في الجو نتيجة احتكاك السحب، وينشأ عنها الرعد.
خَوْفاً للمسافر من الصواعق. وَطَمَعاً في الغيث للمقيم. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها، وإحياؤها يكون بالإنبات. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لدلالات على قدرته تعالى لقوم يتدبرون، يستعملون عقولهم في كيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.
بِأَمْرِهِ أي بإقامته لهما وإرادته قيامهما في موقعهما المعين من غير مقيم محسوس وجعل السماء من غير عمد ترونها. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة، فيقول: أيتها الموتى اخرجوا، أو بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي تخرجون من القبور أحياء. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا(21/67)
وعبيدا. قانِتُونَ مطيعون منقادون لفعله فيهما، لا يمتنعون عليه. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ خلق الناس. ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد هلاكهم. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي الإعادة أسهل عليه من البدء، بالنظر إلى مفهوم المخاطبين أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه، وإلا فهما عند الله تعالى سواء في السهولة. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلّا الله، أي الوصف بالوحدانية الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه في السموات والأرض، يتصف به دلالة ونطقا. أو له الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة. وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر في ملكه الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال في خلقه على مقتضى حكمته.
سبب النزول: نزول الآية (27) :
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.
المناسبة:
بعد بيان الأمر بتنزيه الله تعالى عن جميع النقائص، واستحقاقه الحمد على خلق جميع الأشياء، وبيان قدرته على الإماتة والإحياء، ذكر هنا أدلة التوحيد والوجود والعظمة وكمال القدرة، والحجج المثبتة للبعث والإعادة، مبتدئا بدليل خلق الإنسان من تراب ثم بقاء النوع الإنساني بالتوالد، ثم خلق السموات والأرض ومشاهد الكون، واختلاف ألوان البشر ولغاتهم، ومنامهم بالليل واكتسابهم بالنهار، وتلك أوصاف تعرض للنفوس، ثم عوارض الكون من البرق والمطر والإنبات، ثم خضوع السماء والأرض لإرادته وإذعان الأموات لدعوته بالخروج أحياء من القبور، وأعقب كل ذلك بما هو كالنتيجة لما سبق، من تقرير كمال القدرة على بدء الخلق وإعادته واتصافه بالصفة العليا وهي الوحدانية وجميع الصفات الباهرة كالقدرة التامة والحكمة الشاملة.(21/68)
التفسير والبيان:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي ومن آياته تعالى الدالة على عظمته وكمال قدرته على الخلق والإيجاد والإعدام والإفناء بدء خلق الإنسان، فخلق أباكم في الأصل من تراب، وجعل مصدر غذائكم من لحوم الحيوان والنبات من التراب، ثم بعد إنشائكم تعمرون الأرض وتتوزعون فيها لأغراض مختلفة من بناء المدائن والحصون، وزراعة الحقول، والاتّجار بالسفر في البلاد المختلفة لتحصيل الأرزاق، وكسب المعايش، وجمع الأموال، مع اختلاف المواهب والعقول والأفكار، والغنى والفقر، والسعادة والتعاسة.
روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك» .
ثم ذكر الله تعالى طريق بقاء النوع الإنساني فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي ومن آياته الدالة على قدرته ورحمته أن خلق النساء لكم من جنس الرجال، وجعل بدء خلق المرأة من جسد الرجل، ليتحقق الوفاق ويكتمل الأنس، وجعل بين الجنسين المودة أي المحبة، والرحمة أي الشفقة ليتعاون الجنسان على أعباء الحياة، وتدوم الأسرة على أقوى أساس وأتم نظام، ويتم السكن والاطمئنان والراحة والهدوء، فإن الرجل يمسك المرأة ويتعلق بها إما لمحبته لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك.
إن في ذلك الخلق والإيجاد الأصلي من التراب، وجعل الأزواج من أنفس(21/69)
الرجال، وتقوية الروابط بينهما بالمودة والمحبة والرحمة والرأفة لدلالة على الخالق الموجد والنعم المتفضل لمن تأمل وفكر في أسباب الحياة، وتحقيق النتائج، وبناء الروابط على وفق الحكمة والمصلحة، والنظام البديع.
فأبونا من تراب، وذريته من ماء، والماء من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات وخواص الأرض وكنوزها، ثم جعل الرابطة الزوجية بين الجنسين من تكوين واحد، وطباع واحدة، وغرائز متحدة، ليتحقق السكن إلى المرأة، ويتوافر الميل إليها، ويحدث الهدوء النفسي معها فإن النفس ميالة إلى ما يلائمها، وينسجم معها في الأغراض، نافرة مما يناقضها ويعاكسها في الجملة.
وقوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يفسره قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف 7/ 189] .
ثم ذكر الله تعالى أدلة أخرى على وجوده وربوبيته وتوحيده وقدرته من الكون العظيم وعظمة تكوين الإنسان، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته العظيمة ووجوده: خلقه السموات المرتفعة بدون عمد، المزينة بالكواكب والنجوم الثوابت والسيارات، وخلق الأرض بطبقاتها المترعة بالكنوز والمعادن والخيرات، المثبّتة بالجبال، المشتملة على الوديان والقفار، والبحار، والحيوان، والأشجار.
ولم يكن ذلك الكون فارغا من المخلوقات، وإنما أوجد فيه الأنس بالناس ذوي الجنسيات المتعددة، واللغات المختلفة، والألوان المتنوعة، والأصوات المتميزة، والسمات والهيئات والتقاطيع المتفاوتة كاختلاف البصمات وغير ذلك من حسن وجمال، وقبح وتفاوت بالرغم من كونهم من أصل واحد وأب واحد وأم واحدة. قال الله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة 75/ 4] .(21/70)
إن في ذلك المذكور لآيات دالة على تمام القدرة الإلهية لقوم ذوي عقول نافذة، وأفكار مبصرة، وعلوم نافعة تهديهم إلى الحق، وترشدهم إلى التفكير في المخلوقات، وتبين لهم أنها خلقت لحكمة بالغة، ومصلحة راقية، لا عبثا ولا فسادا.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي ومن علامات قدرته ورحمته تعالى التمكين من الراحة من التعب، والهدوء والاستقرار بالليل، والحركة والسعي للرزق والنشاط المتتابع في النهار، إن في ذلك المذكور لدلالات وعبرا لقوم يسمعون سماع اتعاظ وتدبر، ووعي وتفهم للحجج، يؤدي بهم إلى القناعة والاعتقاد الجازم بأن الله قادر على بعث العالم وإعادته.
ثم ذكر الله تعالى أدلة من عوارض الأكوان وتقلبات الحياة، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ومن آياته الدالة أيضا على عظمة قدرته إراءتكم البرق، خوفا للمسافر وغيره من الصواعق المتلفة، وطمعا فيما تحبون من المطر المحتاج إليه لحياة الإنسان والحيوان والنبات، كما قال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم 30/ 24] ، أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج 22/ 5] .
إن في ذلك المذكور من الإحياء بعد الموت لبرهانا ساطعا دالا على البعث والمعاد وقيام الساعة، فإن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ(21/71)
إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ
أي ومن أدلة قدرته ووجوده تعالى قيام السماء بلا عمد، والأرض الكروية الدائرية القائمة في الفضاء بلا وتد، بل بإقامته وتدبيره وإحكامه وتصرفه، كما قال: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد 13/ 2] ، وقال: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج 22/ 65] ، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر 35/ 41] .
ثم إنه تعالى يحفظ نظام هذا العالم حتى ينتهي أجل الدنيا، فإذا دعاكم الداعي حينئذ للخروج من قبوركم أحياء خرجتم، كما قال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج 70/ 43] ، وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 52] ، وقال: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] ، وقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس 36/ 53] .
والنتيجة الحتمية هي:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي ولله جميع من في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وهم جميعا خاضعون خاشعون لما يريد الله من موت أو حياة، وحركة أو سكون، طوعا أو كرها.
روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو الطاعة» .
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي والله تعالى هو الذي بدأ خلق الإنسان من غير أصل سابق له، ثم يميته ويفنيه، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أيسر وأسهل عليه، بحسب تصور البشر المخاطبين وإدراكهم أن(21/72)
الإعادة أسهل من البدء، وكل ما ذكر كان تقريبا لعقول الكفرة الجهلة منكري البعث، وإلا فالبدء والإعادة سواء في قدرة الله تعالى، فأهون بمعنى: هيّن لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء.
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة 2/ 116 ومواضع أخرى] ، وأنا الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 3- 4] » .
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وله الصفة العليا الكاملة وهي تفرده بالوحدانية، أي أنه لا إله إلا الله، ولا ربّ غيره، واتصافه بكل صفات الكمال، وتنزهه عن جميع صفات النقصان، وليس كمثله شيء، فلا ندّ ولا شبيه ولا نظير له، وهو القوي في ملكه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، يجري كل شيء في الوجود على وفق علمه وإرادته، ومقتضى حكمته، ونطق كل موجود بأنه الخالق الواحد القادر القاهر فوق عباده، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيات ستة أدلة على ربوبية الله تعالى ووحدانيته ونتيجة مقررة لها وهي:
1- الدليل الأول:
خلق أصل الإنسان من تراب، والفرع كالأصل. وقد خلق الله تعالى(21/73)
الإنسان أولا، لا أنه خلقه حيوانا ثم جعله إنسانا، ثم زوده بعد الخلق بطاقات الإدراك والمعرفة والعلم والعقل، فأصبح هناك عقلاء ناطقون يتصرفون في قوام معايشهم، لم يخلقهم عبثا، وإنما لحكمة ورسالة معينة، ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح.
والتعبير بقوله: بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إشارة بقوله بَشَرٌ إلى القوة المدركة المغايرة للحيوان، وبقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المحركة، وكلاهما من التراب عجيب. وقد خصّ الله تعالى بالذكر عنصري التراب والماء، مع أن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار لأن الحاجة إلى الهواء والنار تكون بعد امتزاج الماء بالتراب، ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء «1» .
2- الدليل الثاني:
بقاء النوع الإنساني بالتوالد: دلّ قوله تعالى مِنْ أَنْفُسِكُمْ على أن الله خلق حواء من جسم آدم كما قال بعضهم، والصحيح كما قال الرازي: أن المراد منه من جنسكم، كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] ، ويدل عليه قوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي أن السكن والألفة والاطمئنان لا تتحقق إلا بين متحدي الجنس «2» . وأحاط الله تعالى رباط الزوجية بما يكفل دوامه واستمراره، فجعل النساء موضع سكون قلبي واطمئنان للرجال، وجعل بين الزوجين مودة ورحمة أي محبة وشفقة، كما قال السدّي، وروي معناه عن ابن عباس قال: المودّة: حبّ الرجل امرأته، والرحمة: رحمته إياها أن يصيبها بسوء.
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 108- 110
(2) تفسير الرازي: 25/ 110(21/74)
والخلاصة: أن الله تعالى حافظ على النوع الإنساني بأمرين: كون الزوج من جنس الرجل، وما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه، فالجنسية توجب السكون، وأحاط السكون بأمرين: المودة والرحمة، والمودة تكون أولا ثم إنها تفضي إلى الرحمة لأن الإنسان يجد بين القرينين الزوجين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام، وليس ذلك بمجرد الشهوة، فإنها قد تنتفي وتزول أو يعصف بها الغضب الكثير الوقوع، وتبقى الرحمة التي هي من الله تعالى، وبها يدفع الإنسان المكاره عن حرمه.
3- الدليل الثالث:
دلائل الآفاق والأنفس: وأهمها خلق السموات والأرض، ثم اختلاف الكلام واللغات العديدة في العالم من عربية وغيرها، واختلاف الألوان من البياض والسواد والحمرة، واختلاف الأصوات والصور، ومقاطع الجلد وتقاسيم الوجه وغير ذلك، فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرّق بينه وبين الآخر، وليست هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين، فلا بدّ من فاعل، ولا فاعل إلا الله تعالى. وهذا من أدلّ الأدلة على وجود المدبر البارئ.
4- الدليل الرابع والخامس:
العرضيات الطارئة للإنسان: وهي النوم بالليل والحركة طلبا للرزق بالنهار، وإظهار البرق والرعد تخويفا من الصواعق، وطمعا في إنزال الغيث النافع، وإنزال المطر فعلا من السحاب لإحياء الزرع والشجر وإنبات النبات وتغذية منابع الماء ومصادر الثروة المائية.
5- الدليل السادس:
إقامة السماء والأرض وإمساكهما بقدرته وتدبيره وحكمته، فيمسك تعالى السماء بغير عمد لمنافع الخلق، كيلا تسقط على الناس، ويحفظ الأرض الدائرة(21/75)
المتحركة بأهلها من غير وتد، وفي حال من التوازن، دون تعارض ولا تصادم بينها وبين بقية الكواكب الثابتة والسيارة، حتى ينتهي أجل الدنيا، وحينئذ يحدث البعث، فإن الذي خلق هذه الأشياء قادر على أن يبعث المخلوقات من قبورهم، والمراد من قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا انتظار، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه.
6- النتيجة المقررة لما سبق من إثبات الوحدانية التي هي الأصل الأول، وإثبات القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر: أن لله جميع من في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصرفا، كلّ له طائعون طاعة انقياد، وأن الله تعالى هو مبدئ الخلق وهو معيده مرة أخرى، كما قال: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج 85/ 13] ، والإعادة أمر هيّن على الله، والبدء والإعادة سواء في قدرة الله تعالى.
وإذ ثبتت القدرة العظمى لله في كل شيء، وثبتت الوحدانية، فلله الصفة العليا في السموات والأرض: وهي أنه لا إله إلا هو ولا ربّ غيره، وتلك صفة الوحدانية، وأنه متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقصان، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، القوي الغالب الذي لا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، وما أراده جلّ وعزّ كان.
دعاء الأرق:
إن النوم بفضل الله وتيسيره كما قال: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ
وقد روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حيّ قيوم، يا حيّ يا قيوم أنم عيني، وأهدئ ليلي» .
فالحمد لله الذي جعل راحة الإنسان بفضله وقدرته، لا بالطبيعة والعادة، فلولا إلقاء النوم على الإنسان ليلا أو نهارا، لما تمكن من متابعة جهده وعمله في النهار.(21/76)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
إثبات الوحدانية من واقع البشر
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
المفردات اللغوية:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ جعل لكم أيها المشركون مثلا كائنا منتزعا من أحوال أنفسكم التي هي أقرب الأمور إليكم. والمثل: الصفة الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من مماليككم وعبيدكم. مِنْ شُرَكاءَ لكم. فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فتكونون أنتم وهم فيه سواء في إمكان التصرف فيه، يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم.
ومن الأولى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ للابتداء، والثانية: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة: مِنْ شُرَكاءَ مزيدة لتأكيد الاستفهام المقصود به النفي.
تَخافُونَهُمْ أي تخافون أن يستقلوا بالتصرف فيه. كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. والمعنى: ليس مماليككم شركاء لكم في أموالكم، فكيف تجعلون بعض مماليك الله شركاء له؟! كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التفصيل نبين الآيات بالتمثيل الموضح للمعاني.
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون، يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال. ظَلَمُوا بالإشراك. بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يردعهم شيء. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي فمن يقدر على هدايته؟ والمعنى:
لا أحد يهديهم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم من آفاتها، أي: وليس لهم منقذ من قدرة الله.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبّيك اللهم(21/77)
لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، فأنزل الله:
هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ.
التفسير والبيان:
من أسلوب القرآن المتميز تصوير المعنويات بصور المحسوسات، وضرب الأمثال الواقعية تقريبا للأذهان، وإمعانا في الإقناع، وهذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا يقولون:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
والقصد من هذا المثل إثبات الوحدانية، وهدم الشرك والوثنية، فقال تعالى:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ أي جعل الله لكم مثلا تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم، ومنتزع من أحوالكم ومشاعركم التي تسيطر عليكم، وقريبة منكم قربا ملازما، لإثبات وحدانية الله تعالى، والإقلاع عما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام.
ذلك المثل: هو هل ترضون أن يكون لكم أيها المشركون شركاء في أموالكم؟
وهؤلاء الشركاء هم عبيدكم يساوونكم في التصرف فيها، وأنتم وهم في المال سواء، تخافون أن يقاسموكم الأموال؟! وإذا كنتم تأنفون من ذلك، ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه، وتجعلون عبيده شركاء له؟! والمعنى المقصود: أن أحدكم يأنف من ذلك أي بأن يساويه عبده في التصرف(21/78)
في أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد الأشباه من خلقه؟! وهذا كقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ [النحل 16/ 62] أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات لله، وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى، ظل وجهه مسودا وهو كظيم، فهم يأنفون من البنات وجعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم، فهذا أغلظ الكفر.
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي مثل ذلك التفصيل والتبيان في إلزام الخصم الحجة القوية، نفصل الآيات ونوضحها لقوم يستعملون عقولهم ويتأملون فيما يقال لهم ويذكر من الأدلة المنطقية والحجج الإقناعية.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولكن هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم اتبعوا أهواءهم جهلا منهم، ولم يحكّموا عقولهم، في عبادتهم الأنداد بغير مستند من عقل أو نقل، وساروا على غير هدى ولا علم ولا بصيرة.
فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي إذا كان أمر هؤلاء الناس المشركين كذلك، فلا أحد يهديهم ويوفقهم إلى الحق، بعد أن اختاروا الكفر، وفقدوا الاستعداد للإيمان، وصار الشرك طبعا لهم، وخلقوا ميالين بالفطرة إليه، والله عالم بهم وبشأنهم قبل خلقهم، فصاروا معتمدين على أنفسهم، ولا ناصر لهم ينقذهم من بأس الله ولا مجير لهم من عذابه وشديد انتقامه إذا أحدق بهم لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الشركة بين المتفاوتين في الدرجة أو الطبقة مرفوضة في واقع الأمر(21/79)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وعادة الناس، وهي باطلة غير قائمة فعلا بين العبيد والسادة فيما يملكه السادة، وإذا كان الخلق كلهم عبيدا متساوين لله تعالى، فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله.
وهذه الآية تنفي جميع محاسن العبادة عن غير الله تعالى، إذ لا ملك لهم فلم يصلحوا للشركة، ولا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم، ولا يرتجى منهم منفعة حتى يعبدوا لنفع، وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد، والعبد المملوك لا يقدر على شيء.
2- إذا ثبت أنه لا يجوز ولا يعقل أن يشارك المملوك مالكه، فلا يجوز أن يكون المخلوقون المملوكون لربهم شركاء له، ولكن الذين أشركوا تجاوزوا هذا المنطق، واتبعوا بعبادتهم الأصنام أهواءهم من غير دليل علمي، وقلدوا فقط الأسلاف في ذلك.
3- هؤلاء المشركون الذين اختاروا الشرك والكفر أضلهم الله، فلا هادي لهم، كما لا هادي لكل من أضله الله تعالى، وهم أيضا مخذولون فاقدو النصرة من أحد، ولا منقذ لهم من قدرة الله، ولا مجير، ولا حيلة لهم بالهرب من عذاب الله ولا محيد لهم عنه.
الأمر باتباع الإسلام دين الفطرة والتوحيد
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(21/80)
الإعراب:
فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب بتقدير فعل، أي اتبع فطرة الله، دل عليه قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي اتبع الدين، أو منصوب على المصدر، تقديره: فطر الله الخلق فطرة، أو منصوب على الإغراء.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ منصوب على الحال من ضمير فَأَقِمْ. وإنما جمع حملا على المعنى لأن الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به أمته، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
[الطلاق 65/ 1] .
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا بدل بإعادة الجار، أي بدل من المشركين.
البلاغة:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ من إطلاق الجزء وإرادة الكل، أي توجه إلى الله بكليتك.
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي اتبع الدين وأخلص فيه وأقبل على الإسلام واثبت عليه يا محمد ومن تبعك. حَنِيفاً مائلا إلى الاستقامة، تاركا طرق الضلالة. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقة الله التي خلق الناس عليها من الشعور بالعبودية لله تعالى، وقبول الحق وإدراكه.
لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا ينبغي لأحد أن يغير فطرة الله وخلقه، وليس لكم أن تبدلوا دينه بأن تشركوا. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الدين المأمور باتباعه أو الفطرة بمعنى الملة هو الدين المستقيم أو المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو توحيد الله. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أغلب الناس، مثل كفار مكة حين نزول الوحي لا يعلمون توحيد الله تعالى واستقامة الدين، لعدم تدبرهم وتفكرهم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل، والتزام ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. وَاتَّقُوهُ أي أقيموا الدين واتبعوه وخافوا الله لأن الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والأمة معه، غير أن الآية صدرت بخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له. فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقرئ: فارقوا، اي تركوا دينهم الذي أمروا به.
شِيَعاً فرقا، تشايع كل فرقة إمامها الذي قرر لها دينها وأصّله، أي وضع أصوله.
كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل حزب منهم بما عندهم مسرورون.(21/81)
المناسبة:
بعد بيان أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية على كل شيء ومنه الحشر والبعث، وبعد توطين عزيمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الاعتزاز بدعوته وعدم الاهتمام بموقف المشركين منها، وترك الالتفات إليهم، أمر الله تعالى بمتابعة دين الإسلام، والثبات عليه، والإخلاص في العمل الذي اشتمل عليه لأنه فطرة الله التي أودع النفوس والعقول عليها، والاعتراف بمضمونها، والشعور الصافي بمدلولها.
التفسير والبيان:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي إذا تبين الحق في الاعتقاد والدين بدلائله السابقة، وبطل الشرك ومعالمه، فاتبع الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، التي هداك الله لها، وأكملها لك، وهو دين الفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه خلقهم على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره، وكن بذلك مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر لأمته أيضا. وتلك الفطرة كما قال تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] وكما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم وأحمد: «إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم»
وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء «1» ، هل تحسّون فيها من جدعاء «2» » .
فكل من الآيتين والحديثين دليل على نقاوة أصل الخلق، وأن الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وعلى الإسلام الصافي، ثم طرأ على بعضهم الأديان
__________
(1) مستوية كاملة لا نقص في شيء من بدنها.
(2) جدعاء: مقطوعة الأذن أو الأنف.(21/82)
الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وقدر فعل الخطاب للجماعة لقوله: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ.
لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا ينبغي لأحد أن يبدّل أو يغير فطرة الله أي الخلقة الأصلية والملة السليمة، وهو خبر في معنى النهي أو الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله ودينه بالشرك، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها.
وهذا دليل على سلامة الخلقة العقدية، ونقاوة العقل البشري في أصل التكوين والوجود، ثم يحدث التغيير بتأثيرات البيئة من أهواء وعلوم ومعارف زائغة، وموروثات باطلة وتقليد مستمر للأسلاف، دون إعمال الفكر وتكوين الاعتقاد بالنظرة المستقلة الصائبة، ولو ترك الإنسان وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا لأنه دين الفطرة والعقل.
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي ذلك المأمور به من اتباع ملة التوحيد والتمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
غير أن أكثر الناس لا يعرفون ذلك حق المعرفة، فهم ناكبون عنه، لعدم إعمال فكرهم والإفادة من العلم الصحيح والبراهين الواضحة الدالة عليه، ولو فكروا وعقلوا وعلموا حق العلم، لما عدلوا عن ملة التوحيد وشريعة الإسلام وهديه.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي اتبعوا دين الله، مقبلين عليه، راجعين إليه، وإذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته، بل خافوه وداوموا على العبادة، وراقبوه فلا تفرطوا في طاعة، ولا ترتكبوا معصية، وأقيموا الصلاة، أي داوموا على إقامتها كاملة(21/83)
الأركان مستوفية الشروط، قائمة على الخشوع وتعظيم الله عز وجل، ولا تكونوا بعد الإيمان من المشركين به غيره، فلا تقصدوا بذلك غير الله، أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة، لا يريدون بها سواه، والعبادة الخالصة هي كما
جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عمر: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي مريم قال: مرّ عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل، فقال عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهن المنجيات: الإخلاص، وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت.
وأوصاف المشركين هي:
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي من المشركين الذين فرقوا دينهم أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، وبدلوا دين الفطرة وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وصاروا فرقا مختلفة كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة، كل فرقة منهم تفرح بما عندها وتسر وتعجب، وتزعم أن الصواب في جانبها، مع أنهم على الباطل الذي يناقض الحق الذي أراده الله واختاره دينا لعباده.
وهذا يشمل أيضا اختلاف الأمة الإسلامية، اختلفوا بينهم على مذاهب شتى في الاعتقاد والعمل، كلها ضلالة، إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، كما
روى الحاكم في مستدركه أنه سئل صلّى الله عليه وسلّم عن الفرقة الناجية منهم، فقال: «من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
وقرئ: «فارقوا دينهم» .(21/84)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الإسلام دين الفطرة والتوحيد، فهو دين يلائم أصل الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها.
وفطرة الله هي التوحيد، فإن الله خلق الناس موحدين مقرين بوجود ربهم وبوحدانيته، حيث أخذهم من ظهر آدم في عالم الذر، وسألهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فقالوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] .
2- أمر الله تعالى باتباع دين الفطرة النقية لأنه دين التوحيد، والدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو دين الإسلام، وحذر من تبديله وتغييره، فلا يصح تبديل دين الله، قال البخاري: قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: لدين الله، خلق الأولين، دين الأولين، الدين والفطرة: الإسلام.
كما حذر الله تعالى من الميل لأي دين آخر غير ملة الإسلام، بقوله:
حَنِيفاً معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة.
3- إن أكثر الناس لا يتفكرون، فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه، وأن الإسلام هو الدين المستقيم.
4- أمر الله تعالى بالإنابة إليه، أي بالرجوع إليه بالتوبة والإخلاص، والإقبال عليه، وإطاعته، والتوبة إليه من الذنوب.
وأمر أيضا بالتقوى، أي بالخوف من الله وامتثال ما أمر به، وبإقامة الصلاة تامة كاملة مشتملة على الخشوع ومحبة الإله المعبود، وحذر من اقتران العبادة بالشرك، فأبان أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص، فلذلك قال:(21/85)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمراد إخراج العبد عن الشرك الخفي، أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله.
5- لقد غيّر الناس دين الفطرة، وجعلوا أديانا وآراء متناقضة، وذلك يشمل المشركين: عبدة الأوثان، واليهود والنصارى، والمسلمين أهل القبلة أصحاب الأهواء والبدع، كل حزب بما عندهم مسرورون معجبون لأنهم لم يتبينوا الحق، وعليهم أن يتبينوه.
سوء حال بعض الناس بالرجوع إلى الله أحيانا ثم الشرك والنكول
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
الإعراب:
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً سُلْطاناً: قيل: هو جمع (سليط) كرغيف ورغفان، وقفيز وقفزان، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، فمن ذكّر فعلى معنى الجمع، ومن أنثه فعلى معنى الجماعة. والأصح أن السلطان: الحجة، وتكلّمه مجاز كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الدلالة.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ.. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إِنْ: شرطية، وجوابها قوله: إِذا(21/86)
بمنزلة الفاء، وصارت إِذا بمنزلة الفاء لأنها لا يبتدأ بها، كما لا يبتدأ بالفاء، بسبب أنها للمفاجاة. وإنما يبتدأ ب (إذا) إذا كان فيها معنى الشرط. وتُصِبْهُمْ: مبتدأ، ويَقْنَطُونَ:
خبره. وإِذا خبر آخر، تقديره: وبالحضرة هم قانطون.
البلاغة:
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
فَتَمَتَّعُوا التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة.
المفردات اللغوية:
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ أي المشركين كفار مكة وأمثالهم. ضُرٌّ شدة وبلاء. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه دون غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خلاصا من تلك الشدة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام العاقبة أو الصيرورة، مثل آية لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] وقيل: للأمر بمعنى التهديد. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم.
أَمْ بمعنى همزة الإنكار. سُلْطاناً حجة وكتابا. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلم دلالة، فهو مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، ومعناه الدلالة والشهادة، كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته. بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي يأمرهم بالإشراك.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ فئة من الكفار. رَحْمَةً نعمة من صحة وسعة. فَرِحُوا بِها فرح بطر، أي بطروا بسببها. سَيِّئَةٌ شدة. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بشؤم معاصيهم.
يَقْنَطُونَ ييأسون من الرحمة. ومن شأن المؤمن أن يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أولم يعلموا. يَبْسُطُ يوسع. لِمَنْ يَشاءُ امتحانا. وَيَقْدِرُ يضيق لمن يشاء ابتلاء. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بربهم، فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.
المناسبة:
بعد بيان التوحيد والاستدلال عليه عقلا وبالمثال، أبان الله تعالى حال فئتين من الناس: الأولى- بعض المشركين الذين يتضرعون إلى الله وقت الشدة، ويشركون به الأوثان والأصنام وقت الرخاء. والثانية- بعض الكفار أو(21/87)
المشركين غير المذكورين سابقا الذين تكون عبادتهم الله للدنيا، إن أوتوا منها رضوا، وإن منعوا منها سخطوا وقنطوا.
التفسير والبيان:
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي إذا أصاب الناس عادة شدة أو بلاء من مرض أو قحط أو تعرض للخطر في جو أو بحر أو بر ونحو ذلك من حالات الاضطرار، لجؤوا إلى الله يدعونه وحده لا شريك له، وتضرعوا إليه واستغاثوا به مقبلين عليه، راجعين إليه، حتى إذا كشف عنهم البلاء وأسبغ عليهم النعمة، فاجأ فريق منهم في حالة الاختيار، يشركون بالله، ويعبدون معه غيره من الأوثان والأصنام.
فهم انتهازيون نفعيون يؤمنون بالله، ويدعونه دون سواه وقت المصلحة أو الحاجة الشديدة، ثم يتنكرون لربهم، ويعرضون عنه حال السراء والرخاء، بل ويشركون به سواه، وهذا مبعث العجب والاستغراب.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام لام العاقبة، أي ليؤول أمرهم إلى الكفر بنعمة الله، وجحود فضله وإحسانه. ورأى بعضهم أن الفعل فعل أمر للتهديد، كما في قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] وكالأمر بعده:
فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ الأمر للتهديد، كما في قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] أي استمتعوا أيها المشركون بمتاع الدنيا ورخائها، فمتاعها قصير زائل، فسوف تعلمون عقابي وشدة عذابي في الآخرة على كفركم في الدنيا.
قال بعضهم: والله لو توعدني حارس درب، لخفت منه، فكيف والمتوعّد هاهنا هو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ؟!(21/88)
ثم أنكر الله تعالى على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة، فقال:
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي أأنزلنا عليهم في عبادة الأوثان حجة وكتابا فيه تقرير ما يفعلون، وينطق أو يدل ويشهد بشركهم؟! وهذا استفهام إنكاري معناه أنه لم يكن شيء من ذلك، فلم ينزل الله عليهم كتابا بما يقولون، ولا أرسل رسولا، وإنما هو شيء اخترعوه، وفي ضلالتهم يترددون.
وبعد ان بيّن الله تعالى حال المشرك الظاهر شركه، بيّن حال المشرك الذي دونه، وهو من تكون عبادته الله للدنيا، فإذا آتاه منها رضي، وإذا منعه سخط وقنط، فقال:
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي إذا أنعم الله على بعض الناس نعمة بطر بها، كما قال: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود 11/ 10] أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره وإذا أصابته شدة أو شر قنط وأيس من رحمة الله وسخط لأن إصابته بالسيئة كان بسبب شؤم معصيته.
ويلاحظ أنه تعالى لم يذكر عند النعمة سببا لها لتفضله بها، وذكر عند العذاب سببا تحقيقا للعدل.
وهذا إنكار على الإنسان وطبيعته، لكن في آية أخرى عقب آية هود المتقدمة استثنى تعالى المؤمنين الصابرين فقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود 11/ 11] أي الذين صبروا في الضراء وعملوا الصالحات،
كما ثبت في الصحيح عند أحمد ومسلم عن صهيب: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» .(21/89)
ثم نبههم تعالى إلى ما يطرد اليأس والقنوط، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي ألم يعلموا ويشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا، بغض النظر عن وجود صفة الكفر، ويضيق الرزق على من يشاء ابتلاء، ولو مع وجود الإيمان وصالح الأعمال، فالله هو المتصرف الفاعل للأمرين بحكمته وعدله، يوسع على قوم، ويضيق على آخرين، دون نظر إلى صفتي الإيمان والكفر لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والمؤمن: هو الراضي بقضاء الله وقدره، ولا ييأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي إن في ذلك المذكور من سعة الرزق وإقتاره لدلالة واضحة على الإيمان الصادق، وحجة للمؤمن المصدق بوحدانية الله وقدرته تجعله يفوض الأمر إلى الله وحده.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- إن حال فريق من المشركين أو الكفار مدعاة للعجب، فهم يتركون الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم، وتراهم لا يثبتون على وتيرة واحدة، فإذا مسّهم ضرّ من مرض أو شدة، دعوا ربهم، أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم، وأقبلوا عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها، وإذا أنعم الله عليهم بنعمة أو عافية أشركوا به في العبادة.
2- إن مصير هؤلاء هو ملازمة الكفر، وقد هددهم الله وأوعدهم على تمتعهم بمتاع الدنيا، ثم يجدون جزاءهم العادل في عالم الآخرة.
3- لا حجة ولا برهان للكافرين على كفرهم، فالله لم ينزل عليهم في شأن(21/90)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
إقرار كفرهم كتابا ولا أرسل رسولا، ولم يسوغ ذلك في أي وثيقة يعتمدون عليها.
4- أنكر الله تعالى على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه ووفقه، حيث إنه يفرح ويبطر حال الخصب والسعة والعافية وغيرها من النعم، وييأس ويقنط من الرحمة والفرج حال البلاء والعقوبة، بما عمل من المعاصي. أما المؤمن فيشكر عند الرخاء، ويصبر عند البلاء.
5- الله تعالى وحده هو المتصرف في أرزاق العباد، فيوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق، على وفق الحكمة والعدل، فلا يصح أن يكون الفقر سببا للقنوط، ولا ينبغي أن يكون الغنى سببا للبطر، فكل من الغنى والفقر من الله تعالى، وعلى المؤمن الموحد تفويض أمر الرزق إلى الله سبحانه.
الترغيب بالنفقة وأنواع العطاء وضمان الرزق وإثبات الحشر والتوحيد
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
البلاغة:
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. سجع مرصّع.(21/91)
المفردات اللغوية:
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أعط القريب حقه من صلة الرحم والبرّ به، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم. وَالْمِسْكِينَ هو المحتاج وهو المعدم الذي لا مال له. وَابْنَ السَّبِيلِ المسافر المحتاج إلى المال، وإيتاؤهما: إعطاؤهما ما وظّف لهما من الزكاة. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمته تبع له في ذلك. لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ثوابه بما يعملون أو ذاته أو جهته قاصدين إياه بمعروفهم خالصا. الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً أي ما فعلتم من ربا، وهو الزيادة، والمراد بها الهبة أو الهدية التي يقصد بها الوصول إلى أكثر منها. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ المعطين أي يزيد. فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لا يزكو عنده، ولا يبارك فيه، ولا ثواب فيه للمعطين.
وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي صدقة. الْمُضْعِفُونَ ثوابهم بما أرادوه، أي يضاعف الله لهم الثواب، مأخوذ من (أضعف) إذا صار ذا ضعف.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه هو الباسط الرازق لمن يشاء والقابض له، وجعل في ذلك آية للمؤمن، أردفه بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان لذوي الحاجة، فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق، وإذا قدر وقتّر لا يزداد بالإمساك، ولأن من الإيمان الشفقة على خلق الله من قريب أو مسكين وابن سبيل.
التفسير والبيان:
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يأمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء، فيقول: فأعط أيها الرسول ومن تبعك من أمتك المؤمنين ذوي القرابة حقهم من صلة الرحم والبرّ بهم والإحسان إليهم لأنهم جزء من رابطة الدم والنسب، فكانوا أحق الناس بالتواصل والتزاور والشفقة، وأعط الحق أيضا للمسكين الذي لا شيء له ينفق عليه، أو له شيء لا يقوم بكفايته، ومثله المسافر البعيد عن ماله المحتاج إلى نفقة وحوائج السفر. وسرعة المواصلات لا تستأصل حاجة هذا المسافر، وإنما تقلل من المبلغ المالي الذي يحتاج إليه.(21/92)
وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. والظاهر أن الحق ليس الزكاة، وإنما يصير حقا بالإحسان والمواساة. وقدم ذا القربى على المسكين وابن السبيل للاهتمام به لأن بره صدقة وصلة.
ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي إن الإيتاء أو الإعطاء لمن ذكر خير في ذاته لمن يقصدون بعملهم وجه الله خالصا، أي يطلبون ذاته أو جهته أو ثوابه ورضوانه يوم القيامة، دون أن يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة وشهرة، وأولئك هم المفلحون الفائزون في الدنيا والآخرة.
وكون هذا الإعطاء خيرا لأنه سبب لتكافل الأسرة وتعاون المسلمين فيما بينهم، وفي التكافل والتعاون قوة وتوادد وتراحم وتآزر، وتخلص من أمراض الفقر والتمزق والحقد والحسد.
ثم ذكر نوعين من أنواع العطاء: أحدهما حسن مقبول عند الله والآخر قبيح مبغوض عند الله، أما القبيح فهو الربا، وأما الحسن فهو الزكاة، والقبيح هو المذكور في قوله تعالى:
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم، فلا ثواب له عند الله، كما قال تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر 74/ 6] أي لا تعط عطاء تريد أكثر منه، وهذا حرام على النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخصوص، حلال على غيره، لكن لا ثواب فيه.
قال ابن عباس: الربا نوعان: ربا لا يصح، وهو ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ.(21/93)
وروي مثل ذلك عن عكرمة والضحاك ومجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي.
وأما العطاء الحسن الذي يثاب عليه صاحبه فهو الزكاة كما قال تعالى:
وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي ومن أعطى صدقة يقصد بها وجه الله وحده خالصا، فله الثواب المضاعف والجزاء الأفضل عند الله تعالى، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة 2/ 245] وقال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد 57/ 11]
وجاء في الحديث الصحيح: «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، فيربيها لصاحبها، كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله، حتى تصير التمرة أعظم من أحد» «1»
الجبل المعروف في المدينة.
ثم أكد الله تعالى ما سبق بأن الزيادة والنماء داخل في رزق الله المحدد لكل إنسان، فقال:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي الله هو الخالق الرازق الذي يرزق الإنسان من الميلاد إلى الوفاة، ثم هو المميت بعد هذه الحياة، ثم هو المحيي يوم القيامة للحشر والبعث.
هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ أي هل من آلهتكم الذين تعبدونهم من دون الله من يفعل من ذلكم شيئا، أي من الخلق أو الرزق أو الإماتة أو الإحياء؟! لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة، لهذا قال:
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله وتقدس وتعاظم عن أن
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحة عن أبي هريرة.(21/94)
يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد.
وأضاف الشركاء إلى عبدة الأصنام لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء، ويجعلون لهم من أموالهم.
ويلاحظ أنه تعالى جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين: الحشر والتوحيد، أما الحشر فبقوله: يُحْيِيكُمْ بدليل قدرته على الخلق في ابتداء الخليقة، وأما التوحيد فبقوله: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- يأمر الله تعالى بصلة الأقارب ذوي الأرحام، وبمساعدة المسكين وابن السبيل، وقد فضّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب،
فقال لميمونة، وقد أعتقت وليدة (أمة رقيقة) : «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» .
والأصح أن الآية ليست منسوخة بآية المواريث، فللقريب حق لازم في البرّ على كل حال، ومعاونة المحتاجين من الفقراء والمنقطعين في الأسفار عن الوصول لبلادهم من مظاهر البرّ والخير في الإسلام. وفسر ابن عباس الْمِسْكِينَ فقال: أي أطعم السائل الطوّاف، وابْنَ السَّبِيلِ بأنه الضيف، فجعل الضيافة فرضا. واستدل أبو حنيفة كما بينا بالآية على وجوب النفقة للمحارم المحتاجين.
2- إن إعطاء الحق المقرر شرعا لمن ذكر أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه، وفاعلوه هم المفلحون الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة.
3- إذا كان العطاء بقصد التوصل إلى الزيادة والأفضل فهو حرام على(21/95)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، مباح لأمته، وإن كان لا ثواب فيه. وهذا هو الربا الحلال أو هبة الثواب. أما الربا الحرام شرعا الذي يمحقه الله، وإثمه كبير فهو ربا البيع وربا القرض، وهو إعطاء الشيء وأخذ بدل عنه بشرط في العقد، أو عمل بالعرف السائد.
4- إذا كان العطاء صدقة أو زكاة بقصد إرضاء الله وابتغاء الثواب من عنده، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته. والعطاء لحق القرابة وصلة الرحم يكون لوجه الله. أما إذا كان العطاء رياء وسمعة ليحمده الناس ويثنوا عليه من أجله، فلا ثواب فيه في الدنيا، ولا أجر في الآخرة قال الله عز وجل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [البقرة 2/ 264] .
5-
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
فلا يبارك الله في المأخوذ من الآخرين مقابل الهدية أو الهبة ولا ينمو ولا ثواب فيه عند الله تعالى، وأما المعطى بقصد رضوان الله، فذلك الذي يقبله الله، ويضاعف ثوابه عشرة أضعافه إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإن فضل الله لا يحد ولا ينحصر ويمنح من يشاء.
6- الله تعالى هو القادر على البعث والحشر، كما خلقنا أول مرة، وهو الإله الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له، الخالق الرازق المميت المحيي، المنزه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والولد. ولن تستطيع الآلهة المزعومة سواه شيئا من أفعاله السابقة كالخلق والرزق والإحياء والإماتة.
جزاء المفسدين والكافرين وجزاء المؤمنين
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 45]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)(21/96)
البلاغة:
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بينهما طباق.
بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ مجاز مرسل بإطلاق الجزء وهو الأيدي وإرادة الكل.
فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ استعارة، شبه القائم بالأعمال الصالحة بمن يمهد فراشه ويعدّه للنوم عليه، توفيرا للراحة والسلامة.
المفردات اللغوية:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الفساد: الخلل في الأشياء، كالجدب والقحط وقلة النبات، وكثرة الحرق والغرق وأخذ المال ظلما وكثرة المضار وقلة المنافع. والبر: الجزء اليابس من الأرض.
والبحر: الجزء المائي، والمراد: في أهل البر سكان القرى والمدن والفيافي، وأهل البحر سكان السواحل، وركاب البحار. بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بسبب معاصيهم وذنوبهم لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي أن الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ليذيقهم وبال بعض أعمالهم وعقوبته في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه ويتوبون. واللام: للتعليل أو للعاقبة.
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي قل يا محمد لكفار قريش وأمثالهم، تأملوا فيما حدث في الأرض، لتشاهدوا مصداق ذلك، وتتحققوا صدقه. كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشوّ الشرك فيهم.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أي وجّه نفسك للعمل بالدين المستقيم، البليغ الاستقامة وهو دين الإسلام. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أي قبل يوم القيامة الذي لا يقدر أن يرده واحد فلا راد له ولا مانع منه. مِنَ اللَّهِ متعلق بفعل يَأْتِيَ ويجوز تعلقه بقوله مَرَدَّ على معنى: لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئة. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدعون، أي يتفرقون بعد الحساب، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فعليه وبال كفره وهو النار المؤبدة. يَمْهَدُونَ يوطئون منزلهم ويسوونه في الجنة. لِيَجْزِيَ علة ليمهدون، أو ليصدعون، متعلق به. والاقتصار على(21/97)
جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات. مِنْ فَضْلِهِ أي يثيبهم من فضله، وهذا دليل على أن الإثابة تفضل محض. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي يعاقبهم.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى سوء حال المشركين، والشرك سبب الفساد، بدليل قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] ذكر أن الفساد قد ظهر بين الناس، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال، وفشا الظلم، وكثرت الحروب، ثم نبههم وأمرهم بالمسير في الأرض، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم، فإن الله تعالى أهلك قوما بسبب الشرك، وقوما بسبب المعاصي، والإهلاك قد يكون بالشرك، وقد يكون بالمعاصي، ثم أمر تعالى رسوله بالثبات في الدين الحق قبل مجيء الحساب الذي يتفرق فيه الناس: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كفر فعليه وبال كفره، ومن آمن وعمل صالحا فقد أعد لنفسه المهاد الذي يستريح عليه.
التفسير والبيان:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عمّ العالم ظهور الخلل والانحراف، وكثرة المضار وقلة المنافع ونقص الزروع والأنفس والثمرات، وقلة المطر وكثرة الجدب والقحط والتصحر، بسبب شؤم معاصي الناس وذنوبهم، من الكفر والظلم، وانتهاك الحرمات، ومعاداة الدين الحق، وعدم مراقبة الله عز وجل في السر والعلن. والاعتداء على الحقوق وأكل مال الغير بغير حق، ليذيقهم الله جزاء بعض عملهم وسوء صنيعهم من المعاصي والآثام، وحينئذ ربما يرجعون عن غيهم ومعاصيهم، كما قال تعالى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] .(21/98)
ثم هدد الله تعالى على ظهور الفساد بالعقاب كعقاب الأمم السابقة، فقال:
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي قل أيها الرسول للمفسدين والمشركين: سيروا في البلاد، وتأملوا بمصير من قبلكم، وكيف أهلك الله الأمم المتقدمة، وأذاقهم سوء العذاب بسبب كفرهم وسوء أعمالهم، وانظروا ما حلّ بهم من تكذيب الرسل وكفران النعم، وأن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر، وكان أيضا بغير الشرك كالإهلاك بالفسق والمخالفة، كما فعل بأصحاب السبت الْيَهُودُ.
قال في الكشاف: دل بقوله: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأن ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك «1» .
فسبب عذابهم في الغالب هو كفرهم بآيات ربهم وتكذيبهم رسله، وهو تعليل لما سبق، فهو دليل على تعليل الأحكام، وعلى التزام ظاهرة العدل في العقاب الإلهي.
وبعد بيان ظاهرة الشرك والانحراف والفساد وبيان عاقبتها، وبعد نهي الكافر عما هو عليه، ذكر تعالى ما يقابلها من حال الاستقامة، وأمر المؤمن بما هو عليه، فقال:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي بادر أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين إلى الاستقامة في طاعة الله، وبادر إلى الخيرات، ووجه نفسك كلها وبإخلاص للعمل بالدين المستقيم، البليغ الاستقامة، وهو دين الإسلام من قبل مجيء يوم القيامة الذي لا رادّ له ولا مانع منه، فلا بد من وقوعه لأن الله كتب مجيئه وقدّره، وما قدّره وأراد حدوثه فلا راد له ولا بد أن يكون.
__________
(1) الكشاف 2/ 511(21/99)
ذلك اليوم الذي يتفرق فيه الناس بحسب أعمالهم، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
ثم بين الله تعالى أن جزاء كل فريق بحسب عمله ونتيجة فعله، فقال:
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي من كفر بالله وكتبه ورسله، وكذب باليوم الآخر، فعليه وبال كفره ووزره وإثمه وعاقبته، ومن آمن بالله وكتبه ورسله وبالبعث، وعمل الأعمال الصالحة، فأطاع الله فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه، فقد أعدّ لنفسه الفراش الوطيء الوثير المريح، والمسكن الفسيح، والقرار الدائم.
وإنما قال: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً ولم يقل: ومن آمن لأن العمل الصالح المقبول لا يكون إلا بعد الإيمان، ولأن بالعمل الصالح يكمل الإيمان، فذكره تحريضا للمكلف عليه، وأما الكفر إذا حدث فلا زنة للعمل معه.
وسبب التفرقة في الجزاء هو ما قال:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي أنا المجازي فكيف يكون الجزاء؟ وأنهم يتفرقون فريقين فكيف يجازون؟
إنني أجازي المؤمنين الذين يعملون الصالحات بفضلي وإحساني، فالمجازاة مجازاة الفضل، فأكافئ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى ما شاء الله، وأما الكافرون فإن الله يبغضهم ويعاقبهم، ولكنه عقاب عادل لا يجور فيه، وهذا تهديد ووعيد.
ودل قوله: مِنْ فَضْلِهِ على أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، لقلته وحقارته، ولكن بمحض فضل الله تعالى.
ويلاحظ أنه عند ما أسند الله تعالى الكفر والإيمان إلى العبد المخلوق، قدّم الكافر، فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وعند ما أسند الجزاء إلى نفسه، قدم(21/100)
المؤمن، إظهارا للكرم والرحمة، فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لأنه تهديد ووعيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يلي:
1- انتشار ظاهرة الفساد والانحراف في العالم، من الشرك أعظم الفساد، والقحط وقلة النبات وذهاب البركة، والمعاصي وقطع السبيل والظلم وغير ذلك من الآثام والذنوب.
والعالم هو البر والبحر المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس، لا ما قاله بعض المفسرين: البر: الفيافي، والبحر: القرى، والعرب تسمي الأمصار البحار.
2- إن ظهور الفساد سبب للدمار والهلاك في الدنيا، والعقاب في الآخرة، وعقاب الدنيا على المعاصي التي عملها بعض الناس في البر والبحر، كحبس الغيث وغلاء الأسعار، وكثرة الحروب، والفتن والقلاقل، قد يكون باعثا على التوبة، وحافزا على الرجوع إلى الله والاستقامة على الطاعة، واجتناب الذنوب والمنكرات.
3- على الناس قديما وحديثا أن يعتبروا بمن قبلهم من الأمم السابقة، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل، وقد كان أكثرهم مشركين أي كافرين فأهلكوا.
4- النبي والمؤمنون مخاطبون بتوجيه القصد والعزيمة إلى اتباع الدين القيم، يعني الإسلام، في دار التكليف دار الدنيا، قبل مجيء يوم القيامة الذي لا يردّه الله عنهم ولا عن غيرهم، وليس لأحد دفعه أو منعه، لعجزه عن ذلك أمام قدرة الله وقدره وقضائه السابق.(21/101)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
وخاطب الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به، فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إن الله أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين» .
5- يتفرق الناس يوم القيامة فريقين بحسب أعمالهم: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
6- للكافر جزاء كفره وهو النار، وللمؤمن الذي عمل صالحا الجنة، وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوطّئون أو يقدمون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح.
7- اقتضت رحمة الله أن يجزي الله من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذي يمهّدون لأنفسهم، ليتميز المسلم من الكافر، وكل إنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، لا بعمله، حتى الأنبياء.
كذلك كان مقتضى العدل أن يجازى الكافرون ويعاقبوا على كفرهم ومعاصيهم إذ لا يعقل التسوية بين المسلمين والكافرين كما قال تعالى:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [القلم 68/ 35- 38] .
الاستدلال بالرياح والأمطار على قدرة الله وتوحيده
[سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 51]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)(21/102)
الإعراب:
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ تكرار قَبْلِ إما للتأكيد، وإما مع اختلاف التقدير والضمير، أي: وإن كانوا من قبل أن ينزل الغيث عليهم من قبل السحاب لمبلسين، والضمير يعود إلى السحاب في قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً والسحاب يجوز تذكيره وتأنيثه.
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، الهاء يعود إلى الزرع الذي دل عليه. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أو إلى السحاب، وإذا أريد به الزرع فسبب تذكير الضمير: أن تأنيث الرحمة غير حقيقي.
كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في موضع نصب على الحال، حملا على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام، والحال خبر، والتقدير: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها.
البلاغة:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بأسلوب الإطناب، فإنه أسهب تذكيرا للعباد بالنعم الكثيرة، وكان يكفي الجملة الأخيرة.
ْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا
فيهما جناس الاشتقاق.
اؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا
فيه إيجاز بالحذف، حذف منه: فكذبوهم واستهزءوا بهم.
المفردات اللغوية:
الرِّياحَ أي رياح الخير والرحمة وهي الشمال والصبا والجنوب، وأما الدّبور فريح العذاب،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» .
مُبَشِّراتٍ تبشر بالخير وهو(21/103)
المطر. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ليذيقكم بها المطر والخصب أي المنافع التابعة لها. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ السفن بها بإذنه. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا الرزق من فضل الله بالتجارة في البحر. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله فيها، فتوحدوه.
اؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالحجج الواضحات على صدقهم في رسالتهم إليهم، فكذبوهم.
نْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أهلكنا الذين كذبوا، ودمرنا الذين فعلوا جرما. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
على الكافرين بإهلاكهم وإنجاء المؤمنين. وهو إشعار بأن الانتقام لصالح المؤمنين وإظهار كرامتهم، حيث جعلهم الله مستحقين لديه أن ينصرهم،
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني وغيره عن أبي الدرداء: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم» ثم تلا الآية.
فَتُثِيرُ أي تحرك وتهيج. فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ ينشره متصلا بعضه ببعض. كَيْفَ يَشاءُ من قلة وكثرة، كِسَفاً قطعا متفرقة، وقرئ بسكون السين، تخفيفا. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ وسطه. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أصاب بالودق بلادهم وأراضيهم. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالمطر أمارة الخصب.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر. مِنْ قَبْلِهِ كرره للتأكيد والدلالة على طول زمن تأخر المطر. لَمُبْلِسِينَ آيسين من إنزاله. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ آثار الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار، وقرئ: إلى أثر. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها، بأن يجعلها تنبت، وقرئ: تحيي بإسناده إلى ضمير الرحمة. لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أن قدرته على جميع الممكنات سواء. وَلَئِنْ اللام لام القسم. أَرْسَلْنا رِيحاً مضرة على نبات. فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع، وقد صار جواب القسم. مِنْ بَعْدِهِ من بعد اصفراره. يَكْفُرُونَ يجحدون النعمة بالمطر، وقوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب سد مسد جزاء الشرط، وحرف الشرط هو (إن) في قوله وَلَئِنْ.
المناسبة:
بعد وصف ظاهرة الفساد في العالم بسبب الشرك والمعاصي، أقام الله تعالى الأدلة القاطعة على وحدانيته بإرسال الرياح والأمطار، وعلى البعث والنشور وعلى قدرته ورحمته بإحياء الأرض بعد موتها، وتخلل ذلك التسرية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس أول من كذبه الناس، فقد تقدمه رسل كثيرون جاؤوا أقوامهم بالبينات فكذبوهم، فانتقم الله منهم بالتدمير والهلاك، فلا يجزع ولا يحزن، والنصر دائما في جانب المؤمنين.(21/104)
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى نعمه وفضله على خلقه بإرساله الرياح مبشرات بمجيء الغيث، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ومن أدلة وحدانيته تعالى وقدرته ونعمته وآياته الكونية أنه المهيمن على كل شيء في الوجود، فيرسل الرياح مبشرة بالخير والبركة ونزول المطر الذي يحيي الأرض بعد يبسها، وينبت الزرع ويخرج الثمر، وليذيق الناس من آثار رحمته بالمطر الذي ينزله، فيحيي به العباد والبلاد، ولتسيير السفن في البحار بالريح، وللتمكين من ممارسة التجارة والتنقل في البلاد والأقطار للكسب والمعيشة ولشكر الله تعالى على ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم 14/ 34] .
ثم سلّى الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أي إن كذبك كثير من قومك أيها الرسول، فلست أول من كذّب، فلقد كذّبت الرسل المتقدمون بالرغم مما جاؤوا به أممهم من الدلائل الواضحات على أنهم رسل من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، فانتقم الله ممن كذبهم وخالفهم، ونجّى المؤمنين الذين صدقوا بالله ورسله، وما جرى على النظير يجري على نظيره قياسا عقليا وشرعيا، فسيكون الانتقام من كفرة قومك كالانتقام ممن تقدمهم. والخلاصة: أن الله تعالى بعد إثبات الأصلين: الوحدانية والبعث، ذكر الأصل الثالث وهو النبوة.
ثم أخبر الله تعالى عن مبدأ عام وهو تأييد المؤمنين بالنصر، وأنه حق أوجبه(21/105)
الله على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا، كقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] . وفي هذا وعيد للكفار بالهزيمة ووعد وبشارة بالظفر للمؤمنين.
روى ابن أبي حاتم والطبراني والترمذي وابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الآية:
كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
ثم أبان تعالى كيفية خلقه السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي الله هو الذي يسير الرياح على وفق الحكمة ومقتضى الإرادة إلى الجهة المرادة، فتحرك السحاب وتهيجه بعد سكونه، فينشره في السماء ويجمعه ويكثره، فيجعل من القليل كثيرا، ثم يجعله قطعا متفرقة ذات أحجام متنوعة، فتارة يكون السحاب خفيفا، وتارة يأتي السحاب من جهة البحر مشبعا بالرطوبة، ثقيلا مملوءا بذرات الماء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف 7/ 57] .
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي فتنظر المطر أو القطر يخرج من وسط ذلك السحاب، فإذا أصاب به الله بمشيئته بعض العباد والبلاد، فرحوا بنزوله عليهم ووصوله إليهم، لحاجتهم إليه. فقوله مِنْ خِلالِهِ الضمير عائد في الظاهر على السحاب إذ هو المحدّث عنه.(21/106)
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي ينزل عليهم هذا المطر بعد أن كانوا قبل نزوله قانطين يائسين من نزوله قبل ذلك، فكانت الفرحة شديدة التأثير في نفوسهم، لمفاجأتهم بالغيث الذي كادوا ييأسون من نزوله. وتكرار كلمة قَبْلِهِ أي قبل الإنزال للتأكيد.
ومجمل معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، وكانوا قبل ذلك بفترات متفاوتة متقطعة يترقبونه فيها، فتأخر، ثم انتظروه مرة أخرى فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فصارت أرضهم الهامدة منتعشة بالنبات من كل زوج بهيج.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فانظر أيها الرسول ومن تبعك نظرة تأمل واستبصار واستدلال إلى المطر الذي هو أثر من آثار رحمة الله، كيف يكون سببا لإحياء النبات والزرع والأشجار والثمار، مما يدل على واسع رحمة الله وعظيم قدرته.
ثم نبّه الله تعالى بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال:
إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، أو من يقدر على إحياء الأرض بعد يبسها بالخضرة والنبات قادر على إحياء الموتى، والله وحده بالغ القدرة على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء في الابتداء أو في الإعادة، كما قال سبحانه:
قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس 36/ 78- 79] .
ثم بيّن تعالى سوء حال الكافرين، وتنكرهم للمعروف والجميل، وعدم ثباتهم على منهج واحد، فتراهم يفرحون بالخير، ثم ييأسون وينقطع رجاؤهم من الخير إن تعرضوا لسوء، فقال:(21/107)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ أي وتالله لئن بعثنا ريحا ضارة، أو سامة، حارة أو باردة على نبات أو زرع أو ثمر، فرأوا ذلك الزرع قد اصفر، ومال إلى الفساد بعد خضرته، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر، يجحدون نعم الله التي أنعم بها عليهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- من دلائل كمال قدرة الله إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه، والغيث والخصب أثر من آثار رحمة الله، ومن خواص الرياح أيضا عند هبوبها تسيير السفن في البحر، وبالسفن ينتقل الركاب والتجار، وتحمل البضائع من قطر إلى آخر، فتكون وسيلة الرزق بالتجارة، وكل ذلك من نعم الله وأفضاله التي تستوجب الشكر بالتوحيد والطاعة.
2- النبوة والرسالة من نعم الله أيضا التي تتطلب التصديق والتأييد، ولكن استبداد الكافرين وعنادهم يدفعهم إلى التكذيب برسالات الرسل قديما وحديثا، فقد أرسل الله رسلا كثيرين إلى مختلف الأمم والأقوام والشعوب، مؤيدين بالمعجزات والحجج النيرات، فكذبوهم وآذوهم وسخروا منهم، وكفروا برسالاتهم، فانتقم الله ممن كفر، ونجّى المؤمنين ونصرهم على أعدائهم، وسنة الله الثابتة أنه ينصر عباده المؤمنين، وهذا خبر صدق، والله لا يخلف الميعاد، ولا خلف في خبره.
3- أخبر الله تعالى أيضا عن كيفية تكون السحاب، وهو أن الله يرسل الرياح، فتحرك الغيوم وتنقلها من مكان إلى آخر، ثم ينشرها ويجمعها في الجو على وفق مشيئته وإرادته وحكمته، ويجعلها قطعا متفاوتة الأحجام والأوزان(21/108)
والنوعية، تارة تكون خفافا، وتارة تصبح ثقالا مملوءة بالماء، فإذا أنزل المطر على بعض العباد فرحوا بنزول المطر عليهم.
وكانوا قبل نزول المطر عليهم يائسين حزينين لاحتباس المطر عنهم، وأكد تعالى وجود ظاهرة اليأس والاكتئاب قبل إنزال المطر، ليدل على شدة حال الناس، ثم تغيرها إلى حال البشر والفرح، فكلمة مِنْ قَبْلِهِ للتأكيد عند أكثر النحويين، كما في قوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر 59/ 17] . وقال الرازي: والأولى أن يقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل إرسال الرياح، وذلك لأنه بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها مطر، فقبل المطر إذا هبت الريح، لا يكون مبلسا، وإنما قد يكون راجيا غالبا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح، فقال: مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الرياح وبسط السحاب، لبيان حال حدوث الإبلاس أي اليأس «1» .
4- إن النتيجة الطبيعية لإنزال المطر هي الدلالة بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نوع من القياس يقال له: قياس الغائب على الشاهد، أو استدلال بالشاهد على الغائب، أي إثبات البعث بناء على ثبوت ظاهرة مشابهة هي إحياء النبات.
5- المشركون مضطربون قلقون في عقيدتهم، فتراهم عند إقبال الخير فرحين به، وعند ظهور السوء يائسين مكتئبين، ومثال ذلك: أنهم إن أحرقت الريح زرعهم، فاصفر ثم يبس، كفروا وجحدوا وجود الخالق، وتنكروا لمن أنعم عليهم
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 133، وكذلك قال أبو حيان في البحر المحيط (7/ 179) : ما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: مِنْ قَبْلِهِ غير ظاهر.(21/109)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
في أحيان أخرى، حيث أغرقهم بسيل متلاحق من النعم، فهم متقلّبون غير ثابتين، لا يدومون على حالة واحدة، وذوو نظر قاصر على الحال دون المآل أو الماضي.
تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من الإعراض عن دعوته
[سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
البلاغة:
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى استعارة تصريحية، شبه الكفار بالموتى وبالصم في عدم سماعهم سماع تدبر ووعي العظات والعبر والأدلة على صدق الرسالة النبوية.
المفردات اللغوية:
لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي سماع تدبر واتعاظ لأنهم سدّوا عن الحق مشاعرهم. إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قيّد عدم السماع به ليكون أشد استحالة، فإن الأصم إذا أقبل على السماع، وإن لم يسمع الكلام، استفاد منه بواسطة الحركات على اللسان بعض الأشياء.
الْعُمْيِ سمى الكفار عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الإبصار. إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع سماع إفهام وقبول إلا المؤمنين لأن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى.
بِآياتِنا القرآن. فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون منقادون لما تأمرهم به.
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد والبعث، ومهام الرسل، والوعد والوعيد، والإعراض عن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، سلّاه ربه عما يراه من تماد في الإعراض وعناد، فهم أشبه بالموتى والصمّ والعمي، لعدم استعدادهم لسماع أدلة الهداية سماع تدبر واتعاظ، وقد رتب المشبه بهم على حسب مدى الإعراض، فإرشاد الميت محال،(21/110)
ثم إرشاد الأصم الذي لا يفهم الكلام إلا بالإشارة أصعب، ثم الأعمى الذي يفهم ويعي الشيء الكثير، لكن إرشاده صعب أيضا.
التفسير والبيان:
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي لا تحزن ولا تجزع أيها الرسول على إعراض هؤلاء المشركين عن دعوتك، بعد بيان أدلة التوحيد والقدرة على البعث، وتهديدهم ووعيدهم، فإنك لا تستطيع أن تفهم الموتى أو تسمعهم سماع تدبر واتعاظ، ولا تقدر أن تسمع دعوتك الصم الذي لا يسمعون، وهم أيضا مع ذلك مدبرون عنك غير مقبلين على كلامك وهدايتك، وهم مع سماعهم في الظاهر أشبه بالموتى في أجداثهم، والصم الذين فقدوا حاسة السمع، لسدهم منافذ الهداية، وإدبارهم عن سماع كلمة الحق، وعدم استعدادهم لوعي شيء وفهمه عنك، وهم أيضا كالعمي كما قال:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي وليس في مقدورك هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل الهداية إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ولهذا قال تعالى:
إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا، فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تسمع أيها الرسول سماعا يؤدي إلى الانتفاع إلا المؤمن المصدق بالقرآن وما اشتمل عليه من دلائل التوحيد والقدرة الإلهية على كل شيء، فهذا المؤمن إذا سمع آيات الله تتلى عليه، تدبره وتفهمه، وأقبل عليه يعمل بما جاء فيه، وينتهي عما نهى عنه، وهؤلاء المؤمنون هم المسلمون، أي الخاضعون المستجيبون المطيعون لله فيما أمر ونهى، وأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه.(21/111)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- لا فائدة ولا جدوى في هداية المشركين المكابرين المعاندين الذي ألفوا تقليد الأسلاف في الكفر، فماتت عقولهم، وعميت بصائرهم.
2- إنما الفائدة تظهر في إسماع مواعظ الله المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد، ويستعدون لقبول الهداية إن ظهرت لهم دلائلها.
3- المقصود من قوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى سماع التدبر والفهم والاتعاظ، وهذا لا يعارض الثابت في السنة النبوية من إمكان سماع الأموات كلام الأحياء.
روى عبد الله بن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خاطب القتلى الذين ألقوا في قليب (بئر) بدر، بعد ثلاثة أيام، وعاتبهم وقرعهم، حتى قال له عمر:
يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ - أي أنتنوا- فقال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون» .
وهذا هو الصحيح المؤيد بالشواهد الكثيرة، منها
ما رواه ابن عبد البر، مصحّحا له عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام» .
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم في تعريفه أمته كيفية السلام على أهل القبور أن يقولوا كما يخاطب الأحياء: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»
وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
وروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده إلا استأنس به، ورد عليه حتى يقوم» .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه، فسلّم عليه، رد عليه السلام.(21/112)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
وأجمع السلف على هذا، وشرع السلام على الموتى، مما يدل على شعورهم وعلمهم بالمسلّم،
وعلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا فيما رواه مسلم عن بريدة: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم حقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية» .
وكل ذلك دال على أن السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل، ويرد، وإن لم يسمع المسلّم الرد «1» .
أطوار حياة الإنسان
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
البلاغة:
ضَعْفٍ وقُوَّةً بينهما طباق.
الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ صيغة مبالغة على وزن فعيل، معناه التام العلم والقدرة.
المفردات اللغوية:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة، أو ابتدأكم ضعفاء، وجعل الضعف أساس أمركم، كقوله: خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء 4/ 28] والضعف: ما قابل القوة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً أي بعد ضعف الطفولة قوة الشباب بعد بلوغ الحلم ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أي جعل بعد قوة الرجولة ضعف الكبر وشيب الهرم. والشيب:
بياض الشعر. والضعف: بفتح الضاد وضمه. يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضعف والقوة والشباب والشيبة وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ أي إن تلك الأطوار والأحوال التي يمر بها الإنسان بمشيئة الله دليل العلم والقدرة، فهو العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 438- 439(21/113)
المناسبة:
بعد بيان أدلة الآفاق من إرسال الرياح وإنزال المطر على الوحدانية، ذكر تعالى دليلا آخر عليها من الأنفس، وهو خلق الآدمي ومروره بأدوار مختلفة تحتاج إلى العلم والقدرة الشاملة، وذلك لا يتصف بهما غير الله عز وجل.
التفسير والبيان:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أي إن الله تعالى هو الذي جعل الإنسان يمر في أطوار متفاوتة من الخلق حالا بعد حال، فجعل أصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم كون عظامه، ثم كسا العظام لحما، ونفخ فيه الروح، ثم أخرجه من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوى، فقوله مِنْ ضَعْفٍ أي ابتدأه ضعيفا.
ثم يشبّ قليلا قليلا فيكون صغيرا، ثم شابا بالغا، وهذا دور القوة بعد الضعف، ثم يأتي دور الضعف من ابتداء الكهولة إلى الهرم والشيخوخة، وهو الضعف بعد القوة، فتضعف الهمة والحركة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة.
هذا الانتقال والتدرج والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة الإلهية الخالقة، وبرهان على البعث الذي ينكره المشركون، فإن القادر على هذا التغيير والتبديل قادر على الإعادة مرة أخرى إلى الحياة الأولى كما كانت لأن من كانت قدرته تامة شاملة لا يصح مقارنتها بقدرة الإنسان النسبية، ولا يعجزه شيء، سواء في بدء الخلق أم حال إعادته.
يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ أي يفعل الله ما يشاء، ويوجد ويبدع ما يشاء من ضعف وقوة، وبدء وإعادة، ويتصرف في عبيده بما يريد،(21/114)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
وهو العليم التام العلم بتدبير خلقه، القدير الشامل القدرة على ما يشاء، ومن آثار قدرته إحياء الناس وإماتتهم ثم بعثهم أحياء عند ما يريد.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية تتضمن استدلالا آخر على قدرة الله في نفس الإنسان، ليعتبر ويبادر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، فإن الآلة الجامدة تظل على وتيرة واحدة لأن صانعها وهو الإنسان محدود القدرة، أما الإنسان الذي يمر بمراحل ثلاث، متفاوتة هبوطا وصعودا، ضعفا وقوة، لا يبقى على حال واحدة، وإنما يتغير.
والتغير والتدرج ليس مجرد طبيعة دون مدبر ولا مغير، وإنما يحتاج كل طور من مراحل التغير إلى خالق مبدع، وقادر عظيم، ولا يستطيع ذلك أحد غير الله صاحب التكوين والإرادة، والأمر والنفوذ الشامل، فهو وحده الخالق ما يشاء من قوة وضعف، وهو العليم بتدبيره، القدير على إرادته، وهو الفعال لما يريد، المتصرف في مخلوقاته كيف يشاء.
أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)(21/115)
الإعراب:
لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرئ ينفع بالياء وبالتاء، أما قراءة التاء فعلى الأصل من التطابق بين الفعل والفاعل، وأما قراءة الياء فبسبب وجود الفاصل بينهما.
فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الفاء لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كنتم منكرين البعث، فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
البلاغة:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ جناس تام بين قوله السَّاعَةُ التي هي القيامة، وقوله السَّاعَةُ التي هي المدة الزمنية المعروفة.
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة، سميت بها، لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تحدث بغتة، وصارت علما للقيامة بالتغليب كالكوكب للزهرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا
يحلف الكافرون ما أقاموا في الدنيا أو في القبور غَيْرَ ساعَةٍ مدة زمنية قليلة كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الصرف عن الواقع في مدة اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق الذي هو البعث وغيره من قول الحق والنطق بالصدق. يقال: أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق والحق والخير.
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ الملائكة أو الإنس المؤمنون فِي كِتابِ اللَّهِ فيما كتبه في سابق علمه أو قضائه فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي أنكرتموه وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق واقع لتفريطهم في النظر مَعْذِرَتُهُمْ أي عذرهم في إنكارهم له وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم العتبى، أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى، يقال: استعتبني فلان فأعتبته، أي استرضاني فأرضيته.
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد في خلق الإنسان في النشأة الأولى، ودلائل البعث والإعادة مرة أخرى إلى الحياة، ذكر الله تعالى أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا، وما يحدث يوم القيامة من مناقشات بين أهل الإيمان وبين المجرمين،(21/116)
واكتشاف جهل الكفار في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فعكوفهم على عبادة الأوثان، وأما في الآخرة فإقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ أي حين تقوم القيامة ويبعث الله الناس من قبورهم، وما يتعرضون له من أهوال جسام طويلة الأمد، يحلف الكفار الآثمون أنهم ما أقاموا في الدنيا أو في القبور غير ساعة واحدة، أي مدة قليلة من الزمان، قاصدين بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا مدة معقولة، حتى يعذرون فيما هم عليه من تقصير.
وهذا دليل واضح على قصر مدة الدنيا مهما طالت، إذا قورنت بالآخرة، وأن الذي يوعد بالشر يستقل المدة التي عاشها، أما الموعود بالخير فيستكثر المدة مهما قلت: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] .
كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الصرف عن تقدير الحقيقة والواقع في مدة اللبث، كانوا يصرفون من الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب، والمراد أنهم كاذبون في قولهم: ما لبثنا غير ساعة، وفي حلفهم على الكذب، وأنهم مغترون بزينة الدنيا ومتاعها وزخرفها، فإذا عرفوا ذلك ربما حملهم على ترك العناد، وسلوك طريق الرشاد.
وفي هذا دلالة على أن إصرارهم على الكفر، صرفهم عن التفكير فيما هو حق وعن الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر.
ثم ذكر جواب المؤمنين لهم في موقف القيامة، فقال تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ(21/117)
الْبَعْثِ
أي فردّ المؤمنون العالمون بالآخرون على منكري البعث القائلين الحالفين بأنهم لم يلبثوا غير ساعة: لقد لبثتم في علم الله وقضائه مدة طويلة في الدنيا من يوم خلقتم إلى أن بعثتم.
وفي هذا إشارة إلى أن المؤمن العالم يستكثر مدة المكث في الدنيا لأنه متطلع مشتاق إلى نعيم الجنة وخلودها، وهو يعلم أن مصيره إلى الجنة، فيستكثر المدة، ولا يريد التأخير.
فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه الواقع الذي لا سبيل لإنكاره، وبه يتبين بطلان إنكاركم إياه، غير أنكم تجهلون أنه حق واقع، لتفريطكم في النظر وغفلتكم عن أدلة ثبوته.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ففي يوم القيامة لا ينفع هؤلاء الظالمين الكافرين عذرهم أو اعتذارهم عما فعلوا، ولا تقبل منهم توبتهم لأن وقت التوبة في دار الدنيا، وهي دار العمل، أما الآخرة فهي دار الجزاء، لا وقت العمل.
وقوله: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ معناه أنه لا يطلب منهم الإعتاب، وهو إزالة العتب بالتوبة والطاعة التي تزيل آثار الجريمة لأنها لا تقبل منهم، ولا يعاتبون على ذنوبهم، وإنما يعاقبون عليها، كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت 41/ 24] فليست حالهم حال من يستعتب ويرجع عما هو عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
1- إن عمر الدنيا قصير جدا إذا قورن بالآخرة.(21/118)
2- قوله تعالى: ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ لا يعني إنكار عذاب القبر أو التهوين من شأنه، فقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه تعوذ منه، وأمر أن يتعوذ منه،
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم أم حبيبة وهي تقول: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد سألت الله لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة، ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر» .
3- دل قوله عز وجل: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ على أن الكفار كانوا يكذبون في الدنيا، وينصرفون من الحق إلى الباطل، وأنهم كما صرفوا عن الحق في قسمهم أنهم ما لبثوا غير ساعة، كذلك كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا، كما وصفهم القرآن: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة 58/ 18] وقال تعالى:
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا [الأنعام 6/ 23- 24] .
4- العلماء بالآخرة المؤمنون بها وبالله تعالى من الملائكة والناس يستكثرون مدة الدنيا شوقا إلى الآخرة والجنة، أما الكافرون فيستقلّون مدة اللبث في الدنيا، ويختارون تأخير الحشر، والإبقاء في القبر، تحاشيا من عذاب الآخرة، لذا يقول المؤمنون للكفار ردا عليهم: لقد لبثتم في الدنيا أو في قبوركم إلى يوم البعث.
5- الواقع خير شاهد ودليل، لذا يقول المؤمنون للكفار: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي كنتم تنكرونه.
6- إذا جاء الموت أو يوم القيامة لا ينفع العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ، ولا يطلب من الكفار العتبى، أي إزالة العتب بالتوبة التي تسقط الذنب،(21/119)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
ولا تقبل التوبة حينئذ لأن وقتها ووقت التكليف وهو دار الدنيا قد فات، ولم يبق أمامهم إلا دار الجزاء والعقاب، فيعاقبون على أعمالهم التي عملوها.
مهمة القرآن في بيان أدلة العقيدة وأمر النبي بالصبر على الأذى والدعوة
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بينا لهم في القرآن أدلة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم مقرونة بالأمثلة، تنبيها لهم، والمثل: الصفة التي هي في الغرابة كالأمثال وَلَئِنْ اللام لام القسم جِئْتَهُمْ يا محمد بِآيَةٍ من آيات القرآن لَيَقُولَنَّ «1» الَّذِينَ كَفَرُوا منهم، من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ما أنتم أي الرسول والمؤمنون إلا مزورون أصحاب أباطيل متبعون الباطل.
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك الطبع يطبع على قلوب هؤلاء الجهلة الذين لا يطلبون العلم، ويصرّون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق.
فَاصْبِرْ أيها النبي على أذى قومك وعلى دعوتك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك عليهم وإظهار دينك على الدين كله حَقٌّ لا بد من إنجازه وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أي ولا يحملنك على الخفة والطيش والقلق بترك الصبر أي لا تتركه الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم وإيذائهم، فإنهم ضالون.
__________
(1) حذفت منه نون الرفع لتوالي النونات، وحذفت وأو الجماعة لالتقاء الساكنين.(21/120)
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ختم الله السورة بوصف إجمالي للقرآن وهو أنه كتاب العبر والأمثال لإزالة الأعذار، والكتاب المخلص غاية الإخلاص للبشرية بتقديم الإنذارات الكافية، ثم أردفه ببيان تحقيق جميع أهدافه على يد الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي بلغ الغاية القصوى في تبليغ دعوته، وأنه لم يبق منه تقصير.
فإن طلب الكفار شيئا آخر غير القرآن وهذا النبي، فذلك عناد، لم يفدهم بعده أي بيان إذ من هان عليه تكذيب دليل، سهل عليه تكذيب الأدلة كلها.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي ولقد بينا لهم الحق ووضحناه، وضربنا لهم فيه الأمثال الدالة على وحدانية الخالق وعلى البعث وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ليستبينوا الحق ويتبعوه، ولم يحصل تقصير من جانب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ الدعوة إلى الله، فإن طلب الناس شيئا بعد ذلك، فهو عناد، ومن هان عليه تكذيب دليل، لم يصعب عليه تكذيب الدلائل كلها كفرا وعنادا، لذا قال:
وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي وتالله لو رأوا أي آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره، لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل، وما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا جماعة مبطلون تأتون بالباطل وتتبعونه؟!.
وذلك كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ(21/121)
رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
[يونس 10/ 96- 97] .
وترتب على إعراضهم عن الإيمان عنادا واستكبارا الطبع على القلوب كما قال تعالى:
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك الختم وحجب الخير والحق يختم الله على قلوب الجهلة الذين لا يتعلمون ولا يعلمون حقيقة الآيات البينات في القرآن المجيد، لسوء استعدادهم، وإصرارهم على تقليد الأسلاف، واعتقاد الخرافات.
ثم أمر الله رسوله بالصبر على مخالفتهم وأذاهم وعنادهم، فقال:
فَاصْبِرْ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فاصبر أيها الرسول على أذى المشركين وتابع في تبليغ رسالتك، فإن وعد الله الذي وعدك به من نصره إياك عليهم وظفرك بهم، وجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، حق ثابت لا شك فيه، ولا بد من إنجازه والوفاء به.
وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقول الذين لا يوقنون بالله واليوم الآخر، فإنهم قوم ضالون، واثبت على ما بعثك الله به، فإنه الحق الذي لا محيد عنه، بل الحق كله منحصر فيه. وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدعوة إلى الإيمان.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا رضي الله عنه، وهو في صلاة الغداة (الفجر) فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر 39/ 65] فأنصت له عليّ حتى فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاة: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.(21/122)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن القرآن المجيد هو النعمة العظمى على الإنسانية وعلى المسلمين لأنه يرشد ببيانه العجيب وأمثلته التوضيحية إلى ما يحتاجون إليه، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل.
2- إن أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بآية قرآنية أو بمعجزة مثل المعجزات المادية المحسوسة للأنبياء السابقين كفلق البحر والعصا وغيرهما، لقال الكفار: ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا قوم مبطلون، أي تتبعون الباطل والسحر.
3- كما طبع أو ختم الله على قلوب صناديد الكفر وزعماء الشرك، حتى لا يفهموا الآيات عن الله، فكذلك يطبع على قلوب الذين لا يعلمون التوحيد وأصول الاعتقاد، وحقيقة العبر والعظات، وآيات الله البينات، فيصبحون عديمي الفهم لكل ما يتلى عليهم من القرآن، بسبب عنادهم وإعراضهم، وسوء استعدادهم لقبول دعوة الحق والخير والتوحيد.
4- على المؤمن أن يثبت على الحق الذي لا مرية فيه، وهو دين الإسلام، ولا يتأثر بسفاهات المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا بالبعث. والخطاب في قوله: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته. فإن قصر الخطاب على النبي صلّى الله عليه وسلّم فالمراد به وجوب المداومة على الدعوة إلى الإيمان، فإنه لو سكت لقال الكافر: إنه متقلب الرأي، لا ثبات له على مبدئه.(21/123)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة لقمان
مكية، وهي أربع وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة (لقمان الحكيم) الذي أدرك جوهر الحكمة، بمعرفة وحدانية الله وعبادته، والأمر بفضائل الأخلاق والآداب، والنهي عن القبائح والمنكرات.
موضوعها:
تضمنت الكلام عن موضوعات السور المكية وهي إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله ووحدانيته، وتصديق النبوة، والإقرار بالبعث واليوم الآخر.
وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قصة لقمان مع ابنه وعن بره والديه، فنزلت.
صلتها بما قبلها أو مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بسورة الروم قبلها من وجوه:
1- قال تعالى في آخر السورة السابقة: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إشارة إلى كون القرآن معجزة، وقال في مطلع هذه السورة:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ.(21/124)
2- كذلك قال سبحانه في آخر السورة المتقدمة: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ إشارة إلى أن المشركين يكفرون بالآيات، وقال في هذه السورة: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [7] .
3- وصف الله تعالى قدرته على بدء الخلق والبعث في كلتا السورتين، فقال في السورة السالفة: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [27] وقال هنا: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [28] .
4- أثبت الله تعالى في كلتا السورتين إيمان المؤمنين بالبعث، فقال في السورة السابقة: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [56] وهذا عين إيقانهم بالآخرة المذكور في مطلع هذه السورة: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
5- حكى الله تعالى في السورتين ما عليه حال المشركين من القلق والاضطراب، إذ يضرعون إلى الله في وقت الشدة، ويكفرون به وقت الرخاء، فقال في السورة المتقدمة: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...
[33] وقال في هذه السورة: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... [32] .
6- ذكر في سورة الروم: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [15] وقد فسر بالسماع، وفي لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [6] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي.
7- قابل تعالى بين السورتين، فذكر في سورة الروم مدى اعتزاز المشركين بأموالهم ورفضهم إشراك غيرهم فيها، وذكر هنا قصة لقمان الحكيم العبد الصالح الذي أوصى ابنه بالتواضع وترك التكبر، كما ذكر في الأولى محاربة الروم والفرس(21/125)
في معركتين عظيمتين، وذكر في السورة الثانية في قصة لقمان الأمر بالصبر والمسالمة وترك المحاربة.
مشتملات السورة:
اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية: فبدأت ببيان معجزة النبي الخالدة وهي القرآن دستور الهداية الربانية، وموقف الناس منه، ففريق المؤمنين يصدّقون بكل ما جاء فيه، فيظفرون بالجنان، وفريق الكافرين الساخرين الهازئين الذي يعرضون عما فيه من الآيات، ويضلون عن سبيل الله جهلا وسفها، فيتلقون العذاب الأليم.
ثم تحدثت عن أدلة الوحدانية والقدرة الباهرة لله ربّ العالمين من خلق العالم والكون، وتلا ذلك بيان قصة لقمان الحكيم ووصاياه الخالدة لابنه، تعليما للناس وإرشادا لهم، وعلى رأسها نبذ الشرك، وبر الوالدين، ورقابة الله على كل صغيرة وكبيرة، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواضع واجتناب الكبر، ومشي الهوينى، وإخفاض الصوت.
وأردف ذلك توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك مع مشاهدتهم أدلة التوحيد، والنعي عليهم في تقليدهم الآباء، وجحودهم نعم الله الكثيرة التي لا حصر لها، وإعلامهم أن طريق النجاة هو إسلام النفس لله والإحسان بالعمل الصالح، وبيان تناقضهم حين يقرّون بأن الله هو خالق كل شيء ثم يعبدون معه غيره، مع أن الله هو مالك السموات والأرض والمنعم بجلائل النعم، وعلمه محيط بكل شيء، وأن خلق جميع البشر وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها، فهو المدبر والمصرف الذي لا يعجزه شيء، وأنهم يتضرعون إليه وقت الشدة ويشركون به وقت الرخاء.
ثم أضافت السورة أدلة أخرى على القدرة الإلهية من إيلاج الليل في النهار وبالعكس، وتسخير الشمس والقمر، وتسيير السفن في البحار وغير ذلك.(21/126)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وختمت السورة ببيان الأمر بالتقوى والخوف من عذاب يوم القيامة الذي لا بد من إتيانه، ولا أمل فيه بنصرة أحد، وعدم الاغترار بمتاع الدنيا وزخارفها، والتنبيه على مفاتيح الغيب الخمسة التي اختص الله بعلمها، وأن الله محيط علمه بالكائنات جميعها، خبير بكل ما يجري فيها.
خصائص القرآن وأوصاف المؤمنين به
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الإعراب:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مبتدأ وخبر والإضافة بمعنى «من» وهُدىً وَرَحْمَةً بالنصب والرفع، فالنصب على الحال من آياتُ والعامل فيهما معنى الإشارة، ولا يجوز أن يكون منصوبا على الحال من الْكِتابِ لأنه مضاف إليه، ولا عامل يعمل في الحال، وفيه خلاف. والرفع:
إما خبر تِلْكَ وآياتُ: بدلا من تِلْكَ وإما خبر بعد خبر، كقولهم: هذا حلو حامض، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو هدى.
البلاغة:
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ عبر بالمصدر عن اسم الفاعل للمبالغة.
تِلْكَ آياتُ إشارة بالبعيد عن القريب لبيان علو الرتبة وسمو القدر.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إطناب بتكرار الضمير هُمْ واسم الإشارة أُولئِكَ لزيادة الثناء عليهم وتكريمهم. وقوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ يفيد الحصر، أي هم المفلحون لا غيرهم.(21/127)
المفردات اللغوية:
الم يشبه افتتاح سورة البقرة المدنية، وجاء على وفق المعروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية، للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإشارة إلى أن هذه الأحرف «ألف، لام، ميم» ينطق بها العرب قاطبة، ولكنهم عاجزون عن معارضتها بالإتيان بمثل سورة أو عشر سور من القرآن، مما يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي هذه الآيات آيات القرآن المتصف بالحكمة.
هُدىً وَرَحْمَةً أي الآيات هادية راحمة الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بيان للمحسنين هُمْ يُوقِنُونَ هم الثانية للتأكيد وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون، لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.
التفسير والبيان:
الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي إن هذا القرآن مكوّن من الحروف ذاتها التي تنطقون بها، فهل تأتون بمثل آياته؟ فهذه آيات القرآن ذي الحكمة، الذي لا خلل فيه ولا عوج، ولا تناقض فيه ولا اختلاف، بل هو آيات بينات واضحات.
ثم ذكر تعالى الغاية من تنزيله فقال:
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ أي هذه الآيات القرآنية هدى وشفاء من الضلال، ورحمة تنقذ المؤمنين بها من العقاب، وهم الذين أحسنوا العمل، واتبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وفي أوقاتها، مع نوافلها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وصدقوا وأيقنوا بوجود الآخرة وبالجزاء العادل فيها، ورغبوا إلى الله في الثواب، دون مراءاة ولا جزاء ولا شكور من الناس.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هؤلاء الموصوفون بما ذكرهم في قمة الهداية والفلاح، فهم المهديون أي على بصيرة ونور ومنهج(21/128)
واضح من الله، وهم الفائزون وحدهم في الدنيا والآخرة. وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى علو المرتبة والتعظيم الذي يستحقونه، إذ لا فلاح إلا بإحسان العمل، ولا خير إلا في الإيمان.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما هو آت:
1- إن آيات القرآن العظيم محكمة لا خلل فيها ولا تناقض، ولا عيب فيها ولا تعارض، وهي دستور الهداية الربانية، وسبيل استحقاق الرحمة الإلهية، التي لا يستحقها إلا المحسنون. والمحسن: الذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراه، أو هو الآتي بالإيمان، المتقي الشرك والعناد.
2- إن من أخص صفات المحسنين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان باليوم الآخر.
3- هؤلاء المحسنون استنارت قلوبهم وعقولهم بمنهج الله تعالى، فالتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ففازوا وحدهم بسعادة الدنيا والآخرة.
4- إن وصف القرآن بالحكمة في قوله تعالى: الْكِتابِ الْحَكِيمِ مناسب لموضوع السورة في بيان الحكمة في قصة لقمان وما يؤيدها من آي السورة في تقرير التوحيد، وهدم الشرك وإثبات البعث والنبوة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، والإيمان بعالم الغيب والشهادة، المنعم على عباده بالنعم الكثيرة الظاهرة والباطنة.(21/129)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
إعراض الكافرين عن القرآن وإقبال المؤمنين عليه
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 9]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
الإعراب:
وَيَتَّخِذَها بالنصب عطفا على لِيُضِلَّ وبالرفع عطفا على يَشْتَرِي أو على الاستئناف. وهاء يَتَّخِذَها يعود على السبيل لأنها مؤنثة كما في قوله تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي [يوسف 12/ 108] وتذكّر كما في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف 7/ 146] . وباء بِغَيْرِ عِلْمٍ للحال، تقديره:
ليضل عن سبيل الله جاهلا.
وَلَّى مُسْتَكْبِراً حال من ضمير وَلَّى وكاف كَأَنْ لَمْ في موضع نصب على الحال، تقديره: ولّى مستكبرا مشبها من في أذنيه وقر، وقوله: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ حال أخرى أو بيان للحال الأولى.
لَهُمْ جَنَّاتُ مرفوع بالجار والمجرور لوقوعه خبرا عن المبتدأ وخالِدِينَ منصوب على الحال من هاء وميم لَهُمْ.
البلاغة:
مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ استعارة تصريحية، شبه حاله بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يَشْتَرِي لمعنى «يستبدل» بطريق الاستعارة.
كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، وذكر فيه أداة التشبيه.(21/130)
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكم لأن البشارة المستعملة في الخير استعملت في الشر تهكما وسخرية.
بِعَذابٍ أَلِيمٍ جَنَّاتُ النَّعِيمِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مراعاة الفواصل في الحرف الأخير، وهو السجع الحسن غير المتكلف.
المفردات اللغوية:
لَهْوَ الْحَدِيثِ ما يلهي منه عما يعني ويفيد من الحكايات والأساطير والمضاحك وفضول الكلام، وكتب الأعاجم، والجواري المغنيات. واللهو: كل باطل ألهى عن الحق والخير. وقد اشتريت تلك الملاهي بالفعل، والإضافة بيانية بمعنى «من» إن أراد بالحديث المنكر، وتبعيضية إن أراد به الأعم منه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليصرف الناس عن دين الله وهو طريق الإسلام، أو قراءة كتابه بِغَيْرِ عِلْمٍ غير عالم بحال ما يشتريه، أو بالتجارة، حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن وَيَتَّخِذَها هُزُواً ويتخذ السبيل سخرية مهزوءا بها لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ عذاب فيه غاية الإهانة لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا القرآن وَلَّى مُسْتَكْبِراً متكبرا لا يعبأ بها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابها حاله حال من لم يسمعها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابها من في أذنيه صمم أو ثقل يمنع من السماع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بوقوعه في عذاب مؤلم لا محالة، وذكر البشارة تهكم به لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي لهم نعيم جنات، فعكس للمبالغة خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها وَعْدَ اللَّهِ، حَقًّا مصدران مؤكدان: الأول لنفسه، والثاني لغيره، أي وعدهم الله ذلك وحقه حقا لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ وعد، وليس كل وعد حقا وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء، فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده الْحَكِيمُ الذي لا يضع شيئا إلا في محله، ولا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.
سبب النزول: نزول الآية (6) :
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية)(21/131)
وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام، إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمّد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فنزلت.
وقال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدّث بها قريشا، ويقول لهم: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن.
المناسبة:
بعد بيان أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكيمة، وبعد بيان حال السعداء المهتدين بهديه، المنتفعين بسماعه، بيّن الله تعالى حال الكفار الأشقياء التاركين له المشتغلين بغيره، وأعقبه بوعيدهم بالعذاب المهين المؤلم، وعطف عليه وعد المؤمنين به المقبلين على تلاوته، الملتزمين حدوده من أوامر ونواه.
التفسير والبيان:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّخِذَها هُزُواً، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي وهناك فريق من الناس يستبدل بالنافع الضار، وبالقرآن الشافي ما يتلهى به من الحكايات والأساطير وفضول الكلام، والمضاحك، والاستماع إلى غناء الجواري، كالنضر بن الحارث الذي كان يشتري كتب الفرس ويحدّث بها الناس، ويقتني المغنيات لاجتذاب الشبان، وإغراء من أسلم حديثا، لحملة على ترك الإسلام، وإضلاله عن دين الله وهو دين الإسلام، والصد عنه، واتخاذه هزوا وسخرية، جهلا بخطورة ما يفعل من استبدال اللهو بقراءة القرآن، وأولئك وهم الموغلون في الكفر والضلال يحيق بهم عذاب بالغ الإهانة. وقوله عَذابٌ مُهِينٌ للتفرقة بين عذاب الكافر وعذاب(21/132)
المؤمن، فإن عذاب المؤمن للتطهير، فهو غير مهين، وأما عذاب الكافر فهو في غاية الإهانة، فكما استهان بآيات الله وسبيله أهين يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.
وقوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بضم الياء معناه لمخالفة الإسلام وأهله ومعاداتهم، واللام لام التعليل، أي ارتكب هذا الفعل من أجل الإضلال والصد عن سبيل الله. وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة، أي لتكون عاقبة أمره الإضلال، واتخاذ آيات الله هزوا وسخرية.
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المضلين بالإمعان في الضلال والكفر، وازدياد الإعراض والنفور عن دين الله، فقال:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي إن من يشتري الحديث الباطل إذا تليت عليه آيات القرآن أدبر وأعرض عنها متكبرا، وتصامم عن سماعها، وإن لم يكن به صمم، كأنه ما سمعها، وكأن في أذنيه صمما وثقلا لأنه يتأذى بها، ولا ينتفع منها، ولا أرب له فيها، فبشر هذا المعرض بعذاب يؤلمه يوم القيامة، كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.
وبعد بيان حال هؤلاء الأشقياء، ذكر الله تعالى مآل الأبرار السعداء في الدار الآخرة، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خالِدِينَ فِيها، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة من الائتمار بالأوامر الشرعية، واجتناب المحظورات والمناهي، لهم جنات يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسارّ من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب وغير ذلك من المتع مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم(21/133)
فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا.
وهذا كائن لا محالة لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده لأنه الكريم المنّان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء.
وهو العزيز القوي الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء، فلا ينجو منه مشرك ولا غيره، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين. ونحو موضوع الآيتين السابقتين قوله تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت 41/ 44] وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] .
فقه الحياة أو الأحكام:
1- إن من أعظم الجرائم الإعراض عن سماع القرآن كلام الله، وشغل الناس بسماع غيره من أنواع الكلام غير المفيد من القصص والأساطير والمضاحيك ونحو ذلك من ألوان اللهو والعبث، بقصد الإضلال والصد عن دين الله تعالى، ويستحق المعرض المتولي تكبرا عن القرآن عذابا أليما.
2- استدل ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بقوله: لَهْوَ الْحَدِيثِ على منع استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
وهذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية: قوله تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ [النجم 53/ 61] قال ابن عباس: هو الغناء، بالحميريّة اسمدي لنا، أي غنّي لنا. والآية الثالثة:
قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء 17/ 64] قال مجاهد: الغناء والمزامير.(21/134)
روى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار، ورنّة شيطان عند نغمة ومرح، ورنّة عند مصيبة لطم خدود، وشق جيوب»
وأخرج أبو طالب الغيلاني عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بكسر المزامير»
وأخرج ابن بشران عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت بهدم المزامير والطبل»
وروى ابن المبارك عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جلس إلى قينة يسمع منها، صبّ في أذنه الآنك «1» يوم القيامة» .
وبناء عليه، قال العلماء بتحريم الغناء.
حكم الغناء عند الفقهاء:
للفقهاء، ومنهم علماء المذاهب الأربعة على المعتمد لديهم تفصيل في حكم الغناء هو ما يأتي «2» :
أ- الغناء الحرام: هو الذي يحرّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون، بكلام يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرّمات لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. وإذا لم يجز فأخذ الأجرة عليه لا يجوز ب- الغناء المباح: هو ما سلم مما ذكر، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق حول المدينة، وحدو أنجشة «3» .
__________
(1) الآنك: الرصاص. إلا أن الحديث ضعيف.
(2) تفسير القرطبي: 14/ 54
(3) أنجشة: هو عبد أسود كان يسوق إبل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.(21/135)
ج- أما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبّابات «1» والطار والمعازف والأوتار فحرام. وفي اليراعة «2» تردد، والدف مباح.
د- وأما طبل الحرب فلا حرج فيه لأنه يهيج النفوس، ويرهب العدو، فقد ضرب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح»
فكنّ يضر بن ويقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبّذا محمد من جار
هـ- لا بأس من استعمال الدّفّ في حفلات الزفاف، وكذا الآلات المشهرة بالزواج والغناء بحسن الكلام الذي لا فحش فيه.
وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز. والاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة، فإن لم يدم لم تردّ.
ونقل عن أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل القول بكراهة الغناء. وقال الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه.
3- عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها لبيان الفرق والترغيب والترهيب، فبعد أن ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين، وهو أن للمؤمنين الذي يعملون صالح الأعمال المأمور بها شرعا نعيم الجنان، دائمين فيها، ووعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه، وهو وعد العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه وفعله.
__________
(1) الشبّابة: قصبة الزمر.
(2) اليراعة: مزمار الراعي. [.....](21/136)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
الاستدلال بخلق السموات والأرض على وحدانية الله وإبطال الشرك
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
الإعراب:
بِغَيْرِ عَمَدٍ الباء في موضع نصب على الحال من السَّماواتِ. وتَرَوْنَها جملة فعلية في موضع جر على الصفة ل عَمَدٍ أي بغير عمد مرئية، فالضمير راجع إلى العمد، والعمد:
قدرة الله وإرادته، أو أن الضمير راجع إلى السموات، أي ليست هي بعمد، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، وحينئذ تكون الجملة مستأنفة لا محل لها.
فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ.. الياء في فَأَرُونِي المفعول الأول، وفَأَرُونِي: معلق عن العمل وماذا خَلَقَ: سد مسد المفعول الثاني. وماذا: ما: استفهام إنكار: مبتدأ، وذا بمعنى الذي مع صلته: خبره.
البلاغة:
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ التفات من الغيبة إلى التكلم، تعظيما لشأن الرحمن، بعد قوله خَلْقُ وَأَلْقى وَبَثَّ.
هذا خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه، من قبيل إطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة.
ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت.
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ الأصل أن يقال: بل هم، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ.(21/137)
المفردات اللغوية:
خَلَقَ السَّماواتِ استئناف كلام جديد بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها العمد: جمع عماد: وهو الأسطوانة التي يعمد بها أي يسند به، وتَرَوْنَها إما صفة العمد أي بغير عمد مرئية، أو يعود الضمير إلى السَّماواتِ، أي لا عمد لها أصلا، وأنتم ترونها بلا عمد، فهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة رَواسِيَ جبالا ثوابت مرتفعة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تميد، أي تتحرك وتضطرب بكم وَبَثَّ نشر وفرق زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف حسن، كثير المنافع. والآية دليل على عزة الله التي هي كمال القدرة، والحكمة التي هي كمال العلم، لتقرير أصل التوحيد.
هذا خَلْقُ اللَّهِ هذا الذي ذكر مخلوق الله فَأَرُونِي أخبروني يا أهل مكة وأمثالكم الكفار ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ماذا خلق الذين من غيره وهم آلهتكم التي أشركتموها بالله تعالى بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بل: للانتقال والإضراب عن تبكيتهم إلى تسجيل الضلال عليهم، فهم في ضلال بيّن لا يخفى على ناظر، بإشراكهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.
المناسبة:
بعد قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الدال على عزته وحكمته وكمال قدرته وعلمه وإتقان صنعه، ذكر الله تعالى الأدلة على قدرته العظيمة من خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، لتقرير وحدانيته، وإبطال الشرك، والتنبيه إلى وجوب اتباع الحق الذي جاءت به الرسل.
التفسير والبيان:
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي من أدلة قدرته تعالى العظيمة، وحكمته السديدة أنه خلق السموات بغير أعمدة، لا مرئية ولا غير مرئية، والسموات كالأرض في الظاهر مبسوطة، وفي الحقيقة مستديرة، لقوله تعالى:
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء 21/ 33] والفلك: اسم لشيء مستدير، وهي على أي حال مخلوقة بقدرة الله، لا بالطبيعة، وهي فضاء والفضاء لا نهاية له، ولا تزول إلا بقدرة الله تعالى.(21/138)
وليس لها عمد أصلا، بدليل رؤية الناس لها غير معمودة. وقيل: إن لها عمدا غير مرئية، والله عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته.
والخلاصة: أنه تعالى خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها، بل هي قائمة بقدرة الله تعالى.
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي وجعل في الأرض جبالا شوامخ ثوابت أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها، وتغمرها مياه البحار والمحيطات المحيطة بها، والتي تكوّن أكثر الكرة الأرضية.
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي وذرأ فيها ونشر ووزع من أصناف الحيوان التي لا يحصي عددها، ولا يعلم أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي وأنزلنا من السحاب مطرا يكون سببا لإنبات كل صنف كريم، أي حسن المنظر، كثير المنفعة.
ثم وبخ الله تعالى أولئك المشركين الذين يتركون عبادة الخالق ويشتغلون بعبادة المخلوق، فقال:
هذا خَلْقُ اللَّهِ، فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي هذا الذي ذكر من المخلوقات هو من خلق الله وفعله وتقديره وحده لا شريك له في ذلك، والخلق بمعنى المخلوق، فأخبروني أيها الكفرة ماذا خلق الذين تعبدونهم من غيره من الأصنام والأنداد. وقوله: خَلْقُ واقع على هاء محذوفة، تقديره: فأروني أي شيء خلق الذين من دونه، أو أروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه.
وبعد توبيخهم على شركهم، وصفهم تعالى بما يترتب عليه وهو الضلال، فهم(21/139)
في شركهم وعبادتهم مع الله غيره في ضلال واضح، فقال: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي بل هؤلاء المشركين بالله العابدون معه غيره في جهل وعمى وانحراف وكفر بيّن واضح ظاهر، لا خفاء به، ولا اشتباه فيه لمن تأمله، جعلهم في غاية الضلال الذي ليس بعده ضلال.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- الدليل على وجود الله وقدرته العظمى وحكمته البالغة: هو خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها، وإنما أمسكها الله بقدرته وإرادته وخلق الأرض ذات الجبال الشوامخ الثوابت لئلا تضطرب بأهلها وجعلها ذات أنس بما وزّع فيها من أصناف الحيوان في البر والبحر والجو، ذوات الأشكال المختلفة، والمناظر البديعة، والأصوات المختلفة وإنزال الأمطار عليها لإنبات النباتات البهية المنظر، البديعة التكوين، الكثيرة المنافع، سواء بثمرها إن كانت مثمرة، أو بظلها المريح وخضرتها الممتعة للنظر والمفرحة للنفس، أو بجعلها أسبابا لزيادة المطر.
2- أكد تعالى قدرته الخلاقة بأن هذا المذكور المعاين هو مخلوق الله من غير شريك، ثم تحدى ووبخ قائلا: أخبروني معاشر المشركين عما خلقت الآلهة المزعومة من الأصنام والأنداد، ثم وصفهم بالوصف الملازم لهم: وهو أن المشركين في خسران ظاهر.(21/140)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قصة لقمان الحكيم ووصيته لابنه
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
الإعراب:
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ إِذْ: ظرف متعلق بفعل مقدر، أي اذكر إذ قال لقمان.
ولُقْمانُ: ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والألف والنون الزائدتين، كعثمان وعمران.(21/141)
وَهْناً منصوب بحرف جر محذوف، تقديره: حملته أمه بوهن، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه. أو حال من فاعل حَمَلَتْهُ على التأويل بالمشتق، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن وعلى وهن أي ذات ضعف على ضعف متتابع.
أَنِ اشْكُرْ لِي منصوب بحرف جر محذوف، أي بأن اشكر، وقيل: أن: مفسرة بمعنى أي، كقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص 38/ 6] ولا موضع لها من الإعراب.
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ خبر تكون الناقصة، أي إن تكن الخصلة الموزونة مثقال حبة. وعلى قراءة الرفع فاعل تكون التامة، وأنث فَتَكُنْ وإن كان المثقال مذكرا، لاكتساء المضاف التأنيث من المضاف إليه، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، وكقوله تعالى:
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف 12/ 10] .
مَرَحاً مصدر منصوب في موضع الحال، كقولهم: جاء زيد ركضا.
البلاغة:
يَشْكُرْ وكَفَرَ بينهما طباق.
غَنِيٌّ حَمِيدٌ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فَخُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعيل وفعول، أي كثير الغنى والحمد والفخر.
بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية والاهتمام بالأم.
إِلَيَّ الْمَصِيرُ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فيه تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر، أي إليّ لا إلى غيري.
إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ من باب التمثيل، مثل بذلك لبيان سعة علم الله ودقته وشموله جميع الأشياء حقيرها وجليلها.
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ من باب التتميم، تمم خفاء الأشياء في نفسها بخفاء مكانها.
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ مقابلة بين اللفظين.
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ استعارة تمثيلية، شبه الرافعين أصواتهم برفع الحمير أصواتهم، ولم يذكر أداة التشبيه، وإنما أورده بطريق الاستعارة للمبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت.(21/142)
المفردات اللغوية:
لُقْمانَ هو كما ذكر البيضاوي لقمان بن باعورا من أولاد آزر، ابن أخت أيوب أو ابن خالته، أسود من سودان مصر من النوبة، وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم، آتاه الله الحكمة، أي العقل والفطنة والعلم والإصابة في القول، والجمهور على أنه كان حكيما، ولم يكن نبيا. من أقواله: «الصمت حكم وقليل فاعله» وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا.
الْحِكْمَةَ هي في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة، على قدر طاقتها أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي بأن اشكر، أو أي اشكر ما أعطاك من الحكمة، والشكر: الثناء على الله تعالى وطاعته فيما أمر به، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه وثواب شكره عائد له وهو دوام النعمة واستحقاق المزيد منها. غَنِيٌّ عن خلقه، لا يحتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بالحمد، وإن لم يحمد، ومحمود في صنعه، نطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ أي واذكر، واسم ابنه: أنعم، أو أشكم، أو ماتان أو ثاران في قول السهيلي وَهُوَ يَعِظُهُ العظة: تذكير بالخير بأسلوب رقيق يرقّ له القلب يا بُنَيَّ التصغير للإشفاق والتحبب إِنَّ الشِّرْكَ بالله لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وكون الشرك ظلما لأنه تسوية بين المنعم وحده وغير المنعم وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أي أمرناه وألزمناه بِوالِدَيْهِ أي بأن يبرهما وَهْناً أي بوهن، أي ضعف عَلى وَهْنٍ أي تضعف ضعفا فوق ضعف، من الحمل، فالطّلق، فالولادة وَفِصالُهُ أي فطامه فِي عامَيْنِ في انقضاء عامين، وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصيّنا الْمَصِيرُ المرجع، فأحاسبك على الشكر أو الكفر.
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ مطابق للواقع فَلا تُطِعْهُما في ذلك مَعْرُوفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة، أو صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع في الدين طريق من رجع إلي بالتوحيد والإخلاص في الطاعة. وأَنابَ رجع إلى ربه بالتوبة والاستغفار فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أخبركم بأعمالكم، وأجازيكم على الإيمان والكفر. والآيتان: وَوَصَّيْنَا.. وَإِنْ جاهَداكَ..
معترضتان ضمن وصية لقمان، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك، كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به.
إِنَّها إِنْ تَكُ أي إن الخصلة السيئة أو الحسنة مِثْقالَ حَبَّةٍ وزن أصغر شيء مِنْ(21/143)
خَرْدَلٍ
وزن حبة خردل فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي في أخفى مكان فيهما يَأْتِ بِهَا اللَّهُ فيحاسب عليها لَطِيفٌ باستخراجها، يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ بمكانها، عالم بكنه الأشياء وحقائقها وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد، وبسبب الأمر والنهي إِنَّ ذلِكَ المذكور من كل ما أمر به ونهى عنه مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها، أو من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عنهم ولا تولّهم صفحة وجهك، كما يفعل المتكبرون، والأصعر: المعرض بوجهه كبرا، مأخوذ من الصّعر، وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه مَرَحاً خيلاء وبطرا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي يعاقب كل متبختر في مشيه، فخور على الناس. وهو علة للنهي. والمختال: فاعل الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبرا، والفخور من الفخر: وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه غير مختال ولا مستضعف، وغير مسرع ولا مبطئ وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وهو ضعيف: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» والمقصود بقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشى أسرع» أنه يسير ما فوق دبيب المتماوت وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي أنقص منه وأقصر أو اخفض إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أقبحها وأزعجها وأصعبها على السامع لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أوله زفير وآخره شهيق.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتقاد المشركين وأن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة والعلم المرشد إلى الإقرار بوحدانيته، وإن لم يكن هناك نبوة، فإن لقمان توصل إلى إثبات التوحيد وإطاعة الله والتزام مكارم الأخلاق دون نبي ولا رسول.
وهذا إشارة إلى أن اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم لازم فيما لا يعقل معناه، إظهارا للتعبد، ولازم من باب أولى فيما يدرك بالعقل معناه.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي وتالله لقد أعطينا لقمان «1» الحكمة وهي التوفيق
__________
(1)
روى ابو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتخذوا السودان، فإن(21/144)
إلى العمل بالعلم والفهم، وشكر الله وحمده على نعمه وأفضاله، وحب الخير للناس، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير والنفع.
وهذا دليل على أن لقمان الحكيم هداه الله إلى المعرفة الصحيحة، من غير طريق النبوة.
ومن يشكر الله على ما منحه وأعطاه ربه، فيطيعه ويؤدي فرضه، فإنما يحقق النفع والثواب لنفسه، وينقذها من العذاب، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت 41/ 46] وقال عز وجل: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم 30/ 44] .
ومن جحد نعمة الله عليه، فأشرك به غيره، وعصى أوامره، فإنه يسيء إلى نفسه، ولا يضر ربّه، فإن الله غني عن العباد وشكرهم، لا يتضرر بذلك، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وهو المحمود في السماء والأرض بلسان الحال أو المقال، وإن لم يحمده أحد من الناس.
ثم ذكر تعالى وصية لقمان (وهو كما ذكر ابن كثير لقمان بن عنقاء بن سدون) لابنه (وهو ثاران في قول السهيلي والطبري والقتبي) فقال:
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، وَهُوَ يَعِظُهُ: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ واذكر حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة، حرصا عليه لأن الأب يحب ابنه وهو أشفق الناس عليه، فقال له: يا ولدي، اعبد الله ولا تشرك به شيئا، فإن الشرك أعظم الظلم، أما إنه ظلم فلكونه وضع الشيء في غير موضعه، وأما كونه أعظم الظلم فلتعلقه بأصل الاعتقاد وتسويته بين الخالق والمخلوق، وبين المنعم وحده وبين غير المنعم أصلا، وهي الأصنام والأوثان.
__________
ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن»
قال الطبراني:
أراد الحبش (تفسير ابن كثير: 3/ 447) .(21/145)
والآية عطف على معنى ما سبق، وتقديره: ولقد آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه، وحين جعلناه واعظا لغيره.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت آية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام 6/ 82] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .
ثم أمر الله تعالى ببرّ الوالدين، جريا على عادة القرآن، فإنه كثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين الأمر بعبادة الله واجتناب الشرك وبين الأمر ببرّ الوالدين، كما في قوله سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] ، فقال:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وأمرنا الإنسان وألزمناه ببرّ والديه وطاعتهما، وأداء حقوقهما، ولا سيما برّ الأم التي حملته في ضعف فوق ضعف، من الحمل إلى الطلق إلى الولادة والنفاس، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين والتربية ليلا ونهارا، كما قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] وقد بيّن الحديث النبوي أحقية الأم بالبرّ، فأوصى بها ثلاث مرات، ثم أوصى بالأب في المرة الرابعة، فجعل له ربع المبرة.
لقد وصيناه، أي أمرناه وعهدنا إليه بالشكر لي أي لله على نعمتي عليك، وبالشكر للوالدين لأنهما سبب وجودك، ومصدر الإحسان إليك بعد الله تعالى. وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي لبيان علة الوصية أو وجوب امتثالها، والْإِنْسانَ هنا في رأي الزمخشري تفسيرية، والجملة بيان لفعل التوصية، إذ هو متضمن معنى القول، أي قلنا له: اشْكُرْ لِي.(21/146)
وكذا علة الأمر بطاعة الله وطاعة الأبوين أو السبب فيه: هو أن المصير أو المرجع إلي، فسأجزيك على ذلك أوفر الجزاء في الآخرة. وهذا تهديد وتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبرّ الوالدين وصلتهما.
وهذه الآية وما بعدها من كلام لقمان الذي وصى به ابنه، أخبر الله عنه بذلك، فلما بيّن لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه، كان ذلك حثّا على طاعة الله، ثم بيّن أن الطاعة تكون للأبوين، وبيّن السبب في ذلك.
وقيل: هو من كلام الله قاله للقمان، أي قلنا له: اشْكُرْ، وقلنا له:
وَوَصَّيْنَا، وقيل: هذه الآية اعتراض بين وصية لقمان تؤكد النهي عن الشرك، قال القرطبي: والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت السابقة:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [8] نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية التي حلفت ألا تأكل حتى يرتد سعد، وعليه جماعة من المفسرين «1» . والمختار عند المفسرين أن هذه الآية إلى آخر الآيتين بعدها كلام مستأنف من الله تعالى، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه، تأكيدا للنهي عن الشرك.
ثم قيّد الله طاعة الأبوين مستثنيا حقوقه تعالى، فقال:
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما أي وإن ألحّ والداك في الطلب، وحرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما في دينهما، وتشرك بي في عبادتي غيري مما لا تعلم أنه شريك لي، فلا تقبل منهما ذلك، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو المعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 63، البحر المحيط: 7/ 186 وما بعدها.(21/147)
معصية الخالق. والمراد بنفي العلم نفي الشريك، أي لتشرك بي ما ليس بشيء وهي الأصنام.
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لا يمنعك عدم طاعتك لأبويك في الشرك والمعصية من أن تصاحبهما في الدنيا بالمعروف، بأن تحسن إليهما، فتمدهما بالمال عند الحاجة، وتطعمهما وتكسوهما، وتعالجهما عند المرض، وتواريهما عند الموت في القبور، وتبرّ صديقهما، وتفي بعهدهما. وقوله مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا على مقتضى الكرم والمروءة، أو مصاحبا حسا بخلق جميل، وحلم واحتمال، وبرّ وصلة.
وقوله: فِي الدُّنْيا تهوين شأن الصحبة، فهي لأيام محدودة، وسنوات معدودة، سريعة الزوال والانقضاء. والمعروف هنا: ما يعرفه الشرع ويرتضيه، وما يقتضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما والإحسان إليهما في القول والفعل.
وإياك والمحاباة في شأن الدين، فالزم سبيل المؤمنين التائبين في دينك، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما فيه، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا.
ثم إليّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر. والجملة مقررة لما قبلها ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما في غير معصية.
ثم أخبر تعالى عن بقية وصايا لقمان الحكيم النافعة، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال:
1- يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي يا ولدي، إن(21/148)
الحسنة والسيئة أو المظلمة والخطيئة، لو كانت تساوي وزن أو مثقال حبة خردل، ولو كانت في أخفى مكان كجوف صخرة، أو في أعلى مكان كالسماوات، أو في أسفل موضع كباطن الأرض، لأحضرها الله يوم القيامة حين الحساب، ووزن الأعمال، والمجازاة عليها خيرا أو شرا، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء 21/ 47] وقال سبحانه:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7- 8] . وقوله: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ يراد به المبالغة والانتهاء في التفهيم.
إن الله لطيف العلم، يصل علمه إلى كل شيء خفي، فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقت ولطفت وتضاءلت، خبير عالم بكنه الأشياء، يعلم ظواهر الأمور وبواطنها.
والمقصود من الآية بيان سعة علم الله، فهو يعلم الغيب والشهادة، ويطلع على جميع أعمال عباده، لموافاتهم بجزائها يوم القيامة.
2- يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي بعد أن منعه من الشرك، وخوفه بعلم الله وقدرته، أمره بصالح الأعمال اللازمة للتوحيد وهي الصلاة أي العبادة لوجه الله مخلصا، وإقامتها أي أداؤها كاملة بحدودها وفروضها وأوقاتها، وهي عماد الدين، ودليل الإيمان واليقين، ووسيلة القربى إلى الله وتحقيق رضوانه، كما أنها تساعد على اجتناب الفحشاء والمنكر، وصفاء النفس.
والأمر بالمعروف أي أمر النفس والغير بما هو معروف شرعا وعقلا، كمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، مما يهذب النفس ويدعو إلى التحضر والتمدن، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] .(21/149)
والنهي عن المنكر، أي منع النفس والآخرين من المعاصي والمنكرات المحرّمة شرعا والقبيحة عقلا، والتي تغضب الله، وتوجب عذاب جهنم.
والصبر على الأذى والشدائد والأوامر الإلهية، فإن الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر يؤذى عادة، فطلب منه الصبر. وقد بدئت الوصايا بالصلاة لأنها عماد الدين وختمت بالصبر لأنه أساس المداومة على الطاعات، وعماد رضوان الله، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة 2/ 45] .
إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي إن ذلك المذكور مما أمر الله به ونهى عنه، ومنه الصبر على أذى الناس، لمن الأمور الواجبة المعزومة، أي المقطوعة قطع إيجاب وإلزام «1» ، ويكون المصدر «عزم» بمعنى المفعول.
وبعد أمره بما يكمل نفسه وغيره، نهى عن أشياء وحذر من أشياء، فقال:
1- وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا، والمعنى: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، ولا تتكلم وأنت معرض، بل كن متواضعا سهلا هينا لينا منبسط الوجه، مستهل البشر، كما
جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله» .
2- وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي لا تسر في الأرض مختالا بطرا متبخترا، جبارا عنيدا، فإن تلك المشية يبغضها، والله يكره كل مختال معجب في نفسه، فخور على غيره، كما قال تعالى:
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا
__________
(1)
ومنه الحديث: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل»
أي لم يقطعه بالنية، ومنه
الحديث الآخر: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصة، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» .(21/150)
[الإسراء 17/ 37] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر: «من جرّ ثوبه خيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة» . والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي، ولا يشكر الله تعالى» .
وروى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا احضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة»
وروى أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ربّ ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، لو قال: اللهم إني أسألك الجنة، لأعطاه الله الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا» .
وروى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، فيقول: يا ابن آدم، ما غرّك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غرّك بي! لقد كنت تمشي حولي فدّادا (مختالا متكبرا) .
3- وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي امش مشيا متوسطا عدلا، ليس بالبطيء المتثبّط المتماوت الذي يظهر الضعف تزهدا، ولا بالسريع المفرط، الذي يثب وثب الشيطان،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
، وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشى أسرع في مشيته» فالمراد السرعة التي تتجاوز دبيب المتماوتين. وقد رأى عمر رجلا متماوتا، فقال له: «لا تمت علينا ديننا، أماتك الله» ، ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له: «ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض» .
4- وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أي لا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، وأخفضه، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع، وتدل على الغرور والاعتداد بالنفس وعدم الاكتراث بالغير، واعتدال الصوت أوقر(21/151)
للمتكلم، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه، وقد علل النهى عن رفع الصوت بأنه يشبه صوت الحمير في علوه ورفعه، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير، وهو بغيض إلى الله تعالى، والسبب أن أوله زفير وآخره شهيق.
وفيه دلالة على ذمّ رفع الصوت من غير حاجة، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذمّ، وقد ورد في السّنة أيضا ما يدل على التنفير منه،
روى الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن الشرك بالله أو اتخاذ عبد من عباده أو صنم من الأصنام شريكا في العبادة مع الله ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، لما فيه من الافتئات على الخالق الرازق، وسخف هذا الاعتقاد، وخلوة من أي فائدة للمشرك. وقد حققت وصية لقمان لابنه هدفها، فقد ورد في التفسير أن ابنه كان مشركا، فوعظه وكرر الوعظ عليه حتى أسلم.
2- برّ الوالدين وطاعتهما في معروف غير معصية فرض واجب على الإنسان، مقابلة للمعروف بمثله، ووفاء للإحسان، وتقدير الفضل، واحترام نظام الأسرة. وأمر الله بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكافرين، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة.
غير أن طاعة الأبوين غير مطلوبة، بل هي حرام في ارتكاب معصية كبيرة كالإشراك بالله، وترك فريضة عينية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتندب الطاعة في ترك المندوبات ومنها الجهاد(21/152)
الكفائي، وإجابة الأم في الصلاة النافلة إذا شقّ عليها الانتظار أو خيف هلاكها.
وتختصّ الأم بزيادة البرّ والطاعة لمعاناتها في سبيل تربية أولادها، وبما أنها كما ذكرت الآية تعرضت لمراتب ثلاث من المشاق: الحمل، والرضاع، والوضع، جعل لها ثلاثة أرباع المبرّة، وللأب الربع،
قال صلّى الله عليه وسلّم لرجل سأله فيما رواه البخاري وغيره: «من أبرّ؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» .
3- أقصى مدة الرضاع في أحكام النفقات والتحريم بالرضاع عامان، وقصر مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم على عامين هو رأي العلماء غير أبي حنيفة.
ورأى أبو حنيفة أن مدة الرضاع المحرم ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.
واستنبط العلماء أيضا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من مجموع آيتين، قال تعالى في آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] ، وقال في آية أخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف 46/ 15] .
4- الشكر لله على نعمة الإيمان وغيرها من النعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى، وللوالدين على نعمة التربية، قال سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
5- آية وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً دليل على جواز صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعوة إلى الإسلام برفق. ويؤيده
أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري(21/153)
ومسلم- وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة، أو خالتها-: «يا رسول الله، إن أمي قدمت علي، وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم»
قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها.
ووالدة أسماء: هي قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
ودلّ قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً على أن الولد لا يستحق القصاص على أحد والديه، وأنه لا يحدّ له إذا قذفه، ولا يحبس له بدين عليه، وأن على الولد نفقة والديه عند الحاجة.
6- قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ المراد به العموم، كما هو ظاهر اسم الموصول، فهو وصية لجميع العالم، والمأمور الإنسان، وهي سبيل الأنبياء والمؤمنين الصالحين. وأناب معناه: مال ورجع إلى الشيء، والمراد هنا:
تاب من الشرك، ورجع إلى الإسلام، واتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورجع إلى الله بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، لا سبيل الوالدين اللذين يأمران بالشرك. وهذا الأمر باتباع السبيل دليل على صحة إجماع المسلمين، وأنه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم، وهو مثل قوله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء 4/ 115] .
7- قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ.. توعد من الله عزّ وجلّ ببعث من في القبور، والرجوع إليه للجزاء والاعلام بصغير الأعمال وكبيرها.
8- قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ.. قصد به إعلام قدرة الله تعالى، وتخويف منه ورجاء، فمهما تكن الحسنة أو الخطيئة أو الطاعات والمعاصي مثقال حبة خردل يأت بها الله، لأن الحسّ لا يدرك ثقلا للخردلة، إذ لا ترجّح ميزانا.(21/154)
وفسّر القرطبي الآية بأنه لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في أي مكان في العالم العلوي (السموات) والسفلي (الأرض) جاء الله بها، حتى يسوقها إلى من هي رزقه أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتّباع سبيل من أناب إلي. ومن هذا المعنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن مسعود فيما رواه البيهقي في القدر، وهو ضعيف: «لا تكثر همّك، ما قدّر يكن، وما ترزق يأتك» .
وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا سبحانه لا شريك له.
9- في الآية تعظيم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يشمل جميع الطاعات والفضائل، والحضّ على تغيير المنكر والصبر، وإن نال الإنسان ضرر، وفيه إشعار بأن المغيّر يؤذى أحيانا.
كما أن الصبر مندوب إليه عند التعرض لشدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وعلى الإنسان ألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عزّ وجلّ، فإن من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره.
وإن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور، أي مما عزمه الله وأمر به، وجعله من الأمور الواجبة.
10- دلّ قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ على تحريم التكبر، ومعنى الآية: ولا تمل خدك للناس تكبرا عليهم، وإعجابا بالنفس، واحتقارا لهم، وأقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا، وإذا حدّثك أصغر الناس، فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، كما كان يفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والخلاصة: لا تدبر عن المتكلم، كما
روى مالك عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»
فالتدابر والإعراض وترك(21/155)
الكلام والسلام من المحظورات.
11- يحرم على الإنسان أن يمشي في الأرض متبخترا متكبرا، بل يحرم التكبر في كل الحالات.
12- يندب للإنسان القصد أي التوسط في المشي، وهو ما بين الإسراع والبطء، فلا تدبّ دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشيطان.
13- كما يندب إليه عدم التكلف في رفع الصوت، والتكلم حسب الحاجة والمعتاد، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذي، والمراد بذلك كله التواضع.
وقد شبّه رفع الصوت الزائد عن الحاجة بصوت الحمير، والحمار ونهاقه مثل في الذمّ البليغ والشتيمة.
وفي الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية.
والآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة، وقد نهى الله عنه، لأنه من أخلاق الجاهلية وعاداتها، فقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك.
وتلك إشارة إلى التوسط في جميع الأفعال والأقوال.
والخلاصة: جمعت وصية لقمان بين فضائل الدين والآخرة ومكارم الأخلاق في الدنيا، واشتملت تسعة أوامر، وثلاثة نواه، وسبع علل أو أسباب:
أما الأوامر: فهي الأمر ببرّ الوالدين، والشكر لله وللوالدين، ومصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف، واتباع سبيل الأنبياء والصالحين، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاعتدال في المشي، وإخفاض الصوت.(21/156)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
وأما النواهي: فهي النهي عن الشرك، والنهي عن تصعير الخد (الإعراض عمن تكلم تكبرا) والنهي عن المشي مرحا (اختيالا وتبخترا) .
والتعليلات أو الأسباب هي:
1- وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
2- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
3- إِلَيَّ الْمَصِيرُ، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
4- إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
5- إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
6- إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
7- إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
توبيخ المشركين على الشرك مع مشاهدة دلائل التوحيد
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
الإعراب:
نِعَمَهُ ظاهِرَةً أراد: نعم الله، جمع نعمة، وظاهِرَةً حال. وقرئ: نعمة، ونعمته.(21/157)
البلاغة:
ظاهِرَةً وَباطِنَةً بينهما طباق.
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إنكار وتوبيخ، مع الحذف، أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان. إلخ ...
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ أي ألم تعلموا أيها المخاطبون أن الله ذلل لكم جميع ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك، بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم.
وَما فِي الْأَرْضِ بأن مكنكم من الانتفاع به، كالثمار والأنهار والدواب والمعادن وما لا يحصى.
وَأَسْبَغَ أكمل وأوسع وأتمّ. نِعَمَهُ جمع نعمة: وهي كل نفع قصد به الإحسان. ظاهِرَةً وَباطِنَةً محسوسة ومعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه، فالظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة كحسن الصورة وتسوية الأعضاء، والباطنة: ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها!! وَمِنَ النَّاسِ بعض الناس كأهل مكة في صدر الإسلام. مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده وصفاته. بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل أو بغير حجة. وَلا هُدىً أي ولا هداية من رسول. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله، بل بالتقليد. بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي ما سار عليه الأسلاف، وهو منع صريح من التقليد في الأصول كالاعتقاد. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي أيتبعونهم، ولو دعاهم الشيطان إلى موجبات عذاب جهنم، وهو الإشراك أو التقليد، وجواب لَوْ محذوف، أي لا تبعوه، والاستفهام للإنكار والتعجيب.
المناسبة:
بعد أن استدل الله تعالى بقوله: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ على الوحدانية وذكر أن لقمان عرف ذلك بالحكمة، لا بالنبوة، عاد إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا في عالم السموات والأرض، وتسخير ما فيها لمنافعهم، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة.(21/158)
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي ألم تعلموا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله سبحانه في كل شيء، وإنعامه عليكم، فهو الذي ذلل لكم جميع ما في السموات من شمس وقمر ونجوم، تستضيئون بها في الليل والنهار، وما خلق فيها من سحاب ينزل منه المطر، لسقي الإنسان والحيوان والنبات، ويسر لكم جميع ما في الأرض من قرار ومعادن، وأنهار وبحار، وأشجار وزروع، وثمار، ونحو ذلك من المنافع الغذائية، وأكمل وأتم عليكم نعمه الظاهرة والباطنة أي المحسوسة والمعقولة، المعروفة وغير المعروفة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإزالة الشّبه والعلل والأعذار.
وقيل: الظاهرة: الإسلام، والباطنة: الستر
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس- وقد سأله عن هذه الآية-: «الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيء عملك» .
وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.
ومع هذا كله، ما آمن الناس كلهم، فقال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا هُدىً، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي وبالرغم من ثبوت الألوهية بالخلق والإنعام، فهناك فريق من الناس يجادل في توحيد الله وصفاته وإرساله الرسل، كزعماء الوثنية في مكة وغيرها، بغير دليل معقول، ولا مستند أو حجة صحيحة على يد رسول، ولا كتاب مأثور صحيح ينير الطريق الحق.(21/159)
فقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ معناه: لا من علم واضح، من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب مبين واضح.
وإنما حجتهم الوحيدة هو التقليد الأعمى، واتباع الهدى والشيطان، لذا تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع المطهرة، لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين فيما اعتقدوه من دين. وهذا في غاية القبح، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى كلام الله الهادي إلى الحق والخير، وهم يأخذون بكلام آبائهم.
وهذا منع صريح من التقليد في أصول العقيدة، لذا وبخهم الله على سوء مقالتهم فقال:
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟ أي أيتبعونهم بلا دليل، ولو كان اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم، والله يدعو إلى النجاة والثواب والسعادة؟! وهذا كقوله تعالى:
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة 2/ 170] أي ولو كان آباؤهم المحتجون بصنيعهم على ضلالة، فلا عقل عندهم ولا هداية معهم؟! وهم خلف فيما كانوا فيه.
وهذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار، يتضمن التهكم عليهم، وتسفيه عقولهم، والسخرية من آرائهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:(21/160)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
1- الدليل على وحدانية الله الخلق والإنعام، فإنه خلق السموات بما فيها من شمس وقمر ونجوم وملائكة، وذللها للناس، جالبة لهم المنافع، وخلق الأرض وما فيها من جبال وأشجار وثمار ومعادن وماء وهواء وبخار وذرة وما لا يحصى، وكلها لنفع الإنسان. وأكمل النعم وأتمها على بني آدم، سواء كانت ظاهرة مشاهدة محسوسة، كالصحة وكمال الخلقة والمال والجاه والجمال، وشرائع الإسلام، أو معقولة مجردة كالمعرفة والعقل وحسن اليقين بالله تعالى، وسواء كانت معروفة أو ستعرف علميا مع تطور الاكتشافات العلمية المتجددة في كل عصر.
2- بالرغم من كثرة الأدلة الدالة على توحيد الله من الخلق والإنعام، فإن فريقا من الناس كالنّضر بن الحارث وأبيّ بن خلف يجادلون أو يخاصمون في التوحيد بغير حجة عقلية أو نقلية من سنة رسول أو بيان كتاب مضيء نيّر، وإنما الحجة هي الشيطان فيما يلقى إليهم، وإلا تقليد الأسلاف، كما قال تعالى:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام 6/ 121] .
3- إذا أمر المشركون باتباع ما أنزل الله على رسوله من الآيات البينات والشرائع المطهرة، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بتقليد الآباء والأجداد، وبما يزين لهم الشيطان من الوساوس والأهواء، فإنهم يتبعونه على ضلال.
سلامة منهج المؤمن وسوء طريقة الكافر
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)(21/161)
البلاغة:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ مجاز مرسل في وَجْهَهُ من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تشبيه تمثيلي، شبّه من تمسك بالإسلام بمن أراد الصعود إلى قمة جبل، فتمسك بأوثق حبل، وحذف أداة التشبيه للمبالغة.
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر.
عَذابٍ غَلِيظٍ استعارة الغلظ للشدة لأنه إنما يكون للمادة الكثيفة، فاستعير للمعنى.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يفوض أمره إليه، ويقبل على طاعته، ويخلص عبادته إليه. وَهُوَ مُحْسِنٌ متقن عمله. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق بأوثق وأمتن ما يتعلق به، وهو الطرف الأوثق الذي يؤمن انقطاعه، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرا الحبل المتدلي منه. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ مرجعها إذ الكل صائر إليه.
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يضرك في الدنيا والآخرة، ولا تهتم بكفره. إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي مصيرهم إلى الله في الدارين. فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا نجازيهم بأعمالهم بالإهلاك والتعذيب. عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحديث النفس الكائن في الصدور كما أنه عليم بما في غيرها، فمجاز عليه. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا نمتعهم في الدنيا أيام حياتهم تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا، فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. نَضْطَرُّهُمْ نلزمهم في الآخرة. إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم، وهو عذاب النار، لا يجدون عنه محيصا.
المناسبة:
بعد بيان حال الكافر المجادل في الله جهلا وعنادا، أبان الله تعالى حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه، ثم أردفه بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من إعراض المشركين عن دعوته عنادا، وهددهم بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، مع التنبيه بأن عذاب الآخرة أشد وأثقل.(21/162)
التفسير والبيان:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي ومن يخلص العبادة والعمل إلى الله، وينقاد لأمره، ويتبع شرعه، مع إتقان عمله باتباع ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه وزجر، فقد تمسك بالحبال الواثقة، أي تعلق بأوثق الوسائل الموصلة إلى رضوان الله، وسيلقى الجزاء الحسن على عمله، لأن مصير المخلوقات كلهم إلى الله، فيجازي المتوكل عليه، المخلص عبادته إليه أحسن الجزاء، كما يعاقب المسيء بأشد العذاب.
ثم نصح الله رسوله بألا يهتم بكفر الكافرين، فقال:
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لا تغتم ولا تجزع على كفر الكافرين الذين كفروا بالله ورسوله، ولا تهتم بهم، ولا تحزن عليهم، فإن مصيرهم إلينا يوم القيامة وفي الدنيا، فنجازيهم بالإهلاك والعذاب، ولا تخفى عليه خافية منهم، ولا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم، فنخبرهم بما أضمرته صدورهم. وكلمة مَنْ تصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: كُفْرُهُ ثم قال: مَرْجِعُهُمْ وما بعده على المعنى.
ثم بيّن مدى مقامهم في الدنيا، فقال:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أي نجعلهم يتمتعون في الدنيا بزخارفها تمتعا قليلا أو زمانا قليلا، ثم نلجئهم ونلزمهم بعذاب شاق ثقيل شديد عليهم. والغلظ يكون في الماديات، وأستعير للمعنى، والمراد الشدة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن الناس في الآخرة فريقان: فريق في الجنة، وفريق في(21/163)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
السعير، فمن أخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى، وأتقن عمله، بأن عبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن ربّه يراه، فهو من الناجين الذين أخذوا موثقا متينا من الله أنه لا يعذبهم، ومنتهى الأمور كلها ومصيرها إلى الله تعالى.
ومن أنكر وجود الله أو أنكر وحدانيته فأشرك به غيره، فإن الله يجازيه، والله عليم بكل ما أسرّ العبد وأعلن.
وإن بقاء العالم في الدنيا قليل، فهم يتمتعون فيها مدة قليلة، ثم يساقون ويلجأون ويلزمون إلى عذاب شديد، هو عذاب جهنم.
إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 32]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)(21/164)
الإعراب:
لَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي الأمثال، وحذف واو الضمير لالتقاء الساكنين.
وَالْبَحْرُ الواو واو الحال، والْبَحْرُ: مبتدأ، وخبره: يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ والجملة حالية، وعامل الحال ما في أَقْلامٌ من معنى الفعل لأن (أقلاما) قام مقام (كاتبات) فكأنه قال: كاتبات والبحر يمده. ومن قرأ بالنصب، فهو معطوف على ما أو منصوب بتقدير فعل يفسره يَمُدُّهُ وتقديره: يمد البحر يمده، مثل: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس 36/ 39] أي قدرنا القمر قدرناه.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خَلْقُكُمْ مبتدأ، وكاف كَنَفْسٍ في موضع رفع خبر المبتدأ، وتقديره: ما خلقكم ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ولا يجوز أن تعمل ما بسبب إِلَّا لأنها تشبه (ليس) في نفي الحال، وإِلَّا تبطل منها معنى النفي، وهو وجه الشبه الموجب للعمل، وإذا زال وجه الشبه الموجب للعمل بطل العمل.
البلاغة:
صَبَّارٍ شَكُورٍ خَتَّارٍ كَفُورٍ خَبِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ صيغ مبالغة، وفيها ما يسمى توافق الفواصل أو السجع.
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فيه إيجاز بالحذف، والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر، دل على المحذوف قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ.
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ اللام لام القسم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غير(21/165)
الله، بحيث اضطروا إلى الإقرار بوجوده. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور الحجة عليهم بثبوت التوحيد، وإلجائهم إلى الاعتراف بما يبطل اعتقادهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يجهلون إلزامهم بتلك الحجة. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، فلا يستحق العبادة فيهما غيره. هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه. الْحَمِيدُ المستحق للحمد، المحمود في صنعه.
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي ولو صارت جميع الأشجار أقلاما. وإنما قال شَجَرَةٍ بالإفراد دون اسم الجنس الذي هو شجر، ليشمل كل شجرة على حدة، حتى لا يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة، إلا قد بريت أقلاما. وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي والبحر المحيط يمده بسعته مدادا، فاكتفى بذكر يَمُدُّهُ عن ذكر المداد لأنه من مدّ الدواة وأمدها.
ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي معلوماته، بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد ولا بأكثر من ذلك لأن معلوماته تعالى غير متناهية. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خلقا وبعثا، أي كبعث نفس واحدة وخلقها، إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولأنه يتم بكلمة كُنْ فَيَكُونُ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع.
بَصِيرٌ يبصر كل مبصر، لا يشغله إدراك شيء عن شيء. أَلَمْ تَرَ تعلم أيها المخاطب.
يُولِجُ يدخل الليل في زمن النهار وبالعكس، أي يضيف أحدهما إلى الآخر، فالله يزيد في كل من الليل والنهار بما نقص من الآخر. كُلٌّ يَجْرِي كل من الشمس والقمر النيرين يجري في فلكه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم مقدر، إلى نهاية دورة الشمس السنوية، ودورة القمر الشهرية، أو إلى يوم القيامة. بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه.
ذلِكَ المذكور من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع. بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بسبب أنه الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته، أو الثابت الألوهية. وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ أي وأن ما يعبدون من غيره هو المعدوم في حد ذاته الذي لا يوجد، والزائل، أو الباطل الألوهية. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ المترفع على خلقه وعلى كل شيء بالقهر، والمتسلط عليه، وهو العظيم.
الْفُلْكَ السفن. تَجْرِي تسرع. بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه وأنها تحمل الطعام والمتاع ونحوهما، وهو استدلال آخر على باهر قدرته وكمال حكمته وشمول إنعامه.
لِيُرِيَكُمْ أيها المخاطبون بذلك. مِنْ آياتِهِ دلائله. لَآياتٍ علامات وعبرا. لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على المشاق وعن معاصي الله، فيتعب نفسه في التفكر في الآفاق والأنفس.
شَكُورٍ لنعمته، يعرف النعم، ويتعرف ما نحها، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.(21/166)
غَشِيَهُمْ علاهم وغطاهم. كَالظُّلَلِ كالظلال التي تظل من تحتها، من جبال وسحاب وغيرها. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء بأن ينجيهم، أي لا يدعون معه غيره بسبب ما دهاهم من الخوف الشديد. مُقْتَصِدٌ متوسط بين الكفر والإيمان، أو مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، ومنهم باق على كفره. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها، ومنها الإنجاء من الموج. خَتَّارٍ غدار، فإنه نقض للعهد الفطري. كَفُورٍ شديد الجحود للنعم.
سبب النزول: نزول الآية (27) :
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ:
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الروح، فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 85] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة 2/ 269] ، فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية.
واخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة:
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا إيانا تريد أم قومك؟ فقال: كلّا عنيت، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي في علم الله قليل، فأنزل الله:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فنزل: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الآية.(21/167)
نزول الآية (28) :
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ: نزلت الآية في أبيّ بن خلف وأبي بن الأسدين، ومنبّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تقول: إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
المناسبة:
بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق السموات بغير عمد، وبإمداد خلقه بنعمه الظاهرة والباطنة، أبان الله تعالى أن المشركين معترفون بوجود الله، وأنهم يتضرعون إليه وحده وقت الشدة، ثم يعودون إلى كفرهم بعد النجاة. ثم أثبت تعالى وحدانيته بملكه ما في السموات وما في الأرض، ثم أقام الدليل على سعة علمه، وشمول قدرته على كل شيء، ومنه خلق الناس وبعثهم، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر في دورة محددة، وتسيير السفن في البحار بتيسيره وتهيئة أسبابه، علما بأن المشركين يعترفون بتلك الآيات.
التفسير والبيان:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي وتالله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله من قومك: من الذي خلق السموات والأرض؟
لأجابوا: هو الله الخالق، فهم معترفون بأن الله خالق السموات والأرض، غير منكرين له، لوضوح الأمر، وعدم وجود البديل، بحيث اضطروا إلى إعلان هذا الاعتراف بالله، ومع هذا فهم يعبدون معه شركاء، يعترفون أنها مخلوقة لله، ومملوكة له.(21/168)
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي قل أيها الرسول: الحمد لله على اعترافكم، إذ قامت الحجة عليكم بإلجائكم إليه، وأن دلائل التوحيد واضحة، لا يكاد ينكرها أحد، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أنه ينبغي ألا يعبد مع الله غيره، وأن هذه الحجة تلزمهم، وتبين تناقضهم، وأنهم لم ينتبهوا مع وجود هذا التنبيه.
وبعد انتزاع هذا الاعتراف الصريح بوجود الله وتوحيده، استدل الله تعالى على ذلك بقوله:
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي لله جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصرفا، وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة غيره، لأنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، وهم مملوكون له، محتاجون إليه، وهو المحمود في الأمور كلها، وعلى نعمه التي أنعم بها، وعلى ما خلق وشرع.
ومنعا لإيهام قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تناهي ملكه بحصره في الموجود في السموات والأرض، أبان تعالى أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادا (حبرا) وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مددا، إن الله قوي لا يعجزه شيء، حكيم في صنعه، لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، كامل القدرة، فيكون له مقدورات لا نهاية لها.
وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، كما لم يرد أن هناك(21/169)
سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم، والعرب تذكر السبعة والسبعين والسبع مائة، وتريد بذلك الكثرة.
والخلاصة: أن الآية تخبر عن عظمة الله وكبريائه وجلاله وكلماته التامة ومعلوماته وأسراره التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»
فمعلوماته تعالى لا نهاية لها. ويكون المراد بكلمات الله:
معلوماته، وقيل: هي ما في المعدوم، دون ما خرج من العدم إلى الوجود «1» .
ونظير الآية: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف 18/ 109] وليس المراد بقوله: بِمِثْلِهِ آخر مثل فقط، بل بأمثاله، لأنه مفرد مضاف فيعم، كما أن كَلِماتُ وإن كانت جمع قلة، تفيد هنا الكثرة، لأن جموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمّت، وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق جميع أفراده.
ولما بيّن الله تعالى كمال قدرته وعلمه وأن كلماته ومعلوماته لا يحيط بها أحد، أوضح أن هذا الخلق غير المنحصر قد أحاط به علما، وأنه قادر على البعث والمحشر كما قدر على الخلق أول مرة، فقال:
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كسبة خلق نفس واحدة، الجميع هيّن عليه، كما قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] وقال تعالى أيضا: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء، لا يحتاج
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 192(21/170)
إلى تكرار الأمر وتوكيده، وقال سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] فمن لا نفاد لكلماته يقول للموتى: كونوا، فيكونوا.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي كما أن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة.
وبعد بيان تسخيره تعالى ما في السموات وما في الأرض، ذكر هنا بعض ما فيهما على وجه الخصوص، بقوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ثم ذكر بعض ما في السموات بقوله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أردفه ببعض ما في الأرض بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ألم تشاهد أن الله في شأن تعاقب الليل والنهار، يزيد في زمن الليل على حساب النهار في الشتاء، ويزيد في ساعات النهار على حساب الليل في الصيف، فيأخذ من هذا ويضيفه إلى ذاك، فيطول أحدهما ويقصر الآخر.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي ذلّل النيرين لمصالح خلقه ومنافعهم، كل منهما يسير بسرعة إلى غاية محدودة، أو إلى يوم القيامة، وأن الله مطلع بدقة على جميع أعمالكم من خير وشر، ويجازيكم عليها، فهو الخالق العالم بجميع الأشياء.
ثم ذكر الله تعالى الهدف من بيان آياته فقال:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي إنما يظهر الله لكم آياته، ويبين عجائب قدرته وحكمته، لتستدلوا بها على أنه الحق، أي الموجود الثابت المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه(21/171)
باطل زائل، فهو الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، لأن جميع ما في السموات والأرض خلقه وعبيده، ولا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه وقدرته ومشيئته، وأن الله تعالى هو العلي الذي لا أعلى منه، المرتفع على كل شيء، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، العظيم السلطان، فكل شيء خاضع له.
وبعد ذكر الآيات السماوية الدالة على وجود الله تعالى وقدرته ووحدانيته، ذكر آية أرضية، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي ألم تعلم أيها المخاطب أيضا أن الله سخر البحر لتجري فيه السفن بأمره، أي بلطفه وإحسانه وتهيئة الأسباب، ليرشدكم إلى معرفته، ويظهر لكم شيئا أو بعضا من قدرته، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن، لما جرت.
إن فيما ذكر من الأدلة السماوية والأرضية لأدلة واضحة وعلامات نيّرة لكل صبّار (كثير الصبر) في الضراء، شكور في الرخاء، لأن المؤمن متذكر ربه، فيصبر إذا أصابته نقمة، ويشكر إذا أتته نعمة،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» .
ثم ذكر الله تعالى تناقض المشركين واضطرابهم من اللجوء إليه حين الضراء، ونسيانه حال السراء، فقال:
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ أي وإذا أحدقت بهم مخاطر الأمواج العالية التي تشبه الجبال والغمام، رجعوا إلى الفطرة، ودعوا الله دعاء حارّا، مخلصين له الطاعة، لا يشركون به غيره، مستغيثين به وحده، فلما رحمهم ونجوا بفضله من الأهوال المحدقة، ووصلوا إلى شاطئ البر والسلامة، فمنهم(21/172)
مقتصد في الكفر، منزجر بعض الانزجار، متجه إلى توحيد الله، ومنهم غدّار ناقض للعهد، كافر بأنعم الله، وما يكفر بآياتنا الكونية والقرآنية إلا كل كثير الغدر، كفور بما أنعم الله عليه.
ونظير الآية: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- لا يجد المشركون بدا عند سؤالهم عن خالق السموات والأرض من الإجابة بأنه هو الله تعالى، فهم يعترفون بأن الله خالقهن، فلم يعبدون غيره؟! فالحمد لله على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا ينظرون ولا يتدبرون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، ودلت الآية الثانية التي تلتها على أن جميع ما في السموات، والأرض لله ملكا وخلقا، وأن الله هو الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم بالعبادة لينفعهم، والله هو المحمود في صنعه.
2- دلت الآية الأخيرة: وَإِذا غَشِيَهُمْ على اعتراف آخر من المشركين بوجود الله ووحدانيته، فإنهم إذا تعرضوا لمخاطر الغرق بسبب اضطراب البحر، وارتفاع الأمواج، لم يجدوا بديلا غير الله للجوء إليه، فيدعونه موحدين له، لا يدعون لخلاصهم سواه، فإذا ما نجوا من البحر، ووصلوا إلى البر والأمان، فمنهم مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة، موفّ بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم كافر، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ أي لا ينكر دلائل الآيات على توحيد الله إلا كل غدّار مغرق في الكفر، جحود للنعم، لا يشكرها، بل يتناساها ولا يذكرها.(21/173)
3- إن معاني كلام الله سبحانه لا تنفد، وإنها لا نهاية لها، ولا يمكن حصرها ولا عدها، وقد دلنا على ذلك هذا البيان القرآني: وهو لو كانت الأشجار أقلاما، والبحار مدادا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، لأنه تعالى القديم الذي لا نهاية له ابتداء وانتهاء، أما المخلوق فلا بد له من بداية ومن نهاية، والمقصود من الكلمات:
الكلام القديم، والمراد بالآية الاعلام بكثرة معاني كلمات الله، هي غير متناهية في نفسها، وإنما قرّب الأمر بهذا المثال لأفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور.
وإذا كانت معاني كلام الله لا نهاية لها، فعلم الله بحقائق الأشياء لا يمكن حصره، وإنما هو واسع شامل.
والخلاصة: أن كلمات الله هي مقدوراته وعجائبه، أو معلوماته.
4- ما ابتداء خلق جميع البشر إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثهم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة، وإن الله سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون.
5- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آية سماوية دالة على قدرة الله تعالى، وقوله:
وَسَخَّرَ.. أي ذلّلهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال، وإتماما للمنافع، وجعل الطلوع والغروب في وقت محدد لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وينتهي وجودهما بانتهاء السموات والأرض يوم القيامة.
ومن قدر على هذه الأشياء، فلا بدّ من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقد فعل الله تعالى ذلك (الزيادة والنقص في الليل والنهار وتسخير(21/174)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
النيرين) لتعلموا وتقرّوا بأن الله هو الإله الحق، وأن ما عداه باطل زائل لا وجود له ولا حقيقة له، وأن الله هو العلي في مكانته، الكبير في سلطانه.
6- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي آية أرضية دالة على قدرة الله تعالى، فهو الذي جعل الماء قادرا على حمل السفن، وسيّرها إما بالهواء، وإما بتعليم الإنسان وإلهامه الاستفادة من الطاقة البخارية أو النفطية أو الذرية أو الكهربائية لجريها السريع.
كل ذلك ليرينا الله تعالى بعض آياته، ويجعلنا نشاهد بعض مظاهر قدرته في البحار، وفي ذلك علامات وعبر وعظات لكل صبّار على قضاء الله، شكور على نعمائه،
قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم تخريجه: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» .
وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
الأمر بتقوى الله وبيان مفاتح الغيب
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الإعراب:
وَاخْشَوْا يَوْماً يَوْماً منصوب على أنه مفعول وَاخْشَوْا ولا يجوز أن يكون ظرفا، لأنه يصير الأمر بالخشية في يوم القيامة، ويوم القيامة ليس بيوم تكليف، وإنما هو يوم الجزاء.(21/175)
وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ مرفوع معطوف على والِدٌ المرفوع الذي هو فاعل يَجْزِي وهُوَ تأكيد لما في مَوْلُودٌ من الضمير، ولا يجوز أن يكون هُوَ ضمير فصل، لأن الفصل لا يدخل بين النكرتين.
ماذا تَكْسِبُ غَداً ماذا منصوب ب تَكْسِبُ لا ب تَدْرِي لأن الاستفهام ينتصب بما بعده لا بما قبله، هذا إذا جعل (ما وذا) بمنزلة شيء واحد، فإن جعلا بمنزلة كلمتين، وجعلا بمنزلة (الذي) وجعل موضع ماذا مرفوعا، لم يجز نصبه ب تَدْرِي لما ذكر، وإنما نحكم على موضع الجملة بالنصب بدخوله عليها.
المفردات اللغوية:
اتَّقُوا رَبَّكُمْ خافوا عقابه. لا يَجْزِي لا يقضي فيه، أو لا يغني. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ إن تغيير النظم بين يَجْزِي وجازٍ للدلالة على أن المولود أولى بألا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث وبالثواب والعقاب صدق لا يمكن إخلافه. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ فلا تخدعنكم.
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان وكل ما غرّ الإنسان من مال وجاه، والشيطان يرجّي بالتوبة والمغفرة، فيجسّر على المعاصي.
عِلْمُ السَّاعَةِ علم وقت قيام القيامة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ بوقت يعلمه. ما فِي الْأَرْحامِ من الذكورة والأنوثة، والتمام والنقص، والحياة والموت، وغير ذلك من خواص الجنين وأحواله وأعراضه. ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وتنفيذ العزم على شيء وخلافه. بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي كما لا تدري في أي وقت تموت، والله يعلمه وحده. عَلِيمٌ بكل شيء، يعلم الأشياء كلها. خَبِيرٌ يعلم الباطن والظاهر.
سبب النزول: نزول الآية (34) :
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية هو الحارث بن عمرو «1» ، فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
__________
(1) في رواية قتادة: اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة.(21/176)
المناسبة:
بعد ذكر دلائل التوحيد من أول السورة إلى آخرها، أمر الله تعالى بتقوى الله والخوف منه، والخشية من يوم القيامة، لأنه تعالى لما كان واحدا أوجب التقوى البالغة، وأنذر الناس يوم المعاد، وأخبر بأنه حق كائن، ثم أردفه ختاما للسورة ببيان ما استأثر الله بعلمه، وهي مفاتح الغيب الخمسة، لأنه بعد هذا الإنذار كأن قائلا قال: فمتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن العلم بهذه الأمور لا يحصل لغير الله، ولكن يوم المعاد كائن لا بد منه، وإن لم يعلم الناس وقته، والله قادر عليه.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً أي يا أيها البشر من كفار ومؤمنين خافوا الله الذي خلقكم ورزقكم، وسخر لكم هذا الكون، واحذروا عقابه، واخشوا يوما شديد الهول هو يوم القيامة الذي لا يغني فيه والد عن ولده، فلو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، ولا مولود هو مغن عن والده أو نافع والده شيئا، فلو أراد فداء والده بنفسه، لم يقبل منه، إذ لا يستطيع أحد أن يشفع بأحد إلا بإذن الله، ولا جدوى عند الله إلا بالعمل الصالح الحاصل في الحياة الدنيا.
ثم أخبر الله تعالى عن حدوث هذا اليوم حتما، فقال:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعد الله بالبعث وبالثواب والعقاب أمر ثابت مؤكد حصوله، ولا شك فيه، ولا خلف لوعده.
ومقتضى التخويف الإعداد لهذا اليوم وترك التعلق بالدنيا، فقال تعالى:
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي لا تخدعنكم زينة(21/177)
الدنيا، فتطمئنوا فيها، وتميلوا إليها، تاركين الاستعداد للآخرة، ولا يخدعنكم الشيطان بحلم الله وإمهاله، فيعدكم بالمغفرة، ويحملكم على المعصية بتزيينها لكم، وينسيكم الآخرة، كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء 4/ 120] .
وفي الآية دلالة واضحة على أن الدنيا غرّارة بزخارفها ومتاعها، وأن الشيطان بوساوسه يقوي هذا الغرور بالدنيا، لصرف الناس عن الآخرة والتزود لها بصالح الأعمال.
وقيل: الغرور: الدنيا، وقيل: تمني المغفرة في المعصية، والأماني الباطلة برحمة الله واعتماده على شفاعة شافع أو كونه مسلما محبا الله ورسوله بقلبه دون عمل، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: الغرة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة. وقد ردّ القرآن على هذه التمنيات بقوله تعالى:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [النساء 4/ 123] .
ثم ذكر الله تعالى مفاتح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلام بها، فقال:
1- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إن علم وقت الساعة (أي القيامة) مختص بالله سبحانه، فلا يعلم أحد بوقته سواه، لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، كما قال: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] .
2- وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي ويختص تعالى أيضا بمعرفة وقت إنزال المطر ومكانه المعين، لا يعلمه إلا الله، فإن أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه.(21/178)
وأما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات والأمارات، وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح، فليس ذلك غيبا، وإنما هو تخمين وظن، قد يحدث نقيضه، كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة، يلاحظ فيها اتجاهات الرياح والمنخفضات الآتية من الشمال أو من الغرب مثلا.
3- وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي لا يعلم أحد إلا الله ما في الأرحام من خواص الجنين وأحواله العارضة له من طبائع وصفات وذكورة وأنوثة، وتمام خلقة ونقصها، فإن توصل العلماء بسبب التحليل الكيميائي كون الجنين ذكرا أو أنثى، فلا يعني ذلك غيبا، وإنما بواسطة التجربة، وتظل أحوال أخرى كثيرة مجهولة للعلماء، لا تعلم إلا بعد الولادة. قال القرطبي: وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك «1» .
4- وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً أي لا تعلم نفس ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها.
5- وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي وما تعلم نفس موضع موتها، في بلدها أو غيرها من بلاد الله، لا علم لأحد بذلك.
روي أن ملك الموت مرّ على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبا منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 82(21/179)
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي إن علم الله غير مختص بهذه الأمور الخمسة، بل هو عليم مطلقا بكل شيء، وليس علمه علما بظاهر الأشياء فحسب، بل خبير علمه، يعلم بواطن الأمور وظواهرها.
ويلاحظ أنه جعل العلم لله في قوله: عِلْمُ وَيَعْلَمُ والدراية للعبد في قوله: وَما تَدْرِي نَفْسٌ لما في الدراية من معنى الختل والحيلة والمعنى:
أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها.
ونظير الآية: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] .
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .
ويلاحظ أن هذه الأمور الخمسة تشتمل على الدليلين المكررين في القرآن لإثبات البعث:
أحدهما- إحياء الأرض بعد موتها، حيث قال تعالى هنا: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وقال في موضع آخر: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم 30/ 50] وقال تعالى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم 30/ 19] .
والثاني- الخلق ابتداء، حيث قال هنا: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وقال في موضع آخر: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم 30/ 27] وقال:(21/180)
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت 29/ 20] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجوب الخوف من الله تعالى وتوحيده، وخشية يوم المعاد الذي لا بد من حصوله.
2- البعد عن الاغترار بزينة الحياة وزخارفها، والاتكال عليها والركون إليها، وترك العمل للآخرة.
3- إن الدنيا غرارة، وإن الشيطان يغرّ الناس ويمنّيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة، فيصبح الإنسان مغرورا يعمل بالمعصية ويتمنى بالمغفرة!! 4- لا يعلم أحد إلا الله تعالى بأمور خمسة: هي وقت الساعة، ووقت إنزال الغيث ومكانه، وعلم ما في الأرحام من أحوال الجنين وأوصافه العارضة له، وأعمال المستقبل القريب والبعيد، ومكان وفاة الإنسان.
قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرّب، ولا نبي مرسل فمن ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.
أما الأنبياء فيعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. وبذلك يبطل كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء «1» عالمين بالغيبيات.
__________
(1) الأنواء: جمع نوء: وهو سقوط نجم في المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر من المشرق يقابله في ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.(21/181)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة السجدة
مكية، وهي ثلاثون آية.
تسميتها وفضلها:
سميت سورة السجدة لما فيها من وصف المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى ويسبحونه عند سماع آيات القرآن العظيم: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [15] .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان 76/ 1] .
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 67/ 1] .
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة لقمان من ناحية اشتمال كل منهما على أدلة التوحيد وهو الأصل الأول للعقيدة، وبعد أن ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة الأصل الثاني وهو الحشر أو المعاد، وختم تلك السورة بهذين الأصلين، بدأ هذه السورة ببيان الأصل الثالث وهو الرسالة أو النبوة، فقال تعالى:
الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ ...(21/182)
كذلك تعد بعض آيات هذه السورة شرحا وتفصيلا للسورة السالفة، فقوله تعالى هنا: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [5] توضيح لقوله تعالى في بيان مفاتح الغيب هناك: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [34] .
وقوله سبحانه هنا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [27] تفصيل لقوله هناك: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [34] .
وقوله هنا: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [7] شرح لقوله هناك:
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [34] .
وقوله هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [5] شرح لقوله هناك: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [34] .
وقوله هنا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [10- 11] إيضاح لقوله:
وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [34] .
موضوعها:
موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية وهو إثبات أصول الاعتقاد: «الإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والرسل والبعث والجزاء» ومحور الكلام إثبات (البعث) بعد الموت الذي أنكره المشركون والماديون، واتخذوه سببا لتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
مشتملاتها:
افتتحت السورة بتقرير كون القرآن العظيم بلا أدنى شك هو كتاب الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإبطال مزاعم المشركين بأن(21/183)
الرسول افترى هذا القرآن، وبيان أنه لم يأتهم رسول مثله قبله.
ثم أوردت السورة أدلة وحدانية الله وقدرته من تدبيره الكون، وخلقه الإنسان ورعايته له في أطواره التي يمر بها، ثم بعثه الخلق مرة أخرى ليوم مقداره ألف سنة مما تعدّون، بأسلوب يرد على إنكار المشركين البعث والنشور، لظنهم بسبب عجزهم أن التفتت إلى ذرّات مبعثرة مشتتة يحيل بعدئذ تجمعها وإعادتها إلى خلق جديد.
ثم وصفت السورة حال المجرمين الكافرين وحال المؤمنين الطائعين لله، فالأولون تلبسهم الذلة والمهانة، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، ويذوقون العذاب الأليم. والمؤمنون لا تفارقهم في الدنيا الطاعة في الليل والنهار، ويدعون ربهم خوفا وطمعا، وينفقون أموالهم في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جزاء عملهم الثواب الجزيل، والفضل العظيم الذي تقرّ به أعينهم، وجنات المأوى والاستقرار والخلود.
وعقّبت السورة على حال هذين الفريقين باستبعاد التسوية بينهما إذ لا يعقل مكافأة العصاة كمكافأة الطائعين.
ثم ختمت السورة بتقرير ما بدأت به، فذكرت الرسالة، وأبانت الهدف من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وهو هداية بني إسرائيل، تنبيها على وجه الشبه بين رسالة محمد ورسالة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ثم ذكرت التوحيد والقدرة وأقامت البرهان عليهما بإهلاك الأمم الظالمة في الماضي، وأخيرا أكدت حدوث الحشر الذي استبعد الكفار حصوله.
فصار مطلع السورة ومضمونها وخاتمتها إثبات أصول العقيدة وهي كما ذكرت: التوحيد، والرسالة، والبعث.(21/184)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
إثبات النبوة (الرسالة)
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ، لا رَيْبَ فِيهِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، ولا رَيْبَ فِيهِ: خبره.
ويجوز جعل تَنْزِيلُ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، ويجوز أن يكون لا رَيْبَ فِيهِ في موضع نصب على الحال من الْكِتابِ ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر المبتدأ، ومِنْ: متعلقة بالخبر المحذوف. وإذا جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبر المبتدأ كانت مِنْ متعلقة ب تَنْزِيلُ ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر ثان.
المفردات اللغوية:
الم هذه الحروف الهجائية المقطعة سيقت كما بان سابقا للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن. تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي إنزال القرآن، أو المنزّل. لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه. أَمْ بل. يَقُولُونَ: افْتَراهُ أي يقول المشركون: اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند نفسه، منكرين كونه من رب العالمين. بَلْ هُوَ الْحَقُّ أي إن القرآن هو الحق الثابت المنزل من الله. ما أَتاهُمْ قَوْماً نافية. نَذِيرٍ منذر. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك.
قال في الكشاف وأوجز البيضاوي كلامه: إنه تعالى أشار أولا إلى إعجاز القرآن، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه، فإن أَمْ منقطعة «1» ، ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه
__________
(1) هذه أَمْ المنقطعة التي تقدّر بمعنى: بل وألف الاستفهام، أي بل أيقولون؟! وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث.(21/185)
الحق المنزل من الله، وبيّن المقصود من تنزيله، فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ إذ كانوا أهل الفترة، لعلهم يهتدون بإنذارك إياهم.
التفسير والبيان:
الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ، لا رَيْبَ فِيهِ، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ افتتحت هذه السورة بهذه الأحرف كغالب السور المكية لبيان إعجاز القرآن وعظمته، والرد على المشركين المنكرين نزوله من عند الله، والمكذبين برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم. هذا القرآن العظيم لا شك في أنه منزل من عند الله على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فليس بسحر ولا شعر ولا سجع كاهن، وإنما هو كلام رب العوالم جميعهم من إنس وجنّ، وذلك رد على قولهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] .
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي بل إنهم يقولون زورا وبهتانا: اختلقه وافتعله محمد من عنده، فرد الله عليهم: بل هو الحق الثابت أي هو حق من الله ربه، أنزله إليك لتخوف وتنذر به قوما- أي قريشا ونحوهم- بأس الله وعذابه إن كفروا وعصوا، علما بأنه لم يأتهم نذير قبلك، فتبين لهم طريق الرشاد، ولعلهم يهتدون بإنذارك إياهم.
وهذا إثبات لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبرهان واضح على صدقه، وردّ لقول المشركين: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان 25/ 4] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات أن القرآن الكريم كلام الله الذي لا شك فيه أنه من عند(21/186)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
الله، فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين، كما يزعم المشركون الأفاكون الوثنيون، والكفار المتعصبون لدين سابق.
وبعد أن أثبت الله تعالى أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، أضرب عن ذلك (أي انتقل) إلى قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ثم كذبهم في دعوى الافتراء.
ثم بيّن الله تعالى مهمة القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم وهي إنذار الكافرين عذاب الله، ومنهم قريش، قال قتادة في تفسير قوله تعالى: قَوْماً يعني قريشا، كانوا أمّة أمّية لم يأتهم ندير من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
دلائل التوحيد والقدرة الإلهية
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
الإعراب:
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلق: فعل ماض، وموضع الجملة إما النصف صفة لكل، وإما الجر(21/187)
صفة لشيء، ومعناه: أحسن كلّ شيء مخلوق له. ومن قرأ بسكون اللام جعله بدل اشتمال أي بدلا من قوله تعالى: كُلَّ شَيْءٍ أو مفعولا ثانيا ل أَحْسَنَ بمعنى أفهم فيتعدى إلى مفعولين.
مِنْ وَلِيٍّ من زائدة لتأكيد النفي، أي ليس لكم ناصر مطلقا.
البلاغة:
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق.
وَجَعَلَ لَكُمُ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: وجعل له فعدل إلى ضمير الجماعة، مراعاة لخطاب الإنسان الذي صار حيّا بنفخ الروح فيه مع ذريته.
المفردات اللغوية:
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من الأحد إلى الجمعة، والأيام: جمع يوم، وهو عند العرب جزء من اليوم، ويراد به لغة: الوقت. اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ العرش: أعظم المخلوقات، وهو لغة:
سرير الملك، والاستواء عليه: هو شيء يليق بالله عز وجل دون حصر ولا كيف ولا تحديد بجهة معينة. ما لَكُمْ أيها الكفار وغيركم. مِنْ دُونِهِ من غيره. مِنْ وَلِيٍّ أي ناصر. وَلا شَفِيعٍ يشفع بكم ليدفع العذاب عنكم. والمعنى: ليس لكم غير الله ناصر ولا شفيع، بل هو الذي يتولى مصالحكم، وينصركم في مواطن النصر. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ بمواعظ الله فتؤمنوا؟! يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبر أمر الدنيا مدة بقائها، وينظم شؤونها وأحوالها الواقعة فيها تدبيرا وتنظيما شاملا مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ثم يصعد إليه ويرجع الأمر والتدبير ويثبت في علمه. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، أي يصعد إليه في برهة من الزمان متطاولة وهو يوم القيامة، وتقديره بألف سنة لشدة أهواله بالنسبة إلى الكافر، وأما المؤمن فيكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا، كما جاء في الحديث الثابت. ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ذلك الخالق المدبر يدبر الكون على وفق الحكمة، وعلى وفق علمه الشامل الذي يعلم ما غاب عن الخلق وما حضر، المنيع في ملكه، الغالب على أمره، الرحيم بأهل طاعته وتدبيره أمر العباد. قال البيضاوي: وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي مصالح الناس تفضلا وإحسانا.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أتقن ما خلقه، موفرا له كل ما يحتاجه على وفق الحكمة والمصلحة. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم نَسْلَهُ ذريته، سميت به لأنها تنسل منه أي تنفصل. مِنْ سُلالَةٍ نطفة. مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن ضعيف، وهو النطفة. ثُمَّ سَوَّاهُ قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي وأتّمه. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضافه إلى نفسه تشريفا،(21/188)
وإشعارا بأنه خلق عجيب، وأن له شأنا، والمعنى: جعله حيا حساسا بعد أن كان جمادا. وَجَعَلَ لَكُمُ لذريته. السَّمْعَ أي الإسماع. وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ خصص هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرون شكرا قليلا، وما زائدة مؤكدة للقلة.
المناسبة:
بعد ما أثبت الله تعالى صحة الرسالة، ذكر ما يجب على الرسول من الدعوة إلى توحيد الله، وزوده بما يحتاجه من إقامة الأدلة والبراهين على ذلك، لإنجاح مهمته.
التفسير والبيان:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي إن الله تعالى هو خالق الأشياء، فخلق السموات والأرض وأبدعهما وفطرهما وما بينهما لا على مثال سابق، في مدة ستة أيام، أي في أجزاء ستة من الوقت، ليست هي الأيام المعروفة لأنه قبل خلقها لم يكن ليل ولا نهار. وقال الحسن البصري:
«من أيام الدنيا» ولو شاء لخلقها بلمح البصر، ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى على ملكه يدبر أمره ويحكم شأنه، أو استوى استواء يليق بجلاله وعظمته على العرش الذي هو أعظم المخلوقات، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا يحده زمان ومكان، ولا تدركه الأبصار إدراك إحاطة وشمول، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ليس لكم أيها الناس، ولا سيما الكفار من غير الله ناصر يدفع عنكم عذابه ويلي أموركم، ولا شافع يشفع لكم عنده إلا بإذنه، بل هو المالك المطلق لكل شيء، فيتولى ما فيه المصلحة، ويدبر الأمور، دون تدخل من أحد، ولا حاجة لأحد لأنه وحده القادر على كل شيء، والمهيمن على جميع الأشياء.(21/189)
أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ أي أفلا تتدبرون وتتعظون، فتؤمنوا بالله وحده لا شريك له. ولا نظير ولا وزير، ولا عديل له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
والمراد: حمل الناس على الإيمان بالله إلها وربا، يعبد وحده، ويطاع لذاته، فهو المستعان على كل أمر، وهو المانع من السوء، والجالب للخير والنفع، والمحقق للمصلحة، دون حاجة لأحد ولا لشيء، لذا قال مبينا الأمر بعد بيان الخلق: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف 7/ 54] .
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي يدبر أمر الكون كله في العالم العلوي والسفلي، ثم يصعد إليه أثر الأمر وتنفيذه بواسطة الملائكة، وهذا تمثيل لعظمة الله وامتثال المخلوقات جميعا لمراده وتدبيره، كالحاكم المطلق الذي يصدر أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي ترفع الأمور الحاصلة في الدنيا صغيرها وكبيرها إلى الله تعالى يوم القيامة ليفصل فيها ويحكم في شأنها، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي نعدّها في هذه الحياة.
والمراد بالألف: الزمن المتطاول الذي هو في لغة العرب أقصى نهاية العدد.
وفي موضع آخر وصف الله تعالى مقدار هذا اليوم بخمسين ألف سنة: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] قال القرطبي: المعنى أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر.
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 88(21/190)
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي المدبر لهذه الأمور هو العالم بجميع الأشياء، يعلم ما يغيب عن الأبصار، مما يجول في خلجات النفس، وما لا تدركه العين المجردة، ويعلم ما هو مشاهد تعاينه الأبصار، وهو العزيز الذي قد عزّ كل شيء، فقهره وغلبه، ودانت له العباد والرقاب، القوي الشديد في انتقامه ممن كفر به وأشرك معه غيره، وكذب رسله، وهو الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين القانتين التائبين الذين يعملون الصالحات، يرحمهم في تدبير شؤونهم في الدنيا وفي الآخرة.
وبعد إثبات الوحدانية بالآفاق من خلق السموات والأرض، ذكر تعالى الدليل الدال عليها من الأنفس، فقال:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ أي إن ذلك المدبر للأمور العليم الخبير القوي الرحيم هو الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها، وبدأ خلق أبي البشر آدم من طين، والطين مكوّن من ماء وتراب.
وكذلك يعتمد الإنسان في تكوينه وبقاء حياته على الطين لأن المني ناشئ من الغذاء، والغذاء إما من الحيوان وإما من النبات، وكلاهما يعتمد على ما تخرجه الأرض الترابية.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ثم جعل ذرية الإنسان يتناسلون من امتزاج نطفة الرجل بماء المرأة الذي فيه البويضة التي تتلقح بنطفة الرجل، فيتم التوالد والتناسل وبقاء النوع الإنساني من خلاصة من ماء ضعيف ممتهن عادة وهو المني.
ثُمَّ سَوَّاهُ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي ثم بعد خلقه من تراب جعله سويا مستقيما، فقوّم أعضاءه، وعدّلها، وأتمها، ونفخ فيه الروح التي هي من أمر الله والتي لا يعرف حقيقتها إنسان، فبدأ(21/191)
يتحرك وينمو، وأنعم عليكم بالحواس مفاتيح المعرفة وصمامات الأمان، فمنحكم السمع الذي تسمع به الأصوات، والأبصار التي تبصر بها المرئيات، والعقول التي تفكرون بها، وتميزون بين الخير والشر، والحق والباطل.
وهكذا يلاحظ التدرج في الخلقة وأطوار الإنسان، فهو ينشأ أولا من مادة هي الطين اللازب، ثم تصبح هذه المادة ذات إفرازات حية، يتم بها تكوين الجنين، ثم تتحرك المادة بالروح التي هي من الحق تعالى، فيصبح خلقا جديدا سويا في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنكم أيها الناس لا تقابلون هذه النعم بالعرفان والوفاء، والشكر والامتنان، وإنما تشكرون ربكم قليلا على هذه النعم التي رزقكم الله تعالى، باستعمال تلك الحواس في طاعة الله واتباع مرضاته.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- هناك دلائل كثيرة على توحيد الله وكمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، منها إبداع السموات والأرض وإيجادها بعد العدم، وبعد أن لم تكن شيئا، في أجزاء من الزمن الله أعلم بمقدارها، وقد قرّبها لعقولنا وعبر عن طولها بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الأيام الستة، فقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض مقداره ألف سنة من سنيّ الدنيا.
وقال الضحاك: في ستة آلاف سنة أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة.
2- والاستواء على العرش استواء يليق بجلال الله وكماله دون تحديد ولا(21/192)
حصر، وهو الأصح أو التمكن والسلطة على الكون المخلوق حاصل مع خلق السموات والأرض، فليست ثُمَّ للترتيب، وإنما هي بمعنى الواو.
3- إن الله عز وجل ولي المؤمنين الذي يتولى مصالحهم وناصرهم وشفيعهم، فإذا تجاوز الناس رضاه لم يجدوا لأنفسهم وليا، أي ناصرا ينصرهم ولا شفيعا يشفع لهم، وعليه، ليس للكافرين من ولي يمنع عنهم العذاب، ولا شفيع يتوسط لهم فيرفع عنهم العقاب.
فهل من متذكر معتبر في قدرة الله ومخلوقاته؟! 4- ويأتي الأمر بعد الخلق، للدلالة على عظمة الله، فإن نفاذ أمر الله في الكون دليل على عظمته، لذا كان الأمر والتدبير في الكون وإنزال القضاء والقدر، ونفاذ هذا التدبير من مظاهر عظمة الله تعالى، ومجموع هذه الأوامر النافذة كلها عائد إلى الله يوم القيامة، فقوله: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ معناه يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا، فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هو يوم القيامة، وقد يكون لشدة أهواله وبحسب أحوال بعض الناس في مدة مقدارها خمسون ألف سنة، كما قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] .
ورأى الزمخشري في الكشاف أن المراد من الأمر: المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم يصعد إليه المأمور خالصا في مدة متطاولة لقلة عمال الله والخلّص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ثم يثبت ذلك الأمر الصاعد ويصير إلى الله في كل وقت إلى أن تبلغ المدة آخرها في يوم القيامة الذي هو من أيام الله، ويوم الله كألف سنة، ثم يدبر الله أيضا الأمر ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة «1»
__________
(1) الكشاف: 2/ 522- 523(21/193)
5- الله تعالى في خلقه وتدبيره وحسمه أمر الدنيا بالقيامة يعلم ما غاب عن الخلق وما حضرهم، فلا تفوته مصلحة، ولا تخفى عليه خافية من أعمال المخلوقات. وفي هذا الكلام معنى التهديد والوعيد، يراد به أن أخلصوا أفعالكم وأقوالكم، فإني أجازي عليها.
6- لله القدرة البالغة التي لا توصف عظمتها وحدودها، فقد خلق أصل الإنسان من طين، ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من ماء ممتهن ضعيف، ثم أكمله وأتمه وعدّله ونفخ فيه الروح، وخلق فيه حواس السمع والبصر والعقل أدوات المعرفة ووسائل إدراك الحق والهدى، وتلك نعم عظمي تستحق الشكر والوفاء بالمعروف، لكن أكثر الناس كافرون لا يشكرون، وقليل من عباده الشكور.
ويلاحظ أن الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة لأن الإنسان يسمع أولا الأمور فيفهمها، ثم يبصر الأمور، ثم يحصل له بعد السمع والبصر الإدراك التام والذهن الكامل، فيستخرج الأشياء مما سمع ورأى.
وسبب ذكر السمع مصدرا، والأبصار والأفئده اسما، فجمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع: هو لحكمة هي أن الإنسان لا يسمع في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما، ولا اختيار لمحل السمع وهو الاذن، ويدرك في زمان واحد صورتين فأكثر بالعين ويعيهما ويستبينهما في القلب، ولمحل البصر وهو العين شبه اختيار، فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون غيره، وكذلك الفؤاد محل الإدراك له نوع اختيار، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة.(21/194)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
إثبات البعث وحال الكفار يوم القيامة
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 14]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
الإعراب:
أَإِذا ضَلَلْنا إِذا: ظرف متعلق بفعل مقدر، تقديره: أنبعث إذا ضللنا في الأرض، أي غبنا وبلينا.
إِذِ الْمُجْرِمُونَ إِذِ تتعلق ب تَرى والْمُجْرِمُونَ مبتدأ، وناكسو رؤوسهم:
خبره، ورَبَّنا أَبْصَرْنا تقديره: يقولون: ربنا أبصرنا، فحذف القول، كما هو المعتاد الكثير في كلام العرب.
البلاغة:
أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ استفهام إنكاري بقصد الاستهزاء.
رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فيه إضمار تقديره: يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا.(21/195)
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ تقديم الجار والمجرور للاختصاص، أي إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة.
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ.. حذف جواب «لو» للتهويل. أي لرأيت أمرا مهولا.
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ بينهما مشاكلة: وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، فإن الله تعالى لا ينسى، وإنما المراد نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي منكرو البعث. ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ غبنا فيها وبلينا وهلكنا، بأن صرنا ترابا مختلطا بتراب الأرض لا نتميز منه. أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أنبعث أو يجدد خلقنا، والقائل أبي بن خلف، وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. وهو استفهام إنكار غرضه الاستهزاء. بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي بل هم بالبعث جاحدون.
قُلْ لهم. يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي يقبض أرواحكم ملك الموت، حتى لا يبقى أحد منكم. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي تعودون أحياء للحساب والجزاء، فيجازيكم ربكم بأعمالكم. الْمُجْرِمُونَ الكافرون. ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ خافضوها ومطأطئوها حياء وخزيا.
رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي يقولون: يا ربنا أبصرنا ما وعدتنا من البعث وسمعنا منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه. فَارْجِعْنا إلى الدنيا لنعمل صالحا فيها. إِنَّا مُوقِنُونَ الآن، ولم يبق لنا شك بما شاهدنا، ولكن لا ينفعهم ذلك، ولا يرجعون. وجواب وَلَوْ تَرى.. محذوف تقديره: لرأيت أمرا فظيعا مهولا.
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له والاختيار من النفس. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت قضائي وسبق الْجِنَّةِ الجن.
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تقول لهم خزنة النار إذا دخلوها: ذوقوا العذاب بترككم الإيمان باليوم الآخر، فهذا سبب العذاب. إِنَّا نَسِيناكُمْ تركناكم في العذاب ترك المنسي.
وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي عذاب جهنم الدائم. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر وتكذيب الرسل. وقد كرر الأمر للتأكيد. وفي التعليل بأمرين: وهما الأفعال السيئة من التكذيب والمعاصي، وترك التفكر في أمر الآخرة دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك.
المناسبة:
بعد بيان الوحدانية ودليلها في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ(21/196)
وَالْأَرْضَ
وبيان الرسالة وبرهانها في قوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أخبر الله تعالى عن البعث وطريق إثباته للرد على المشركين المنكرين له، وهذا على عادة القرآن كلما ذكر أصلين من أصول الاعتقاد الثلاثة ذكر الأصل الثالث، وهو هنا الحشر في قوله تعالى: وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ.
التفسير والبيان:
وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي يخبر الله تعالى عن المشركين الذين استبعدوا المعاد حيث قالوا: أءذا صارت أجسامنا ترابا في الأرض، أيمكن أن نعود خلقا جديدا بعد تلك الحال؟! وهذا الاستبعاد إنما هو بتقديرهم وقياسهم حيث قاسوا قدرة الله على قدراتهم، فهم يرون أن البعث بعيد بالنسبة إلى قدراتهم العاجزة، لا بالنسبة إلى قدرة الإله الخالق الذي بدأهم وخلقهم من العدم، والذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ ولهذا قال تعالى منكرا قياسهم وآراءهم:
بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي إن هؤلاء المشركين لم ينكروا قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار البعث، فهم جاحدون لقاء ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء.
فرد الله عليهم بقوله:
قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي قل للمشركين يا محمد: إن ملك الموت الموكّل بقبض الأرواح يقبض أرواحكم في الوقت المحدد لانتهاء الأجل، ثم في نهاية الدنيا بعد الموت ستعودون أحياء كما كنتم قبل الوفاة، وذلك يوم المعاد وبعد القيام من القبور، للحساب والجزاء، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.(21/197)
وهذا إثبات للبعث مع التهديد والوعيد، وبيان أن القادر على خلق الناس أول مرة قادر على إحيائهم مرة أخرى.
ثم أخبر الله تعالى عن حال المشركين حين معاينة البعث والحساب يوم القيامة فقال:
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ أي ولو تشاهد أيها الرسول حين يقوم هؤلاء المشركون بين يدي ربهم خافضي رؤوسهم من الحياء منه والخزي والعار لرأيت عجبا وأمرا فظيعا، فتراهم يقولون: ربّنا نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك، لقد أبصرنا الحشر وسمعنا تصديقك للرسل فيما كذبناهم فيه، فارجعنا إلى دار الدنيا نعمل ما يرضيك من صالح الاعتقاد والقول والعمل، فهم يلومون أنفسهم حين دخول النار، كما أخبر تعالى عنهم: وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك 67/ 10] . قال الزجاج في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى: المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته.
وإنا الآن قد أيقنا بوحدانيتك، واستحقاقك العبادة دون غيرك، وتحققنا أن وعدك بالبعث حق ولقاءك حق، وأنك القادر على الإحياء والإماتة.
ولكن الله يعلم أنه لو أعادهم إلى الدنيا، لكانوا فيها كفارا كما كانوا، يكذبون بآيات الله، ويخالفون رسله، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 27- 28] .
وقال تعالى هنا:
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي ولو أردنا أن نوفق كل نفس(21/198)
ونلهمها الهداية إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، كما قال تعالى في آية أخرى:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] .
ولكن حكمتنا قضت ترك أمر الإيمان والعمل الصالح للاستعدادات والخيار، دون الإكراه والاضطرار، كما قال سبحانه:
وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي ولكن ثبت قضائي، وسبق أنه لا بد من ملء جهنم من صنفي الجن والإنس الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم وسوء اختيارهم، وفحش اعتقادهم وعملهم، فهم الظالمون أنفسهم، وقد علم الله مسبقا قبل خلقهم أن مآلهم إلى النار، فحقّ الوعيد، وحق الجزاء.
لذا استحقوا أيضا التوبيخ، فقال تعالى:
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، وعملكم عمل الناسي له، لذا فإنا سنعاملكم معاملة الناسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شيء، وهذا ما يسمى بأسلوب المقابلة أو المشاكلة، مثل قوله:
وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية 45/ 34] وقوله:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] .
ويقال لهم أيضا على سبيل التأكيد: وذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم، كما قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ 78/ 24- 30] .(21/199)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- أنكر المشركون البعث لأنهم قاسوا قدرة الله الخالق على قدرة العبد المخلوق العاجز، فقالوا: أءذا هلكنا وصرنا ترابا نخلق بعد ذلك خلقا جديدا؟
2- الحقيقة أن المشركين لا يجحدون قدرة الله تعالى بالإعادة لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألا حساب عليهم، وأنهم لا يلقون الله تعالى.
3- من مظاهر قدرة الله سبحانه أنه المميت الذي يتوفى الأنفس ويقبض الأرواح عند انتهاء آجالها، وأن ملك الموت واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله يتصرف كل تصرفه بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه، فيخلق الله على يديه قبض الأرواح،
ذكر ابن عطية حديثا أن «البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت»
كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم، فالله هو الفاعل حقيقة، والملك واسطة ووكيل، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر 39/ 24] وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ
[الملك 67/ 2] وقال عز وجل: يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران 3/ 156] فملك الموت يقبض، والأعوان يعالجون، والله تعالى يزهق الروح، لكنه لما كان ملك الموت متولّي ذلك بالوساطة والمباشرة، أضيف التوفّي إليه، كما أضيف الخلق للملك.
روي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال: «ربّ جعلتني أذكر بسوء، ويشتمني بنو آدم، فقال الله تعالى له: إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها، فلا يذكرك أحد إلا بخير» .
4- استدل بعض العلماء بقوله تعالى: وُكِّلَ بِكُمْ أي بقبض الأرواح على جواز الوكالة.(21/200)
5- إن حال المشركين يوم القيامة يدعو للعجب، فهم عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم خافضو الرؤوس من الحياء والندم، والخزي، والذل والغم والحزن، ويقولون: ربّنا أبصرنا ما كنا نكذب، وسمعنا ما كنا ننكر، فارجعنا إلى الدنيا نعمل العمل الصالح الذي يرضيك، إنا مصدّقون بالبعث وبالذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه حق.
قال سفيان الثوري: فأكذبهم الله تعالى، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] .
وقال محمد بن كعب القرظيّ: لما قالوا: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ ردّ عليهم بقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي حق القول مني لأعذبنّ من عصاني بنار جهنم، وعلم الله تعالى أنه لو ردّهم لعادوا.
وهذه الهداية: معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه، وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره.
وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع لقطعهم بأن المراد: هداها إلى الإيمان.
وللإمامية جواب آخر: هو أن هداية الله سبحانه بالإلجاء والإجبار(21/201)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
والإكراه ممنوعة، والمراد الهداية إلى الإيمان والطاعة بالاختيار، حتى يصح التكليف، فمن شاء الله آمن وأطاع اختيارا، لا جبرا، قال الله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير 81/ 28] وقال: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الدهر 76/ 29] ثم عقّب هاتين الآيتين بقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الدهر 76/ 30] فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفى أن يشاءوا إلا ان يشاء الله.
وتوسط أهل السنة فلم يقولوا بالإجبار كالمجبرة، ولا بالاختيار المطلق كالقدرية، وخير الأمور أوساطها، وقالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، كالتفرقة بين حركة الارتعاش غير الإرادية وحركة الاختيار، وسموا هذه المنزلة الوسطى كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة 2/ 286] .
6- يقال للمجرمين يوم القيامة على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم رسل الله، وإنكاركم البعث، وترككم العمل له كالناسين، والله يعاملكم معاملة الناسي والمنسيين لأن الجزاء من جنس العمل، وذوقوا العذاب المخلّد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم بسبب أعمالكم في الدنيا من المعاصي.
صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم عند ربهم في الآخرة
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)(21/202)
الإعراب:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ.. جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير خَرُّوا. وكذلك جملة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ منصوبة على الحال، وكذلك سُجَّداً حال، وكذلك موضع وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وكذلك موضع مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ كلها منصوبات على الحال من ضمير خَرُّوا وسَبَّحُوا.
خَوْفاً وَطَمَعاً إما منصوبان على المفعول لأجله أو منصوبان على المصدر.
ما أُخْفِيَ لَهُمْ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي، وصلته أُخْفِيَ والعائد مقدر، أي لهم، وهو منصوب ب تَعْلَمُ. وإما استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وأُخْفِيَ خبره. هذا على قراءة أُخْفِيَ فعل مضارع. وأما على قراءة أُخْفِيَ المبني للمجهول، يكون ما منصوبا ب أُخْفِيَ أي فلا تعلم نفس أي شيء أخفي لهم، ولا يجوز أن يعمل فيه تَعْلَمُ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا ينصب بما قبله وإنما ينصب بما بعده.
البلاغة:
خَوْفاً وَطَمَعاً بينهما طباق.
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ كناية عن كثرة العبادة ليلا.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنَا القرآن ذُكِّرُوا وعظوا خَرُّوا سُجَّداً سقطوا ساجدين، خوفا من عذاب الله وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ نزّهوه عما لا يليق به، كالعجز عن البعث، حامدين له، خوفا من عذاب الله، وشكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى، فقالوا: سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والطاعة، كما يفعل من يصرّ مستكبرا.
تَتَجافى ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ جمع جنب، وهو شق الإنسان عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش ومواضع النوم، جمع مضجع، وهو مكان النوم أو الاضطجاع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ داعين إياه خَوْفاً من سخطه وعقابه وَطَمَعاً في رحمته، فسرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام العبد من الليل يُنْفِقُونَ يتصدقون، أو ينفقون في وجوه الخير.(21/203)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما أُخْفِيَ لَهُمْ خبئ لهم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي من شيء تقرّ به عيونهم وتسرّ،
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة: «يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرا، بله «1» ما أطلعكم عليه، اقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» .
سبب النزول: نزول الآية (16) :
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ: أخرج البزار عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد، وناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ لكن في إسناده ضعيف. وذكره الواحدي النيسابوري عن مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن هذه الآية فيمن نزلت، فقال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلون من المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا مروي عن قتادة وعكرمة.
وأخرج الترمذي وصححه عن أنس: أن هذه الآية نزلت في انتظاره الصلاة التي تدعى «العتمة» أي العشاء.
وعن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: هي قيام العبد أول الليل.
وقال الحسن البصري ومجاهد ومالك والأوزاعي: نزلت في المتهجدين الذين يقومون الليل إلى الصلاة.
ويدل على صحة هذا السبب
ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر «2» ، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبي
__________
(1) بله: اسم فعل مبني على الفتح مثل كيف، ومعناها: دع عنكم ما أطلعكم عليه، فالذي لم يطلعكم أعظم.
(2) في غزوة تبوك.(21/204)
الله، أخبرني عما يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت ثم قال:
ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- حتى بلغ- جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم» .
المناسبة:
بعد بيان حال الكافرين في موقف الحساب يوم القيامة من ذلة وخزي وخجل، وما يتعرضون له من عذاب شديد مخلّد، أبان الله تعالى حال أهل الإيمان في الدنيا من طاعة ربهم وتعظيمه وحمده والتقرب إليه بالنوافل، وما أعد لهم من نعيم وسرور، جزاء على أعمالهم.
التفسير والبيان:
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي إنما يصدّق بآيات القرآن والآيات الكونية وبالرسل المرسلين(21/205)
الذين إذا وعظوا بها واستمعوا لها بعد تلاوتها عليهم، سقطوا بأعضائهم وجباههم ساجدين لله، تذللا وخضوعا، وإقرارا بالعبودية، ونزّهوه في سجودهم عما لا يليق به من أوضار الشرك كاتخاذ الصاحبة والولد والشريك، حامدين ربهم على آلائه ونعمه، أي جامعين بين التسبيح والتحميد بأن يقولوا: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى، وهم لأن قلوبهم عامرة بالإيمان لا يستكبرون عن طاعة ربهم، واتباع الآيات والانقياد لها، كما يفعل الكفرة الجهلة الفجرة الذين يتولون مستكبرين، فلهم عذاب أليم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] .
هذه أوصاف المؤمنين: العبادة، والتقديس مع الحمد، والطاعة والانقياد، ثم ذكر الله تعالى لهم أوصافا أخرى: هي التهجد أو قيام الليل، والدعاء الخالص لله، والإنفاق في وجوه الخير: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي تترفع جوانبهم عن أماكن النوم والراحة، يبادرون إلى قيام الليل تهنأ نفوسهم بمناجاة ربهم، وتقرأ عينهم وترتاح ضمائرهم بالعبادة، ويدعون ربهم دعاء خالصا موقنين بالإجابة، خوفا من العقاب، وطمعا بالرحمة وجزيل الثواب، وينفقون بعض أموالهم في سبل الخير والبر ومرضاة الله، فيجمعون بين فعل القربات الشخصية والقربات الاجتماعية.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله تعالى، فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه» .(21/206)
وذكر الثعلبي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين، جاء مناد، فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون، وهم قليل، ثم يرجع، فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله على كل حال في السرّاء والضّرّاء، فيقومون وهم قليل، فيسرّحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس» .
ثم ذكر الله تعالى جزاء أولئك المؤمنين الموصوفين بما تقدم فقال:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فلا يعلم أحد على الإطلاق من الملائكة والرسل عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، جزاء عدلا مقابلا لصالح أعمالهم التي أخفوها فلم يراءوا بها الناس، فأخفى الله ثوابهم.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
وروى الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وإنه في القرآن:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- من صفات المؤمنين أنهم يخرون سجدا لله تعالى على وجوههم، تعظيما(21/207)
لآياته، وخوفا من سطوته وعذابه، وأنهم يقرنون التسبيح أي التنزيه بالتحميد، فيقولون في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى وبحمده أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين.
وهم أيضا ينقادون لأمر ربهم، فلا يستكبرون عن عبادته، كما استكبر أهل مكة وأمثالهم بعدهم عن السجود لله تعالى.
2- ومن صفات المؤمنين أيضا: ملازمة قيام الليل، أي صلاة التهجد في الثلث الأخير من الليل، وقيل عن قتادة وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والعشاء. ومع تجافي جنوبهم عن المضاجع هم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم، خوفا من العذاب، وطمعا في الثواب، ويتصدقون بفضول أموالهم وتلك هي النوافل بعد أداء الزكاة المفروضة.
وقد وردت أحاديث كثيرة ذكرت بعضها في فضل قيام الليل.
3- إن جزاء أولئك المؤمنين مفتوح وعظيم جدا، لا يعلم حقيقته غير الله عز وجل، فلا يدري أحد ما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك.
وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا، كما
جاء مبيّنا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «سأل موسى عليه السلام ربّه فقال: يا ربّ، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربّ، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربّ، فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربّ، فيقال: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك، فيقول: رضيت ربّ.(21/208)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قال: فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال:
ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
البلاغة:
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى.. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ بينهما ما يسمى بالمقابلة، وذلك بين الوصفين والجزاءين.
الْأَدْنى الْأَكْبَرِ بينهما طباق لأن الأكبر هو الأقصى.
المفردات اللغوية:
مُؤْمِناً مصدقا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فاسِقاً كافرا خارجا من الإيمان والطاعة وأحكام الشرع، فهو أعم من الكفر، وقد يرادفه كما في آية: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور 24/ 55] وأصل الفسق: الخروج،(21/209)
يقال: فسقت الثمرة: إذا خرجت من قشرها لا يَسْتَوُونَ المؤمنون والفاسقون في الشرف والمثوبة، وجمع الفعل بعد كلمتي مُؤْمِناً وفاسِقاً للحمل على المعنى.
جَنَّاتُ الْمَأْوى جنات المسكن الحقيقي، أما مساكن الدنيا فمرتحل عنها نُزُلًا المراد هنا: ثوابا وجزاء، وأصل النزل: ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت، ثم أطلق على كل عطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم أو على أعمالهم.
فَسَقُوا بالكفر وتكذيب الرسل أُعِيدُوا فِيها يراد به خلودهم فيها ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ.. إهانة لهم وزيادة في غيظهم الْعَذابِ الْأَدْنى أي الأقرب والأقل، وهو عذاب الدنيا الذي تعرضوا له بالجدب سبع سنين والقتل والأسر والأمراض دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي قبل عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل من بقي منهم يتوبون عن الكفر، روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا يوم بدر، فنزلت هذه الآيات.
بِآياتِ رَبِّهِ الآيات القرآنية والكونية ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها فلم يتفكر فيها. وثُمَّ لاستبعاد الإعراض عنها، مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة، بعد التذكير بها عقلا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي من المشركين منتقمون.
سبب النزول: نزول الآية (18) :
أخرج الواحدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحدّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ
قال: يعني بالمؤمن عليا، وبالفاسق الوليد بن عقبة.
المناسبة:
بعد بيان حال المجرم والمؤمن، سأل العقلاء: هل يستويان؟ وبعد الجواب(21/210)
أو البيان بأنهما لا يستويان، ذكر الله تعالى تفاوتهما في المنزلة والحكم يوم القيامة، عملا بمقتضى عدله وكرمه.
التفسير والبيان:
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ أي هل يستوي المؤمن بالله ورسوله، المطيع لأمر ونهيه، والكافر الخارج عن طاعة ربه، المكذب رسل الله إليه؟ والجواب: لا يستوي المؤمنون والفاسقون عند الله يوم القيامة.
ونظير الآية قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية 45/ 21] وقوله سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] وقوله عز وجل: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] .
ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريقين في الآخرة فقال:
1- أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى، نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن الذين صدقت قلوبهم بآيات الله ورسله، وعملوا صالح الأعمال، فلهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية، ثوابا وجزاء وتكريما لهم على أعمالهم الحسنة وأفعالهم الطيبة التي فعلوها في الدنيا.
وقوله في حق المؤمنين فَلَهُمْ بلام التمليك زيادة إكرام.
2- وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي وأما الذين فسقوا أي كفروا بالله، وخرجوا عن الطاعة، وعملوا السيئات، فمأواهم النار التي يأوون إليها ويستقرون فيها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم فيها، فقال:(21/211)
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها أي كلما عزموا على الخروج منها من شدة العذاب والأهوال، أعيدوا فيها، ودحروا إليها، أي أنهم مخلّدون فيها، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، أُعِيدُوا فِيها [الحج 22/ 22] .
قال الفضيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا وتهديدا:
وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي تذوقوا وتحملوا عذاب النار الذي كذبتم به في الدنيا فإن الله أعدّه للمشركين به.
وهناك عذاب آخر سابق له:
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ولنذيقن الكفار والعصاة شيئا من العذاب الأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا من المصائب والآفات كالجوع والقتل والسبي، قبل مجيء وحدوث العذاب الأشد الأعظم وهو عذاب القيامة، ليرجعوا عن ضلالهم إلى الهدى والرشد، ويثوبوا عن الكفر، ويؤمنوا بربهم، ويصدقوا برسولهم.
والترجي في قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ محال على الله تعالى، فيراد به تعليل ذلك الفعل بأمر الرجوع، كما يقال: فلان اتجر ليربح، أو يكون معناه:
لنذيقنهم إذاقة الراجين، أو إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
ثم ذكر الله تعالى سببا عاما للعقاب وهو ظلم الناس، فقال:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها، إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي لا أحد أظلم ممن ذكّره الله بآياته القرآنية ومعجزات رسله، وبيّنها(21/212)
له ووضحها، ثم تركها بعد ذلك وجحدها، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها، فإننا سننتقم أشد الانتقام من الكفار الذي كفروا بالله واقترفوا المعاصي والمنكرات.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، فقد أجرم، يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- ليس في حكم الله وعدله ولا في ميزان العقل السليم أن يسوّى بين المؤمن والفاسق في الثواب والجزاء في يوم القيامة.
2- يترتب على نفي المساواة بين المؤمن والكافر منع القصاص- في رأي الجمهور غير الحنفية- بينهما إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. ورأى أبو حنيفة قتل المسلم بالذمي، وقال: أراد نفي المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب، وفي الدنيا في العدالة.
وحمله الجمهور على عمومه، إذ لا دليل يخصه.
3- مقر المؤمنين في الآخرة ثوابا وجزاء: جنات المأوى، أي يأوون إلى الجنات فأضاف الجنات إلى المأوى لأن ذلك الموضع يتضمن جنات.
ومقام الفاسقين الخارجين عن الإيمان إلى الكفر النار، وهم فيها خالدون،
__________
(1) قال ابن كثير عن هذا الحديث: وهذا حديث غريب جدا. [.....](21/213)
فكلما دفعهم لهب النار إلى أعلاها، ردّوا إلى موضعهم فيها لأنهم يطمعون في الخروج منها.
وتقول خزنة جهنم لهم، أو يقول الله لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون، ذوقا حسيا ومعنويا.
ويلاحظ من قوله تعالى: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر، أما الكفر إذا جاء فلا التفات بعده إلى الأعمال، لذا قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ولم يقل: وعملوا السيئات لأن المراد من فَسَقُوا كفروا.
4- للكافرين أيضا عذاب آخر في الدنيا وهو مصائب الدنيا وأسقامها، مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا. وينتظرهم العذاب الأكبر وهو عذاب يوم القيامة.
وذلك العذاب إنذار، لعله يرجع من بقي منهم إلى الرشاد والهداية فإن عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديدا ولا مديدا لأنه يعقبه الموت، أما عذاب الآخرة فهو شديد ومديد.
5- لا أحد أظلم لنفسه ممن ذكرت له آيات ربه أي حججه وعلاماته، ثم أعرض عنها، وترك قبولها، فإن الله منتقم أشد الانتقام من المشركين لتكذيبهم وإعراضهم.(21/214)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
عقد الصلة بين الرسالتين إنزال التوراة على موسى عليه السلام وموقف اليهود منها
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
الإعراب:
مِنْ لِقائِهِ الهاء عائدة إلى الكتاب، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، والفاعل مقدر، وتقديره: من لقاء موسى الكتاب، ويصح أن تكون عائدة إلى موسى، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، والمفعول به محذوف وهو الْكِتابَ وتقديره: فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب، وهو التوراة، ويصح أن تكون عائدة إلى «ما لاقى موسى» وتقديره: فلا تكن في مرية من لقاء ما لاقى موسى من التكذيب والإنكار من قومه.
لَمَّا صَبَرُوا لَمَّا ظرف زمان بمعنى «حين» في موضع نصب، والعامل فيه يَهْدُونَ ومن قرأ بالتخفيف وكسر اللام، كانت لَمَّا مصدرية، وتقديره: لصبرهم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ هو هنا: ضمير فصل لأن يَفْصِلُ فعل مضارع، ولو كان فعلا ماضيا لم يجز، فإنهم يجيزون: زيد هو يقوم، قال تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر 35/ 10] وقال سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] ولا يجيزون: زيد هو قام. وإنما جاز لأن الفعل المضارع أشبه الأسماء شبها أوجب له الإعراب، بخلاف الفعل الماضي.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة، كما آتيناك. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ لا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل 27/ 6](21/215)
فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه، فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه.
ويحتمل: من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى، وقد التقيا ليلة الإسراء،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي موسى عليه السلام رجلا آدم طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة» .
وَجَعَلْناهُ أي الكتاب المنزل على موسى. هُدىً هاديا. يَهْدُونَ الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. بِأَمْرِنا إياهم، أو بتوفيقنا لهم. لَمَّا صَبَرُوا أي لصبرهم على طاعة دينهم وعلى البلاء في الدنيا. وَكانُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا.
يُوقِنُونَ يصدقون، لإمعانهم النظر فيها. يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي، فيميز الحق من الباطل والمحق من المبطل. يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
المناسبة:
بعد تقرير الأصول الثلاثة في أول السورة وهي التوحيد والبعث والرسالة، عاد في آخرها إلى الأصل الثالث مرة أخرى وهو الرسالة المذكورة أولا في قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
واختار موسى لقربه من محمد صلّى الله عليه وسلّم ووجود من كان على دينه، إلزاما لهم، وإنما لم يختر ذكر عيسى عليه السلام لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته.
وأما النصارى، فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام، فذكر المجمع عليه.
التفسير والبيان:
لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ يخبر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأنه آتى موسى عليه السلام التوراة، فلا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب، فإنا آتيناك القرآن كما آتينا موسى التوراة، فأنت لست ببدع من الرسل قط، كما قال تعالى: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 9] والصلة قائمة بين الرسالتين والمهمة واحدة، فإن التوراة جعل أيضا هاديا ومرشدا لبني إسرائيل، كما أنك مرشد لأمتك، كما قال تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء 17/ 2] .(21/216)
والمقصود بالآية حمل اليهود على الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتحريض المشركين وغيرهم على التصديق بتلك الرسالة، فإن التشابه بين الرسالتين قائم والمهمة واحدة، وكذلك تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن حزنه الشديد بسبب إعراض قومه عن رسالته، فإن موسى عليه السلام لقي من قومه الأهوال وأنواع الأذى، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء 4/ 153] ، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة 5/ 24] ، واتخذوا العجل إلها ونحو ذلك.
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أي وجعلنا من بني إسرائيل قادة يدعون الناس إلى الخير والإيمان، بإذننا وتوفيقنا وإعانتنا لهم لأنهم صبروا على طاعة دينهم وتصديق رسلهم واتباعهم، وعلى البلاء الذي تعرضوا له في الدنيا، كإيذاء فرعون لهم واستعباده إياهم، وكانوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والقدرة مصدقين على وجه اليقين.
وهذا إيماء آخر إلى أن القرآن هاد للناس كالتوراة، وأن أتباعه هداة مخلصون، وهو أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن ربك يقضي يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه من أمور الاعتقاد والدين والحساب والثواب والعقاب، والأعمال، فيثيب المطيع بالجنة، ويعاقب العاصي بالنار.
وهذا باعث آخر على الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وتهديد ضمني لمن يعرض عن هداية الله التي صارت متمثلة بالقرآن بعد فقد التوراة وافتقاد الأصل الصحيح للإنجيل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:(21/217)
1- لقد أنزل الله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم كما أنزل التوراة على موسى عليه السلام، فالإيمان بهما والعمل بأحكامهما واجب، إلا أن فقد التوراة جعل العمل بالقرآن من الناحية الواقعية متعينا، كما أن المنزل عليه القرآن خاتم النبيين، ونسخت رسالته بنص القرآن وتشريعه الرسالات السماوية السابقة، حتى لو فرض بقاء شيء ثابت صحيح منها.
2- إن أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم هم الدعاة إلى دين الله وشرعه، كما أن أتباع موسى عليه السلام كانوا قادة يقتدى بهم في الدين، ويدعون الناس إلى الإيمان بالأصل الصحيح للتوراة والإنجيل، وإطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وذلك كله بإذن الله وتوفيقه. فحيث جعل الله كتاب موسى هدى، وجعل منهم أئمة يهدون، كذلك يجعل القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم كتاب هدى، ويجعل من أمته صحابة يهدون.
3- إن اتخاذ بعض الناس أئمة سببه الصبر على الطاعة للدين، والرضا بأمر الله، والعمل على إعلاء كلمة الله، والصبر على البلاء والمحن في سبيل الله تعالى، فإن جعل الأئمة هادين يحصل بالصبر، وهذا أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق.
4- إن الله سبحانه هو القاضي العدل والحاكم المطلق بحق بين المؤمنين والكفار، فيجازي كلا بما يستحق، ويفصل بين المختلفين من أمة واحدة، كما يفصل بين المختلفين من الأمم.(21/218)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
تأكيد ثبوت التوحيد والقدرة والحشر
[سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 30]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
الإعراب:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ فاعل يَهْدِ مقدر وهو المصدر، أي أولم يهد الهدى لهم. وقيل: إن الفاعل هو الله تعالى، أي أولم يهد الله لهم. وقرى «نهد» وتقدير الفاعل: نهد نحن لهم. و «كم» في موضع نصب ب أَهْلَكْنا.
مَتى هذَا الْفَتْحُ هذَا مبتدأ، والْفَتْحُ صفته، ومَتى خبره لأن الفتح مصدر وهو حدث، ومَتى ظرف زمان، وظروف الزمان يجوز أن تكون أخبارا عن الأحداث، لوجود الفائدة في الإخبار بها عنها.
البلاغة:
إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَفَلا يَسْمَعُونَ سجع لمراعاة الفواصل ورؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي أولم يتبين لكفار مكة كثرة من أهلكناهم من القرون أي الأمم الماضية بكفرهم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرّ أهل مكة في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام وغيرها على ديارهم، فيعتبروا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على قدرتنا أَفَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واتعاظ.(21/219)
الْأَرْضِ الْجُرُزِ اليابسة التي لا نبات فيها لأنه جرز نباتها، أي قطع وأزيل، لا التي لا تنبت تَأْكُلُ مِنْهُ من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتبن والورق وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر أَفَلا يُبْصِرُونَ هذا، فيستدلون به على كمال قدرته وفضله، فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم؟
وَيَقُولُونَ للمؤمنين الْفَتْحِ النصر أو الفصل بالحكم، أي متى هذا الحكم الحاسم بيننا وبينكم؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الوعد به قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ بإنزال العذاب بهم يوم القيامة، فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل: يوم بدر، أو يوم فتح مكة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تبال بتكذيبهم وَانْتَظِرْ النصرة عليهم أو إنزال العذاب بهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليك، أو الموت أو القتل.
سبب النزول: نزول الآية (29) :
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ: أخرج ابن جرير عن قتادة: قال الصحابة: إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننعم، فقال المشركون: متى هذا الفتح إن كنتم صادقين؟ فنزلت.
المناسبة:
في القسم الأخير من السورة عود على بدء في تقرير الأصول الثلاثة وهي الرسالة والتوحيد والبعث، فبعد أن ذكر تعالى بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تقرير رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإعادة بيان ما سبق في قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً.. أعاد هنا ذكر التوحيد وبرهانه وإثبات القدرة الإلهية بالمشاهدات المحسوسة بقوله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ.. ثم أعاد ذكر الحشر وإثباته بقوله: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ؟
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي(21/220)
ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ
أي أولم يتبين لهؤلاء المكذبين بالرسل كثرة من أهلكنا من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم، وهؤلاء المكذبون يمرون أثناء أسفارهم في مساكن وديار أولئك المكذبين، ويشاهدون آثار تدميرهم كعاد وثمود وقوم لوط، لم تبق منهم باقية ولا أثر، كقوله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مريم 19/ 98] وقوله: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها [هود 11/ 68] وقوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل 27/ 52] وقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج 22/ 45] .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ؟ أي إن في تدمير أولئك القوم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم لدلائل على قدرتنا، وعبرا وعظات يعتبرون ويتعظون بها، فهلا يسمعون عظاتنا، ويتذكرون تذكيرنا لهم، سماع تدبر واتعاظ وتفكر؟ والخلاصة: أن مساكن المهلكين دالة على حالهم.
وبعد بيان القدرة على الإهلاك، بيّن الله تعالى القدرة على الإحياء، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، أَفَلا يُبْصِرُونَ أي أولم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث أننا قادرون على الإحياء، فنسوق الماء من السماء أو السيول إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه أنعامهم من التبن والشعير والحشيش، وتتغذى منه أجسامهم، وتتقوى به أبدانهم، أفلا يبصرون هذا بأعينهم، فيعلموا أننا قادرون على الإعادة بعد الموت، كإحياء الأرض بعد موتها؟
ثم ذكر تعالى تساؤل المشركين عن يوم البعث والحشر، فقال:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويتساءل هؤلاء(21/221)
الكفار عن ميعاد وقوع بأس الله وعذابه بهم استبعادا وتكذيبا وعنادا، قائلين:
متى تنتصر علينا يا محمد، ومتى ينتقم الله لك منا، وأنت وصحبك ما نراكم إلا مختفين خائفين ذليلين؟ إن كنتم صادقين في تهديدكم ووعيدكم على الكفر وعبادة الأوثان.
فأجابهم الله تعالى موبخا لهم:
قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين برسالتك: إن يوم الحكم الفاصل والقضاء والفصل النافذ هو يوم القيامة الذي لا ينفع فيه إيمان الكافر ولا توبته، ولا هم يؤخرون فيه بالإعادة إلى الدنيا للتوبة والإيمان وإصلاح العمل لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، فلا تستعجلوه، فهو كائن حتما.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي أعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بتكذيبهم، وتابع تبليغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر النصر من الله الذي وعدك به، فإن الله سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد.
إنك أنت منتظر نصر الله، وهم منتظرون الغلبة عليك والموت أو القتل، كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة ربك، وسيجدون سوء ما ينتظرونه فيك من عقاب الله بهم وتعذيبه إياهم في الدنيا والآخرة، وما علموا أن الله عاصمك منهم ومؤيدك بنصره.(21/222)
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن إهلاك الأمم الظالمة العاتية دليل على قدرة الله ووحدانيته، وفي ذلك عبرة للمعتبر، والمشركون الذين يشاهدون آثار الدمار والهلاك، لا يسمعون آيات الله وعظاته فيتعظون، إذ ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه، ولا قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم.
2- إن سوق الماء بقدرة الله إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لإحيائها بالنبات الأخضر والزرع النضر دليل آخر على قدرة الله على الإحياء وإعادة البشر لحياة البعث والنشور، ولكن الكفار لا يتأملون هذا بعين البصيرة ولا يبصرون هذا بحق، فيعلمون أن الله قادر على الحشر وعلى إعادتهم إلى الحياة يوم القيامة.
وفي هذين الدليلين من الإهلاك والإماتة، والأحياء والاعادة إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله تعالى.
3- إن حماقة المشركين دفعتهم إلى استعجال العذاب والعقاب يوم القيامة.
ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى يوم الفتح، أي هذا الحكم؟
4- كان الرد الحاسم على هؤلاء الحمقى أن يوم الفتح والحكم والفصل بين المؤمنين والكفار كائن حتما لا شك فيه ولا بد منه، ولكن لا ينفع فيه الإيمان حينئذ لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، وكذلك لا يؤخرون بالإعادة للدنيا، ولا يمهلون للتوبة.
5- النتيجة المطلوبة أن الإعراض عن المكذبين بالقرآن والرسول بعد(21/223)
البيانات المتكررة والبراهين المتلاحقة هو الواجب، ولينتظر نبي الله والمؤمنون يوم الفتح وحكم الله عليهم، وتحقيق النصر، ولن يفيد الكفار المكذبين انتظار حوادث الزمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه، فإن الله عاصمه من الناس، وناصر جنده المؤمنين، والشعار حينئذ: انتظر عذابهم، إنهم منتظرون هلاكك؟! وهم هالكون لا محالة.(21/224)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأحزاب
مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الأحزاب لاشتمال الكلام فيها على وقعة الخندق أو الأحزاب الذين تجمعوا حول المدينة، من مشركي قريش وغطفان، بالتواطؤ مع المنافقين ويهود بني قريظة، لحرب المسلمين ومحاولة استئصالهم، كما سميت (الفاضحة) لأنها افتضحت المنافقين، وأبانت شدة إيذائهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أزواجه وتألبهم عليه في تلك الموقعة.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بسورة السجدة التي قبلها في وجوه التشابه بين مطلع هذه وخاتمة تلك، فإن السورة السابقة ختمت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره صلّى الله عليه وسلّم بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحي إليه من ربه، والتوكل عليه.
موضوعها:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المدنية، التي تهتم بالجانب التشريعي للأمة، ولا سيما تنظيم الأسرة النبوية، وإبطال بعض عادات الجاهلية كالتبني والظهار واعتقاد وجود قلبين للإنسان، وعدم إيجاب العدّة على المطلقة(21/225)
قبل الدخول، وفرض الحجاب على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ونساء المؤمنين، وبيان خطورة أمانة التكليف.
مشتملاتها:
اشتملت هذه السورة على بعض الآداب الاجتماعية، والأحكام التشريعية وأخبار في السيرة عن غزوتي الأحزاب وبني قريظة وعن المنافقين.
أما الآداب الاجتماعية: فأهمها آداب الدعوة إلى الولائم، والحجاب وعدم التبرج، وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته ومع الناس، والقول السديد.
وأما الأحكام الشرعية فكثيرة: منها الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، ووجوب اتباع الوحي، وحكم الظهار، وإبطال عادة التبني وعادة التوريث بالحلف أو الهجرة، وجعل الرحم والقرابة أساس الميراث، وتعداد المحارم وعدد زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرض الحجاب الشرعي وتطهير المجتمع من مظاهر التبرج الجاهلية، وعدم إلزام المطلقة قبل الدخول بالعدة، وتخيير نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الفراق والبقاء معه، وتخصيص زوجاته بمضاعفة الأجر والثواب عند الطاعة، ومضاعفة العذاب عند المعصية، وتحريم إيذاء الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وخطورة أمانة التكليف، وعقاب المسيء وإثابة المحسن.
وأما أخبار السيرة: ففي السورة بيان توضيحي عن (غزوة الأحزاب) أو (غزوة الخندق) وغزوة بني قريظة، ونقضهم العهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكشف فضائح المنافقين والتحذير من مكائدهم، وتهديدهم مع المرجفين في المدينة على جرائمهم بالطرد والتعذيب، وتذكير المؤمنين بنعم الله العظمى التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد اشتداد الخطب عليهم، ورد كيد أعدائهم بالملائكة والريح، حتى صار ذلك معجزة خارقة للعادة، وبيان قصة زيد بن حارثة مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم.(21/226)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
الأمر بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
البلاغة:
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ أي دم على تقواه، وليتق الله المؤمنون، بأسلوب يقصد به تنبيه بالأعلى وهو النبي على الأدنى وهم المؤمنون، فإنه تعالى إذا أمر رسوله بالتقوى، كان المؤمنون مأمورين بها بطريق الأولى أو أنه أمر قصد به الثبات والاستدامة على التقوى. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك وأوامر ربك. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي إن الله كان وما يزال عالما بكل شيء قبل وجوده، حكيما فيما يخلقه. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وكل أمرك إلى تدبيره. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا لك، موكولا إليه كل الأمور، والأمة تبع له في المذكور كله.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.(21/227)
وذكر الواحدي في أسباب النزول: أن الآيات نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السّلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ (زعيم المنافقين) وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم قولهم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: «إني قد أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي يا أيها الرسول محمد، داوم على تقوى الله وخف عقابه بإطاعة أوامره واجتناب محارمه، ولا تسمع من الكافرين والمنافقين ولا تستشرهم في شيء، واحترس منهم، ولا تستجب لمطالبهم بتخصيص بعض المجالس والأوقات لهم وطرد الضعفاء، إن الله عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإن أولئك الكفار أعداؤك الذين يريدون هلاكك.
وقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهي مؤكد لمضمون الأمر السابق، أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم.
روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، تابعه ناس من اليهود نفاقا، وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعا فحذره الله منهم، ونبهه إلى عداوتهم.
وقال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله،(21/228)
ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله مخافة عذاب الله.
ثم أكد الله تعالى وجوب امتثال أوامر الله، فقال:
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي اعمل بمقتضى الوحي المنزل إليك من ربك من قرآن وسنة، فإن الله لا تخفى عليه خافية، يعلم بدقة بواطن الأشياء وظواهرها، ثم يجازيكم عليها. وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ.. علة للأمر باتباع الوحي، وإشارة إلى أن التقوى ينبغي أن تكون عن صميم قلبك، لا تخفي في نفسك تقوى غير الله.
ثم أمر تعالى رسوله بعد التزام الأوامر بتفويض الأمور إلى الله وحده، فقال:
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي فوض جميع أمورك وأحوالك إلى الله، وكفى به وكيلا لمن توكل عليه، وأناب إليه. والمقصود أن الله عاصمك وحسبك، فهو وحده جالب النفع لك، ودافع الضر عنك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إيجاب التقوى والمداومة عليها ومتابعة طاعة الله أمر عام مفروض على جميع البشر، سواء أكانوا أنبياء ورسلا وملائكة أم غيرهم، إلا أن الأنبياء والملائكة المعصومين من المعصية يؤمرون بالتقوى تعليما وإرشادا لغيرهم، وتنبيها بالأعلى على الأدنى. ويلاحظ أن الله تعالى لم يخاطب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلا بلفظ النبوة والرسالة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ولم يخاطبه باسمه، تعظيما لشأنه، وإشادة بمقامه، وتعليما لنا للأدب معه، مع أنه تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم فقال: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود 11/ 48](21/229)
يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات 37/ 104- 105] يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف 7/ 144] .
2- الأمر بالشيء نهي عن ضده، لذا منع الله سبحانه من طاعة الكافرين من أهل مكة ونحوهم والمنافقين من أهل المدينة وأمثالهم فيما نهى عنه، والتحذير من الميل إليهم، فإن الله عليم بكفرهم ونفاقهم، حكيم فيما يفعل بهم، والمقصود بذلك الاحتراس من مؤامراتهم ومكائدهم وخططهم المشبوهة.
والمراد بالكافرين من أهل مكة: أبو سفيان وأبو الأعور وعكرمة. والمراد بالمنافقين من أهل المدينة: عبد الله بن أبيّ، وطعمة بن أبيرق، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.
3- ومن الواجب أيضا اتباع الوحي من قرآن وسنة، وفي ذلك زجر عن اتباع مراسم الجاهلية. وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأمته.
4- على المؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائل أن يعتمد على الله في جميع أحواله، فهو الذي ينفع ويمنع، ولا يضر معه معارضة أحد من البشر أو مخالفته، وكفى بالله حافظا لجميع الأمور والأحوال.
والخلاصة: أن الله تعالى أراد بهذه الآيات غرس العزة والكرامة في نفوس المسلمين، والثقة بالذات، وعدم الالتفات إلى الأعداء، ومن أجل تحقيق تلك الغايات، قررت الآيات هذه الأحكام وهي أن الله عليم بالمصلحة والصواب، حكيم لا يأمر ولا ينهى إلا على وفق الحكمة والصواب، فالواجب الأول: امتثال الأمر وتنفيذ النهي، والواجب الثاني: اتباع وحي الله، فإن الله خبير بما يصلح أمور العباد، والواجب الثالث: التوكل على الله حقا، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، وكفى بالله وكيلا.(21/230)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
تعدد القلب والظهار والتبني
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
الإعراب:
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي.. أزواج: جمع زوج، والزوج ينطلق على الذكر والأنثى، يقال: هما زوجان، وقد يقال للمرأة: زوجة، واللغة الفصحى بغير تاء، وهي لغة القرآن، قال تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 2/ 35] وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء 21/ 90] .
واللَّائِي: فيه ثلاث قراءات، بإثبات الياء، وبحذفها، وبجعل الهمزة بين بين تسهيلا بعد حذف الياء.
وتُظاهِرُونَ: يقرأ بتخفيف الظاء وتشديدها، وأصلها: يتظاهرون.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الْحَقَّ منصوب على أنه مفعول به ل يَقُولُ أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقول القول الحق.
وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ فِيما: إما مجرور بالعطف على فِيما في قوله: فِيما أَخْطَأْتُمْ وإما مرفوع بالابتداء، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به.
البلاغة:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ تنكير رجل للاستغراق والشمول، وحرف الجر: لتأكيد(21/231)
الاستغراق، وذكر الجوف فِي جَوْفِهِ لزيادة تصوير الإنكار.
أَخْطَأْتُمْ تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ جَعَلَ خلق، وهذا رد على من زعم من الكفار أن له قلبين يعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم. تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ الظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أحد محارمه، أي أنت في التحريم علي كتحريم الأم ونحوها من المحارم. أُمَّهاتِكُمْ أي كالأمهات في التحريم، فقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا، أما في الإسلام فتجب فيه الكفارة قبل الجماع. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ جمع دعيّ:
وهو الذي تدّعى بنوته، فيدعى لغير أبيه ابنا له، وكان له أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام، وفي الواقع هو ابن غيره. أَبْناءَكُمْ أي أبناء في الحقيقة. والمراد: ما جمع تعالى الزوجية والأمومة في امرأة، ولا الدعوة والنبوة في رجل، فكما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى تناقض: (وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل) لم يجعل الزوجة والدّعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أما ولا ابنا اللذين بينهما وبينه ولادة.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ذلِكُمْ إشارة إلى كلّ ما ذكر، وقَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي مجرد قول في الظاهر، لا حقيقة له في الواقع. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي يقول ما له حقيقة مطابقة للواقع. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق. والمراد: نفي وجود القلبين، ونفي الأمومة والبنوة عن المظاهر منها والمتبنى.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي لكن انسبوهم إليهم. هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل لما سبق، وأَقْسَطُ أفعل تفضيل، قصد به الزيادة مطلقا، أي أعدل، والمراد: البالغ في الصدق.
سبب النزول: نزول الآية (4) :
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ:
أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذي يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلبا معكم وقلبا معه، فأنزل الله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.(21/232)
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة: قالوا: كان رجل يدعى ذا القلبين. قيل: إنه أبو معمر، وقيل: إنه جميل بن أسد الفهري.
وكانت الزوجة المظاهر منها كالأم، ودعيّ الرجل: ابنه.
وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري مثل الذي أخرجه ابن أبي حاتم، وزاد:
وكان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. وأخرج عن مجاهد قال: نزلت في رجل من بني فهر قال: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمح يقال له: جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول: إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما كان يوم بدر، وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقاه أبو يوسف وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر، ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده «1» .
نزول الآية:
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ:
نزلت في زيد بن حارثة، كان عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه وتبناه قبل الوحي، فلما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد صلّى الله عليه وسلّم امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 201
(2) المرجع والمكان السابق.(21/233)
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت في القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بتقواه وطاعته والخوف منه، ونهى عن طاعة الكفار والخوف منهم، نفى تعدد القلب عند الإنسان، وأبطل الظهار والتبني، فإذا كان لا يجتمع في قلب إنسان الخوف من الله والخوف من غيره، فليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصي بالآخر، ولا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، ولا البنوة الحقيقية والتبني في رجل، فجمع في الآيات بين أمر معروف حسي، وبين أمرين معنويين.
التفسير والبيان:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي إن الذات الإنسانية ووحدة التركيب العضوي واحدة في كل إنسان، وما خلق الله لأي أحد قلبين، فليس لأي رجل قلبان في صدره، وإنما هو قلب واحد لأن القلب محل التوجيه والإرادة والعزم، فإذا كان الإنسان مؤمنا بالله ورسوله، فلن يكون كافرا أو منافقا، أي أنه لا يجتمع في قلب واحد اعتقادان، ولا يجتمع اتجاهان متضادان، يأمر أحدهما أو ينهى بنقيض ما يطلبه الآخر.
والآية كما بان في سبيل النزول رد على ما كانت العرب تزعم أن اللبيب الأريب له قلبان، فقيل لأبي معمر أو لجميل بن معمر الفهري أو لجميل بن أسد الفهري: ذو القلبين. والظاهر أنه أبو معمر الفهري جميل بن معمر الذي اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.(21/234)
والقلب: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، وهو محل الخطرات والوساوس، ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومحل الانزعاج والطمأنينة. والجعل: الخلق. وفائدة ذكر الجوف كفائدة ذكر الصدر في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] ليحصل للسامع زيادة التصور، والإسراع في الإنكار.
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي وما جعل الزوجات المظاهر منهن كالأمهات في الحرمة، بأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فذلك كذب موجب العقوبة، كما قال تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.. [المجادلة 58/ 2] .
وكان حكم الظهار في الجاهلية طلاقا يفيد التحريم المؤبد، فجعل الإسلام الحرمة مؤقتة، تزول بالكفارة (تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا قبل الجماع) كما جاء في أوائل سورة المجادلة، لتحريم ما أحل الله تعالى.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي وما جعل الله المدّعى بنوتهم بالتبني أبناء في الحقيقة، فهم أبناء آبائهم الحقيقيين، والتبني حرام، وهذا أيضا إبطال لما كان عليه العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من جعل الابن بالتبني كالابن النسبي.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إعتاق زيد بن حارثة مولاه قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له زيد بن محمد، وتبنى الخطّاب عامر بن أبي ربيعة، وأبو حذيفة سالما، وكثير من العرب تبنى ولد غيره.
والخلاصة: أجمع أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة.
وقد أبطل الله هذا الإلحاق الوهمي وهذا النسب المزعوم بهذه الآية، وبقوله(21/235)
تعالى بعدئذ في هذه السورة: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.. [40] .
وهذا هو المقصود بالنفي، قدّم الله له نفي أمر حسي معروف وهو ازدواج القلب في الإنسان، ثم أردفه بنفي أمرين معنويين هما اجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب، فالثلاثة باطلة لا حقيقة لها، لذا قال تعالى مؤكدا النفي:
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي ذلكم المذكور كله في الجمل الثلاث من ادعاء وجود قلبين في صدر واحد، واجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب هو مجرد قول باللسان، لا صلة له بالحقيقة، فلا تصبح الزوجة بالظهار أما، ولا المتبني ابنا. وزيادة قوله تعالى: بِأَفْواهِكُمْ للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له حقيقة في الواقع، كما أن زيادة فِي جَوْفِهِ لتأكيد الإنكار وزيادة تصويره للنفوس.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي والله هو الذي يقرر الصدق والعدل، ويقول الواقع، ويرشد إلى السبيل الأقوم الصحيح والطريق المستقيم، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز وجل. ثم فصل تعالى هذا الحق المقصود أصالة بالآية فقال:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي انسبوا أولئك الذين تبنيتموهم وألحقتم نسبهم بكم إلى آبائهم الحقيقيين، فذلك أعدل في حكم الله وشرعه، وأصوب من نسبة الابن لغير أبيه. فقوله أَقْسَطُ أفعل التفضيل، وهو ليس على بابه، أي لا يراد به المفاضلة بين اثنين، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه على سبيل التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي فإن جهل آباء هؤلاء الأدعياء، فهم إخوانكم في الدين إن كانوا قد أسلموا، وهم مواليكم في الدين(21/236)
أيضا أي أنصاركم، إن كانوا عتقاء محرّرين، فينادى الواحد منهم: يا أخي أو يا مولاي، لذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة.
جاء في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن أبي ذر: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر»
قال ابن كثير: هذا تشبيه وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي لا إثم عليكم بنسبة بعضهم إلى غير أبيه خطأ قبل النهي، أو بعده نسيانا أو سبق لسان، أو بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما قال تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة 2/ 286]
وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: قد فعلت» .
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»
وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن أبي ذر: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
لا إثم في الخطأ، ولكن الإثم على من تعمد الباطل، فنسب الابن أو البنت إلى غير الأب المعروف، فتلك معصية موجبة للعقاب. ولا إثم ولا تحريم فيما غلب عليه اسم التبني كالمقداد بن عمرو، فإنه غلب عليه نسب التبني، فيقال له: المقداد بن الأسود، والأسود: هو الأسود بن عبد يغوث، كان قد تبناه في الجاهلية، فلما نزلت الآية، قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية: «لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه» .
وأخرج الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا(21/237)
صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. ثم قال: قد كنا نقرأ: «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم عليه السلام، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبده ورسوله»
وربما قال معمر: «كما أطرت النصارى ابن مريم» .
وروى أحمد في حديث آخر: «ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم» .
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي وكان الله وما يزال ساترا لذنب المخطئ، والمتعمد إذا تاب، رحيما بهما فلا يعاقبهما، فمن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، وقبل توبة المسيء عمدا.
قصة زيد بن حارثة في السيرة والسنة النبوية:
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
وقد سبي من قبيلته «كلب» وهو صغير.
وكان من أمره
ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيّ، فأصيب في نهب من طيّ، فقدم به سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته.(21/238)
فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو عندها، فأعجب النبي صلّى الله عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه، فالولاء لي، فأبى عليها عليه الصلاة والسلام، فوهبته له، إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك.
قال: فشب عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال: لا، قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال:
بل مملوك، قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد المطلب، فقال له: أعربي أنت أم عجمي؟ قال: عربي، قال: ممن أصلك؟ قال: من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ودّ، قال: ويحك، ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي، قال: ومن أخوالك؟ قال: طي، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه، وقال:
ابن حارثة.
ودعا أباه، فقال: يا حارثة، هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له حارثة:
يا محمد، أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيد قومك، وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيكم خيرا من ذلك، قالوا: وما هو؟ قال: أخيّره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه.
فقالوا: جزاك الله خيرا، فقد أحسنت. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
«يا زيد، أتعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي، فقال صلّى الله عليه وسلّم:(21/239)
«فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم، فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم» . فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم، قال: أبوه وعمه: أيا زيد، أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصه عليه، قال: «اشهدوا أنه حر، وأنه ابني يرثني وأرثه» ، فطابت نفس أبيه وعمه، لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- أعلم الله عز وجل أنه لا أحد بقلبين، وإنما هو قلب واحد، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر، ولا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار.
وفي هذا رد على بعض أهل مكة الذين كانوا يقولون: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وهو ردّ أيضا على المنافقين الذين هم على درجة من النفاق، متوسطة بين الإيمان والكفر إذ ليس هناك إلا قلب واحد فيه إيمان أو كفر.
2- أبطل الله تعالى في هذه الآية حكم الظهار الجاهلي، وهو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فتصبح محرمة على التأبيد، أما في الإسلام فالحرمة مؤقتة تنتهي بالكفارة.
3- التبني حرام في الإسلام لأنه يصادم الحقيقة، والأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا، ويحرم على الإنسان أن يتعمد دعوة الولد لغير(21/240)
أبيه، على النحو الذي كان في الجاهلية. فإن لم يكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير تلطفا أو تحننا وشفقة: يا ابني أو يا بنيّ، فالظاهر عدم الحرمة، لكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار.
4- نسبة الإنسان إلى أبيه من التبني خطأ، بأن يسبق اللسان إليه من غير قصد، لا إثم ولا مؤاخذة فيها، لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
كذلك لا إثم في نسبة شخص كان في الأصل منسوبا إلى أبيه بالتبني، وجرى الإطلاق على سبيل الشهرة، كالحال في المقداد بن عمرو، فإنه غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية، قال المقداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه، ولم يحكم أحد بعصيان من ناداه بذلك، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء.
وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة فإنه لا يجوز أن يقال فيه:
زيد بن محمد إذ لم يشتهر به بعد التحريم والنهي، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
5- وكما يحرم التبني، يحرم انتساب الشخص إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، بل هو من الكبائر إذا كان على النحو الجاهلي، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وجاء في السنة الوعيد الشديد عليه،
أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ادّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام» .
وأخرج الشيخان أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا»(21/241)
وأخرجا أيضا عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس من رجل ادّعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر» .
والكفر: إذا اعتقد إباحة ذلك، فإن لم يعتقد إباحته، فمعنى كفره: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية، أو أنه كافر نعمة الله والإسلام عليه.
6- هناك فرق بين التبني المنهي عنه والاستلحاق الذي أباحه الإسلام، فالتبني: هو ادعاء الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأما الاستلحاق الشرعي:
فهو أن يعلم المستلحق أن المستلحق ابنه أو يظن ذلك ظنا قويا، بسبب وجود زواج سابق غير معلن. فإن كان من زنى فلا يجوز الاستلحاق.
7- يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي أو يا مولاي إذا قصد الأخوة في الدين والولاية فيه، وكان المدعو تقيا. فإن كان فاسقا فلا يدعى بذلك، ويكون حراما لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق.
8- دل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ على أنه ينبغي أن يكون قول الإنسان إما عن حقيقة يقرها العقل السليم أو عن شرع ثابت، فمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا، وكانت الزوجة سابقا زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه، فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش أي رابطة الزوجية.
9- قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يدل على أنه سبحانه يغفر الذنوب للمستغفر، ويرحم المذنب التائب.(21/242)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومهمته وتشريع الميراث بقرابة الرحم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
الإعراب:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ مبتدأ وخبر، أي إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بهن، احتراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا.. أن وصلتها: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
البلاغة:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي وأزواجه مثل أمهاتهم في الحرمة والتعظيم.
أَوْلى بِبَعْضٍ مجاز بالحذف، أو أولى بميراث بعض.
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ عطف الخاص على العام للتشريف والتنويه بشأنهم، بالرغم من دخول محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في جملة النبيين.
مِيثاقاً غَلِيظاً استعارة، استعار الغلظ في الأجسام الحسية للشيء المعنوي، وهو بيان حرمة الميثاق وخطورته وعظمه، للوفاء به.(21/243)
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ التفات من التكلم للغيبة لتبكيت المشركين وتقبيح فعلهم.
المفردات اللغوية:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في الأمور كلها في الدين والدنيا، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فهو أرأف بهم وأعطف عليهم فيما دعاهم إليه مما دعتهم أنفسهم إليه إذ هو يدعو إلى النجاة وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزّلات منزلة الأمهات في حرمة زواجهن واستحقاق التعظيم، وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات، ولذلك قالت عائشة: لسنا أمهات النساء. وَأُولُوا الْأَرْحامِ ذوو القرابات. بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث من الإرث بالحلف والمؤاخاة، وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. فِي كِتابِ اللَّهِ فيما فرض الله تعالى وشرع أو في اللوح المحفوظ. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أو صلة لأولي، أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، والمهاجرين بحق الهجرة، وبعبارة أخرى: الإرث بقرابة الرحم مقدم على الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام، فنسخ. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان المذكور في الآيتين ثابتا في اللوح المحفوظ، أو في القرآن.
وَإِذْ أَخَذْنا أي واذكر. مِيثاقَهُمْ أي عهودهم بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الدين القويم، والميثاق: العهد المؤكد. وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي بأن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادته، وذكر هؤلاء الأنبياء الخمسة من عطف الخاص على العام لأنهم مشاهير أصحاب الشرائع وأولو العزم من الرسل. وقدم نبينا تعظيما له. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ميثاقا شديدا عظيم الشأن بالوفاء بواجب التبليغ لما أنزل إليهم من ربهم. وقيل: ميثاقا مؤكدا باليمين.
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة أولئك الأنبياء الصادقين الذين صدقوا عهدهم عن صدقهم في تبليغ الرسالة وعما قالوه لقومهم، تبكيتا للكافرين برسالاتهم. وَأَعَدَّ تعالى، معطوف على أَخَذْنا والمعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه، لأجل إثابة المؤمنين، وتبكيت الكافرين، وأعد للكافرين بهم عذابا مؤلما.
المناسبة:
بعد أن أبطل الله تعالى حكم التبني الخاص وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس أبا لزيد بن حارثة، أبان تعالى أن أبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عامة لكل الأمة، وأزواجه بالنسبة للرجال في حكم حرمة الأمهات، وهي أشرف من أبوة النسب لأنها إنقاذ أبدي من(21/244)
الهلاك، قال مجاهد: كل نبي أبو أمته. ثم أردف ذلك بعلو منزلته وسمو مهمته وهو تبليغ دعوة الله، وفاء بالميثاق (العهد المؤكد) الذي أخذه الله عليه وعلى سائر الأنبياء من قبله.
التفسير والبيان:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي إن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم أرأف بجماعة المؤمنين من أمته وأعطف عليهم من أنفسهم إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها تقّحم الفراش» «1»
ولأنه ينزّل لهم منزلة الأب، فالنفس قد تأمر بالسوء، وأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو لا يأمر إلا بالخير ولا ينطق إلا بالوحي.
فإذا كان زيد يعتز بدعوته لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنها تكسبه جاها كبيرا في الدنيا والآخرة، فإن المؤمنين أصبحوا جميعا يعتزون بأبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم العامة لهم، وقد نزلت الآية تسلية لزيد، وبيانا للانتقال من الأبوة الخاصة لزيد إلى الأبوة العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا، لا فرق فيها بين الابن الصلبي وغيره فهو يرعاهم حق الرعاية ويهديهم الطريق المستقيم.
وجعلت الولاية مطلقة لتشمل جميع الأمور الدينية والدنيوية.
وما دام محمد صلّى الله عليه وسلّم أولى من النفس، فهو أولى من جميع الناس بطريق الأولى، وحكمه مقدّم على اختيارهم لأنفسهم، ومحبته مقدمة أيضا على حب النفس التي بين الجنبين، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء 4/ 65] .
__________
(1)
نص الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، وأنا أخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه» .
قال العلماء:
الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار.(21/245)
وثبت في صحيح البخاري وغيره: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»
وروى البخاري في صحيحة أيضا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا- عيالا- فليأتني، فأنا مولاه» .
وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا، يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: الآن يا عمر» .
ومبعث هذا ما علم الله تعالى من توافر شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام، أي في تحريم زواجهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستحقاق التكريم والتعظيم والتوقير، وأما في غير ذلك فهن أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين، ولا يحل النظر إليهن ولا الخلوة بهن، ولا ارثهن ونحو ذلك.
وهذا بالنسبة للرجال، فهم كأمهاتهم، وأما النساء فلا يقال لهن عند البعض: أمهات المؤمنات، لذا قالت عائشة رضي الله عنها لمن قالت لها:
يا أمه: أنا أم رجالكم، لا أم نسائكم. وسيأتي بيان الخلاف.
ويثبت هذا الوصف لجميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى المطلّقة، لكن صحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط. واختار الرازي والغزالي(21/246)
القطع بحل المرأة التي اختارت الدنيا من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول آية التخيير الآتية.
ثم بيّن الله تعالى بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ حكم الميراث، وبقوله:
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ حكم الوصية، ليبين الفرق بين ولاية النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين، وولاية المؤمنين لأقاربهم، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يورث، فلا توارث بينه وبين أقاربه، لولايته العامة، والمؤمنون يرث بعضهم من بعض إذا كانوا ذوي قرابة، وهم أولى ببعضهم في النفع بميراث وغيره، إلا في حال بر صديق أو محتاج بالوصية، فيصير أولى من قريبه، فتقطع الوصية الإرث، فقال:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي وذوو القرابات مطلقا، سواء أكانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام أولى بمنافع بعضهم بالتوارث وغيره من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار، أي بحق الدين وهو الإيمان، أو بحق الهجرة، وذلك في فرض الله وشرعه وما كتبه على عباده، أو في القرآن، أو في اللوح المحفوظ.
وقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ كما ذكر الزمخشري إما بيان راجع لأولي الأرحام (أي الأقرباء) والمعنى: وأولو القرابة من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بنفع بعض أو بميراثه من الأجانب. وإما لابتداء الغاية، والمعنى:
وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدّين، ومن المهاجرين بحق الهجرة «1» . وعلى هذا المعنى الثاني وهو المشهور تكون الآية إبطالا لما كان في بدء الإسلام من التوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، بسبب الأخوّة التي
آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه وخارجة بن زيد، وآخى
__________
(1) الكشاف: 2/ 531(21/247)
بين عمر وشخص آخر، وآخى بين عثمان ورجل من بني زريق، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك «1» .
ويؤكد هذا المعنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»
والمراد: بطل حكم الهجرة وزالت الأحكام المترتبة عليها كالتوارث بها.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي ذهب الميراث بالتآخي، وبقي حكم الوصية والنصر والبر والصلة والإحسان، أي إلا أن توصوا إلى أصدقائكم الذين توالونهم وتودونهم من المؤمنين والمهاجرين وصية، والمعروف هنا:
الوصية، ومن المعلوم أن الدّين والوصية مقدّمان شرعا على الميراث، كما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء 4/ 11] .
ومعنى الآية: إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي إن هذا الحكم (وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض) حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدّل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت ما، لمصلحة مؤقتة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري التشريعي.
وبعد بيان مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المؤمنين، أبان الله تعالى سمو مهمته وعلو منزلته في تبليغ الشرائع، والدعوة إلى دين الله ورسالة ربه، ووفائه بتلك المهمة، عملا بمقتضى ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله، وكأنه تعالى من بداية السورة إلى هنا قال لنبيه تعليما للأمة، اتق الله، ولا تخف أحدا، واذكر
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 468(21/248)
أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون شرائع الله، ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع، فقال:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي واذكر أيها الرسول أننا أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ولا سيما أولو العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في الآية في أنهم يبلغون رسالة الله إلى أقوامهم، ويقيمون دين الله تعالى، ويتناصرون ويتعاونون فيما بينهم بإكمال بعضهم رسالة من تقدمه، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ، مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا: أَقْرَرْنا، قالَ: فَاشْهَدُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران 3/ 81] أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعلن محمد صلّى الله عليه وسلّم أن لا نبي بعده.
ثم أكد الله تعالى ذلك الميثاق بعينه، فوصفه بالشدة والغلظ مبالغة في حرمته وعظمته وثقل تبعته (مسئوليته) والمعنى: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا، فالميثاق الثاني هو الأول مؤكدا باليمين، أو مكررا لبيان صفته، من طريق استعارة الغلظ من صفة الأجسام المادية إلى الأشياء المعنوية، مبالغة في بيان حرمته وعظمه وخطورته، كما بينت.
وقد خص الله تعالى بالذكر خمسة رسل هم أولو العزم، تنويها بشأنهم، وتبيان أهمية رسالاتهم، من باب عطف الخاص على العام، كما في آية أخرى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] .
ثم ذكر الله تعالى أنه سائل الأنبياء عن التبليغ والمؤمنين عن الإجابة والمكذبين عن التكذيب، فقال:(21/249)
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً اللام في لِيَسْئَلَ قيل: إنها لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء، ليصير الأمر إلى السؤال عما فعلوا، كما قال تعالى: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 6] .
قال الرازي: يعني أرسل الرسل، وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب، والكافر معذب «1» . والظاهر- كما قال أبو حيان- أنها لام التعليل، لام كي، أي بعثنا الرسل، وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها، على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب، فالصادقون المسؤولون على هذا المعنى: هم المؤمنون، والهاء في صِدْقِهِمْ عائدة عليهم، ويجوز أن يراد: وليسأل الأنبياء، أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه: أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف بمن سواهم؟ «2» أو ليسأل المبلّغين الذين بلغتهم الرسل. وعلى هذا، يكون المعنى:
وأخذنا من الأنبياء ميثاقهم في تبليغ الدعوة إلى دين الله، لكي نسأل المرسلين عن قيامهم بواجب التبليغ، ومعرفة ما أجابتهم به أممهم، ولأجل إثابة المؤمنين على إيمانهم وصدقهم، وعقاب الكافرين من أممهم المكذبين رسلهم الذين أعد الله لهم عذابا شديدا مؤلما موجعا هو عذاب جهنم. فقوله تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ معطوف على قوله: أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 197
(2) البحر المحيط: 7/ 213(21/250)
1- النبي صلّى الله عليه وسلّم أرأف وأعطف وأشفق على المؤمنين من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة.
2- آية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام منها:
أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يصلّي على ميّت عليه دين
، فلما فتح الله عليه الفتوح
قال كما جاء في الصحيحين: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» .
وفي الصحيحين أيضا «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه»
والضياع: مصدر ضاع، ثم جعل اسما لكل ما يتعرض للضياع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيّم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع ضياعا.
قال بعض العلماء: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه، حيث
قال: «فعلي قضاؤه» .
3- جعلت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين في وجوب التعظيم والبرّ والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وتحريم النظر إليهن، وحجبهن عن الرجال، بخلاف الأمهات. وهذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، فقد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهي أخت عائشة، ولم يقل: هي خالة المؤمنين. ولا يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين.
وهن في قول أمهات الرجال خاصة، لا أمهات الرجال والنساء، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمّه فقالت لها: لست لك بأمّ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح «1» .
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1497(21/251)
وقال القرطبي: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقّهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة فيكون قوله: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ عائدا إلى الجميع «1» .
4- قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، وللتوارث بالهجرة لأن المراد بأولي الأرحام ذوي القرابة مطلقا أيا كان نوعهم، والمراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا، وقد فسر الإمام الشافعي رضي الله عنه الآية بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية. إلا أن الجصاص يرى فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام، لا من حيث إن الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إن الآية اقتضت أن ذا القرابة مطلقا أولى من غيره، وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض، فهذا له أدلته الخاصة.
ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم (هو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى) أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدم بيت المال عليهم.
وظاهر الآية يدل على أن ذا الرحم أولى من مولى العتاقة، ويرى بعضهم أن مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو أولى من الرد لأنه من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم،
وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا، ومات وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنة حمزة.
ونوقش
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 123(21/252)
هذا بأنه لم يقل لنا الرواة: هل كان للميت ذو رحم، حتى يتم الدليل.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر: «الولاء لحمة كلحمة النسب»
ونوقش هذا أيضا بأن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، ولكنه لا يدل على تقديمه على غيره.
5- قال قوم: لا يجوز أن يسمّى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا لقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم» .
وقال القرطبي: والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة لا في النسب، وأما قوله تعالى:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ فهو في النسب. وقرأ ابن عباس: «من أنفسهم، وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم» وهي في مصحف أبيّ.
6- لا مانع من الإحسان لغير الوارثين في الحياة، والوصية عند الموت لهم لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إن ذلك جائز.
وقال محمد بن الحنفية: «إنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني» «1» أي أنه تجوز الوصية للقريب والوليّ وإن كان كافرا لأن الكافر ولي في النسب لا في الدين، فيوصى له بوصية. ويكون معنى الآية: وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم.
7- رسالات الأنبياء في الأصول العامة كأصول الاعتقاد والأخلاق واحدة، وهم متناصرون متعاونون فيما بينهم، ويكمّل بعضهم رسالة البعض الآخر لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ... الآية، أي أخذنا عهدهم على الوفاء بما أوحي إليهم، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدّق بعضهم بعضا، وذلك
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 355(21/253)
حكم قديم مسطور حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء، وهو عهد وثيق عظيم على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا.
وقد خص الله تعالى خمسة أنبياء بالذكر (وهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى) . تفضيلا لهم لأنهم أولو العزم من الرسل وأئمة الأمم، ولأنهم أصحاب الشرائع والكتب. وقدّم محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الذكر لما
رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ... فقال: «كنت أولهم في الخلق، وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم» «1» .
8- قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فيه أربعة أوجه «2» :
أحدها- ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم؟
الثاني- ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم.
الثالث- ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم.
الرابع- ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، كما قال تعالى:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 6] .
وفائدة سؤال الأنبياء: توبيخ الكفار، كما قال تعالى لعيسى عليه السلام:
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة 5/ 116] .
__________
(1) لكن فيه راو ضعيف.
(2) تفسير القرطبي: 14/ 128(21/254)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
غزوة الأحزاب أو الخندق وبني قريظة
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)(21/255)
الإعراب:
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ (10) إِذْ: في موضع نصب على البدل من إِذْ في قوله تعالى: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وإِذْ هذه منصوبة ب اذْكُرُوا.
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) يقرأ الظُّنُونَا بإثبات الألف، لأنها فاصلة، وفواصل الآيات تشبه رؤوس الأبيات. ويقرأ بترك الألف على الأصل.
وَإِذْ يَقُولُ وإِذْ قالَتْ (12، 13) : إِذْ فيهما منصوب بفعل مقدر، أي اذكر.
وَيَسْتَأْذِنُ (13) الواو: واو الحال، والجملة بعدها في موضع نصب على الحال من الطائفة المرفوعة ب قالَتْ. وقال بعضهم: تم الكلام عند قوله: فَارْجِعُوا وليست الواو واو الحال.(21/256)
وإِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذات عورة، فحذف المضاف.
عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ، لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ (15) عاهَدُوا اللَّهَ: بمنزلة القسم، ولا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ: جوابه.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ (19) : إما منصوب على الحال من واو يَأْتُونَ أو منصوب على الذم.
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ، كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (19) : يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في رَأَيْتَهُمْ من رؤية العين.
وتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ: إما حال من واو يَنْظُرُونَ أو حال بعد حال. وكَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تقديره: تدور أعينهم دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، فحذف المصدر وهو «دورانا» وما أضيفت الكاف إليه وهو دوران، وما أضيف «دوران» إليه وهو «عين» وأقيم «الذي» مقام «عين» وإنما وجب هذا التقدير ليستقيم معنى الكلام لأن تشبيه الدوران بالذي يغشى عليه تشبيه العرض بالجسم، والأعراض لا تشبه بالأجسام، ومِنَ الْمَوْتِ أي من حذر الموت.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ (19) : أَشِحَّةً: منصوب على الحال من واو سَلَقُوكُمْ وهو عامله.
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ (20) : الجار والمجرور إما مرفوع على أنه خبر بعد خبر، أي كائنون في جملة الأعراب، وإما منصوب على الحال من ضمير بادُونَ.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ (21) : الجار والمجرور بدل من لكم أو في موضع رفع لأنه صفة بعد صفة ل أُسْوَةٌ أي أسوة حسنة كائنة لمن كان. ولا يتعلق ب أُسْوَةٌ إذا جعل مصدرا بمعنى التأسي لأنها وصفت والمصدر إذا وصف لم يعمل.
وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً (22) أي ما زادتهم الرؤية إلا إيمانا، وإنما جعل الفعل زادَهُمْ بالتذكير لأن الرؤية بمعنى النظر.
ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23) : ما هنا: مصدرية، في موضع نصب ب صَدَقُوا أي صدقوا الله في العهد، أي وفّوا به.
البلاغة:
مِنْ فَوْقِكُمْ وأَسْفَلَ مِنْكُمْ بينهما طباق.
تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من(21/257)
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ مبالغة في التمثيل، صور القلوب في خفقانها واضطرابها، كأنها وصلت إلى الحلقوم.
لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ كناية عن الفرار من الزحف.
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ استعارة مكنية، شبه اللسان بالسيف المصلت، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق أي الضرب، بطريق هذه الاستعارة، وحِدادٍ ترشيح.
مَسْطُوراً بَصِيراً غُرُوراً فِراراً يَسِيراً كَثِيراً توافق الفواصل في الحرف الأخير.
هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إطناب بتكرار اسم الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم للتعظيم والتشريف.
قَضى نَحْبَهُ استعارة، أستعير النحب وهو النّذر للموت نهاية كل حي كأنه نذر لازم في رقبة كل إنسان.
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قوله: إِنْ شاءَ اعتراض للدلالة على أن العذاب أو الرحمة بمشيئة الله تعالى.
المفردات اللغوية:
إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش بقيادة أبي سفيان، وغطفان بقيادة عيينة بن حصن، وبنو أسد بإمرة طليحة، وبنو عامر بزعامة عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النّضير من اليهود برئاسة حييّ بن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا وسيدهم كعب بن أسد، وقد نقض هؤلاء اليهود عهدهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواطؤوا مع قريش. وبلغ مجموع الأحزاب عشرة آلاف، أو زهاء اثني عشر ألفا.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق، وعلى قراءة: يعملون تحزيب المشركين ومحاربتهم بَصِيراً رائيا مطلعا تمام الاطلاع مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي، من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها، فلم تلتفت إلا إلى عدوها حيرة ودهشة وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ المراد أنها فزعت فزعا شديدا، والحناجر:
جمع حنجرة: وهي منتهى الحلقوم وهو مدخل الطعام والشراب والتنفس، وتصوير ذلك: أن الرئة تنتفخ من شدة الرعب، فترتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي تظنون مختلف الظنون من نصر ويأس، فالمؤمنون المخلصون خافوا الزلل وضعف الاحتمال، والمنافقون(21/258)
ومرضى القلوب كذبوا بوعد الله، وتشككوا فيه، وأعلنوا بطلانه.
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اختبروا وامتحنوا، فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً اضطربوا كثيرا من شدة الفزع وكثرة العدو وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بالإغراءات وزرع الشّبه في قلوبهم، لحداثة عهدهم بالإسلام ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بالنصر أو الظفر وإعلاء دينه إِلَّا غُرُوراً إلا وعدا باطلا لا حقيقة له، أو خداعا.
طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل لا مُقامَ لَكُمْ أي لا إقامة ولا مكانة لكم هاهنا فَارْجِعُوا إلى منازلكم في المدينة هاربين، وذلك بعد أن خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى «سلع» : جبل خارج المدينة للقتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في الرجوع يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قاصية غير حصينة، يخشى عليها الاقتحام من الأعداء وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي ما يريدون إلا هروبا من القتال مع المؤمنين.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة مِنْ أَقْطارِها نواحيها وجوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ طلب منهم الداخلون الشرك والردة، ومقاتلة المسلمين لَآتَوْها لأعطوها وفعلوها، وقرئ:
لأتوها أي لجاؤوها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ما أخّروها، أو ما أخروا إعطاء الفتنة إلا لوقت يسير لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ المراد لا ينهزمون ولا يفرون من الزحف. والأدبار: جمع دبر وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به، ومجازي عليه. وهم بنو حارثة عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله.
وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إذا فررتم لا تتمتعون في الدنيا بعد فراركم إِلَّا قَلِيلًا أي لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا أو زمانا قليلا يَعْصِمُكُمْ يمنعكم أو يجيركم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً هلاكا وهزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً فيه محذوف أي: أو يصيبكم بسوء إن أراد الله بكم خيرا، فقد يكون المصاب خيرا مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره وَلِيًّا مواليا ينفعهم وَلا نَصِيراً ناصرا يدفع الضر عنهم.
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبّطين منكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم المنافقون وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة هَلُمَّ إِلَيْنا تعالوا، وأقبلوا إلينا، أو قرّبوا أنفسكم إلينا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يأتون الحرب والقتال إلا إتيانا أو زمانا قليلا، رياء وسمعة أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بما ينفعكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله، جمع شحيح عَلَى الْخَيْرِ حريصين على مال الغنائم، يطلبونها تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ تدير أعينهم أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كنظر أو دوران عين المغشي عليه من سكرات الموت خوفا فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ زالت حالة الخوف وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ آذوكم بالكلام ورموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي ألسنة ذربة سليطة قاطعة(21/259)
كالحديد يطلبون الغنيمة لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أبطل ثمرة أعمالهم وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي وكان ذلك الإحباط هينا سهلا على إرادة الله، فإذا أراد شيئا كان، ولم يمنعه عنه أحد. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ من الكفار لَمْ يَذْهَبُوا إلى مكة، لخوفهم منهم، المعنى: يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا، ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة أخرى يَوَدُّوا يتمنوا بادُونَ فِي الْأَعْرابِ كائنون معهم في البادية يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أخباركم مع الكفار، وما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي ما كان قتالهم إلا قتالا ظاهريا قليلا، رياء وخوفا من التعيير.
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة صالحة، يتأسى به، كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله أو لقاءه، ونعيم الآخرة وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً قرن بالرجاء كثرة ذكر الله المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم من كان كذلك، بخلاف غيره.
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ من الكفار الذين تجمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم والقضاء عليه قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الابتلاء والنصر، بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ.. [البقرة 2/ 214]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم» .
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في الوعد والابتلاء وَما زادَهُمْ ذلك الذي رأوه من الخطب أو البلاء إِلَّا إِيماناً تصديقا بوعد الله وَتَسْلِيماً لأمره ومقاديره.
صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمقاتلة لإعلاء الدين قَضى نَحْبَهُ مات أو قتل في سبيل الله شهيدا، ووفّى نذره، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، والنحب: النذر، فجعل كناية عن الموت مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة، كعثمان وطلحة وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه، بخلاف حال المنافقين لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ تعليل للمنطوق وهم المؤمنون المخلصون، وللمعرّض به وهم المنافقون، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء، كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى، لكن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم، والمراد به التوفيق للتوبة غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الأحزاب بِغَيْظِهِمْ متغيظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إيجاد ما يريد عَزِيزاً غالبا على كل شيء ظاهَرُوهُمْ ظاهروا الأحزاب أي عاونوهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني من بني قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم، جمع صيصة وهي كل ما يتحصن به(21/260)
وَقَذَفَ ألقى الرُّعْبَ الخوف الشديد فَرِيقاً تَقْتُلُونَ منهم وهم المقاتلة وَتَأْسِرُونَ فريقا منهم وهم الذراري: أي النساء والأطفال. وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد، وهي خيبر، أخذت بعد قريظة.
سبب النزول: نزول الآية (9) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ:
أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعودا، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخاف على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلّى الله عليه وسلّم إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون، إذ استقبلنا النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا رجلا حتى أتى علي، فقال:
ائتني بخبر القوم، فجئت، فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو الله، إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت، فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ الآية.
نزول الآية (12) :
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عمرو المزني قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعول، فضربها ضربة، صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة «1» ، فكبّر، وكبّر المسلمون، ثم ضربها الثانية، فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبّر
__________
(1) جانبي المدينة.(21/261)
وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبّر، وكبّر المسلمون، فسئل عن ذلك، فقال: ضربت الأولى، فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم، ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فأضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟
ويحدّثكم، يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق «1» ، لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً.
نزول الآية (23) :
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ:
أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فكبر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرينّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بالتقوى بحيث لا يبقى في نفس المؤمن خوف من أحد، ذكر مثالا واقعيا من وقعة الأحزاب، حيث تجمع المشركون من قريش ومن عاونوهم من اليهود والأحباش عشرة آلاف حول المدينة بقصد القضاء على
__________
(1) الفرق: الخوف. [.....](21/262)
النبي وصحبه، فدفع الله القوم عن المؤمنين من غير قتال وآمنهم من الخوف، مما يدل على أنه لا يخاف العبد غير ربه، فإنه القادر على كل ممكن، الكاف أمره.
أضواء من السيرة على غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق:
في شوال من السنة الخامسة للهجرة اجتمع حول المدينة عشرة آلاف، أو اثنا عشر ألفا، أو خمسة عشر ألفا من الكفار الوثنيين وأهل الكتاب، للقضاء على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المشركون من قريش والأحباش في أربعة آلاف بقيادة أبي سفيان، وبني أسد بقيادة طليحة، وغطفان في ستة آلاف بزعامة عيينة بن حصن، وبني عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وسليم يقودهم أبو الأعود، وكان يهود بني النضير برئاسة حيي بن أخطب وابني أبي الحقيق، ويهود بني قريظة وسيدهم كعب بن أسد الذي كان بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم عهد، فنبذه بسعي حيي بن أخطب.
وكان سبب الوقعة اليهود، فقد خرج نفر من بني النضير وبني قريظة، فقدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاؤوا غطفان وقيسا وعيلان وبني مرة وأشجع، فدعوهم إلى الحرب في المدينة، فتوافق المعسكران: الوثني والكتابي على تكوين جيش موحد بقيادة أبي سفيان، فنزلوا أمام المدينة.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون في ثلاثة آلاف، حتى نزلوا بظهر سلع.
ولما سمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمسير فئات الأحزاب، أمر بحفر خندق حول المدينة بمشورة سلمان الفارسي، وعمل في حفره الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، في السهل الواقع شمال غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو، وأما الجوانب الأخرى فكانت محصنة بالجبال. وبلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة، وعرضه تسعة فأكثر.(21/263)
فلما رأى المشركون وأحزابهم الخندق قالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، فوقعت مصادمات، وحاول بعض المشركين اقتحام الخندق، فرمي بالحجارة، واقتحمه بعضهم بفرسه فهلك أو قتل، منهم الفارس المشهور عمرو بن ودّ العامري الذي تبارز مع علي رضي الله عنه، فقتله، وفرّ صاحباه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، ومن فوارسهم نوفل بن مغيرة. واستشهد سعد بن معاذ رضي الله عنه في غزوة بني قريظة.
ثم وقعت مكيدة محكمة بين الأحزاب، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في خوف وشدة، إذ جاءه نعيم بن مسعود الغطفاني، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» .
فأتى بني قريظة، وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم أتى قريشا وغطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتّحدون معه على قتالكم لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا.
ولما أراد أبو سفيان وقادة غطفان خوض معركة حاسمة مع المسلمين، تباطا اليهود، وطلبوا منهم رهائن من رجالهم، فامتنعوا وصدّقوا حديث نعيم بن مسعود، وتحقق اليهود من صدق حديث نعيم أيضا، فتخاذل اليهود والعرب، وتفرقت الكلمة.
ودب الضعف في الأحزاب، وزاد من قلقهم واضطرابهم أن أرسل الله عليهم(21/264)
ريحا شديدة البرد في ليلة شاتية، فأكفأت قدورهم، وطرحت آنيتهم.
فرجع أبو سفيان مع قريش إلى بلادهم، وتبعته غطفان، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان حتى يأتي بخبرهم، ومكث النبي صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي، ودعا لحذيفة بالسلامة والحفظ حتى يعود، كما دعا رافعا يديه ويقول:
«يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي.
وصدق الله إذ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب 33/ 9] ويقول: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب 33/ 25] .
وانتهت الحرب بين المسلمين والمشركين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» .
واستشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقتل من المشركين أربعة.
التفسير والبيان:
تضمنت الآيات في مجال التذكير بنعمة الله وإحسانه إلى عباده المؤمنين بنصرهم في غزوة الخندق موضوعات خمسة: هي وصف الغزوة (الآيات:
9- 11) وموقف المنافقين واليهود من المسلمين (الآيات: 12- 21) وموقف المؤمنين في التضحية والفداء (الآيات: 22- 24) ونصر المؤمنين وهزيمة الكافرين (الآية: 25) وتأديب يهود بني قريظة (الآيتان: 26- 27) .(21/265)
أولا- وصف الغزوة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أيها المؤمنون بالله ورسوله اذكروا بالشكر والحمد نعم الله التي أنعم بها عليكم حين وقعتم في حصار جنود وحشود هائلة من قريش وغطفان واليهود الذين جاؤوا لإبادتكم واستئصال شوكتكم وإنهاء وجودكم، فبعثنا عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية، وملائكة لم تروها زلزلتهم وألقت الرعب في قلوبهم، فأكفأت القدور، وقلبت البيوت والأواني، حتى بادر رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان، النجاء النجاء، وقال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدا قد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع (الخيول) والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
وكان الله مطلعا عليما على جميع أعمالكم من حفر الخندق ومقاساة الشدائد، والاستعداد للقتال، والتحرز من العدو، وهو يجازيكم عليها، ولا يبخس منها شيئا.
ثم ذكّرهم بإحكام حصار الأحزاب عليهم، فقال:
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي واذكروا حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، ومن أسفل الوادي من جهة المغرب، الأولون من قريش والأحباش وبني كنانة وأهل تهامة، والآخرون من بني قريظة، كما ذكر حذيفة. وقيل: الأولون من أهل نجد وبني أسد(21/266)
وبني نصر، والآخرون: من قريش، وأما يهود بني قريظة فمن وجه الخندق.
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي وإذ مالت الأبصار عن سننها، فلم تلتفت إلى العدو لكثرته، وبلغت القلوب الحناجر كناية عن شدة الخوف والفزع، وتظنون مختلف الظنون، فمنكم مؤمن ثابت الإيمان لا يتزحزح عن موقفه، واثق بنصر الله وبوعده، ومنكم منافق مريض الاعتقاد، ظن أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وينتصر المشركون، ويسودون المدينة. قال الحسن البصري: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حينئذ اختبر الله المؤمنين، فظهر المخلص من المنافق، وحركوا واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وتهديد العدو، فمن ثبت منهم هم المؤمنون حقا، ومن استبد القلق بهم هم المنافقون.
والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له، بل لحكمة أخرى، هي أن الله تعالى عالم بما هم عليه، لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الأنبياء والملائكة.
ثانيا- موقف اليهود والمنافقين من المسلمين:
ثم أعلن الله تعالى موقف المنافقين ومؤيديهم، فقال:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً أي واذكروا حين قال المنافقون الذين أسلموا في الظاهر ولم تؤمن قلوبهم، وضعفاء العقيدة لحداثة عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من النصر على العدو إلا وعدا باطلا لا وجود ولا حقيقة له. والقائل: جماعة من اليهود والمنافقين نحو من سبعين رجلا، مثل معتّب بن قشير وطعمة بن أبيرق، فقال معتب حين رأى الأحزاب: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن(21/267)
يتبرّز فرقا (خوفا) ما هذا إلا وعد غرور «1» . وأما مريض الاعتقاد فتحدث بما توسوس به نفسه لضعف إيمانه، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا أي واذكروا أيضا حين قالت طائفة من المنافقين، وهم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه، أو عبد الله بن أبيّ وأصحابه: يا أهل المدينة، لا وجه لإقامتكم مع محمد وعسكره، ولا مسوغ لها مع هذه الحال من الذل والهوان، ولا قرار لكم هاهنا ولا مكان تقيمون فيه، فارجعوا إلى بيوتكم ومنازلكم في المدينة، لتسلموا من القتل والفناء. ويثرب: اسم للبقعة التي هي المدينة أو طيبة أو طابة. والطائفة:
تطلق على الواحد فأكثر.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي وبسبب إشاعة الفتنة وبثّ روح الضعف عزم جماعة من المنافقين على الرجوع وهم بنو حارثة بن الحارث، وطلبوا الإذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم في العودة إلى بيوتهم وترك القتال قائلين: إن بيوتنا سائبة ضائعة ليست بحصينة، أي فيها خلل يخاف منه دخول العدو والسارق ليأخذ المتاع ويفزع النساء والأولاد، فكذبهم الله بقوله: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي ليس فيها خلل أو ثغرة، بل هي حصينة وليست كما يزعمون، وإنما قصدهم الفرار بسبب الخوف، والهرب من الزحف مع جيش المؤمنين الصادقين.
ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف الإيمان ورقّته في قلوبهم وأن ذلك الفرار ليس لحفظ البيوت، فقال:
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي ولو دخل الأعداء عليهم من كل جانب من جوانب المدينة، أو
__________
(1) الكشاف: 2/ 533، البحر المحيط: 7/ 217(21/268)
البيوت، ثم طلب منهم الردة والعودة صراحة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، لجاؤوها أو لأعطوها من أنفسهم ولفعلوا ذلك سريعا، ولم يحافظوا على الإيمان ولم يستمسكوا به، وما مكثوا في استجابتهم وعطائهم ما طلب منهم إلا زمنا يسيرا من أدنى خوف وفزع، وهو مقدار ما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو ما تلبثوا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا.
وهذا دليل واضح على ضعف الإيمان في نفوسهم، فلا عجب إذا بادروا إلى التراجع والتسلل من المعركة. وهذه سمة المترددين الجبناء الذين اعتادوا على الهرب من مواقف الصمود ولقاء الشجعان، لذا قال تعالى:
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي ولقد كان هؤلاء وهم بنو حارثة عاهدوا الله يوم أحد من قبل هذا الخوف ألا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا لمثل ذلك. ثم هددهم تعالى وأوعدهم بقوله: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي إن الله سيسألهم عن ذلك العهد والوفاء به يوم القيامة، ويجازيهم على نقضه وخيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أمر لا بدّ منه. وقوله: مَسْؤُلًا معناه:
مطلوبا مقتضى حتى يوفى به.
ثم بيّن الله تعالى لهم عدم جدوى فعلهم، ووبخهم، فقال:
قُلْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي أخبرهم أيها الرسول أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطوّل أعمارهم، فلن ينفعهم الهرب من لقاء الموت أو القتل في ميدان المعركة، فإن المقدّر كائن لا محالة، وربما كان فرارهم سببا في تعجيل أخذهم غرّة، وإذا ظلوا أحياء ونفعهم الفرار ونجوا من الموت كما يظنون، لم يكن تمتعهم بالتأخير بمتاع الدنيا بعد هربهم وفرارهم إلا تمتيعا قليلا أو زمانا يسيرا:(21/269)
قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [النساء 4/ 77] . قال الربيع بن خيثمة: وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن فررتم من الموت أو القتل لا ينفعكم الفرار لأن مجيء الأجل لا بدّ منه.
ثم أبان الله تعالى ما تقدم معرّفا لهم قدرته الكاملة عليهم، فقال:
قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي وقل لهم أيضا أيها الرسول: لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد الله بكم، أو دفع السوء عنكم إذا قدره الله عليكم، أو تحقيق النفع والخير إذا أراده لكم. وقوله:
أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً معناه: أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. وقوله: سُوءاً أي هلاكا، وقوله: رَحْمَةً أي خيرا ونصرا وعافية.
وأكد هذا بقوله:
وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ولا يجد هؤلاء المنافقون ومؤيدوهم من ضعفاء العقيدة ولا غيرهم مجيرا ولا مغيثا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم.
ثم حذرهم بدوام علمه بالخائنين، فقال:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ: هَلُمَّ إِلَيْنا قد: هنا للتحقيق وليس للتقليل، والمعنى: إن الله ليعلم علما محيطا شاملا الذين يثبطون المسلمين عن شهود الحرب، تخذيلا ونفاقا، ويعلم القائلين لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وقرّبوا أنفسكم إلينا، واتركوا محمدا والحرب معه. وهلّم: لغة أهل الحجاز، يسوّون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال، وهلمن يا نساء. والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا، وإنما هو مركب مختلف في(21/270)
أصل تركيبه، فقيل: هو مركب من ها التي للتنبيه ولم، وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، وهو متعد ولازم، فالمتعدي كقوله: قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الأنعام 6/ 150] أي أحضروا شهداءكم، واللازم كقوله: هلم إلينا، وأقبلوا إلينا، وقوله: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ إما المنافقون قالوا للمسلمين:
ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس «1» ، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا، وإما يهود بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين: تعالوا إلينا وفارقوا محمدا، فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. وإما رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لشقيقه في قلب المعركة: هلم إلي، قد تبع بك وبصاحبك، أي قد أحيط بك وبصاحبك.
وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أي ولا يأتي المنافقون القتال إلا زمنا قليلا أو شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، خوفا من الموت، كقوله تعالى: ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب 33/ 20] .
ثم ذكر الله تعالى صفات أخرى لهم، فقال:
1- أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ هذه صفة البخل، أي بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، فلا يعاونونكم في الحرب بنفس ولا بمال ولا بمودة وشفقة، وكذا عند قسمة الغنيمة. وأشحة: جمع شحيح على غير القياس، والقياس: أشحاء، مثل خليل وأخلاء. والصواب: أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة المؤمنين.
2- فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وهذه صفة الجبن والخوف، والبخل شبيه الجبن، فلما ذكر البخل بيّن سببه وهو الجبن، والمعنى: فإذا بدأ حدوث الخوف ببدء المعركة والقتال،
__________
(1) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل.(21/271)
رأيتهم ينظرون إليك أيها النبي في تلك الحالة، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا وضعفا، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال.
3- فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ وهذه صفة سلاطة اللسان والإيذاء بالكلام والتفاخر الكاذب، والمعنى: فإذا تحقق الأمن غلبوكم باللسان وآذوكم بالكلام، وتفاخروا بأنهم أهل النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون.
وسبب هذه الصفة، كما قال تعالى:
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي وهم مع ذلك ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم قليلو الخير في الحالتين، كثيرو الشر في الوقتين، يبخلون أولا وآخرا، أي أنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة بخلاء، قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق.
ثم ذكر الله تعالى سبب مرضهم وجميع صفاتهم وهو ضعف الثقة بالله، فقال:
أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي إن أولئك المنافقين هم في الواقع غير مصدقين بالله ورسوله، ولم يؤمنوا حقيقة، وإن أظهروا الإيمان لفظا، فأبطل الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين، وكان ذلك الإحباط سهلا هينا عند الله، بمقتضى عدله وحكمته.
وتساءل الزمخشري بقوله: هل يثبت للمنافق عمل، حتى يرد عليه الإحباط؟ فأجاب: لا، ولكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجزى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل «1» .
__________
(1) الكشاف: 2/ 534(21/272)
ثم ذكر الله تعالى أن صفاتهم القبيحة في الجبن والبخل والخوف ملازمة لهم على الدوام، وليست مجرد أمر عارض مؤقت، فقال:
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي يظنون من شدة الخوف والفزع أن أحزاب الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة لم يرحلوا ولم ينهزموا، وأن لهم عودة إلى الحصار والحرب فكأنهم عند حضورهم غائبون عن الساحة حيث لا يقاتلون، مع أن الأحزاب رحلوا وانهزموا ولن يعودوا.
وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي وإن يعد الأحزاب إلى قتالكم، يتمنوا أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة وبين المقاتلين، بل يكونون في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم للشماتة بكم، وانتظار وقوع السوء بكم، وجبنا وخورا في العزائم.
وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي ولو كان هؤلاء المنافقون معكم في ساحة المعركة لما قاتلوا إلا قتالا يسيرا وزمنا قليلا، لاستيلاء الجبن والضعف عليهم.
ثم لفت نظرهم ونظر غيرهم إلى ضرورة التأسي بالقائد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً هذا أمر من الله تعالى بالتأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب وغيره في أقواله وأفعاله وأحواله، وصبره ومصابرته ومجاهدته وانتظار الفرج من ربه عز وجل، والمعنى: لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة صالحة ومثل أعلى يحتذي به، فهلا اقتديتم وتأسيتم بشمائله صلّى الله عليه وسلّم، فهو مثل أعلى في الشجاعة والإقدام والصبر والمجالدة، إذا كنتم تريدون ثواب الله وفضله، وتخشون الله وحسابه،(21/273)
وتذكرونه ذكرا كثيرا في الليل والنهار، حبا به وتعظيما له، وخوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه وجزائه، فإن ذكره دافع إلى طاعته، والتأسي برسوله.
وهذا عتاب للمتخلفين، وإرشاد للناس جميعا أن يتأسوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السراء والضراء وحين البأس ولقاء الشجعان ونزال الأبطال.
ثالثا- موقف المؤمنين:
ثم بعد بيان حال المنافقين أبان الله تعالى حال المؤمنين عند لقاء الأعداء، فقال:
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً أي ولما شاهد المؤمنون المصدقون بموعود الله لهم، المخلصون في القول والعمل الأحزاب المتجمعة حول المدينة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار بمجابهة الأعداء ثم النصر القريب، وصدق الله ورسوله الوعد بالنصر، وما زادهم تجمع الأعداء وتلك الحال من الشدة والضيق إلا إيمانا بالله، وتصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتسليما لقضائه وقدره وانقيادا لأوامره وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، واعتقادا جازما أن النصر من عند الله تعالى بعد أن يتخذ العباد الأسباب، ويستعدوا للحرب، ويقاتلوا فعلا لأن الجهاد تكليف من الله لعباده، وتعطيل التكليف معصية، ومجرد الاعتماد على قدرة الله وإمداده بالعون والنصر دون عمل من عباده: سوء فهم وجهل وتمنيات شيطانية خادعة.
والتحذير من هذه المفاهيم المخطئة متكرر في القرآن، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت 29/ 2] .(21/274)
وعن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا»
أي في آخر تسع ليال أو عشر.
وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضا: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم» .
وفي الآية دلالة على وجوب الثقة بوعد الله ورسوله، وقوله تعالى:
وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، كما قال جمهور الأئمة: إنه يزيد وينقص.
وبعد بيان حال المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف الله تعالى المؤمنين الذين استمروا على العهد والميثاق، فوفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت، فقال:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي وهناك في مقابلة المنافقين جماعة من المؤمنين المخلصين الصادقين، صدقوا العهد مع الله، ووفوا بما عاهدوا عليه من الصبر في حال الشدة والبأس، فمنهم من انتهى أجله واستشهد كيوم بدر وأحد، ومنهم من ينتظر قضاء الله والشهادة وفاء بالعهد، وما بدلوا عهدهم وما غيّروه، بخلاف المنافقين الذين قالوا: لا نولي الأدبار، فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم.
وقوله: قَضى نَحْبَهُ معناه قاتل فوفى بنذره، والنحب: النذر.
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.
وروى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: «غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فشقّ عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرينّ الله عز وجل(21/275)
ما أصنع، قال أنس: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه:
يا أبا عمرو، أين؟ واها لريح الجنة، إني لأجده دون أحد، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية.
وذكر في الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير وغيرهم رضي الله عنهم.
ثم ذكر تعالى علة ابتلاء المؤمنين وغيرهم وإيلامهم في الحرب، فقال:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي إنما يختبر الله عباده بالخوف ولقاء الأعداء ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر كل واحد منهما بالفعل، ويكافئ الصادقين في إيمانهم بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، وصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا وعودهم، ويعذب المنافقين الذين كذبوا ونقضوا العهد وأخلفوا أوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه.
والكل تحت مشيئة الله في الدنيا، إن شاء بقوا على ما هم عليه حتى يلقوه، فيعذبهم، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى الإقلاع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان، أي إن الهداية إلى الإيمان والتوبة بمراد الله ومشيئته.
ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال:(21/276)
إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث ستر ذنوبهم، ورحمهم ورزقهم الإيمان ووفقهم إلى التوبة، ولا يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل فوات الأوان.
ونظير الآية كثير، منها: قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] وقوله عز وجل: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران 3/ 179] .
رابعا- نهاية المعركة أو الإجلاء:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً أي إن الله تعالى أجلى الأحزاب عن المدينة، وردهم خائبين خاسرين مع غيظهم، لم يشفوا صدرا، ولم يحققوا أمرا، ولم ينالوا أي خير من غنيمة أو أسر أو نصر حاسم، بما أرسل عليهم من الريح الباردة والجنود الإلهية، فتفرقت جموعهم، وتشتت شملهم، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم، لا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة من الآثام في إعلان عداوتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومبارزته، وهمهم بقتله، واستئصال زمرته وجيشه، ومن همّ بشيء، وبدأ بتنفيذ همه بالفعل، فهو في الحقيقة كالفاعل.
وكفى الله المؤمنين القتال، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة حتى يجلوا عن بلادهم، بل كفى الله وحده شرهم، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولهذا
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الشيخان- يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» .
وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأحزاب، فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب،(21/277)
اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم» .
وقال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم»
فلم تغز قريش بعد ذلك، بل غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، حتى فتح الله تعالى مكة.
وكان الله قويا عزيزا، أي غير محتاج إلى قتالهم، قادرا على استئصال الكفار وإذلالهم، ردهم بحوله وقوته خائبين، لم ينالوا خيرا، وأعز الله الإسلام وأهله.
خامسا- حصار بني قريظة:
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ أي وأنزل الله يهود بني قريظة الذين هم من أهل الكتاب والذين عاونوا الأحزاب من حصونهم وقلاعهم.
وذلك لأنهم بمسعى حيي بن أخطب النضيري نقضوا عهدهم الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك يا حيي، إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب (أي يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن، فيكون أسوتهم.
فلما أيد الله تعالى رسوله والمسلمين، وكبت أعداءهم، وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجعوا إلى المدينة،
أرسل الله جبريل عليه السلام، فأوحى إلى(21/278)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائلا: «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» فنهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة»
فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنّف واحدا من الفريقين.
وتبعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد استخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة
، فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية.
فلما جاء سعد
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت» .
فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: «نعم» قال: وعلى من هاهنا؟ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا وإكراما وإعظاما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» .
فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة(21/279)
أرقعة» أي سبع سموات. أو «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله» .
ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأخاديد، فخدّت في الأرض، وجيء بهم مكتّفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبع مائة إلى الثمان مائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء
، وأموالهم، لذا قال تعالى:
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي وألقى في نفوسهم الخوف الشديد، لممالأتهم المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخافتهم المسلمين، وقصدهم قتلهم، فانعكس الحال عليهم، وأسلموا أنفسهم للقتل، وأولادهم ونساءهم للسبي، فريقا تقتلون، وهم الرجال المقاتلة، وتأسرون فريقا، وهم النساء والصبيان.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي جعل الله لكم أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة، وأرضا أخرى لم تطأها أقدامكم بعد وهي التي ستفتح في المستقبل، بعد بني قريظة، مثل خيبر ومكة وبلاد فارس والروم.
وكان الله صاحب القدرة المطلقة على كل شيء، فهو كما ورّثكم أرض بني قريظة، ونصركم عليهم، قادر على أن يورثكم غير ذلك، وينصركم على أقوام آخرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية:
1- إن النصر الحاسم للمسلمين على المشركين في غزوة الخندق والأحزاب، وعلى يهود بني قريظة ناقضي العهد نعمة عظمي تستوجب الشكر والحمد لله تعالى لأنه نصر دبره الله عز وجل بإرسال الريح والملائكة، وقد صدقت فيه(21/280)
عزيمة المؤمنين على خوض المعركة، والدفاع عن مدينتهم عاصمة الإسلام.
2- إن السلطان يشاور أصحابه وخاصته في أمر القتال لأنه لما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماع الأحزاب وخروجهم إلى المدينة، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، فرضي رأيه، وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منا آل البيت» .
وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يومئذ حرّ، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين.
وفي هذا الخبر أيضا وجوب التحصن من العدوّ بما أمكن من الأسباب، وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يد على من سواهم.
أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عنّي الغبار جلد بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول:
اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
3- دلت أخبار السيرة السالفة الذكر ورواية النسائي عن البراء وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب صخرة أثناء حفر الخندق ضربات ثلاثا، أضاءت له الضربة الأولى مدائن كسرى وما حولها، وأنارت له الثانية مدائن قيصر وما حولها، وأبدت له الثالثة مدائن الحبشة وما حولها، ورأى سلمان بعينه ذلك، وتلك معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشّر بها بفتح هذه البلاد،
وقال عند ذلك فيما رواه مالك: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» .(21/281)
4- أعلن بنو قريظة بتواطئهم مع الأحزاب من قريش وغطفان نقضهم العهد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم،
فقال لهم الرسول: «نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته»
وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى أموالهم وذراريهم. وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة.
5- كان تجمع الأحزاب على المدينة وحصارها مثار قلق واضطراب، ومبعث بلاء وشدة خوف، فانتابتهم الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما يسرّون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها، وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك: معتّب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف.
فأقام المشركون في حصارهم المدينة بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، لم يكن بينهم وبين المسلمين إلا الرمي بالنّبل والحصى،
فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عمرو المرّي، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكان ذلك مراوضة ولم تكن عقدا. فلما وافقا استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وقال: «أنتم وذاك» .(21/282)
وقال لعيينة والحارث: «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف» .
وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة، فمحاها.
6- اختراق الخندق: اخترق فوارس من قريش الخندق، منهم عمرو بن ودّ العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهريّ، حتى صاروا بين الخندق وبين سلع،
وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، فنادى عمرو: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال:
لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله، ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علي: أنا والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو ونزل عن فرسه، فعقره، وصار نحو علي، فتنازلا وتجاولا، حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي، اقتحموا بخيلهم الثّغرة منهزمين هاربين.
ورمي يومئذ سعد بن معاذ، فقطع منه الأكحل «1» ، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة، وهو الذي
قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اهتز لموته عرش الرحمن»
يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه، واهتزوا له.
7- مشروعية الخدعة في الحرب، لما فعل نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الذي استطاع بدهائه وحيلته بذر بذور الفرقة بين العرب وبين اليهود، ونجح في خدعته، كما تقدم بيانه.
8- الاجتهاد جائز، سواء أصاب المجتهد أو أخطأ، فقد أقرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كلّا
__________
(1) الأكحل: عرق في وسط الذراع.(21/283)
من الفريقين: الذي صلى العصر في الطريق إلى بني قريظة، والذي أخّر الصلاة حتى فات وقتها، عملا
بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»
فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين.
9-
قسم صلّى الله عليه وسلّم أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما
، قيل: وهي أول غنيمة قسّم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وفي قول آخر: إن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش. ووفّق ابن عبد البر بين القولين: أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [الأنفال 8/ 41] . وكان عبد الله بن جحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.
10- أرسل الله على الأحزاب ريح الصّبا يوم الخندق، حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، وأنزل الملائكة لتفريق الجموع، ولم تقاتل يومئذ،
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والشيخان: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» .
وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المسلمون قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها.
قال المفسرون: بعث الله تعالى الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيّد كل خباء يقول: يا بني فلان هلمّ إلي، فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاء النّجاء، لما بعث الله تعالى عليهم من الرّعب.(21/284)
11- لن يمنع حذر من قدر، فمن حضر أجله، مات أو قتل، ولا ينفعه الفرار، ويكون تمتعه في الدنيا بعد الفرار إلى انقضاء الأجل زمنا قليلا، وكل ما هو آت فقريب.
12- للمنافقين خصال اجتماعية وشخصية قبيحة ومذمومة، فهم بخلاء على المسلمين فيما يحقق المصلحة العامة، بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، جبناء يخافون من لقاء الشجعان، سليطو اللسان يؤذون غيرهم بالكلام يتفاخرون بما هو كذب وزور، والحقيقة أنهم كفرة، لم يؤمنوا بقلوبهم، وإن كان ظاهرهم الإسلام، لوصف الله عز وجل لهم بالكفر في قوله: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وهم كغيرهم من الكفار حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فلا ثواب لهم إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها، وإحباط أعمالهم على الله هيّن يسير.
ولجبنهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا، وكانوا قد انصرفوا، وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال، يتمنوا أن يكونوا مع أعراب البادية، حذرا من القتل.
وانتظارا لإحاطة السوء والهلاك بالمسلمين، يتساءلون ويتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه! أما غلب أبو سفيان وأحزابه! ولو كانوا في ميدان المعركة ما قاتلوا إلا رياء وسمعة.
13- قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الآية عتاب للمتخلفين عن القتال، معناه: كان لكم قدوة في النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق، والتأسي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر، ويرجو لقاء الله بإيمانه، ويصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال، ويذكر الله ذكرا كثيرا، خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه.
وهل التأسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الإيجاب أو الاستحباب! قولان:
أحدهما- على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب.(21/285)
الثاني- على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب.
قال القرطبي: ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
14- موقف المؤمنين نقيض موقف المنافقين، فهم مصدقون واثقون بوعد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم تزدهم المحنة والابتلاء والنظر إلى الأحزاب إلا إيمانا بالله وتسليما للقضاء.
15- التجسس على الأعداء أمر جائز شرعا،
فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان بأن يتعرف أخبار الأحزاب وانصرافهم عن المدينة، قائلا له: «انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني» .
والدعاء لله تعالى مطلوب في أي وقت ولأي حاجة، وبخاصة وقت الشدة،
فقد انطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده يقول: «يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» .
فنزل جبريل وقال: «إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك» فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول:
«شكرا شكرا كما رحمتني، ورحمت أصحابي» .
وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا فبشر أصحابه بذلك.
16- تتلاحق مواكب الشهداء وتتوالى على درب الجهاد في سبيل الله، فمنهم من يستشهد في معركة، ومنهم من ينتظر أجله في معركة أخرى، وهذا أمارة الخير، ودليل على استدامة الكفاح والإخلاص جيلا بعد جيل.(21/286)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
17- أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم، ويعذب في الآخرة المنافقين، وذلك بمشيئة الله، فإن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت.
18- كانت الهزيمة الساحقة في غزوة الخندق لجيوش الأحزاب، إذ ردّ الله أولئك الكفار إلى ديارهم، فرجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة بن بدر إلى نجد، ونصر الله جيش الإيمان بغير قتال كبير، بأن أرسل على الأحزاب ريحا وجنودا، حتى رجعوا، ورجعت بنو قريظة إلى حصونهم أو قلاعهم، فكفى أمر قريظة بالرعب، وكان الله قويا أمره، عزيزا لا يغلب.
19- وهزم بنو قريظة هزيمة نكراء بعد أن عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان، وأنزلوا من حصونهم، وشاع الذعر والهلع في صفوفهم، وكان مصيرهم قتل رجالهم، وأسر نسائهم وأطفالهم، وتوريث المسلمين أراضيهم وبساتينهم ومنازلهم وأموالهم المدخرة.
وبشر الله المؤمنين بأنهم سيرثون بلاد فارس والروم، وكل أرض تفتح إلى يوم القيامة، والله على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، وعلى ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، لا ترد قدرته، ولا يجوز عليه العجز بحال.
تخيير زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة ومقدار ثوابهن وعقابهن
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)(21/287)
الإعراب:
فَتَعالَيْنَ أصله من العلو، إلا أنه كثر استعماله في معنى «انزل» فيقال للمتعالي: تعال، أي انزل.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بينهما ما يسمى بالمقابلة أي الطباق بين جملتين.
المفردات اللغوية:
لِأَزْواجِكَ هن تسع، وطلبن منه من زينة الدنيا ما ليس عنده. الْحَياةَ الدُّنْيا السعة والتنعم فيها. وَزِينَتَها زخارفها. أُمَتِّعْكُنَّ أعطكن المتعة وهي متعة الطلاق وهي مال يعطى للمطلقة. وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أطلقكن من غير ضرار وبدعة، والتسريح: الطلاق، روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة، فنزلت، فبدأ بعائشة، فخيرها، فاختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم اختارت الباقيات اختيارها، فشكر لهن الله ذلك، فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب 33/ 52] .
وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا يدل على أن المخيّرة إذا اختارت زوجها لم تطلق، خلافا لرواية عن علي، ويؤيده
قول عائشة: «خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعدّ طلاقا»
فإذا اختارت نفسها فإنه طلقة رجعية عند الشافعية، وبائنة عند الحنفية. وتقديم التمتيع على التسريح:
من الكرم وحسن الخلق.
وَالدَّارَ الْآخِرَةَ الجنة. فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بإرادة الآخرة. أَجْراً عَظِيماً الجنة، يستحقر دونه الدنيا، ومن في قوله مِنْكُنَّ للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات.
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي مثلي عذاب غيرهن لأن الذنب منهن أقبح، كما أن ثوابهن مرتان، كما قال تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب 33/ 31] . وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم.(21/288)
سبب النزول: نزول الآية (28) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ:
روى أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: «أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، فدخلا، والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى بدا ناجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فبدأ بعائشة، فقال: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية.
قالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى لم يبعثني معنّفا، ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» .
المناسبة:
لما نصر الله نبيه، وفرق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله، وقلن:
«يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول (الخدم) ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق» .
وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن.(21/289)
وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك تسع: هن خمسة من قريش وهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأربعة من غير قريش: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة، وصفيّة بنت حييّ بن أخطب الخيبرية. فلما خيرهن رسول الله اخترن كلهن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. هذا وجه تعلق الآيات بما قبلها. أما مناسبة هذه الآيات للسورة فهي أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله تعالى، وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلّم
بقوله فيما رواه البزار عن أبي رافع: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» .
فلما أرشد الله سبحانه نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب 33/ 1] ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن بالنفقة.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بتخيير نسائه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، والمعنى: يا أيها الرسول قل لأزواجك:
اخترن لأنفسكن إحدى حالين: إما المفارقة إن أحببتن وكان عظيم همكن التعمق في لذات الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها ونعيمها، وحينئذ أعطيكن متعة الطلاق المستحقة وهي مال يهدى للزوجة المطلقة تطييبا لخاطرها، وأطلقكن طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة، وإما الصبر على ما عندي من ضيق الحال، وهو المذكور في الآية التالية.
أما متعة الطلاق: فهي كسوة أو هدية أو مال بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا، كما قال تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ،(21/290)
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
[البقرة 2/ 236] وأما الطلاق الذي لا ضرر فيه ولا بدعة: فهو ما يكون في حال الطهر مع استقبال العدة أي الابتداء بها، لا في الحيض لقوله تعالى: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق 65/ 1] .
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً أي وإن أردتن رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة، فإن الله أعدّ للمحسنة منكن ثوابا عظيما، تستحقر زينة الدنيا دونه. وهذا دليل على أن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنا صالحا. وقوله: تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فيه معنى الإيمان.
ولما خيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة، اخترن جميعا الآخرة، فسرّ بذلك، وشكرهن الله على حسن اختيارهن، وكرّمهن، فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الأحزاب 33/ 52] وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب 33/ 53] .
وزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم اثنتا عشرة، وهن أمهات المؤمنين، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة هي السيدة عائشة، وكان زواجه بالأخريات تأليفا للقلوب، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية، وبناء الدولة، ووحدة الكلمة، وهن «1» :
1- خديجة بنت خويلد: أول زوجاته، تزوجها بمكة، وعاشت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوة سبع سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، وسنّه 54 عاما، وهي أول من آمن من النساء. وجميع أولاده منها غير إبراهيم.
2- سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية، دخل بها بمكة، وتوفيت بالمدينة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 164 وما بعدها.(21/291)
3- عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق، العالمة الفقيهة راوية الحديث الكثير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها.
4-
حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم طلّقها، فقال له جبريل: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوّامة قوّامة» فراجعها.
5- أم سلمة: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ابنها سلمة على الصحيح، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية.
6- أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة سبع من الهجرة ودخل بها بعد الهجرة بسبع سنين وكان وكيله في زواجها عمرو بن أمية الضّمري، وقد أصدقها النجاشي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع مائة دينار، لما مات زوجها.
7- زينب بنت جحش: تزوجها بأمر الله بعد طلاقها من زوجها أسامة بن زيد، لإبطال التبني وآثاره. وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب.
8- زينب بنت خزيمة بن الحارث: تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ماتت بعد ثمانية أشهر، كانت تسمى في الجاهلية أمّ المساكين لإطعامها إياهم.
9- صفية بنت حييّ بن أخطب الهارونية: تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أعتقها، وكانت من سبايا خيبر، اشتراها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دحية الكلبي بسبعة أرؤس.
10- ريحانة بنت زيد: تزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلّم سنة ست، وماتت إثر حجة(21/292)
الوداع، وكان زوجها قد قتل في الحرب، فتزوجها إكراما له ولأولاده.
11- جويرية بنت الحارث بنت أبي ضرار المصطلقيّة الخزاعية، من سبايا بني المصطلق، تزوجها في شعبان سنة ست، وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جويرية.
12- ميمونة بنت الحارث الهلالية آخر امرأة تزوجها.
هؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن.
وله نساء تزوجهن ولم يدخل بهن، منهن الكلابية واسمها فاطمة أو عمرة وهي المستعيذة، وأسماء بنت النعمان بن الجون، وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، وعددهن عشر، وكان له من السراري سرّيّتان: مارية القبطية وريحانة، وأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ومن وهبت له نفسها فعددهن تسع، كأم هانئ بنت أبي طالب.
وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وعظهن وهددهن بمضاعفة العذاب على المعصية فقال:
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي يا نساء النبي وأمهات المؤمنين من يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق، يكون عقابها مضاعفا، لشرف منزلتكن، وفضل درجتكن، وتقدمكن على سائر النساء، فأنتن أهل بيت النبوة، وكان تضعيف العذاب لهن يسيرا هينا على الله الذي لا يحابي أحدا لأجل أحد.
قال أبو حيان: ولا يتوهم أن الفاحشة: الزنى لعصمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من(21/293)
ذلك، ولأنه تعالى وصف الفاحشة بالتبيين، والزنى مما يتستر به، وينبغي حمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- الآيات حث واضح على منع إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أو مضايقته، ولو من أقرب الناس إليه، وفيها أدب عال لبيت النبوة الطاهر، وتسأم لمستوى الأنبياء، وترفع عن حطام الدنيا، وتربية لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم على الزهد والعفة والخلق السامي، وإعظام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
قال العلماء: هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ.. متصلة بما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان قد تأذى ببعض الزوجات.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها.
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أن يكون نبيا ملكا، وعرض عليه مفاتح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل، فأشار عليه بالمسكنة فاختارها فلما اختارها- وهي أعلى المنزلتين- أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له.
2- القول الأصح في كيفية تخيير النبي صلّى الله عليه وسلّم أزواجه أنه خيّرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية، أو الطلاق، فاخترن البقاء لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته، فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعدّه طلاقا، ولم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق.(21/294)
وقيل: إنما خيّرهن بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق.
3- اختلف العلماء في المخيّرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر لقول عائشة فيما أخرجه الصحيحان:
خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعده علينا طلاقا.
وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وهذا غريب.
وفي رواية أخرى عن علي، وهو قول الحنفية: أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة
لأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن.
وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث.
وذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملّكتك أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق، واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه. أما المخيّرة إذا اختارت نفسها، وهي مدخول بها، فهو الطلاق كله، ولا عبرة بإنكار الزوج لأن معنى التخيير: التسريح، والتسريح: البتات قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] وقال تعالى في آية التخيير: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا والتسريح بإحسان: هو الطلقة الثالثة، ومعنى التخيير التسريح. وعلى هذا يكون طلاق المخيرة ثلاثا عند الإمام مالك.
وأكثر الفقهاء في تحديد زمن الخيار على أن لها الخيار: ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا(21/295)
من مجلسهما، بطل ما كان من ذلك إليها، ويرى آخرون أن ما ملكته يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها، وهذا عند المالكية هو الصحيح
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة فيما رواه البخاري والترمذي: «إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك»
فهذا دليل على استمرار التخيير، حيث جعل لعائشة التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر.
والظاهر أن من اختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرم على النبي صلّى الله عليه وسلّم طلاقها، أي لا يباشره أصلا، عملا بعلو منصبه، وسمو خلقه.
4- جعل الله ثواب طاعة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن، بنص الآية هنا: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ والآية التي بعدها:
نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ فأخبر الله تعالى أن من جاء من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بفاحشة- والله عاصم رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك- يضاعف لها العذاب ضعفين لشرف منزلتهن، وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وبينت الشريعة في مواضع كثيرة أنه كلما تضاعفت الحرمات، فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد، والثيب على البكر.
ولما كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في مهبط الوحي، وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وضعف الشيء مثله، فمعنى الضعفين: معنى المثلين أو المرتين، فلو فرض وقوع ما يوجب الحدّ منهن- وقد أعاذهن الله من ذلك- حدّت الواحدة حدّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحدّ، قال الله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور 24/ 2] . ويدل على هذا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ.
انتهى الجزء الحادي والعشرون ولله الحمد(21/296)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
[الجزء الثاني والعشرون]
[تتمة سورة أحزاب]
خصائص أهل بيت النبوة
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 34]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
الإعراب:
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... وَتَعْمَلْ من ذكّر يقنت ويعمل حمله على لفظ مَنْ.
ومن أنّث «تعمل» حمله على لفظ «من» لأن المراد بها المؤنث. ولا مانع في النحو من التذكير بعد التأنيث، كما في قوله تعالى: وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام 6/ 139] .
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط، وجوابه: إما قوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أو ما دل عليه قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وتقديره: إن اتقيتن انفردتن بخصائص من جملة سائر النساء، بدليل قوله تعالى: لَسْتُنَّ.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قَرْنَ أصله «اقررن» من قرّ يقرّ، فنقلت فتحة الراء بعد حذفها إلى القاف، فلما فتحت القاف استغني عن همزة الوصل، وحذفت الراء لتكررها مع نظيرها، وتكررها مع نفسها، وقرئ «قرن» بكسر القاف، إما من «وقر يقر» أي اسكن، وإما من «قرّ يقرّ» والأصل فيه «اقررن» فنقلت الكسرة إلى القاف بعد حذف الراء.(22/5)
أَهْلَ الْبَيْتِ إما منصوب على الاختصاص والمدح،
كقوله صلّى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت»
أي أعني وأمدح أهل البيت، وإما منصوب على النداء، كأن قال: يا أهل البيت، والأول أوجه.
البلاغة:
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ تشبيه بليغ، أي كتبرج أهل الجاهلية، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف عام على خاص بعد قوله: أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ فإن الطاعة تشمل جميع الأوامر والنواهي.
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً استعارة، استعار الرجس للذنوب والمعاصي، والطهر للتقوى لأن عرض العاصي يتدنس، وعرض التقي نقي كالثوب الطاهر.
وتَطْهِيراً ترشيح للتنفير.
المفردات اللغوية:
يَقْنُتْ يخشع ويخضع ويدم على الطاعة، والقنوت: الطاعة في سكون والعبادة في خشوع. نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مثلي ثواب غيرها من النساء، مرة على الطاعة ومرة على طلبها رضا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقناعة وحسن المعاشرة. وَأَعْتَدْنا أعددنا وهيأنا. رِزْقاً كَرِيماً في الجنة زيادة على أجرها سالما من العيوب والآفات. لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل أي لا مثيل لكن في جماعة النساء في الفضل. وأصل كَأَحَدٍ وحد بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام، وهو في النفي يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع الكثير. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله، فلم تخالفوا حكمه، وأرضيتم رسوله. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لا تلنّ القول للرجال مثل قول المريبات. مَرَضٌ تطلع إلى الفسق والفجور والريبة. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا من غير خضوع، بعيدا عن الريبة غير مطمع أحدا.
قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أصله: اقررن، أي الزمن بيوتكن، بفتح القاف من قررت، وبكسرها من وقر يقر، من القرار أي السكون، يقال: قررت في المكان أقرّ به: أقمت فيه. أو من قرّ يقرّ. وَلا تَبَرَّجْنَ أي لا تتبرجن، والتبرج: إبداء المرأة للرجل ما يجب عليها ستره من محاسنها. تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ما كان قبل الإسلام من الجهالات كإظهار النساء محاسنهن للرجال. وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر والنواهي. الرِّجْسَ الذنب أو الإثم أو النقص المدنّس للعرض. أَهْلَ الْبَيْتِ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو منصوب على المدح أو النداء.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي ويطهركم من المعاصي.(22/6)
قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون إجماعهم حجة: ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، وحديث العباءة التي أدخل فيها النبي فاطمة وعلي وولديهما يقتضي أنهم أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ أي عظن النساء بما يتلى، وتذكرن نعم الله عليكن من جعلكن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة. وَالْحِكْمَةِ هي حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً بأوليائه وأهل طاعته. خَبِيراً بجميع خلقه، يعلم ويدبر ما يصلح في الدين.
المناسبة:
اقتضى عدل الله ورحمته أن تكون زيادة العقاب مقرونة بزيادة الثواب، فبعد ذكر مضاعفة العذاب على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ارتكاب الفاحشة، ذكر تعالى خصائص لهن، أولها- مضاعفة الثواب لهن على العمل الصالح، وإعداد الرزق الكريم في الجنة وهو ما يأتي بنفسه، على نقيض رزق الدنيا الذي لا يأتي بنفسه، وإنما بواسطة الغير. وثانيها- امتيازهن على سائر النساء، وثالثها- أمرهن بقوة الكلام وعدم إلانة القول للرجال، ورابعها- الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج، وخامسها- مطالبتهن بمداومة الطاعة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يأمر وينهى، وسادسها- تحقيق صون العرض والسمعة عن الذنوب والمعاصي والتجمل بالتقوى، وسابعها- الأمر بتعليم غيرهن القرآن والسنة النبوية، وتذكر نعمة الله تعالى عليهن.
التفسير والبيان:
1- مضاعفة الثواب: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صالِحاً، نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أي ومن تطع منكن الله ورسوله، وتخشع جوارحها، وتستجب لأمر ربها، وتعمل صالح الأعمال،(22/7)
نضاعف لها الأجر والثواب مرتين، لكونها من أهل بيت النبوة ومنزل الوحي، وأعددنا لها زيادة على هذا رزقا كريما في الآخرة والجنة، لا عيب ولا نقص فيه ولا منّة لأحد ويأتي بنفسه، على عكس رزق الدنيا المشوب بالعيوب والنقائص والمنة ويتوقف على الغير الذي يمسكه ويرسله بواسطة إلى غيره، ولأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم وصفا حقيقيا كاملا إلا الرزاق، وفي الآخرة يوصف بالكريم الرزق نفسه.
ويلاحظ أنه تعالى عبّر هنا عند إيتاء الأجر بقوله نُؤْتِها للتصريح بالمؤتي وهو الله، وفي الآية السابقة عبر عند العذاب بقوله يُضاعَفْ فلم يصرح بالمعذّب، إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، ولأن الكريم عند النفع يظهر نفسه وفعله، وعند الضرّ لا يذكر نفسه «1» .
2- امتيازهن على سائر النساء: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي يا زوجات النبي ليس لكنّ شبيه في جماعة النساء في الفضل والمنزلة والشرف والكرامة، لكونكن أمهات جميع المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، ونزول القرآن في بيتكن وفي حقكن. وهذا التعبير كقولهم: ليس فلان كآحاد الناس، ومعناه أن فيه وصفا أخص ومزية وفضيلة لا توجد في غيره. ونساء النبي كذلك، وشرفهن مستمد من سمو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم القائل في
الحديث المتفق عليه: «لست كأحدهم» .
3- النهي عن لين الكلام: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي إن أردتن التقوى أو كنتن متقيات «2» مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلا تلنّ الكلام ولا ترققنّه عند محادثة الرجال، وليكن كلامكن بجد وحزم وقوة، حتى لا يطمع في الخيانة من في قلبه
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 208
(2) الكشاف: 2/ 537.(22/8)
ميل إلى الريبة والفسق والفجور، وقلن القول المعروف المعتاد الذي ليس فيه ترخيم الصوت، البعيد عن الريبة، الذي يختلف عن مخاطبة الأزواج.
وهذا النهي لا يعني أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال من السوء تقتضي المنع والكف، وإنما المراد حملهن على أسمى الفضائل وملازمتها، فلما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح، منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال على وجه فيه ريبة وإطماع، وإساءة فهم من في قلبه ميل إلى الفجور والفسوق والنفاق.
ونساء الأمة تبع لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآداب التي أمر الله تعالى بها.
والخلاصة: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.
وقوله: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ إما متعلق بما قبله، على معنى: لستن كأحد إن اتقيتن، فإن الأكرم عند الله هو الأتقى، وإما أن يكون متعلقا بما بعده، على معنى: إن اتقيتن فلا تخضعن.
ويصح أن يكون اتَّقَيْتُنَّ بمعنى استقبلتن أحدا من الرجال، واتقى بمعنى استقبل معروف في اللغة، قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
أي استقبلتنا باليد. قال أبو حيان: ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلّق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهرة أنهن لسن متحليات بالتقوى «1» . والمراد بقوله: مَرَضٌ ميل أو تشوف لفجور، وهو الفسق وحديث السوء، وهذا هو الأصوب فليس للنفاق مدخل في هذه الآية.
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 228(22/9)
4- الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة،
أخرج الترمذي والبزّار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة- رحمة- ربها، وهي في قعر بيتها» .
وروى أبو داود أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها» .
أما خروج النساء للمساجد فجائز للعجائز دون الشابات
لما أخرجه أحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات» .
ولا تتبرجن تبرج الجاهلية القديمة قبل الإسلام: وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، والتبرج: إبداء الزينة والمحاسن للرجال كالصدر والنحر، بأن تلقي المرأة الخمار على رأسها ولا تشده، فتظهر عنقها وقرطها وقلائدها.
5- مداومة الطاعة لله ورسوله: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بعد أن أمرهن تعالى بالقول المعروف (وهو القول الحسن الجميل المعروف في الخير) وأتبعه ببيان الفعل المناسب للمرأة وهو القرار في البيوت، ثم نهاهن عن الشر، أمرهن بالخير في إقامة الصلاة (وهو أداؤها على الوجه المطلوب شرعا من الخشوع وإتمام الأركان والشروط) وإعطاء الزكاة (وهي الفريضة الواجبة شرعا والإحسان إلى الناس) وإطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي.
وخص تعالى الصلاة والزكاة، لأهميتهما وخطورتهما وآثارهما الكبرى، فالأولى طهارة النفس وعماد الدين، والثانية طهارة المال وطريق مقاومة الفقر، فهما عمودا الطاعة البدنية والمالية.(22/10)
وقوله: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ من باب عطف العام على الخاص إذ ليس التكليف منحصرا بالصلاة والزكاة، وإنما هو شامل لكل ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، وأمر الله والرسول واحد.
6- تحقيق السمعة العالية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي سبب تلك الأوامر والنواهي والمواعظ إنما هو لإذهاب المأثم عنكن، وتطهيركن من دنس المعاصي والذنوب، وتعمير قلوبكن بنور الإيمان.
وقد استعار الرجس (أو الرجز) للذنوب، والطهر للتقوى لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث كما يتلوث بدنه بالأرجاس القذرة الحسية.
وأما الطاعات فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمر به. والرجس يطلق على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت.
وأهل البيت: كل من لازم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأزواج والأقارب. وتوجيه الأوامر لهم لأنهم قدوة الأمة،
روى الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمرّ بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .
7- الأمر بتعليم القرآن والسنة والتذكير بالنعم: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أي تذكرن نعم الله عليكن من جعل بيوتكن مهابط الوحي، ولا تنسين ما يتلى فيها من آيات الله في قرآنه، وما ينزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الحكمة البالغة والأحكام والعلوم والشرائع، فاعملوا بها وعلموها، إن الله لطيف خبير حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم، فأنزله(22/11)
عليكم، وجعل في بيوتكن الآيات والشرائع، واختاركن زوجات لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو اللطيف فعله يصل إلى كل شيء.
وفي هذا حث على الطاعة والتزام التكاليف الشرعية، وتنفير عن العصيان والمخالفة واقتراف المعاصي.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآداب سبعة أمر الله تعالى بها نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونساء الأمة في أغلبها تبع لهن في ذلك.
1- طاعة الله والرسول والعمل الصالح من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لها ثواب مضاعف، ورزق كريم وهو الجنة.
2- لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم منزلة وفضل وشرف يتميزون بها عن سائر جماعات النساء الأخرى، لكن هذه الفضيلة مشروطة بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونزول القرآن في حقهن، وهذه درجة عالية. وكذلك تمتاز نساء الأمة عن غيرهن من جنس النساء بالتقوى والعمل الصالح، ولكن درجتهن بالطبع أدنى من درجات أمهات المؤمنين أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
3- على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون قولهن جزلا، وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر اللين والميل من الفجار، كما كانت عليه الحال في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات.
وهذا النهي ليس خاصا بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو شامل لنساء المؤمنين أيضا.
وعلى هذا، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام، ويندب لها إذا خاطبت الأجانب، وكذا المحرّمات عليها بالمصاهرة، كزوج الأخت أن تكون نبرات صوتها قوية من غير رفع الصوت.(22/12)
وفي الجملة: القول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
4- أمر الله تعالى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج: وهو إظهار ما ستره أحسن. والخطاب وإن كان لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، ولأن الشريعة تكرر الأمر فيها بلزوم النساء بيوتهن، وعدم الخروج منها إلا لضرورة. وإنما خوطبت نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك تشريفا لهن، وليكونن قدوة الأمة في الطهر والصون والعفاف.
وأما خروج السيدة عائشة رضي الله عنها في موقعة الجمل بين أنصار علي وبين طلحة والزبير، فما كان لحرب، ولكن اشتدت شكاوى الناس إليها من عظيم الفتنة، ورجوا بركتها، وطمعوا في الاستحياء منها إذا رأتها الجموع المتقاتلة، فخرجت بقصد الإصلاح بين الناس، وآثرت ذلك على خروجها للحج الذي كانت قد عزمت عليه، مقتدية بقول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء 4/ 114] وقوله سبحانه:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات 49/ 9] . والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، ولكن لم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، فدارت رحى الحرب واشتد الطعان، وطعن جمل عائشة وعرقبه بعضهم، فاحتملها محمد بن أبي بكر إلى البصرة، ثم أركبها علي رضي الله عنه إلى المدينة في ثلاثين امرأة، فوصلت إليها برّة تقية مجتهدة، مصيبة مثابة في تأويلها، مأجورة فيما فعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب.
5- الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي.
6- إن كل تلك الأوامر والآداب بقصد تطهير أهل بيت النبوة من دنس(22/13)
المعاصي ورجس المنكرات، وجعلهن في طليعة النساء صونا وعفة، وطاعة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وأهل البيت النبوي: هم نساؤه وقرابته منهم العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم، قال الرازي: والأولى أن يقال: هم وأولاده وأزواجه، والحسن والحسين وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي صلّى الله عليه وسلّم وملازمته للنبي «1» . وهذا واضح من ألفاظ الآية وسياقها، فالخطاب في مطلع الآيات ونهايتها موجّه إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم.
لكن قال القرطبي: والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: وَيُطَهِّرَكُمْ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكّر والمؤنث غلّب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهنّ، يدل عليه سياق الكلام «2» .
وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره عن أم سلمة فهو كما قال الترمذي:
هذا حديث غريب. ونصه: قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: «هؤلاء أهل بيتي» وقرأ الآية، وقال: «اللهم أذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرا» فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال:
«أنت على مكانك، وأنت على خير» . وقال القشيري: وقالت أم سلمة:
أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: «نعم» .
7- التذكير بنعمة الله على نساء النبي إذ صيّرهن الله في بيوت يتلى فيها
__________
(1) تفسير الرازي: 25/ 209
(2) أحكام القرآن: 3/ 1527(22/14)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
القرآن والحكمة وهي كلمات النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأمر بالتفكير فيها، والاتعاظ بمواعظ الله تعالى، وإحسان الأفعال، وحفظ أوامر الله تعالى ونواهيه، وإخبار الناس وتبليغهم بها ليعملوا بها ويقتدوا.
وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدّين.
قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن، وتعليم ما علّمه من الدين، فكان إذا قرأه على واحد أو ما اتفق، سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلّغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة، ولا كان عليه إذا علّم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس، فيقول لهم: نزل كذا، ولا كان كذا، ولا يلزم أن يبلّغ ذلك الرجال «1» .
المساواة بين الرجال والنساء في ثواب الآخرة
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1527(22/15)
الإعراب:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ.. الآية: كله منصوب بالعطف على اسم إِنَّ، وخبرها:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً. وقوله: وَالذَّاكِراتِ حذف منه المفعول، وكذلك:
وَالْحافِظاتِ حذف مفعوله، وتقديره: والذاكرات الله، والحافظات فروجهن، فحذف المفعول لدلالة ما تقدم عليه. وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين، وأما عطف الصنفين على الصنفين فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، لتغاير الوصفين، وكأن معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات لهم مغفرة.
البلاغة:
وَالذَّاكِراتِ وَالْحافِظاتِ فيهما إيجاز بالحذف، حذف المفعول لدلالة السابق عليه، أي والذاكرات الله، والحافظات فروجهن.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ من باب التغليب لأنه إذا اجتمع الذكور والإناث، غلّب الذكور، ثم أدرجهم في الضمير.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله الآتين بأركان الإسلام، والإسلام: الانقياد والخضوع لأمر الله. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بأركان الإيمان، والإيمان: التصديق بما جاء عن الله من أمر ونهي. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ الخاضعين لله المداومين على الطاعة، والقنوت: الطاعة في سكون. وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول والعمل.
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وعن المعاصي، فالصبر: تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي. وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله بقلوبهم وأعضائهم، والخشوع: السكون والطمأنينة. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم. وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المفروض في رمضان وغيره من النذور وكفارات الأيمان والقتل الخطأ.
وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عن الحرام. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم، وهي ما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفّرات. وَأَجْراً عَظِيماً على طاعتهم: وهو نعيم الآخرة.
سبب النزول:
أخرج الترمذي وحسّنه عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت:(22/16)
ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية.
وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال: قالت النساء:
يا رسول الله، ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات، فنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية.
وأخرج ابن سعد عن قتادة قال: لما ذكر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت النساء:
لو كان فينا خير لذكرنا، فأنزل الله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية.
وأخرج الإمام أحمد والنسائي وابن جرير عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم تقول: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر، قالت: وأنا أسرّح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرتي- حجرة بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: «يا أيها الناس، إن الله تعالى يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية.
المناسبة:
بعد أمر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ونهيهن عن الأمور السابقة، وبيان ما يكون لهن من ثواب، أبان الله تعالى ما أعدّ للمسلمين والمسلمات من المغفرة والثواب العظيم في الآخرة.
التفسير والبيان:
هذه الآية وعد للرجال والنساء على الطاعة، والاتصاف بهذه الخصال، ذكر الله تعالى فيها عشر مراتب إشارة إلى ما يجب أن يكونوا عليه، دون اتكال نساء النبي على صحبته وملازمته وقربهن منه:(22/17)
1- الإسلام والانقياد لأمر الله واتباع أحكام الدين قولا وعملا.
2- الإيمان والتصديق التام بما جاء عن الله من شرائع وأحكام وآداب. وهذا دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وأن الأول أخص من الثاني، فالإيمان: هو الاعتقاد والتصديق الكامل مع العمل الصالح، والإسلام قول وعمل بالفعل قال تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/ 14] .
وفي الصحيحين: «لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن»
فيسلبه الإيمان، ولا يلزم منه كفره بإجماع المسلمين، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام.
3- القنوت: وهو دوام العمل الصالح، والطاعة في سكون، كما قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزّمر 39/ 9] وقال سبحانه: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم 30/ 26] . وقال عز وجل: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران 3/ 43] .
ويلاحظ التدرج بين هذه المراتب، فالإسلام: إسلام الظاهر من النطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ثم يأتي بعده مرتبة يرتقى إليها وهو الإيمان الذي هو الإذعان والتصديق الباطني في القلب، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ثم ينشأ عن مجموعهما القنوت الذي هو السكون والخشوع في الطاعة وأداء العبادة.
4- الصدق في القول والعمل، وهو خصلة محمودة، وعلامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق، فمن صدق نجا،
وفي الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن ابن مسعود: «عليكم بالصدق، فإن(22/18)
الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب، حتى يكتب عند الله كذّابا» .
لذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرّب عليه كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام.
وهذه المرتبة تلي القنوت، فإن من آمن وعمل صالحا كمل، فيكمّل غيره، ويأمر بالمعروف، وينصح أخاه بصدق.
5- الصبر على المصائب، وتحمل المشاق في أداء العبادات وترك المعاصي، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصعبه وأوجبه في أول وهلة من الحادث. وهو سجية الراسخين الأثبات. ويأتي بعد المراتب السابقة لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى، فيصبر عليه.
6- الخشوع: وهو السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع لله تعالى قلبا وسلوكا، خوفا من عقاب الله تعالى، ومراقبته، كما
في الحديث الصحيح عند مسلم عن عمر: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .
وهذه المرتبة تأتي بمثابة المراقبة على أعمال الحسنات، فإذا عملها الإنسان قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته، فأمر تعالى بالتواضع حتى لا تجمح الأهواء والشهوات بالنفس، فتوقعها فيما يرديها، وقد تعصف بثمرات جميع الأعمال الصادرة عنها.
7- التصدق بالمال: وهو الإحسان إلى المحتاجين الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب، فيعطون حال الفرض والنفل طاعة لله وإحسانا إلى خلقه،
وقد(22/19)
ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله- فذكر منهم-: ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»
وفي حديث آخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار» .
وهذه مرتبة تعد ترجمانا عمليا للخصال السابقة لأن بذل المال شاق على النفس، لمحبتها إياه، وهي دليل على محبة الإنسان لأخيه، فيساعده لينقذه من آفات الفقر والحاجة، كما أن الصدقة تزكية للمال وتطهير له.
8- الصوم فرضا ونفلا: وفيه تسأم روحي عن التعلق بالماديات، والإقبال على عبادة الله، ومن أكبر المعونة على كسر حدّة الشهوة، كما
ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه عن ابن مسعود عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»
وهو أيضا تزكية للبدن، كما
في الحديث الذي رواه ابن ماجه عنه صلّى الله عليه وسلّم: «والصوم: زكاة البدن»
أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا، كما قال سعيد بن جبير: «من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، دخل في قوله تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ.
9- العفّة وحفظ الفروج عن المحارم والمآثم، إلا عن المباح، كما قال تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ [المؤمنون 23/ 5- 7] . ومن اخترق حرمة الفروج وزنى، هان عليه اختراق حرمات الدين كلها، ومن صان فرجه وعفّ نفسه، كان من الطاهرين الأصفياء الذين استحقوا رضوان الله تعالى.
ويلاحظ أن بين المرتبتين الأخيرتين تجانسا، فالصّوام إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة الباطنية من عبادة الله، والأعفّاء حفظة الفروج إشارة إلى الذين لا تمنعهم شهوة الفرج عن العبادة.(22/20)
10- الذّكر الكثير لله تعالى: وهو استحضار عظمة الله تعالى في القلب، وتنزيهه باللسان عن كل نقص، ووصفه بكل كمال في جميع الأحوال، بنية صادقة لله. ويلاحظ أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر «الذّكر» قرنه بالكثرة، ليرشدنا إلى أنه لا يصير الإنسان ذاكرا حتى يداوم على الذكر قائما وقاعدا ومضطجعا، وهذا مروي عن مجاهد. وقد يصبح ذاكرا بصلاة التهجد ليلا، كما
أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا ركعتين، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» .
ويكون الذكر أيضا بالصلاة وفي الأكل والشرب والمشي والبيع والشراء والركوب والهبوط، وغير ذلك من الأحوال في غير أماكن القاذورات، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 191] .
وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب 33/ 41- 42] .
وقد ختمت هذه الآداب بالذكر لأن صحة جميع الأعمال الدينية من إسلام وإيمان وقنوت وصدق وصبر وخشوع وصدقة وصوم بذكر الله تعالى وهي النية.
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبق المفردون، قالوا: وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» .
وأخرج أحمد أيضا عن معاذ الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن رجلا سأله، فقال: أيّ المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أكثرهم لله تعالى ذكرا، قال: فأيّ الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أكثرهم لله عز وجل ذكرا، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(22/21)
أكثرهم لله ذكرا» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل» .
ثم ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء جميعا فقال:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أي إن الله تعالى هيّأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم وأجرا عظيما وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية كما وضح في تفسيرها عشرة آداب أمر الله تعالى بها، وهي تجمع أصول الإسلام في الاعتقاد والعبادة والأخلاق والسلوك والعمل الاجتماعي البناء في إطار من النية الصادقة والإخلاص لله عز وجل وهو المراد بذكر الله كثيرا.
وقد بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه دعامة الإسلام، وأتبعه بالقانت:
العابد المطيع، ثم الصادق: الذي يفي بما عوهد عليه، والصابر عن الشهوات وعلى الطاعات وقت الرخاء والشدة (أو المنشط والمكره) والخاشع: الخائف لله، والمتصدق بالفرض والنفل، والصائم فرضا ونفلا، وحافظ الفرج عما لا يحلّ من الزنى وغيره، وذاكر الله كثيرا في أدبار الصلوات وغدوّا وعشيا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم، وفي الذكر فوائد كثيرة محورها ربط المؤمن بالله تعالى في جميع الأحوال. قال مجاهد: لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: من أيقظ أهله بالليل، وصلّيا أربع ركعات، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.(22/22)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
الإعراب:
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.. تذكير الفعل على أن الخيرة بمعنى التخيير، فهي مصدر بمعنى الاختيار، ومن قرأ بالتاء لأن اللفظ مؤنث.
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وَاللَّهُ: مبتدأ، وأَحَقُّ: خبر المبتدأ، وأَنْ تَخْشاهُ: إما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، وإما مرفوع على أنه مبتدأ، وأَحَقُّ خبره، والجملة من المبتدأ أو الخبر في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ الأول وهو الله تعالى، أو مرفوع على أنه بدل من الله تعالى.(22/23)
سُنَّةَ اللَّهِ منصوب مصدر لفعل دل عليه ما قبله وهو فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي سنّ له سنة، أو منصوب بنزع الخافض، أي كسنة الله.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع.
وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ رَسُولَ خبر كانَ مقدرة، أي ولكن كان محمد رسول الله.
ومن قرأه بالرفع جعله خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو رسول الله.
البلاغة:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ التنكير لإفادة العموم لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي ليس لمؤمن ولا لمؤمنة أن يريد غير ما أراده الله ورسوله.
تُخْفِي ومُبْدِيهِ بينهما طباق.
قَدَراً مَقْدُوراً بينهما جناس اشتقاق.
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فيهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما يصح له أو ما ينبغي له إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه قضاء الله. والسبب أنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته: أميمة بنت عبد المطلب، خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله الْخِيَرَةُ الاختيار، فليس لهم أن يختاروا من أمرهم شيئا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله ضَلالًا مُبِيناً أي ظاهرا بيّن الانحراف عن الصواب.
وَإِذْ تَقُولُ أي اذكر حين تقول أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعتق والتحرير، وهو زيد بن حارثة، كان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، والأصح أن السيدة خديجة وهبته له، ثم أعتقه وتبناه، وقد تقدمت قصته أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب وَاتَّقِ اللَّهَ في أمر طلاقها، ولا تطلقها ضرارا وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي تخفي في نفسك ما الله مظهره وهو الأمر من الله بزواجها بعد طلاقها من زوجها «1» وَتَخْشَى النَّاسَ أي
__________
(1) الإخفاء هو لزواجها المأمور به من الله لإبطال عادة التبني وآثاره في الجاهلية، وليس المراد كما جاء في تفسير الجلالين وغيره إخفاء حبها حين وقع بصره عليها بعد حين من زواجها، فهذا الكلام باطل لا أصل له، ويتنافى مع منصب النبوة، فهي ابنة عمته يعرفها من قديم، وكان بإمكانه أن يتزوجها قبل تزويجه إياها من زيد.(22/24)
تستحييهم وتخاف تعييرهم إياك وقولهم: تزوج زوجة ابنه الذي تبناه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ في كل شيء، والواو للحال، فتزوجها ولا تأبه لقول الناس، قال البيضاوي: وليست المعاتبة على الإخفاء وحده، فإنه وحده حسن، بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه.
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة، أي لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها زَوَّجْناكَها جعلناها لك زوجة وأمرناك بزواجها، فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن بشر، بعد إذن الله تعالى، وأشبع المسلمين خبزا ولحما، فكانت بلا واسطة عقد بشري، بدليل أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تولى إنكاحي، وأنتن زوّجكن أولياؤكن. حَرَجٌ مشقة وضيق دائم أَدْعِيائِهِمْ جمع دعي وهو الابن المتبنى وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي مقضيه مَفْعُولًا نافذا حاصلا لا محالة، كما كان تزويج زينب. وجملة لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ.. علة للتزويج، وهو دليل على أن حكم النبي وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل.
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي قسم له وقدر وأجل، مأخوذ من قولهم: فرض له في الديوان كذا، وفرض للعسكر أو الجند كذا، أي قدر لهم أرزاقهم فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مضوا من الأنبياء ألا حرج عليهم في ذلك، وفيما أباح لهم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً فعله قضاء مقضيا وحكما مبتوتا كائنا لا بد منه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي لا يخشون مقالة الناس فيما أحل الله لهم، وهو تعريض بعد تصريح وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم، فينبغي ألا يخشى إلا منه.
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة، فيثبت ما يترتب على البنوة من حرمة المصاهرة وغيرها، فليس أبا زيد، أي والده، فلا يحرم عليه التزوج بزوجته زينب وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أي ولكن كان رسول الله، وكل رسول أبو أمته، لا مطلقا، بل من حيث إنه رؤف بهم، ناصح لهم، واجب التوقير والطاعة عليهم، وزَيْدٌ منهم كبقية المؤمنين وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بكسر التاء، فاعل الختم، أي فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيا، وبفتح التاء بمعنى الطابع كآلة الختم، أي وآخرهم الذي ختمهم، أو به ختموا وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعلم من يليق بأن يختم به النبوة، فلا نبي بعده، وكيف ينبغي شأنه.
وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم لا ينافي الآية، فإن هؤلاء قد أخرجوا من حكم النفي بقوله: مِنْ رِجالِكُمْ لأن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال، ولأنه قد أضاف الرجال إليهم، وهؤلاء رجاله، لا رجالهم.
وأما كون عيسى ينزل في آخر الزمان، فلا يتناقض مع قوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ لأن(22/25)
المعنى: لا يكون هناك بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم نبوة مبتدأة جديدة، فلا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبّئ قبله، وحين ينزل يحكم بشريعة محمد، ويصلي إلى قبلته، كأنه بعض أمته.
سبب النزول:
نزول الآية (36) :
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآيات،
أخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب، يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد، أبت، فأنزل الله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية، فرضيت وسلّمت.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا، فأنزل الله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآية كلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أول امرأة هاجرت من النساء، فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، قالا: إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزوجنا عبده. وهذا قول أضعف مما سبق، فيكون الراجح ما
ذكره قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبيّن أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت، فنزلت الآية.
نزول الآية (37) :
وَإِذْ تَقُولُ:
أخرج البخاري عن أنس أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال: جاء زيد بن(22/26)
حارثة يشكو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
أمسك عليك أهلك، فنزلت: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
وأخرج مسلم وأحمد والنسائي قال: لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد: اذهب، فاذكرها علي، فانطلق، فأخبرها، فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر «1» ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليها بغير إذن. قال: ولقد رأيتنا حين دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، ثم أخبرته أن القوم قد خرجوا، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية.
نزول الآية (40) :
ما كانَ مُحَمَّدٌ..:
أخرج الترمذي عن عائشة قالت: لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الآية.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بتخيير زوجاته بين البقاء معه، والتسريح الجميل، حتى لا يظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يريد ضرر الغير، ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان في كل شيء، كما في شأن الزوجات، بل هناك أمور لا اختيار فيها لأحد، وهي ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أراد النبي
__________
(1) آمره في أمره، ووامره واستأمره: شاوره.(22/27)
فهو الحق، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا لأن الله هو المقصد، والنبي هو الهادي الموصل.
ثم ذكر الله تعالى قصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب، تنفيذا لأمر الله، وتقريرا لشرع محكم دائم مشتمل على فائدة، خال من المفاسد، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا بين الرسل فيما أباح الله له من الزوجات، وأنه من أولئك الرسل الكرام الذين يبلّغون رسالات ربهم، ولا يخشون أحدا غير الله، وهو بهذا الزواج من زينب قد أبطل بالفعل بعد القول ما كان مقررا في الجاهلية من حرمة الزواج بحليلة الابن بالتبني، كما قال تعالى في هذه الآيات: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ثم أكد ذلك بقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.. الآية.
التفسير والبيان:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي ليس لأي مؤمن أو مؤمنة إذا حكم الله ورسوله بأمر أن يختاروا أمرا آخر، وإنما عليهم الامتثال لأمر الله ورسوله، وتجنب معصيته. ومبلّغ الأمر هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الله لتعظيم أمر رسوله، فصار حكم الله ورسوله واحدا، وقضاؤهما واحدا، فإذا قضى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر لم يكن لبشر اختيار غيره. وهذه الآية داخلة في ضمن قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب 33/ 6] .
ثم حذر الله تعالى من عصيان الأمر فقال:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي ومن يخالف أمر الله أو أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو يعصي ما نهيا عنه، فقد انحرف عن طريق الهدى والرشاد، ووقع في متاهات الضلال المبين البعيد عن منهج الحق والخير، المؤدي إلى ضياع(22/28)
المصالح والانغماس في المفاسد، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] .
وإزاء هذا الحكم الإلهي القاطع والتحذير من العصيان، فإن زينب بنت جحش التي نزلت الآية بسببها، امتثلت أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقبول زواجها من زيد بن حارثة مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم وعبده المعتق، وهي من علية قريش وذؤابة القوم، وبنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: «إذن لا أعصي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد أنكحته نفسي» بعد أن استنكفت من زيد، وقالت: أنا خير منه حسبا» لأنها كانت امرأة فيها حدّة.
وكان في زواجها بزيد حكمة بالغة هي إعلان المساواة بين الناس، والقضاء على فوارق النسب والحسب، ما دامت مظلة الإسلام واحدة يتساوى فيها الجميع، وأن التفاضل فيه إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
ولكن بالرغم من الموافقة الظاهرية على هذا الزواج، ظلت الكوامن النفسية والآلام قائمة، وبقيت زينب كارهة لزيد، متعالية عليه، فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرارا،
فكان صلّى الله عليه وسلّم ينصحه قائلا: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ إلى أن نفذ حكم الله، وحدث الطلاق
، وهو ما قررته الآيات التالية:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ أي واذكر يا محمد حين كنت تقول لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق والحرية والتربية والتقريب منك: أبق على زواجك بزينب، واصبر على طبعها وخلقها، واتق الله في شأنها وفي طلاقها، فلا تطلقها لتعاليها وشعورها بالرفعة والشرف، فإن الطلاق مضرة. وهذا نهي تنزيه وتعليم وتربية، لا نهي تحريم وحظر لأن الأولى على كل حال ألا يطلقها، لأن الطلاق شائن لها.(22/29)
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي وتخفي أيها الرسول في نفسك ما الله مظهره من الحكم، وهو علمك بأن زيدا سيطلقها وستنكحها لأن الله قد أعلمه بذلك، وتخاف من تعيير الناس ونقدهم واعتراضهم النابع من منطق الجاهلية، والله بعد أن أنزل عليك وحيه وشرعه المصحح لأعراف الجاهلية وتقاليدها أو المبطل لها، أجدر وحده أن تخاف منه، وتلزم أمره، وتمضي حكمه دون مبالاة بشرائع غيره. فقوله: وَاتَّقِ اللَّهَ أي في طلاقها، فلا تطلّقها، وأراد بذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم لأن الأولى ألا يطلق.
عن عائشة رضي الله عنها: لو كتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا مما أوحي إليه، لكتم هذه الآية.
والمراد من هذا التوجيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أن يصمت حين قال له زيد: أريد مفارقتها، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يتناقض سرّه مع علانيته، وليتساوى ظاهر الأنبياء وباطنهم، ولتبدو ظاهرة التصلب في الأمور الجادة التي نزل فيها وحي إلهي.
ثم أعلن الله تعالى حكم زواج زينب المطلقة بعد انتهاء عدتها من نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً، زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي لما طلقها زيد، وانتهت حاجته منها، وملّها، وانقضت عدتها، جعلناها لك زوجة، ليرتفع الحرج والضيق من بين المؤمنين إذا أرادوا الزواج بمطلّقات أدعيائهم وهم الذين تبنوهم في الجاهلية، ثم أبطل الإسلام حكم التبني وألغى جميع آثاره، وصفّى كل نتائجه، وكان قضاء الله وقدره نافذا وكائنا لا محالة، وحكمه سائدا وشرعه دائما في كل زمان، ومن أحكام الله في سابق علمه أن زينب ستصير زوجة(22/30)
للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والوطر: كل حاجة للمرء له فيها همّة، والجمع: الأوطار، قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته، يعني الجماع. وفي التعبير إضمار أي لما قضى وطره منها، وطلّقها زوجناكها، وقراءة أهل البيت: زوجتكها.
وفي هذا إشارة إلى أن التزويج لزينب من النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن لقضاء شهوة، بل لبيان الشريعة بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن الفعل أوكد، والشرع يستفاد على نحو أقطع من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد أريد من هذا الزواج نفي الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انتهاء رابطة الزوجية بينهم وبينهن.
روى البخاري والترمذي رحمهما الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
«إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتقول: زوّجكن أهاليكنّ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات» .
وقال محمد بن عبد الله بن جحش: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما فقالت زينب رضي الله عنها: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها.
وذكر ابن جرير عن الشعبي رضي الله عنها عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إني لأدلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدّي وجدّك واحد، وإن الله عز وجل أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل عليه السلام» .
ثم أخبر الله تعالى عن سنته وحكمه في الرسل والأنبياء، فقال:
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي لم يكن على النبي حرج أو عيب فيما أحل(22/31)
له وأمره من زواج زينب مطلّقة دعيه ومتبناة سابقا زيد بن حارثة رضي الله عنه. وهذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء، وعليهم في ذلك حرج وضيق، وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وهذا رد على المنافقين الذين عابوا رسول الله في تزوجه امرأة زيد مولاه ودعيّه الذي كان قد تبناه، ورد أيضا على اليهود الذين عابوه من كثرة الزوجات، فقد كان لداود وسليمان عليهما السلام عدد كثير من النساء.
ثم مدح الله رسله الكرام، فقال:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي إن أولئك الرسل الذين رفع الله الحرج عنهم فيما أحل لهم، وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلّم مهمتهم تبليغ رسالات الله وشرائعه إلى الناس وأداؤها بأمانة، وهم يخافون الله وحده في ترك تبليغ شيء من الوحي، ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد أو انتقاده عن إبلاغ رسالات الله تعالى، وكفى بالله ناصرا ومعينا، وحافظا لأعمال عباده ومحاسبهم عليها.
ثم رد الله تعالى على نقد من قالوا: إن محمدا تزوج حليلة ابنه، فقال:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي إن التزوج بزوجة الابن النسبي بالفعل هو غير جائز، أما التزوج بزوجة المتبنى بالتبني المصطنع فهو جائز، خلافا لشرعة الجاهلية، وإن زيدا لم يكن ابنا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم حقيقة وإن كان قد تبناه، وليس هو أبا على الحقيقة لأحد من الرجال، وإنما هو رسول الله لتبليغ رسالته وشرعه إلى الناس، وهو الذي ختم به أنبياء الله ورسله، وكان الله وما يزال عليما مطلعا على كل شيء، يعلم من بدئت به النبوة ومن ختمت به، ولا يفعل إلا ما هو الأصلح، ولا يختار إلا من هو(22/32)
الأجدر، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] .
فليس بين محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين أحد من الناس أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، وإنما هو أب روحي لجميع المؤمنين، شديد الإشفاق عليهم، يستوجب التوقير والاحترام، كما قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب 33/ 6] وهذا أمر أجمع وأعم، وأما قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ.. فهو خاص.
وأما أبوته صلّى الله عليه وسلّم الخاصة فهو أب لأربعة ذكور، وأربع بنات، فقد ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، ثم ماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ثم مات رضيعا، وكان له أربع بنات من خديجة:
زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة، وقد ماتت الثلاث الأول في حياته صلّى الله عليه وسلّم، ثم ماتت فاطمة بعده لستة أشهر.
وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعد نبي الله محمد، ولا رسول بعده بالطريق الأولى لأن النبوة أعم من الرسالة، والرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا عكس، وإذا انتفى وجود النبي بصريح الآية، انتفى وجود الرسول أيضا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- يحظر ويمنع على أي مؤمن أو مؤمنة إذا قضى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر أن يختار غيره لأن لفظة ما كان، وما ينبغي معناها هنا الحظر والمنع، فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية. وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها(22/33)
[النمل 27/ 60] . وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمران 3/ 79] وقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى 42/ 51] . وربما كان في المندوبات كما تقول: «ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل» ونحو هذا.
2- في هذه الآية دليل للمالكية على أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان، خلافا للجمهور لأن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوّج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف. وقد أراد الله امتحان زينب بزواج زيد لهدم مبدأ العصبية الجاهلية والامتياز الطبقي أو العنصري، وجعل أساس التمايز هو الإسلام والتقوى.
3- يجب اتباع أمر الله ورسوله لأن الله أخبر أن من يعصي الله ورسوله فقد ضل طريق الهدى. قال القرطبي: وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة «افعل» للوجوب في أصل وضعها لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علّق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب «1» .
4- أراد الله تعالى من عتاب نبيه بآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ.. إظهار صلابة الأنبياء في بيان الأحكام الإلهية، وأن يكون ظاهرهم
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/ 188 [.....](22/34)
وباطنهم سواء لأن الله تعالى أعلم نبيه بأن زيدا سيطلّق زينب وينكحها هو، فما الداعي لوعظه وقوله له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ؟.
وقد أخفى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أخبره الله به من طلاق زينب وزواجه، لا أنه أخفى استحسانها وحبّه لها والحرص على طلاق زيد إياها، كما يقول قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره، فهذا لا يليق بمنصب النبوة، ولا يتفق مع الواقع، فإنه كان بإمكانه أن يتزوجها وهي بكر، وهو يعرفها لأنها ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت هي ترغب بذلك، بدليل أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خطبها لزيد، ظنت أنه خطبها لنفسه، والخلاصة: أن قائل ذلك- إن تعمد- جاهل بعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته.
وأشد قبحا ما قال مقاتل: زوّج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش من زيد، فمكثت عنده حينا، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم أتى زيدا يوما يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: «سبحان مقلّب القلوب» فسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففطن زيد، فقال:
يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري الفقيه المالكي الذي ولي قضاء العراق، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم: هو ما
روي عن علي بن الحسين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلّق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكّى زيد للنبي صلّى الله عليه وسلّم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة الأدب(22/35)
والوصية: «اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها وخشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من خشيته الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: «أمسك» مع علمه بأنه يطلّق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال.
ويدل تحرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من هذا الزواج على أن للأعراف والعادات تأثيرا كبيرا في المجتمعات والسلوك.
5- اقترنت واقعة زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب في السيرة بأحكام شرعية، منها: استخارة الله في الأمور، فعند ما جاء زيد يخطبها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن.
ومنها: ندب وليمة الزواج، قال أنس بن مالك فيما يرويه مسلم:
«ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة.
ومنها: أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب علي فلانة، وهو زوجها المطلقة منه، ولا حرج في ذلك، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لزيد في رواية: «اذكرها علي» أي اخطبها.
6- اختصاص النبي صلّى الله عليه وسلّم بتزويج الله تعالى له، فلما وكّلت زينب أمرها إلى الله، وصح تفويضها إليه، تولى الله إنكاحها، ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في عقود زواجنا، ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقول: «زوجكن آباؤكن، وزوّجني الله تعالى» . أخرج النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت(22/36)
زينب تفخر على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء، وفيها نزلت آية الحجاب.
7- المنعم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة إذ أعتقه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما اختار البقاء عنده، مفضلا إياه على أبيه وعمه،
وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا أني وارث وموروث» فلم يزل يقال: زيد بن محمد، إلى أن نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ونزل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.
8- قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السّهيلي رحمه الله تعالى: كان يقال:
زيد بن محمد، حتى نزل: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد. فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخصّ بها أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي أنه سماه في القرآن فقال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً يعني من زينب. ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوّه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم له.
فهو لا يزال مترددا على ألسنة المؤمنين، ومذكورا على الخصوص عند رب العالمين إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد فاسم زيد هذا في الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السّفرة الكرام البررة.
وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه.
وزاد في الآية أن قال: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي بالإيمان فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
9- قوله تعالى: زَوَّجْناكَها دليل على ثبوت الولي في النكاح.(22/37)
10- أعلم الله جميع الأمة أنه سنّ لمحمد صلّى الله عليه وسلّم التوسعة عليه في النكاح سنّة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان، فكان لداود مائة امرأة، وثلاث مائة سرّية، ولسليمان ثلاث مائة امرأة وسبع مائة سرّية.
11- دلت آية ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بأب شرعي لزيد، وليس زيد ابنا له، حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمّته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، واعتراضهم بقولهم: تزوج النبي امرأة ابنه وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة.
ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور كما تقدم: إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهّر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
12- الحقيقة أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله، وخاتم النبيين، وقوله خاتَمَ بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم، وبكسر التاء: بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم.
وهذا دليل قاطع على أنه لا نبي ولا رسول بعده صلّى الله عليه وسلّم، وفيه وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منها
ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللّبنة، فأنا موضع اللّبنة حيث جئت، فختمت الأنبياء» ونحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال: «فأنا اللّبنة وأنا خاتم النبيين» .
ومنها ما أخرجه الصحيحان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن لي(22/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» .
ومنها ما رواه أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي» فشق ذلك على الناس، فقال: «ولكن المبشّرات» قالوا: يا رسول الله، وما المبشّرات؟ قال: «رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة» .
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله» قال ابن عبد البر: يعني الرؤيا- والله أعلم- التي هي جزء منها كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» .
وإتمام النبوات مشابه لإتمام الأخلاق،
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .
وهذا كله رد قاطع على المتنبئين كالأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذّاب باليمامة، وسجاح، وغيرهم من أدعياء النبوة الأفاكين، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء 26/ 221- 222] .
تعظيم الله تعالى وإجلاله بالأذكار والتسابيح الكثيرة
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)(22/39)
البلاغة:
بُكْرَةً وَأَصِيلًا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً أي في أغلب الأوقات، ويشمل مختلف أنواع التقديس والتمجيد والتهليل والتحميد وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي بالرحمة وَمَلائِكَتُهُ بالاستغفار لكم، والاهتمام بما يصلحكم، والمراد بالصلاة المشتركة بين الله وملائكته: هو العناية بصلاح أمركم، وظهور شرفكم ورفعة شأنكم لِيُخْرِجَكُمْ ليديم إخراجه إياكم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي كان الله وما يزال رحيما بعباده المؤمنين، حتى اعتنى بصلاح أمرهم ورفع قدرهم وهو دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة تَحِيَّتُهُمْ أي تحية الله للمؤمنين بلسان الملائكة هي السلام، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي يحيّون يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبر، أو دخول الجنة سَلامٌ إخبار بالسلامة من كل مكروه وآفة وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً هي الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (43) :
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي..: أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما نزلت:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب 33/ 56] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه، فنزلت:
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ.
المناسبة:
بعد بيان ما ينبغي أن يكون عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الله وهو التقوى والإخلاص، وما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وأقاربه بقوله تعالى: يا أَيُّهَا(22/40)
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ
وهو تحقيق الحرية والاستقرار الزوجي، أمر الله تعالى عباده المؤمنين بما أمر به أنبياءه المرسلين من تعظيم الله وإجلاله بذكره وتسبيحه في أغلب الأوقات ومختلف أنواع الطاعات، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ليحقق لهم أجزل الثواب ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بكثرة ذكر ربهم تبارك وتعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم، لينالوا جزيل الثواب وجميل المآب، فيقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي يا أيها الذين أيقنوا وصدقوا بالله ورسوله اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم ذكرا كثيرا، يملأ عليكم مشاعركم، في جميع الأحوال، ويحقق في نفوسكم خشية ربكم، ونزهوه عن كل ما لا يليق به أول النهار وآخره، أي في غالب الأوقات لأن بداية الشيء ونهايته تشمل وسطه أيضا بحكم الاستمرار، قال الزمخشري في تفسير بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في كافة الأوقات. وإنما ذكر هذان الوقتان لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكر الله على فم كل مسلم»
وروي «في قلب كل مسلم»
وعن قتادة: «قولوا: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلّم:
ذكر الله عز وجل» .(22/41)
ونظير الآية في وصف المؤمنين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 191] .
وقرن التسبيح بالذكر معناه: إذا ذكرتم الله تعالى، فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء، وهو المراد بالتسبيح.
ثم حرّض تعالى على الذكر والتسبيح وأبان سببه فقال:
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي إن الله ربكم الذي تذكرونه وتسبحونه هو الذي يرحمكم، وملائكته تستغفر لكم، وهو بهذه الرحمة يريد هدايتكم وإخراجكم من ظلمات الكفر والجهل والضلال إلى نور الحق والهدى والإيمان، وكان ربكم وما يزال رحيما تام الرحمة بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم، وأما في الآخرة: فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.
ومن مظاهر رحمته تعالى
ما ورد في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترون هذه تلقي ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
فو الله الله أرحم بعباده من هذه بولدها» .
ثم ذكر تعالى دليل رحمته الشامل في الآخرة وعنايته فيها بعد بيان عنايته في الدنيا، فقال:(22/42)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً تحيتهم من الله تعالى بواسطة ملائكته يوم لقائه في الآخرة هو السلام، كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس 36/ 58] وقال عز وجل: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 23- 24] .
وهيّأ لهم ثوابا حسنا في الآخرة وهو الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والملاذّ والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الحض على ذكر الله وشكره على نعمه، وتسبيحه في معظم الأحوال بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، دون تقدير بقدر معين أو تحديد بحد، ليسهل الأمر على العبد، وليعظم الأجر فيه.
روى أحمد وأبو يعلى وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون» .
2- إسباغ الرحمة الإلهية على المؤمنين وتسخير الملائكة للاستغفار لهم، بقصد هدايتهم وإخراجهم من ظلمة الكفر والجهل إلى نور الهدى واليقين.
والصلاة من الله على العبد: هي رحمته له وبركته لديه، وصلاة الملائكة:
دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر 40/ 7] .
قال ابن عباس: لما نزل إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب 33/ 56] قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصّة، وليس لنا فيه شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ...(22/43)
وقال القرطبي: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم ودليل على فضلها على سائر الأمم، وقد قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] .
ذكر النحاس حديثا: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أيصلّي ربّك جلّ وعزّ؟ فأعظم ذلك فأوحى الله جل وعز: «إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي» .
3- قوله تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الضلالة إلى الهدى: معناه التثبيت على الهداية لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية.
وقوله: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً إخبار برحمته تعالى للمؤمنين وتأنيس لهم، فهو يرحمهم في الدنيا بهدايتهم إلى الحق، ويؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة، وتكون تحية الله لهم يوم القيامة بعد دخول الجنة: سلام، أي سلامة من عذاب الله، وقيل: عند الموت وقبض الروح.
قال ابن كثير: الظاهر أن المراد- والله أعلم- تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه: سلام، أي يوم يسلم عليهم، كما قال عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس 36/ 58] . وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. وكذا قال القرطبي:
تَحِيَّتُهُمْ أي تحية بعضهم لبعض، ويؤيده قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس 10/ 10] .(22/44)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
مهام دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
الإعراب:
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً كلها منصوبات على الحال.
وقوله: وَسِراجاً أي وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفا للفاعل أو المفعول، والسراج ليس وصفا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن سراجا حقيقة.
البلاغة:
وَسِراجاً مُنِيراً تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي أنت يا محمد كالسراج المضيء في الهداية والإرشاد.
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَسِراجاً مُنِيراً فَضْلًا كَبِيراً توافق الفواصل. وكذا أيضا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا سَراحاً جَمِيلًا.
المفردات اللغوية:
شاهِداً على من أرسلت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم وَمُبَشِّراً من صدّقك وأطاعك(22/45)
بالجنة وَنَذِيراً من كذبك وعصاك بالنار وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته وإلى طاعته بِإِذْنِهِ بتيسيره وأمره وَسِراجاً مُنِيراً أي كالسراج الوضاء يستضاء به، ويكون مثله في الاهتداء به فَضْلًا كَبِيراً على سائر الأمم في الدنيا، وأجرا واسعا على أعمالهم في جنات النعيم.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك، والمراد به التهييج والإثارة له على ما هو عليه من مخالفتهم، تحقيقا لاستقلال الذات وصون الشريعة من الاختلاط. ويحتمل كون المراد به: الدوام والثبات على ما كان عليه وَدَعْ أَذاهُمْ أي اترك إلحاق الأذى والضرر بهم، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فوض أمرك إليه، فهو كافيك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مفوضا إليه الأمر في الأحوال كلها.
نَكَحْتُمُ النكاح هنا العقد أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن، ويعبر عن الجماع في القرآن أدبا بالمس والملامسة والقربان والتغشي والإتيان فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي ليس عليهن انتظار أيام أو أقراء تستوفون عددها، يمتنعن فيها عن الزواج بآخرين، فالعدة: الشيء المعدود فَمَتِّعُوهُنَّ أعطوهن ما يستمتعن به، والمتعة سنة للمفروض لها المهر، وواجب لمن لم يفرض لها مهر وهي المفوضة في رأي الحنابلة والحنفية، وسنة فقط في غير المفوضة عند الجمهور، وواجبة لكل مطلّقة عند الشافعية، إلا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، فإنه يكتفى لها بنصف المهر، وتكون المتعة سنة مستحبة لها، وهو كسوة شاملة أو ثلاثون درهما وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي خلّوا سبيلهن من غير إضرار ولا إيذاء إذ ليس لكم عليهن عدة.
سبب النزول: نزول الآية (47) :
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:
أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: لما نزل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] قال رجال من المؤمنين: هنيئا لك يا رسول الله، قد علمنا بما يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فأنزل الله لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ الآية [الفتح 48/ 5] . وأنزل في سورة الأحزاب وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً.
وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت:(22/46)
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف 46/ 9] نزلت بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] فقالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزل: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً قال: الفضل الكبير: الجنة. وأخرجه أيضا ابن جرير وعكرمة عن الحسن البصري.
المناسبة:
موضوع السورة متعلق بآداب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبعد أن أمره الله تعالى بما ينبغي أن يكون عليه مع ربه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب 33/ 1] وما ينبغي أن يكون عليه مع أزواجه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ أمره بما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ.
وكلما ذكر الله تعالى أدبا أو مكرمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ذكر للمؤمنين ما يناسبه، ففي مقابل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتقوى، أمر المؤمنين بالذكر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ وفي مقابل أدب الزوجات ذكر ما يتعلق بأزواج المؤمنين، ثم في الآيات التالية ذكر تعالى في مقابل بيان مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم أدب المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب 33/ 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات سبع مهامّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
1- 3: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً، وَمُبَشِّراً، وَنَذِيراً أي يا أيها الرسول المنزل عليه الوحي، إنا بعثناك شاهدا على من أرسلت إليهم بتصديقك(22/47)
وتكذيبك، واتباع هداك ومخالفتك، أي متحملا للشهادة في الدنيا، ومؤديا لما تحمّلته في الآخرة أمام ربك، وأرسلناك لتبشير من أطاعك بالجنة، ولإنذار من عصاك بالنار، فهذه ثلاث مهام من مهمات الدعوة المكلّف بتبليغها إلى البشر كافة. ونظير الآية في الشهادة قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] .
روى الإمام أحمد والبخاري وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، قال: «أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا» .
4- 5: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً أي وداعيا الخلق إلى عبادة ربهم، وطاعته ومراقبته سرا وعلانية، بأمره إياه، والإقرار به، والإيمان بما يجب له من صفات الكمال، وجعلناك ذا سراج أو كالسراج الوضاء الذي يستضاء به في الظلمات، ليهتدي بك الناس، ويستنيروا بشرعك في تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة. فقوله بِإِذْنِهِ معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه، وَسِراجاً معناه: ذا سراج، أو يكون كقول القائل: «رأيته أسدا» أي شجاعا، فيكون قوله: سِراجاً أي هاديا مبينا كالسراج، يري الطريق ويبين الأمر، ويهدي الناس إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
ومقتضى تشبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسراج أن دينه أو أمره يكون ظاهرا واضح الحجة والبرهان، لا تعقيد فيه ولا التواء، ولا خفايا فيه ولا أستار.(22/48)
وإنما شبّه بالسراج لا بالشمس التي هي أشد إضاءة من السراج لأن ضوء الشمس يبهر العين، وأما ضوء السراج فترتاح له الأعين.
ووصف السراج بالإنارة لأن بعض السرج لا يضيء لضعفه ودقة فتيلته.
6- وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي أعلن البشارة لكل من آمن برسالتك وأطاع شرعك بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، وأجرا عظيما لا يوصف في الدار الآخرة، وبعد البشارة أتى بالإنذار، فقال:
7- وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، وَدَعْ أَذاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي لا تطع هؤلاء الذي كفروا برسالتك، أو نافقوا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ولا تسمع منهم اعتراضا أو نقدا في أمر الدعوة، ولا تأبه بهم، وبلّغ رسالة ربك إلى الناس قاطبة، ودع عنك أذاهم، واصفح عنهم، وتجاوز عن سيئاتهم، وامض لما أمرك به ربك، وفوّض أمرك إلى الله تعالى في كل ما تعمل وتذر، وثق به، فإن فيه كفاية لهم، وهو حافظك وراعيك، وكفى بالله كافيا عبده. والوكيل: الحافظ القائم على الأمر. وفي هذا الكلام القوي وعد بالنصر.
وبعد بيان مهمات النبي صلّى الله عليه وسلّم، عاد الكلام إلى قضايا الأزواج، فلما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها، وكانت مدخولا بها، واعتدت، وخطبها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد انقضاء عدتها، بيّن حال من طلقت قبل الدخول (المسيس) وأنها لا عدة عليها، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إذا عقدتم عقد النكاح على النساء المؤمنات، ثم أوقعتم الطلاق عليهن من قبل الدخول بهن، فلا عدّة لكم عليهن بأيام تستوفون(22/49)