ظلمها وهو الكفر والمعصية، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذتها بأن أنزلت العذاب بها، أي بأهلها، فتأخير العذاب من باب الإمهال، لا الإهمال، كما
جاء في الحديث الصحيح: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن نجاح النبي محمد صلّى الله عليه وسلم في رسالته متوقف أولا على الصبر على أذى قومه، لذا علمه ربه دروس الصبر، فكانت هذه الآيات تسلية له وتعزية، فقد كان قبله أنبياء كذّبوا، ذكر الله سبعة منهم، فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فما عليه إلا أن يقتدي بهم ويصبر.
2- من حكمته تعالى وحلمه أنه كان يؤخر العقوبة عن أولئك الكفار المكذبين رسلهم، الملحدين الجاحدين ربهم، ثم يعاقبهم، فتكون عقوبتهم عبرة للمعتبر، مدعاة للنظر والتأمل: كيف كان تغييره ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك.
وكذلك يفعل بالمكذبين من قريش إذ ما جرى على النظير يجري على نظيره عقلا وعادة وعدلا.
3- تدل هذه الآية فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ على أنه سبحانه يفعل بقوم النبي صلّى الله عليه وسلم كل ما فعل بالأقوام الآخرين الغابرين إلا عذاب الاستئصال، فإنه لا يفعله بقوم محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كان قد مكّنهم من قتل أعدائهم وثبّتهم.
قال الحسن البصري: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين:(17/240)
أحدهما- أن عند الله حدا من الكفر من بلغه عذّبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه.
والثاني- أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن. فأما إذا حصل الشرطان: وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر، ويعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء، فيدعون على أممهم، فيستجيب الله دعاءهم، فيعذبهم بعذاب الاستئصال، وهو المراد من قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وإذا عذبهم فإنه ينجي المؤمنين لقوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي بالعذاب، نجينا هودا «1» .
4- كثير من أهل القرى أهلكهم الله، حال استمرارهم على الظلم وهو الكفر، فتصبح بيوتهم خاوية على عروشها، أي ساقطة أو خالية من أهلها، كما تصبح آبارهم معطلة عن وارديها وسقاتها، وقصورهم المرفوعة البنيان خربة أو خالية من سكانها، فتحل الوحشة محل الأنس، والإقفار بعد العمران.
وفي ذلك موعظة وعبرة وتذكرة، وتحذير من مغبّة المعصية، وسوء عاقبة المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه.
5- قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حثّ واضح على الاعتبار بآثار الأمم البائدة التي أهلكها الله بكفرها وظلمها، فإذا اعتبر الناس بذلك كانوا منتفعين بحق بحواسهم وإدراكاتهم وعقولهم، وإن لم يعتبروا كانوا معطلين لتلك الطاقات والنعم، فاستحقوا العقاب.
ومن كان في الدنيا أعمى بقلبه عن الإسلام، فهو في الآخرة في النار.
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 43(17/241)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
6- لو عرف الناس حال عذاب الآخرة، وأن يوم العذاب فيه لشدته كألف سنة من سني الدنيا، لما استعجلوه، فإن الله لا يخلف وعده في إنزال العذاب، قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شيء، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.
وقال عكرمة: أعلمهم الله إذا استعجلوا بالعذاب في أيام قصيرة، أنه يأتيهم به في أيام طويلة.
وقال الفرّاء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة.
والخلاصة: أن الآية ردّ على المشركين الذين استعجلوا العذاب تكذيبا واستهزاء، لعدم إيمانهم بيوم القيامة، وإعلام قاطع بوقوع العذاب.
7- كثير من أهل القرى أمهلهم الله تعالى مع عتوهم، ثم أخذهم بالعذاب، وإلى الله المصير، أي إليه المرجع والمآب في الحكم والقضاء.
تحديد مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم
[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
البلاغة:
يوجد مقابلة بين فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... وبين وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ....
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة وغيرهم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار: وهو التخويف، وأنا(17/242)
أيضا بشير المؤمنين، واقتصر على الإنذار مع عموم الخطاب بقوله: لَكُمْ ومع ذكر الفريقين:
المؤمنين والكافرين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين. وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظ أعدائهم المشركين.
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما بدر منهم من الذنوب. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو الجنة، والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا القرآن بالرد والإبطال والطعن بأنها سحر وشعر وأساطير. مُعاجِزِينَ أي مسابقين مغالبين لنا أي يظنون أن يفوتونا بإنكار البعث والعقاب، وقرئ معجزين أي مثبطين غيرهم عن الإيمان. الْجَحِيمِ النار الموقدة.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى استعجال المشركين العذاب تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، أردف ذلك بإيضاح وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتخويف، وأنه بعث للإنذار، فاستهزاؤهم بذلك لا يمنعه منه.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بأن يقول للكفار حين طلبوا منه وقوع العذاب واستعجلوه به: يا أيها المشركون المستعجلون مجيء العذاب إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم شيء، بل أمركم إلى الله: إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، كما قال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد 13/ 41] .
ومهمتي كما تشمل الإنذار تتضمن التبشير، وهذا مضمون الأمرين:
1- فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي فالذين آمنت قلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب حسن ولو على القليل من حسناتهم، وجنة عرضها السموات والأرض، فالرزق الكريم هو الجنة التي وصفها الله سبحانه بقوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ(17/243)
الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ
[الزخرف 43/ 71]
ووصفها الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
2- وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين جهدوا في إبطال آياتنا، وردّ دعوة الدين، والتكذيب بها، وثبطوا الناس عن متابعة النبي صلّى الله عليه وسلم، ظنا منهم أنهم يعجزوننا ويتفلتون من أمرنا وبعثنا لهم وأننا لا نقدر عليهم، فهم أهل النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، المقيمون فيها على الدوام، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] . وقد شبههم بالصاحب من حيث الدوام.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
1- إن وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم هي الإنذار والتبشير، إنذار من عصاه بالنار وتبشير من أطاعه بالجنة.
2- للمؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات الجنة والمغفرة للذنوب والرضوان.
3- للكافرين المعاندين الظانين ألا بعث وأن الله لا يقدر عليهم النار المستعرة التي يخلدون فيها على الدوام.(17/244)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
إحكام الوحي وصونه عن الشياطين قصة الغرانيق
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
الإعراب:
وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ: الضمير في قُلُوبِهِمْ يعود إلى الآلف واللام في قوله:
الْقاسِيَةِ. وهذا يدل على أن الألف واللام في حكم الأسماء لأن الحروف لا حظّ لها في الضمير البتة، وتقديره: فويل للذين قست قلوبهم، ولهذا التقدير عاد الضمير. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي كائن مستقر لله، وهو ناصب للظرف.
البلاغة:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق.(17/245)
فَيَنْسَخُ يُحْكِمُ بينهما طباق. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل وإنهم قضاء عليهم بالظلم والمعاداة.
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ في قوله عَقِيمٍ استعارة، شبه يوم القيامة الذي لا ليل بعده ولا نهار بالمرأة العقيم التي لا تلد، لانقضاء الزمان، بعكس ما قبله من الأيام التي تعقبها الليالي، فهي بمنزلة الولدان لليالي.
المفردات اللغوية:
رَسُولٍ هو نبي أمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي: أعم من الرسول، فهو من لم يؤمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، ولذلك شبه النبي صلّى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء
فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا.
تَمَنَّى قرأ أُمْنِيَّتِهِ قراءته، وألقى الشيطان أي ما ليس من المقروء الموحى به مما يرضاه المرسل إليهم فَيَنْسَخُ اللَّهُ يبطل ويزيل يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس وبإلقاء الشيطان ما ذكر حَكِيمٌ فيما يفعله بهم، فإنه يفعل ما يشاء.
فِتْنَةً أي محنة وابتلاء واختبارا مَرَضٌ شك ونفاق الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هم الكفار الذي قست قلوبهم عن قبول الحق وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عداوة شديدة وبعد عن الحق، وخلاف طويل مع النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين.
الْعِلْمَ التوحيد والقرآن أو أهل العلم المجردون عن التعصب والعناد أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أن القرآن هو الحق النازل من عند الله فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أو بالله فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ تطمئن أو تنقاد وتخشى وتخضع صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الطريق القويم وهو دين الإسلام، أو النظر الصحيح الذي يوصلهم إلى الحق.
مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي القرآن السَّاعَةُ القيامة أو الموت، أو أشراط الساعة بَغْتَةً فجأة يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم منفرد عن سائر الأيام لشدته، والمراد به يوم حرب يقتلون فيه، كيوم بدر لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم، أو لأنه لا خير فيه كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، أو هو يوم القيامة لا ليل بعده.
الْمُلْكُ السلطان والتصرف يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، والتنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية، أي يوم تزول مريتهم لِلَّهِ وحده يَحْكُمُ يقضي بين الكافرين(17/246)
والمؤمنين مُهِينٌ شديد مذل بسبب كفرهم. ويلاحظ أن إدخال الفاء في خبر الذين الثاني:
فَأُولئِكَ دون الأول: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكفار مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: لَهُمْ عَذابٌ ولم يقل: في عذاب.
سبب النزول:
ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ورجوع كثير من مهاجرة الحبشة إلى مكة، ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. وذكروا روايات مختلفة، كلها من طرق مرسلة، وليست مسندة من وجه صحيح كما قال ابن كثير «1» . منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير:
أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه يومئذ، فأنزل الله عليه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقرأ، حتى إذا بلغ إلى قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق «2» العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.
فتكلم بها، ثم مضى بقراءة السورة كلها، ثم سجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية.
ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا، فلما أمسى النبي صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين قال:
ما جئتك بهاتين، فأوحى الله إليه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 229
(2) تلك الغرانيق إما الأصنام وإما إشارة إلى الملائكة أي هم الشفعاء، لا الأصنام لأن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم. [.....](17/247)
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً فما زال مغموما حتى نزلت: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.
قال ابن العربي وعياض: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها «1» . وقال الرازي «2» : أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه منها قوله تعالى: قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس 10/ 15] وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم 53/ 4- 3] وقوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة 69/ 44- 46] فلو أنه قرأ عقيب آية النجم المذكورة: تلك الغرانيق العلا، لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم.
وأما السنة: فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا وضع من الزنادقة. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وأيضا:
فقد روى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون، والإنس والجن
، وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه: منها: أن من جوز على الرسول صلّى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1288- 1290، تفسير القرطبي: 12/ 82
(2) تفسير الرازي: 23/ 50(17/248)
قال الرازي: وأقوى الوجوه: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه، أي شرع الله، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
التفسير والبيان:
تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، لكن المقطوع به أن النبي صلّى الله عليه وسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته، كما روى الثقات عنه، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلّى الله عليه وسلم، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنّوها من قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلّى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه «1» .
وعلى هذا يكون معنى الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله، ألقى الشيطان في قراءته
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 82- 83(17/249)
وتلاوته بعض الأقاويل والأباطيل. وقوله مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ دليل على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما كما في الكشاف: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. وقد ذكرت في المفردات التعريف المشهور والأصح للرسول والنبي وعدد الرسل والأنبياء.
فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي فيزيل الله ما وسوس به الشيطان من الكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، ثم يجعل آياته محكمة محصّنة مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف أو الزيادة أو النقصان.
وهذا يشبه محاولات بعض القساوسة اليوم دسّ بعض الأكاذيب والشبهات في مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقلب الحقائق، وتزييف الوقائع، وتأويل بعض الآيات على وجه غير صحيح، ثم تتبدد تلك المساعي الخبيثة، وتدحض تلك المفتريات على يد بعض العلماء الأثبات من المسلمين أو من غيرهم، وتدفن تلك الآراء المدسوسة في النشرات والكتب المدرسية وغيرها.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، وبما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وخلقه وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين، وتتبدد الظلمة في نفوس المنافقين، وهذا ما أبانه الله تعالى في موقف الفريقين، فقال:
1- لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي ليجعل ما يوسوس به الشيطان فتنة أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك وكفر ونفاق، وللمشركين أو اليهود المعاندين قساة(17/250)
القلوب، حين فرحوا بإلقاء الشيطان بعض الكلمات، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم من المنافقين والكفار لفي مخالفة وعصيان، ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، وعناد بعيد من الحق والصواب.
2- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي ولكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه أن يختلط به غيره، فيصدقوا به وينقادوا له، وتخضع له قلوبهم، وتذل وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وآدابه وشريعته، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] .
وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإن الله لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه بتأويل سليم للمتشابه في الدين، وتفصيل واضح للمجمل منه، وفي الآخرة يهديهم الطريق الصحيح الموصل إلى درجات الجنان، ويصرفهم عن دركات النيران.
ومصير الفريق الأول ما قال تعالى:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ... عَقِيمٍ أي ولا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن أو من الرسول، فضمير مِنْهُ راجع إلى القرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لا يزال الكفار في ريب منه أي مما ألقى الشيطان في قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة أو مقدماتها أو(17/251)
الموت، بغتة أي فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم القيامة أو يوم حرب مدمرة كيوم بدر. وجعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وإنما وصف يوم القيامة بالعقيم لأنه لا يأتي بعده ليل، ووصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم: أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم، على سبيل المجاز. قال ابن كثير: القول الأول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.
والمراد بالآية أن الكفار ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون حتى يهلكوا.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي السلطان والتصرف يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار، يقضي بينهم بالحق، وهو الحكم العدل جل شأنه، كما قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة 1/ 4] وقال عز وجل:
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان 25/ 26] .
ونتيجة الحكم تظهر ببيان جزاء كل من الفريقين، فقال تعالى:
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي فالذين آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا بمقتضى ما علموا من الأعمال الصالحة بإطاعة أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فأولئك لهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل(17/252)
استكبارهم عن الحق، وإبائهم النظر في آيات القرآن، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] أي صاغرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- هذه تسلية أخرى من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم بعد قوله المتقدم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي فلا تحزن ولا تتألم لما يردده الكفار على لسان الشيطان، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
2- الآية تدل على إحكام الوحي وحفظ كتاب الله تعالى وحراسته من أقاويل الشيطان وأباطيله وخرافاته، فإنه إذا ألقى شيئا من الكلام في ثنايا آيات القرآن الكريم أو حديث النبي صلّى الله عليه وسلم في نفسه، فيبطل الله ما ألقى الشيطان، ويحكم آياته ويثبتها.
فقوله تعالى تَمَنَّى وأُمْنِيَّتِهِ أي قرأ وتلا، وقراءته. وروى البخاري عن ابن عباس في ذلك: إذا حدّث- أي النبي- ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان. والمعنى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا حدّث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنّمك ليتسع المسلمون ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقي الشيطان، أي أن المراد حديث النفس. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله.
3- إن في إلقاء الشيطان حكمة وهو أن يجعل فتنة أي ابتلاء واختبارا لفئتين هما المنافقون والمشركون، وهم الظالمون أنفسهم، والظالمون أي الكافرون لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلم.(17/253)
4- قال الثعلبي في آية لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً..: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والغلط بوسواس الشيطان، أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبّه ويرجع إلى الصحيح وهو معنى قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.
ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما ينسب إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلّى الله عليه وسلم لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن، ثم ينشد شعرا، ويقول: غلطت وظننته قرآنا.
5- وحكمة أخرى لإلقاء الشيطان هي أن يعلم المؤمنون أن الذي أحكم من آيات القرآن هو الحق الصحيح الثابت من الله، فيؤمنوا به، وتخشع وتسكن قلوبهم، وإن الله يهدي المؤمنين إلى صراط مستقيم، أي يثبّتهم على الهداية.
6- سيظل الكفار في شك من القرآن أو من الدين وهو الصراط المستقيم، أو من الرسول، أو مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو لم يقله، فيقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير، ثم ارتدّ عنها؟ ويستمر الشك إلى وقت مجيء زمن الإيمان القسري أو الملجئ فجأة وهو إما يوم القيامة وإما الموت، وإما يوم الحرب كبدر، وذلك يوم عقيم. وقد تبين لدينا أن الراجح في تفسير اليوم العقيم هو يوم القيامة، قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له، وهو يوم القيامة. قال الرازي: وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ ويكون المراد يوم بدر لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر. ولا يكون هناك تكرار بينه وبين قوله السَّاعَةُ لأن الساعة من مقدمات القيامة، واليوم العقيم هو ذلك اليوم نفسه، كما أن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم. ويحتمل أن يكون المراد(17/254)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
بالساعة: وقت موت كل أحد، وبعذاب يوم عقيم: القيامة «1» .
7- الملك والسلطان لله وحده يوم القيامة، دون منازع، فهو الذي يقضي بالمجازاة بين العباد، ويكون قرار حكمه أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات في جنات النعيم، وأن الكافرين المكذبين بآيات القرآن في عذاب مهين. وقوله:
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو يوم القيامة.
وعده الكريم بالنصر والجنة للمهاجرين المقاتلين دفاعا عن النفس
[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 60]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
الإعراب:
وَمَنْ عاقَبَ: مبتدأ مرفوع، بمعنى الذي، وصلته: عاقَبَ وخبره:
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. وليست مَنْ هاهنا شرطية لأنه لا لام فيها، كما في قوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف 7/ 18] .
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي تركوا أوطانهم في طاعة الله من مكة إلى المدينة.
ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد. رِزْقاً حَسَناً هو الجنة. خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل المعطين، فإنه يرزق بغير حساب.
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 56(17/255)
مُدْخَلًا أي إدخالا، أو موضعا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة. لَعَلِيمٌ بنياتهم وبأحوالهم. حَلِيمٌ عن عقابهم، فلا يعاجلهم في العقوبة.
ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو ذلك الذي قصصناه عليك. وَمَنْ عاقَبَ جازى من المؤمنين. أي جازى الظالم بمثل ظلمه. بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ظلما من المشركين، أي قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام، ولم يزد في الاقتصاص. وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو الجزاء عقابا للازدواج والمشاكلة، أو لأنه سببه. ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ منهم، أي ظلم بإخراجه من منزله.
لَعَفُوٌّ عن المؤمنين. غَفُورٌ لهم عن قتالهم في الشهر الحرام. وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة، فإنه تعالى مع كمال قدرته يعفو ويغفر، فغيره بذلك أولى، وفيه أيضا تنبيه على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
سبب النزول: نزول الآية (60) :
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ..: أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مقاتل أنها نزلت في سرية بعثها النبي صلّى الله عليه وسلم، فلقوا المشركين لليلتين من المحرم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة، وذكروهم بالله أن لا يتعرضوا لقتالهم، فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، ونصروا عليهم، فنزلت هذه الآية.
وروى مجاهد أيضا أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة، فتبعهم المشركون فقاتلوهم.
وظاهر الكلام للعموم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين الجنات، أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين(17/256)
المجاهدين، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم. ثم ذكر وعدا كريما آخر لمن قاتل مبغيا عليه دفاعا عن نفسه، بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن، وابتدئ بالقتال.
التفسير والبيان:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي والذين خرجوا مهاجرين في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وديارهم ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لما عنده، ثم قتلوا في الجهاد، أو ماتوا حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، وليمنحنهم الله الجنة، وليرزقنهم من فضله منها، إن الله خير المعطين الرازقين، يعطي من يشاء بغير حساب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء 4/ 100] .
وهذا الرزق الحسن كما قال تعالى:
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ أي ليدخلن هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيله موضعا كريما يرضونه وهو الجنة، كما قال تعالى:
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة 56/ 88- 89] أي يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم. وإن الله لعليم بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، فهو عليم بالنيات والمقاصد والأحوال، وحليم أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، ولا يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة، ليترك لهم الفرصة للتوبة والإنابة والإيمان بالله تعالى.
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ.. لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا، ومن قوتل ظلما، وجازى من المؤمنين من اعتدى عليه من المشركين، ثم بغي عليه بإلجائه إلى الهجرة ومفارقة(17/257)
الوطن، وابتدائه بالقتال، لينصرنه الله نصرا مؤزرا، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي إن الله ليصفح عن المؤمنين ويغفر لهم خطأهم إذا تركوا ما هو الأجدر بهم وهو العفو والمغفرة عن المسيء. وفيه حث على العفو عن الجاني، كما قال تعالى:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى 42/ 43] وقال:
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى 42/ 40] وقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] وفيه دلالة على أنه سبحانه بذكر العفو والمغفرة قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده، كما بينا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على مزية صنفين من الناس: المهاجرين، والمقاتلين دفاعا عن أنفسهم.
أما المهاجرون: فهم الذين تركوا ديارهم وأوطانهم وأموالهم، وفارقوا مكة إلى المدينة، حبا في طاعة الله تعالى، وابتغاء رضوانه، فلهم من الله الفضل العظيم، والعطاء العميم، والرزق الحسن وهو الجنة، سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا من غير قتال. وأكد تعالى ذلك بقوله: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ أي الجنان. والله عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.
أما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه شهيد حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران 3/ 169] .
وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.
روي عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقتول في سبيل الله، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل، هما في الأجر شريكان» «1» .
__________
(1) روى النسائي حديثا في معناه عن العرباض بن سارية.(17/258)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
وأما المقاتلون المدافعون عن أنفسهم: فإن الله وعدهم بالنصر في الدنيا، لبغي الكفار عليهم، وإن الله عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام، وستر ذلك عليهم.
وسمي جزاء العقوبة عقوبة في قوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ لاستواء الفعلين في الصورة، مثل: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] ومثل: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] .
من دلائل قدرة الله تعالى
[سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 66]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)(17/259)
الإعراب:
فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ تصبح: مرفوع لا منصوب، محمول على معنى أَلَمْ تَرَ ومعناه: انتبه يا ابن آدم! أنزل الله من السماء ماء، ولو صرح بقوله: انتبه، لم يجز فيه إلا الرفع، فكذلك ما هو بمعناه.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ.. الآية: امتنان بتعداد النعم، والاستفهام للتقرير.
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بينهما طباق.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ صيغة مبالغة أي مبالغ في الجحود.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ أي ذلك النصر بسبب أنه قادر على أن يدخل كلا من الليل والنهار في الآخر، بأن يزيد به، وقادر على تغليب بعض الأمور على بعض. سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع أقوال عباده المؤمنين والكفار، بصير بما يصدر عنهم من أفعال.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الوصف بكمال القدرة والعلم، والنصر أيضا، بسبب أن الله هو الثابت في نفسه، الواجب لذاته وحده، فإن وجوب وجوده، ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه، عالما بذاته وبما عداه، أو الثابت الألوهية، ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما. مِنْ دُونِهِ إلها من الأصنام. هُوَ الْباطِلُ الزائل، المعدوم في حد ذاته، أو باطل الألوهية. الْعَلِيُّ العالي على الأشياء بقدرته. الْكَبِيرُ عن أن يكون له شريك، ولا شيء أعلى منه شأنا، وأكبر منه سلطانا، وهو الذي يصغر كل شيء سواه.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي ألم تعلم أن الله أنزل مطرا من السماء وهو استفهام تقرير، ولذلك رفع فَتُصْبِحُ.. عطف على أَنْزَلَ إذ لو نصب جوابا للاستفهام، لدل على نفي الاخضرار، كما في قولك: ألم تر أني جئتك فتكرمني، فإن نصبت فأنت ناف لتكريمه، وإن رفعته فأنت مثبت للتكريم، والمقصود إثباته. وإنما عدل ب فَتُصْبِحُ المضارع عن صيغة الماضي، للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. لَطِيفٌ بعباده يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق ومنه إخراج النبات. خَبِيرٌ بالتدابير الظاهرة والباطنة، وبما في قلوب العباد، ومنه قلقهم عند تأخير المطر.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا. الْغَنِيُّ في ذاته عن كل شيء.
الْحَمِيدُ المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.(17/260)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ألم تعلم أن الله جعل جميع ما في الأرض مذللة لكم، معدّة لمنافعكم. وَالْفُلْكَ السفن. عطف على ما أو على اسم أَنَّ. تَجْرِي فِي الْبَحْرِ للركوب والحمل، والجملة: حال من الْفُلْكَ، أو خبر. الْفُلْكَ على قراءة الرفع على الابتداء. بِأَمْرِهِ بإذنه. أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ من أن تقع أو لئلا تقع، يأن خلقها على صورة متينة مستمسكة. إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد على القول باستمساكها بذاتها. رَحِيمٌ بتسخير ما في الأرض، وإمساك السماء، والتهيئة لعباده أسباب الاستدلال، وفتح أبواب المنافع عليهم، ودفع أنواع المضارّ عنهم.
أَحْياكُمْ بالإنشاء بعد أن كنتم جمادا: عناصر ونطفا. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم.
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة عند البعث. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لجحود للنعم مع ظهورها، تارك توحيد الله تعالى.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عظيم قدرته على تحقيق النصر للمؤمنين، أتى بأنواع من الدلائل على قدرته البالغة، من إيلاج الليل في النهار وبالعكس وخلقه لهما وتصرفه فيهما وعلمه بما يجري فيهما، وإنزال المطر لإنبات النبات، وخلقه السموات والأرض وملكه لهما، وتسخيره ما في الأرض والفلك، وإمساك السماء من الوقوع على الأرض، والإحياء والإماتة ثم الإحياء.
التفسير والبيان:
أورد الله تعالى في هذه الآيات أنواعا من الدلائل على قدرته البالغة وعلمه الشامل، ومن كان قادرا على كل شيء، عالما بكل شيء، كان قادرا على النصر، فقال:
1- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ذلك النصر المذكور بسبب أنه قادر على كل شيء، فهو يولج ويدخل الليل في النهار ويولج ويدخل النهار في الليل، بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر، فيزيد في أحدهما من الساعات ما ينقص من الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر(17/261)
النهار كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف، فالقادر على ذلك قادر قطعا على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع، ومجازاة العاصي.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء أو قول، بصير بكل عمل أو حال، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهذا يعني أن الله تعالى هو الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، كما قال: قُلِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمران 3/ 26- 27] .
وعلة هذه القدرة الفائقة ما قال:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ أي ذلك الوصف المتقدم من القدرة الكاملة والعلم التام لله تعالى لأجل أن الله هو الحق، أي الموجود الثابت الواجب لذاته، بلا مثيل ولا شريك، بمعنى أنه هو مصدر الوجود، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له لأنه ذو السلطان العظيم، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، وأن ما يعبدون من دونه من الآلهة من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من غير الله هو باطل، لا يقدر على صنع شيء، ولا يملك ضرا ولا نفعا لأنه عاجز ضعيف، ومصنوع مخلوق لربه القادر.
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ولأن الله تعالى المتعالي على كل شيء بقدرته وعظمته، الكبير عن أن يكون له شريك، إذ هو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه، ولا أعز ولا(17/262)
أكبر منه سلطانا، كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة 2/ 255] وقال:
الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد 13/ 9] .
والمقصود: كيف يصح لعبدة الأصنام وأمثالها عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ويتركون عبادة من بيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء؟! 2- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة، فتصبح زاهية نضرة، مخضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة، والأشكال الرائعة، بعد يبسها وجمودها، قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا. وقوله:
مُخْضَرَّةً أي ذات خضرة، على وزن مفعلة كمبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع.
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي إن الله رحيم لطيف بعباده، يدبر لهم أمر المعاش، وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء، عليم بما في أنحاء الأرض من الحب مهما صغر، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم، لا يخفى عليه خافية، فيحقق لهم المصلحة بتدبيره، كما قال تعالى حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] وقال سبحانه: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] .
3- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ جميع ما في السموات وما في الأرض لله سبحانه خلقا وملكا وعبيدا، أي جميع الأشياء هي(17/263)
مخلوقة له، مملوكة له، عبيد له، منقادة خاضعة لأمره، متصرف فيها كيف يشاء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه. وهذا دليل آخر على القدرة الإلهية الشاملة.
4- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي ألم تعلم أن الله ذلل لكم أيها البشر جميع ما في ظاهر الأرض وباطنها، من حيوان وجماد ومعدن وزروع وثمار، لينتفع بها الإنسان في مصالحه المختلفة، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية 45/ 13] أي من إحسانه وفضله وامتنانه.
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي وسخر لكم السفن، جارية في البحار، لنقل الركاب والبضائع، بتسخيره وتسييره، متنقلة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، فيتم تبادل الحوائج والمنافع، ويتعايش الناس متعاونين، يحققون بها ما يحتاجون إليه ويريدون.
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي ويحفظ السماء بما فيها من كواكب ونجوم بالجاذبية، وبتخصيص مدار ثابت خاص لكل منها، بمشيئته وإرادته، ولو شاء لأذن للسماء، فسقطت على الأرض، فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء من أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأمره، وذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب وتتصدع السموات، كما قال تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 1- 2] ولولا هذا النظام الدقيق لا لاصطدمت الكواكب ببعضها، ودمرت الأرض بما عليها، لذا قال:
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم، فمتعهم بجمال السماء والأرض، وأرشدهم إلى الاستدلال بآيات الكون على وجوده ووحدانيته.(17/264)
5- وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي وهو الذي أحياكم من العدم، وخلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم وأعماركم، والموت ستر ونعمة، ثم يحييكم بالبعث يوم القيامة. ويلاحظ اختيار الصيغ المناسبة للتعبير، فهو أولا عبر بالماضي لأنه تم وحدث، ثم أشار إلى المرحلة المرتقبة وهو الموت، ثم الحياة الجديدة في عالم الآخرة.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي إن الإنسان جحود نعم الله تعالى، فلم يقدر تلك النعم، ويهتدي بها إلى عبادة الله وتوحيده، وهجر كل ما عداه من الآلهة المزعومة، وهو مثل قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] .
ونظير الآية قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة 2/ 28] وقوله: قُلِ: اللَّهُ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية 45/ 26] .
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات الاستدلال على كمال قدرته تعالى وكمال علمه، وتلك الأدلة هي ما يأتي:
1- من آيات قدرة الله البالغة كونه خالقا لليل والنهار، ومتصرفا فيهما، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما، وإذا كان قادرا عليما، كان قادرا على نصر من شاء من عباده، يفعل ما يلائم الحكمة والمصلحة، فهو يسمع الأقوال، ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة، ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.
2- ذلك الوصف المتقدم من قدرة الله على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق أي الموجود الواجب لذاته، الذي يمتنع عليه التغير والزوال، فيأتي بالوعد(17/265)
والوعيد. أو أنه ذو الحق، فدينه الحق، وعبادته حق، والمؤمنون بحق يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق.
وأما الأصنام فلا استحقاق لها في العبادات، والله هو العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. وهو الكبير المتعال أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن، الكبير عن أن يكون له شريك.
3- ومن الأدلة على كمال قدرته إنزال المطر وإنبات النبات ذي الخضرة البديعة، السارّة لكل عين وقلب، ومن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت كما قال الله عز وجل: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج 22/ 5] .
وقوله فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة.
وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قال ابن عباس: خبير بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. وهو لطيف بأرزاق عباده.
4- لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وعبيدا، وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه، وإن الله لهو الغني الحميد، فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود على كل حال، والكل منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه، وهو غني عن الأشياء كلها، وعن حمد الحامدين أيضا لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور.
5- هناك نعم كثيرة من الله على عباده تدل أيضا على قدرته ورحمته(17/266)
ولطفه، منها أنه سخر (ذلل) لعباده كل ما في الأرض مما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 2/ 29] . وسخر لكم الفلك في حال جريها، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان 31/ 31] وتسخير الفلك: بتسخير الماء والرياح لجريها.
وهو تعالى يمسك السماء لئلا تقع على الأرض، فيهلك الناس، إلا بإذن الله لها بالوقوع أو السقوط، فتقع بإرادته وتخليته، إن الله بالناس لرؤوف رحيم في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
6- ومن دلائل القدرة الإلهية: الإحياء والإماتة، فالله هو الذي خلقنا بعد أن كنا نطفا، ثم يميتنا عند انقضاء آجالنا، ثم يحيينا للحساب والثواب والعقاب، ولكن الإنسان لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته تعالى. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام، وجماعة من المشركين. والأولى- كما ذكر الرازي- تعميمه في كل المنكرين، وإنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفران النعم، كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ زجر للإنسان عن الكفران، وبعث له على الشكر.(17/267)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
لكل أمة شريعة ومنهاج ملائمان
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
البلاغة:
فَلا يُنازِعُنَّكَ نهي يراد به النفي، أي لا ينبغي لهم منازعتك، فقد ظهر الحق وقامت أدلته.
المفردات اللغوية:
مَنْسَكاً شريعة ومنهاجا ومتعبدا ناسِكُوهُ عاملون به فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي لا ينبغي لهم أن ينازعوك في أمر الدين، ومنه أمر الذبيحة، إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم لأنهم إما جهال وأهل عناد، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى دينه وتوحيده وعبادته هُدىً مُسْتَقِيمٍ طريق إلى الحق سويّ أو دين قويم.
وَإِنْ جادَلُوكَ في أمر الدين، وقد ظهر الحق، ولزمت الحجة فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من المجادلة الباطلة وغيرها، فمجازيكم عليها، وهو وعيد فيه رفق.
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب يوم القيامة، كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، بأن يقول كل فريق خلاف قول الآخر.
أَلَمْ تَعْلَمْ استفهام تقرير يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء إِنَّ(17/268)
ذلِكَ فِي كِتابٍ
أي إن ما ذكر هو في اللوح المحفوظ مسجل فيه قبل حدوثه، فلا يهمنك أمرهم، مع علمنا به، وحفظنا له. إِنَّ ذلِكَ إن علم ما ذكر والإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء.
سبب النزول:
قيل نزلت هذه الآية بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وهم كفار خزاعة، قالوا للمسلمين: تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، أو مالكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟! فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة.
المناسبة:
بعد أن عدد الله تعالى نعمه، وأبان أنه رؤف رحيم بعباده، وإن كان منهم من يكفر بالله ولا يشكر النعمة، أتبعه بذكر نعمه بما كلّف، فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ أي لكل أمة شريعة خاصة، وفيه زجر من نازع النبي صلّى الله عليه وسلم، بتمسكهم بما شرعوا من الشرائع، ثم أمره بالثبات على دينه الحق، فالله يحكم بين العباد يوم المعاد.
التفسير والبيان:
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا هم عاملون به، أي شريعة، ومتعبّدا، ومنهاجا صالحا، يتلاءم مع مقتضيات الزمان والمكان، ومع سنة التدريج والتطور ونضوج العقل البشري، فأنزل التوراة على موسى بنحو من الشدة، لعلاج التمسك بالمادة، ثم أنزل الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وإشاعة المحبة، والعناية بجوهر الدين، لا بمجرد المظاهر والشكليات والطقوس، ثم أنزل القرآن حينما نضج العقل البشري، لإرساء معالم دستور الحق، والجمع بين العناية بالمادة والروح، والتركيز على معايير(17/269)
العلم، واستخدام العقل، فكان أول دين يضع أسس الحضارة الإنسانية الشاملة، وكان تشريعه وسطا بين الشرائع، وكانت هذه الأديان صالحة للزمان الذي جاءت فيه.
فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي إذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع، فلا ينبغي لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين، فلكل أمة شريعة خاصة تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ثم جاء هذا القرآن ناسخا تلك الشرائع التي لم تعد صالحة للعمل بها، وأدت دورها، وكانت مقصورة على أتباعها المتقدمين.
فلا تتأثر يا محمد بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق، واثبت على دينك ثباتا لا يتزعزع ولا يلين. والمراد بذلك تهييج حمية الرسول صلّى الله عليه وسلم، والمبالغة في تثبيته على دينه.
وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي وادع هؤلاء المنازعين وغيرهم، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق، فإنك على طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود، وهو سعادة الدنيا والآخرة، كقوله تعالى:
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص 28/ 87] .
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى طريقة المراء والجدال بالباطل، بعد أن ظهر الحق، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ومجاز كل واحد بعمله، وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] وقوله سبحانه: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأحقاف 46/ 8] لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا اللون من الوعيد والتحذير، لذا قال تعالى:(17/270)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي الله يقضي بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما اختلفتم فيه من أمر العقيدة والدين، بالجزاء الحاسم المتردد بين الجنة والنار، والثواب والعقاب، الأول لمن قبل، والثاني لمن رفض، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل، والمحق من المبطل.
والخلاصة: إن الآيات آمرة باستمرار الدعوة إلى شرع الله ودينه، وعدم التمييز بين الناس، دون مبالاة بجدل المرائين وعرقلة المتخلفين، فإن الداعي على حق أبلج، كما قال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى 42/ 15] .
ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بخلقه وعلمه بالكائنات كلها قبل خلقها وبما يستحقه كل من المسيء والمحسن، فقال:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لقد علمت أيها الرسول- والخطاب وإن كان معه، فالمراد سائر الناس- أن علم الله محيط بما في السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. وكتابة كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعلمه الشامل، وفصله بين عباده يوم القيامة يسير سهل عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
1- لكل أمة من الأمم المتقدمة شريعة خاصة بها، صالحة لزمانها، أي أنه(17/271)
كانت الشرائع في كل عصر، ومن الخطأ البيّن التمسك بما كان للأولين من شريعة التوراة والإنجيل لأن القرآن نسخ ما قبله من الشرائع.
2- إن خاصم الناس بالباطل، كمخاصمة مشركي مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم، فليقل المؤمن: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب، وهذا أمر من الله تعالى لنبيه بالإعراض عن مماراة قومه، صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد، فإنهم إن أبوا إلا المجادلة بعد الاجتهاد بتسوية النزاع، فليدفعوا بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها، وبما تستحقون عليها من الجزاء، فهو مجازيكم به.
وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين.
3- الله تعالى هو الذي يحكم بين النبي صلّى الله عليه وسلم وقومه، وبين المؤمنين والكافرين فيما يختلفون فيه من أمر الدين، فيعرف حينئذ الحق من الباطل.
قال القرطبي: في هذه الآية أدب حسن علّمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم.
4- على النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده الدعوة إلى دين الله الحق، فإن هذا الدين طريق واضح مستقيم مؤد إلى المقصود، وعلى كل داعية إلى الله وتوحيده وعبادته ألا يعبأ بالعثرات، وألا يهتم بمراء المجادلين، ومحاولاتهم الوقوف في وجه الدعوة.
5- الله عليم بأحوال الناس وبما هم مختلفون فيه، وإن كل ما يجري في العالم هو مكتوب عند الله في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وإن العلم الشامل بما في السماء والأرض، والفصل بين المختلفين يسير جدا على الله تعالى.
ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»(17/272)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما اكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
فما العباد عاملون قد علمه الله تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علما، وهو سهل عليه.
بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة
[سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)(17/273)
الإعراب:
قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ النَّارُ: إما خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي النار، ووَعَدَهَا اللَّهُ: استئناف كلام، وإما أن يكون مبتدأ، والجملة الفعلية: وَعَدَهَا اللَّهُ خبره.
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ منصوب على الحال بَيِّناتٍ حال.
البلاغة:
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ فيه استعارة، أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح، مثل: عرفت في وجه فلان الشر.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً تمثيل، أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة. وقد سمي الذي جاء به مثلا تشبيها للصفة ببعض الأمثال.
المفردات اللغوية:
وَيَعْبُدُونَ أي المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبرهانا سمعيا يدل على جواز عبادته وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي حجة عقلية أنها آلهة، سواء أكان العلم من ضرورة العقل أو استدلاله وَما لِلظَّالِمِينَ بالإشراك مِنْ نَصِيرٍ أي ناصر ومعين يقرر مذهبهم أو يدفع عنهم العذاب.
آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الإلهية الْمُنْكَرَ المستنكر من التجهم والانتفاخ، أو الإنكار لها، كالمكرم بمعنى الإكرام، أي أثره من الكراهة والعبوس ودلالة الغيظ والغضب، لفرط نكيرهم للحق، وهذا منتهى الجهالة. وإشعارا بذلك وضع الَّذِينَ كَفَرُوا موضع الضمير يَسْطُونَ أي يبطشون بهم من شدة الغيظ.
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين، وبأكره إليكم من القرآن المتلو عليهم النَّارُ هو النار، كأنه جواب سائل قال: ما هو؟ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بأن مصيرهم إليها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هي النار.
يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة وغيرهم ضُرِبَ مَثَلٌ بيّن لكم حال مستغربة أو قصة رائعة أو جعل، ولذلك سماها مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال، والمثل: الشبه. فَاسْتَمِعُوا لَهُ للمثل أو(17/274)
لبيانه استماع تدبر وتفكر إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدون غيره وهم الأصنام ذُباباً اسم جنس، يقع على المذكر والمؤنث، واحده: ذبابة وجمعه أذبّة وذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان، وسمي به لكثرة حركته. وقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على المنافاة بين المنفي والمنفي عنه وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟!.
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً من الطيب والزعفران الملطخين به لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لا يستردوه منه لعجزهم، فكيف يعبدون شركاء لله تعالى؟ هذا أمر مستغرب، عبر عنه بضرب المثل ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ العابد والمعبود.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظموه حق عظمته، إذ أشركوا به العاجز عن دفع الذباب عنه والانتصاف منه لَقَوِيٌّ قادر على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ غالب يَصْطَفِي يختار إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي إن الله سميع لمقالتهم، مدرك للأشياء كلها، بصير بمن يتخذه رسولا كجبريل وميكائيل وإبراهيم ومحمد وغيرهم عليهم السلام. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما قدموا وما أخروا وما عملوا وما هم عاملون بعد وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مرجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات، لا يسأل عما يفعل من اصطفاء الرسل وغيره، وهم يسألون.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بكل شيء، بيّن أن عبادة المشركين لغير الله تعالى لا تعتمد على دليل نقلي أو عقلي، وهم مع جهلهم وغباوتهم إذا أرشدوا إلى الحق ودليله، وتلي عليهم القرآن، ظهر في وجوههم الغيظ والغضب، وهموا أن يبطشوا بمن يتلو ويذكّرهم، ولكن ما ينالهم من النار أعظم مما يحصل لهم من الغم حين تلاوة الآيات.
ولما بين أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم، ذكر ما يدل على إبطال قولهم وجهلهم بعظمة الإله، ثم انتقل من الإلهيات إلى النبوات، وأبان أنه يختار الرسل من الملائكة والناس ممن يعلم أنه الأكفاء والأوفق: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] .(17/275)
التفسير والبيان:
هذه بعض أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخافتهم فيقول تعالى:
1- وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي ويعبد هؤلاء المشركون آلهة من غير الله، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على عبادتها، فهو تعالى لم ينزل من السماء بجواز عبادتها حجة ولا برهانا، وهو المقصود بالدليل النقلي السمعي، والمراد من قوله: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وليس لهم دليل عقلي وهو المراد بقوله: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وإذا لم يكن هناك دليل مقبول، فهو عن تقليد للآباء والأسلاف، أو عن جهل وشبهه، وكل ذلك باطل.
ونظير الآية قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون 23/ 117] . وفي الآية إشارة إلى أن الكافر قد يكون كافرا، وإن لم يعلم كونه كافرا، ودلالة على فساد التقليد القائم على الجهل.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي ليس للكافرين الظالمي أنفسهم من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العقاب أو العذاب.
2- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي وإذا ذكرت للمشركين آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأن لا إله إلا الله، وأن رسله الكرام حق وصدق، ظهرت على وجوههم دلالة الغيظ والغضب، وامتلأت قلوبهم حقدا ونفورا.
يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يكادون أو يقاربون(17/276)
يبطشون بالذين يحتجون عليهم بدلائل القرآن الصحيحة، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء. وهذا يدل على غليان قلوبهم بالكفر، وسيطرة الجهالة والعناد والكفر عليها، حتى أصبحوا ميئوسا من علاجهم، وصاروا متمردين على الأنبياء والمؤمنين.
قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مقابلة لوعيدهم: ألا أخبركم بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ هو النار التي وعدها الله للكافرين، فعذابها ونكالها أشد وأشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، بل هو أعظم مما تنالون منهم فعلا، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم، وبئس المصير، أي وبئس النار موئلا ومقاما لكم، كما قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 66] .
ثم نبه الله تعالى على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها، وبيان حال هذه الأشباه والأمثال لله في زعمهم، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا أي يا أيها البشر قاطبة جعل مثل أي شبه لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، فأنصتوا وتفهموا حال تلك المعبودات، وإذا فهم حالها يكون حال عابديها أسوأ، فهم كالأصنام وأسوأ منها، وحالها هو:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد لن يقدروا على خلق ذبابة واحدة، حتى ولو تعاون واجتمع لهذه المهمة جميع تلك المعبودات.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة»
ورواه الشيخان بلفظ آخر: «قال الله عز وجل:
من أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة» .(17/277)
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي كما أنهم عاجزون عن خلق ذبابة واحدة، هناك ما هو أبلغ من ذلك عاجزون من مقاومته والانتصار منه، فلو سلبوا شيئا مما عليها من الطيب، لا تقدر أن تستنقذوه منه، علما بأن الذباب أضعف مخلوقات الله، لذا قال:
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي عجز الطالب وهو الإله المعبود من استنقاذ الشيء المسلوب من الذباب المطلوب، أو ضعف عابد الصنم، والصنم المعبود.
وهذا يدل على جهالتهم وغباوتهم لأن العابد يتأمل عادة النفع أو دفع الضّرّ من المعبود، وعابد الصنم لا يحقق لنفسه شيئا، مما يدل على حقارة الصنم وضعفه، وغباء عابده، فكيف يصح جعله مثلا لله في العبادة. ثم قال تعالى مؤكدا عبثهم وجهلهم وعدم معرفتهم حق الله تعالى:
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي ما عرفوا قدر الله وعظمته، وما عظموه حق التعظيم، حين عبدوا معه غيره، كهذه المخلوقات الجمادات التي لا تقاوم الذباب لضعفها.
والله هو القوي القادر الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، العزيز الذي عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يغالب ولا يمانع، لعزته وعظمته وسلطانه، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم.
ونظائر الآية كثير منها: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج 85/ 12- 13] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] .
ثم انتقل بيان الله تعالى من الإلهيات إلى النبوات فقال:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ أي أن الله يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء، ومن الناس لإبلاغ الرسالة إلى العباد،(17/278)
حسبما يشاء وعلى وفق ما يريد. قيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي سميع لأقوال عباده، بصير بهم، عليم بمن يستحق اختياره للرسالة.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، ما مضى منها، وما يأتي فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إلى قوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن 72/ 26- 28] .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه وهذا إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالألوهية والحكم. وقوله يَعْلَمُ.. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يتضمن مجموعها الزجر عن الإقدام على المعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن عبدة الأوثان مثل كفار قريش يعبدون من غير الله آلهة، ليس لهم دليل سمعي نقلي أو عقلي، لذا توعدهم ربهم بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي ناصر ومعين.
2- إن تأصل الكفر والعناد والاستكبار في نفوس أولئك الكفرة، جعلهم في أشد حالات الغضب والعبوس والحقد إذا تليت عليهم آيات القرآن، ويكادون(17/279)
يبادرون إلى البطش الشديد بمن يحتج عليهم بدلائل القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.
3- أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يقابل وعيدهم بقوله: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع وأكره من تخويفكم المؤمنين وبطشكم بهم ومن هذا القرآن الذي تسمعون؟
إنه نار جهنم وعذابها ونكالها، وعدها الله الذين كفروا يوم القيامة، وبئس المصير، أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار. فهذا وعيد لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن.
4- ضرب الله مثلا لحال الكفار وأصنامهم لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم، وهو في الحقيقة ليس مثلا، وإنما هو لما في صفتهم وحالهم من الاستغراب والتعجب سمي مثلا، تشبيها لتلك الصفة ببعض الأمثال السائرة.
والمعنى: ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره فكأنه قال: جعلوا لي شبيها في عبادتي، فاستمعوا خبر هذا التشبيه. فالكفار هم ضاربو المثل.
أو أن المعنى: يا أيها الناس، هذا مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا، وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه، أي أن الله هو ضارب المثل.
والأدق في المعنى: ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، أي بيّن الله لكم شبها ولمعبودكم، فالمثل يشمل العابد والمعبود.
5- المثل: هو أن الذين تعبدون من دون الله وهي الأوثان التي كانت حول الكعبة، وعددها ثلاث مائة وستون صنما، لن يقدروا أن يخلقوا ذبابة واحدة،(17/280)
ولن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم أمام ذبابة إذا أراد أن يأخذ شيئا مما عليها- على الأوثان- من الطيب والزعفران الذي كانوا يطلون به أصنامهم.
لقد ضعف وعجز الطالب وهو الآلهة، والمطلوب: وهو الذباب، أو عابد الصنم والصنم المعبود، فالطالب: يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم:
المطلوب إليه.
6- ما عظّم هؤلاء المشركون الله حق عظمته، حيث جعلوا هذه الأصنام العاجزة شركاء له، وهو القادر القهار، القوي العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، ومن يجرأ على مغالبته؟!.
7- الاختيار المطلق لله عز وجل في اصطفاء الملائكة يتوسطون لإبلاغ الوحي إلى الأنبياء، وفي اصطفاء الرسل من البشر لتبليغ الرسالة إلى الناس.
والمراد بالآية: إن الله اصطفى محمدا صلّى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة فليس بعثه محمدا أمرا بدعيا.
إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بمن يختاره من خلقه لرسالته. وهو سبحانه عليم بكل ما قدموا وما خلفوا، وإليه وحده مرجع الأمور كلها، فيجازي العباد على أعمالهم.(17/281)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
أوامر التشريع والأحكام
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
الإعراب:
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ مِلَّةَ: إما منصوب بفعل مقدر، أي اتبعوا ملة أبيكم، وإما منصوب على البدل من موضع الجار والمجرور، وهو قوله: فِي الدِّينِ لأنه منصوب بجعل.
وإما منصوب بنزع الخافض وهو الكاف، أي كملة أبيكم إبراهيم، أي وسع عليكم في الدين كملة إبراهيم، وهذا بعيد. ويجوز نصبه على الإغراء أو على الاختصاص. وإِبْراهِيمَ: عطف بيان.
هُوَ سَمَّاكُمُ ... وَفِي هذا هُوَ: يراد به الله تعالى، أو يراد به إبراهيم. وَفِي هذا: أي سماكم المسلمين في هذا القرآن، وفاعل سَمَّاكُمُ ضمير يعود على الله أو على إبراهيم.
البلاغة:
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، أي صلوا باعتبار الركوع والسجود من أهم أركان الصلاة.
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه ذكر العام بعد الخاص للعناية بشأن الخاص، ثم ذكر الأعم.
المفردات اللغوية:
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي صلوا. وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وحّدوه وتعبّدوه بسائر ما تعبدكم به.
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أي افعلوا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون، كنوافل الطاعات، وصلة(17/282)
الأرحام، ومكارم الأخلاق. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا هذه كلها، وأنتم راجون الفلاح، غير متيقنين له. والآية آية سجدة عند الشافعية، لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود،
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فضلت سورة الحج بسجدتين، من لم يسجدهما، فلا يقرأهما» .
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في سبيله ومن أجله أعداء دينه. حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا حقا خالصا لوجهه، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم. وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه مختص بالله. والجهاد: استفراغ الوسع في مجاهدة العدو، وهو ثلاثة أنواع: مجاهدة العدو الظاهر كالكفار، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس والهوى، وهذه أعظمها،
فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: «قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» .
وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه رجع من غزوة تبوك، فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «1» .
هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه ولنصرته، وفيه تنبيه على مقتضي الجهاد والداعي إليه.
حَرَجٍ ضيق وعسر ومشقة، بتكليفكم ما يشق عليكم، بأن سهله عند الضرورات، كقصر الصلاة الرباعية، والتيمم، وأكل الميتة، والفطر للمريض والمسافر. وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لأحد في ترك التكليف، فهو إما عزيمة، وإما رخصة،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» .
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي شريعته، وإنما جعل أبا للمسلمين لأنه أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو كالأب لأمته، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته، فغلّبوا على غيرهم.
مِنْ قَبْلُ أي من قبل القرآن في الكتب المتقدمة. وَفِي هذا أي القرآن. هُوَ سَمَّاكُمُ الضمير يعود إلى الله، بدليل قراءة: الله سماكم أو لإبراهيم، لقوله المتقدم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بسماكم. شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة بأنه بلّغكم، فيدل على قبول شهادته لنفسه، اعتمادا على عصمته. وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل إليهم، أي تكونوا أنتم شهداء على الناس أن رسلهم بلّغوهم.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات، لما خصكم بأنواع الفضل والشرف. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي وثقوا به في مجامع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه.
هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم. فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هو إذ لا مثل له في الولاية والنصرة، بل لا مولى ولا ناصر سواه في الحقيقة.
__________
(1) انظر تخريج الحديث ودرجة ضعفه في كشف الخفا.(17/283)
المناسبة:
بعد أن تكلم الله تعالى في الإلهيات، ثم في النبوات، أتبعه بالكلام في الشرائع والأحكام من نواح أربع هي:
1- تعيين المأمور: وهم المكلفون: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
2- وأقسام المأمور به: وهي أربعة: الصلاة، وعبادة الله وحده، وفعل الخير، والجهاد.
3- وما يوجب قبول تلك الأوامر: وهو ثلاثة: الاجتباء، وكون التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتكم مسلمين في القرآن وسائر الكتب المتقدمة عليه.
4- تأكيد ذلك التكليف بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله تعالى، أي الاستعانة به.
التفسير والبيان:
هذه أوامر تكليفية إلهية يراد بها توثيق الصلة بالله تعالى، وتهذيب النفس، وجهاد الأعداء، وإقامة صرح العدالة الاجتماعية في شرع الله ودينه، فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تُفْلِحُونَ أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، وآمنوا باليوم الآخر صلوا صلاتكم المفروضة المشتملة على الركوع (الانحناء لله عز وجل) والسجود (الخضوع بأشرف أجزاء الإنسان وهو الوجه لله تعالى) واعبدوه بسائر ما تعبدكم به كمناسك الحج والصيام ونحوها، وتحروا فعل الخير الذي يرضي ربكم ويقربكم منه من أداء نوافل الطاعات، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق، وهذا يشمل كل فضيلة في الإسلام، وفعل الخيرات عام للتكاليف جميعها، يشمل(17/284)
ما يصلح علاقة العبد بالرب، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض. لذا جمعت الآية أسمى درجات التهذيب النفسي والاجتماعي، فكل ما أمر الله به خير، لذا قال معللا ذلك الأمر بقوله:
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا أو افعلوا هذا راجين الفوز والفلاح بما عند الله من الثواب والرضوان. والفلاح: الظفر بنعيم الآخرة.
وتأكيدا لإعداد الذات المؤمنة وتهذيبها، وصونا للجماعة المؤمنة من كيد أعدائها أمر الله بالجهاد، فقال:
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي وجاهدوا في سبيل نصرة دين الله، ومن أجل إرضاء الله، جهادا حقا خالصا لوجهه الكريم، لا يشوبه رياء، ولا يثني عنه لوم لائم، فالجهاد في الله: معناه الجهاد في سبيله ومن أجل دينه، والأولى أن يحمل الجهاد على المعنى العام الذي يشمل جميع أنواعه.
والجهاد أنواع ثلاثة كما بينا: جهاد النفس والهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار المعتدين والمنافقين المرجفين. ويكون الجهاد الأخير بالأموال والألسن والأنفس،
أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»
وجهاد اللسان يكون بالحجة والبيان والاعلام، والجهاد بالنفس بحمل السلاح يكون للمعتدين، وهو فرض كفاية على المسلمين، يجزئ فيه قيام بعضهم به متى حققوا المطلوب، وإلا فعلى حسب رأي الحاكم ولو بالنفير العام.
وجهاد النفس أصل لجهاد العدو الظاهر، فهو الجهاد الأكبر كما وصفه الرسول صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، ولهذا كان فرض عين على كل مسلم. وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع فريضة على كل مكلف على قدر طاقته، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله(17/285)
عنه-: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
ونظير الآية: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان 25/ 51- 52] .
والآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 64/ 16] فليس المقصود بقوله: حَقَّ جِهادِهِ الغاية القصوى التي تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة، وإنما المراد الإخلاص لإعلاء دين الله، وتأييد شرعه، والتدرع بالقوة والعزيمة والصبر، والترفع عن المطامع المادية كالغنيمة أو غيرها من شهوات الدنيا.
وإضافة حَقَّ إلى «جهاد» في قوله تعالى: حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة للموصوف، كما بينا، وإضافة «جهاد» للضمير في قوله:
جِهادِهِ يراد بها اختصاص المضاف بالمضاف إليه، وهو جعل الجهاد مطلوبا لله ومن أجل دينه.
ثم ذكر الله تعالى علة الأمر بالجهاد وهي ثلاثة أنواع:
1- هُوَ اجْتَباكُمْ أي لأن الله أيتها الأمة اختاركم من بين سائر الأمم للقيام بهذه المهمة، وفضلكم وشرفكم، وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع، ولكنه غير شاق، لذا قال:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي لم يجعل الدين ضيقا حرجا شاقا، وإنما جعله سهلا يسيرا، فلم يكلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم، وهذا تأكيد لوجوب الجهاد، والحفاظ على الدين الذي اختاركم لحمايته.
والآية كالجواب عن سؤال يذكر، وهو أن التكليف والاجتباء تشريف من الله(17/286)
للعبد، لكنه شديد شاق على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
لكن المشقة المرفوعة في التكاليف الشرعية: هي المشقة الزائدة غير المعتادة التي تصل إلى حد الحرج. أما المشقة المعتادة المألوفة فهي غير مرفوعة من التكاليف، بل لا يتحقق التكليف إلا بها لأن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة، ولا يخلو عنها أي تكليف، لكنه سهل يسير على النفس، تطيق تحمله دون انزعاج.
ومظاهر التيسير ودفع الحرج والمشقة عامة شاملة العبادات والمطعومات والمعاملات. ففي العبادات: يجوز قصر الصلاة الرباعية في السفر، فتصلي ثنتين، والصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتصلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا النافلة في السفر تصلى إلى القبلة وغيرها. ويسقط القيام في الصلاة لعذر المرض، فيصلي المريض جالسا أو مضطجعا أو على جنب أو بالإيماء.
ويجوز في صيام رمضان الإفطار لعذر لكل من المسافر والمريض والشيخ الهرم، والحامل والمرضع.
وفي المطعومات: يجوز الأكل والشرب من المحرّمات المحظورات للضرورة، كالميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك.
وفي المعاملات: يجوز بعض التصرفات للحاجة أو للضرورة.
وهكذا تشرع الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، لهذا
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن جابر: «بعثت بالحنيفية السّمحة»
وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن فيما أخرجه البخاري ومسلم: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا» .(17/287)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] وقوله سبحانه: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة 2/ 286] وقوله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 64/ 16] .
2- مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي اتبعوا أو الزموا ملتكم التي هي كملة أبيكم إبراهيم عليه السلام في حنيفيتها وسماحتها وبعدها عن الشرك. والمراد بالملة:
الأحكام الأصلية الاعتقادية، فهي واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه السلام، بل هي واحدة في جميع الشرائع قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] وقال تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد: «الأنبياء أولاد علّات»
أي أن إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة.
وسبب تخصيص إبراهيم عليه السلام بالذكر هو التشابه في السماحة والتوحيد بين الملتين، وكون أكثر العرب من نسل إبراهيم عليه السلام، فهم يحبونه، والحب مدعاة التمسك بشريعته وشريعة محمد صلّى الله عليه وسلم التي هي شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وبما أن إبراهيم هو أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده.
ونظير الآية قوله عز وجل: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الأنعام 6/ 161] .
3- هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا أي إن الله- وقيل: إبراهيم-، هو الذي سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي القرآن. قال ابن كثير(17/288)
مرجحا المعنى الأول بعود الضمير إلى الله: وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال:
هُوَ اجْتَباكُمْ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وفي قراءة: الله سماكم.
واما دليل من قال بعود الضمير إلى إبراهيم عليه السلام: فهو قوله تعالى:
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا، أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة 2/ 128] .
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم، ليكون الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بتبليغه ما أرسل به إليكم أي أنه قد بلغكم، ولتكونوا شهداء على الناس في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم.
واللام في قوله: لِيَكُونَ إما لام العاقبة، وهي متعلقة بقوله:
سَمَّاكُمُ وإما لام التعليل، وتكون عَلَى في قوله: عَلَيْكُمْ بمعنى اللام، مثل قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة 5/ 3] وتكون شهادة الرسول لهم: أن يزكيهم عند الله يوم القيامة، ويشهد بعدالتكم إذا شهدوا على الأمم السابقة.
والراجح أنه لا داعي لوصف اللام بما ذكر، ويكون قبول شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم على الأمة علة في الحكم وهو تسميتها أمة مسلمة.
وقبول شهادة النبي صلّى الله عليه وسلم وشهادة أمته يوم القيامة فيه تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلم وتشريف لأمته، فإن الله تعالى يصدّق قوله على أمته في دعوى تبليغه إياها، ويجعل أمته أهلا للشهادة على سائر الأمم.
وإنما قبلت شهادتهم على الأمم لأنهم لم يفرقوا بين أحد من الرسل، وعلموا أخبارهم من القرآن الكريم، ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم، فيقال للأنبياء: هل(17/289)
بلّغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغناهم، فينكرون، فيؤتى بهذه الأمة، فيشهدون أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم؟ فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.
ومقابلة لهذه النعمة العظيمة على الأمة ووجوب شكرها، طلب الله منها دوام عبادته والاعتصام به، فقال:
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي فقابلوا هذه النعمة الجليلة بالقيام بشكرها، فأدّوا حقّ الله عليكم بطاعته فيما افترض وأوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة أي أداؤها تامة الأركان والشروط بخشوع كامل وخضوع تام لله، فهي صلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال، وإحسان واجب إلى خلق الله المستحقين، وهي دليل التعاون والتضامن والإخاء، واستعينوا بالله والجؤوا إليه في جميع أموركم. والاعتصام بالله: هو الثقة به، والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كل مكروه، وهو ناصركم على من يعاديكم. والمولى: هو الحافظ والناصر والمالك والخالق.
فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي نعم المولى المتولي أموركم، ونعم الناصر، العظيم النصرة، الكامل المعونة، هو أي الله تعالى. وهو المخصوص بالمدح.
فقه الحياة أو الأحكام:
ظاهر هذه الآيات التي ختمت بها سورة الحج أنها جمعت أنواع التكاليف الدينية والاعتقادية والاجتماعية، وأحاطت بفروع الشريعة، وعنيت بأمر الصلاة لأنها عماد الدين، ولم تكتف بطلبها في عموم العبادات.
ودلت على ما يأتي:(17/290)
1- وجوب أربعة أمور: هي الصلاة المشتملة على أهم أركانها وهو الركوع والسجود، وعبادة الله دون غيره، وفعل الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة، وفعل الخير كصلة الرحم ومكارم الأخلاق. وقد اختلف العلماء في قوله: وَاسْجُدُوا أهو سجود الصلاة أم سجود التلاوة؟ فقال الشافعية والحنابلة: هذه سجدة تلاوة لأنه يمكن حمل اللفظ على حقيقته مع عدم صارف يصرفه إلى معنى آخر، ومعنى السجود: وضع الجبهة على الأرض، ولما
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «فضّلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» .
وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصّل، وفي الحج سجدتان.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن هذه الآية ليست آية سجدة لأن اقتران السجود بالركوع دليل على أن المراد به سجود الصلاة، كما في قوله تعالى:
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران 3/ 43] . ولما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعدّ في الحج سجدة واحدة. وأما حديثا عقبة وعمرو فضعيفان.
ويكون المراد بالآية على هذا الرأي الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة، وهو ما سرت عليه في التفسير والاستنباط.
2- وجوب عبادة الرب تعالى، أي امتثال أوامره.
3- الندب إلى فعل الخير فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها شرعا.
4- وجوب الجهاد بأنواعه الثلاثة: جهاد الهوى والنفس وجهاد الشيطان ومطاردة وساوسه، وجهاد أهل الظلم والبدع، وهي كلها فرض عين على كل فرد(17/291)
مسلم.
روى الترمذي وابن حبان عن فضالة بن عبيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المجاهد: من جاهد نفسه لله عز وجل» .
وروى أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»
وقد ذكرت
حديث: «من رأى منكم منكرا ... » .
وجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وبالسيف والسنان واجب أيضا، وهو فرض كفاية على جماعة المسلمين، يجزي فيه قيام بعضهم إذا تحقق المقصود، وطرد العدو، وتم دفعه عن بقية المسلمين وأموالهم وأعراضهم وبلادهم، فإن لم يتحقق ذلك كان فرض عين على كل واحد من القادرين على القتال. وهذا حينما كان الاعتماد على العنصر البشري في الحروب أمرا ضروريا وأساسيا، أما اليوم حيث تطورت وسائل القتال، فلا يصح حشد المسلمين في جبهة واحدة مثلا لحصادهم بقنبلة واحدة أو بغيرها من الوسائل الحربية الفتاكة الحديثة، وإنما ينظر الحاكم فيما يحقق المصلحة، وتقتضيه الحاجة، بعد الأخذ بوسائل الإعداد الحديثة المكافئة لما هو موجود عند الأعداء.
5- علة التكليف بالتكاليف السابقة ثلاثة أمور:
أ- الاجتباء أي الاصطفاء والاختيار للدفاع عن الدين والتزام أمره، وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.
وزيادة في التأكيد والترغيب رفع الله الحرج، أي الضيق والعسر عن الناس في المطالب الشرعية، وهذا عام في كثير من الأحكام، وهو مما خص الله به هذه الأمة. قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي:
اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة 2/ 143] . ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة:(17/292)
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] .
فرفع الحرج من الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي، قال العلماء:
رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، واما السلابة والسّرّاق وأصحاب الحدود، فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين.
ب- كون ملتنا كملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهو أبو العرب قاطبة.
ج- تسمية الله لنا بالمسلمين في الكتب المتقدمة وفي القرآن.
6- تقبل شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم على الأمة بتبليغه إياهم أحكام شرع الله، وقبول شهادته علة لعدالة الحكم وهو التسمية بالمسلمين، وكذلك قبول شهادة أمته على الأمم الأخرى ان رسلهم قد بلغتهم علة في تسميتها مسلمة كذلك، وقبول الشهادتين تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته.
7- إن قبول شهادة الأمة المسلمة على الأمم الأخرى نعمة عظمي تستوجب الشكر بأداء الفرائض واجتناب النواهي المحظورات، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله، أي الثقة به، والاستعانة بقوته الجبارة على دفع السوء لأنه مالكنا وخالقنا، وحافظنا وحامينا، وناصرنا على أعدائنا.
آمنت بالله انتهى الجزء السابع عشر(17/293)
[الجزء الثامن عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المؤمنون
مكية، وهي مائة وثمان عشرة آية.
تسميتها وفضلها:
سميت سورة المؤمنون لافتتاحها بقول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم ذكر أوصاف المؤمنين السبعة وجزاءهم العظيم في الآخرة وهو ميراث الفردوس.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوحي، يسمع عند وجهه كدويّ النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن «1» دخل الجنة ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم العشر» .
وروى النسائي في تفسيره عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن، فقرأت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- حتى انتهت إلى- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) من أقامهن: أي من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن كما تقول: فلان يقوم بعمله.(18/5)
مناسبة السورة لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بسورة الحج من نواح هي:
1- ختمت سورة الحج بجملة من الأوامر الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، منها قوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو مجمل فصّل في فاتحة هذه السورة، فذكر تعالى خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح، فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الآيات العشر.
2- ذكر في أول سورة الحج قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الآية لإثبات البعث والنشور، ثم زاد هنا بيانا ضافيا في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ
الآيات. فما أجمل أو أوجز هناك، فصل وأطنب هنا.
3- في كل من السورتين أدلة على وجود الخالق ووحدانيته.
4- في السورتين أيضا ذكرت قصص بعض الأنبياء المتقدمين للعبرة والعظة، في كل زمن وعصر ولكل فرد وجيل.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة الكلام عن أصول الدين من وجود الخالق وتوحيده وإثبات الرسالة والبعث.
وابتدأت بالإشادة بخصال المؤمنين المصدقين بالله ورسوله التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في الجنان.
ثم أبانت الأدلة على وجود الله تعالى والقدرة الإلهية والوحدانية من خلق الإنسان مرورا بأطواره المتعددة، وخلق السموات البديعة، وإنزال الماء منها(18/6)
لإنبات الجنات أو البساتين التي تزهو بالنخيل والأعناب، والزيتون والرمان، والفواكه الكثيرة، وإيجاد الأنعام ذات المنافع العديدة للإنسان، وتسخير السفن لحمل الركاب والبضائع.
ثم أوردت قصص بعض الأنبياء والمرسلين كنوح وهود وموسى وهارون وعيسى وأمه مريم، لتكون نماذج للعبرة والعظة عبر الأجيال، وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين من قريش، مع توبيخهم ووعيدهم على استكبارهم عن الحق، ووصفهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالجنون وغيره، وعدم إيمانهم برسالته، وإخبارهم بما يلقونه من العذاب والنكال يوم القيامة، وإقناعهم بالأدلة والبراهين على حدوث البعث والنشور.
وفي خلال ذلك أوضحت بعض الآيات يسر التكليف وسماحته وعدم المطالبة إلا بما فيه الوسع والقدرة، والتذكير بما أنعم الله به على الإنسان من نعم الحواس والمشاعر، والإنكار الشديد على نسبة الولد والشريك لله تعالى.
ثم طمأنت الآيات النبي صلّى الله عليه وسلم عن نجاته من القوم الظالمين، ووضعت له أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وعرفته طريق الاعتصام بالله من همزات الشياطين.
وعرضت السورة في خاتمتها لموقف الحساب الرهيب وأهواله وشدائده، وما فيه من معايير النجاة والخسران، من ثقل الموازين وخفتها، وقسمة الناس إلى فريقين: سعداء وأشقياء، وعدم إفادة الأنساب في شيء، وتمني الكفار العودة لدار الدنيا ليعملوا صالحا، وتذكيرهم بسخريتهم وضحكهم من المؤمنين، وسؤالهم عن مدة لبثهم في الدنيا، وتوبيخهم على إنكار البعث، وإعلان تفرد الإله الملك القاهر بالحساب ومحاورته أهل النار، وبيان خسارة من عبد مع الله إلها آخر، ونجاة أهل الإيمان والعمل الصالح، وإفاضة رحمة الله عليهم ومغفرته لهم.(18/7)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
خصال المؤمنين
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
الإعراب:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ انتظمت الجملة أقسام الكلم الثلاثة التي هي الاسم والفعل والحرف، فإن قَدْ حرف، وأَفْلَحَ فعل، والْمُؤْمِنُونَ اسم.
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ جملة معطوفة على ما قبلها، أي يؤدون الزكاة. وقيل: أي الذين لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وتفسير القرآن بعضه ببعض أولى، لكن الظاهر الأول لأن الغالب في القرآن اقتران الزكاة بالصلاة.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ.. إنما جمع (أمانات) جمع (أمانة) مع أنها مصدر، والمصادر لا تجمع لأنها تدل على الجنس لأنها مختلفة الأنواع، وحينئذ يجوز تثنيتها وجمعها، والأمانة هنا مختلفة، لاشتمالها على سائر العبادات وغيرها من المأمورات.
البلاغة:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ: لإفادة التحقيق، والإخبار بصيغة الماضي لإفادة الثبوت والتحقق.(18/8)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.. الآيات، تفصيل بعد إجمال.
الْمُؤْمِنُونَ خاشِعُونَ مُعْرِضُونَ فاعِلُونَ حافِظُونَ العادُونَ سجع لطيف غير متكلف.
الْوارِثُونَ استعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم.
المفردات اللغوية:
قَدْ للتحقيق وهي تثبت المتوقع، كما أن (لما) تنفيه، وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي، فتقرّبه من الحال أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فازوا بأمانيهم، وأَفْلَحَ: فاز وظفر بالمراد، والْمُؤْمِنُونَ: جمع مؤمن: وهو المصدّق بالله وبما أنزل على رسوله من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء. خاشِعُونَ متواضعون خاضعون متذللون لله خائفون منه اللَّغْوِ ما لا خير فيه من الكلام، وما لا يعني من قول أو فعل مُعْرِضُونَ أقام الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا، مباشرة وتسببا وميلا وحضورا وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة، ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام بالطاعات البدنية والمالية وتجنب المحرّمات وما يخل بالمروءة. والمراد بالزكاة هنا المعنى وهو التزكية، فجعل المزكين فاعلين له، لأن التزكية مصدر، ويقال لمحدثه فاعل، فهو فاعل الحدث، كالضارب فاعل الضرب، والقاتل فاعل القتل.
ويجوز أن يراد بالزكاة العين، أي القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير، بتقدير مضاف محذوف وهو الأداء لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ أي يحفظون فروجهم عن الحرام، والفرج: سوأة الرجل والمرأة وحفظه: التعفف عن الحرام إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي من زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي السراري حينما كان الرق شائعا، أما اليوم فقد انتهى من العالم غَيْرُ مَلُومِينَ في إتيانهن، والضمير يعود لحافظون أو لمن دل عليه الاستثناء.
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي طلب غير ذلك من الزوجات والسراري كالاستمناء باليد (العادة السرية) في إتيانهن العادُونَ المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم، أو المتناهون في العدوان وتجاوز الحدود الشرعية.
لِأَماناتِهِمْ جمع أمانة: وهي كل ما يؤتمن الإنسان عليه من الله كالتكاليف الشرعية، أو من الناس كودائع الأموال وَعَهْدِهِمْ العهد: كل ما التزمه الإنسان نحو ربه وأمره به كالصلاة والنذر وغيرهما، ونحو الناس من قول وفعل كالعقود والوعود والعطاء. وكلمة عَهْدِهِمْ مفرد(18/9)
مضاف فيعم راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها، والرعي: الحفظ، والراعي: الذي يحفظ الشيء ويصلحه.
صَلَواتِهِمْ جمع صلاة، وهي مثل لِأَماناتِهِمْ تشمل المفرد والجمع يُحافِظُونَ يواظبون عليها، ويؤدونها في أوقاتها أُولئِكَ الجامعون لهذه الصفات الْوارِثُونَ لا غيرهم، أي هم الأحقّاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ بيان لما يرثونه، وتقييد الوراثة بعد إطلاقها تفخيم لها وتأكيد، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم.
والْفِرْدَوْسَ: أعلى الجنة هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا. وأنث الضمير لأنه اسم للجنة، أو لطبقتها العليا. وفيه إشارة إلى المعاد، ويناسبه ذكر المبدأ بعده.
سبب النزول: نزول الآية (2) :
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ:
روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده، وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته، فقال: «لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه» «1» .
أخرج الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه.
وأخرج ابن مردويه بلفظ: كان يلتفت في الصلاة.
وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن سيرين مرسلا بلفظ: كان يقلب بصره، فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا: كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فنزلت.
التفسير والبيان:
يبشر الله تعالى بالفلاح والفوز المؤمنين المتصفين بسبع صفات، ويحكم لهم بذلك، فيقول:
__________
(1) تفسير البيضاوي: ص 451(18/10)
1- قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي قد فازوا وسعدوا، لاتصافهم بصفة الإيمان أي التصديق بالله ورسله واليوم الآخر.
2- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي خائفون ساكنون، والخشوع:
خشوع القلب، وهو الخضوع والتذلل مع الخوف وسكون الجوارح. قال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس: «حبّب إليّ الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن رجل من أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا بلال، أرحنا بالصلاة» .
والخشوع واجب ضروري لتعقل معاني الصلاة، ومناجاة الرب تعالى، وتذكر الله والخوف من وعيده، وتدبر آيات القرآن وتفهم معانيها، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] وحينئذ يتخلص غالبا من وساوس الشيطان ومحاولة شغل الفكر وصرف المصلي عن صلاته، كما قال تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف 7/ 205] . لكن جمهور العلماء لم يشترطوا الخشوع في الصلاة للخروج من عهدة التكليف، وإنما هو شرط لتحصيل الثواب عند الله تعالى.
3- وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أي الذين يتركون رأسا كل ما كان حراما أو مكروها، أو مباحا لا خير فيه، ولا يعني الإنسان ولا حاجة له فيه.
وذلك يشمل الكذب والهزل والسب وجميع المعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان 25/ 72] .
ومع الأسف الشديد استبد اللهو في عصرنا في أفعال وأقوال كثير من الناس(18/11)
برؤية التلفاز، وقراءة المجلات غير النافعة واللعب بالأوراق، واللهو، والبعث، وضياع الوقت فيما لا يجدي، مع أن الوقت من ذهب، لذا وصفت أمتنا بالتخلف لإهدار قيمة الوقت بين أفراد شعبها.
4- وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ قال ابن كثير: الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] . وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] وكقوله: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت 41/ 6- 7] على أحد القولين في تفسيرهما. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل: هو الذي يفعل هذا، والله أعلم.
وقال الرازي: وقول الأكثرين إنه الحق الواجب في الأموال خاصة، وهذا هو الأقرب لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى «1» .
5- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ... مَلُومِينَ أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنى ولواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم بالعقد، أو بملك اليمين، أي ما ملكت أيمانهم من السراري- في الماضي حيث كان الرق قائما- فمن اقتصر على الحلال، فلا لوم عليه ولا حرج.
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي فمن طلب غير ذلك من
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 238، وما بعدها، تفسير الرازي: 23/ 80(18/12)
الزوجات والإماء، فأولئك هم المتناهون في العدوان، المتجاوزون حدود الله.
وهذا يدل على تحريم المتعة والاستمناء باليد.
6- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي والذين يحفظون حرمة الأمانة وقدسية العهد، فإذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، فأداء الأمانة والوفاء بالعهد صفة أهل الإيمان، أما الخيانة والغدر وخلف الوعد وعدم الوفاء بمقتضى العقد بيعا أو إجارة أو شركة أو غيرها، فهي صفة أهل النفاق الذين
قال فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال 8/ 27] .
والأمانة والعهد يشملان جميع ما ائتمن الإنسان عليه من ربه أو من الناس، كالتكاليف الشرعية، والودائع، وتنفيذ العقود.
7- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي والذين يواظبون على الصلاة ويؤدونها في أوقاتها، مع استكمال أركانها وشروطها.
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: برّ الوالدين، قلت:
ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» .
وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ثوبان: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن» .
أي الزموا الاستقامة بالمحافظة على إيفاء الحقوق ورعاية الحدود، والرضى بالقضاء، ولن تحصوا ثواب الاستقامة.
ثم رتب الله تعالى الجزاء الحسن على هذه الأفعال، فقال:(18/13)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي أولئك البعيدون في درجات الكمال المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم المستحقون النزول في جنات الفردوس، الماكثون فيها أبدا على الدوام،
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» .
وقيل: الفردوس هي الجنة، وهي رومية أو فارسية عرّبت.
ونظير الآية قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم 19/ 63] وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف 43/ 72] . وهذا قانون الله من حيث العدل أن الجنة جزاء العمل الحسن في الدنيا، ومجموع الأخذ بهذه الصفات السبع محقق لهذا الفوز في عالم الآخرة. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والصوم والحج، فدخل معهن. والآية عامة في الرجال والنساء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى وجوب الاتصاف بالصفات السبع التالية، والقيام بالأفعال الآتية المستوجبة الخلود في الفردوس الأعلى من الجنان وهي:
1- الإيمان: وهو التصديق بالله ورسله واليوم الآخر.
2- الخشوع في الصلاة: وهو الخضوع والتذلل لله والخوف من الله تعالى، ومحله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه، إذ هو ملكها.
روى الترمذي عن أبي ذرّ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الرحمة تواجهه، فلا يحركن الحصى» .
فالسكون دليل الاطمئنان، واستيقاظ الذهن، والاتجاه نحو الله تعالى، وبه يحصل جوهر الصلاة، وتتحقق غايتها المنشودة الصحيحة.(18/14)
وهو من فرائض الصلاة على الصحيح، وأساس قبولها، والظفر بثواب الله تعالى.
3- الإعراض عن اللغو: أي الباطل، وهو الشرك والمعاصي كلها، وكل ما لا حاجة فيه وما لا يعني الإنسان، وإن كان مباحا.
4- أداء الزكاة المالية المفروضة، وتزكية النفس من الدنس والمعصية، وتطهيرها من أمراض القلب كالحقد والحسد والكراهية والبغضاء ونحوها.
5- حفظ الفرج، والتعفف من الحرام كالزنى واللواط، والإعراض عن الشهوات. وذلك يدل على تحريم المتعة (الزواج المؤقت بمدة زمنية محدودة، قصيرة أو طويلة) لأن المرأة المستمتع بها ليست زوجة بالفعل، بدليل أنهما لا يتوارثان بالإجماع، فلا تحل للرجل، لكن يدرأ الحد للشبهة.
ويدل أيضا على تحريم الاستمناء، ويستأنس له
بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العاملين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» «1» .
وتحريم الاستمناء هو مذهب جماهير العلماء، لظاهر الآية التي حصرت إباحة الاستمتاع بالنساء بالزواج وملك اليمين. ونقل عن الإمام أحمد جوازه للضرورة أو الحاجة الملحة، أي لمرة واحدة مثلا دون تكرار، إذا استبدت به الشهوة، وطغت عليه، بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنى، وألا يملك مهر امرأة حرة، وأن يكون بيده، لا بيد امرأة أجنبية، ولا بيد ذكر مثله.
__________
(1) حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف لجهالته.(18/15)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
ومن تجاوز الحلال ووقع في الحرام كالزنى واللواط فهو معتد متجاوز حدود الله، ويجب عليه الحد لعدوانه، إلا أن يكون جاهلا التحريم كمن أسلم حديثا، أو متأولا، كما قال القرطبي.
6- أداء الأمانة ورعاية العهد والعقد: ومعنى الأمانة أو العهد يجمع كل ما يحمّله الإنسان من أمر دينه ودنياه، قولا وفعلا، وهذا يشمل معاشرة الناس والوعود وغير ذلك. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما فيه قول أو فعل أو معتقد.
7- المحافظة على الصلاة: بإقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها.
فمن عمل بما ذكر في هذه الآيات، فهم الوارثون الذين يرثون فراديس الجنان، وينزلون فيها منزلا كريما، ويخلدون فيها على الدوام والبقاء. ويدخل في الأمانات جميع الواجبات من الأفعال والتروك، فصارت الآيات شاملة العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة.
من أدلة وجود الله وقدرته
- 1- خلق الإنسان
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)(18/16)
الإعراب:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً النطفة وعلقة: مفعولا خَلَقْنَا المتعدي هنا إلى مفعولين لأنه بمعنى: صيرنا، ولو كان بمعنى: أحدث لتعدى إلى مفعول واحد.
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أحسن إما بدل من اللَّهُ ولا يجوز أن يكون وصفا لأن إضافته إلى ما بعده في نية الانفصال لا الاتصال لأنه في تقدير: أحسن من الخالقين، كما تقول:
زيد أفضل القوم، أي منهم، فلا يستفيد المضاف من المضاف إليه تعريفا، فوجب أن يكون بدلا، لا وصفا. وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هو أحسن الخالقين، وقوّى هذا التقدير أنه موضع مدح وثناء.
البلاغة:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ نزلوا منزلة المنكرين، فهم لا ينكرون الموت، ولكن غفلتهم عنه، وفقدهم العمل الصالح من علامات الإنكار، وأكد الخبر بمؤكدين (إن واللام) .
طِينٍ مَكِينٍ الْخالِقِينَ سجع سائغ مقبول لا تكلف فيه.
المفردات اللغوية:
الْإِنْسانَ أصل الإنسان وهو آدم أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا مِنْ سُلالَةٍ خلاصة سلت من بين التراب، من سللت الشيء من الشيء، أي استخرجته منه مِنْ طِينٍ من: بيانية، أو متعلق بمحذوف لأنه صفة لسلالة ثُمَّ جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله- نسل آدم، فحذف المضاف نُطْفَةً منيا، أي بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ مستقر حصين أو متمكن، يعني الرحم. عَلَقَةً هي الدم الجامد مُضْغَةً أي صيرناها مضغة وهي قطعة لحم، قدر ما يمضغ. وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى: صيرنا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بنفخ الروح فيه فَتَبارَكَ اللَّهُ تعالى شأنه في قدرته وحكمته وتقدس أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المقدرين تقديرا، فحذف مميز أَحْسَنُ وهو خلقا، لدلالة الْخالِقِينَ عليه.
لَمَيِّتُونَ لصائرون إلى الموت لا محالة تُبْعَثُونَ للحساب والجزاء.(18/17)
سبب النزول: نزول الآية (12) :
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: وافقت ربي في أربع، نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآية، فقلت أنا: «فتبارك الله أحسن الخالقين» .
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بالعبادات، أورد ما يدل على معرفة الإله الخالق المعبود، وذكر أربعة أنواع من دلائل وجوده وقدرته تعالى، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية. وتلك الأدلة: هي خلق الإنسان، وخلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء، وخلق الحيوانات لمنافع.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون، ويبين تقلبه في أدوار تسعة للخلقة وهي:
1- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أي لقد خلقنا أي أوجدنا الإنسان، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة، والمراد به جنس الإنسان وأصله من خلاصة سلت من طين لا كدر فيه، أو أول أفراده وهو آدم عليه السلام. وهذا دليل كاف على قدرة الله تعالى ووحدانيته واتصافه بكل صفات الكمال.
والراجح أن المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام لأنه استل من الطين، وخلق منه، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم 30/ 20] .(18/18)
2- ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي ثم جعلنا نسله أو جنس الإنسان نطفة من مني في أصلاب الذكور، ثم قذفت إلى أرحام الإناث، فصار في حرز مستقر متمكن حصين، ابتداء من الحمل إلى الولادة. وذلك كقوله تعالى:
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة 32/ 7- 8] أي من ماء ضعيف، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات 77/ 20- 24] .
3- ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي ثم حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفة العلقة: وهي الدم الجامد. أو صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل (وهو ظهره) وترائب المرأة (وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السّرّة) صيرناها علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة.
4- فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي ثم صيرنا الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم، بمقدار ما يمضغ، وهي قطعة كبضعة لحم، لا شكل فيها ولا تخطيط. وسمي التحويل خلقا لأنه سبحانه يفني بعض الصفات، ويخلق صفات أخرى، وكأنه تعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.
5- فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي صيرناها عظاما يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
6- فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي غطينا العظام بما يستره ويشده ويقويه وهو اللحم لأن اللحم يستر العظم، فجعل كالكسوة لها.
7- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي خلقا مباينا للخلق الأول، بأن نفخنا فيه الروح، فتحرك، وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب.(18/19)
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي تعالى شأنه في قدرته وحكمته، وتنزه وتقدس الله أحسن المقدّرين المصورين.
روى ابن أبي حاتم والطيالسي عن أنس قال: قال عمر: «وافقت ربي في أربع: قلت: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة 2/ 125] .
وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر، فأنزل الله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب 33/ 53] .
وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم: لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فنزلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآية [التحريم 66/ 5] .
ونزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.. الآية فقلت أنا:
فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
8- ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ «1» أي ثم إنكم بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.
9- ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي ثم تبعثون من قبوركم للنشأة الآخرة للحساب والجزاء ثوابا وعقابا، كما قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت 29/ 20] يعني يوم المعاد.
وفي هاتين الآيتين جعل الله سبحانه الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة الحياة بعد الإفناء والإعدام دليلين على قدرته بعد الإنشاء والاختراع.
__________
(1) وقرئ «لمائتون» والفرق بين الميت والمائت: أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد ميت الآن، ومائت غدا.(18/20)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على خلق الإنسان، وخلقه ومروره في المراحل التسع المذكورة دليل واضح على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته العظمى.
فقد بدأ الله تعالى خلق آدم عليه السلام من طين أو تراب، ثم جعل ابن آدم مخلوقا من نطفة (مني) يلتقي مع مني المرأة، فيبدأ تخلق الجنين، ثم تتحول النطفة إلى علقة (دم متخثر) ثم تصبح مضغة (قطعة لحم) ثم تصير عظاما، ثم تكسى العظام باللحم الذي تظهر فيه ملامح الإنسان، ثم يصير خلقا جديدا مباينا للخلق الأول بنفخ الروح الحركية فيه بعد أن كان جمادا.
فتبارك وتعالى الله أحسن الخالقين وأتقن الصانعين، لهذا الإبداع والإنشاء العظيم: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] .
وبعد هذه المراحل السبع، وولادة الإنسان، وتمتعه بالحياة المقدرة له، أي بعد الخلق والحياة تحدث نهاية الإنسان بالموت، ثم يأتي البعث بعد الموت، وكل من الخلق الأول (النشأة الأولى) ثم الإماتة (إعدام الحياة) ثم البعث (إعادة ما أفني وأعدم) دليل قاطع على قدرة الله تعالى.
والآيات صريحة في أن الله وحده هو الخالق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الباعث، والله هو الحق، ووعده بالبعث حق، والجنة حق، والنار حق.
وذلك كله لإثبات البعث الذي ينكره المشركون والملحدون الماديون الذين يرون أن الدنيا هي نهاية المطاف، وألا حياة أخرى بعدئذ، وإنكارهم الحياة الآخرة وإنكار وجود الله أو وحدانيته هو مذهب المادية، وعقيدة الجاهلية، وأسّ الكفر وعماده.
أما أهل الإيمان فهم الذين يشكرون ربهم الخالق الذي أنعم عليهم بنعمة(18/21)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
الإيجاد والإحياء والرزق، وهم الذين يبادرون إلى أداء التكاليف التي كلف الله بها عباده بعد أن أصبحوا قادرين على تحمل التكليف، ثم لا بد من مجيء يوم القيامة والبعث بعد الموت لتسلم الجائزة الكبرى على العمل الصالح، ومجازاة المؤمنين بالجنة، وعقوبة الكافرين بالنار.
روى ابن أبي شيبة في مسنده أن ابن عباس استنبط شيئا من هذه الآية، فقال لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر، فقالوا: الله أعلم فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى خلق السموات سبعا، والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما آتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه.
أراد ابن عباس بقوله: «خلق ابن آدم من سبع» مراحل خلق الإنسان المفهومة من هذه الآية، وبقوله: «وجعل رزقه في سبع» قوله: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا السبع منها لابن آدم، والأب: العشب للأنعام، والقضب: البقول، وقيل هو للأنعام.
- 2- خلق السموات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)(18/22)
الإعراب:
وَشَجَرَةً معطوف بالنصب على جَنَّاتٍ أي فأنشأنا لكم به جنات وشجرة تخرج من طور سيناء.
وسَيْناءَ ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه، أي للعلمية والتأنيث، أي تأنيث البقعة.
وتَنْبُتُ بِالدُّهْنِ من قرأ بفتح التاء جعل الباء للتعدية، ومن قرأ بالضم جعله من أنبت وفي الباء ثلاثة أوجه: التعدية، وتكون أنبت بمعنى نبت، أو تكون زائدة لأن الفعل متعد بالهمزة، أو تكون للحال، ومفعوله محذوف، أي تنبت ما تنبت ومعه الدهن.
البلاغة:
سَبْعَ طَرائِقَ استعارة، شبهت السموات بطبقات النعل لأنه طورق بعضها فوق بعض، كمطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة.
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ في تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به.
المفردات اللغوية:
سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات، والطرائق: جمع طريقة سميت بذلك لأنه طورق بعضها فوق بعض، مطارقة النعل، وكل ما فوقه مثله فهو طريقة، أو لأنها طرق الملائكة. وقيل:
المراد بالطرائق: الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها. والأول أصح، قال الخليل والزجاج: وهذا كقوله: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح 71/ 15] وقوله:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.. [الطلاق 65/ 12] الآية، أي فالطرائق والطباق بمعنى واحد.(18/23)
وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي المخلوقات التي منها السموات السبع غافِلِينَ مهملين أمرها، بل نحفظها من الزوال والاختلال، وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدّر لها من الكمال، بحسب الحكمة والمشيئة الإلهية، وهذا كقوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج 22/ 65] .
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً السماء هنا: السحاب بِقَدَرٍ أي بمقدار معلوم، وهو مقدار كفايتهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا مستقرا فيها ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته، إما بتغويره في الأرض بحيث يتعذر إخراجه، أو بتغيير صفة المائية إلى عنصر آخر لَقادِرُونَ أي كما كنا قادرين على إنزاله، وحينئذ يموتون مع دوابهم عطشا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هما أكثر فواكه العرب لَكُمْ فِيها في الجنات وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي ومن الجنات تأكلون ثمارها وزروعها، صيفا وشتاء.
وَشَجَرَةً أي وأنشأنا شجرة هي شجرة الزيتون طُورِ سَيْناءَ جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: إنه بفلسطين، فهو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه، ويسمى طور سينين أيضا وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، أي إدام يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام، وهو زيت الزيتون.
الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم لَعِبْرَةً عظة تعتبرون بها مِمَّا فِي بُطُونِها أي اللبن مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من الأصواف والأوبار والأشعار وغير ذلك وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي من الأنعام تأكلون، فتنتفعون بأعيانها عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
أي في البر والبحر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى النوع الأول من دلائل قدرته وهو خلق الإنسان، أتبعه بذكر أنواع ثلاثة أخرى من تلك الدلائل وهي خلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء وتأثيره في إنبات النبات، ومنافع الحيوانات وهي هنا أربعة أنواع: الانتفاع بالألبان، وبالصوف، وباللحوم، وبالركوب، وذلك كله مما يحتاج إليه الإنسان في بقائه.(18/24)
التفسير والبيان:
خلق السموات:
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي تالله لقد خلقنا فوقكم يا بني آدم سبع سموات طباقا، بعضها فوق بعض، وهي أيضا مسارات الكواكب.
وكثيرا ما يقرن الله تعالى خلق السموات والأرض، مع خلق الإنسان، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] وهكذا في أول سورة السجدة الم التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها في صبيحة يوم الجمعة، في أولها خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ثم بيان خلق الإنسان، وفيها أمر المعاد والجزاء.
ونظير الآية كما تقدم: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح 71/ 15] وقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق 65/ 12] .
وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أي وما كنا مهملين أمر جميع المخلوقات التي منها السموات، بل نحفظها لكفالة بقائها واستمرارها، ونحن نعلم كل ما يحدث فيها من صغير أو كبير، كما قال تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد 57/ 4] وقال سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] .
المطر والنبات:
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي وأنزلنا من(18/25)
السحاب مطرا بقدر الحاجة والكفاية للشرب والسقي، لا كثيرا يفسد الأرض والعمران، ولا قليلا لا يكفي الزرع والثمار، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا لزرعها، ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها، يساق الماء إليها من بلاد أخرى، كأرض مصر التي يقال لها: الأرض الجرز، يأتي حاملا معه الطين الأحمر «الغرين» من بلاد الحبشة، فيستقر الطين فيها للزراعة فيه، فتغطي الرمال به، وهي ما يغلب في تلك الأرض.
وجعلنا الماء إذا نزل من السحاب يستقر في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له، فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى، ومنه تنبع الأنهار والآبار.
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي ولو شئنا إزالته وتصريفه عنكم وتغويره لفعلنا، كما أنا قادرون على إنزاله. وكذلك لو شئنا لجعلناه ملحا أجاجا لا ينتفع به في الشرب والسقي، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا أن يبقى على سطح الأرض لفعلنا، ولكن لرحمتنا ولطفنا بكم أسكناه في الأرض بمثابة خزانات، لتأخذوا منه عند الحاجة، وتسقوا به زرعكم وثماركم وأنفسكم ودوابكم، وتنتفعوا به بسائر وجوه الانتفاع من غسل وتطهر وتنظيف وتبرد ونحو ذلك.
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق ذات بهجة أي ذات منظر حسن، وفيها النخيل والأعناب، وهذا أغلب فواكه العرب.
لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي لكم في الجنات فواكه متنوعة كثيرة، من جميع الثمار، عدا النخيل والأعناب، وتأكلون من ثمار الجنات وتنتفعون بها، وترزقون وتتعيشون.
وقوله: وَمِنْها تَأْكُلُونَ كأنه معطوف على شيء مقدر، تقديره:(18/26)
تنظرون إلى حسنه ونضجه، ومنه تأكلون.
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ.. أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في جبل الطور، وتأتي بالدهن وهو الزيت، وتتخذ إداما ينتفع به الآكلون بالدهن والاصطباغ.
روى الإمام أحمد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» ورواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه.
أحوال الأنعام:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي وإن لكم أيها الناس في خلق الإبل والبقرة والغنم وما فيها من المنافع لعظة تعتبرون بها ونعمة تستحق الشكر والتقدير والاستدلال على قدرة الله تعالى، بتحويل الدم المتولد من الغداء في الغدد إلى لبن طيب سائغ شرابه، كامل التغذية. وتلك المنافع كثيرة ذكر منها هنا أربعة أنواع هي:
1- نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم، وتتخذون منها السمن والجبن وغير ذلك، وتنتج لكم الحملان.
2- وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ أي وتستفيدون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، وتتخذون منها الملابس والفرش.
3- وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي وتأكلون من لحومها بعد ذبحها، فتنتفعون بها حية وبعد الذبح.
4- عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
أي وتركبون ظهورها وتحملون عليها الأحمال الثقال إلى البلاد والبقاع النائية، كما تنتفعون بالسفن، كما قال تعالى:(18/27)
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل 16/ 7] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ، وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس 36/ 71- 73] .
والامتنان بهذه النعم الجليلة بقصد الإرشاد إلى الخالق، والتعرف على قدرة الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- استنبط الإمام الرازي من الآية الأولى في خلق السموات ستة أحكام هي:
أ- أنها دالة على وجود الإله الصانع، فإن تحول الأجسام من صفة إلى صفة أخرى مغايرة للأولى يدل على أنه لا بد من محول ومغير.
ب- أنها تدل على فساد القول بالطبيعة لأن الطبيعة تقضي ببقاء الأشياء على حالها وعدم تغيرها، فإذا تغيرت تلك الصفات، دل على احتياج الطبيعة إلى خالق وموجد.
ج- تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
د- تدل على أنه تعالى عالم بكل المعلومات، قادر على كل الممكنات.
هـ- تدل على جواز الحشر والنشر لأنه لما كان تعالى قادرا عالما، وجب أن يكون قادرا على إعادة تركيب الأجزاء كما كانت.(18/28)
وأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية، وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا «1» .
2- دلت الآية الثانية في إنزال المطر على نعمة عظمي تستحق التقدير هي الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان، فالماء في نفسه نعمة، وهو أيضا سبب لحصول النعم من إنبات النبات، وسقي الإنسان والحيوان.
والمراد بماء السماء المنزل المختزن وغير المختزن: هو الماء العذب غير الأجاج المالح.
وإنزال الماء بقدر، أي على قدر مصلح موافق للحكمة والحاجة لأنه لو كثر أهلك، كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر 15/ 21] .
وقوله: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي الماء المختزن في الأرض:
تهديد ووعيد، أي في قدرة الله إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، كقوله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك 67/ 30] وغورا: أي غائرا.
وكل ما نزل من ماء السماء مختزنا أو غير مختزن هو طاهر مطهر، يغتسل به ويتوضأ منه.
3- من آثار الماء جعله سبب النبات، فهو ينبت أشرف الثمار، وهي الرطب والأعناب، وينبت غير ذلك من الفواكه، ولا فرق في الفاكهة بين الطري واليابس.
وبالماء تنبت الأشجار، ومن أبرك الأشجار ما ذكر في الآية وهو شجرة
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 88(18/29)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
الزيتون التي أنبتها الله في الأصل من جبل الطور في سيناء الذي بارك الله فيه، وطور سيناء: من أرض الشام، هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام. وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان المشهوران عند العرب كثيرا.
وزيت الزيتون يصلح للادهان به وللائتدام به، لذا كان المراد بالآية:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ تعداد نعمة الزيت على الإنسان، وبيان وجوه الانتفاع به، ففي الزيت شفاء لكثير من الأمراض الجلدية الظاهرة، والباطنية الداخلية، فيدهن به الجلد فتتقوى بصلة الشعر، ويؤكل مع الخبز إداما، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ.
4- ذكر الله تعالى للأنعام (الإبل والبقر والغنم) أربع منافع: هي الانتفاع بالألبان، والانتفاع بالأصواف للباس والأثاث والفرش، وللبيع والاستفادة من الأثمان، والانتفاع من اللحوم بالأكل بعد الذبح، كالانتفاع بها حية، والانتفاع بالركوب على الإبل في البر والحمل عليها كالانتفاع بالفلك (السفن) في البحر، وهذا دليل على أن الركوب راجع إلى بعض الأنعام.
روي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول، فأنطقها الله تعالى معه، فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث (أي العمل الزراعي) .
القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(18/30)
الإعراب:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: اسم ما، وما قبله: الخبر، ومِنْ: زائدة.
مُنْزَلًا مصدر لفعل رباعي وهو (أنزل) وتقديره: أنزلني إنزالا مباركا، ويجوز أن يكون اسم مكان. وقرئ بفتح الميم (منزلا) وهو مصدر لفعل ثلاثي وهو (نزل) ويجوز أن يكون أيضا اسم مكان.
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ: إِنَّ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنه كنا لمبتلين. وذهب الكوفيون إلى أنّ إِنَّ بمعنى (ما) واللام بمعنى (إلا) وتقديره: ما كنا مبتلين.
البلاغة:
اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا استعارة، عبر عن الحفظ والرعاية أو الحراسة بالصنع على الأعين لأن الحافظ للشيء يديم مراعاته في الأغلب بعينيه.
وَفارَ التَّنُّورُ كناية عن الشدة، مثل: حمي الوطيس. وقيل: المراد بالتنور وجه الأرض مجازا.
أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا جناس اشتقاق.(18/31)
المفردات اللغوية:
اعْبُدُوا اللَّهَ أطيعوا الله ووحدوه. تَتَّقُونَ تخافون عقوبته بعبادتكم غيره. الْمَلَأُ أشراف القوم، قالوا للعوام. يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يطلب الفضل والسيادة عليكم، بأن يكون متبوعا وأنتم أتباعه. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لوشاء أن يعبد غيره وأن يرسل رسولا لأنزل ملائكة بذلك، لا بشرا. ما سَمِعْنا بِهذا الذي دعا إليه نوح من التوحيد. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ الأمم الماضية. إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل به حالة جنون وضعف عقل.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروه واحتملوه. حَتَّى حِينٍ أي إلى زمن لعله يفيق من جنونه، أو إلى زمن موته.
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي أي قال نوح بعد يأسه من إيمانهم: ربّ انصرني عليهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي، بأن تهلكهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أمرناه إجابة لدعائه. أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ السفينة. بِأَعْيُنِنا بحفظنا ورعايتنا. وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب أو نزول العذاب والإهلاك. وَفارَ نبع. التَّنُّورُ أي مكان خبز الخباز أو وجه الأرض، وكان نبع الماء منه علامة لنوح عليه السلام. فَاسْلُكْ فِيها أي أدخل في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين: ذكر وأنثى من أنواع الحيوان الموجود وقتئذ. اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى، أي خذ معك على السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان صنفا من الذكور وصنفا من الإناث، كالجمال والنوق، مزدوجين. وقراءة حفص مِنْ كُلٍّ أي من كلّ نوع زوجين. واثْنَيْنِ: تأكيد وزيادة تأكيد.
وَأَهْلَكَ أهل بيتك، أو من آمن معك. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي إلا من قضي عليه القول من الله بهلاكه لكفره وهو زوجته وولده كنعان، بخلاف سام وحام ويافث، فأخذهم مع زوجاتهم الثلاثة. قيل: كانوا ستة رجال مع نسائهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقد عبّر بعلى في قوله: مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ لأن المقضي به ضارّ، كما عبّر باللام حيث كان المقضي به نافعا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ...
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة، لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن كان هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه. اسْتَوَيْتَ اعتدلت وعلوت. مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين، والنجاة: هي من إهلاكهم.
وَقُلْ عند نزولك من الفلك. رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أي اجعل إنزالي أو مكانه إنزالا أو مكانا مباركا، أي فيه الخير والبركة. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ثناء مطابق لدعائه، أمره به توسلا إلى الإجابة. وإنما أفرده بالأمر مع شموله من آمن معه إظهارا لفضله والاكتفاء بدعائه عن دعائهم. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من فعل نوح والسفينة، وفعل قومه وإهلاكهم. لَآياتٍ(18/32)
دلالات على قدرة الله تعالى. لَمُبْتَلِينَ مختبرين ممتحنين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه، أي معاملتهم معاملة من يختبر.
المناسبة:
الارتباط بين هذه الآيات وبين ما قبلها جار على وفق العادة في سائر الآيات، بذكر قصص الأنبياء بعد بيان أدلة التوحيد، والقصد هو بيان كفران الناس بعد تعداد النعم المتلاحقة عليهم، وما حاق بهم من زوالها.
فبعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد من خلق الإنسان، والحيوان، والنبات، وخلق السموات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا الحالات المماثلة لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة، فذكر خمس قصص: هي قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح ولوط وشعيب، وقصة موسى وهارون وفرعون، وقصة عيسى وأمه.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى موقف نوح عليه السلام مع قومه حينما أنذرهم عذاب الله، وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به، وخالف أمره، وكذب رسله، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ... تَتَّقُونَ:
أي ولقد بعثنا نوحا إلى قومه، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وقال لهم: ألا تتقون، أي ألا تخافون من الله في إشراككم به؟
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي فقال السادة والأكابر منهم: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وليس له ميزة في علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟!(18/33)
وموانع نبوته هي:
1- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي ولو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، فإن إنزال الملك أدعى للإيمان، وأدل على الصدق. وهذا ناشئ من تصورهم سموا الرسالة التي تقتضي جعلها في عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة، وأنه لا يمكن تكليف البشر بالرسالة الإلهية.
2- ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي ما سمعنا ببعثة البشر في عهد الأسلاف والأجداد في الدهور الماضية. وهذا ناشئ من اعتمادهم في العقيدة على التقليد، وإصرارهم على الكفر والعناد.
3- إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي وما نوح إلا رجل مجنون فيما يزعمه أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه، أو ييأس فيرجع إلى دينكم، أو يفيق من جنونه. وهذا مجرد مكابرة، فهم عرفوا نوحا برجحان عقله، واتزان قوله، واستقامة سيرته.
ولما يئس نوح من إجابة دعوته، وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم فقال:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي قال نوح: ربّ انصرني على هؤلاء القوم، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] ، وقوله أيضا: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] .
فأجاب الله دعاءه وأمره بصنع السفينة فقال:(18/34)
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أي فأمرناه بأن يصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا، وتعليمنا وإرشادنا كيفية الصنع.
فَإِذا جاءَ أَمْرُنا، وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي فإذا حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من وجه الأرض أو من التنور المخصص للخبز، فاحمل في السفينة فردين مزدوجين ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، أو كل من آمن معك، وهذا المعنى هو الأرجح، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه.
روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور، فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور، أخبرته امرأته، فركب.
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي ولا تسألني ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا تأخذنك رأفة في قومك، فإني قد قضيت أنهم مغرقون، بسبب ما هم عليه من الكفر والطغيان، أي أن الغرق نازل بهم لا محالة.
ثم أمره الله أن يحمده ويثني عليه بعد ركوب السفينة:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ.. أي فإذا استقر بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل أنت وهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
ثم أمره أيضا أن يدعوه بعد خروجه من السفينة دعاء مقرونا بالثناء فقال:(18/35)
وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، بحسب ما تقتضيه الحكمة.
وهذا وما قبله تعليم لذكر الله عند ابتداء السير وانتهائه، قال قتادة: علّمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود 11/ 41] ، وعند ركوب الدابة: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف 43/ 13] أي مطيقين، وعند النزول: وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين لدلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإنا لمختبرون بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويتذكر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 15] . وقيل:
أي نعاملهم معاملة المختبرين.
وتقدمت القصة بتفصيل أكثر في سورة هود عليه السلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه القصة واضحة الدلالة كغيرها من القصص القرآني على أن نزول العذاب: عذاب الاستئصال والهلاك كان بسبب العناد والإصرار على الكفر، وملازمة الشرك والوثنية.
فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم لعبادة الله وحده لا شريك له، وينذرهم بأس الله وانتقامه ممن أشرك به، وكذب رسله،(18/36)
قائلا لهم: أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عذاب الله، وتتقون عقابه؟ وهو زجر ووعيد ليقلعوا عما هم عليه.
فما كان منهم إلا إنكار نبوته معتمدين على شبهات خمس هي:
الأولى- إنكار كون النبي أو الرسول بشرا مماثلا لغيره في البشرية، ومساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى، ومتصفا بصفات تجعل له منزلة عليا ودرجة رفيعة وعزة سامية.
واتهموه بناء عليه بطلب الزعامة والرئاسة والترفع والسيادة عليهم.
الثانية- طلب أن يكون النبي ملكا، فلو شاء الله إرشاد البشر، لوجب إرسال ملك من الملائكة يحقق المقصود بنحو أفضل وأسرع وأنجع من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ينقاد الناس إليهم.
الثالثة- الخروج عن سنة الآباء والأسلاف، فهم لا يعرفون غير التقليد واتباع سلوك الآباء، فلما وجدوا في طريقة نوح عليه السلام خروجا عن المألوف، حكموا ببطلان نبوته.
الرابعة- اتهامه من قبل الرؤساء بالجنون، للترويج على العوام، بسبب فعله أفعالا على خلاف عاداتهم، ومن كان مجنونا لا يصلح أن يكون رسولا.
الخامسة- الصبر عليه وتركه لعاديات الزمان، فإنه إن كان نبيا حقا، فالله ينصره ويقوي أمره، وحينئذ يتبعونه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه.
ولم يجب الله تعالى عن هذه الشبه لسخافتها وسطحيتها، فإن جعل الرسول من جملة البشر أولى، لما بينه وبين غيره من الألفة والمؤانسة وإن قصد الزعامة(18/37)
والسيادة يتنافى مع سمو الأنبياء، فهم منزهون عن هذه المقاصد الدنيوية الزائلة وأما التقليد فهو دليل القصور العقلي، وتعطيل موهبة الفكر والرأي الحر وأما اتهامه بالجنون فيناقضه أنهم كانوا يعلمون بداهة كمال عقله ورجاحة رأيه وأما التربص به إلى حين ففي غير صالحهم لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته بالمعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، وإن لم يأت بمعجزة فلا يقبل قوله.
ولما تهاوت حججهم، وأصروا على كفرهم، أمر الله نوحا بالدعاء عليهم والانتقام ممن لم يطعه، ولم يسمع رسالته، وأرسل له رسولا يوحي إليه بصناعة السفينة، فإذا تم صنعها فليأخذ من كل الأصناف زوجين: ذكرا وأنثى، حفاظا على أصول المخلوقات.
ثم أمره الله أولا بأن يحمد الله هو ومن معه على النجاة وتخليصه من القوم الظالمين ومما أحاط بهم من الغرق، والحمد الله: كلمة كل شاكر لله.
وثانيا بأن ينزله مع المؤمنين إنزالا مباركا أو موضعا طيبا مباركا، يهيئ الله به خير الدارين.
وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا: أن يقولوا هذا:
رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً.. وكذلك إذا دخلوا بيوتهم وسلّموا على أهليهم، أو على الملائكة إذا لم يوجد الأهل.
والخلاصة وعبرة القصة: أن في أمر نوح والسفينة وإهلاك الكافرين لدلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه، ويهلك أعداءهم، وأنه تعالى يختبر الأمم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي.(18/38)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
القصة الثانية- قصة هود عليه السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
الإعراب:
ما هذا إِلَّا بَشَرٌ ما: خبرية.
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أَنَّكُمْ: إما بدل من الأولى، والتقدير: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما، وإما تأكيد للأولى، وإما في موضع رفع بالظرف، وهو إِذا على قول الأخفش، وعامل إِذا مقدر، تقديره: أيعدكم وقت موتكم وكنتم ترابا إخراجكم، فيكون الظرف وما رفع به خبر (أن) . ومُخْرَجُونَ: خبر أنكم الأولى.
هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم لبعد، وهو فعل ماض، فكان مبنيا، وفاعله مقدر، تقديره:
هيهات إخراجكم، هيهات إخراجكم.
عَمَّا قَلِيلٍ أي عن قليل، وما: زائدة، وعن: تتعلق بفعل مقدر يفسره قوله:
لَيُصْبِحُنَّ.(18/39)
البلاغة:
نَمُوتُ وَنَحْيا بينهما طباق.
فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً تشبيه بليغ، أي كالغثاء في سرعة زواله، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه.
الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ، وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أسلوب إطناب للذم وبيان أنواع القبائح.
تَتَّقُونَ، تَشْرَبُونَ، لَخاسِرُونَ، مُخْرَجُونَ، تُوعَدُونَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ قَرْناً: قوما أو أمة أو جماعة مجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لتقدمهم على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان. والمراد بهم قوم هود، لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف 7/ 69] . فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي بأن اعبدوا الله، أو قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله. أَفَلا تَتَّقُونَ عقابه فتؤمنوا.
وَقالَ الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم. وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بالمصير إليها، أو لقاء ما فيها من الثواب والعقاب. وَأَتْرَفْناهُمْ نعمناهم، أي وسّعنا عليهم وجعلناهم في ترف ونعيم.
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد. ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة والحال. يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم، أي والله لئن أطعتم، فيه قسم وشرط، وجواب أولهما، وهو مغن عن جواب الثاني هو: إِنَّكُمْ إِذاً أي إذا أطعتموه لَخاسِرُونَ مغبونون في آرائكم، حيث أذللتم أنفسكم لأمثالكم.
وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي مجردة عن اللحوم والأعصاب. أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود، وأنكم هذه تأكيد الأولى لما طال الفصل. هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي بعد بعد التصديق أو الصحة. لِما تُوعَدُونَ من الإخراج من القبور والبعث والحساب، واللام زائدة للبيان.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. وَنَحْيا بحياة آبائنا، يموت(18/40)
بعضنا ويولد بعض. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. إِنْ هُوَ أي ما الرسول. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من الرسالة. بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين بالبعث بعد الموت.
رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم. بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياي. عَمَّا قَلِيلٍ أي بعد زمان قليل. لَيُصْبِحُنَّ ليصيرن. نادِمِينَ على كفرهم وتكذيبهم.
الصَّيْحَةُ: الصوت الشديد، وهي صيحة العذاب والهلاك، وهي صيحة جبريل، صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا. بِالْحَقِّ بالوجه الثابت الذي لا دافع له. غُثاءً شبههم في دمارهم بغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والعيدان اليابسة، وأصل الغثاء: نبت يبس، أي صيرناهم مثله في اليبس. فَبُعْداً من الرحمة وهلاكا. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ المكذبين.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية في هذه السورة، وهي قصة هود عليه السلام، في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين لقوله تعالى في سورة الأعراف حكاية لقول هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء.
وقال بعضهم: المراد بهم صالح وثمود لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، والعقاب المذكور هنا هو الصيحة، فالقصة هي قصة صالح عليه السلام.
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ... تَتَّقُونَ أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح الهلكى قوما آخرين، هم عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل: المراد ثمود، لقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ. فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشرا مثلهم، فقال لهم: أفلا تتقون وتخافون عقاب الله بعبادتكم غيره من وثن أو صنم، فإن العبادة لا تنبغي إلا له، ولا يستحقها غيره؟!(18/41)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ... تَشْرَبُونَ أي قال أشراف قومه المتصفون بصفات ثلاث هي شر الصفات:
أولها- الكفر بالخالق وجحود وحدانية.
ثانيها- الكفر بيوم القيامة والتكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والمعاد الجثماني.
ثالثها- الانغماس في الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، حتى بطروا وجحدوا النعمة، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدعي الفضل عليكم، ويزعم الرسالة من الله إليكم؟
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي وأقسموا لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم، واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
وبشرية الرسول هي الشبهة الأولى لإنكار هؤلاء القوم. ثم ذكروا شبهة ثانية وهي الطعن في صحة الحشر والنشر، والطعن في نبوته القائمة على إثبات ذلك، فقالوا:
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أي أيعدكم أنكم تخرجون وتبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟! ثم قرنوا بالإنكار استبعادهم الشديد وقوع ما يدعيه بقولهم:
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم من حدوث البعث الجثماني وعودة الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء. ثم أكدوا إنكار البعث بقولهم:(18/42)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي ما الحياة إلا واحدة وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر ولا بعث. وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود، فقالوا:
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أي ما هود الذي يدعي النبوة ويثبت البعث إلا مجرد رجل اختلق الكذب على الله، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار والإخبار بالمعاد، وما نحن له بمصدقين فيما يدّعي ويزعم.
ولم يجب الله تعالى عما أوردوه من الشبهتين المتقدمتين، أما كون الرسول بشرا فهو أدعى وألزم للمؤانسة، وتيسر الأخذ عنه، ومناقشته، وتكوين القناعة من أمثالهم عقلا وفكرا ومحاكمة، فليست القضية مجرد إلزام بالقول. وأما استبعاد الحشر فلضعف عقولهم، وقصور ميزانهم لأن العاقل يدرك أنه سبحانه لما كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر، ولأن الإعادة أمر ضروري لإقامة صرح العدالة بين الناس، فلولا الإعادة لكان تسليط القوي على الضعيف في الدنيا ظلما، ولا رادع له، ولا عقاب عليه، وهو غير لائق بالحكيم، لذا قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه 20/ 15] .
ولما يئس هود من إيمان قومه بقولهم: وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ فزع إلى ربه:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي رب انصرني على قومي نصرا مؤزرا بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك وتوحيدك وإثبات لقائك.
فأجاب الله دعاءه:(18/43)
قالَ: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرن قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وذلك حين ظهور علامات الهلاك لهم، فيحصل منهم الحسرة والندامة على ترك قبول دعوتك لهم إلى الإيمان بالله والتوحيد، وعلى مخالفتك وتكذيبك ومعاندتهم إياك.
ثم كان الجزاء والعذاب، فقال تعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي أهلكوا وماتوا بصيحة جبريل الرهيبة بهم، وهي صوت شديد مرعب أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه، قال ابن كثير: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.
فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وطغيانهم وعصيان رسولهم، كقوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف 43/ 76] .
وفي هذا غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم من تكذيب رسولهم بأن يصيبهم من العذاب مثل ما أصابهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
العبرة واضحة من هذه القصة، فهي إنذار مخالفي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وبيان عاقبة الكافرين الظالمين الذين ينكرون وحدانية الله، ولا يصدقون بيوم القيامة، ويعاندون رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وواضح من الآيات أن هودا عليه السلام أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له إذ لا يستحق العبادة سواه، وحذرهم من الكفر، وخوفهم من عقاب الله وعذابه.(18/44)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
أما القوم فكانوا أغبياء إذ صدقوا رؤساءهم وزعماءهم الذين كفروا بربهم وكذبوا بالبعث ولقاء الله، وانغمسوا في نعم الحياة المادية التي أنعم الله بها عليهم، وصدوهم عن الإيمان، معتمدين على شبهتين:
الأولى- بشرية الرسل وعدم تميزهم عن سائر البشر بميزة تقتضي اتباعهم.
الثانية- إنكار البعث والحشر والنشر والحساب والجزاء.
ورتبوا على ذلك إنكار نبوة هود عليه السلام، وبالغوا في إنكار البعث، وأعلنوا كبقية الماديين الملحدين أن الحياة في الدنيا هي الحياة الوحيدة، أو لا حياة إلا هذه الحياة، وأن البشر سلسلة يموت بعضهم، ويحيا بعضهم، وأن رسولهم هود رجل مفتر كذاب فيما يدعيه من الرسالة وما يزعمه من البعث والجزاء.
وكانت النتيجة الحتمية المطابقة للعدل هي هلاك القوم وتدميرهم بصيحة جبريل عليه السلام مع الريح الصرصر العاتية، صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها، فماتوا عن آخرهم، وجعلوا هلكى هامدين كغثاء السيل: وهو ما يحمله من بالي الشجر من الأعشاب والقصب مما يبس وتفتّت، فبعدا أي هلاكا لهم، وبعدا لهم عن رحمة الله، بظلمهم وكفرهم وعنادهم وطغيانهم.
القصة الثالثة- قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)(18/45)
الإعراب:
وَما يَسْتَأْخِرُونَ لم يقل: تستأخر، مثل: تسبق، وإنما ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى.
تَتْرا في موضع نصب على الحال من (الرسل) أي أرسلنا رسلنا متواترين.
وتَتْرا أصلها وترى من المواترة، فأبدل من الواو تاء، كتراث وتهمة وتخمة، ويقرأ بتنوين وغير تنوين، فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر، وألف الإلحاق قليلة في المصادر، فجعلها بعضهم بدلا عن التنوين. ومن لم ينون، جعل ألفها للتأنيث كالدّعوى والعدوى، وهو ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه.
المفردات اللغوية:
قُرُوناً قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بأن تموت قبله.
وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه.
تَتْرا متواترين، واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة، أي جعلناهم متتابعين، بين كل اثنين زمان طويل. أَرْسَلْنا رَسُولُها هذا مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ [المائدة 5/ 32] وقوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [الأعراف 7/ 101] فمرة يضيف الرسل إليه تعالى، ومرة إلى أممهم لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول ملابس المرسل، والمرسل إليهم جميعا، وأضاف الرسول عند الإرسال إلى المرسل في قوله: أَرْسَلْنا وعند المجيء إلى المرسل إليهم في قوله: رَسُولُها لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى، والمجيء الذي هو منتهاه إلى القوم.
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك. وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لم يبق منهم إلا حكايات يسمر بها، أي جعلناهم أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. والأحاديث: اسم جمع للحديث في رأي الزمخشري، أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا وتعجبا، كالأضحوكة والألعوبة والأعجوبة، وهو المراد هنا. والجمهور على أن الأحاديث في غير هذا الموضع جمع حديث، ومنه أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، وهي مجموع قصص ذات هدف واحد، والله تعالى يقص القصص في القرآن تارة مفصلة، كالقصتين السابقتين،(18/46)
وأخرى مجملة كما هنا، والمراد بهذه القصص قصة لوط وصالح وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام.
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ أي ثم أوجدنا من بعد هلاك قوم عاد أمما وخلائق وأقواما آخرين، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا.
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها، وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي ما تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا، ولا يتأخرون عنه. والمعنى أن وقت الهلاك محدد لا يتقدم ولا يتأخر، فلا تتعجلوا العذاب، فكل شيء عنده تعالى بمقدار، وهذا مرتبط بأجل الإنسان، كما قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] .
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أي ثم بعثنا رسلا آخرين في كل أمة، يتبع بعضهم بعضا، كقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 16/ 36] .
كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ أي كلما جاء الرسول أمة بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذبه جمهورهم وأكثرهم، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، كقوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس 36/ 30] .
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك، والمعنى: أتبعنا بعضهم بالهلاك إثر(18/47)
بعض، حين كذبوا رسلهم، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء 17/ 17] .
وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي وجعلناهم أخبارا وأحاديث للناس، جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به، يتحدثون بها تلهيا وتعجبا، كقوله تعالى:
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ 34/ 19] .
فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله لقوم لا يصدقون به ولا برسوله. وهذا وارد على سبيل الدعاء، والذم، والتوبيخ، والوعيد الشديد لكل كافر. وهو دليل على أنهم كما أهلكوا عاجلا، فهلاكهم بالتعذيب آجلا على التأبيد مترقب.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات واضحة الدلالة على المقصود منها، وهي أن أجل الهلاك والعذاب محدد بميقات معين، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. وأن رحمة الله وحكمته وعدله اقتضت إرسال الرسل في كل الأمم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء 4/ 165] .
ولكن أكثر الناس وجمهورهم يكذبون الرسل ويخالفونهم فيما جاؤوا به، فتكون النتيجة إهلاك بعضهم إثر بعض، وجعلهم أحدوثة (وهي ما يتحدث به) يقص الناس أخبارهم في مجالس السمر، لأنها مدعاة للتعجب.
ثم ختمت الآيات بالإنذار والوعيد الشديد بالهلاك والدمار لكل قوم لا يصدقون بوجود الله وتوحيده وإرسال رسله، فإن الكافرين كما أهلكوا في الدنيا، يكون هلاكهم بالتعذيب في الآخرة أمرا منتظرا مؤكدا حصوله.(18/48)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
القصة الرابعة- قصة موسى وهارون عليهما السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
البلاغة:
عالِينَ، الْمُهْلَكِينَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا بالآيات التسع كاليد والعصا، وهي المذكورة في سورة الأعراف وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة بينة واضحة ملزمة للخصم، والمراد بالسلطان المبين: إما الآيات أنفسها، أي هي آيات وحجة بينة، وإما العصا لأنها كانت أمّ الآيات وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر، بضربها بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا، ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعض الآيات، لخصائصها ومزاياها وفضلها، فلذلك عطف عليها، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة 2/ 98] عطفا على الملائكة، مع أنهما منهم.
ومثل وغير: يوصف بهما الاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء 4/ 140] وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 12] . ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف 7/ 194] .
فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بالله وبالآيات، والمتابعة عالِينَ متكبرين قاهرين بني إسرائيل بالظلم أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ «1» مِثْلِنا ثنّى البشر لأنه يطلق للواحد، كقوله تعالى:
__________
(1) لفظ البشر يطلق على الواحد والجمع، كما قال تعالى في إطلاقه على الواحد: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم 19/ 17] أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون 23/ 47] . ومثال إطلاقه على الجمع قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم 19/ 26] وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر 74/ 31](18/49)
بَشَراً سَوِيًّا
[مريم 19/ 17] كما يطلق للجمع، كقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم 19/ 26] ولم يثنّ المثل لأنه في حكم المصدر، فيوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.
وَقَوْمُهُما يعني بني إسرائيل عابِدُونَ خادمون مطيعون، خاضعون منقادون مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في البحر الأحمر الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لعل بني إسرائيل يهتدون إلى المعارف والأحكام. ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم.
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة، ويلاحظ فيها وحدة الموضوع والهدف وشبهة إنكار النبوة، فموضوعها: وصف حال المتكبرين السادة الأشراف الملأ من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف، وفرعون وملئه، وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالحق وبالبينات والمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم. والهدف: هو العبرة والعظة حتى لا يستبد الكفار بآرائهم، ويمعنوا في العناد والكفر، فيستحقوا مثل عقاب من تقدمهم.
وأما شبهة إنكار النبوة من المنكرين في هذه القصص فهي واحدة وهي وحدة البشرية أو قياس حال الأنبياء على أحوالهم، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة، وهي شبهة زائفة باطلة لأن النفوس البشرية، وإن اشتركت في أصل القوى والإدراك، فإنها متباينة فيهما، فالناس يتفاوتون في طاقات المواهب والأفكار والمدارك، وفي الاستعدادات الفطرية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف 18/ 110] .
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ.. قَوْماً عالِينَ أي ثم أرسلنا بعد الرسل(18/50)
المتقدمين موسى وأخاه هارون إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من الأقباط بالآيات والحجج الدامغة والبراهين القاطعة، ولكن هؤلاء القوم استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين، كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، وكانوا قوما متكبرين، كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات 79/ 17- 19] وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص 28/ 4] .
والآيات كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الآيات التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنون، ونقص الثمرات.
ودلت الآية على أن النبوة كانت مشتركة بين موسى وهارون، وكذلك كانت المعجزات واحدة، فمعجزات موسى عليه السلام هي معجزات هارون عليه السلام.
وكانت صفة فرعون وقومه أمرين: أحدهما- الاستكبار والأنفة، والثاني- أنهم كانوا قوما عالين، أي رفيعي الحال في أمور الدنيا أو في الكثرة والقوة، أي على جانب من الحضارة والعلم، والعز والسلطان، بدليل الواقع التاريخي.
وكانت شبهتهم هي قولهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا، وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ أي قال فرعون وملؤه (أشراف قومه) : كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا وعبيدنا المنقادون لأوامرنا؟! أي أن الرسالة تتنافى مع البشرية، وأن قوم موسى وهارون أتباع أذلة لفرعون وقومه، وهكذا شأن الماديين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله على الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والمال.(18/51)
وهذا المعنى ذاته شبيه بما قالته قريش: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] . ولم يتنبهوا إلى أن معيار الاصطفاء للنبوة أو الرسالة إنما هو السمو في الفضائل والصفات التي ينعم الله بها عليهم ويؤهلهم لتلقي الوحي وتبليغه إلى البشر. وكان مآل غطرسة فرعون وقومه أمرين: التكذيب بنبوة موسى، وإنزال التوراة على موسى، أما الأول فهو قوله تعالى:
فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ أي كذب فرعون وقومه موسى وهارون، فأهلكهم الله بالغرق في يوم واحد أجمعين في بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم بتكذيبهم رسلهم.
وأما الثاني فهو قوله سبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لقد أنزلنا على موسى التوراة المشتملة على الأحكام والأوامر والنواهي، بعد إغراق فرعون وقومه، رجاء أن يهتدي بها بنو إسرائيل إلى الحق، بامتثال ما فيها من المعارف والأحكام، وذلك كقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص 28/ 43] .
قال ابن كثير: وبعد أن أنزل الله التوراة، لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
في قصة موسى وهارون مع فرعون عبرة بالغة وعظة مؤثرة، فلقد بعث الله
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 245 [.....](18/52)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
تعالى موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه، مؤيدين بالمعجزات والأدلة الواضحة القاطعة الدالة على صدقهما، فدعواه وملأه إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده، فاستكبروا وتعالوا عن اتباعهما والانقياد لدعوتهما، لكونهما بشرين.
فكان حصاد التكذيب أمرين: إهلاك فرعون وقومه بالغرق في يوم واحد أجمعين في البحر الأحمر، وإنزال التوراة على موسى في الطور، فيها هدى ونور، وتشريع وأحكام، وخص موسى بالذكر هنا لأن هارون كان خليفة في قومه، وإيتاء التوراة كان لكليهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الأنبياء 21/ 48] .
القصة الخامسة- قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام
[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
البلاغة:
مَعِينٍ مع فواصل الآيات السابقة، عالِينَ، الْمُهْلَكِينَ سجع مستحسن.
المفردات اللغوية:
ابْنَ مَرْيَمَ عيسى عليه السلام آيَةً حجة وبرهانا على قدرة الله تعالى، ولم يقل:
آيتين لأن الآية فيهما واحدة، وهي ولادتها إياه من غير مسيس رجل وَآوَيْناهُما جعلنا مأواهما ومنزلهما إِلى رَبْوَةٍ هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أرض بيت المقدس أو فلسطين أو الرملة، أو دمشق، فإن قراها على الرّبى ذاتِ قَرارٍ أي ذات استقرار فيها، يستقر عليها ساكنوها لأجل ما فيها من الثمار والزروع وَمَعِينٍ ماء جار ظاهر للناس.(18/53)
المناسبة:
سبق إيراد قصة عيسى وأمه مفصلة في سورتي آل عمران ومريم، ووردت هنا بإيجاز يقتضيه المقام، وهو الاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى، وانتهى بذلك عصر المعجزات لانتهاء النبوة.
التفسير والبيان:
وجعلنا عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرتنا إذ خلقناه من غير أب.
وقد جعلهما الله تعالى آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير رجل، لاشتراكهما في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة. وهو دليل على القدرة الإلهية القادرة على كل شيء، كقوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 91] .
وجعلنا مأواهما في مكان مرتفع من الأرض، صالح لاستقرار السكان، ذي ثمار وزروع وخصب، وماء جار ظاهر للعيون لا ينضب، وهو- كما قال قتادة- بيت المقدس، وهو الظاهر، وقيل: هو الرملة من فلسطين، كما روي عن أبي هريرة، وقال مقاتل والضحاك: هي غوطة دمشق إذ هي ذات الثمار والمياه.
قال ابن كثير: وأقرب الأقوال في ذلك: ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: المعين: الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى عنه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم 19/ 24] وكذا قال قتادة والضحاك: إلى ربوة ذات قرار ومعين: هو بيت المقدس، فهذا- والله أعلم- هو الأظهر لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وهذا أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار «1»
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 246(18/54)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
فقه الحياة أو الأحكام:
إن خلق عيسى عليه السلام من غير أب هو معجزة، وآية دالة على عظمة القدرة الإلهية.
وهو إعداد له ليكون نبيا، وقد ظهرت علائم نبوته بالنطق وهو في المهد طفل رضيع.
ومقتضى الإعداد للنبوة أن يكفله الله ويحميه، وينعم عليه بالنعم التي تعينه على تحمل أعباء النبوة، ومن تلك النعم الوفيرة: الإيواء في مكان صحي، ومنزل مريح، محاط بالخيرات من كل جوانبه، يفيض بالثمار والزروع والمياه الغزيرة المتدفقة، لتوفير سبل الحياة الكريمة.
وسبب الإيواء أن مريم أم عيسى فرت بابنها عيسى إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة. وقد ذهب بهما ابن عمها يوسف النجار، ثم رجعت إلى أهلها، بعد أن مات ملكهم.
مبادئ التشريع في الحياة
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)(18/55)
الإعراب:
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً: إِنَّ بالكسر على الابتداء والاستئناف. وتقرأ بالفتح على النصب أو الجر، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر، أي وبأن هذه، أو بفعل مقدر تقديره:
واعلموا أن هذه أمتكم. والجر: بالعطف على (ما) في قوله: بِما تَعْمَلُونَ. وأُمَّةً:
منصوب على الحال، أي هذه أمتكم مجتمعة، ويقرأ بالرفع: إما بدل من أُمَّتُكُمْ التي هي خبر إِنَّ، وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي أمة واحدة.
زُبُراً حال من فاعل فَتَقَطَّعُوا.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما أَنَّما: بمعنى الذي في موضع نصب لأنها اسم (أن) وخبرها نُسارِعُ لَهُمْ به، فحذف (به) وهو حذف وقع في الصلة وفي الخبر.
البلاغة:
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ استعارة، شبه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإنسان برمته.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ استفهام إنكاري.
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ حذف (به) أي نسارع لهم به في الخيرات، وحذف لطول الكلام.
فَاتَّقُونِ فَرِحُونَ حِينٍ بَنِينَ سجع مقبول لا تكلف فيه.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نداء وخطاب لجميع الأنبياء، ولكن ليس دفعة واحدة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على معنى أن كلّا منهم خوطب به في زمانه، فيشمل الخطاب عيسى عليه السلام، للتنبيه على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وإنما إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم، وللاحتجاج على الرهبانية في رفض الطيبات. الطَّيِّباتِ ما يستطاب ويستلذ من المباحات في المآكل والفواكه. وَاعْمَلُوا صالِحاً من فرض ونفل. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فأجازيكم عليه.
وَإِنَّ هذِهِ ملة الإسلام. أُمَّتُكُمْ ملتكم ودينكم وشريعتكم أيها المخاطبون، يجب ان تكونوا عليها. فَاتَّقُونِ فاحذرون. فَتَقَطَّعُوا أي الأتباع أي قطعوا ومزقوا. أَمْرَهُمْ دينهم. زُبُراً قطعا وأحزابا متخالفين، كاليهود والنصارى وغيرهم، جمع زبور. حِزْبٍ جماعة وأمة. بِما لَدَيْهِمْ عندهم من الدين. فَرِحُونَ مسرورون، معجبون، معتقدون أنهم(18/56)
على الحق. فَذَرْهُمْ اترك كفار مكة، ودعهم. فِي غَمْرَتِهِمْ في ضلالتهم وجهالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها. حَتَّى حِينٍ إلى حين موتهم أو قتلهم. أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أن ما نعطيهم ونجعله مددا لهم. مِنْ مالٍ وَبَنِينَ في الدنيا.
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ نعجل لهم به، وهو خبر أن، والراجع ضمير محذوف، والمعنى:
أيحسبون أن الذي نمدهم به نسارع لهم به فيما فيه خيرهم وإكرامهم. بَلْ لا يَشْعُرُونَ أن ذلك استدراج لهم، وإنما هم كالبهائم، لا فطنة عندهم ولا شعور ليتأملوا، فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج، لا مسارعة في الخير.
المناسبة:
بعد بيان قصص بعض الأنبياء المتقدمين، أوصى الله تعالى بجملة من المبادئ في الحياة هي الأكل من الحلال، والعمل بصالح الأعمال، وإدراك أن الملة واحدة وأن الدين الحق واحد، ولكن الأمم فرقت دينها شيعا، وهم في حيرة وعمى يظنون أن إفاضة النعم عليهم، لرضا الله عليهم، ولكنها في الحقيقة استدراج، لا مسارعة في الخيرات.
التفسير والبيان:
1- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا أمر من الله تعالى عباده المرسلين عليهم السلام بالأكل من الحلال، والقيام بصالح الأعمال، شكرا للنعمة. وهذا دليل على أن الحلال عون على العمل الصالح وسابق عليه، ثم ذكر تعالى علة هذا الأمر، فقال: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي إني مطلع على جميع أعمالكم، لا يخفى علي شيء منها، وأنا مجازيكم عليها.
ومن أمثلة الحلال أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وأن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده، كما ثبت في الصحيح، فيعمل الدروع المسردة (أي ذات الحلق من الحديد) بيده معجزة له وأمرا خارقا للعادة،
وفي(18/57)
صحيح مسلم: «وما من نبي إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال:
نعم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» .
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ، وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة 2/ 172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء، يا ربّ، يا ربّ، فأنى يستجاب له» .
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله عنها أنها بعثت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بقدح لبن حين فطره، وهو صائم، فرد إليها رسولها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم ردّه وقال: ومن أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها بمالي، فأخذه، فلما كان من الغد جاءته وقالت: يا رسول الله، لم رددته؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «أمرت الرّسل ألا يأكلوا إلا طيبا، ولا يعملوا إلا صالحا» .
2- وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أي وإن دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا يدل على أن الأديان متحدة في أصولها المتعلقة بتوحيد الله ومعرفته. أما اختلاف الفروع من شرائع وأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، فلا بأس به ولا يسمى اختلافا في الدين.
ومرجع أعمال الأنبياء جميعا إلى الله تعالى، فأنا ربكم المتفرد بالربوبية، فاحذروا عقابي، ولا تخالفوا أمري، أي والحال أني أنا ربكم.(18/58)
3- فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي إن أتباع الأنبياء فرقوا أمر دينهم وقطعوه ومزقوه، وجعلوه قطعا، وصاروا فرقا وأحزابا وجماعات، كل حزب يفرحون بما هم فيه من الضلال، ويعجبون بما هم عليه، معتقدين أنه الحق الصراح، ويحسبون أنهم مهتدون.
وهذا ذم واضح للتفرق والتشتت، وتوبيخ ووعيد، لذا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا:
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أي دعهم واتركهم في جهالتهم وضلالهم إلى حين موتهم أو قتلهم ورؤيتهم مقدمات العذاب وبوادره، كما قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق 86/ 17] ، وقال سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر 15/ 3] .
4- أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، لكرامتهم علينا، ومعزتهم عندنا؟ كلا، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم:
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ 34/ 35] .
لقد أخطئوا في ذلك، وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء لهم، لهذا قال تعالى: بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يحسون أنما نفعل ذلك بهم استدراجا وأخذا بأيديهم إلى العذاب إذا لم يتوبوا، كما قال تعالى:
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 9/ 55] ، وقال سبحانه: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 3/ 178] ، وقال عزّ وجلّ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم 68/ 44- 45] .
قال قتادة في قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ.. الآية: مكر والله(18/59)
بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدّين فقد أحبّه، والذي نفس محمد بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟
قال: غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به، فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن الأنبياء كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة، فكذلك هم متفقون على التوحيد، وعلى اتقاء معصية الله تعالى.
والدين الذي لا خلاف فيه: معرفة ذات الله تعالى وصفاته، أي إثبات وجود الله وتوحيده، أما الاختلاف في الشرائع والأحكام العملية الفرعية، فلا يسمى اختلافا في الدين.
2- سوّى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وإذا كان هذا مع الأنبياء، فما ظنّ كل الناس بأنفسهم؟!(18/60)
3- الطيبات هي الحلالات، وإن لأكل الحلال أثرا ملموسا في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، ففي الدنيا يبارك الله تعالى لمن أكل الحلال في جسده وصحته ورزقه وأولاده وأمواله. وفي الآخرة يمتعه الله بالجنان. أما آكل الحرام أو السحت فإنما يأكل ما يؤدي به إلى نار جهنم.
4- اتفقت الرسل جميعا على الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد، وكان أصل الدين واحدا بالدعوة إلى التوحيد وفضائل الأعمال، وما نشاهد من اختلاف وخصام بين أتباع الأديان، فإنما هو من اختلاف الأمم والجماعات فيما بينهم بحسب أهوائهم وعقولهم، وهو خروج عن أصل وحدة الدين الحق.
فمن تمسك بالحق المتمثل بالقرآن، ولم يصر على ما توارثه من عقائد محرفة ومشوهة، وسار على نهج خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم، كان من الفائزين الناجين.
5- إن الافتراق المحذر منه في الآية إنما هو في أصول الدين وقواعده، لا في الفروع والجزئيات العملية، فذلك لا يوجب النار لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] ، ويؤيد الآية
حديث خرّجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» .
6- إن الكرامة والمكانة للعبد عند الله ليست بالمال والولد، ولكن بالتقوى والعمل الصالح.
7- لقد أخطأ أصحاب الأموال والثروات في الجاهلية وغيرها حينما ظنوا أن الإمداد بالمال والولد دليل على رضا الله تعالى، وإنما هو على العكس استدراج (أخذ قليلا قليلا) إلى مهاوي النار،
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد(18/61)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج» .
لهذا شبّه الله تعالى حالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء، فقال: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي فذر هؤلاء الجاهلين يتيهون في جهالتهم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء وقت معلوم.
والخلاصة: أن هذا الإمداد للكفار ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات إكراما لهم، وتعجيلا للثواب قبل وقته.
صفات المسارعين في الخيرات
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ.. خبر إِنَّ في قوله تعالى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وأُولئِكَ: مبتدأ، ويُسارِعُونَ: جملة فعلية: خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره: في موضع رفع لأنه خبر إِنَّ.
البلاغة:
يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ بينهما طباق.(18/62)
وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ استعارة، شبه الكتاب بمن له لسان ينطق، مبالغة في وصفه بإظهار البيان وإعلان الأحكام.
يُؤْتُونَ ما آتَوْا جناس اشتقاق.
مُشْفِقُونَ يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ سابِقُونَ سجع محكم.
المفردات اللغوية:
خَشْيَةِ رَبِّهِمْ خوف من عقابه أو عذابه. مُشْفِقُونَ حذرون، والإشفاق: نهاية الخوف، وليس هذا هو المراد، وإنما المراد لازمه وأثره وهو دوام الطاعة.
بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة، أي الآيات الكونية في الأنفس والسموات والأرض، والآيات المنزلة وهي القرآن. يُؤْمِنُونَ يصدقون. لا يُشْرِكُونَ شركا جليا ولا خفيا.
يُؤْتُونَ يعطون. ما آتَوْا ما أعطوا من الصدقات والأعمال الصالحة. وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة ألا تقبل منهم. أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي بأنهم راجعون إلى الله لأن مرجعهم إليه.
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها. وَهُمْ لَها سابِقُونَ فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها. وُسْعَها ما يسع الإنسان فعله دون مشقة ولا حرج. كِتابٌ هو صحيفة الأعمال. بِالْحَقِّ بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع.
المناسبة:
بعد أن ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم بقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أردف بعده صفات من يسارع حقيقة في الخيرات، وهي أربع صفات: خشية الله، والإيمان بآيات ربهم، ونفي الشريك لله تعالى، ويؤدون حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة، وحقوق الآدميين كالودائع والديون، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم.(18/63)
التفسير والبيان:
هذه صفات المسارعين في الخيرات:
1- إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائمون في طاعته، فالمراد من الإشفاق أثره وهو الدوام في الطاعة. أو أن المراد خائفون من الله، ويكون الجمع بين الخشية والإشفاق للتأكيد.
2- وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي والذين هم بآيات الله الكونية والقرآنية المنزلة يصدقون تصديقا تاما لا شك فيه. والآيات الكونية: هي آيات الله المخلوقة الدالة على وجوده بالنظر والفكر، كإبداع السموات والأرض وخلق النفس الإنسانية. والآيات المنزلة في القرآن، مثل الإخبار عن مريم:
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم 66/ 12] ، أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه، ومثل ما شرعه الله، فهو إن كان أمرا فهو مما يحبه ويرضاه، وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرا فهو حق.
3- وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه لا نظير له ولا كفؤ له.
ويلاحظ أن الصفة الثانية: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هي الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى، وهو توحيد الربوبية، والصفة الثالثة هي توحيد الألوهية والعبادة ونفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصا في العبادة، بأن تكون لوجه الله تعالى وطلب رضوانه.
ولم يقتصر على الصفة الثانية لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد(18/64)
الربوبية، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] ، ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، فعبدوا الأصنام والأوثان ومعبودات أخرى.
4- وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي والذين يعطون العطاء، وهم وجلون خائفون ألا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط روى الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عزّ وجلّ؟ قال: «لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصدّيق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عزّ وجلّ» .
وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي لأنهم أو من أجل أنهم.
والإيتاء لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه، سواء كان ذلك من حقوق الله تعالى، كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين، كالودائع والديون والعدل بين الناس لأن من يؤدي الواجب من عبادة أو غيرها، وهو وجل من التقصير والإخلال بنقصان أو غيره، فإنه يكون مجتهدا في أن يوفّيها حقها في الأداء.
وترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والصفة الثانية دلت على أصل الإيمان والتعمق فيه، والصفة الثالثة دلت على ترك الرياء في الطاعات، والصفة الرابعة دلت على الإتيان بالطاعات مع الخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين.(18/65)
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي أولئك الذين يبادرون في الطاعات لئلا تفوتهم، ويتعجلون في الدنيا وجوه النفع والإكرام كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران 3/ 148] ، وقال: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت 29/ 27] ، وهم لأجل الطاعات سابقون الناس إلى الثواب، وينالون الثمرة في الدنيا قبل الآخرة، لا أولئك الكفار الذين أمددناهم بالمال والبنين، فظنوا خطأ أن ذلك إكرام لهم.
والخلاصة: أن السعادة ليست هي سعادة الدنيا، وإنما سعادة الآخرة بالعمل الطيب، وإيتاء الصدقات، مع الخوف والخشية.
وبعد بيان كيفية أعمال المؤمنين المخلصين، ذكر الله تعالى حكمين من أحكام أعمال العباد:
الأول- وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي إن منهاج شرعنا ألا نكلف نفسا إلا قدر طاقتها، وهذا إخبار عن عدله في شرعه، ورحمته بالعباد، وهو أيضا يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس.
والثاني- وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي ولدينا كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال، وقيل: اللوح المحفوظ، يبين بدقة وصدق لا يخالف الواقع أعمال الناس في الدنيا، كما قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية 45/ 29] ، وقال سبحانه: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف 18/ 49] ، فالأظهر أن المراد بالكتاب كتاب إحصاء الأعمال.
ثم بيّن الله تعالى فضله على عباده في الحساب بعد بيان يسر التكليف فقال:
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي وهم لا يبخسون في الجزاء من الخير شيئا، بل يثابون على(18/66)
ما قدموا من الأعمال القليلة والكثيرة، ولا يزاد في عقابهم، فهم لا يظلمون بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، بل يعفو الله عن كثير من السيئات.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- إن ميزان قبول الأعمال يعتمد على الصفات الأربع، وهي: الخوف من عذاب الله، والإيمان بآيات الله، وإخلاص العبادة لله ونفي الشرك الخفي، وأداء الواجبات مع الاجتهاد في إيفائها حقها.
2- نبهت الآيات على خاتمة الإنسان وهي الرجوع إلى لقاء الله تعالى، جاء في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم» .
3- إن المؤمنين المتصفين بالصفات المتقدمة هم الذين يبادرون في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وأما قوله تعالى: وَهُمْ لَها سابِقُونَ فقال القرطبي: أحسن ما قيل فيه: إنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وقته. فاللام في لَها على هذا القول بمعنى إلى، كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة 99/ 5] ، أي أوحى إليها «1» .
وقال الزمخشري والرازي: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون. وهذا ما جرينا عليه في التفسير. ويجوز أن يكون معنى وَهُمْ لَها بمعنى: أنت لها وهي لك.
4- إن الذي وصف الله به الصالحين غير خارج عن حد الوسع والطاقة.
وهذا ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف لا يطاق. والآية تقرر مبدءا عاما في التكليف وهو التيسير ودفع الحرج، كما في آية البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [286] .
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 133(18/67)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
5- أظهر ما قيل في قوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة. وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق.
وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم.
6- إن الجزاء على الأعمال لا ظلم فيه بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، فلا يظلم ربك أحدا من حقه، ولا يحطه عن درجته، بل إن فضل الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، فإنه يعفو ويصفح عن كثير من السيئات لعباده المؤمنين.
إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 77]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)(18/68)
الإعراب:
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ مُسْتَكْبِرِينَ وسامِراً منصوبان على الحال.
وبِهِ من صلة (سامر) . وقال سامِراً بصيغة الإفراد بعد قوله مُسْتَكْبِرِينَ لأن سامِراً في معنى (سمّار) فهو اسم جمع، كالجامل والباقر: اسم لجماعة الجمال والبقر.
وتَهْجُرُونَ من هجر يهجر هجرا وهجرانا، والمراد: تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي.
وقرئ بضم التاء تَهْجُرُونَ: من (أهجر) : إذا هذى، والهجر: الهذيان فيما لا خير فيه من الكلام.
اسْتَكانُوا أصله: استكونوا بوزن استفعلوا، من الكون، فنقلت فتحة الواو إلى الكاف، فتحركت في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.
البلاغة:
أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ جناس اشتقاق.
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ استعارة تمثيلية، شبه إعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف.
المفردات اللغوية:
بَلْ قُلُوبُهُمْ أي الكفار فِي غَمْرَةٍ في غفلة غامرة لها وجهالة مِنْ هذا من كتاب الحفظة، أو مما وصف به هؤلاء، أو من القرآن وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي أعمال خبيثة متجاوزة لما وصفوا به أو أدنى مما هم عليه من الشرك أو غير ذلك هُمْ لَها عامِلُونَ معتادون فعلها، فيعذبون عليها.
حَتَّى ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام، وهو الجملة الشرطية هنا مُتْرَفِيهِمْ متنعميهم وهم أغنياؤهم ورؤساؤهم بِالْعَذابِ يعني القتل يوم بدر، أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلم،
فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحترقة يَجْأَرُونَ يصيحون ويضجون، وقد فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة، وهو جواب الشرط.
لا تُنْصَرُونَ لا تمنعون منا، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا ولا ينصركم أحد،(18/69)
وقوله: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي، أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم آياتِي القرآن تَنْكِصُونَ ترجعون وراءكم، والمراد: تعرضون مدبرين عن سماع الآيات وتصديقها والعمل بها مُسْتَكْبِرِينَ عن الإيمان بِهِ أي بالتكذيب أو بالبيت الحرام بأنهم أهله وقوامه، وأنهم في أمن بخلاف سائر الناس في مواطنهم، والباء على هذا المعنى متعلقة بمستكبرين لأنه بمعنى مكذبين سامِراً أي جماعة سمّارا، وهم الذين يتحدثون بالليل حول البيت، يسمرون بذكر القرآن والطعن فيه تَهْجُرُونَ إذا كان من الثلاثي (هجر) أي بفتح التاء: أي تتركون القرآن من الهجر وهو القطيعة، وإذا كان من الرباعي (أهجر) أي بضم التاء: أي تقولون غير الحق في النبي والقرآن، من الهجر: وهو الهذيان والفحش.
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي يتدبروا القرآن الدال على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، ليعلموا أنه الحق من ربهم، بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من الرسول والكتاب، أو من الأمن من عذاب الله، فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقومون كإسماعيل وأعقابه، فآمنوا به وكتبه ورسله وأطاعوه أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالأمانة والصدق، وحسن الخلق، وكمال العلم، مع عدم التعلم، إلى غير ذلك من صفات الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعواه.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، فلا يبالون بقوله، وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا، وأتقنهم نظرا. والاستفهام للتقرير بالحق، من صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، ومجيء الرسل للأمم الماضية، ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة، وأن لا جنون به بَلْ للانتقال جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم، فلذلك أنكروه، وإنما قيد الحكم بالأكثر لوجود أناس منهم تركوا الإيمان خشية توبيخ قومه، لا لكراهته للحق.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أي لو اتبع القرآن ما يستهوون، بأن كان في الواقع آلهة شتى، أو ما يهوونه من الشريك والولد لله لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي خرجت عن نظامها المشاهد بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم وفخرهم ووعظهم.
خَرْجاً أجرا أو جعلا على أداء الرسالة فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي أجره وثوابه ورزقه خير وأبقى وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل من أعطى وآجر.
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق قويم لا عوج فيه وهو دين الإسلام لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بالبعث والثواب والعقاب عَنِ الصِّراطِ الطريق لَناكِبُونَ عادلون عن طريق الرشاد، فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.
ضُرٍّ جوع أصابهم بمكة سبع سنين لَلَجُّوا تمادوا فِي طُغْيانِهِمْ ضلالتهم(18/70)
يَعْمَهُونَ يترددون وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعني القتل يوم بدر أو الجوع فَمَا اسْتَكانُوا تواضعوا وخضعوا وذلوا وَما يَتَضَرَّعُونَ لا يرغبون إلى الله بالدعاء، بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم حَتَّى ابتدائية ذا عَذابٍ شَدِيدٍ صاحب عذاب، هو يوم بدر بالقتل مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير.
سبب النزول:
نزول الآية (67) :
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ..: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تسمر حول البيت، ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله:
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.
نزول الآية (76) :
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ..:
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أنشدك بالله والرحم، قد أكلنا العلهز، يعني الوبر والدم، فأنزل الله: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
وأخرج البيهقي في الدلائل بلفظ أن ثمامة بن أثال الحنفي، لما أتي به للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أسير، خلّى سبيله، وأسلم، فلحق بمكة، ثم رجع، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة، حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال: فقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن الدين يسر لا عسر، فلا تكليف إلا بقدر الطاقة،(18/71)
أردف ذلك بالإنكار على الكفار والمشركين من قريش، ووصفهم بأنهم في غمرة من هذا الذي بيّن في القرآن، أو من وصف المشفقين، وأن لهم أعمالا أخرى أسوأ في الكفر والعصيان، كالشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وإيذاء المؤمنين.
وبعد أن بين أنه لا ينصر أولئك الكفار، أتبعه بعلة ذلك، وهي أنه متى تليت عليهم آيات القرآن، أتوا بأمور ثلاثة: هي النفور والإعراض عن تلك الآيات وعن تاليها، والاستكبار بالبيت العتيق أو الحرم قائلين: «لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم» والسمر بذكر القرآن والطعن فيه.
ولما زيّف طريقة القوم، أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال:
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ولكن الكفار تنكبوا عن هذا الطريق وعدلوا عنه، وقد أنذرهم ربهم بإحلال العذاب عليهم بالقتل يوم بدر، والجوع وغير ذلك، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم، وتمادوا في ضلالهم، وهم متحيرون.
التفسير والبيان:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي بل قلوب الكفار والمشركين في غفلة وضلالة من هذا البيان الشافي في القرآن، ومن هدايته لأقوم الطرق، وإسعاده للناس في دنياهم وآخرتهم.
وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ، هُمْ لَها عامِلُونَ أي ولهم أعمال سيئة منكرة غير ذلك أي غير الغفلة والجهل وهو الشرك والطعن في القرآن وإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين، هم لها عاملون قطعا في المستقبل. وإنما قال ذلك لأن تلك الأعمال مثبتة في علم الله وفي اللوح المحفوظ ومكتوبة مسجلة عليهم سلفا، لإحاطة علم الله بها، وعلم الله لا يتغير.(18/72)
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي حتى إذا أوقعنا مترفيهم (وهم المتنعمون البطرون في الدنيا) في العذاب الشديد والبأس والنقمة بهم، صرخوا واستغاثوا، كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [المزمل 73/ 11- 12] وقال سبحانه: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص 38/ 3] .
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ، إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي لا فائدة ولا جدوى من الصراخ، فلا يدفع عنكم ما يراد إنزاله بكم، وقد لزم الأمر ووجب العذاب، ولن تجدوا ناصرا ينصركم، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم.
وأسباب حجب نصر الله لهم وإيقاع هذا الجزاء ثلاثة هي:
1- قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي إنه متى تليت عليكم آيات القرآن نفرتم منها وأعرضتم عن سماعها وعمن يتلوها، كما يذهب الناكص (الراجع) على عقبيه، بالرجوع إلى ورائه. والمراد: أنهم يعرضون عن الحق، فإذا دعوا أبوا، وإن طلبوا امتنعوا.
2- مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي إنهم حال نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه يكونون مستكبرين استكبارا عليه (أي على الحق) واحتقارا له ولأهله.
وضمير بِهِ عائد إلى البيت العتيق أو الحرم، فإنهم كانوا يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه، وليسوا به، أو أنه عائد إلى القرآن أو إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يصفون القرآن بأنه سحر أو شعر أو كهانة، ويقولون عن النبي صلّى الله عليه وسلم:
إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو كذاب أو مجنون، وكل ذلك باطل، فالقرآن حق، ومحمد نبي الحق، وليس الاستكبار من الحق.
3- سامِراً تَهْجُرُونَ أي سمّارا حول البيت، تتركون القرآن، أو تأتون(18/73)
بالهذيان، فتسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه. وعلى هذا تتعلق كلمة بِهِ ب: سامِراً.
وبعد أن وصف حالهم، أبان أن إقدامهم على هذه الأمور، لا بد من أن يكون لأحد أسباب أربعة هي:
1- أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي أفلا يتفهم المشركون هذا القرآن العظيم؟
مع أنهم خصوا به، وهو معروف لهم بيانا وفصاحة وبلاغة ومضمونا ساميا، ولم ينزل على رسول أكمل ولا أشرف منه، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا نعمة الله عليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها، والعمل بمقتضاها.
2- أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أي أم اعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة، مع أنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل تتالت على الأمم، مؤيدة بالمعجزات، أفلا يدعوهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول؟
3- أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ، فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي ربما لم يكونوا عارفين رسولهم بخصاله العالية قبل النبوة؟ مع أنهم عرفوا أنه الصادق الأمين، وأنه يفر من الكذب والأخلاق الذميمة، فكيف كذبوه بعد أن اتفقوا على تسميته بالأمين؟
لهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك، إن الله بعث فينا رسولا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وقال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم مثل ذلك. وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلّى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفارا لم يسلموا، فاعترفوا باتصافه بالصدق.
4- أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي بل إنهم يقولون عن الرسول: إن به جنونا لا يدري ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا ورأيا.(18/74)
ثم بيّن الله تعالى السبب الحقيقي في عدم إيمانهم فقال:
بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي بل جاءهم الرسول الصادق الأمين بالحق الثابت الذي لا محيد عنه، وهو توحيد الله والتشريع المحقق للسعادة، لكن أكثرهم كارهون لهذا الحق، لتأصل الشرك في قلوبهم، وتمسكهم بتقليد الآباء والأجداد، وحفاظهم على المناصب ومراكز الزعامة والرياسة.
وإنما قال أَكْثَرُهُمْ لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم، لا كراهة للحق، كما حكي عن أبي طالب.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ والحق:
كل ما قابل الباطل، فهو الشيء الثابت والصواب والطريق المستقيم، فلو اتبع أهواء الناس لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم، وقيل الحق: الإسلام لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم، وعن قتادة: أن الحق هو الله ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها، ولكان شيطانا.
والمعنى العام: أن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على الإنسان ترك الهوى واتباع الحق، فإن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم، فلو جاء القرآن مؤيدا الشرك بالله والوثنية، شارعا ما فيه الفوضى والانحراف كإباحة الظلم وترك العدل، وإقرار النهب والسلب والسرقة، وإباحة الزنى والقتل، وإهمال القيم الخلقية، لاختل نظام العالم ووقع التناقض، وتأخرت المدنية، وفسدت السموات والأرض ومن فيهن، لفساد أهوائهم واختلافها، ولو أبيح العدوان لافتقد الأمن، ولو أبيح الظلم لدمرت المدنية، ولو أبيح الزنى لاختلطت الأنساب وتهدمت الأسر، وهكذا.
ومن أفكارهم وأقوالهم ما حكاه القرآن: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ(18/75)
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
[الزخرف 43/ 31] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟
[الزخرف 43/ 32] قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الإسراء 17/ 100] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء 4/ 53] .
وضمير وَمَنْ فِيهِنَّ إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنّها. وأما ما لا يعقل فهو تابع لما يعقل.
ثم شنع الله تعالى عليهم لإعراضهم عن معالم الحق والهدى والخير فقال:
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي بل جئناهم بالقرآن الذي هو وعظهم أو فيه شرفهم وفخرهم وإعلاء سمعتهم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] ولكنهم معرضون عن هذا الذكر الذي سطر لهم الخلود والمجد.
ثم أوضح إخلاص النبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته، وأنه لا يطمع فيهم، حتى يكون ذلك سببا للنفرة فقال:
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً، فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي أتسألهم أجرا على تبليغ الرسالة والدعوة إلى الهداية ورفع الشأن حتى لا يؤمنوا بك، ويملّوك ويبغضوك؟ والمراد أن هذه التهمة بعيدة عنه، وأنه صلّى الله عليه وسلم لا يطلب عوضا عن القيام بمهمته، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله. وإن ما عند الله من ثواب خير من ثواب الدنيا، والله أفضل من أعطى وآجر.
ونظير الآية كثير في القرآن مثل: قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ 34/ 47] قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص 38/ 86] قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى 42/ 23] .(18/76)
والخلاصة: أنهم غير معذورين في عدم الاستجابة لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أيده الله بدستور رفيع للحياة البشرية، وليس له مطمع مادي في ملك ولا مال ولا جاه.
ثم أبان الله تعالى صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإنك يا محمد لتدعو الناس قاطبة ومنهم هؤلاء المشركون من قريش إلى الطريق المستقيم، والدين القيم الصحيح، وسبيل العزة والكرامة، والخير والسداد والوسط، وهو الإسلام العلاج الشافي لأدواء البشرية، وحل المشكلات الدينية والدنيوية، كما شهدت بذلك العقول السليمة، والدراسات الحيادية المجردة من أعداء الإسلام وعباقرة العلم والمعرفة.
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أي وإن المكذبين بالآخرة الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت لعادلون جائرون منحرفون عن هذا الطريق لأن طريق الاستقامة واحدة، وما يخالفه فكثير.
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي إن هؤلاء الكفار لو أسبغنا عليهم واسع رحمتنا، وأزحنا عنهم الضر، وأفهمناهم القرآن، لما آمنوا به ولما انقادوا له، ولتمادوا في ضلالهم، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، وظلوا متحيرين مترددين، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 8/ 23] .
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، وَما يَتَضَرَّعُونَ أي ولقد ابتليناهم بالمصائب والشدائد، فما ردّهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة، بل استمروا على غيهم وضلالهم، وما خشعوا وما خضعوا لربّهم، وما دعوا ولا تذللوا، كما قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام 6/ 43] .(18/77)
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال:
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ، إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، فنالهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير ومن كل راحة، وانقطعت آمالهم، وخاب رجاؤهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن للكفار أعمالا قبيحة جدا في ميزان شرع الله ودينه، أسوأها الشرك، وهم في غفلة وعماية عن القرآن وهديه، وهم عاملون تلك الأعمال لا محالة لأنها مثبّتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ، ولكن دون إجبار ولا إكراه، وإنما باختيار منهم.
2- يعتاد الكافر إذا أصابه العذاب والبلاء في الدنيا أن يجأر بالشكوى ويضج ويستغيث، ولكن إذا داهمه العذاب في الآخرة لم ينفعه التضرع والجزع، ولا يجد ناصرا ينصره من بأس الله تعالى.
ومثال ذلك أن مترفي مكة تعرضوا للقتل يوم بدر، وللجوع الشديد، حين
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف»
فابتلاهم الله بالقحط والجوع، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف، وهلكت الأموال والأولاد، كما تقدم بيانه.
3- كانت أسباب تعذيب الكفار والمشركين ثلاثة: هي النفور عن القرآن والإعراض عن سماعه، والاستكبار بهذا التباعد عن الحق والافتخار بالبيت الحرام وأنهم أولياؤه، فكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله تعالى، وما هم كذلك، والسمر(18/78)
بذكر القرآن وبالطعن فيه. وضمير مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ كما قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يذكر سابقا لشهرته في الأمر.
4- روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما كره السّمر حين نزلت هذه الآية: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، سامِراً تَهْجُرُونَ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هذيان، وإما في إذاية.
وروى مسلم عن أبي برزة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها» .
أما كراهية النوم قبلها فلئلا يعرّضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها، وهذا مذهب مالك والشافعي.
وأما كراهية الحديث بعدها، فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه، فينام على سلامة، وقد ختم الكتّاب صحيفته بالعبادة، فإن سمر وتحدث، فيجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين. وأيضا السمر في الحديث والسهر يفوت عليه غالبا قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح.
روى أحمد حديثا: «لا سمر بعد الصلاة»
أي العشاء الآخرة.
روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والسّمر بعد هدأة الرجل، فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه، أغلقوا الأبواب، وأوكوا السّقاء، وخمّروا الإناء، وأطفئوا المصابيح» .
وهذه الكراهية إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبه.
5- إن إقدام الكفار على الأمور الثلاثة المتقدمة لأسباب أربعة: هي عدم تدبرهم القرآن أي عدم تفهمهم له، واعتقادهم أن مجيء الرسل على خلاف العادة، وتجاهلهم وإنكارهم خصال الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة، فإنهم عرفوه وعرفوا أنه من(18/79)
أهل الصدق والأمانة، فكان في اتباعه النجاة والخير لولا العنت، ووصفهم له بأنه مجنون للاحتجاج في ترك الإيمان به.
مع أنه عليه الصلاة والسلام جاءهم بالحق، أي القرآن والتوحيد الحق والدّين الحق، وأكثرهم كارهون للحق حسدا وبغيا وتقليدا.
6- الحق فوق الأهواء والشهوات، ولو وافق الحق أهواء الكفار، لاختل نظام العالم لأن شهوات الناس متخالفة متعارضة متضادة، لذا وجب اتباع سبيل الحق، والانقياد للحق، والتخلي عن الأهواء.
7- القرآن الكريم شرف وفخر ومجد وعز للعرب، ومع ذلك فهم معرضون عنه وعن تعاليمه، وتلك هي الحماقة بعينها، والمكابرة.
8- ليس للنبي صلّى الله عليه وسلم مطمع في أجر أو جعل على تبليغ ما جاء به قومه من الرسالة، بل هو أسمى من طلب ذلك، لأنه يطلب رضا الله وفضله، وما يؤتيه الله له من الأجر على الطاعة والدعاء إلى دين الله خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليه فعلا أموالهم حتى يصبح أغناهم، فأبى ذلك أيما إباء ولم يجبهم إلى ذلك.
9- إن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم دعوة إلى الاستقامة، وإلى الدين القويم، والمنهج الأعدل والأفضل، لكن الذين لا يصدقون بالبعث لعادلون عن الحق، جائرون منحرفون، حتى يصيروا إلى النار.
10- لو ردّ الله الكفار إلى الدنيا رحمة بهم، ولم يدخلهم النار وامتحنهم مرة أخرى، لتمادوا في طغيانهم، أي في معصيتهم، وظلوا يترددون في ضلالتهم.
ولو كشف الله ما بالكفار من ضرّ، أي من قحط وجوع، لتمادوا في ضلالتهم أيضا وتجاوزهم الحد، واستمروا يخبطون في طغيانهم.(18/80)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
11- لقد مرّ الكفار في تجربة واضحة، فحينما جاءهم العذاب بالجوع والأمراض والحاجة، ما خضعوا لربهم وما خشعوا له، وما تضرعوا بالدعاء لله عز وجل في الشدائد التي تصيبهم.
12- إن عاقبة أمر الكفار واضحة، فهم إذا تعرضوا لعذاب الله الشديد في الآخرة، أيسوا من كل خير، وتحيروا لا يدرون ما يصنعون، كالآيس من الفرج ومن كل خير، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام 6/ 27- 29] .
والخلاصة: يصرّ المشركون على إشراكهم بالرغم من الإنذارات المتكررة وتوافر الأدلة على عظمة الله وقدرته وتحذيره من بأسه الشديد.
نعم الله العظمى على عباده
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
البلاغة:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ امتنان، وأفرد السمع وجمع الأبصار تفننا.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ التنكير للتقليل، وما لتأكيد القلة، والمعنى: شكرا قليلا، وهو كناية عن عدم الشكر.(18/81)
أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ استفهام بقصد التوبيخ والإنكار.
يُحْيِي وَيُمِيتُ طباق.
المفردات اللغوية:
أَنْشَأَ خلق السَّمْعَ الأسماع الْأَفْئِدَةَ لتتفكروا فيها وتستدلوا بها، وتحققوا منافع أخرى دينية ودنيوية قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرونها شكرا قليلا لأن الشكر الحقيقي استعمال الحواس فيما خلقت لأجله، والإذعان لمانحها من غير إشراك، وما لتأكيد القلة ذَرَأَكُمْ خلقكم وبثكم تُحْشَرُونَ تبعثون وتجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم يُحْيِي ينفخ الروح وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما بالسواد والبياض، والزيادة والنقصان، وذلك مختص بالله تعالى لا يقدر عليه غيره، كما يقال: يختلف إلى فلان، أي يتردد عليه، أَفَلا تَعْقِلُونَ صنعه تعالى بالنظر والتأمل أن كل شيء منا، وأن قدرتنا تعم كل الممكنات وأن البعث من جملتها، فتعتبروا. وقرئ بالياء (يعقلون) على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى إعراض المشركين عن تدبر القرآن وفهم أدلة وجود الله ووحدانيته وقدرته، أعقبه ببيان أوجه النعم العظمى على عباده، ليسترشدوا بها على وجود الله وقدرته. وتلك النعم هي الأسماع والأبصار والأفئدة وهي العقول والأفهام التي يذكرون بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
التفسير والبيان:
امتن الله تعالى على عباده بنعم عظيمة دالة على قدرته وحكمته وعلمه وهي أربعة:
1- وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي والله الذي خلق(18/82)
لكم الأسماع لسماع الأصوات، والأبصار لرؤية الأشياء، والعقول لفهم الأمور، وإدراك الحقائق المؤدية إلى تحقيق منافع الدنيا والآخرة. وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال على وجود الله وقدرته متوقف عليها.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أن الشاكرين منهم قليل، فما أقل شكرهم لله على ما أنعم به عليهم، والمعنى أنهم لم يشكروا الله على نعمه العظيمة، كما يقال لجحود النعمة: ما أقل شكر فلان! وذلك كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] .
2- وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي والله الذي خلقكم وبثّكم بالتناسل في الأرض، لعمارتها وتحضرها، ووزعكم في أقطارها مع اختلاف الأجناس والألوان واللغات والصفات، ثم يوم القيامة تجمعون جميعا لميقات يوم معلوم، فلا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا أعاده كما بدأه، وله الحكم وحده.
3- وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي وهو الذي وهبكم نعمة الحياة، لكن تلك النعمة غير خالدة، وإنما المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب، وذلك بالإماتة بعد الإحياء، ثم بالإعادة أحياء مرة أخرى للجزاء.
4- وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي ولله وحده تسخير الليل والنهار، وجعل كل منهما يطلب الآخر، يتعاقبان، لا يفتران ولا يفترقان بنظام دقيق وزمان محدد كما قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 40] .
ثم حذر الله تعالى من ترك النظر في كل هذا فقال:
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتفكرون في هذه الأشياء، أفلا تعقلون كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأ لا تدلكم عقولكم على العزيز العليم الذي قهر كل(18/83)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
شيء، وخضع له كل شيء، لتعلموا أن الله حي موجود قادر؟! وفيه دلالة على الزجر والتهديد.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تعريف عام بكثرة نعم الله عز وجل على عباده، فهو الذي وهبهم مفاتيح العلم والمعرفة، وأمدهم بالحواس التي تمكنهم من الاستدلال بها على كمال قدرته، وهو الذي أنشأهم وبثهم وخلقهم في الأرض لمهمة سامية هي الإعمار والتنمية، ثم يجمعون يوم القيامة للجزاء العادل، وهو الذي منحهم حق الحياة التي يعقبها الموت، حتى لا يطغى الإنسان ويستبد، فالموت يكون نعمة وراحة كالحياة نفسها، وهو الذي أوجد بيئة الحياة السلمية بخلق الليل والنهار وجعلهما متعاقبين بنظام دقيق متلائم مع مرور الفصول الأربعة.
وشأن البصير العاقل أن يتعظ ويعتبر ويفهم ويفكر في بدائع الخلق، وعظم القدرة والربوبية والوحدانية، دون أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث.
إنكار المشركين البعث وإثباته بالأدلة القاطعة
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 90]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)(18/84)
الإعراب:
قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ ... جوابه: قراءة من قرأ: سيقولون الله وأما قراءة سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فليس بجواب قوله تعالى: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ.. وإنما هو جوابه من جهة المعنى لأن معنى قوله: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ: لمن السموات؟ فقيل في جوابه: لِلَّهِ.
ونظيره ما بعده وهو قوله تعالى: قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فقال: لله، حملا على المعنى. وهذا كثير في كلام العرب.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه، حذف جواب الشرط لدلالة اللفظ عليه.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ استفهام بغرض الإنكار والتوبيخ.
وَهُوَ يُجِيرُ، وَلا يُجارُ عَلَيْهِ طباق السلب.
المفردات اللغوية:
بَلْ قالُوا أي كفار مكة الْأَوَّلُونَ آباؤهم ومن تبعهم قالُوا أي الأولون أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا، فخلقوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة، كأحدوثة وأعجوبة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خالقها ومالكها، أي إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك. وهذا استهانة بهم، وتقرير لفرط جهالتهم، وإلزام بما لا يمكن إنكاره ممن له شيء من العلم.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي أن العقل الصريح المجرد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها قُلْ بعد ما قالوه أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعلموا أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإحياء بعد الموت؟!(18/85)
قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الكرسي، فإنها أعظم من ذلك أَفَلا تَتَّقُونَ تحذرون عقابه، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ملك كل شيء يُجِيرُ يغيث من يشاء ويحرسه ويمنعه من الغير وَلا يُجارُ عَلَيْهِ لا يغاث أحد ولا يمنع منه، ومعنى الجملتين: يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يحمي ولا يحمى عليه، يقال: أجرت فلانا على فلان: أي أغثته ومنعته منه سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جواب السؤال من جهة المعنى، وهو: من له ما ذكر؟ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ تخدعون، فتصرفون عن الرشد وطاعة الله وتوحيده، مع ظهور الأمر، وتظاهر الأدلة، أي كيف تخيل لكم أنه باطل؟! بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في نفيه.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أدلة التوحيد في الكون والأنفس، أعقبها ببيان إنكار المشركين (عبدة الأوثان) البعث والحشر مع وضوح الأدلة، وتقليدهم الأولين في الاستبعاد والتكذيب. ثم رد عليهم بأدلة ثلاثة تثبت البعث من غير شك.
التفسير والبيان:
بالرغم من زجر المشركين وتهديدهم في الآيات السابقة على تعطيل عقولهم التي ترشدهم إلى الإقرار بتوحيد الله وقدرته على البعث، فإنهم رددوا مقالة السابقين البدائيين وهي:
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي مع كل ما سبق، فإن هؤلاء المشركين أنكروا البعث واستبعدوه، وأعادوا مقالة أسلافهم الذين كذبوا رسلهم، تقليدا أعمى لهم دون برهان، وهذا تعيير بقولهم. وتفصيل تلك المقالة من وجهين:
الأول:
قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي هل إذا متنا، وصرنا ترابا وعظاما بالية، نعود إلى البعث والحياة؟ فهم يستبعدون وقوع ذلك(18/86)
بعد البلى، كما قال تعالى: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 10- 14] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 77- 78] .
والثاني:
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي إن هذا الوعد بالبعث الذي يخبر به محمد صلّى الله عليه وسلم قد وعد به قديما الأنبياء السابقون، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد، وكأنهم لغباوتهم يظنون أن الإعادة تكون في دار الدنيا.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب المتقدمين وأباطيلهم وترهاتهم، قد توارثناها دون وعي، ودون دليل مثبت لصحتها، كما يزعمون.
ثم رد الله تعالى عليهم لإثبات البعث ببراهين ثلاثة هي:
1- قُلْ: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي قل أيها النبي لمنكري الآخرة: من مالك الأرض الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وغير ذلك من المخلوقات إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك؟ وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ استهانة بهم وتأكيد لجهلهم.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون بما دل عليه العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا، فإذا كان ذلك:
قُلْ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي قل لهم أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق(18/87)
هذا ابتداء قادر على إعادته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره؟! وقوله هذا معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه.
وهذا البرهان القاطع يصلح للرد على منكري الإعادة وعلى عبدة الأوثان المشركين العابدين مع الله غيره، المعترفين له بالربوبية، ولكنهم أشركوا معه في الألوهية، فعبدوا غيره، مع اعترافهم أن معبوداتهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا، وإنما اعتقدوا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] .
2- قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي قل لهم أيضا: من خالق السموات وما فيها من الكواكب والملائكة، ومن خالق العرش العظيم الكبير الذي هو سقف المخلوقات، كما قال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة 2/ 255] وكما
جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة
، وفي الحديث الآخر: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» .
فالعرش يجمع بين الصفتين: العظمة والكبر في الاتساع والعلو: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ والحسن والبهاء في الجمال، كما قال في آخر السورة: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن البهي.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي إنهم سيعترفون فورا بأنه لله وحده، ولا جواب سواه.
قُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ أي إذا كنتم تعترفون بذلك، أفلا تخافون عقاب الله وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟!(18/88)
وكما أن العالمين السفلي والعلوي ملك لله تعالى، فله أيضا تدبير شؤونهما، كما قال:
3- قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي بيده الملك والتصريف والتدبير، كما قال: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود 11/ 56] أي متصرف فيها.
وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وهو السيد الأعظم الذي يغيث من يشاء ويحمي من يشاء، ولا يغيث ولا يحمي أحد منه أحدا، فلا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، إن كنتم من أهل العلم بذلك.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون أن المالك المدبر هو الله لا غيره، فلا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه. وقرئ الله في هذا وما قبله، ولا فرق في المعنى لأن قولك: من ربه، ولمن هو؟ في معنى واحد.
قُلْ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟ أي قل لهم مستغربا وموبخا: فأنى تخدعون عن توحيده وطاعته، والخادع: هو الشيطان والهوى، أو فكيف تتقبل عقولكم عبادتكم مع الله غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك وتصريحكم بأنه الخالق المالك المدبر؟.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي بل جئناهم بالقول الحق، والدليل الصدق، والاعلام الثابت بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة القاطعة على ذلك، وإنهم مع ذلك لكاذبون في إنكار الحق، وفي عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم عليها، كما قال في آخر السورة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فهؤلاء المشركون لا يفعلون ذلك عن دليل، وإنما اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال.(18/89)
وفي هذا توعد وتهديد على ادعائهم أن لله ولدا وأن معه شريكا، فنسبة الولد إليه محال، والشرك باطل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- ليس للمشركين ومنكري الآخرة دليل عقلي مقبول، وكل ما لديهم من بضاعة هو ترداد أقوال المتقدمين، وتقليد الآباء والأسلاف.
2- إنهم اعترفوا صراحة بأن الله تعالى هو مالك الأرض (العالم السفلي) ومالك السماء (العالم العلوي) ومدبر كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، وهو المتصرف في كل شيء، والقادر على كل شيء.
ومن كان هذا شأنه، ألا يكون هو المستحق وحده للعبادة، والقادر على الإحياء والبعث والإعادة؟! ويكون ما أتى به القرآن من الأدلة المثبتة للوحدانية والقدرة والبعث هو الحق الثابت الذي لا مرية ولا شك فيه، وهو القول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك، ونفي البعث.
3- دلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار، وإقامة الحجة عليهم، ونبّهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع، والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
4- إن تذييل الآيات بقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ يعد حملة شديدة على المشركين للإقلاع عما هم عليه من الشرك، فقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ معناه(18/90)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
الترغيب في التدبر، ليعلموا بطلان ما هم عليه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معناه الاستهانة بهم وتأكيد لفرط جهلهم، وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ معناه التنبيه على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة، وقوله: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ إثبات تناقضهم، إذ كيف تتقبل عقولهم عبادة أحد مع الله، مع اعترافهم الصريح بأن الله هو المالك الخالق المدبر.
نفي الولد والشريك لله تعالى
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
الإعراب:
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالجر بدل من اللَّهُ في قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ ...
ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب والشهادة.
البلاغة:
مِنْ وَلَدٍ مِنْ إِلهٍ ذكر حرف الجر الزائد تأكيد لنفي الولد والإله في الجملتين.
المفردات اللغوية:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدسه عن مماثلة أحد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يساهم أو يشاركه في الألوهية إِذاً لَذَهَبَ جواب شرط حذف لدلالة ما قبله عليه، أي لو كان معه آلهة، كما يقولون، لذهب كل واحد منهم بما خلقه، واستبدّ واستقل به، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، ووقع بينهم التحارب والتنازع، كما هو حال ملوك الدنيا، فدل الإجماع والاستقراء وبرهان العقل على إسناد جميع الممكنات إلى واحد واجب الوجود. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لغالب بعضهم(18/91)
بعضا، كفعل ملوك الدنيا سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عَمَّا يَصِفُونَ أي يصفونه به من الولد والشريك لما سبق من دليل فساده.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم بما غاب وبما شوهد، وهو دليل آخر على نفي الشريك لإجماع العقلاء على أنه تعالى هو المتفرد بذلك فَتَعالى تعاظم عَمَّا يُشْرِكُونَ يشركونه معه.
المناسبة:
بعد إثبات البعث والجزاء بالأدلة القاطعة، والرد على منكري البعث وعبدة الأوثان أبان الله تعالى أن المشركين كاذبون مفترون في نسبة الولد لله، واتخاذ شريك له.
التفسير والبيان:
ينفي الله تعالى وينزه نفسه عن أمرين: هما اتخاذ الولد واتخاذ الشريك فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ أي ما جعل لنفسه ولدا، كما يزعم بعض المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله.
وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أي وما وجد معه إله آخر يشاركه في الألوهية، لا قبل خلق العالم ولا بعد خلقه، كما يتصور الوثنيون باتخاذ الأصنام آلهة.
إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لو قدّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما خلق، واستقل بما أوجد، وتميز ملك كل واحد منهم عن ملك الآخر لأن استمرار الشركة مستحيل، ولكان همّ كل واحد منهم أن يغلب الآخر، ويطلب قهره والتسلط عليه، لتظهر قوة القوي على الضعيف، كما هو حال ملوك الدنيا، ولو حدث هذا التغالب والانقسام لاختل نظام الوجود، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
إلا أن المشاهد أن الوجود منتظم متسق، وفي غاية النظام والكمال وارتباط(18/92)
كل من العالم السفلي بالعالم العلوي دون تصادم ولا اضطراب، كما قال تعالى:
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك 67/ 3] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. [آل عمران 3/ 190] .
ولما ثبت كون التعدد في الآلهة مستحيلا، وبطل قول الكفار في الأمرين معا، قال تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله الحق الواحد الأحد عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة، أي بعلم ما غاب عن إدراك الخلق من الأشياء، ويعلم ما يشاهدونه وما يرونه ويبصرونه، فهو يعلم الأمرين معا على حد سواء، وهذا دليل آخر على نفي الشريك لأن غير الله وإن علم الشهادة أي الموجودات المرئيات أمامه، فلن يعلم معها الغيبيات غير المرئيات، وهذا دليل النقص، والله تعالى متصف بالكمال، فلا يكتمل النفع بعلم الشهادة وحدها، دون العلم بالغيب.
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تقدس وتنزه عما يقول الجاحدون الظالمون الذين يشركون معه إلها آخر.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا دليل عقلي لا يقبل الإنكار والطعن من أحد، فالله لم يتخذ ولدا كما زعم بعض الكفار، ولا كان معه إله فيما خلق، فلو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه، كما هو مقتضى العادة، ولغالب بعضهم بعضا، وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وحينئذ لا يستحق الضعيف المغلوب الألوهية.
وهذا كما يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا لأن الولد ينازع عادة الأب في الملك منازعة الشريك.(18/93)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
فتنزه الله عن أوصاف المشركين من الولد والشريك، وتقدس عما يقوله هؤلاء الظالمون والجاحدون.
وقد ذكر علماء الكلام هذا الدليل وسموه دليل التمانع: وهو أنه لو فرض صانعان خالقان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم، والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما، كانا عاجزين، والإله الواجب الوجود لا يكون عاجزا، ويمتنع اجتماع مراديهما وتحقيق رغبتهما في آن واحد للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا.
فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب الوجود المستحق الألوهية، والآخر المغلوب يكون ممكنا لأنه لا يليق بصفة الواجب الوجود أن يكون مقهورا.
إرشادات إلى النبي صلّى الله عليه وسلم
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
الإعراب:
قُلْ: رَبِّ أي يا ربّ، وهو اعتراض بين الشرط وجوابه بالنداء.
البلاغة:
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ تأكيد بإن واللام لإنكار المخاطبين وقوع العذاب الأخروي والدنيوي.(18/94)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ طباق معنوي لأن المعنى: ادفع بالحسنة السيئة.
المفردات اللغوية:
رَبِّ إِمَّا أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة، أي إذا كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا والآخرة فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم، فأهلك بهلاكهم لأن شؤم الظلمة قد يحيق بما وراءهم، كقوله تعالى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] . وإن تكرار كلمة رَبِّ في بدء الجملتين لزيادة التضرع وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أي بقدرتنا تعجيل العذاب، لكنا نؤخره لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمنون، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهو الصفح والإحسان والإعراض عنهم السَّيِّئَةَ أذاهم إياك بِما يَصِفُونَ يصفونك به أو يقولون ويكذبون، فإنا سنجازيهم عليه أَعُوذُ أعتصم هَمَزاتِ الشَّياطِينِ نزغاتهم ووساوسهم بالشر أَنْ يَحْضُرُونِ في أموري لأنهم إنما يحضرون بسوء، أو يحومون حولي في بعض الأحوال.
المناسبة:
بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين مزاعمهم من اتخاذ الولد والشريك وأبطل سوء اعتقادهم كإنكار البعث والجزاء، وجّه رسوله صلّى الله عليه وسلم إلى الدعاء والتضرع بالنجاة من عذابهم، ثم أرشده إلى مقابلة السيئة بالحسنة لأن الإحسان يفيد أحيانا، ثم أمره أن يستعيذ من وساوس الشياطين في مختلف الأعمال.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى نبيه ببعض الأدعية عند حلول النقم، فيقول:
قُلْ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، فلا(18/95)
تجعلني فيهم، ونجني منهم ولا تعذبني بعذابهم لأن العذاب قد يصيب غير أهله، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25]
روى الإمام أحمد والترمذي وصححه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون» .
وعن الحسن: أنه تعالى أخبر نبيه أن له في أمته نقمة، ولم يطلعه على وقتها، فأمره بهذا الدعاء.
والإرشاد إلى هذا الدعاء ليعظم أجره، وليكون دائما ذاكرا ربّه، ولتعليمنا ذلك.
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أي لو شئنا لأريناك ما نوقعه بهم من النقم والبلاء والمحن، ولكنا نؤخره لوقت معلوم لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمن.
ثم علمه أسلوب الدعوة حتى يتحقق لها النجاح فقال:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي قابل السيئة بالحسنة، وتحمل ما تتعرض له من أنواع أذى الكفار وتكذيبهم، وادفع بالخصلة التي هي أحسن، بالصفح والعفو، والصبر على الأذى، والكلام الجميل كالسلام، نحن على علم بحالهم وبما يصفوننا به من الشرك والتكذيب.
ونظير الآية قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت 41/ 34- 35] أي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة إلا الذين صبروا على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل في مقابلة القبيح، وما يلهمها إلا صاحب الحظ العظيم في الدنيا والآخرة. وقيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة لأن المداراة مرغوب فيها، ما لم تتعارض مع الدين والمروءة.(18/96)
ثم علمه الثبات على هذا الخط فقال:
وَقُلْ: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي وقل: إني أعتصم بك وألتجئ إليك من وساوس الشياطين المغرية بالسوء والمعصية ومخالفة أوامرنا، وألتجئ إليك من حضورهم في شيء من أموري، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور، فإنهم إذا حضروا الإنسان حدث الهمز، وإذا لم يكن حضور، فلا همز.
روى أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون» .
فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلّقها في عنقه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه باقة من الأدعية أمر الله بها نبيه ليدعو بها، ولتعليمنا إياها، وهي:
أولا- دعاء النجاة من العذاب الذي يقع بالكفار، ومعناه: يا ربّ، إن أريتني ما يوعدون من العذاب، فلا تجعلني معهم في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم.(18/97)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
وكان صلّى الله عليه وسلم يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره بهذا الدعاء، ليعظم أجره، وليكون في كل الأوقات ذاكرا ربّه تعالى.
والله قادر على إنزال العذاب بهم، وأراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف في يوم بدر وفتح مكة، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
وثانيا- دعاء الاعتصام من الشيطان، والمعنى: يا ربّ إني ألتجئ إليك من نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، وفي حالات الغضب.
وبين الدعاءين تعليم لأسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وهو مقابلة السيئة بالحسنة، أي بالصفح ومكارم الأخلاق، لتنقلب العداوة صداقة، والبغض محبة، قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسانه
تمني الإنسان عند الموت الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 100]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
الإعراب:
قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ: إنما جاءت المخاطبة بلفظ الجمع، ولم يقل: ارجعني تعظيما لله تعالى، أو على معنى التكرار، كأنه قال: ارجعني ارجعني، فجمع، كما ثنّى في قوله تعالى:
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي ألق ألق.(18/98)
البلاغة:
إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، إذ أنه أطلق الكلمة على الجملة.
المفردات اللغوية:
حَتَّى ابتدائية. جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي الكافر، وهو متعلق بقوله: يَصِفُونَ في الآيات المتقدمة، وما بينهما اعتراض، وقد يسأل المؤمن الرجعة أيضا، فإذا رأى الكافر مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن، طلب العودة إلى الدنيا، وكذلك المؤمن يسأل الرجعة، كما جاء في آخر سورة المنافقين: فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [10] .
ارْجِعُونِ الواو لتعظيم المخاطب، أي ردوني إلى الدنيا. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً بأن أشهد أن لا إله إلا الله. فِيما تَرَكْتُ ضيعت من عمري. كَلَّا كلمة ردع وزجر عن حصول ما يطلب، أي لا رجوع. إِنَّها أي قوله: رب ارجعون كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا فائدة له فيها. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي من أمامهم. بَرْزَخٌ حائل أو حاجز بينهم وبين الرجعة. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إلى يوم القيامة، ولا رجوع بعده، فهو تيئيس وإقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة.
المناسبة:
بعد أن كشف الله حال المشركين وما يصفون من الشرك والتكذيب، ذكر الله حال الكافرين عند مجيء الموت، فإنهم يتمنون أن يعودوا إلى دار الدنيا ليعملوا صالحا، لكن لا يسمع لقولهم ودعائهم. والمراد أن الكفار ما يزالون على سوء الحال والاعتقاد إلى الموت، فهذه الآية متعلقة بقوله: يَصِفُونَ وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم وإهمالهم، بالاستعانة بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم، ويزحزحه عن الأناة.(18/99)
التفسير والبيان:
هذا حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو العصاة المفرطين في أمر الله تعالى وماذا يقولون حينئذ، فقال تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي إذا دنا الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله من الموت، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، وقال: ربّ ارجعني لكي أتدارك ما قصرت فيه، وأعمل العمل الصالح الذي ترضى عنه من الطاعات والخيرات وأداء حقوق الناس. وقوله:
لَعَلِّي ليس المراد بها الشك، وإنما يعني كونه جازما بأنه سيتدارك.
وذلك كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم 14/ 44] وقال سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف 7/ 53] .
وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة 32/ 12] وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا
[الأنعام 6/ 27] ، وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى 42/ 44] ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر 35/ 37] .(18/100)
وهذا كله يدل على أن تمني العودة إلى الدنيا يحدث حال المعاينة للعذاب عند الاحتضار، وحين النشور، وحين الحساب، وحين العرض على النار، وبعد دخولهم النار.
وليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر، وإنما يشمل ذلك المؤمن المقصر في الطاعات وأداء حقوق الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون 63/ 10] .
كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يجيبهم الله تعالى بقوله: كلا وهي كلمة ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى طلبه، وتلك كلمة لا بدّ من أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لما عمل صالحا، وكذب في مقالته هذه كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] . ثم إنه بين الظلمة حال الاحتضار وبين الرجوع إلى الدنيا وأمامهم حاجز ومانع من الرجوع. فالبرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة، فمن مات دخل في البرزخ، أو حياة المقابر. وهذا تهديد بعذاب البرزخ، وتيئيس إلى يوم القيامة لهؤلاء المحتضرين من الظلمة من الرجوع أبدا لأنهم إذا لم يرجعوا حال وجود بقية من الحياة فلا يرجعون بعدئذ مطلقا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة، وتلقي عذابها كما قال تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية 45/ 10] وقال سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم 14/ 17] .
والخلاصة: أن المراد من قوله: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أن العذاب يستمر بهؤلاء إلى يوم البعث، كما
جاء في الحديث: «فلا يزال معذبا فيها»
أي في الأرض وهم في القبور.(18/101)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يلي:
1- يتمنى الإنسان الكافر والمؤمن المقصر الرجعة إلى دار الدنيا ليتدارك ما فاته فيها إما من الإيمان أو العمل الصالح، ولا يطلب الرجعة إلا بعد أن يستيقن العذاب.
2- لا رجعة بعد البعث أو دنو الموت إلا إلى الآخرة.
3- يستمر الكافرون والعصاة في عذاب القبور أو البرزخ إلى يوم القيامة، قالت عائشة رضي الله عنها: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم، حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
موازين النجاة في حساب الآخرة
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 111]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)(18/102)
الإعراب:
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خالِدُونَ بدل من صلة الَّذِينَ أو خبر ثان لأولئك فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا بكسر السين وقرئ بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد، وهما من سخر يسخر: من الهزء واللعب.
بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ما: مصدرية، وأَنَّهُمْ في موضع نصب ب جَزَيْتُهُمُ لأنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: جزيتهم بصبرهم لأنهم الفائزون. وجَزَيْتُهُمُ ضمير فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين.
البلاغة:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ.. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.. بين الآيتين مقابلة.
أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ فيها قصر.
يَتَساءَلُونَ، الْمُفْلِحُونَ، خالِدُونَ، كالِحُونَ، تُكَذِّبُونَ، ظالِمُونَ، تُكَلِّمُونِ، تَضْحَكُونَ، الْفائِزُونَ سجع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ الصُّورِ بوق ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى لتموت المخلوقات، والثانية لتحيا المخلوقات من القبور لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ
[الزمر 39/ 68] والمراد هنا النفخة الثانية لقيام الساعة. وقيل: الصور جمع صورة كبسر وبسرة، والمراد: نفخ الروح في الأجساد. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبينه، وقيل: لا أنساب يفتخرون بها(18/103)
وَلا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه، وهو لا يناقص قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور 52/ 25] لأن الآية هنا عند النفخة، وذلك بعد المحاسبة ودخول أهل الجنة وأهل النار النار. أو لا يتساءلون عن الأنساب.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزوناته بالحسنات من عقائد وأعمال، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله وقدر. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والدرجات. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ موزوناته بالسيئات، أي ومن لم يكن له وزن وهم الكفار، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف 18/ 105] . خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا.
كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان، وهذا هو الكلوح.
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي من القرآن، وهذا على إضمار القول أي يقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ.
فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله. شِقْوَتُنا وشقاوتنا بمعنى واحد: ضد السعادة، أي صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، والمراد: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، وسميت شقوة لأنهما يؤديان إليها. ضالِّينَ تائهين عن الحق والهداية. فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب. فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا.
قالَ مالك خازن النار اخْسَؤُا فِيها اسكتوا سكوت ذلة وهوان، أو اقعدوا في النار أذلاء وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب عنكم. إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي أي المؤمنون.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا هزءا، مثل بلال وصهيب وعمار وسلمان. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي خوف عقابي، من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم. تَضْحَكُونَ استهزاء بهم. جَزَيْتُهُمُ النعيم المقيم. بِما صَبَرُوا بصبرهم على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم. الْفائِزُونَ الظافرون بمطلوبهم.
المناسبة:
بعد أن قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إن هناك حاجزا إلى يوم القيامة، ذكر أحوال ذلك اليوم، من عدم الاعتداد بالأنساب، وجعل الحسنات أساس الفوز في الآخرة، والسيئات سبب دخول جهنم.(18/104)
التفسير والبيان:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ أي إذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والقرابات بالرغم من وجود التعاطف والتراحم لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، وانشغال كل إنسان بنفسه، ولا يسأل القريب قريبه، لاشتغاله بنفسه، كما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] وقوله سبحانه:
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج 70/ 10- 11] أي لا يسأل القريب قريبه، وهو يبصره.
هذا عند النفخة، أما بعد القرار في الجنة أو النار، فيسأل أهل الجنة بعضهم عن بعض، كما في قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات 37/ 27] .
وجاء في السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني، يغيظني ما يغيظها، وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري» .
وأصل هذا الحديث
في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما آذاها» .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: «ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط «1» لكم إذا جئتم» .
__________
(1) أنا فرطكم: أي متقدمكم، يقال: فارط وفرط: إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء.(18/105)
وروى الطبراني والبزار والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله، ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» .
ثم شرح أحوال السعداء والأشقياء فقال:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من رجحت حسناته على سيئاته، ولو بواحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي ثقلت سيئاته على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة، بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وهذه هي الصفة الأولى لأهل النار، ثم أتبعها بصفات ثلاث أخرى، فصارت أربعا:
1- فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي ماكثون في جهنم على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وفيه دلالة بيّنة على خلود الكفار في النار.
2- تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم كما قال تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم 14/ 50] وقال سبحانه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ، وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء 21/ 39] . وإنما خص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء.
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.(18/106)
3- وَهُمْ فِيها كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان. فالكلوح:
أن تتقلص الشفتان وتتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشوية.
ثم ذكر الله تعالى ما يقال لأهل النار تقريعا وتوبيخا على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم فقال:
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي ألم تكن آياتي من القرآن تتلى عليكم للتذكير والموعظة وإزالة الشّبه، فتكذبون بها، وتعرضون عنها. وهذا كما قال تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك 67/ 8- 9] وقال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] .
وهذا من المخطط العام لرسالات الأنبياء وإنزال الكتب، كما جاء في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] وقوله عز وجل: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء 4/ 165] .
فأجابوا عن السؤال هنا:
قالُوا: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي غلبت علينا شهوات نفوسنا وملذاتنا، بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، كما قال تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر 40/ 11] .
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي يا ربنا أخرجنا من(18/107)
النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قالَ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أي قال الله للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى الدنيا: امكثوا فيها- أي في النار- أذلاء صاغرين مهانين، واسكتوا ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي، ولا رجعة إلى الدنيا.
ثم ذكر سبب عذابهم فقال:
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي إنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربنا صدقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير من يرحم.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ أي فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم على نسيان ذكري، وعدم الاهتمام بشأني، ولم تخافوا عقابي، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين 83/ 29- 30] أي يلمزونهم استهزاء.
ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين فقال:
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي إني جازيتهم في يوم القيامة بصبرهم على أذاكم لهم واستهزائكم بهم بالفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم(18/108)
المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين 83/ 34- 36] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إذا حدثت النفخة الثانية ليوم القيامة شغل كل امرئ بنفسه، ولم يلتفت إلى أحد من أقربائه، ولو كانوا من الوالدين والأولاد والزوجات، ولا تنفع أحدا روابط الدم والنسب التي كانت تربط الأسر فيما بينهم في الدنيا.
لكن جاء في الحديث الثابت كما تقدم استثناء صلة النسب والقرابة بالنبي صلّى الله عليه وسلم.
2- إن ميزان النجاة من النار والفوز بالجنة هو رجحان الحسنات على السيئات، ولو بواحدة. وإن سبب اقتحام النار هو العكس أي رجحان السيئات على الحسنات.
3- لأهل النار أثناء العذاب صفات أربع: هي خسارة أنفسهم أي غبنها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وخلودهم في نار جهنم، وإضرام النار في أجسادهم حتى تأكل لحومهم وجلودهم، وظهور أمارات العذاب على الأوجه بالكلوح: وهو تقلص الشفاه عن الأسنان، كالرءوس المشوية.
4- اعترف أهل النار حين اقتحام العذاب بالأسباب التي أدت بهم إلى العقاب: وهي غلبة أهوائهم وشهواتهم على نفوسهم، حتى ساءت أحوالهم، وصاروا إلى سوء العاقبة، وضلالهم عن الحق والهداية، وظلمهم أنفسهم، وتكذيبهم بآيات ربهم، واستهزاؤهم من المؤمنين، ونسيانهم ذكر الله والخوف من عقابه.(18/109)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
5- لقد طلب الكفار الرجعة إلى الدنيا وهم في النار، كما طلبوها عند الموت لتدارك ما فاتهم من الأعمال الصالحة والإيمان الصحيح، ولكن لا رجعة لأحد إلى دار الدنيا بعد البعث والحساب.
6- اقتضى العدل مجازاة المؤمنين الذين صبروا على الأذى والسخرية جزاء عادلا وهو الفوز بالجنة يوم القيامة، والنجاة من النار.
7- على المؤمن إكثار الدعاء بقوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
التنبيه على قصر مدة اللبث في الدنيا وعقاب المشركين ورحمة المؤمنين
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
الإعراب:
كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ كَمْ: منصوبة ب لَبِثْتُمْ. وعَدَدَ سِنِينَ:
تمييز، وسِنِينَ: جمع سنة، وأصل سنة: سنهة أو سنوه، فلما حذفت اللام، جمع جمع التصحيح، أي جمع المذكر السالم، عوضا عما دخلها من الحذف.(18/110)
فَسْئَلِ الْعادِّينَ جمع العادّ من العدّ. ومن قرأه بالتخفيف جعله جمع (عادي) من قولهم: بئر عاديّة، أي قديمة، فلما جمع جمع المذكر السالم (أي بالواو والنون) حذف منه ياء النسب، وصارت ياء الجمع عوضا عن ذلك، كالأعجمين والأشعرين، جمع أعجمي وأشعري، وقيل في قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أنه جمع إلياسيّ، منسوب إلى إلياس. عَبَثاً حال بمعنى عابثين، أو مفعول لأجله.
البلاغة:
وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
قالَ أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أحياء في الدنيا وأمواتا في قبوركم، واللبث: الإقامة. لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصروا مدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار وما هم فيه من العذاب. فَسْئَلِ الْعادِّينَ الذين يتمكنون من عدّ أيامها، أو الملائكة الذين يعدّون أعمار الناس ويحصون أعمالهم. قالَ تعالى بلسان مالك خازن النار.
إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم. لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مدة لبثكم بالنسبة إلى لبثكم في النار.
عَبَثاً ما خلا من الفائدة، أو لا لحكمة، توبيخ على تغافلهم. والمراد: إنا لم نخلقكم تلهيا بكم، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم، وهو كالدليل على وجود البعث. وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ أو عَبَثاً، وقرئ بفتح التاء. والمراد أننا خلقناكم لنتعبدكم بالأمر والنهي وترجعون إلينا، ونجازي على ذلك.
فَتَعالَى اللَّهُ تنزه الله عن العبث وغيره مما لا يليق به. الْمَلِكُ الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يزول. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ الكرسي الحسن، وهو مركز تدبير العالم، ووصف بالكريم لشرفه.
يَدْعُ أي يعبد. لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ لا دليل له عليه، وهو صفة كاشفة لا مفهوم لها. حِسابُهُ جزاؤه. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا يسعدون، والضمير في إِنَّهُ للشأن والأمر. ويلاحظ أنه تعالى بدأ السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين، وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين.
اغْفِرْ وَارْحَمْ المؤمنين، وطلب الرحمة زيادة عن المغفرة.(18/111)
المناسبة:
بعد بيان إنكار الكفار للبعث، وأنه لا رجعة إلى الدنيا بعده، ذكر تعالى أنهم يسألون في النار سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، دون أن يكون القصد مجرد السؤال. ثم ذكر تعالى ما هو كالدليل على وجود البعث، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه، تعليما وإرشادا للأمة، حتى لا يكونوا مثل أولئك الكفار.
التفسير والبيان:
ينبه الله تعالى الكفار على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صبروا لفازوا كالمؤمنين، فيقول:
قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم: كم كانت مدة إقامتكم في الدنيا؟
والغرض من السؤال التبكيت والتقريع والتوبيخ، تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا، فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه من البعث، فتحصل لهم الحسرة على سوء اعتقادهم في الدنيا.
قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ نسوا مدة لبثهم في الدنيا، لعظم ما هم فيه من الأهوال والعذاب، حتى ظنوا أن المدة يوم أو بعض يوم، أو المراد تحقير مدة لبثهم بالنسبة إلى ما وقعوا فيه من أليم العذاب.
فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي فاسأل الحاسبين، أو الملائكة الحفظة الذين يحصون أعمال العباد وأعمارهم.
قالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال لهم الملك: ما لبثتم إلا(18/112)
زمنا يسيرا، على كل تقدير، ولو كنتم تعملون شيئا من العلم لآثرتم الباقي على الفاني، ولعملتم بما يرضي ربكم، ولو صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.
روى ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي الذي خطب الناس فقال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين!! ثم قال: يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين» .
ثم شدد الله تعالى في توبيخهم على غفلتهم فقال:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا، أي لعبا وباطلا بلا قصد ولا حكمة لنا، بل خلقناكم للعبادة والتهذيب والتعليم وإقامة أوامر الله تعالى. وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الدار الآخرة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا [القيامة 75/ 36] .
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي تنزه وتقدس الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم الحسن البهي الذي يدبر فيه نظام الكون بحكمة ومقصد سام.(18/113)
ثم ردّ الله تعالى على من نسب إليه ولدا أو شريكا فقال:
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ومن يعبد إلها آخر مع الله الذي لا يستحق العبادة سواه، دون أن يكون له دليل على صحة معتقده وعبادته، فجزاؤه محقق شديد عند ربه وخالقه، وذلك توبيخ وتقريع وتهديد بما لا يوصف، فمن ادعى إلها آخر فقد ادعى باطلا من حيث لا برهان له فيه، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم، وإنما مصيرهم إلى الجحيم، وهذا يقابل افتتاح السورة، فإنه بشر بفلاح المؤمنين، وختم هنا بخيبة الكافرين.
وَقُلْ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي قل أيها النبي:
يا رب اغفر لي ذنوبي، واستر عيوبي، وارحمني بقبول توبتي، ونجاتي من العذاب، فأنت خير من رحم عباده.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبّان عن أبي بكر أنه قال: «يا رسول الله، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» .
والآيتان الأخيرتان من آيات الشفاء،
أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه مرّ برجل مصاب، فقرأ في أذنه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً..
حتى ختم السورة، فبرأ، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له: «بماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره، فقال: «والذي نفسي بيده، لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» .
وواضح من ذلك أن المعول عليه هو إيمان القارئ ويقينه وصفاؤه، واستعداد المريض وقابليته للتداوي بالقرآن.(18/114)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- التنبيه على قصر مدة المكث في الدنيا، والاستفادة من تلك المدة بأقصى قدر ممكن للقيام بالطاعات والتقرب بالقربات، واجتناب المحظورات والمنهيات.
2- إن شدة العذاب التي يرتع بها الكفار في نار جهنم أنستهم مدة مكثهم في الدنيا أحياء، وفي القبور أمواتا. لذا أحالوا الجواب على الحاسبين العارفين بذلك، أو على الملائكة الذين كانوا معهم في الدنيا.
3- قرر الله تعالى أن مدة المكث أو اللبث في الدنيا قليلة لتناهيها بالنسبة إلى المكث في النار، لأنه لا نهاية له، لو علم الناس بذلك، فيكون المراد من قوله تعالى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن زمن الدنيا قليل لو علمتم البعث والحشر، لكنكم لما أنكرتم ذلك صرتم تعدونه طويلا.
4- إن للمخلوقات رسالة سامية في الحياة، وهي إطاعة الله تعالى فيما أمر، وعبادته بحق، واجتناب ما نهى عنه، فإنه تعالى لم يخلق الناس عبثا أي لعبا باطلا، دون قصد ولا حكمة، وإنما خلقهم لأداء مهمة خطيرة معينة، هي إظهار العبودية لله، قال الحكيم الترمذي أبو عبد الله محمد بن علي: إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رقّ الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية، فهم اليوم عبيد أبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النار.
وروى ابن أبي حاتم عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة(18/115)
خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد، أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيكم للحكم بينكم، والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم، وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان.
ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردوا إلى خير الوارثين؟
ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأحباب، وباشر التراب، وواجه الحساب، مرتهن بعلمه، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم.
فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم.
ثم جعل طرف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى من حوله.
5- من قصر النظر وجهالة الإنسان وغبائه أن يظن كما يظن الماديون أن الدنيا هي كل شيء، وألا رجعة إلى الله والدار الآخرة، ليجازى الناس على أعمالهم.
6- تقدس الله وتنزه عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها لأنه الحكيم، والملك الحق الثابت المبين الذي لا يزول ولا يبيد ملكه وقدرته، ويحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، وهو الثابت الذي لا يزول، وذو العرش العظيم الكريم، لا إله غيره، ولا رب سواه، فما عداه(18/116)
مصيره إلى الفناء، وما يفنى لا يكون إلها. والمراد بالعرش: العرش حقيقة، ووصفه بالكريم لتنزل الرحمة والخير والبركة منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين.
7- إن من يعبد مع الله إلها آخر لا بينة ولا حجة ولا دليل له عليه، فإن الله هو الذي يعاقبه ويحاسبه، وإنه لا يفلح الكافرون، ولا يفوزون بالنعيم والسعادة الأبدية، فمن ادعى إلها آخر، فقد ادعى باطلا إذ لا برهان له فيه، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته، وهذا دليل على وجوب التأمل والنظر في إثبات العقيدة، وبطلان التقليد.
8- إن المؤمن الحق هو الذي يديم النظر والتأمل في بديع خلق الله وقدرته، ليتوصل بذلك إلى إثبات البعث وإمكانه، ويستمر في عبادته ربه حتى الموت، ويكثر من دعاء الله تعالى قائلا: رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين لأن الانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته عاصمان عن كل الآفات والمخاوف.
9- من براهين البعث أنه: لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق، والرجوع إلى الله تعالى معناه الرجوع إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه، لا أنه رجوع من مكان إلى مكان، لاستحالة ذلك على الله تعالى.
10- شتان بين فاتحة السورة وخاتمتها، فقال في الفاتحة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وفي الخاتمة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ.(18/117)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النور
مدنية، وهي أربع وستون آية.
تسميتها:
سميت سورة النور لتنويرها طريق الحياة الاجتماعية للناس، ببيان الآداب والفضائل، وتشريع الأحكام والقواعد، ولتضمنها الآية المشرقة وهي قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [35] أي منورهما، فبنوره أضاءت السموات والأرض، وبنوره اهتدى الحيارى والضالون إلى طريقهم.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لسورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ من وجهين:
الأول- أنه تعالى لما قال في مطلع سورة المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزناة، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنى، والاستئذان الذي جعل من أجل النظر، وأمر بالتزويج حفظا للفروج، وأمر من عجز عن مؤن الزواج بالاستعفاف وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنى.(18/118)
الثاني- بعد أن ذكر الله تعالى في سورة المؤمنين المبدأ العام في مسألة الخلق، وهو أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل للتكليف بالأمر والنهي، ذكر هنا طائفة من الأوامر والنواهي في أشياء تعد مزلقة للعصيان والانحراف والضلال.
فضلها:
في هذه السورة أنس وشعور بالطمأنينة لأن المؤمن يرتاح للعفة والطهر، ويشمئز من الفحش وسوء الظن والاتهام،
ذكر مجاهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور»
وقال حارث بن مضرّب رضي الله عنه: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلّموا سورة النساء والأحزاب والنور. وتعليم هذه السورة للنساء مروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها.
مشتملاتها:
اشتملت هذه السورة على أحكام مهمة تتعلق بالأسرة، من أجل بنائها على أرسخ الدعائم، وصونها من المخاطر والعواصف، والتركيز على تماسكها وتنظيمها، وحمايتها من الانهيار والدمار.
فكان مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والسّتر.
لقد بدأت ببيان حد الزنى، وحد قذف المحصنات، وحكم اللعان عند الاتهام بالفاحشة أو لنفي نسب الولد، من أجل تطهير المجتمع من الانحلال والفساد واختلاط الأنساب، وبعدا عن هدم حرمة الأعراض، وصون الأمة من التردي في حمأة الإباحية والفوضى.
ثم ذكرت قصة الإفك المبنية على سوء الظن والتسرع بالاتهام لتبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومحاربة شيوع الفاحشة، وترديد الإشاعات(18/119)
المغرضة التي تهدم صرح الأمة، وتقوّض بنيتها التي ينبغي أن تقوم على الثقة والمحبة، والابتعاد عن وساوس الشيطان.
ثم تحدثت السورة عن باقة من الآداب الاجتماعية في الحياة الخاصة والعامة، وهي الاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وإبداء النساء زينتهن لغير المحارم مما يدل على تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم، وتزويج الأيامى (غير المتزوجين) من الرجال والنساء، والاستعفاف لمن لم يجد مؤن الزواج، من أجل تحقيق الاستقامة على شريعة الله، وصون الأسرة المسلمة، ورعاية حال الشباب والفتيات، والبعد عن الفتنة.
ثم أبانت مزية تشريع الأحكام وأنه نور وهدى، وفضل آيات القرآن، ومزية بيوت الله وهي المساجد، وعدم جدوى أعمال الكفار وتشبيهها بالسراب الخادع أو ظلمات البحار.
وأعقب ذلك تنبيه الناس إلى أدلة وجود الله ووحدانيته في صفحة الكون الأعلى والأسفل من تقليب الليل والنهار وإنزال المطر وخلق السموات والأرض، وخضوع جميع الكائنات الحية لله عز وجل، وطيران الطيور، وخلق الدواب ذات الأنواع العجيبة.
ثم انتقل إلى وصف مواقف المنافقين والمؤمنين الصادقين من حكم الله والرسول بإعراض الأولين وإطاعة الآخرين، ووعده تعالى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض.
ثم عادت الآيات لبيان حكم استئذان الموالي والأطفال في البيوت في أوقات ثلاثة، وحكم رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد، وعن الأقارب والأصدقاء في الأكل من بيوت أقاربهم بلا إذن، واستئذان المؤمنين الرسول صلّى الله عليه وسلم عند(18/120)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
الانصراف، وتفويضه بالإذن لمن شاء، وتعظيم مجلسه ومناداته بأدب جم وحياء وتبجيل يليق به وبرسالته.
ميزة سورة النور
[سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
الإعراب:
سُورَةٌ أَنْزَلْناها سُورَةٌ: خبر مبتدأ محذوف، وأَنْزَلْناها: صفة ل سُورَةٌ وتقديره: هذه سورة منزلة. وقرئ (سورة) بالنصب على تقدير فعل، وأَنْزَلْناها: مفسر له، وتقديره: أنزلنا سورة أنزلناها، أو اتبعوا سورة، أو اتل سورة.
وهذا على رأي الجمهور القائلين: الابتداء بالنكرة لا يجوز، وقال الأخفش: لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة: مبتدأ، وأنزلنا: خبره.
البلاغة:
سُورَةٌ.. التنكير للتفخيم، أي هذه سورة عظيمة الشأن أنزلها الله. وفيه تنبيه على الاعتناء بها، ولا ينفي الاعتناء بما عداها.
أَنْزَلْناها ... وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إطناب لتأكيد العناية بها، وهو ذكر للخاص بعد العام للاهتمام به.
المفردات اللغوية:
سُورَةٌ السورة: طائفة من آيات القرآن، محددة البدء والنهاية شرعا بالتوقيف أي النقل الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم والوحي الإلهي بوساطة جبريل عليه السلام. أَنْزَلْناها أعطيناها الرسول وأوحينا بها إليه، والتعبير بالإنزال الذي هو صعود إلى نزول وإشارة إلى العلو، للدلالة على أن هذا القرآن من عند الله المتعالي على كل شيء، وكل من دونه نازل عنه في المرتبة، فلا يفهم من ذلك أنه تعالى في جهة.(18/121)
وَفَرَضْناها الفرض: التقدير، أو قطع الشيء الصلب، والمراد هنا الإيجاب أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. وقرئ وَفَرَضْناها بالتشديد لكثرة المفروض فيها آياتٍ جمع آية، وهي العلامة، والمراد هنا جملة من القرآن الكريم متصلة الكلام تحقق غرضا معينا.
بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون وتتعظون وتتقون المحارم، ولعل هنا يراد بها الإعداد والتهيئة.
التفسير والبيان:
هذه السورة أوحيناها وأعطيناها الرسول صلّى الله عليه وسلم وفرضنا ما فيها من أحكام كأحكام الزنى والقذف واللعان والحلف على ترك الخير والاستئذان، وغض البصر، وإبداء الزينة للمحارم وغيرهم، وإنكاح الأيامى، واستعفاف من لم يجد نكاحا، ومكاتبة الأرقاء، وإكراه الفتيات على البغاء، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، والسلام على المؤمنين.
وأنزلنا فيها دلائل واضحة، وعلامات بينة على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته تعالى. وتكرار وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لكمال العناية بشأنها، كما هي الحال في ذكر الخاص بعد العام.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن سورة النور متضمنة آيات بينات ترشد إلى النظام الأقوم والسلوك الأمثل في الأسرة والمجتمع، يقصد بها تحقيق العفاف والصون وحماية العرض، واتقاء المحرّمات، وتوفير السكينة والطمأنينة القلبية البعيدة عن الشواغل والهواجس الشيطانية الداعية إلى المعصية والرذيلة.
كما أن في هذه الأحكام تذكيرا وعظة للمؤمنين، وتربية للنفوس، وتحقيقا للتقوى التي يستشعر بها المؤمن التقي جلال الله وعظمته، وعلمه وقدرته،(18/122)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
وحسابه على كل صغيرة وكبيرة، لهذا افتتحت السورة بما ينبه على العناية بها، والاهتمام بأحكامها وهي ما يأتي:
الحكم الأول والثاني حد الزنى وحكم الزناة
[سورة النور (24) : الآيات 2 الى 3]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الإعراب:
الزَّانِيَةُ.. مبتدأ، خبره مقدم محذوف، أي فيما يتلى عليكم الزانية والزاني. أو خبره:
فَاجْلِدُوا والفاء زائدة، فاء الفصيحة، أفصحت عن جواب سائل سمع حكم الزاني، فقال:
فكيف الحكم؟ وصلح هذا الفعل أن يكون خبرا للمبتدأ، وإن كان أمرا، بتقدير: أقول: فاجلدوا، أو يجعله محمولا على المعنى، كأنه يقول: الزانية والزاني كل واحد منهما مستحق للجلد. وأل في الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي موصولة، ونظرا لشبه كل منهما بالشرط دخلت الفاء في الخبر.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحريض وإغراء.
المفردات اللغوية:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أي غير المحصنين، والزنى: مقصور في اللغة الفصحى، وهي لغة الحجازيين، وقد يمدّ في لغة أهل نجد، والزنى من الرجل: وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك. والزنى من المرأة: تمكينها الرجل أن يزني بها. وإنما قدم الزانية لأن الزنى في الأغلب(18/123)
يكون بتعرض المرأة للرجل وعرض نفسها عليه بأساليب متنوعة، ولأن مفسدة الزنى وعاره يصيبها أكثر من الرجل، فهي المادة الأصلية في الزنى.
فَاجْلِدُوا الجلد: ضرب الجلد، وهو حكم البكر غير المحصن، لما ثبت في السنة أن حدّ المحصن هو الرجم. والإحصان: بالحرية والبلوغ والعقل والدخول في نكاح صحيح، وبالإسلام عند الحنفية.
رَأْفَةٌ شفقة وعطف. فِي دِينِ اللَّهِ في حكمه وطاعته. وَلْيَشْهَدْ يحضر عَذابَهُما الجلد. طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة: تطلق على الواحد فأكثر، والمراد هنا جمع يحصل به التشهير، وأقلها ثلاثة. وحضور الطائفة: زيادة في العقاب لأن التشهير قد يؤثر أكثر مما يؤثر التعذيب.
لا يَنْكِحُ يتزوج، أي أن الغالب المناسب لكل من الزانية والزاني نكاح أمثاله، فإن التشابه علة الألفة والتضام، والمخالفة سبب النفرة. وقدم الزاني هنا لأن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة في الزواج بالنساء لأن الرجل أصل فيه لأنه الراغب والطالب. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي حرم نكاح الزواني على المؤمنين الأخيار لأنه تشبه بالفساق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.
سبب النزول: نزول الآية (3) :
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً:
أخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول (أو أم مهدون) وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنزل الله: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد، يحمل من الأنبار إلى مكة حتى يأتيهم، وكانت امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق، فاستأذن النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينكحها، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ(18/124)
مُشْرِكَةً
الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا مرثد: «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة» الآية، فلا تنكحها.
وقال المفسرون: الآية إما أنها نزلت في مرثد بن أبي مرثد المذكور، وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبي صلّى الله عليه وسلم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء اللائي كن بالمدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وظاهر الآية تحريم العفيفة على الزاني، والزانية على العفيف.
التفسير والبيان:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ: هذه الآية شروع في بيان الأحكام التي أشير إليها في الآية السابقة: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها، وهي تبين حد الزناة.
والمعنى أن عقوبة الزانية والزاني الحرين البالغين العاقلين البكرين غير المحصنين بالزواج هي الجلد لكل منهما مائة جلدة. والحكمة في البدء في حد الزنى بالمرأة وفي حد السرقة بالرجل لأن دواعي الزنى تحدث غالبا من المرأة، وعاره عليها أشد، وأثره فيها أدوم، وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال، وهم عليها أجرأ من النساء وأخطر، فقدموا عليهن.
وظاهر الآية أن حد الزناة مطلقا هو الجلد مائة، لكن ثبت في السنة القطعية المتواترة التفريق بين حد المحصن وغير المحصن، أما حد المحصن فهو الرجم بالحجارة حتى الموت، بالسنة القولية والفعلية
أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» .
وأخرج أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه، ومالك في الموطإ وأحمد في مسنده عن أبي هريرة(18/125)
وزيد بن خالد الجهني أن أعرابيين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أحدهما:
يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا- أجيرا- على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمئة شاة ووليدة- أمة- فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا: الرجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة، وتغريب عام، واغد يا أنيس- رجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها.
وروى جماعة من الصحابة في الصحاح وغيرها بالنقل المتواتر أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنى أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو في المسجد أربع مرات، فأمر الرسول برجمه.
وروى مسلم وأحمد وأبو داود عن بريدة أن امرأة من بني غامد أقرت بالزنى، فرجمها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وضعت.
وأنكر الخوارج مشروعية حد الرجم لأنه لا يتنصف، فلا يصح أن يكون حدا للمحصنات من الحرائر، والله تعالى جعل حد الإماء نصف حد المحصنات الحرائر في قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء 4/ 25] ، ولأن الرجم لم يذكر في القرآن في حد الزنى، ولأن آية الجلد عامة لكل الزناة، فلا تخصص بخبر الواحد المروي في حد الرجم.
ورد الجمهور على تلك الأدلة بأن التنصيف وارد في الجلد، فبقي ما عداه وهو الرجم على عمومه، وبأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح، فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول آية الجلد، وأما تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهو جائز عندنا، بل إن أحاديث الرجم ثابتة بالتواتر المعنوي، والآحاد في تفاصيل الصور والخصوصيات.(18/126)
وشروط الإحصان: البلوغ والعقل والحرية والدخول في زواج صحيح، وأضاف أبو حنيفة ومالك شرط الإسلام، فلا يرجم الذمي، ورد عليهما بأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر برجم يهوديين.
وأما حد غير المحسن وهو البكر: فليس الجلد مائة جلدة فقط، وإنما يضم إليه تغريب (نفي) سنة، بدليل ما ثبت في السنة، ومنها قصة العسيف المتقدمة: «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» ومنها
ما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرّجم»
إلا أن جلد الثيب لم يستقر عليه التشريع المعمول به في السنة النبوية، وأصبح المطبق هو الرجم فقط، كما تقدم.
والقول بالتغريب هو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: ليس التغريب من الحد، وإنما هو تعزير مفوض إلى رأي الإمام وحكمه. وما يزال الظاهرية يقولون بوجوب جلد الثيب ورجمه، أخذا بحديث عبادة السابق.
وعموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يشمل المسلم والكافر، غير أن الحربي لا يحد حد الزنى لأنه لم يلتزم أحكامنا، وأما الذمي فيجلد في رأي الجمهور، وروي عن مالك رحمه الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى.
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ أي لا يحملنكم العطف والشفقة على ترك حد الزناة، فهو حكم الله تعالى، ولا يجوز تعطيل حدود الله، والواجب التزام النص، والغيرة على حرمات الله، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها: «والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي فأقيموا الحدود على من زنى،(18/127)
وشددوا عليه الضرب غير المبرح ليرتدع هو وأمثاله، إن كنتم تصدقون بالله وبالآخرة التي يجري فيها الحساب والجزاء. وهذا ترغيب شديد وحض أكيد وإلهاب على تطبيق وتنفيذ حدود الله. وفي ذكر اليوم الآخر تذكير للمؤمنين بما فيه من العقاب تأثرا بعاطفة اللين في استيفاء الحد،
جاء في الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا، فيقال له: لم فعلت ذلك؟ فيقول: يا ربّ رحمة بعبادك فيقول له: أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به في النار» .
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولتكن إقامة الحد علانية، أمام فئة من المسلمين، زيادة في التنكيل للزانيين، فإنهما إذا جلدا بحضرة الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، وأكثر تقريعا وتوبيخا وتأنيبا لهما.
والطائفة: أقلها واحد، وقيل: اثنان فأكثر، وقيل: ثلاثة نفر فصاعدا، وقيل: أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي في شهادة الزنى إلا أربعة فأكثر، وقيل: خمسة، وقيل: عشرة فصاعدا.
وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي نفر من المسلمين، ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا. وهذا أولى الآراء في تقديري.
ويثبت الزنى بأحد أمور ثلاثة:
1- الإقرار أو الاعتراف: وهذا هو الواقع فعلا في عهود الإسلام.
2- البينة أو الشهادة: أي شهادة أربعة رجال أحرار عدول مسلمين على التلبس بالزنى فعلا، ورؤية ذلك بالعين المجردة، وهذا نادر جدا لم يحصل إلا قليلا.
3- الحبل عند المرأة بلا زوج معروف لها.(18/128)
وحكمة حد الزنى:
الحفاظ على الأعراض والحقوق، ومنع اختلاط الأنساب، وتحقيق العفاف والصون، وطهر المجتمع، والحيلولة دون ظهور اللقطاء في الشوارع، وانتشار الأمراض الجنسية الخطيرة، كالزّهري والسيلان، وتكريم المرأة نفسها، وعدم إهدار مستقبلها.
روي عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» .
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.. الآية: هذا خبر خرج مخرج الغالب فلا يقصد به التحريم الاصطلاحي، وإنما التنزه والابتعاد والترفع، والمعنى: أن الشأن في الزاني الفاسق الفاجر ألا يرغب إلا في نكاح أمثاله من النساء الزانيات الفاسقات، فهو عادة لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يميل إلى الزواج بالفاسقة الخبيثة أو المشركة مثلها التي لا تهتم عادة لحرمة العرض، ولا تأبه بشأن التعفف.
وكذلك الشأن في الزانية الخبيثة لا يرغب فيها غالبا إلا زان خبيث مثلها أو مشرك لا يتعفف عادة.
وبدئ بالزاني هنا، وبالزانية في الآية السابقة لأن هذه الآية تتحدث عن النكاح وإبداء الرغبة فيه بالخطبة، والعادة أن ذلك يكون من الرجل، لا من المرأة، أما أكثر دواعي الزنى فتكون من المرأة فبدئ بها كما بينا، فهي المادة في الزنى، وأما في النكاح فالرجل هو الأصل لأنه الراغب والطالب عادة.(18/129)
وليس معنى الجملتين في الآية هنا واحدا، فإن الجملة الأولى تصف الزاني بأنه لا يرغب في العفيفات المؤمنات، وإنما يميل إلى الزانية والمشركة، والجملة الثانية تصف الزانية بأنه لا يرغب فيها المؤمنون الأعفاء، وإنما يميل إليها الفجار والمشركون، فكان المعنى مختلفا إذ لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في مثله أن الزانية لا يرغب فيها غير أمثالها، وكانت الآية موضحة وجود التلاؤم والانسجام والتفاهم والاقتران من كلا الطرفين: الرجل والمرأة. وقد سمعنا كثيرا اليوم أن الممثلين والممثّلات ونحوهم من أهل الفن لا يتزوج الواحد منهم أو الواحدة إلا بمحترف فنا مماثلا لأن عنصر الغيرة في زعمهم يجب أن يرتفع، ليستمر الفريقان في عملهما، وإلا تعرض الزواج للهدم والفسخ والزوال، فكما لا يألف العفيف ولا يقبل غير العفائف، كذلك لا تقبل العفيفة الشريفة بحال إسفاف زوجها وتبذّله، واختراقه حدود الصون والعفة، ولربما كانت المرأة أشد غيظا وغضبا وتحرقا من الرجل في هذا، وقد يكون العكس، والمعول عليه وجود الدين والخلق والإحساس المرهف وتوافر الغيرة الدينية على الحرمات والأعراض، والبعد عن جعل العلاقة بين الرجل والمرأة مجرد علاقة مادية شهوانية، كما هو الشائع اليوم لدى الماديين الملحدين الذين رفعوا مسألة العرض من قاموس الأخلاق والقيم، سواء في الشرق أو الغرب.
وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي حرّم التزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار على المؤمنين الأتقياء، والمراد بالتحريم التنزه والتعفف مبالغة في التنفير لأنه تشبّه بالفسّاق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد.
وهذا رأي الجمهور كأبي بكر وعمر وجماعة من التابعين وفقهاء الأمصار جميعا، فيجوز نكاح الزانية، والزنى لا يوجب تحريمها على الزوج، ولا يوجب الفرقة بينهما، ويؤيدهم
ما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة(18/130)
قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة، وأراد أن يتزوجها، فقال: أوله سفاح، وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال» .
وما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا تمنع يد لامس! قال صلّى الله عليه وسلم: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال:
فاستمتع بها.
وهو دليل على جواز نكاح الزانية، وعلى أن الزوجة إذا زنت لا ينفسخ نكاحها.
وقوله: «لا تمنع يد لامس»
معناه الزانية، وأنها مطاوعة من راودها، لا ترد يده. وقوله: «غرّبها» أي أبعدها بالطلاق، وهذا دليل آخر على جواز نكاح الفاجرة.
وقوله: «فاستمتع بها»
أن لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها، والاستمتاع بالشيء: الانتفاع به إلى مدة، ومنه سمي نكاح المتعة، ومنه آية: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ [غافر 40/ 39] .
وأما حكم الحرمة في الآية فمخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخ بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور 24/ 32] فإنه يتناول المسافحات.
وقال جماعة من السلف (علي وعائشة والبراء، وابن مسعود في رواية عنه) : إن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها
،
وقال علي: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته
وكذلك هي إذا زنت. ودليلهم أن الحرمة في الآية على ظاهرها، والخبر في قوله الزَّانِي لا يَنْكِحُ.. بمعنى النهي، وأحاديث منها
ما رواه أبو داود عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ديّوث»
ومنها
ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة:
العاقّ لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والدّيّوث، وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنّان بما أعطى» .(18/131)
وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك، حتى تستتاب، فإن تابت، صح العقد عليها، وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهذه الآية كقوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء 4/ 25] وقوله سبحانه: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ [المائدة 5/ 5] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على الأحكام التالية:
1- تحريم الزنى:
الزنى من الكبائر لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الفرقان 25/ 68] . ولأن الله سبحانه أوجب الحد فيه وهو مائة جلدة، وشرع فيه الرجم. ونهى المؤمنين عن الرأفة، وأمر بإشهاد الطائفة المؤمنة للتشهير، ولحديث حذيفة المتقدم: «يا معشر الناس، اتقوا الزنى، فإن فيه ست خصال..»
والزنى: وطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها، أو هو إيلاج (إدخال) فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا. فإذا كان ذلك وجب الحد.
أما اللواط: فحكمه عند الشافعي في الأصح ومالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد حكم الزنى، فيكون اللائط زانيا، فيدخل في عموم الآية، ويحد حد الزنى عند الشافعي بدليل
ما روى البيهقي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال:(18/132)
«إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان»
وحده عند المالكية والحنابلة: الرجم، ويرى بعض الحنابلة أن الحد في اللواط القتل، إما برميه من شاهق، وإما بهدم حائط عليه، وإما برميه بالحجارة.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يعزر اللوطي فقط، ولا يحد إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنى، ولا يتعلق به المهر، فلا يتعلق به الحد، ولأنه صلّى الله عليه وسلم أباح قتل المسلم بإحدى ثلاث: زنى المحصن، وقتل النفس بغير حق، والردة. ولم يذكر فاعل اللواط لأنه لا يسمى زانيا، ولم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء.
واتفق الفقهاء على أن السحاق والاستمناء باليد يشرع فيه التعزير والتأديب والتوبيخ.
وأما إتيان البهائم: فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على تعزير فاعله بما يراه الحاكم رادعا له لأن الطبع السليم يأبى ذلك، وفي سنن النسائي عن ابن عباس:
«ليس على الذي يأتي البهيمة حد» وهذا موقوف له حكم المرفوع.
وأما إتيان الميتة: ففيه عند الجمهور غير المالكية التعزير لأن هذا ينفر الطبع منه، فلا يحتاج إلى حد زاجر، وإنما يكفي فيه التأديب.
وأوجب المالكية فيه الحد لأنه وطء في فرج آدمية، فأشبه وطء المرأة الحية. والخلاصة: أن كل فعل من هذه الأفعال حرام منكر، يجب اجتنابه.
2- وجوب الحد في الزنى:
وهذا هو الذي استقر عليه التشريع، وكانت عقوبته في مبدأ الإسلام حبس المرأة، وتعيير الرجل وإيذاءه بالقول: لقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ(18/133)
سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً
[النساء 4/ 15- 16] .
ثم نسخ ذلك، بدليل
ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه من الحديث المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيّب بالثيب جلد مائة والرجم» .
وحد الزنى نوعان: حد الثيب (المتزوج) وحد البكر (غير المتزوج) .
أ- أما حد الثيب: فهو باتفاق جماهير العلماء الرجم فقط، للأحاديث المتقدمة القولية والفعلية الدالة على مشروعيته، والتي بلغت مبلغ التواتر، فيخصص بها عموم القرآن، كما أنه في رأي الجمهور يخصص القرآن بخبر الواحد.
وفي رأي الظاهرية وإسحاق وأحمد في رواية عنه: الجلد والرجم، عملا بظاهر حديث عبادة المتقدم.
ويرى الخوارج أن حد الثيب هو جلد مائة فقط، وأما الرجم فهو غير مشروع، للأدلة السابقة الثلاثة، والتي أجيب عنها.
واتفق الفقهاء على أن حد الثيب من الأرقاء هو الجلد فقط كحد البكر، وأنه لا رجم في الأرقاء.
ب- وأما حد البكر: فهو في رأي الحنفية الجلد مائة فقط، دون تغريب، عملا بصريح الآية، ولا يزاد عليها شيء بخبر الواحد، وأما التغريب فهو مفوض إلى رأي الإمام حسبما يرى من المصلحة في ذلك.
وهو في رأي الجمهور: الجلد مائة ونفي عام، فيغرب في رأي الشافعية والحنابلة إلى بلد آخر بعيد عن بلده بمقدار مسافة القصر (89 كم)
لحديث عبادة(18/134)
المتقدم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» .
ويسجن الرجل عند المالكية في البلد التي غرب إليها. ولا تغرب المرأة باتفاق هؤلاء خشية الزنى بها مرة أخرى.
وأما الذمي المحصن: فحده في رأي الحنفية والمالكية الجلد لا الرجم،
لما رواه إسحاق بن راهويه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن»
وهذا قول يرجح على الفعل الثابت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين، وبالقياس على إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع، فيكون إحصان الرجم مثله، لكمال النعمة في الحالين.
وحده في رأي الشافعي وأحمد وأبي يوسف: الرجم إذا ترافع إلينا لما
ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا، فأمر برجمهما،
ولأن الكافر كالمسلم يحتاج إذا زنى إلى الردع، ولأن الكفار الذميين ملتزمون بأحكام شريعتنا. أما
حديث «من أشرك بالله فليس بمحصن»
فلا ينطبق على الذمي لأنه في مصطلحنا لا يسمى مشركا. وأما القياس على حد القذف وأنه لا حد على من قذف كافرا فهو قياس مع الفارق لأن الشرع أوجب هذا الحد تكريما للمسلم ورفعا للعار عنه، وغير المسلم لا حاجة له لذلك، لتساهله عادة.
3- صاحب الولاية في إقامة الحد:
إن المطالب بتطبيق الحد هو الإمام الحاكم أو نائبه باتفاق العلماء لأن الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأولياء الأمر من الحكام لأن هذا حكم يتعلق بإصلاح الناس جميعا، وذلك منوط بالإمام، وإقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، والإمام ينوب عنهم فيها إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود، ومنعا للفوضى، والعودة إلى عادة الجاهلية في الأخذ بالثأر.
وأضاف الإمامان مالك والشافعي: السادة في شأن العبيد، لكن عند مالك(18/135)
في الجلد دون القطع، وعند الشافعي في قول: في كل جلد وقطع. ودليلهما
ما أخرجه الستة غير السنائي من قوله صلّى الله عليه وسلم في الأمة: «إن زنت فاجلدوها» .
وما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم، من أحصن ومن لم يحصن» .
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه.
وقال الحنفية: لا يملك السيد أن يقيم حدا ما، للآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ... والخطاب بلا شك للأئمة دون سائر الناس، ولم يفرق في المحدودين بين الأحرار والعبيد. وأما الأحاديث فيراد بها رفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليقيموا الحد عليهم، وفعل ابن عمر رأي له لا يعارض الآية. والجلاد يكون من خيار الناس وفضلائهم، حسبما يختار الإمام.
4- أداة الجلد:
أجمع العلماء على
أن الجلد يجب بالسوط الذي لا ثمرة له، وهو الوسط بين السوطين، لا شديد ولا ليّن، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال مالك والشافعي: الضرب في الحدود كلها سواء، ضرب غير مبرّح (غير شديد) . ضرب بين ضربين لأنه لم يرد شيء في تخفيف الضرب ولا تثقيله.
وقال الحنفية: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف، احتجاجا بفعل عمر الذي خفف في ضرب الشارب.
5- صفة الجلد وطريقة الضرب ومكانه عند الجمهور:
أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يقطع (يبضع) ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، عملا بقول عمر الذي أتى بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، ولأن قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ معناه النهي عن التخفيف في الجلد.(18/136)
ومواضع الضرب في الحدود والتعزير: ظهر الإنسان في رأي مالك
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: «البينة وإلا حدّ في ظهرك»
وسائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج والرأس في رأي الجمهور.
وكيفية ضرب الرجال والنساء مختلف فيها، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يجزي عنده إلا في الظهر، وقال الحنفية والشافعية: يجلد الرجل وهو واقف، والمرأة وهي قاعدة، عملا بقول علي رضي الله عنه.
وتجريد المجلود في الزنى مختلف فيه أيضا، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما:
يجرّد ما عدا ما بين السرة والركبة لأن الأمر بالجلد يقتضي مباشرة جسمه، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الإمام مخير، إن شاء جرّد وإن شاء ترك.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه لا يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو والحشو، فإنه ينزع عنه، فإنه لو ترك عليه ذلك، لم يبال بالضرب، عملا بقول ابن مسعود: «ليس في هذه الأمة مدّ ولا تجريد» .
6- الشفاعة في الحدود:
يراد بآية وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه، وهو دليل على تحريم الشفاعة في إسقاط حد الزنى لأنها تعطيل لإقامة حد الله تعالى، وكذلك تحرم الشفاعة في سائر الحدود، لما
أخرجه الخمسة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد حين تشفع في فاطمة بنت الأسود المخزومية التي سرقت قطيفة وحليا: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .(18/137)
وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادّ الله عز وجل» .
كذلك يحرم على الإمام الحاكم قبول الشفاعة في الحدود، لما أخرجه مالك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: «أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا بلغ السلطان، لعن الشافع والمشفع» .
7- الترغيب في إقامة الحدود:
دل قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الحث على إقامة الحد، وامتثال أمر الله تعالى وتنفيذ أحكامه على النحو الذي شرعها.
8- حضور إقامة الحد:
دل ظاهر قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين، للتنكيل والعبرة والعظة، لكن الفقهاء اختلفوا في ذلك:
فقال الحنفية والحنابلة: ينبغي أن تقام الحدود كلها في ملأ من الناس لأن المقصود من الحد هو زجر الناس. والطائفة في قول أحمد والنخعي: واحد.
وقال المالكية والشافعية: يستحب حضور جماعة، وهما اثنان في القول المشهور لمالك، وأربعة على الأقل في رأي الشافعية وفي قول مالك والليث.
9- حكمة الحد:
إن الحد عقوبة تجمع بين الإيلام الخفيف والاستصلاح، أما الإيلام فلقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما فسميت العقوبة عذابا، ويراد من هذه العقوبة أيضا الزجر والإصلاح لأنه يمكن أن يراد من العذاب: ما يمنع المعاودة كالنكال، فيكون الغرض منه الاستصلاح.(18/138)
10- هل الآية منسوخة؟
إن آية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ...
منسوخة في رأي أكثر العلماء بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور 24/ 32] لذا قال الحنفية: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وقال غير الحنفية أيضا: إن التزوج بالزانية صحيح، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته.
وروي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه، فجلدهما مائة جلدة، ثم زوّج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة، وهذا ما يحدث الآن في المحاكم الشرعية. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم.
وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط (بستان) ثمرة، ثم أتى صاحب البستان، فاشترى منه ثمره، فما سرق حرام، وما اشترى حلال.
وقال بعض العلماء المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وبناء عليه قالوا من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال بعض هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية، ولا من الزاني، بل إذا ظهرت التوبة يجوز النكاح حينئذ. وأدلتهم تقدم ذكرها.
11- عموم التحريم:
حرم الله تعالى الزنى في كتابه، سواء في أي مكان في العالم، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد، وهذا قول الجمهور (مالك والشافعي وأبي ثور وأحمد) قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحدّ، على ظاهر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
وقال الحنفية في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك، ثم(18/139)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
خرج إلى دار الإسلام، لم يحدّ لأن الزنى وقع في مكان لا سلطان للإمام المسلم عليه، لكن يكون زناه حراما وإن لم يجب عليه الحد، وعليه التوبة من الحرام.
الحكم الثالث حد القذف
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الإعراب:
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ثَمانِينَ منصوب على المصدر، وجَلْدَةٍ تمييز منصوب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا الَّذِينَ إما منصوب على الاستثناء، كأنه قال: إلا التائبين، وإما مرفوع على الابتداء، وخبره فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإما مجرور على البدل من الهاء والميم في لَهُمْ.
البلاغة:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ استعارة، أستعير لفظ الرمي (وهو الإلقاء بالحجارة ونحوها) لشيء معنوي وهو القذف باللسان، بجامع الأذى في كل منهما.
غَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقذفون العفائف الحرائر البالغات العاقلات المسلمات، ولا فرق بين الذكر والأنثى، وتخصيص المحصنات مراعاة للواقعة، أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع، والرمي: الإلقاء بشيء يضر أو يؤذي، أستعير للسب بالزنى لما فيه من الأذى والضرر، أما القذف بغير الزنى مثل يا فاسق، يا شارب الخمر فيوجب التعزير ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لإثبات زناهن برؤيتهم، وهو جمع شهيد، وهو الشاهد، وسمي بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم وأمانة.(18/140)
ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة عند الشافعية، وتعتبر عند أبي حنيفة فَاجْلِدُوهُمْ اجلدوا كل واحد منهم وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي تسقط عدالتهم، فلا تقبل لهم أي شهادة كانت بعدئذ لأنه مفتر. ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد عند الشافعية لترتب الجزاءين على القذف على السواء جوابا للشرط، دون ترتيب بينهما، فيحصلان دفعة واحدة، ويتوقف عدم قبول شهادته عند أبي حنيفة على استيفاء الحد. وقوله: أَبَداً أي ما لم يتب، وعند أبي حنيفة: إلى آخر عمره وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ المحكوم بفسقهم لإتيانهم كبيرة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عن القذف وَأَصْلَحُوا أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد، أو طلب العفو (الاستحلال) من المقذوف. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم قذفهم رَحِيمٌ بهم بإلهامهم التوبة. وبالتوبة ينتهي فسقهم وتقبل شهادتهم عند الشافعية، ولا تقبل عند الحنفية لأن الاستثناء يكون راجعا إلى الجملة الثالثة وهي: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في رأيهم، وإلى أصل الحكم وجميع الجمل في رأي الشافعية، لكن تستثنى الجملة الأولى، فلا يسقط الحد بالتوبة بالاتفاق، حفاظا على حق العبد، ويبقى الاستثناء في ظاهره عائدا إلى رد الشهادة والتفسيق.
المناسبة:
بعد التنفير من نكاح الزانيات وإنكاح الزناة، نهى الله تعالى عن القذف وهو الرمي بالزنى، وذكر حده في الدنيا وهو الجلد ثمانين، وعقوبته في الآخرة وهو العذاب المؤلم ما لم يتب القاذف.
ودلت القرائن على أن المراد الرمي بالزنى بإجماع العلماء لتقدم الكلام عن الزنى، ووصف النساء بالمحصنات وهن العفائف عن الزنى، ولاشتراط إثبات التهمة بأربعة شهود، ولا يطلب هذا العدد إلا في الزنى، ولانعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنى، كالرمي بالسرقة وشرب الخمر والكفر، فمجموع هذه القرائن الأربع يجعل المراد هو الرمي بالزنى.
التفسير والبيان:
هذه الآية تبين حكم قذف المحصنة وهي الحرة البالغة العاقلة العفيفة، يجلد قاذفها ثمانين جلدة، وكذلك يجلد قاذف الرجل العفيف اتفاقا، وقذف الرجل(18/141)
داخل في حكم الآية بالمعنى، كدخول تحريم شحم الخنزير في تحريم لحمه. وذكر النساء، لأن رميهن بالفاحشة أشنع، والزنى منهن أقبح، أما السرقة فالرجل عليها أجرأ وأقدر، فبدأ به في آية حد السرقة.
وفي التعبير بالإحصان إشارة إلى أن قذف العفيف رجلا أو امرأة موجب لحد القذف، أما المعروف بفجوره فلا حد على قاذفه، إذ لا كرامة للفاسق.
والمعنى: إن الذين يسبّون النساء العفيفات الحرائر المسلمات برميهن بالزنى، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة بأربعة شهود رأوهن متلبّسات بالزنى، أي لم يقيموا البينة على صحة القذف الذي قالوه، لهم ثلاثة أحكام:
الأول- أن يجلد القاذف ثمانين جلدة. والجلد: الضرب.
الثاني- أن ترد شهادته أبدا، فلا تقبل في أي أمر مدة العمر.
الثالث- أن يصير فاسقا ليس بعدل، لا عند الله ولا عند الناس، سواء كان كاذبا في قذفه أو صادقا. والفسق: الخروج عن طاعة الله تعالى، وهذا دليل على أن القذف كبيرة من الكبائر، لما يترتب عليه من التشنيع وهتك حرمة المؤمنات. لكن شرط القاذف الذي نصت عليه الآية: عجزه عن الإتيان بأربعة شهود، وتقضي قواعد الشرع أن يكون من أهل التكليف: وهو البالغ العاقل المختار، العالم بالتحريم حقيقة، أو حكما كمن أسلم حديثا ومضت عليه مدة يتمكن فيها من معرفة أحكام الشرع.
وشرط المقذوف المرمي بنص الآية: أن يكون محصنا: وهو المكلف (البالغ العاقل) الحر، المسلم، العفيف عن الزنى. فشرائط إحصان القذف خمسة: هي البلوغ والعقل باعتبارهما من لوازم العفة عن الزنى، والحرية لأنها من معاني الإحصان، والإسلام،
لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: «من(18/142)
أشرك بالله فليس بمحصن»
والعفة عن الزنى، فلا يعتبر كل من المجنون والصبي والعبد والكافر والزاني محصنا، فلا يحد قاذفهم، لكن يعزر للإيذاء. ويلاحظ أن ظاهر الآية يتناول جميع العفائف، سواء كانت مسلمة أو كافرة، وسواء كانت حرة أو رقيقة، إلا أن الفقهاء قالوا شرائط الإحصان في القذف خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة عن الزنى. وإنما اعتبرنا الإسلام للحديث المتقدم، واعتبرنا العقل والبلوغ
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة: «رفع القلم عن ثلاثة»
ومنهم الصبي والمجنون، واعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة، فلا يعظم عليه التعيير بالزنى، واعتبرنا العفة عن الزنى لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانيا، فالقاذف صادق في القذف، فلا يحد، وكذلك إذا كان المقذوف وطئ امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لأن فيه شبهة الزنى.
وإذا كان العبد أو الكافر عفيفا عن الزنى، فيصبح محصنا من وجه، وغير محصن من وجه آخر، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه.
وكان ينبغي جعل التزوج من صفات الإحصان، إلا أن العلماء أجمعوا على عدم اعتباره هنا، وهو كون المرمي زوجة أو زوجا، بدليل الآيات التالية في اللعان، فتكون آية اللعان مخصصة لعموم الموصول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ.
وظاهر الآية: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يدل على أنه يشترط لتحقق القذف الموجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، وتاء بِأَرْبَعَةِ تفيد في ظاهرها اعتبار كونهم من الرجال، ويؤكد ذلك أنه لا تعتبر شهادة النساء في الحدود اتفاقا.
ولم تشترط الآية أكثر من كون الرجال الأربعة أهلا للشهادة، لكن العلماء(18/143)
اختلفوا في اشتراط كون الشاهد عدلا، فقال الشافعية: تشترط عدالة الشاهد، وقال الحنفية: لا تشترط عدالة الشاهد. فإذا شهد أربعة فساق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كالقاذف، ولا يحدون عند الحنفية، ويدرأ الحد عن القاذف لأنه تثبت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذا عن المقذوف.
وظاهر عموم الآية أنه يكفي أن يكون زوج المقذوفة أحد الشهود الأربعة، وقد أخذ الحنفية بهذا الظاهر، وقال مالك والشافعي: لا يعتبر الزوج أحد الشهود، ويلاعن الزوج ويحد الشهود الثلاثة الآخرون لأن الشهادة بالزنى قذف، ولم يكتمل نصاب الشهادة المطلوب.
وظاهر إطلاق الآية أنه يصح مجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين، وبه أخذ المالكية والشافعية، وذلك كالشهادة في سائر الأحكام. وقال أبو حنفية: لا تقبل شهادتهم إلا إذا كانوا مجتمعين غير متفرقين، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا، ولم يأت بأربعة شهداء، فوجب عليه الحد، ولم يعد صالحا للشهادة. ونقل ذلك أيضا عن مالك.
وظاهر الآية أيضا أن القاذف يجلد إذا أتى بشاهدين أو ثلاثة فقط، وكذلك يجلد هؤلاء الشهود إذا لم يكملوا النصاب، بدليل فعل عمر الذي أمر بجلد ثلاثة شهود وهم شبل بن معبد وأبو بكرة (نفيع بن الحارث) وأخوه نافع شهدوا بالزنى على المغيرة بن شعبة، وأما رابعهم زياد فلم يجزم بحدوث حقيقة الزنى.
والخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً هم أولياء الأمر الحكام، وظاهر هذا العموم يشمل الحر والرقيق، فحدهما ثمانون جلدة، وبه أخذ ابن مسعود والأوزاعي والشيعة، وأجمع بقية الفقهاء على أن حد الرقيق في القذف النصف وهو أربعون جلدة. ودل هذا الظاهر أيضا أن الحاكم يقيم الحد ولو من غير طلب المقذوف، وبه أخذ ابن أبي ليلى، وقال الجمهور: لا يحد إلا بمطالبة(18/144)
المقذوف، وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف، حدّه ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول. والخلاصة: أن الإمام لا يقيم حد القذف إلا بمطالبة المقذوف في المذاهب الأربعة.
وفي إقامة حد القذف: مراعاة لحق الله تعالى في حماية الأعراض، ولحق العبد الذي انتهكت حرمته، لكن اختلف الفقهاء في المغلّب في هذا الحد:
فقال الشافعية: يغلّب حق العبد باعتبار حاجته، وغنى الله عز وجل.
وذهب الحنفية إلى تغليب حق الله تعالى لأن استيفاءه يحقق مصلحة العبد أيضا. وتظهر ثمرة الخلاف في أمثلة منها:
أ- إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فيسقط عند الحنفية تغليبا لحق الله تعالى، وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يتولى ورثته المطالبة به تغليبا لحق العبد.
ب- وإذا قذف شخص جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، فالحنفية يقولون بتداخل الحد، ويكفي للجميع حد واحد، تغليبا لحق الله تعالى كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر، ولا يتداخل الحد عند الشافعية، وعليه لكل واحد حد تغليبا لحق العباد.
ج- وإذا عفا المقذوف عن الحد، يسقط عند الشافعية تغليبا لحق العبد، ولا يسقط عند الحنفية بعد طلب إقامته.
وبما أن مجموع العقوبات الثلاث مرتب على القذف بالعطف بالواو، فترد شهادة القاذف ولو قبل جلده في رأي الشافعي، ولا ترد شهادته إلا بعد جلده في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب، لكن المراد الترتيب
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو مرفوعا: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في فرية»
أي قذف، ورواه الدارقطني عن عمر في كتابه إلى أبي موسى.(18/145)
ورد شهادة القاذف عام يشمل ما إذا كانت الشهادة واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، ويشمل شهادة من قذف وهو كافر ثم أسلم، إلا أن الحنفية استثنوا الكافر إذا حد في القذف ثم أسلم، فإن شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة، لاستفادته بالإسلام عدالة جديدة.
ورد شهادة القاذف هي من تمام الحد في رأي الحنفية، عملا بظاهر الآية التي رتب الله فيها على القذف عقوبتين، فكان الظاهر أن مجموعهما حد القذف. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد لأن الحد عقوبة بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، ولأن
قول النبي صلّى الله عليه وسلم لهلال بن أمية فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: «البينة أو حد في ظهرك»
يدل على أن الجلد هو تمام الحد.
ويلزم على قول الحنفية أن الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، أما الآخرون فلا يرون توقف رد الشهادة على طلب المقذوف.
ثم استثنى الله تعالى حال التوبة فقال:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إلا الذين رجعوا عن قولهم وندموا على فعلهم، وأصلحوا حالهم وأعمالهم، فلم يعودوا إلى قذف المحصنات، قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة، فإن الله غفور ستار لذنوبهم، رحيم بهم، فيقبل توبتهم، ويرفع عنهم صفة الفسق التي وسموا بها.
قال الشافعي: توبة القاذف: إكذابه نفسه، والمعنى كما فسره الاصطخري من أصحاب الشافعي: أن يقول: كذبت فيما قلت، فلا أعود لمثله، وفسره أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا يقول: كذبت لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: (كذبت) كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على(18/146)
ما قلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه. ورجح أبو الحسن اللخمي أن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف.
وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، تكون بينه وبين ربه، ومضمونها الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود.
وقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائما، وإن تاب وأصلح، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة أو إلى الكل؟
يلاحظ كما ذكرنا أن الآية ذكرت ثلاثة أحكام بثلاث جمل متعاطفة بالواو، معقبة بالاستثناء، فاتفق العلماء على أن الاستثناء لا يرجع هنا إلى الجملة الأولى، فلا يسقط الحد بتوبة القاذف، للمحافظة على حق العبد وهو المقذوف.
وانحصر الخلاف في عود الاستثناء إلى الجملتين الثانية والثالثة، أي رد الشهادة والفسق، فقال الحنفية: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدا لأن قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، لدفع توهم أن القذف لا يكون سببا لثبوت صفة الفسق بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة، توجه الاستثناء إليها وحدها.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : يعود الاستثناء إلى كلتا الجملتين الثانية والثالثة لأن جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عما قبلها لأنها ليست من تتمة الحد، وجملة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تبين علة رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق الذي هو علة بالتوبة، ارتفع المعلول الذي هو رد الشهادة، فهذه الجملة تعليل، لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟.(18/147)
ولا يثور هذا الخلاف بين الفريقين إذا قامت قرينة أو دليل على أن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل كلها، كما في المثالين الآتين:
الأول- قوله تعالى في دية القتل الخطأ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء 4/ 92] فيه قرينة تدل على أن الاستثناء عائد إلى الدية لا إلى تحرير الرقبة لأن التحرير حق الله تعالى، وتصدق الولي لا يسقط حق الله تعالى.
الثاني- قوله تعالى في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة 5/ 34] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإن التقييد في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، وهي قوله سبحانه: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لأن التوبة تسقط العذاب الأخروي، سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن لهذا التقييد فائدة إلا سقوط الحد، فهذا الاستثناء راجع إلى الجميع بالاتفاق.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- أرشدت الآية إلى وجوب حد القاذف ثمانين جلدة إذا عجز عن إثبات تهمته بأربعة شهود، وإلى الحكم برد شهادته، وصيرورته فاسقا، إلا إذا تاب فتقبل شهادته وترتفع صفة الفسق عنه في رأي الجمهور، وتزول عنه صفة الفسق فقط بالتوبة في مذهب الحنفية، ويظل مردود الشهادة أبدا وإن تاب.
2- وللقذف شروط تسعة عند العلماء: شرطان في القاذف: وهما العقل والبلوغ لأنهما أصلا التكليف.
وشرطان في المقذوف به: وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد: وهو عند الجمهور غير الحنفية: الزنى واللواط، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي.(18/148)
وخمسة شروط في المقذوف: وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها.
3- واتفق العلماء على أن القذف بصريح الزنى يوجب الحد، أما القذف بالتعريض والكناية، مثل ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فقال مالك: هو قذف.
وقال الشافعي: هو قذف إن نوى وفسره به فقال: أردت به القذف. وقال أبو حنيفة: ليس ذلك قذفا، لما فيه من شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
4- وذهب الجمهور إلى أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم، ولكنه يعزر، وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم.
5- وإذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك وقال الآخرون من الأئمة: ليس بقذف لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزّر.
6- وأما شرط أداء الشهادة وهو كون ذلك في مجلس واحد ففيه رأيان للعلماء كما تقدم: رأي يشترط اجتماع الشهود في مجلس واحد، ورأي لا يشترط ذلك، ويصح أداؤهم الشهادة متفرقين.
7- إن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقال الجمهور:
يغرم ربع الدية، ولا شيء على الآخرين. وقال الشافعي: إن قال: تعمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار: إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا، وأخذوا ربع الدية، وعليه الحدّ.
8- صفة حد القذف فيها رأيان أيضا: قال أبو حنيفة: هو من حقوق الله تعالى والمغلب فيه حق الله، وقال الجمهور: هو من حقوق الآدميين. وفائدة الخلاف: أنه على الرأي الأول تنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى،(18/149)
ولا يورث الحد ولا يسقط بالعفو، وعلى الرأي الثاني: لا تنفع القاذف التوبة حتى يسامحه المقذوف، ويورث الحد، ويسقط بالعفو. وقد ذكر سابقا آثار أخرى للخلاف.
قال ابن العربي: والصحيح أنه حق الآدميين، والدليل أنه يتوقف على مطالبة المقذوف، وأنه يصح له الرجوع عنه.
9- الشهادة تكون على معاينة الزنى، يرون ذلك كالمرود في المكحلة، وفي موضع واحد في رأي مالك، فإن لم يتحقق ذلك جلد الشهود، كما بينا.
10- إذا تاب القاذف قبلت شهادته في رأي الجمهور لأن ردها كان لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة، قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده. ولا تقبل شهادته مدة العمر وإن تاب في رأي الحنفية. ويترجح الرأي الأول بأن التوبة تمحو الكفر، فما دونه أولى،
وبقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
وإذا قبل الله التوبة من العبد، كان قبول العباد أولى.
11- تسقط شهادة القاذف في رأي الشافعي وابن الماجشون بنفس قذفه، ولا تسقط في رأي مالك وأبي حنيفة حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم تردّ شهادته.
12- تجوز شهادة المحدود بحد القذف بعد التوبة في كل شيء مطلقا في رأي الأكثرين. وقال ابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى، فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان، وإن كان عدلا.
13- إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة لأن النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد.(18/150)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وقد بينا أن الشافعي ومثله الليث والأوزاعي قالوا: ترد شهادة القاذف بالقذف نفسه، وإن لم يحد لأنه بالقذف يفسق لأنه من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
ويرى أبو حنيفة ومالك أنه لا ترد شهادة القاذف إلا بعد جلده وصيرورته محدودا في القذف، للحديث المتقدم الذي رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف» .
14- لا تكفي التوبة الشخصية أو القلبية لإعادة اعتبار القاذف وقبول شهادته لأن الأمر متعلق بحق الغير وهو المقذوف، بل لا بد من إعلانها، لذا قال تعالى: وَأَصْلَحُوا أي بإظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل، لكن هذا لا يناسب هنا.
الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)(18/151)
الإعراب:
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل مرفوع من شُهَداءُ وهم: اسم كان، ولَهُمْ خبرها.
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ شهادة: إما مبتدأ وخبره إما أربع أو محذوف تقديره:
فعليهم شهادة أحدهم، وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالحكم شهادة أحدهم أربع شهادات.
وأَرْبَعُ خبر المبتدأ: فَشَهادَةُ ويكون بِاللَّهِ متعلقا ب شَهاداتٍ. وعلى قراءة النصب يكون منصوبا على المصدر، والعامل فيه شهادة لأنها في تقدير (أن) والفعل، أي أن يشهد أربع شهادات بالله.
وَالْخامِسَةُ إما مبتدأ وما بعده خبر، وإما معطوف بالرفع على أَرْبَعُ. وعلى قراءة النصب إما صفة مصدر مقدر أي أن تشهد الشهادة الخامسة، أو معطوف على أَرْبَعُ شَهاداتٍ.
وأَنَّ لَعْنَتَ: منصوب بتقدير حذف حرف جر، أي وتشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه.
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ أن وصلتها في موضع رفع، أي ويدرأ عنها العذاب شهادتها.
وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في موضع نصب ب تَشْهَدَ.
وَالْخامِسَةُ معطوف على أَرْبَعُ وبالرفع: مبتدأ وما بعده خبر.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: لم يذكر جوابإيجازا واختصارا لدلالة الكلام عليه، أي لعاجلكم بالعقوبة، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة.
البلاغة:
تَوَّابٌ حَكِيمٌ صيغة مبالغة على وزن: فعّال، وفعيل.
الصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بينهما طباق.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ.. حذف الجواب للتهويل والزجر، ليكون أبلغ في البيان.
المفردات اللغوية:
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يقذفونهن بتهمة الزنى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وقع ذلك لجماعة من الصحابة، وهو هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رمى به زوجته من الزنى لَعْنَتَ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله، وهذا لعان الرجل، وحكمه: سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينه وبين زوجته بنفس اللعان فرقة فسخ عند الشافعية
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن ابن عمر: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا»
وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة،(18/152)
ومن أحكامه أيضا: نفي الولد إن تعرّض له فيه، وثبوت حد الزنى على المرأة لقوله تعالى:
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي ويدفع عنها الحد: حد الزنى الذي ثبت بشهادته.
لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنى غَضَبَ اللَّهِ سخطه وتعذيبه فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالستر في ذلك تَوَّابٌ يقبل التوبة في ذلك وغيره حَكِيمٌ فيما حكم به في ذلك وغيره. وجوابتقديره: لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها.
سبب النزول:
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء «1» ، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق، يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك» .
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزل الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، فأنزل الله عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وأخرجه أحمد بلفظ: لما نزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟
قالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط، فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.
فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا «2» مع رجل لم يكن لي أن أنحيّه ولا أحركه، حتى
__________
(1) نسبة إلى أمه السحماء.
(2) امرأة لكاع: لئيمة وقيل: ذليلة النفس.(18/153)
آتي بأربعة شهداء، فو الله لا آتي بهم، حتى يقضي حاجته.
قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه، فوجد عند اهله رجلا، فرأى بعينه، وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال له: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه.
واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلا أن يضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في الناس.
فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يضربه، فأنزل الله عليه الوحي، فأمسكوا عنه، حتى فرغ من الوحي، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية. وأخرج أبو يعلى مثل هذه الرواية من حديث أنس.
وفي رواية: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات، وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة! والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني» ؟!
وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: اسأل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، فقتله، أيقتل به، أم كيف يصنع به؟
فسأله عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم السائل، فلقيه عويمر «1» ، فقال: ما صنعت؟ قال: ما صنعت؟ إنك لم تأتني بخبر، سألت
__________
(1) هو عويمر بن زيد بن الجدّ بن العجلاني.(18/154)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب السائل، فقال عويمر: فو الله لآتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلأسألنه، فسأله، فقال: إنه أنزل فيك وفي صاحبك.. الحديث.
أي فيمن وقع له مثل ما وقع لك.
قال الحافظ ابن حجر: اختلف الأئمة في هذه المواضيع، فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما. وإلى هذا جنح النووي، وتبعه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد.
قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
وقال القرطبي: والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية.
وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة. قال السهيلي: وهو الصحيح. وقال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني لكثرة ما
روي ان النبي صلّى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته.
والمهم أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور:
أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها.
وثانيها: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أنها تشمل الأجنبية والزوجة على السواء.
وثالثها: أن هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج.(18/155)
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير الزوجات بالزنى، بيّن الله تعالى حكم قذف الزوجات الذي هو في حكم الاستثناء من الآية المتقدمة، تخفيفا عن الزوج لأن العار يلحقه، ومن الصعب أن يجد بيّنة، وفي تكليفه إحضار الشهود إحراج له، ويعذر بالغيرة على أهله، وأيضا فإن الغالب أن الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا صادقا، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه.
التفسير والبيان:
فرّج الله تعالى بهذه الآية عن الأزواج وأوجد لهم المخرج إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البينة، وهو أن يحضرها إلى الحاكم، فيدعي عليها بما رماها به، فيلاعنها كما أمر الله عز وجل، بأن يحلفه الحاكم أربع شهادات بالله، في مقابلة أربعة شهداء، إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنى، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود يشهدون بصحة قذفهم، وإنما كانوا هم الشهود فقط، فالواجب عليهم أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن:
الطرد من رحمة الله.
فإذا قال ذلك بانت منه بهذا اللعان نفسه عند جمهور العلماء غير الحنفية، وحرمت عليه أبدا، ويعطيها مهرها، ويسقط عنه حد القذف، وينفي الولد عنه إن وجد، ويتوجه عليها حد الزنى.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي ويدفع عنها حد الزنى أن تحلف بالله أربعة أيمان: إن زوجها كاذب فيما رماها به(18/156)
من الفاحشة، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما يقول.
وسبب التفرقة بينهما بتخصيصه باللعنة، وتخصيصها بالغضب هو التغليظ عليها لأنها سبب الفجور ومنبعه، بإطماعها الرجل في نفسها.
ثم بيّن الله تعالى ما تفضل به على عباده من الفضل والنعمة والرحمة بهذا التشريع إذ جعل اللعان للزوج طريقا لتحقيق مراده. وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها، فقال:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي ولولا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته وإحسانه ورحمته ولطفه ورأفته من تشريع ما به فرج ومخرج من الشدة والضيق، وتمكين من قبول التوبة، لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من أموركم، ولفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم، وأنقذكم من الورطة باللعان، فمن صفاته الذاتية أنه كتب الرحمة على نفسه، وأنه التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة، وأنه حكيم فيما يشرعه، ويأمر به، وينهى عنه، فإنه بالرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه، يدرأ عنه العقاب الدنيوي وهو الحد، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبر بقوله: حَكِيمٌ لا رحيم مع أن الرحمة تناسب التوبة لأن الله أراد الستر على عباده بتشريع اللعان بين الزوجين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على مشروعية حكم اللعان بين الزوجين، وكيفية اللعان، ولا بدّ من توضيح الأحكام التالية التي أصّلها الفقهاء بنحو جلي:(18/157)
1- آيات اللعان وآية القذف:
جاء ذكر آيات اللعان بعد آية قذف المحصنات غير الزوجات، فرأى علماء الأصول من الحنفية أن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها، فيكون قذف الزوجة منسوخا إلى بدل وهو اللعان.
وذهب الأئمة الآخرون إلى أن آيات اللعان مخصصة لعموم آية القذف، فتكون هذه الآية مختصة بالمحصنات غير الزوجات، وآيات اللعان خاصة بالزوجات، ويكون موجب قذف المحصنة الحدّ فقط، ثم استثني من ذلك الزوجة، فيكون موجب قذفها الحد أو اللعان.
2- وحكمة اللعان:
كما بينا التخفيف على الأزواج الذين لا يتيسر لهم إثبات زنى زوجاتهم بأربعة شهود.
3- هل ألفاظ اللعان شهادات أم أيمان؟:
يرى الحنفية أن ألفاظ اللعان شهادات لظاهر الآيات التي ذكر فيها لفظ الشهادة خمس مرات وهي: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي ليس لهم بينة، ثم قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي بينته المشروعة في حقه، ثم قال: أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ ثم قال: أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وهذه المواضع الثلاثة هي أخبار مؤكدة بالشهادة، ورتبوا على ذلك أنه يشترط في المتلاعنين أهلية الشهادة.
وذهب الجمهور إلى أن ألفاظ اللعان أيمان، لا شهادات لأن قوله تعالى:
أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ قسم أو أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة، كما قال تعالى:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون 63/ 1] ثم قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ [2] .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» «1» .
ورتبوا على ذلك أنه لا يشترط في المتلاعنين إلا أهلية اليمين.
__________
(1) رواه ابو داود بإسناد لا بأس به.(18/158)
قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره، هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر «1» .
والحكمة في تكرار الشهادات التغليظ والتشدد في أمر خطير يترتب عليه الحد والتشنيع وفسخ الزواج ونفي الولد إن وجد والتحريم المؤبد.
4- شروط المتلاعنين:
ترتب عند العلماء على الخلاف في ألفاظ اللعان:
شهادات أو أيمان اختلافهم في أوصاف المتلاعنين أو شروطهم، فاشترط الحنفية والأوزاعي والثوري في الزوج الملاعن أن يكون أهلا للشهادة على المسلم، وفي الزوجة أيضا أن تكون أهلا للشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين لأن اللعان عندهم شهادة، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا أو حرية ورقا.
وأدلتهم قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وأن كلمات اللعان من الزوج شهادات مؤكدات بأيمان، وهي بدل من الشهود، ولأن لعان الزوجة معارضة للعان الزوج. وأما كونها ممن يحد قاذفها فلأن اللعان بدل عن الحد في قذف الأجنبية.
وروى ابن عبد البر عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين» .
وروى الدارقطني عن ابن عمرو أيضا مرفوعا: «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان» .
وذهب الجمهور إلى أن اللعان يصح من كل زوجين: مسلمين أو كافرين، عدلين أو فاسقين، محدودين في قذف أو غير محدودين، حرين أو عبدين
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1332(18/159)
لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم سمى اللعان يمينا، فقال لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولد شبيه بشريك بن سحماء:
«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» .
5- وترتب على الخلاف السابق أيضا الاختلاف في ملاعنة الأخرس
، فقال الجمهور: يلاعن لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة.
6- إذا قذف الرجل زوجته بعد الطلاق
، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه، لاعن، وإلا لم يلاعن.
ولا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا، فتأتي امرأته بولد في مغيبه، وهو لا يعلم، فيطلّقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه، فله أن يلاعنها بعد العدة، ولو بعد وفاتها، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. ولو مات الزوج قبل اللعان ترث عند الحنفية.
وإذا كانت المرأة حاملا لاعن عند الجمهور قبل الوضع،
لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لا عن قبل الوضع، وقال: «إن جاءت به كذا فهو لأبيه، وإن جاءت به كذا فهو لفلان» .
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لاحتمال كون الانتفاخ بسبب ريح أو داء.
وإذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن عند الجمهور لأنه دخل تحت عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأن اللواط عنده لا يوجب الحد.
7- إذا قذف زوجته ثم زنت
وثبت الزنى قبل التعانه، فلا حدّ على القاذف ولا لعان في رأي أكثر أهل العلم، لظهور أمر قبل استيفاء الحد واللعان(18/160)
يمنع وجوب الحد وصحة اللعان. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحدّ عن القاذف لأن المقذوف كان محصنا في حال القذف، ويعتبر الإحصان والعفة حال القذف لا بعده.
ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، فالزوج يلاعن لدفع الحد عنه، والزوجة لدرء العقاب وهو حد الزنى. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدرء الحد، ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء.
8- إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى، أحدهم زوجها
، فإن الزوج في رأي المالكية يلاعن وتحدّ الشهود الثلاثة إذ لا يصح أن يكون أحد الشهود. وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة، قبلت شهادتهم، وحدّت المرأة.
9- إذا أبى الزوج اللعان
، فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر. وقال الجمهور: إن لم يلاعن الزوج حدّ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهود حدّ، فكذلك الزوج إن لم يلاعن.
وإذا امتنعت الزوجة من اللعان ترجم في رأي الجمهور. ولا ترجم عند الحنفية.
10- كيفية اللعان:
بعد نزول آيات اللعان
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدعوة عويمر العجلاني وزوجته وشريك بن سحماء، وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله، أقسم بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنها حبلى من غيري.
فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت:
يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور، وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي، ويتحدث، فحملته الغيرة على ما قال.(18/161)
فنودي «الصلاة جامعة» فصلى العصر، ثم قال لعويمر: قم وقل: أشهد بالله، إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها حبلى من غيري، وإني من الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها زانية، وإني ما قربتها منذ أربعة شهور، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: لعنة الله على عويمر (أي نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال: اقعد.
وقال لخولة: قومي، فقامت، وقالت: أشهد بالله، ما أنا بزانية، وإن عويمرا زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: إني حبلى منه، وقالت في الرابعة: أشهد بالله، إنه ما رآني على فاحشة قط، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما.
وفي رواية أخرى لابن عباس عند الإمام أحمد: «فلما كانت الخامسة، قيل له: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى(18/162)
ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحد، وقضى ألا بيت لها عليه، ولا قوت لها، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقال: «إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فهو الذي رميت به» فجاءت به على النعت المكروه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» .
يفهم من الآية وهذه الحادثة كيفية اللعان، وهو أن يقول الحاكم للملاعن:
قل أربع مرات: أشهد بالله، إني لمن الصادقين، وفي المرة الخامسة، قل: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
وتشهد المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ويكتفى بدلالة الحال والقرائن عن ذكر متعلق الصدق والكذب، أي فيما رماها به من الزنى ونفي الولد، وفيما اتهمها به.
ولا بد من الحلف خمس مرات من كل منهما، ولا يقبل من الزوج إبدال اللعنة بالغضب، ولا يقبل من الزوجة إبدال الغضب باللعنة.
وظاهر الآية وهو مذهب الجمهور البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد عنه، ونفي النسب منه
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة وإلا حدّ في ظهرك»
ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: يجزئ إن بدأت هي بلعانها. وسبب الخلاف: أن الجمهور يرون أن لعان الزوج موجب للحد على الزوجة، ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من المعقول أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها، فلا حاجة لأن يتأخر لعانها عن لعانه.(18/163)
وإذا كانت المرأة حاملا، وأراد الزوج نفي الحمل عنه قال: وأن هذا الحمل ليس مني، وهذا رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا لعان لنفي الحمل، وينتظر حتى تضع، فيلاعن لنفيه.
وإذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه، تعرض له في اللعان.
ويقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد. ويعظهما القاضي أو نائبه عند ابتداء اللعان وقبل الخامسة من الشهادات، بأن يذكرهما ويخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا.
ويحضر اللعان جمع من عدول المسلمين.
11- آثار اللعان وما يترتب عليه: يترتب على اللعان:
أولا-
إسقاط حد القذف عن الزوج، وإيجاب حد الزنى على الزوجة لأن الله تعالى قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ والشهادة من الأجنبي تسقط حد القذف عن القاذف، وتوجب حد الزنى على المقذوف، والله تعالى أقام شهادة الزوج مقام شهادة الأجنبي. ثم قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ والمراد منه عذاب الدنيا لأن (أل) للعهد المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي عذاب حد الزنى، ولا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة لأن لعان الزوجة إن كانت كاذبة لا يزيدها إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا. ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلم لخولة بنت قيس: «الرجم أهون عليك من غضب الله»
فقد فسر صلّى الله عليه وسلم العذاب المدروء عنها بالرجم.
وأصرح من ذلك
قوله لخولة قبل الشهادة الخامسة: «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة»
أي الحد، لا الحبس. وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته،(18/164)
ولكن لعانه لا يوجب حد الزنى على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود، أو بالإقرار أربع مرات.
ويترتب على هذا الخلاف: حكم الممتنع عن اللعان من الزوجين، فعلى رأي الجمهور كما تقدم: إن امتنع الزوج من اللعان يحد لأن اللعان رخصة له، فلما أبى أن يلاعن، فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فصار حكمه وحكم غير الزوج سواء. وإن امتنعت الزوجة يقام عليها حد الزنى وهو الرجم إن كانت محصنة.
وعلى رأي الحنفية: إذا امتنع الزوج من اللعان، حبس حتى يلاعن، كما بينا لأن اللعان حق توجه عليه، يستوفيه الحاكم منه بالقهر والتعزير، فيكون له حبسه حتى يلاعن أو يكذب نفسه في القذف، فيقام عليه حده. ورأي الجمهور هو الصواب عملا بظاهر الآية.
ثانيا-
يترتب على اللعان أيضا نفي الولد، كما ثبت في حادثة هلال بن أمية.
ثالثا-
الفرقة بين المتلاعنين: قال مالك وأحمد: بتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل الزواج من زوج آخر ولا بعده، كما
ثبت في السنة الصحيحة، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» .
ورأى الشافعي أن الفرقة تحصل بمجرد لعان الزوج لأنها فرقة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوج إلا في دفع العذاب (حد الزنى) عن نفسها. واتفق الشافعي ومالك وأحمد على وقوع التحريم المؤبد بين المتلاعنين. وهذا هو الظاهر من الآيات.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقع الفرقة باللعان حتى يفرق الحاكم بينهما(18/165)
لقول ابن عمر وابن عباس: «فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المتلاعنين»
فأضاف الفرقة إليه،
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا سبيل لك عليها» .
وإن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب لقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء 4/ 3] وقوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] .
12- ما يحتاج إليه اللعان:
يحتاج اللعان إلى أربعة أشياء:
الأول- عدد الألفاظ وهو أربع شهادات، كما تقدم.
الثاني- المكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان: إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها.
الثالث- الوقت: وذلك بعد صلاة العصر.
الرابع- جمع الناس: بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا. فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.
13- إذا قذف الرجل مع زوجته أجنبيا:
فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحد للأجنبي.
وقال أحمد: عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء ذكر المقذوف في لعانه أم لا.
وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه، سقط الحدّ له، كما يسقط للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حدّ له.
ودليل أحمد والشافعي أنه صلّى الله عليه وسلم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سماه صريحا، وأن الزوج مضطر إلى قذف الزاني.(18/166)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
14- استدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين،
لقول الزوج: «لعنة الله عليه» مما يدل على جواز لعن الشخص المقطوع بكذبه.
واستدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر لأن الزوج إن كان صادقا فزوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.
15- قال العلماء: لا يحل للرجل قذف زوجته
إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا، والأولى به تطليقها، سترا عليها، ما لم يترتب على فراقها مفسدة. فإن أتت بولد علم أنه ليس منه، وجب عليه نفيه، وإلا كان بسكوته مستلحقا ما ليس منه، وهو حرام، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي، وإن استبرأها بحيضة، حلّ النفي، على رأي القائلين بأن الحامل لا تحيض «1» .
الحكم الخامس قصة الإفك
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
__________
(1) انظر مذكرات تفسيرات الأحكام للأستاذ المرحوم محمد علي السايس: 3/ 133- 144(18/167)
الإعراب:
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ: خبر إِنَّ ويجوز أن ينصب، ويكون خبر إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ.(18/168)
البلاغة:
في المواضع المختلفة، أي هلا للحض بقصد التوبيخ على التقصير والتسرع في الاتهام.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ طباق بين الشر والخير.
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ طباق بين الهيّن والعظيم.
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الأصل أن يقال: ظننتم، لكن استعمل بطريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، مبالغة في التوبيخ، ولفت نظر إلى أن الإيمان يقتضي حسن الظن.
سُبْحانَكَ معناه تنزيه الله تعالى عند رؤية عجائب صنعه، للإشارة إلى أن مثل ذلك لا يخرج عن قدرته، ثم استعمل في كل متعجب منه.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه تهييج وتقريع. لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة، شبه سلوك طريق الشيطان بمن يتبع خطوات غيره خطوة خطوة.
أَنْ يُؤْتُوا فيه إيجاز بالحذف، أي ألا يؤتوا، حذفت منه (لا) لدلالة المعنى.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ المراد أبو بكر الصدّيق، وخاطبه بصيغة الجمع للتعظيم.
المفردات اللغوية:
بِالْإِفْكِ أبلغ الكذب وأسوأ الافتراء على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين بقذفها.
عُصْبَةٌ جماعة، وكثر إطلاقها على العشرة إلى الأربعين، وهم عبد الله بن أبيّ، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين وزوجة طلحة بن عبيد الله، ومن ساعدهم. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ لا تظنوه شرا أيها المؤمنون غير العصبة، وهو خطاب مستأنف، والشر: ما غلب ضرره على نفعه. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يأجركم الله به، ويظهر براءة عائشة وكرامتكم على الله، بإنزال ثماني عشرة آية «1» في براءتكم، وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن أساء الظن بكم، كما ذكر البيضاوي.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه من السوء، مختصا به. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ أي تولى معظمه من الخائضين، وهو عبد الله بن
__________
(1) الظاهر أن هذه الآيات هي (11- 28) المختتمة بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
والأصح ما رواه الطبراني عن الحكم بن عتبة أن الله أنزل فيها خمس عشرة آية، أي إلى الآية (26) .(18/169)
أبيّ، فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، أو في الدنيا، بأن جلدوا، وصار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق، وحسان أعمى وأشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر. هلا. ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ ظن بعضهم ببعض. إِفْكٌ مُبِينٌ كذب بيّن واضح، وفيه التفات أي ظننتم أيها العصبة وقلتمهلا، للحث على فعل ما بعدها.
جاؤُ العصبة. بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ شاهدوه. عِنْدَ اللَّهِ في حكمه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ لولا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره، أي لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة، المقرران لكم.
لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ لمسّكم عاجلا أيها العصبة فيما خضتم فيه عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، يستحقر دونه اللوم والجلد.
إِذْ ظرف لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ. تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي يرويه بعضكم عن بعض، وأصله: تتلقونه، وهو بمعنى تتلقفونه، فحذف منه إحدى التاءين. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً تظنونه امرأ يسيرا لا إثم فيه، أو لا تبعة فيه. وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي وهو في حكم الله عظيم في الوزر والإثم، والمعنى: هذه ثلاثة آثام مترتبة، علّق بها استحقاق العذاب العظيم وهي تلقي الإفك بألسنتهم، والتحدث به من غير تحقق، واستصغارهم شأنه، وهو عظيم عند الله وفي حكمه.
ما يَكُونُ لَنا ما ينبغي لنا وما يصح. سُبْحانَكَ تعجب ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب، تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله، ثم كثر استعماله في كل متعجب. بُهْتانٌ كذب مختلق يبهت السامع، لعدم علمه به. يَعِظُكُمُ ينصحكم وينهاكم.
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا لمثله، أو في أن تعودوا لمثله. أَبَداً ما دمتم أحياء مكلفين. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فتتعظون بذلك، فإن الإيمان يمنع عنه.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالأحوال كلها، وبما يأمر به وينهى عنه. حَكِيمٌ في تدبيره.
يُحِبُّونَ يريدون أي العصبة. أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر وتظهر. الْفاحِشَةُ الفعل القبيح المفرط القبح، وهو الزنى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا مؤلم وهو حد القذف.
وَالْآخِرَةِ بدخول النار أو السعير، رعاية لحق الله تعالى. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في الضمائر، ويعلم انتفاء الفاحشة عن المؤمنين. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أنتم أيها العصبة بما قلتم من الإفك لا تعلمون وجودها فيهم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تكرار لبيان المنة بترك تعجيل العقاب، للدلالة على(18/170)
عظم الجريمة. وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم، وجواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة.
خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق تزيينه ونزغاته ووساوسه، بإشاعة الفاحشة. فَإِنَّهُ أي المتّبع. يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي القبيح المفرط في القبح. وَالْمُنْكَرِ ما تنكره النفوس وتنفر منه وينكره الشرع. وهو بيان لعلة النهي عن اتباعه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق إلى التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها. ما زَكى ما طهر من دنس الذنوب. مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أيها العصبة بما قلتم من الإفك.
أَبَداً آخر الدهر، أي ما طهر من هذا الذنب بالتوبة أحدا مطلقا. يُزَكِّي يطهر من الذنب. مَنْ يَشاءُ بقبول توبته منه. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهم. عَلِيمٌ بنياتهم.
وَلا يَأْتَلِ لا يحلف، من الألية وهي الحلف. أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين.
وَالسَّعَةِ في المال أي أصحاب الغنى والثراء، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه. أَنْ يُؤْتُوا على ألا يؤتوا. وَلْيَعْفُوا لما فرط منهم أي يمحوا الذنوب.
وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته، فتخلقوا بأخلاقه.
سبب النزول أو قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة:
روى الأئمة منهم أحمد، والبخاري تعليقا، ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت «1» : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر، أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها «2» ، فخرج فيها سهمي (نصيبي)
وخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني،
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 268 وما بعدها.
(2) هي غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع.(18/171)
أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار «1» قد انقطع.
فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على البعير الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه.
وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني، فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمي ثم الذّكواني قد عرّس «2» من وراء الجيش، فأدلج «3» ، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه «4» حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظّهيرة «5» .
__________
(1) الجزع: خرز معروف في سواده بياض كالعروق، وظفار: مدينة باليمن.
(2) التعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة في بقعة، ثم يرتحلون. [.....]
(3) أدلج: سار من أول الليل.
(4) الاسترجاع: أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(5) وسط النهار عند الظهر أي وقت الظهيرة.(18/172)
فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت «1» حين قدمناها شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني «2» في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي،
إنما يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم؟»
- تي: إشارة إلى المؤنث- فذلك الذي يريبني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت «3» ، وخرجت معي أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف «4» قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح- وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب- فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي، حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها «5» ، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت، تسبّين رجلا شهد بدرا؟
فقالت: أي هنتاه «6» ، ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت:
فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي،
__________
(1) اشتكى عضوا من أعضائه: مرض وأحس بألم فيه.
(2) يريبني: يوقعني في الريبة والشك.
(3) نقه من المرض: صحّ.
(4) المتبرّز: موضع التبرز، والكنف: جمع كنيف: المكان المخصص لقضاء الحاجة.
(5) المرط: واحد المروط: وهي أكسية من صوف أو خزّ كان يؤتزر بها.
(6) هنتاه: الهنة: هي الشيء الذي يستقبح، والمراد هنا الندبة المشوبة بالتعجب من الفعلة القبيحة لمسطح.(18/173)
دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له:
أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال: نعم
، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجئت أبوي، فقلت لأمي:
يا أمتاه، لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنية، هوّني عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر.
قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريرة فقال: «هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن- أي ما- رأيت منها أمرا قطّ أغمصه «1» عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله.
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي- يعني عبد الله بن أبي- فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا
__________
(1) غمصه: استصغره ولم يره شيئا.(18/174)
رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا، ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة، كذبت، لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان:
الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء.
فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، وتاب، تاب الله عليه» .
فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله، فقال: والله ما أدري ما أقول(18/175)
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت- وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن-: والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدّقنّي، إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف 12/ 18] .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا- والله أعلم حينئذ أني بريئة- وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن والله، ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1» عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه.
فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أمّا الله عزّ وجلّ فقد برّأك» فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات العشر كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على
__________
(1) البرحاء: الشدة والانتفاضة من الجهد أو الألم.(18/176)
مسطح بن أثاثة، لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال:
والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلم عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، المبرّأة من السماء.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير المحارم، وحكم قذف الزوجات، أبان الله تعالى في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك من المنافقين، وذكر فيها جملة من الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها، والزواجر التي كان ينبغي عدم التعرض لها، وهي تسعة كما سيأتي بيانه.
التفسير والبيان:
هذه الآيات العشر التي برأ الله فيها عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، غيرة من الله تعالى لها، وصونا لعرض نبيه صلّى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:(18/177)
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي إن الذين أتوا بالإفك وهو أبلغ الكذب والافتراء جماعة منكم، لا واحد ولا اثنان، أي ما أفك به على عائشة، بزعامة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق هذا الكذب، وتواطأ مع جماعة صغيرة، فأصبحوا يروجونه ويذيعونه بين الناس، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وبقي شيوع الخبر قريبا من شهر، حتى نزل القرآن. وفي التعبير بعصبة إشارة إلى أنهم فئة قليلة.
وقوله تعالى: مِنْكُمْ أي منكم أيها المؤمنون لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لا تظنوا- يا آل أبي بكر وكل من تأذى بذلك الكذب واغتم، بدليل قوله تعالى مِنْكُمْ- أن ذلك هو شر لكم وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لاكتسابكم به الثواب العظيم، وإظهار عناية الله بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم. يتلى إلى يوم القيامة، وتهويل الوعيد لمن تكلم في حقكم.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكل واحد تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة نصيب من عذاب عظيم بقدر ما خاض فيه، أو عقاب ما اكتسب.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي والذي تحمل معظم ذلك الإثم منهم، وهو في رأي الأكثرين عبد الله بن أبي، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، فإنه أول من اختلق هذا الخبر، أو أنه كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه، فمعظم الشر كان منه، أما عذابه في الدنيا فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع، وأما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار.(18/178)
وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، قال ابن كثير: وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي
قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هاجهم وجبريل معك» «1» .
ثم أدب الله تعالى المؤمنين الذين خاض بعضهم في ذلك الكلام السوء في قصة عائشة رضي الله عنها، وزجرهم بتسعة أمور:
1-إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي هلا حين سمعتم كلام الأفاكين في عائشة ظننتم بها خيرا، عملا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن، وقلتم صراحة معلنين البراءة: هذا إفك مبين، أي كذب مختلق واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها فإن الذي وقع لم يكن ريبة، لمجيئها راكبة على راحلة صفوان بن المعطّل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم يكشف كل سوء وينفي كل شك، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة، بل كان يحدث- لو قدّر- خفية مستورا.
وهذا أدب جم، وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن المؤمن لا يظن بالمسلمين إلا خيرا.
2-جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أي هلا جاؤوا على ما قالوه بشهود أربعة يشهدون على ثبوت ما جاؤوا به، وصحة ما قالوا، ومعاينتهم ما رموها به، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون. وهذا من الزواجر.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 272(18/179)
3- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ورحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وهذا من الزواجر أيضا. ولَوْلا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره.
4- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي لولا تفضل الله عليكم ورحمته لمسّكم العذاب حين تلقيكم أي تلقفكم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك يسيرا سهلا، وهو في شرع الله وحكمه أمر خطير عظيم، من عظائم الأمور وكبائرها، لما فيه من تدنيس بيت النبوة بأقبح الفواحش،
ورد في الصحيحين: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يدري ما تبلغ، يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض»
وفي رواية: «لا يلقي لها بالا» .
وهذا أيضا من الزواجر، فقد وصفهم الله بارتكاب ثلاثة آثام، وعلّق مسّ العذاب العظيم بها، وهي:
الأول- تلقي الإفك بألسنتهم، أي الاهتمام بالسؤال عنه وبإشاعته، لا مجرد السماع عفوا، وإنما يأخذه بعضهم من بعض، ويذيعه.
الثاني- التكلم بما لا علم لهم به ولا دليل عليه، وهذا منهي عنه في قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء 17/ 36] ، وهو شبيه بقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
[آل عمران 3/ 167] .
الثالث- استصغار ذلك، وهو عند الله تعالى عظيم الإثم، موجب لشديد العقاب.(18/180)
وهذا يدل على أمور ثلاثة: هي أن القذف من الكبائر، لقوله تعالى:
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وأن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها، وإنما بالواقع، فربما كان جاهلا لعظمها، لقوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وأن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، فربما كان من الكبائر.
5- وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ هذا من الآداب، فهو تأديب آخر بعد الأمر الأول بظن الخير، والمعنى: هلا حين سمعتم ما لا يليق من خبيث الكلام قلتم: ما ينبغي لنا وما يصح، ولا يحل لنا أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا نذكره لأحد إذ لا دليل عليه، سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي إنا نعجب من عظم الأمر، وننزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه صلّى الله عليه وسلم فاجرة، فهذا بهتان عظيم واختلاق أثيم، وإيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلم، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب 33/ 57] .
وإذا جاز أن تكون امرأة نبي كافرة، كامرأة نوح ولوط لأن الكفر لم يكن مما ينفر عندهم، فلا يجوز أن تكون امرأة أي نبي فاجرة لأن ذلك من أعظم المنفّرات.
والخلاصة: أن العقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، لما فيه من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، كما يمنعان ألا يعاقب هؤلاء القاذفين الأفاكين على عظيم ما اقترفوه وخاضوا فيه من الافتراء، وهو مدعاة للتعجب منه.
6- يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هذا من الزواجر يحذر الله تعالى فيه المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا، أي في المستقبل ما دمتم أحياء مكلفين، ويعظكم بهذه المواعظ(18/181)
والإنذارات، كيلا تعودوا لمثل هذا الفعل، إن كنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه وتعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلم، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ويوضح لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله عليم بما يصلح عباده، مطّلع على أحوالهم، فيجازي كل امرئ بما كسب، حكيم في شرعه وقدره، وتدبير شؤون خلقه، وتكليفه بما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة.
7- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هذا أدب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء، معناه: إن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة ومحبة لها، وإن الذين يرغبون في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنى في أوساط المؤمنين، لهم عذاب مؤلم في الدنيا وهو حد القذف، وفي الآخرة بعذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور، ولا يخفى عليه شيء، ويعلم ما في القلوب من الأسرار، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص العلم والإحاطة بالأشياء والاعتماد على القرائن والأمارات لا تعملون تلك الحقائق.
أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» .
ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره.
وهذا التأديب التربوي له مغزاه العميق، فإن شيوع الفاحشة في مجتمع يجرئ الناس على الإقدام عليها، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها. والآية تدل على أن مجرد حب إشاعة الفاحشة كاف في إلحاق العذاب، فالذين يشيعونها فعلا أشد جرما وإثما وتعرضا للعقاب. ومنشأ حب إشاعة الفاحشة هو الحقد والكراهية،(18/182)
والاستعلاء على الناس وحسدهم على ما يتمتعون به من تماسك واستقرار ومحبة ووئام، فيعمل الحاقد الكاره الحاسد كابن أبي على تقويض أركان هذا المجتمع، والغض من كرامته، والنيل من عرضه وسمعته، ظنا منه أن هذا شرف له.
8- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي لولا الفضل الإلهي والرحمة لكان أمر آخر، والجواب المحذوف هو: لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق الأقوم، وحذّر من مغبّة الاستمرار في وجهة الانحراف، وبيّن خطر هذا الفعل الشنيع وهو الطعن بعرض بيت النبوة، فله الحمد والمنة، لذا حذر في الآية التالية من اتباع وساوس الشيطان فقال:
9- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله لا تسيروا في طرائق الشيطان ومسالكه، ولا تسمعوا لوساوسه وتأثيراته وما يأمر به، في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن من يتبع وساوس الشيطان ويقتفي آثاره خاب وخسر لأنه- أي الشيطان- لا يأمر إلا بالفحشاء (ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبّحه العقل ونفّر منه) فلا يصح لمؤمن طاعته، وهذا تنفير وتحذير صريح.
والله تعالى، وإن خص المؤمنين في هذه الآية بالنهي عن اتباع وساوس الشيطان، فهو نهي لكل المكلفين، بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فكل المكلفين ممنوعون من ذلك.
وحكمة تخصيص المؤمنين بالذكر هي أن يتشددوا في ترك المعصية، لئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.(18/183)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ هذا التكرار لتأكيد المنة والنعمة على العباد، والمعنى: ولولا تفضل الله عليكم بالنعم، ورحمته السابغة، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، ما طهر أحدا من ذنبه، ولا خلصه من أمراض الشرك والفجور والأخلاق الرديئة، وإنما عاجله بالعقوبة، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل 16/ 61] ، قال الرازي: إذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى، سمّي زكيا.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي والله تعالى القدير الحكيم يطهر من يشاء من خلقه، بقبول توبتهم، وتوفيقهم إلى ما يرضيه، مثل قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من قصة الإفك، والله سميع لأقوال عباده، ولا سيما في حالتي الوقوع في المعصية والإخلاص في التخلص منها، والبراءة من آثامها، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبالأقوال والأفعال، وبمن أصر على إشاعة الفاحشة ومن تاب منها، ومجاز كل إنسان بما قدّم.
وهذا حث واضح على التطهر من الذنوب، والإقبال على التوبة بإخلاص.
وبعد تأديب أهل الإفك ومن سمع كلامهم، أدب الله تعالى أبا بكر لما حلف ألا ينفق على مسطح أبدا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف ألا ينفق على مسطح، وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فقال تعالى:
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، والسعة في المال والثروة ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا. وفيه دليل على(18/184)
فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه، وحث على صلة الرحم، فهذا في غاية الترفق والعطف في صلة الأرحام.
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أي ليعفوا عن المسيء، ويصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، وليعودوا إلى صلتهم الأولى، فإن من أخطأ مرة يجب ألا يتشدد في العقاب عليه، وقد عوقب مسطح بالحد والضرب، وكفى ذلك، وزلق زلقة تاب الله عليه منها.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ألا تريدون أن يستر الله عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك: «من لا يرحم لا يرحم» «1» والله غفور لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم فلا يعذبهم بزلّة حدثت ثم تابوا عنها، فتخلقوا بأخلاق الله تعالى.
وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصدّيق إلى القول: «بلى، والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربّنا» ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: «والله لا أنزعها منه أبدا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه جملة من الآداب والزواجر، أرشدت إليها قصة الإفك، وهي تربية عالية للمجتمع، وصون لأخلاقه من التردي والانحدار، ونبذ للعادات السيئة في إشاعة الأخبار دون علم ولا تثبت، وقد دلت الآيات على ما يلي:
1- إن داء الأمة ينبع من داخلها، وأخطر داء فيها زعزعة الثقة بقادتها ومصلحيها، وتوجيه النقد الهدام لهم، ومحاولة النيل من عرضهم وسمعتهم
__________
(1) هذا حديث صحيح أخرجه الطبراني عن جرير بلفظ: «من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب عليه» .(18/185)
وكرامتهم، فأهل الإفك ليسوا من الأعداء الخارجين، وإنما هم- في الظاهر- عصبة من المؤمنين.
2- ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض، وإنما ما غلب نفعه على ضرره فهو خير، وما غلب ضرره على نفعه فهو شر، فحقيقة الخير: ما زاد نفعه على ضره، والشرّ: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيرا لا شرّ فيه هو الجنة، وشرّا لا خير فيه هو جهنم. أما البلاء النازل على الأولياء فهو خير لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الآخرة. لذا كان حديث الإفك خيرا على عائشة وأهلها آل أبي بكر، وعلى صفوان بن المعطّل المتهم البريء، فقال تعالى:
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.
وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة رضوان الله عليهم. وقيل كما ذكر ابن إسحاق: كان حصورا لا يأتي النساء. وقال: والله ما كشفت كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع وعشرين في زمان عمر. وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.
3- للذين خاضوا في إثم الإفك جزاء وعقاب في الدنيا والآخرة، وهم الذين أصروا على التهمة، أما الذين تابوا وهم حسان ومسطح وحمنة، فقد غفر الله لهم.
4- إن زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ هو الذي تولى كبر حديث الإفك، واختلاق معظم القصة، والترويج لها وإشاعتها بين المسلمين. وهل جلد هو وغيره؟
روى الترمذي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانا وحمنة.
وذكر القشيري عن ابن عباس قال:
جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أبيّ ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار.(18/186)
وقال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلّى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على قولين:
أحدهما- أنه لم يحدّ أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبّده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. وعقب القرطبي على ذلك قائلا: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن فإن الله عزّ وجلّ يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أي لم يأتوا بشهود أربعة على صدق قولهم.
والقول الثاني- أن النبي صلّى الله عليه وسلم حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ: حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي. وهذا- أي تعيين الذين حدّوا- رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حدّ في الدنيا، لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ.
وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف، حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة،
وقد قال صلّى الله عليه وسلم في الحدود من حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه مسلم بلفظ: «ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له»
أي أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه.
5- على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا ببعضهم خيرا، لذا عاتبهم الله تعالى بقوله: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي ببعضهم أو(18/187)
بإخوانهم، فالواجب على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن، وحلّة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
6- إن إثبات تهمة الزنى إما بالإقرار أو بأربعة شهود، فقوله تعالى:
جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ توبيخ لأهل الإفك على تقصيرهم في الإثبات، أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا إحالة على المذكور في آية القذف السابقة. وإذ لم يأتوا بالشهداء فهم في حكم الله كاذبون.
7- إن أحكام الدنيا في الإثبات ونحوه تجري على الظاهر، والسرائر إلى الله عزّ وجلّ، أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
8- تكرّر الامتنان من الله تعالى على عباده في قصة القذف مرتين في قوله:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لولا فضله ورحمته لمسّكم بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا.
9- وصف الله الخائضين في قصة الإفك بارتكاب آثام ثلاثة: تلقي الإفك بألسنتهم وإشاعته بينهم، والتكلم بما لا علم لهم به، واستصغارهم ذلك وهو عظيم الوزر، ومن العظائم والكبائر. وهذا يدل أن القذف من الكبائر، وأن عظم(18/188)
المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، وأنه يجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرّم.
10- عاتب الله جميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار خبر الإفك، وألا يحكيه أو ينقله بعضهم عن بعض، وأن ينزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه صلّى الله عليه وسلم، وأن يحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه. والغيبة: أن يقال في الإنسان ما فيه.
وإن وصف الإيمان يجب أن يكون باعثا لهم على هذا التخلق والأدب.
11- دلّ قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي في عائشة، قال الإمام مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب، ومن سبّ عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. وقال ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وهذا ردّ على ما قال ابن العربي: «قال أصحاب الشافعي: من سبّ عائشة رضي الله عنها أدّب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة: «والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه»
أي لا يكمل إيمانه، لا أنه سلب الإيمان.
وبوائقه: شروره وآثامه ودواهيه.
12- إن الذين يحبون إشاعة الفاحشة (الفعل القبيح المفرط القبح) في المؤمنين المحصنين والمحصنات كعائشة وصفوان رضي الله عنهما لهم عذاب أليم في الدنيا بالحدّ، وفي الآخرة بعذاب النار أي للمنافقين، أما الحدّ للمؤمنين فهو كفارة. والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء، والناس لا يعلمون بذلك.(18/189)
13- نهى الله المؤمنين وغيرهم عن اتباع مسالك الشيطان ومذاهبه لأنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.
14- لله تعالى وحده الفضل في تزكية المؤمنين وتطهيرهم وهدايتهم، لا بأعمالهم.
15- على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال:
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن جرير: «من لا يرحم لا يرحم» .
16- في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان معصية كبيرة لا يحبط الأعمال لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان وكذلك سائر الكبائر ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] .
17- من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه.
18- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.
19- دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه(18/190)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
رضي الله عنه، كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق. ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لا الخصوص، على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خاليا عن المعصية «1» .
20- قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برّأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برّأها الله تعالى بالقرآن فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برّأها الله بكلامه من القذف والبهتان «2» .
جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
الإعراب:
يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الْحَقَّ بالنصب: صفة ل دِينَهُمُ ومن قرأ بالرفع جعله صفة اللَّهُ وفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول الذي هو دِينَهُمُ.
__________
(1) انظر تفسير الرازي: 23/ 187- 190 [.....]
(2) تفسير القرطبي: 12/ 212(18/191)
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أُولئِكَ مبتدأ، ومُبَرَّؤُنَ خبر المبتدأ. ومِمَّا يَقُولُونَ جار ومجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب مُبَرَّؤُنَ. ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ جملة في موضع خبر آخر ل أُولئِكَ.
البلاغة:
يَعْمَلُونَ ويَعْلَمُونَ جناس ناقص.
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ مقابلة.
المفردات اللغوية:
الْمُحْصَناتِ العفيفات. الْغافِلاتِ البعيدات عن المعاصي والفواحش، السليمات الصدور، والنقيات القلوب. الْمُؤْمِناتِ بالله ورسوله. لُعِنُوا طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بحد القذف. دِينَهُمُ جزاءهم. الْحَقَّ الثابت الذي يستحقونه.
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته، الظاهر الألوهية، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البيّن، أي العادل الظاهر عدله، وقد حقق لهم جزاءه الذي كانوا يشكّون فيه. أو أن وعد الله ووعيده هو العدل الذي لا جور فيه.
الْخَبِيثاتُ من النساء. لِلْخَبِيثِينَ من الرجال. وَالطَّيِّباتُ من النساء.
لِلطَّيِّبِينَ من الناس، أي اللائق بالخبيث مثله، وبالطيب مثله. أُولئِكَ الطيبون من الرجال والطيبات من النساء ومنهم عائشة أم المؤمنين وصفوان الصحابي التقي الورع المجاهد المتهم زورا وبهتانا. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي يقول الخبيثون والخبيثات من الرجال والنساء فيهم لَهُمْ للطيبين والطيبات. مَغْفِرَةٌ ستر. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة، وقد افتخرت عائشة بأشياء منها: أنها خلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقا كريما. قال البيضاوي: ولقد برّأ الله أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات، مع هذه المبالغات، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن الضحّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي(18/192)
صلّى الله عليه وسلم خاصة: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رميت بما رميت به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندي إذ أوحي إليه، ثم استوى جالسا، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ حتى بلغ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ.
وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت:
لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية
، وهو مرسل صحيح الإسناد.
المناسبة:
بعد بيان خبر الإفك وعقاب الأفاكين، وتأديب الخائضين، ذكر الله تعالى براءة عائشة صراحة، وذكر مع ذلك حكما عاما وهو أن كل من قذف مؤمنة عفيفة بالزنى، فهو مطرود من رحمة الله، وله عذاب عظيم.
وهذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصدّيق رضي الله عنهما.(18/193)
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يتهمون بالفاحشة والفجور النساء المؤمنات بالله ورسوله العفائف البعيدات عن تلك التهمة، ومثلهم الرجال، هم مطردون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وعليهم غضب الله وسخطه، ولهم في الآخرة عذاب شديد كبير، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر،
أخرج الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
وأخرج أبو القاسم الطبراني عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة» .
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن عذابهم يوم القيامة يوم تشهد عليهم أعضاؤهم الألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل إذ إن الله ينطقها بقدرته، كما ذكر في آية أخرى:
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت 41/ 21] .
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول:
كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار» .
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي في(18/194)
ذلك اليوم يوفيهم الله حسابهم أو جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
قال الزمخشري رحمه الله وجزاه عن تفسيره الدقيق جدا للقرآن الكريم خير الجزاء: ولو فلّيت «1» القرآن كله، وفتّشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله تعالى قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث، لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين «2» .
يفهم من هذا الكلام ومن كلام الفخر الرازي أن الله تعالى عاقب هؤلاء القذفة بثلاثة أشياء: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة، وهو وعيد شديد، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على أعمالهم، وإيفاؤهم جزاء عملهم. والدين بمعنى الجزاء مثل قولهم: «كما تدين تدان» وقيل: بمعنى الحساب كقوله تعالى:
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح، والحق: هو أن الجزاء الموفى هو القدر المستحق لأنه الحق، وما زاد عليه هو الباطل.
ثم أورد الله تعالى دليلا ماديا حسيا على براءة عائشة فقال:
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ..
__________
(1) جعلها بعضهم: قلبت.
(2) تفسير الكشاف: 2/ 380 وما بعدها.(18/195)
أي النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثون الزناة من الرجال للخبيثات من النساء لأن اللائق بكل واحد ما يشابهه في الأقوال والأفعال، ولأن التشابه في الأخلاق والتجانس في الطبائع من مقومات الألفة ودوام العشرة. وذلك كقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور 24/ 3] .
وعلى هذا يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء، أي شأن الخبائث يتزوجن الخباث، أي الخبائث، وشأن أهل الطيب يتزوجن الطيبات.
ويجوز أن يكون المراد من الخبيثات الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، والمعنى: الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس: والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس.
وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درة الطيبين وخيرة الأولين والآخرين، فالصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات، فيبطل ما أشاعه أهل الإفك. ويكون الكلام جاريا مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. والرأي الأول هو الظاهر.
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي أولئك الطيبون والطيبات كصفوان وعائشة بعداء مبرؤون مما يقوله أهل الإفك والبهتان الخبيثون والخبيثات.
وأولئك المبرؤون لهم مغفرة عن ذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب ورزق كريم عند الله في جنات النعيم، كما في قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب 33/ 31] .
عن عائشة رضي الله عنها: «لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجني(18/196)
ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ولقد توفّي وإن رأسه لفي حجري ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّته الملائكة في بيتي وإن الوحي لينزل عليه في أهله، فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه وإني لابنة خليفته وصدّيقه ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيّبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» تعني قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
1- إن الذين يرمون بالزنى أو الفاحشة النساء المحصنات العفائف، أو الرجال المحصنين قياسا واستدلالا أو يقذفون غيرهم، ومن هؤلاء عائشة وسائر زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم، لعنوا في الدنيا والآخرة، واللعنة في الدنيا: الإبعاد وضرب الحد وهجر المؤمنين لهم، وإساءة سمعتهم، وإسقاط عدالتهم، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله بالعذاب في جهنم.
والأصح كما رجح المفسرون أن بقية أمهات المؤمنين في هذا الحكم وغيره كعائشة رضوان الله عليهن، فقاذفهن ملعون في الدنيا والآخرة، ومن سبّهن فهو كافر، كما ذكر ابن كثير.
وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى. ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون إلا أنه غلّب المذكر على المؤنث، أي أن الرمي أو القذف بالزنى كبيرة وحرام من أي مكلف، وعلى أي مكلف: ذكر أو أنثى.(18/197)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
2- ولهم حكم آخر غير اللعنة وهو شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وتكلمهم يوم القيامة عند الحساب بما تكلموا به وبما عملوا في الدنيا.
3- وحكم ثالث أيضا هو أن حسابهم وجزاءهم ثابت مستحق لهم بالقدر المستحق المناسب لعملهم أو قولهم لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل.
4- النساء الخبيثات للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ما اختاره النحاس، وهو الظاهر. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
5- دل قوله تعالى صراحة: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ على براءة عائشة وصفوان رضي الله عنهما مما يقول الخبيثون والخبيثات.
الحكم السادس الاستئذان لدخول البيوت وآدابه
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)(18/198)
الإعراب:
فِيها مَتاعٌ مرفوع بالظرف على مذهب سيبويه، كما يرتفع على مذهب الأخفش والكوفيين لأن الظرف جرى وصفا للنكرة.
المفردات اللغوية:
بُيُوتاً جمع بيت وهو المسكن. تَسْتَأْنِسُوا تستأذنوا إذ بالاستئذان يحصل الأنس للزائر وأهل البيت. وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فيقول الواحد: السلام عليكم أأدخل، كما ورد في الحديث. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغير استئذان. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون، أو تتذكرون خيريته، فتعملوا به. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ بعد الاستئذان. هُوَ الرجوع. أَزْكى خير وأطهر. لَكُمْ من القعود على الباب. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول بإذن وغير إذن. عَلِيمٌ مطلع على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فيجازي كل إنسان بعمله.
جُناحٌ حرج وإثم بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالخانات والحوانيت والفنادق. فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي حق تمتع وانتفاع، كالاستظلال من الحر والإيواء من البرد وتحزين الأمتعة والجلوس للمعاملة من شراء أو بيع. تُبْدُونَ تظهرون. تَكْتُمُونَ تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره. وهذا وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات.
سبب النزول:
نزول الآية (27) :
أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية.(18/199)
نزول الآية (29) :
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ
الآية.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف المحصنات وقصة أهل الإفك، ذكر الله تعالى ما يليق بذلك، وهو آداب الدخول إلى البيوت من الاستئذان والسلام، منعا من الوقوع في التهمة، باقتحام البيوت دون إذن والتسلل إليها، أو حدوث الخلوة التي هي مظنة التهمة أو طريق التهمة التي تذرع بها أهل الإفك للوصول إلى بهتانهم وافترائهم، ومراعاة لأحوال الناس رجالا ونساء الذين لا يريدون لأحد الاطلاع عليها ولأن النظر والاطلاع على العورات طريق الزنى.
التفسير والبيان:
هذه آداب اجتماعية شرعية ذات مدلول حضاري، وتمدن رفيع لما فيها من تنظيم لحياة المجتمع وأحوال الأسر في البيوتات، حفظا لروابط الود والمحبة، وإبقاء على حسن العشرة وتبادل الزيارات بين المؤمنين، فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم، وحتى تسلموا على أهل البيت، حتى لا تنظروا إلى عورات غيركم، ولا(18/200)
تطلعوا إلى ما لا يحل لكم الاطلاع عليه، ولا تفاجئوا الساكنين الوادعين، فتحرجوهم أو تزعجوهم، فيحدث الاشمئزاز، والتضايق، والكراهية.
فلا بد إذن من الاستئذان قبل الدخول والسلام خارج الباب لمعرفة الداخل، وكان السلام هو المألوف في الماضي حيث لم تكن أبواب الدور محكمة الإغلاق والستر بنحو كاف كاليوم إذ لم يكن للدور حينئذ ستور.
والاستئناس: الاستعلام (طلب العلم) والاستكشاف، من آنس الشيء:
إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، فمن أراد دخول بيت غيره عليه أن يستأنس، أي يتعرف من أهله ما يريدون من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان، بدليل قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور 24/ 59] . وكان ابن عباس على الأصح فيما روي عنه يفسر الاستئناس بالاستئذان، ولا يحصل الاستئناس إلا بعد حصول الإذن بعد الاستئذان.
ويكون الاستئذان ندبا ثلاث مرات، فإن أذن للزائر وإلا انصرف، كما
ثبت في الصحيح لدى مالك وأحمد والشيخين وأبي داود عن أبي موسى وأبي سعيد معا أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا، فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فلينصرف» الحديث.
وظاهر الآية أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، إلا أن الأول مطلوب على سبيل الوجوب، والثاني على سبيل الندب كما هو حكم السلام في كل موضع. لكن الواجب في الاستئذان هو مرة واحدة، وأما الثلاث فهو مندوب، كما تقدم.(18/201)
والظاهر أن الاستئذان متقدم على السلام لأن الأصل في الترتيب الذّكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبه قال بعض العلماء، والجمهور على تقديم السلام على الاستئذان، بدليل ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه:
«السلام قبل الكلام» وما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم،
وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «السلام على رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟» .
والسلام يكون أيضا ثلاثا كما
أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلّى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا.
والحكمة من الاستئذان والسلام تحاشي الاطلاع على العورات، بدليل
ما رواه أبو داود عن هزيل قال: جاء رجل (قال عثمان: سعد) فوقف على باب النبي صلّى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب،- قال عثمان: مستقبل الباب- فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم «هكذا عنك- أو هكذا- فإنما الاستئذان من النظر»
وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» .
والمراد من هذين الحديثين أن من أدب الاستئذان ألا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يجعله عن يمينه أو شماله، وألا ينظر إلى داخل البيت،
روي أن أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب»
وذلك سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا فإن الطارق قد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.(18/202)
والاستئذان واجب ولو كان الطارق أعمى لأن من عورات البيوت ما يدرك بالسمع، وقد يتأذى أهل البيت بدخول الأعمى، وأما
الحديث المتقدم:
«إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»
فهو بحسب الغالب المعتاد.
ولا فرق في وجوب الاستئذان بين الرجال والنساء، والمحارم وغير المحارم لأن الحكم عام، ولو كان الزائر والدا أو ولدا،
قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار-: أأستأذن يا رسول الله على أمي؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت عليها؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا، قال: «فاستأذن عليها» .
وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود قال: «عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم» .
وروى الطبري عن طاوس قال: «ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم»
وعلى هذا يكون الاستئذان على المحارم واجبا وتركه غير جائز، واستدل ابن عباس عن ذلك بقوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولم يفرق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم محرم.
وقوله تعالى: بُيُوتاً نكرة في سياق النهي فتفيد العموم الشامل للبيوت المسكونة وغير المسكونة، لكن الآية التالية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يقتضي حمل الآية الأولى على المسكونة فقط، ويصير المعنى: أيها المخاطبون لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا.
ثم ذكر تعالى حكمة الأمر بالاستئذان والسلام فقال:
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني الاستئذان والسلام خير وأفضل للطرفين: المستأذن وأهل البيت، من الدخول بغتة، ومن تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال: حييتم صباحا، وحييتم مساء،(18/203)
ودخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ متعلق بمحذوف، أي أنزل عليكم أو أرشدكم ربكم لتتذكروا وتتعظوا، وتعملوا بما هو أصلح لكم.
وكلمة خَيْرٌ هنا أفعل تفضيل، وكلمة «لعل» للتعليل، والحكم المعلل بها مفهوم مما سبق، أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب وبيّنه لكم، ليكون متذكرا منكم دائما، فتعملوا بموجبه.
ثم ذكر تعالى حكم حالة أخرى هي حالة فراغ البيوت من أهلها فقال:
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً، فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فلا يحل الدخول في هذه الحالة لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولأن للبيوت حرمة، وفيها خبيئات لا يريد أحد الاطلاع عليها، فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة. وإذن الصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت الخالية من أصحابها، فإن كان صاحب الدار موجودا فيها، اعتبر إذن الصبي والخادم إذا كان رسولا من صاحب الدار، وإلا لم يجز الدخول.
وقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً المدار فيه على ظن الطارق، فإن كان يظن أنه ليس بها أحد، فلا يحل له أن يدخلها.
لكن يستثني بداهة وشرعا حالة الضرورة، كمداهمة البيت لحرق أو غرق أو مقاومة منكر أو منع جريمة ونحو ذلك.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ: ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي إن طلب منكم صاحب البيت الرجوع، فارجعوا فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، والوقوف على(18/204)
الأبواب، أو القعود أمامها بعد أن تردوا، ففي ذلك ذل ومهانة وعيب، وإحراج لصاحب البيت.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي أن الله عليم بنياتكم وأقوالكم وأفعالكم، فيجازيكم عليها. وهذا وعيد لمن يخالف ما أرشد الله إليه، فإن القصد من هذا الإخبار هنا تقرير الجزاء على هذه الأعمال.
ثم بيّن الله تعالى حكم البيوت غير المسكونة، فقال:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي لا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كالفنادق وحوانيت التجار والحمامات العامة ونحوها من الأماكن العامة، إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وإيواء الأمتعة، والمعاملة بيعا وشراء وغيرهما، والاغتسال، ونحو ذلك.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي إن الله تعالى عليم بما تظهرونه من استئذان عند الدخول، وما تضمرونه من قصد سيء من حب الاطلاع على عورات الناس. وهذا وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون البيوت للاطلاع على عوراتها، وهو شبيه بالوعيد الذي ختمت به الآية السابقة.
وهذه الآية الكريمة أخص من سابقتها، ومخصصة لعموم الآية المتقدمة المانعة مطلقا من دخول بيوت الآخرين، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، بغير إذن، كالبيت المستقل المعد للضيف بعد الإذن له فيه أول مرة، ولم يكن مجرد غرفة ضمن غرف أخرى.(18/205)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- تحريم دخول بيت الآخرين من غير استئذان وجوبا، وسلام وتحية ندبا، ويكون السلام قبل الاستئذان، كما دلت السنة.
والسنة في الاستئذان كما تقدم أن يكون ثلاث مرات لا يزاد عليها. وصورة الاستئذان أن يقول الشخص رجلا كان أو امرأة، بصيرا أو أعمى: السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن لم يجبه أحد استأذن ثلاثا ثم ينصرف من بعد الثلاث.
قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع.
وقال المالكية: إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا، سمع وفهم، ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم، سلم عليهم ثلاثا، وإذا كان الغالب هذا فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث، ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه، فخرج مستعجلا فقال:
«لعلنا أعجلناك..» الحديث.
أما اليوم حيث اتخذ الناس الأبواب والأجراس، فصار الاستئذان بقرع الباب أو بدق الجرس، فإن طلب من الطارق التعريف بنفسه وجب عليه ذلك، منعا من الإزعاج والتخويف أو الإحراج والمضايقة.(18/206)
ولا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يقف يمينا وشمالا، بحيث إذا فتح الباب لا يقع النظر فجأة على ما يكره صاحب البيت.
وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أبواب النبي صلّى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير «1» .
ودليل التعريف بشخص الداخل
ما روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استأذنت على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «من هذا» ؟
فقلت: أنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنا أنا» كأنه كره ذلك لأن قوله: «أنا»
لا يحصل بها تعريف، وإنما أن يذكر اسمه، كما فعل عمر وأبو موسى رضي الله عنهما.
ولكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، وكان الناس في الماضي يسلمون، ثم تركوا السلام لاتخاذ الأبواب التامة الستر، المحكمة الإغلاق. وهذا في بيت الآخرين.
أما في بيت الإنسان الخاص، فلا حاجة فيه للإذن إن كان فيه الأهل (الزوجة) . والسنة السلام إذا دخل. قال قتادة: إذا دخلت على بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه مع الأهل أمك أو أختك، فقال العلماء: تنحنح واضرب برجلك حتى تنتبها لدخولك لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها، وأما الأم والأخت فقد تكونان على حالة لا تحب أن تراهما فيه.
وإذا دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، كما قال قتادة. والملائكة ترد عليه.
وإذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب الباب، فطعن أحدهم عينه
__________
(1) ذكره أبو بكر علي بن ثابت الخطيب في جامعه.(18/207)
فقلعها، فقال الشافعي وأحمد: لا شيء عليه،
لما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم، ففقئوا عينه، فقد هدرت عينه»
وعبارة مسلم: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم، حلّ لهم أن يفقؤوا عينه» .
وروى سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمن اطلع في إحدى حجراته، وكانت في يده مدرى يحك بها رأسه: «لو كنت أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك» .
وقال أبو حنيفة ومالك: إن فقأ عينه فعليه الضمان من قصاص أو أرش (تعويض أو دية) لعموم قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة 5/ 45] . ثم إن الاعتداء جناية، يستوجب الأرش أو القصاص. أما الأحاديث السابقة فهي منسوخة، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل 16/ 126] . ويحتمل أن يكون ذلك على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر، وهو يريد شيئا آخر كما
جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: «قم فاقطع لسانه»
وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يراد بفقء العين أن يعمل به عملا حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره.
2- تحريم الدخول إلى بيت الآخرين إذا لم يوجد فيه صاحبه حتى يؤذن له، وهذا مستفاد من الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها، التقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا، وإلا فارجعوا، فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا.(18/208)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
ولا فرق في وجوب الاستئذان وتحريم الدخول بغير إذن بين أن يكون الباب مغلقا أو مفتوحا.
ويجوز الإذن من الصغير والكبير، وقد كان أنس بن مالك يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم.
3- قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لأهل التجسس على البيوت، وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز.
4- إباحة الدخول في البيوت غير المسكونة والأماكن العامة كالفنادق والحوانيت والحمامات العامة ونحوها، إذا كان الدخول لمصلحة أو حق انتفاع كالمبيت والمعاملة والاغتسال وإيداع الأمتعة ونحو ذلك.
وعلى هذا تكون آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. لرفع حكم الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل الاطلاع على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم.
الحكم السابع حكم النظر والحجاب
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)(18/209)
الإعراب:
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ يَغُضُّوا مجزوم بجواب قل، ومِنْ هنا لبيان الجنس.
وقال الزمخشري: للتبعيض. وزعم الأخفش أنها زائدة، أي قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، والأكثرون على خلافه لأن من لا تزاد في حال الإيجاب، وإنما تزاد حال النفي.
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غَيْرِ بالجر: صفة ل التَّابِعِينَ أو بدل منهم لأنه ليس بمعرفة صحيحة لأنه ليس بمعهود. وقرئ بالنصب غير على الحال أو الاستثناء. قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
البلاغة:
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فيه إيجاز بالحذف، أي عما حرّم الله، لا عن كل شيء.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ مجاز مرسل، والمراد مواقع الزينة، من إطلاق الحال وإرادة المحل، مبالغة في الأمر بالتستر والتصون.
المفردات اللغوية:
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي يكفّوا البصر عما لا يحل لهم النظر إليه. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عما لا يحل لهم فعله بها. وسبب التفرقة بين غض البصر بذكر مِنْ وبين حفظ الفروج دون ذكر من: أن غض البصر فيه توسع إذ يجوز النظر إلى المحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وإلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها، وقدميها في إحدى الروايتين، وأما أمر الفروج فمضيق، كما ذكر(18/210)
في الكشاف، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، أي فالأصل في الفروج الحظر، وفي النظر الإباحة. وتقديم الغض على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنى.
أَزْكى خير وأطهر. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ بالأبصار والفروج، فيجازيهم عليه.
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتستر أو التحفظ عن الزنى، أي بحفظ فروجهن عما لا يحل لهن فعله بها. يُبْدِينَ يظهرن. زِينَتَهُنَّ كالحلي والثياب والأصباغ، أو لا يظهرن مواضع الزينة لمن لا يحل أن تبدي له. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم، فإن في سترها حرجا. وقيل: المراد هو الوجه والكفان، فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين لأنها ليست بعورة، والوجه الثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة. قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم القريب النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة والتعليم والمعاملة وتحمل الشهادة.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب: جمع جيب: وهو فتحة في أعلى الجلباب (أو الثوب) يبدو منها بعض الصدر. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي الخفية، أو مواضع الزينة، وهي ما عدا الوجه والكفين، وكرر ذلك لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له. إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أزواجهن، جمع بعل: أي زوج، فإنهم هم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدن الزوجة، حتى الفرج مع الكراهة. أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ.. إلى قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ رفعا للحرج بسبب كثرة المعاشرة والمخالطة والمداخلة، وقلة توقع الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسة الأقارب، فيجوز لهم نظره إلا ما بين السرة والركبة، فيحرم نظره لغير الأزواج. وخرج بقوله: نِسائِهِنَّ الكافرات، فلا يجوز في رأي الجمهور للمسلمات الكشف أمامهن لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال. وأجاز الحنابلة ذلك لأن المراد جنس النساء أو كلهن.
وما ملكت أيمانهن: هم العبيد والجواري (الإماء) .
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الْإِرْبَةِ الحاجة إلى النساء، أي غير أولي الحاجة إلى النساء، وهم الشيوخ الهرمى الذين لا يحدث لهم انتشار ذكر، وقيل: البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم، ولا يعرفون شيئا من أمور النساء، وفي المجبوب والخصي خلاف. أَوِ الطِّفْلِ الأطفال، لعدم تمييزهم. لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا على عورات النساء للجماع، ولم يعرفوا ذلك لعدم بلوغهم حد الشهوة أو لصغرهم، فيجوز الإبداء لهم ما عدا ما بين السرة والركبة.
والطِّفْلِ جنس وضع موضع الجمع، اكتفاء بدلالة الوصف، أو أنه يطلق على الواحد والجمع.(18/211)
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي الخلخال الذي يتقعقع فإن ذلك يلفت النظر ويورث الميل عند الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة، وأدل على المنع من رفع الصوت. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مما وقع لكم من النظر الممنوع. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي بسعادة الدارين، وتنجون من الإثم لقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلا مرّ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال:
والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت برتين «1» من فضة، واتخذت جزعا (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع، فصوّت، فأنزل الله وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية.
__________
(1) برتين من فضة: مفرد برة، والبرة: الخلخال، وكل حلقة من سوار وقرط.(18/212)
المناسبة:
الآية واضحة الاتصال بما قبلها، فإن الدخول إلى البيوت مظنة الاطلاع على العورات، لذا أمر المؤمنون والمؤمنات بغض البصر بصورة حكم عام يشمل المستأذن للدخول إلى البيوت وغيره، فيجب على المستأذن التحلي به عند الاستئذان والدخول، منعا من انتهاك الحرمات المنهي عنها، كما يجب على النساء عدم إبداء الزينة لأحد إلا للمحارم، لما في ذلك من الفتنة الداعية إلى الوقوع في الحرام، كالنظر الذي هو أيضا بريد الزنى، فالجامع بين حكم النظر والحجاب سد الذرائع إلى الفساد.
التفسير والبيان:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي قل يا محمد لعبادنا المؤمنين: كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، فلا تنظروا إلا إلى ما أباح لكم النظر إليه. والتعبير بالمؤمنين: إشارة إلى أن من شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر. وليس المراد بغض البصر إغماض العين وإطباق أجفانها، بل المراد جعلها خافضة الطرف من الحياء، ومِنْ للتبعيض أي يغضوا بعض أبصارهم، فلا يحملقوا بأعينهم في محرم، ويكون المراد حينئذ توبيخ من يكثر التأمل في المحرم، كما حدث في سبب النزول الذي أخرجه ابن مردويه، وللتفرقة في الأمر بين غض البصر وحفظ الفروج، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما استثني، وأما النظر فالأصل فيه الإباحة إلا ما استثني كما بينا.
فإن وقع البصر على محرّم من غير قصد، وجب إغضاء الطرف وصرف النظر عنه سريعا
لما رواه مسلم في صحيحة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن نظر(18/213)
الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري» .
وروى أبو داود عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة» .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله، لا بدّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقّه، قالوا:
وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» .
وسبب الأمر بغض البصر هو سدّ الذرائع إلى الفساد، ومنع الوصول إلى الإثم والذنب، فإن النظر بريد الزنى، وقال بعض السلف: النظر سهم سمّ إلى القلب، ولذلك جمع الله في الآية بين الأمر بحفظ الفروج، والأمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى المحظور الأصلي وهو الزنى، فقال:
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي من ارتكاب الفاحشة كالزنى واللواط ومن نظر أحد إليها، كما
روى أحمد وأصحاب السنن: «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك» .
وقال تعالى مبينا حكمة الأمر بالحكمين:
ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي إن غض البصر وحفظ الفرج خير وأطهر لقلوبهم، وأنقى لدينهم، كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته، أو في قلبه.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغض بصره، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها»
وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» .
وأزكى الذي هو أفعل التفضيل للمبالغة في أن(18/214)
غض البصر وحفظ الفرج يطهران النفوس من دنس الرذائل. والمفاضلة على سبيل الفرض والتقدير، أو باعتبار ظنهم أن في النظر نفعا.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ أي إن الله عليم علما تاما بكل ما يصدر عنهم من أفعال، لا تخفى عليه خافية، وهذا تهديد ووعيد، كما قال تعالى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] فهو يعلم استراق النظر وسائر الحواس، والخبرة: العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء.
أخرج البخاري في صحيحة تعليقا ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرّجلين الخطا، والنفس تمنّي وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه» .
وخلافا لما عليه غالب الخطابات التشريعية من دخول النساء في الحكم بخطاب الرجال تغليبا، أمر الله تعالى المؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج كما أمر الرجال، تأكيدا للمأمور به، وبيان بعض الأحكام التي تخصهن وهي النهي عن إبداء الزينة، والحجاب، والامتناع عن كل ما يلفت النظر إلى زينتهن، فقال تعالى:
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي وقل أيها الرسول أيضا للنساء المؤمنات: اغضضن أبصاركن عما حرم الله عليكن من النظر إلى غير أزواجكن، واحفظن فروجكن عن الزنى ونحوه كالسحاق، فلا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا، في رأي كثير من العلماء، بدليل
ما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة: «أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما(18/215)
أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو عمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟» .
وفي الموطأ عن عائشة أنها احتجبت عن أعمى، فقيل لها:
إنه لا ينظر إليك، قالت: لكنني أنظر إليه.
وأجاز جماعة آخرون من العلماء نظر النساء إلى الرجال الأجانب بغير شهوة فيما عدا ما بين السرة والركبة، بدليل ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة، وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت. وهذا الرأي أيسر في عصرنا.
وأصحاب الرأي الثاني وهو جواز النظر بغير شهوة يحملون الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي الله عنها من الأعمى كان ورعا منها، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار متنقبات، حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة في الحكم بين الرجال والنساء.
ثم ذكر الله تعالى الأحكام الخاصة بالنساء وهي ما يلي:
1- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب حين التحلي بها وهي كل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها، فيكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه بالأولى، أو لا يظهرن مواضع الزينة بإطلاق الزينة وإرادة مواقعها، بدليل قوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها والثاني هو الأولى لأن الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي، وعلى كل حال هناك تلازم بين الزينة وموضعها، والغاية هي النهي عن أجزاء الجسد التي تكون(18/216)
محلا للزينة، كالصدر والأذن والعنق والساعد والعضد والساق.
وأما ما ظهر منها فهو الوجه والكفان والخاتم، كما نقل عن ابن عباس وجماعة، وهو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له
بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
وهو حديث مرسل.
وبناء عليه قال الحنفية والمالكية، والشافعي في قول له: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، فيكون المراد بقوله: ما ظَهَرَ مِنْها ما جرت العادة بظهوره.
وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا لأن الحرج في سترهما أشد منه في ستر الكفين، لا سيما أهل الريف. وعن أبي يوسف: أن الذراعين ليستا بعورة، لما في سترهما من الحرج.
وذهب الإمام أحمد، والشافعي في أصح قوليه إلى أن بدن الحرة كله عورة، للأحاديث المتقدمة في نظر الفجأة، وتحريم متابعة النظر،
ولما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، فطفق الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة خثعمية حين سألته، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلم بذقن الفضل، فحول وجهه عن النظر إليها.
ويكون المراد بقوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ما ظهر بنفسه من غير قصد.
والراجح فقها وشرعا أن الوجه والكفين ليسا بعورة إذا لم تحصل فتنة، فإن خيفت الفتنة وحصلت المضايقة وكثر الفساق وجب ستر الوجه. وأما أدلة الفريق الثاني فمحمولة على الورع والاحتياط ومخافة الفتنة والاسترسال في مزالق الشيطان.(18/217)
ويجوز شرعا استثناء وللضرورة النظر إلى الأجنبية كحال الخطوبة والشهادة والقضاء والمعاملة والمعالجة والتعليم، ففي كل هذه الأحوال يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط، ويجوز للطبيب إذا لم توجد طبيبة النظر إلى موضع العلة أو الداء للعلاج.
2- وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي ليسدلن ويرخين أغطية الرؤوس على أعلى أجزاء الصدر لستر الشعور والأعناق والصدور. والضرب هنا:
السدل والإلقاء والإرخاء، والخمر: جمع خمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب: جمع جيب: وهو فتحة في أعلى الثوب يبدو منها بعض النحر.
وهذا أمر إرشاد لستر بعض مواضع الزينة الباطنة عند النساء، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن (أزرهن) فاختمرن بها.
3- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أي لا يظهرن زينتهن الخفية إلا لأزواجهن فهم المقصودون بالمتعة والنظر، أو آباء النساء والأجداد، أو آباء الأزواج أو أبناء النساء أو أبناء الأزواج أو الإخوة والأخوات وبني الإخوة أو بني الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم، فكل هؤلاء محارم يجوز للمرأة أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج، وهؤلاء هم الأقارب من النسب وهم خمسة أنواع، وفيهم نوعان من الأقارب لأجل المصاهرة وهما آباء الأزواج وأبناء الأزواج، ولكن لم تذكر الآية من المحارم النسبية الأعمام والأخوال لأن العمومة والخؤولة بمنزلة الأبوة. كذلك لم تذكر المحارم من الرضاع ولكن نصت السنة عليهم
فيما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .(18/218)
أَوْ نِسائِهِنَّ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ هؤلاء بقية الأنواع الذين يجوز للمرأة إظهار الزينة فيما عدا ما بين السرة والركبة، وهم النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الحاجة إلى النساء وهم الأجراء والأتباع الذين لا شهوة عندهم إلى النساء، كالخصيان والمجبوبين والمعتوهين، والأطفال الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن لصغرهم وعدم اطلاعهم على القضايا الجنسية.
لكن وقع خلاف بين العلماء في النساء والمماليك والتابعين والأطفال، أما النساء: فقال الجمهور: المراد النساء المسلمات أي نسائهن في الدين، دون نساء أهل الذمة، فلا يجوز للمسلمة إظهار شيء من جسمها ما عدا الوجه والكفين أمام المرأة الكافرة، لئلا تصفها لزوجها أو غيره، فهي كالرجل الأجنبي بالنسبة لها.
أما المسلمة فتعلم أن ذلك حرام، فتنزجر عنه،
أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها، كأنه ينظر إليها» .
روى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها» .
وقال جماعة منهم الحنابلة: إن المراد بهن عموم النساء المسلمات والكافرات، فتكون الإضافة في قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ للمشاكلة والمشابهة أي من جنسهن، وتكون عورة المرأة بالنسبة للمرأة مطلقا ما بين السرة والركبة فقط.
وأما ما ملكت أيمانهن: فقال الأكثرون: يشمل الرجال والنساء، فيجوز أن(18/219)
تظهر المرأة على رقيقها من الرجال والنساء ما عدا ما بين السرة والركبة
لما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك» .
وذهبت طائفة إلى أن ذلك مخصوص بالإماء فقط لأن العبد رجل كالحر الأجنبي في التحريم.
وأما التابعون غير أولي الإربة أي الحاجة إلى النساء: فهم الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم من غير أن تكون لهم حاجة في النساء ولا ميل إليهن، واختلف العلماء في المراد بهم فقيل: إنه الشيخ الفاني الذي فنيت شهوته، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا، أو المجبوب، أو الخصي أو الممسوح أو خادم القوم للعيش أو المخنث. والمعتمد أن المراد به: كل من ليس له حاجة إلى النساء، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب،
أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مخنّث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو ينعت امرأة يقول: إذا أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلن عليكن» فأخرجه من المنزل.
وأما الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء: فهم الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن، ولم يظهر عندهم الميل الجنسي القوي لصغر سنهم، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، أما المراهق أو القريب من المراهقة قبل البلوغ الذي يحكي ما يرى، ويفرّق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء، بدليل وجوب استئذان الطفل عند(18/220)
دخول البيوت، في أوقات ثلاثة، بيّنها الله تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.. الآية [النور 24/ 59] .
وقال جماعة آخرون: لا يحرم على المرأة إبداء زينتها للطفل إلا إذا كان فيه تشوق إلى النساء، سواء أكان مراهقا أم غير مراهق، والإباحة هنا أوسع مما قرره أصحاب الرأي الأول.
ثم نهى الله تعالى عما يكون وسيلة أو ذريعة إلى الفتنة فقال:
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يجوز للمرأة أن تدق برجليها في مشيتها، ليعلم الناس صوت خلاخلها لأنه مظنة الفتنة والفساد، ولفت الأنظار، وإثارة مشاعر الشهوة، وإساءة الظن بأنها من أهل الفسوق، فإسماع صوت الزينة كإبدائها وأشد، والغرض التستر.
وهذا يشمل كل ما يؤدي إلى الفتنة والفساد كتحريك الأيدي بالأساور، وتحريك الجلاجل (المقصات) في الشعر، والتعطر والتطيب والزخرفة عند الخروج من البيت، فيشم الرجال طيبها، ويفتتنون بزخارفها
روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا»
يعني زانية.
وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل من الجنابة» .
واللام في قوله: لِيُعْلَمَ لام العاقبة أو الصيرورة، فهي منهية عن الضرب بالأرجل أمام الرجال الأجانب مطلقا، سواء قصدت إعلامهم أم لم تقصد، فإن عاقبة الضرب بالأرجل ذات الخلاخل، ومثلها (الأحذية الحالية ذات الكعاب العالية) أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة، فتقع الفتنة بها.(18/221)
واستدل الحنفية بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة، فإنها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى.
والظاهر أن صوت المرأة ليس بعورة إن أمنت الفتنة، بدليل أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال الأجانب.
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي ارجعوا إلى طاعة الله والإنابة إليه أيها المؤمنون جميعا، وافعلوا ما أمركم به من هذه الصفات والأخلاق الحميدة، واتركوا ما نهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج والدخول إلى بيوت الآخرين بلا استئذان وما كان عليه الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وخوطبوا بصفة الإيمان للتنبيه على أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال وعلى التوبة والاستغفار من الهفوات والزلات، فإن التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- وجوب غض البصر من الرجال والنساء عما لا يحل من جميع المحرّمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله لأن البصر مفتاح الوقوع في المنكرات، وشغل القلب بالهواجس، وتحريك النفس بالوساوس، وبريد السقوط في الفتنة أو الزنى، ومنشأ الفساد والفجور.
2- وجوب حفظ الفروج أي سترها عن أن يراها من لا يحل، وحفظها من التلوث بالفاحشة كالزنى واللواط، واللمس والمفاخذة والسحاق.
3- تحريم الدخول إلى الحمام بغير مئزر، قال ابن عمر: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمّام في خلوة، أي في وقت لا يوجد فيه الناس أو قلة الناس.(18/222)
وذكر الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا بيتا يقال له الحمّام، قيل: يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار، فقال: إن كنتم لا بد فاعلين فأدخلوه مستترين» .
4- إن غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين، وأبعد من دنس الذنوب، والله مطّلع عالم بأفعال العباد ونيات القلوب وهمسات الألسن، واستراق السمع والبصر، وبكل شيء، لا تخفى عليه خافية، ويجازي على ذلك كله.
5- العورات أربعة أقسام:
أ- عورة الرجل مع الرجل: يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة، وهما ليستا بعورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الركبة عورة.
وقال مالك: الفخذ ليست بعورة أي في الصلاة لا في النظر، والدليل على أنها عورة ما
روي عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ به في المسجد، وهو كاشف عن فخذه، فقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم عن محمد بن عبد الله بن جحش: غطّ فخذك، فإن الفخذ عورة»
وقال لعلي رضي الله عنه فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن علي: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» .
أما الأمرد فلا يحل النظر إليه.
ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش
لما روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» .
وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة لما
روى أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا» ، قال: أيلتزمه ويقبّله؟ قال: «لا» ، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم» .(18/223)
ب- وعورة المرأة مع المرأة: كعورة الرجل مع الرجل، لها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، وعند خوف الفتنة لا يجوز، ولا تجوز المضاجعة.
والأصح أن المرأة الذمية (غير المسلمة) لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين، والله تعالى يقول: أَوْ نِسائِهِنَّ وليست الذمية من نسائنا.
ج- وعورة المرأة مع الرجل: إن كانت أجنبية عنه فجميع بدنها عورة، ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لحاجتها لذلك في البيع والشراء. ولا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض، وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره، للآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ.
وأجاز أبو حنيفة النظر مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة. ولا يجوز أن يكرر النظر إليها،
للحديث المتقدم: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة» .
ويجوز النظر للخطبة،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان والطبراني عن أبي حميد الساعدي: «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم»
ويجوز النظر عند البيع ليعرفها عند الحاجة، وكذلك يجوز عند تحمل الشهادة النظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. أما النظر للشهوة فهو محظور
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد والطبراني عن ابن مسعود: «العينان تزنيان» .
كذلك يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمرأة للمعالجة، ويجوز للختّان أن ينظر إلى فرج المختون لأنه موضع ضرورة، ويجوز تعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنى، وإلى فرج المرأة لتحمل شهادة الولادة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. ويصح النظر لبدن المرأة للإنقاذ من غرق أو حرق وتخليصها منه.(18/224)
وأما إذا كانت المرأة ذات محرم من الرجل بنسب أو رضاع أو مصاهرة فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وقال جماعة منهم أبو حنيفة:
بل عورتها معه: ما لا يبدو عند المهنة.
وأما إذا كانت المرأة زوجة: فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها، حتى إلى فرجها، غير أنه يكره النظر إلى الفرج.
د- وعورة الرجل مع المرأة: إن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل: جمع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه، والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل لأن بدن المرأة في ذاته عورة، بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرار النظر إلى وجهه،
للحديث السابق: «احتجبا منه»
أي عن ابن أم مكتوم، وإن كان أعمى.
وإن كان زوجا فلها أن تنظر إلى جميع بدنه، غير أنه يكره النظر إلى الفرج، كما يكره له أيضا.
ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال، وله ما يستر عورته لأنه
روي أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عنه، فقال فيما رواه البخاري والترمذي وابن ماجه: «الله أحق أن يستحيي منه»
وقال فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر: «إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله» «1» .
6- أمر الله تعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا الوجه والكفين حذرا من الافتتان، والزينة نوعان: ظاهر وباطن، أما الظاهر فمباح لكل الناس من المحارم والأجانب. وأما الباطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سمّاهم الله تعالى في هذه الآية.
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 202- 204(18/225)
أما السّوار: فقالت عائشة: هو من الزينة الظاهرة لأنه في اليدين.
وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة لأنه خارج عن الكفين، وإنما يكون في الذراع. وأما الخضاب فهو- في رأي ابن العربي- من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
7- يجب على المرأة ستر شعرها وعنقها ومقدم صدرها، لقوله تعالى:
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها. روى البخاري عن عائشة قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن أزرهن فاختمرن بها.
8- استثنى الله تعالى من الرجال الذين لا يجوز للمرأة إبداء زينتها لهم المحارم ومن في حكمهم وهم الأزواج، وآباءهن وكذا الأجداد، سواء من جهة الأب أو الأم، وأبناء الأزواج ذكورا وإناثا، والإخوة الأشقاء أو لأب أو لأم، وأبناء الإخوة كذلك. ويلحق بهم الأعمام والأخوال، وهؤلاء هم الأقارب من جهة النسب، ومثلهم الأقارب من جهة الرضاع، وجميع هؤلاء يسمون المحارم.
ومن الاستثناء: النساء والمماليك العبيد والإماء المسلمات والكتابيات، في رأي الأكثرين، وقيل: الإماء فقط، والتابعون غير أولي الإربة وهم المسنون الضّعفة أو البله، أو العنّين أو الممسوح، وهم في المعنى متقاربون، والأطفال الذين لم يفهموا شيئا عن عورات النساء، ولم يظهر فيهم الميل الجنسي لصغر سنهم.
9- يحرم على المرأة فعل ما شأنه الإيقاع في الفتنة والفساد والتبرج والتعرض للرجال، كالضرب بالنعال، والتعطر والتزين عند الخروج من البيت. فإن ضربت المرأة بنعلها فرحا بحليها فهو مكروه كما ذكر القرطبي.
10- التوبة على المؤمنين والمؤمنات واجبة وفرض متعين بلا خلاف بين(18/226)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
الأمة، فإن كل إنسان محتاج إلى التوبة لأنه لا يخلو من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تترك التوبة في كل حال، ويلزم تجديد التوبة كلما تذكر الإنسان ذنبه لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه.
أخرج أحمد والبخاري والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» .
وشروط التوبة أربعة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها.
الحكم الثامن والتاسع والعاشر زواج الأحرار ومكاتبة الأرقاء والإكراه على الزنى
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)(18/227)
الإعراب:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الَّذِينَ مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب. أو فَكاتِبُوهُمْ هو الخبر، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط.
المفردات اللغوية:
الْأَيامى جمع أيّم: وهي من الحرائر كل من ليس لها زوج، بكرا كانت أو ثيبا، وكل من ليس له زوج من الأحرار وَالصَّالِحِينَ للزواج والقيام بحقوقه مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ عباد: جمع عبد، وإماء: جمع أمة وهي الرقيقة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي غني ذو سعة لا تنفذ نعمته إذ لا تنتهي قدرته عَلِيمٌ بخلقه يبسط الرزق ويقدر على مقتضى حكمته.
لْيَسْتَعْفِفِ ليجتهد في العفة لا يَجِدُونَ نِكاحاً لا يتمكنون من مؤن النكاح وأسبابه المالية من مهر ونفقة، ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يوسع عليهم من فضله، فيجدون ما يتزوجون به الْكِتابَ المكاتبة: وهي أن يقول السيد لمملوكه:
كاتبتك على كذا من الأقساط، فإن أديتها فأنت حر، فهي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدي مالا لسيده، فيعتق، أو هي إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال مقسطا فَكاتِبُوهُمْ الأمر فيه للندب عند أكثر العلماء إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي أمانة وقدرة على الكسب والاحتراف لأداء مال الكتابة، وقيل: صلاحا في الدين وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أمر للسادة بإعطاء المكاتبين شيئا من المال للاستعانة به في أداء ما التزموه لكم، أو حط شيء من مال الكتابة، وهو للوجوب عند الأكثر، ويكفي أقل ما يتمول. وقيل: ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وقيل:
أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهما من الزكاة، ويحل للمولى السيد وإن كان غنيا لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ لا تكرهوا إماءكم على الزنى إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً تعففا عنه، وهذا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطا للنهي بقوله: وَلا تُكْرِهُوا فلا مفهوم للشرط، أي لا يلزم من عدم إرادة التحصن جواز الإكراه، فهو حرام مطلقا. نزلت في عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لهن رحيم بهن، والإكراه لا ينافي المؤاخذة، فلا يقال: إن المكرهة غير آثمة، فلا حاجة إلى المغفرة، ولذا حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص عند جماعة كالشافعية. لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتطلبوا بالإكراه الكسب.(18/228)
مُبَيِّناتٍ مفصّلات ما تحتاجون إلى بيانه من الأحكام والحدود والآداب. وعلى قراءة فتح الباء يكون المعنى: مبيّن فيها ما ذكر وَمَثَلًا أي قصة عجيبة وهي قصة عائشة ويوسف ومريم مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي ومثلا من أمثال من قبلكم، أي من جنس أمثالهم وأخبارهم العجيبة، كقصة يوسف ومريم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي عظة يوعظ بها المتقون، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالعظة.
سبب النزول:
نزول الآية (33) :
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحو يطب بن عبد العزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حو يطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب.
نزول آية: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ:
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مسيكة وأميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية.
وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنى، فأتتا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشكتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.(18/229)
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى عما لا يحل مما يفضي إلى السفاح أو الزنى المؤدي إلى اختلاط الأنساب كغض البصر وحفظ الفروج، أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج الحافظ للأنساب وبقاء النوع الإنساني وترابط الأسرة ودوام الألفة وحسن تربية الأولاد، فقال: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والخطاب للأولياء والسادة.
التفسير والبيان:
موضوع الآيات بيان طائفة من الأحكام والأوامر، أولها الأمر بالتزويج.
الحكم الثامن- ما يتعلق بالزواج:
قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ أي زوجوا أيها الأولياء والسادة أو أيتها الأمة جميعا بالتعاون وإزالة العوائق من لا زوج له من الرجال والنساء الأحرار والحرائر، ومن فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم وقدرة على القيام بحقوق الزوجية وساعدوهم على الزواج بالإمداد بالمال، وعدم الإعاقة من التزويج، وتسهيل الوسائل المؤدية إليه. والصحيح أن الخطاب للأولياء، وقيل: للأزواج.
وظاهر الأمر في رأي الجمهور للندب والاستحباب والاستحسان لأنه كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر أحد عليهم، ولأنه ليس للولي إجبار الأيم الثيب لو أبت التزوج، ولاتفاق العلماء على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته.
وذهبت طائفة من العلماء كالرازي إلى أن ظاهر الأمر هنا للوجوب على كل من قدر عليه،
لخبر الصحيحين عن ابن مسعود: «يا معشر الشباب من استطاع(18/230)
منكم الباءة- مؤن الزواج- فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» .
ولما
جاء في السنن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فيما رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» .
ورتبوا على القول بالوجوب ألا يجوز النكاح إلا بولي.
والمراد بالصلاح: معناه الشرعي وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه. وقيل:
المراد به المعنى اللغوي وهو أهلية النكاح والقيام بحقوقه. والعباد كالعبيد: جمع عبد وهو الذكر من الأرقاء. والإماء جمع أمة، وهي الأنثى الرقيقة. وقوله وَالصَّالِحِينَ بتغليب الذكور على الإناث، واعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى الأحرار والحرائر لأنه عنصر مشجع على التغاضي من قبل السيد عن منافع العبيد والإماء، فلا يدفعهم إلى التزويج إلا استقامة هؤلاء المماليك وصلاحهم أو ظن قيامهم بحقوق الزوجية.
واستدل الإمام الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على جواز تزويج الولي البكر البالغة بدون رضاها لأن الخطاب في الآية للأولياء، فهم المأمورون بالتزويج لمن لهم الولاية عليهم، سواء كانت المولية كبيرة أم صغيرة، وسواء رضيت أم لم ترض. ولولا وجود أدلة أخرى من السنة على أنه لا يزوج الولي الثيب الكبيرة بغير رضاها، لكان حكمها حكم البكر الكبيرة، لعموم الآية. لكن
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: «البكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها»
يدل على وجوب استئذانها واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية.
واستدل الشافعية بالآية على أن المرأة لا تلي عقد الزواج لأن المأمور بتزويجها وليها، لكن الأولى حمل الخطاب في الآية على أنه خطاب للناس جميعا بندبهم إلى المساعدة في التزويج، فيؤخذ حكم مباشرة العقد من غير هذه الآية.
واستدل بعض الحنفية بظاهر الآية: وَأَنْكِحُوا على أنه يجوز للحر أن(18/231)
يتزوج بالأمة، ولو كان مستطيعا مهر الحرة. ورد الشافعية بأن قوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا- مهرا- أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء 4/ 25] أخص من هذه الآية، والخاص مقدم على العام. كما أن العلماء أجمعوا على أن عموم الأيامى في الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مقيد بشروط: ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة كالجمع بين الأختين ونحوهما كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.
واستدل العلماء بقوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ على أمرين:
الأول- أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما.
والثاني- أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد، منعا من تفويت استعمال حقه، ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه، فهو زان» .
ثم أزال الله تعالى التعلل بعدم وجدان المال فقال:
إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ هذا وعد بالغنى للمتزوج، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، سواء فقر الخاطب أو المخطوبة، ففي فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ولا حد لقدرته، عليم بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على وفق الحكمة والمصلحة.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» .
وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. إلا أن إغناء المتزوج مشروط بالمشيئة لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة 9/ 28] وقوله هنا: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي يعلم المصلحة فيعطي بالحكمة.(18/232)
وضمير إِنْ يَكُونُوا راجع إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء، فيكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة. وقيل: إنه يرجع إلى الأيامى الأحرار والحرائر فقط لأن المراد بالإغناء في قوله تعالى:
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هو تمليك ما يحصل به الغنى، والأرقاء لا يملكون.
واستدل بعض العلماء بالآية على عدم جواز فسخ الزواج بالعجز عن النفقة لأن الله تعالى لم يجعل الفقر مانعا من التزويج في ابتداء الأمر، فلا يمنع استدامة الزواج بالأولى. وعلى كل حال فإن المقصود بالآية أنه يندب ألا يرد الخاطب الفقير ثقة بما عند الله، كذلك يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر.
ويفهم من الآية أنه يندب للفقير أن يتزوج ولو لم يجد مؤن الزواج لأنه إذا ندب الولي إلى تزويج الفقير، ندب الفقير نفسه إلى الزواج.
وبعد الأمر بتزويج الحرائر والإماء أغنياء أو فقراء، وضع القرآن العلاج لحال العاجز عن وسائل الزواج، ولم يجد أحدا يزوجه، فقال تعالى:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من نفقات الزواج، ويكون المراد بالنكاح حقيقته الشرعية، وبالوجدان التمكن منه، ويجوز أن يراد بالنكاح هنا ما ينكح به، كركاب الذي هو اسم آلة لما يركب به. والمراد بالآية توجيه العاجزين عما يتزوجون به أن يجتهدوا في التزام جانب العفة عن إتيان ما حرم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون، فالتعفف عن الحرام واجب المؤمن، وفي الآية وعد كريم من الله بالتفضل عليهم بالغنى، فلا ييأسوا ولا يقلقوا.
جاء في الحديث الصحيح المتقدم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه(18/233)
بالصوم، فإنه له وجاء»
والباءة: مؤن الزواج من مهر ونفقة وغيرها.
واستدل بعض العلماء بالآية على أنه يندب ترك الزواج لمن لا يملك أهبته مع التوقان، وحينئذ يكون هناك تعارض مع الآية السابقة التي تندب إلى الزواج، فقال الشافعية: هذه الآية مخصصة للآية السابقة، أي أن تلك الآية في الفقراء الذين يملكون أهبة الزواج، وهذه الآية في الفقراء العاجزين عن أهبة الزواج.
ويرى الحنفية تأويل هذه الآية، وأن النكاح أي المنكوحة ككتاب بمعنى مكتوب، ويكون الأمر بالاستعفاف هنا محمولا على من لم يجد زوجة له، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين، لكن قوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يجعل هذا التأويل بعيدا.
الحكم التاسع- مكاتبة الأرقاء:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم المكاتبة على أداء مال معين في مدة معينة، فاعقدوا معهم عقد الكتابة إذا كانوا من أهل الصلاح والتقوى، والأمانة، والقدرة على الكسب وأداء المال المشروط لسيده. وقد فسر الخير بتفسيرات قيل:
إنه الأمانة والقدرة على الكسب، وهو تفسير ابن عباس والشافعي. وقيل: إنه الحرفة، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي في السنن: «إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلّا على الناس» ، وقيل: إنه المال، وهو مروي عن علي وجماعة، وقيل: إنه الصلاح والإيمان وهو تفسير الحسن البصري، وهذا يقتضي ألا يكاتب غير المسلم، وفيه تشدد.
والجمهور على أن الأمر في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ للإرشاد والندب والاستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
وكما لا يجب عليه بيعه(18/234)
ممن يعتقه في الكفارة ولا يجبر، لا تجب عليه الكتابة ولا يجبر عليها، فالعقود كلها تقوم على التراضي.
وقال داود الظاهري وجماعة من التابعين: الأمر للوجوب، لما رواه البخاري تعليقا وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال:
سألني سيرين المكاتبة، فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقبل علي بالدّرّة، وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ فكاتبه.
ويجوز عملا بظاهر إطلاق الآية فَكاتِبُوهُمْ أن يكون البدل حالا أو مؤجلا بقسط واحد أو أكثر، وهو مذهب الحنفية وأصحاب مالك. ومنع الشافعية الكتابة على بدل حال لأن الكتابة تشعر بالتنجيم (التقسيط) ولأن المكاتب عاجز عن الأداء في الحال، فيرد إلى الرق، ولا يحصل مقصود الكتابة.
كذلك منعوا الكتابة على أقل من نجمين (قسطين) لأنه عقد إرفاق وتعاون، ومن تمام الإرفاق التنجيم. وهذا خلاف ظاهر الآية.
والكتابة مشروطة في الآية بظن الخير في المكاتب، فإن لم يعلم فيه الخير، لم تجب ولم تندب، بل ربما تكون الكتابة محرمة، كما إذا علمنا أن المكاتب يكتسب بطريق الفسق، أو الموت جوعا. كما تحرم الصدقة والقرض لمن يصرفهما في محرّم.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي أعطوهم أيها السادة شيئا من مال الكتابة كالربع أو الثلث أو السبع أو العشر، وكل ذلك مروي عن التابعين، أو أقل متمول كما قال الشافعي. وحط شيء من مال الكتابة أولى من الإيتاء لأنه المأثور عن الصحابة. والإيتاء عند الجمهور مندوب للمساعدة والخلاص، وذهب الشافعي إلى أن الإيتاء واجب، وفي معناه الحط، عملا بظاهر الآية.
وقال جماعة من العلماء: إن الأمر متوجه إلى الناس كافة من سهم الزكاة في قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ أي في تحرير الرقاب، وهو مذهب الحنفية،(18/235)
والأمر حينئذ للوجوب. ويؤيده
الحديث المتقدم عن أبي هريرة: «ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» .
قال ابن كثير: والقول الأول أشهر، أي جعل الخطاب للسادة، لا لجماعة المسلمين لأن الخطاب في الزكاة فرض متعين، والآية هنا تضيف على الزكاة مطلبا آخر على السادة.
الحكم العاشر- الإكراه على البغاء:
نهى الله تعالى المؤمنين عن جمع المال من طرق حرام فقال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى، سواء أردن التعفف عنه أو لا، طلبا لعروض الدنيا المادية من مال وولد وغيرهما. وقوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً شرط لحدوث الإكراه وقيد لبيان الواقع الذي بسببه نزلت الآية، بدليل ما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية، وكذلك بينا في سبب النزول أن عبد الله بن أبي كان له جوار يكرههن على الزنى كسبا للمال.
فالتقييد بقيدي إرادة التحصن وابتغاء عرض الحياة الدنيا لا مفهوم له، ويحرم الإكراه مطلقا سواء وجد هذان القيدان أم لا، وإنما جاء ذلك بقصد النص على عادة أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فنص على ذلك للتشنيع، ثم إن قيد إرادة التحصن شرط في تصور الإكراه وتحققه وليس شرطا للنهي، لكن في الحقيقة ذكر الإكراه مغن عن هذا القيد، فيتصور بإكراه غير التي تريد الزنى، ثم حدث الإجماع على تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن أو إرادة التحصن والتعفف.
والتعبير بإن في قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بدل «إذا» للإشعار(18/236)
بوجوب الانتهاء عن الإكراه في حال التردد والشك بإرادة التحصن، فيكون تحريم الإكراه عند تحقق الوقوع أشد وأقبح وأولى.
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن يحدث منه الإجبار على البغاء للإماء فإن الله غفور لهن، رحيم بهن من بعد إكراههن.
وهذا يشعر أنه ولو حدث الزنى بالإكراه فهو ذنب وإثم، بدليل المغفرة، ولأن مثل هذا الفعل لا يخلو من مطاوعة.
وواضح أن المغفرة عائدة إلى المكرهات، وهو رأي أكثر العلماء، ويؤيده قراءة ابن مسعود: «من بعد إكراههن لهن غفور رحيم» . وقال بعضهم: المغفرة عائدة إلى المكرهين بشرط التوبة، وهو فتح باب الأمل أمامهم، وهو تأويل ضعيف بعيد لأن فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى، والحال حال تهويل وتشنيع على من أقدم على الإكراه.
وبعد تفصيل هذه الأحكام وبيانها ذكر الله تعالى فضائل هذه السورة، أو وصف القرآن بصفات ثلاث هي:
1- وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي أنزلنا في هذه السورة وغيرها آيات مفصّلات الأحكام والحدود والشرائع التي أنتم بحاجة إليها.
2- وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي وأنزلنا أيضا قصة عجيبة من مثل أخبار الأمم المتقدمة وهي قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف ومريم عليهما السلام. فقوله: وَمَثَلًا أي ومثلا من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم، يعني قصة عائشة رضي الله عنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام.
3- وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي وأنزلنا مواعظ وزواجر لمن اتقى الله وخاف(18/237)
عذابه، مثل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور 24/ 2] وقوله عز وجل: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور 24/ 12] .
أي أن هذه الأوصاف إما لما في هذه السورة من أحكام ومواعظ وأمثال، وإما لجميع ما في القرآن من الآيات البينات والأمثال والمواعظ، والأول رأي الزمخشري، والثاني رأي الرازي وابن كثير.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أحكاما رئيسة كبري ثلاثة هي ما يتعلق بالزواج، ومكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى.
1- أما ما يتعلق بالزواج: فقد ذكر الله تعالى حكم زواج القادرين على تكاليفه، والعاجزين عن أهبته.
أ- فإن كان الشخص قادرا على الزواج صحيا وماليا، فالله تعالى يأمر الأولياء بالتزويج، تحقيقا للعفة والستر والصلاح، فإن الزواج طريق التعفف.
والصحيح أن الخطاب للأولياء، لذا قال أكثر العلماء: في الآية دليل على أن المرأة ليس لها أن تزوج نفسها بغير ولي.
وقال أبو حنيفة: إذا زوجت المرأة نفسها ثيبا كانت أو بكرا بغير ولي من كفء لها جاز.
وحكم الزواج يختلف باختلاف حال الإنسان من خوف الوقوع في الزنى ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية الزنى، فإن خاف الهلاك في الدّين أو الدنيا أو فيهما فالزواج حتم فرض، وإن لم يخش شيئا وكانت الحال معتدلة، فقال الشافعي: الزواج مباح، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: هو مستحب. دليل الرأي الأول: أن الزواج قضاء لذة، فكان مباحا كالأكل(18/238)
والشرب، ودليل الرأي الثاني
الحديث الصحيح المتفق عليه بين الشيخين وأحمد عن أنس: «من رغب عن سنتي فليس مني» .
ونهى الحق تعالى عن الامتناع عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة، ووعد بالغنى للمتزوجين الطالبين رضا الله والاعتصام من معاصيه، في قوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فإن وجد متزوج لا يستغني، فلا يخل بمعنى الآية، إذ لا يلزم من هذا دوام الغنى واستمراره، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد، فالمال غاد ورائح، أو أن الغنى مرتبط بمشيئة الله تعالى، ويكون معنى الآية: يغنيهم الله من فضله إن شاء كقوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26] .
وهذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ دليل على تزويج الفقير، ولا يقول: كيف أتزوج وليس لي مال فإن رزقه على الله. وقد زوّج النبي صلّى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ الزواج بالإعسار لأنها دخلت عليه. وليس في الآية دلالة على منع التفريق بسبب الإعسار بعد أن تزوجت المرأة موسرا، وإنما يفرّق بينهما لقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء 4/ 130] . كل ما في الأمر أن الآية وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا.
ب- وأما إن كان الشخص عاجزا عن تكاليف الزواج، فالله يأمره بالاجتهاد في التعفف، فقال: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ ... الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره، فإنه يقوده إلى ما يراه، كالمحجور عليه.
والاستعفاف: طلب أن يكون عفيفا، والله يأمر بهذه الآية كل من تعذّر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه أن يستعفف.
ولما كان أغلب الموانع عن الزواج عدم المال وعد تعالى بالإغناء من فضله،(18/239)
فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء.
وقوله تعالى: لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي طول (مؤن) نكاح، فحذف المضاف. أو يراد به ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللّحاف: اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، فعلى هذا لا حذف في الآية.
وعلى هذا من تاقت نفسه إلى الزواج إن وجد التكاليف المالية فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجدها فعليه بالاستعفاف، فإن أمكن ولو بالصوم، فإن الصوم له وجاء، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى.
2- وأما مكاتبة الأرقاء من عبيد وإماء فهي أمر مستحب شرعا لأن الشرع يتشوف إلى تحرير الأنفس البشرية، وإذا تحرر الإنسان ملك نفسه، واستقل واكتسب وتزوج إذا أراد، فيكون الزواج أعف له. والكتابة: عقد بين السيد وعبده، وهي في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجّما عليه (مقسطا) فإذا أدّاه فهو حرّ.
وتطلب الكتابة إن علم السيد في المكاتب خيرا، أي دينا وصدقا وصلاحا، ووفاء بالمعاملة، وأمانة وقدرة على الاكتساب، وإلا لم تطلب. واختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له، فكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق، ورخص فيه مالك وأبو حنيفة والشافعي.
وتكون الكتابة بقليل المال وكثيره، وعلى أنجم (أقساط) ولا خلاف في ذلك بين العلماء. وقال الشافعي: لا بدّ فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم، وقال الجمهور: تجوز ولو على نجم (قسط) واحد. ولا تجوز حالّة البتة عند الشافعي وتجوز عند الحنفية وأصحاب مالك.(18/240)
والمكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» .
وهو متفق عليه بين المذاهب.
وإذا عجز المكاتب عن قسط، ولم يطالبه السيد، لا تنفسخ الكتابة ما داما على ذلك ثابتين.
وإذا أدى المكاتب ما التزم به عتق، ولا يحتاج إلى إعتاق السيد، ويعتق معه أولاده الذين ولدوا أثناء الكتابة، ولا يعتق الولد قبل الكتابة إلا بشرط.
وقد أمر الله السادة بإعانة المكاتبين في مال الكتابة إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم، أو يحطّوا عنهم شيئا من مال الكتابة.
3- وأما الإكراه على الزنى أو الإجارة على الزنى: فهو حرام قطعا، سواء أرادت الفتاة ذلك أو امتنعت عنه، فلا فرق في حرمة هذا الإكراه بين حال إرادة التحصن (التعفف) أو حال عدم إرادته، كما لا فرق بين قصد الكسب الدنيوي والأولاد أو عدم قصده. وبالرغم من حرمة فعل المستكرهة فإن الله غفور للمكرهات رحيم بهن فإن الإكراه أزال العقوبة الدنيوية، وهو عذر للمكرهة، أما المكره فلا عذر له فيما فعل. وما أشبه الأمس باليوم فإن المرأة أصبحت في عصرنا أداة للسياحة واستقطاب الزبائن والدعاية.
4- عدد الله تعالى في قوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ.. على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات الواضحات، وفيها من أمثال الماضين للتحفظ عما وقعوا فيه، وهي أيضا موعظة وعبرة لمن اتقى الله وخاف عقابه.(18/241)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
الله منوّر السموات والأرض بدلائل الإيمان وغيرها
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
الإعراب:
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ مَثَلُ مبتدأ، وكَمِشْكاةٍ خبره، وهاء نُورِهِ إما عائدة على الله تعالى، أو على المؤمن، أو الإيمان في قلب المؤمن.
دُرِّيٌّ صفة: كَوْكَبٌ، وهو منسوب إلى الدّر، أو أصله (درّيء) بالهمز من الدرء، فقلبت الهمزة ياء، وأدغمت في الياء قبلها، والدرء: الدفع، ومعناه أنه يدفع الظلمة لتلألئه.
زَيْتُونَةٍ بدل أو عطف بيان.
البلاغة:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ نُورُ من إطلاق المصدر على اسم الفاعل للمبالغة، أي منوّر كل شيء، كأنه عين نوره. ومن فسر ذلك بأنه هادي أهل السموات والأرض ببراهينه وبيانه، فهو استعارة.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ تشبيه تمثيلي، شبه نور الله الذي جعله في قلب المؤمن بالمصباح في كوة (طاقة) داخل زجاجة، تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن، سمي تمثيليا لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
اللَّهُ نُورُ أي ذو نور يهدي به أهل السموات والأرض، أو منور السموات والأرض، من(18/242)
طريق المجاز. وأصل النور: ما به الإضاءة الحسية التي بها تبصر العين، ويطلق شرعا على ما به الاهتداء والإدراك، فأهل السموات والأرض أي العالم كله يهتدون بنوره. مَثَلُ نُورِهِ أي صفة نوره العجيبة الشأن في قلب المؤمن كَمِشْكاةٍ أي كوّة أو طاقة مسدودة غير نافذة من الخلف.
مِصْباحٌ سراج. زُجاجَةٍ قنديل. كَأَنَّها أي الزجاجة والنور فيها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ نجم مضيء. والدري: منسوب إلى الدر اللؤلؤ، أو من الدرء: أي الدفع لدفعه الظلام بسبب تلألئه. مِنْ شَجَرَةٍ أي من زيت. لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي لا شرقية فقط تقع عليها الشمس أحيانا، ولا غربية فقط تتعرض للشمس أحيانا أخرى، وإنما هي موقع وسط تقع عليها الشمس طول النهار، وتتعرض للهواء المعتدل دون حرّ أو برد، فتكون ثمرتها أنضج وأطيب، وزينها أجود الزيوت وأصفاها.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه وتلألئه وفرط وبيصه. نُورٌ عَلى نُورٍ نور متضاعف، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، فهو نور فوق نور، اجتمع فيه نور السراج (المصباح) وبهاء الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل الإشعاع. ومعنى تشبيه نور الله بنور هذا المصباح لتقريب الأمر إلى الأذهان: هو تمثيل الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها، وظهور مضمونها بالمشكاة المنعوتة بالأوصاف المذكورة.
أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث من مصباحها. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يهدي الله لهذا النور الثاقب وهو دلالة الآيات أو دين الإسلام أو إيمان المؤمن من يشاء من عباده. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يبين الله الأمثلة للناس، تقريبا لأفهامهم، وتصويرا للمعقول بالمحسوس توضيحا وبيانا، ليعتبروا فيؤمنوا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا كان أو خفيا، وفيه وعد ووعيد، لمن تدبرها، ولمن لم يكترث بها.
المناسبة.
بعد بيان الشرائع والأحكام الجزئية العملية (أحكام الفقه) والأخلاق والآداب (علم الأخلاق) انتقل البيان الرباني إلى دائرة العقيدة والإيمان وهي الإلهيات، فذكر الله تعالى مثلين:
أحدهما:
بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، فتنوير العالم كله بالآيات الكونية والآيات المنزلة على رسوله دليل واضح قاطع على وجود الله تعالى ووحدانيته(18/243)
وقدرته وعلمه وسائر صفاته العليا، وهو أيضا هاد إلى صلاح الدنيا والآخرة.
الثاني:
بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وهو موضوع الآيات التالية بعدئذ.
التفسير والبيان:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله منور العالم كله وهاديه بما أقام فيه من أدلة في الكون على وجوده وتوحيده، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات الواضحات، فمن اهتدى بذلك النور واستنار قلبه بهداية الله فاز بسعادة الدنيا والآخرة. وهذا هو النور المعنوي. أما النور الحسي فواضح أيضا أن الله هو مصدر النور، وخالق النور، وما حي الظلام، ومدبر الكون بنظام دقيق ثابت، وله عليه الهيمنة التامة والشاملة والمستمرة في كل لحظة وزمان.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي شبيه هذا النور وهو نور الله القائم في صفحة الكون وبيان القرآن وما أودعه في قلب المؤمن من الإيمان كنور مصباح في قنديل زجاجي صاف مزهر، موضوع في مشكاة (كوّة أو طاقة) لينبعث النور في اتجاه معين تقتضيه الحاجة، وكأن زجاج هذا المصباح (السراج أو القنديل) في إضاءته كوكب عظيم ونجم ضخم من الكواكب السيارة مثل الزّهرة وعطارد والمشتري.
والظاهر أن الضمير في نُورِهِ عائد إلى الله عز وجل، في تنويره الكون، وهدايته قلب المؤمن.
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي أن زيت المصباح يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة كثيرة المنافع، زرعت في جبل(18/244)
عال أو في صحراء، ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها فقط، أو غروبها فقط، بسبب ظل حاجت للشمس فيما عدا ذلك، بل هي في مكان وسط تتعرض للشمس حالتي الطلوع والغروب ومن أول النهار إلى آخره، فهي شرقية غربية تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي أن زيتها لصفائه وبريقه وإشراقه كأنه يضيء بنفسه، قبل إضاءته ومسّ النار له لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا، ثم رئي من بعيد، يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء، كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم، ازداد نورا على نور، وهدى على هدى. قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له، لموافقته له، وهو المراد من
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي سعيد الخدري: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» «1» .
نُورٌ عَلى نُورٍ أي هو نور مترادف متضاعف، قد اجتمعت فيه المشكاة (الطاقة) والزجاجة والمصباح والزيت، لجعل النور قويا مشعا لا مجال لأي تقوية أخرى فيه، فالمشكاة تحصر النور في اتجاه واحد غير مشتت ولا موزع، وبهاء الزجاجة يزيد الإنارة والتلألؤ وانعكاس الضوء، والقنديل مصدر الطاقة الإشعاعية الكافية التي لا تتوافر فيما سواه، وصفاء الزيت ونقاؤه من أهم عوامل الاحتراق الكامل وتوافر الإضاءة الكاملة.
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يرشد الله إلى هدايته ويوفق من يختاره من عباده، بالنظر وإعمال الفكر وتدبر آي الكون.
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أي يبين الله تعالى للمكلفين من الناس دلائل الإيمان ووسائل الهداية، ويبصرهم بما خفي عليهم من أمور الحق في صور
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 237(18/245)
مختلفة، بضرب الأمثال، وعقد التشبيهات، وتصوير المعاني بصور المحسوسات المألوفة، لترسيخها في الأذهان، وتثبيتها في أعماق الفؤاد والنفس، فيصير الإيمان راسخا في القلب كالجبال الراسيات. وهذا من مزايا القرآن البلاغية الرائعة أنه يصور المعقولات والمعاني بصور الماديات والمحسوسات.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي والله عالم علما تاما شاملا بجميع الأشياء المعقولة والحسية، الباطنة والظاهرة، يمنح الهداية لمن كان أهلا لها، مستعدا لتلقيها. وهذا وعد لمن أعمل فكره ووعى وسائل الهداية، ووعيد لمن أعرض، فلم يتدبر ولم يتفكر فيها، ولم يكترث بها.
والخلاصة: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسّته ازداد ضوءا على ضوء، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء ازداد هدى على هدى، ونورا على نور.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية لا يراد بها ظاهرها وإنما هي مؤولة، وتأويلها مختلف فيه، وأصح التأويلات ما ذكره جمهور المتكلمين وابن عباس وأنس «1» : وهو أن الله هادي أهل السموات والأرض، وهداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وتلك الهداية هي الآيات البينات القائمة في الكون والمنزلة على الرسل بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بالغ النهاية في الصفاء.
ومثل نور الله أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، مثل المصباح الذي تكاملت فيه وسائل الإنارة وهي المشكاة (الكوّة في الحائط غير النافذة)
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 231 وما بعدها.(18/246)
وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، والزجاجة لأنها جسم شفّاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج، فصارت الزجاجة في الإنارة والضوء كالكوكب الدرّي المتلألئ، والزيت الصافي النقي النابع من زيتون شجرة كثيرة المنافع، تتعرض للشمس والهواء طوال النهار، فهي ليست شرقية فحسب وهي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها لوجود الساتر الحاجب إذا غربت، وليست غربية فحسب عكس الشرقية: وهي التي تصيبها الشمس إذا غربت ولا تصيبها وقت الشروق، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية، في صحراء واسعة من الأرض، لا يواريها عن الشمس شيء، وهو أجود لزيتها.
والأنوار مترادفة متضاعفة مجتمعة مع بعضها، كذلك قلب المؤمن يزداد إيمانا وهداية بأضواء القرآن وهداية الله تعالى.
والله تعالى يبين الأشياء بالأمثال الحسية وغيرها تقريبا إلى الأفهام، وهو عليم بكل شيء يحقق المراد، وبمن هو أهل للهداية والضلال.
فهذا مثل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار: معناه تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ.
ونُورٌ عَلى نُورٍ: معناه أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور، وهذا النور عزيز لا يناله إلا من أراد الله هداه، والله أعلم بالمهديّ والضالّ.
وأما ما لا تعلق له بالآية: فيجوز أن يقال: لله تعالى نور، من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء: منه ابتداؤها، وعنه صدورها.(18/247)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة، جلّ وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا «1» وهو تعالى خالق النور الحسي في السموات والأرض، ومدبّرهما على أحسن نظام وأتمه وأدقه، ونوّر السماء بالملائكة وبالكواكب، والأرض بالأنبياء وبالشرائع وبالفطرة السليمة والعقل النيّر المرشد إلى الخير، فلو تفكر إنسان بعقل حرّ بريء متجرد من التأثر باتجاه معين أو عقيدة سابقة، لآمن بالله تعالى ربا وإلها واحدا إيمانا كاملا. يتزايد وينمو ويتبلور بهداية القرآن وآياته البينات، والله أعلم.
المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
الإعراب:
فِي بُيُوتٍ إما صفة كَمِشْكاةٍ في قوله تعالى: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ وتقديره:
كمشكاة كائنة في بيوت، أو متعلق بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها. يُسَبِّحُ فعل مضارع، وفاعله رِجالٌ ومن قرأ بضم الياء وفتح الباء يُسَبِّحُ كان رِجالٌ مرفوعا بفعل مقدر دلّ عليه يُسَبِّحُ كأنه قيل: من يسبحه؟ فقال: رجال، أي يسبحه رجال. وعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مصدر مضاف إلى المفعول، أي عن ذكرهم الله. وَإِقامِ الصَّلاةِ: الأصل أن تقول:
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 256- 264(18/248)
وإقامة الصلاة، إلا أنه حذفت التاء تخفيفا لأن المضاف إليه صار عوضا عنها، كما صار عوضا عن التنوين، كما صارت (ها) في يا أيها عوضا عن المضاف إليه.
البلاغة:
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ إطناب بذكر الخاص بعد العام لأن الصلاة من ذكر الله.
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
فِي بُيُوتٍ متعلق بما قبله، أي كمشكاة في بعض بيوت أو توقد في بعض بيوت. أو متعلق ب يُسَبِّحُ الآتي. والبيوت هنا: المساجد المخصصة لذكر الله لأن الصفة تلائمها.
أَذِنَ أمر وقضى. أَنْ تُرْفَعَ بالتعظيم أي تعظم وتطهر عن الأدناس والأنجاس وعن لغو الأقوال، أو ترفع بالبناء. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بتوحيده. يُسَبِّحُ يصلي أو ينزه ويقدس.
بِالْغُدُوِّ مصدر بمعنى الغداة أو الغدوات، أي أول النهار. وَالْآصالِ جمع أصيل، وهو العشي أو العشايا، أي آخر النهار من بعد الزوال.
رِجالٌ أي ينزهونه ويسبحونه رجال، أي يصلون له فيها بالغدوات والعشايا.
لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ أي لا تشغلهم معاملة رابحة، سواء بالتجارة أو الصناعة أو غيرهما.
وَلا بَيْعٌ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعاوضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة، فإن الربح يتحقق بالبيع، ويتوقع بالشراء، والثاني هو الأولى. إِقامِ الصَّلاةِ إقامتها لوقتها. وَإِيتاءِ الزَّكاةِ ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. تَتَقَلَّبُ تضطرب وتتغير من الهول والخوف في يوم القيامة، فهو اليوم المراد.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق ب يُسَبِّحُ أو لا تُلْهِيهِمْ أو يَخافُونَ. أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي أحسن جزاء أو ثواب عملهم، وأَحْسَنَ بمعنى حسن.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى كون نوره سبيلا لهداية عباده، بما أقام لهم من الآيات البينات، ذكر هنا حال المنتفعين بذلك النور.(18/249)
التفسير والبيان:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هذا متعلق بما قبله أي كمشكاة كائنة في مساجد أمر الله أن ترفع بالبناء أو التعظيم بتطهيرها من الأنجاس الحسية، والمعنوية مثل الشرك والوثنية ولغو الحديث، ويخصص الدعاء والعبادة فيها لله، ويذكر فيها اسم الله بتوحيده، أو بتلاوة كتابه.
قال قتادة: هي هذه المساجد، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. وقال ابن عباس: «المساجد: بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض» . وقال عمرو بن ميمون:
«أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها» .
وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا لله يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة» .
والسبب في جعل المشكاة في مساجد: أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم، فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل، كما قال الرازي.
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي ينزه الله ويقدسه ويصلي في تلك المساجد في أوائل النهار بكرة وغدوة، وأواخره في الآصال والعشايا رجال لا تشغلهم الدنيا والمعاملات الرابحة عن ذكر الله وحده، وإقامة الصلاة لوقتها، وأداء الزكاة المفروضة عليهم للمستحقين.
وقوله: رِجالٌ فيه إشعار بهمتهم العالية، وعزيمتهم الصادقة، التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه، وشكره وتوحيده وتنزيهه،(18/250)
كما قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب 33/ 23] . والمراد بقوله: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ غير الصلاة، منعا من التكرار. وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة.
وشبيه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون 63/ 9] .
ويستدل بكلمة رِجالٌ على أن صلاة الجماعة مطلوبة من الرجال، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما
رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» .
وروى الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» .
وتخصيص المساجد بالذكر لأنها مصدر إشعاع عقدي وفكري وتنظيمي وسلوكي وعلمي وسياسي في حياة المسلمين.
وسبب انصراف الرجال إلى العبادة الخوف من عذاب الله كما قال: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أي إن الرجال الذين يؤدون الصلاة جماعة في المساجد يخافون عقاب يوم القيامة الذي تضطرب فيه القلوب والأبصار من شدة الفزع والهول، كقوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم 14/ 42] وقوله عز وجل: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الدهر 76/ 10] .
وعاقبة أمرهم ما قال الله تعالى:
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يذكرون الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ليثيبهم الله ثوابا يكافئ حسن عملهم، فهم الذين(18/251)
يتقبل حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويضاعف لهم الجزاء الحسن، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 6/ 160] وقوله سبحانه:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] وقوله عز وجل: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 261] . وقال الله تعالى في
الحديث القدسي فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إن الله تعالى واسع الفضل والإحسان يرزق من يريد ويعطي من يشاء، بغير عدّ ولا إحصاء، والله على كل شيء قدير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن أول موضع تظهر فيه هداية الله ونوره هو في المساجد التي يشيد بناءها المؤمنون، ويعمرونها بالصلاة والأذكار في أوائل النهار وأواخره، والمساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن.
روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ الله عز وجل فليحبني، ومن أحبّني فليحبّ أصحابي، ومن أحب أصحابي، فليحبّ القرآن، ومن أحبّ القرآن فليحبّ المساجد، فإنها أفنية الله أبنيته، أذن الله في رفعها، وبارك فيها، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم، والله عز وجل في حوائجهم، هم في مساجدهم والله من ورائهم» .
2- يأمر الله بعمارة المساجد عمارة حسية بالبناء، وعمارة معنوية بالصلاة(18/252)
وتلاوة القرآن والأذكار وحلقات التعليم، كما قال تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 18]
وقال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن ماجه عن عليّ: «من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة»
وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من أخرج أذى من المسجد، بنى الله له بيتا في الجنة»
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، إن الله تعالى يقول: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أما زخرفة المساجد فبعضهم أباحها لأن فيها تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي تعظّم. وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالسّاج «1» وحسّنه. قال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، ونقش عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، زمن ولايته على المدينة قبل خلافته، ولم ينكر عليه أحد ذلك.
وكرهه قوم لما
أخرجه أبو داود عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» .
وتصان المساجد وتنزه عن الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغيرها، وذلك من تعظيمها،
جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن جابر: «من أكل ثوما أو بصلا فلا يغشانا في مساجدنا» أو «فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» .
والمساجد فيما ذكر كلها سواء،
للحديث المتقدم ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال في غزوة تبوك فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة- يعني الثّوم- شيئا فلا يقربنا في المسجد» .
__________
(1) أحسن أنواع الخشب المأخوذ من شجر معروف في الهند.(18/253)
وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الأشغال الدنيوية لما
أخرجه مسلم عن بريدة من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي نادى على الجمل الأحمر: «لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له» .
وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة.
ولكن
روي في حديث آخر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رخص في إنشاد الشعر في المسجد.
ويكره رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره في رأي مالك وجماعة،
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» .
وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت في الخصومة (التقاضي) والعلم لأنه لا بد لهم من ذلك.
ويجوز عند المالكية النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء، ومن لا بيت له، فقد أنزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صفّة المسجد رهطا من عكل. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب، لا أهل له، في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ويكره عند الشافعية النوم في المساجد.
ويسن الدعاء عند دخول المسجد
روى مسلم عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» .
وبعد الدخول يسن صلاة ركعتين تحية المسجد لما
روى مسلم أيضا عن أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» .
3- وصف الله تعالى المسبّحين في المساجد بأنهم المراقبون أمر الله، الطالبون(18/254)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. قال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة، تركوا كل شغل وبادروا. وهم أيضا في مبادرتهم إلى صلاة الجماعة في المساجد يخافون عذاب يوم القيامة.
4- يكافئ الله ويجازي على الحسنات ويضاعف الثواب إلى عشر أمثاله.
والله يرزق من يشاء من عباده من غير أن يحاسبه على ما أعطاه إذ لا نهاية لعطائه.
حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
الإعراب:
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ: كَسَرابٍ: جار ومجرور في موضع رفع خبر المبتدأ وهو أعمالهم. وبِقِيعَةٍ في موضع جر صفة سراب أي كسراب كائن بقيعة، وقيعة: جمع قاع كجيرة جمع جار، ويَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً جملة فعلية في موضع جرّ صفة ل كَسَرابٍ أيضا.
وشَيْئاً منصوب على المصدر، أي لا شيء هناك.
يَغْشاهُ مَوْجٌ جملة فعلية في موضع جر صفة ل بَحْرٍ. ومِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ وكذا مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ يرتفع موج وسحاب بالظرف عند سيبويه، وعند الأخفش لجريه صفة على المذكور المرفوع بأنه فاعل. وكَظُلُماتٍ إما مرفوع بدلا من سَحابٌ أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي هي ظلمات، وإما مجرور بدلا من كَظُلُماتٍ الأولى.(18/255)
البلاغة:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وكذلك أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ كل منهما تشبيه تمثيلي رائع وبديع.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي حالهم على ضدّ حال المؤمنين، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها في الآخرة لاغية مخيبة للآمال. كَسَرابٍ هو ما يرى في عين الإنسان أثناء سيره في الفلاة من لمعان الشمس وقت الظهيرة في شدة الحر، فيظن أنه ماء جار أو راكد على وجه الأرض. بِقِيعَةٍ جمع قاع، أي فلاة، وهو ما انبسط من الأرض. يَحْسَبُهُ يظنه.
الظَّمْآنُ العطشان، وخص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند ما تمسّ الحاجة إلى الظفر بثمرة عمله. حَتَّى إِذا جاءَهُ جاء ما تو همه ماء أو جاء موضعه. لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مما ظنه أو حسبه، وكذلك الكافر يحسب أن عمله كالصدقة ينفعه، حتى إذا مات وقدم على ربه، يجد عمله لم ينفعه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي عند عمله. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ جازاه عليه في الدنيا.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب.
أَوْ كَظُلُماتٍ أي والذين كفروا أعمالهم السيئة في الدنيا كالظلمات المتراكمة وأَوْ إما للتخيير فإن أعمال الكفار لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة في لج البحر والأمواج والسحاب، وإما للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن كانت قبيحة فكالظلمات، وإما للتقسيم باعتبار وقتين وهو الظاهر، فإنها كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة.
فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق، أو ذي لجّ وهو معظم الماء، والمقصود: بحر عميق الماء كثيره ذو طبقات. يَغْشاهُ يغطيه. مِنْ فَوْقِهِ الظلمة الأولى أي الموج. مِنْ فَوْقِهِ والظلمة الثانية أي الموج الثاني، والمراد بظلمات البحر: أمواج متراكمة مترادفة، والمراد بالسحاب: سحاب غطى النجوم وحجب أنوارها. والسحاب: غيم. كَظُلُماتٍ أي هذه ظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول وظلمة الثاني، وظلمة السحاب. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أخرج الناظر يده في هذه الظلمات وهي أقرب شيء إليه. لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله لم يهتد، والمراد من لم يوفقه لأسباب الهداية لم يكن مهتديا.(18/256)
سبب النزول: نزول الآية (39) :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدّين، فلما جاء الإسلام كفر.
وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافرا.
المناسبة:
بعد بيان حال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبسببه يتمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان حال الكافرين، فإنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل من الحالين مثلا، أما المثل الأول الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وأما المثل الثاني لأعمالهم في الدنيا فهو أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي أن أعمالهم في الدنيا كظلمات في بحر.
التفسير والبيان:
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لحالي الكفار في الآخرة والدنيا، أو لنوعي الكفار: الداعي لكفره، والمقلد لأئمة الكفر، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: ناريا ومائيا، وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائيا وناريا أيضا.
أما المثل الأول هنا فهو قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي إن الأعمال الصالحة التي يعملها الكفار الذين جحدوا توحيد(18/257)
الله وكذبوا بالقرآن وبالرسول المنزل عليه، أو الدعاة إلى كفرهم، الذين يظنون أنها تنفعهم عند الله، وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب آمالهم في الآخرة ويلقون خلاف ما قدّروا، شبيهة بسراب يراه الإنسان العطشان في فلاة أو منبسط من الأرض، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه. وأعمالهم الصالحة: مثل صلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء وإقامة المشاريع الخيرية.
وهكذا حال الكافرين في الآخرة يحسبون أعمالهم نافعة لهم، منجّية من عذاب الله، فإذا جاء يوم القيامة وقوبلوا بالعذاب، فوجئوا أن أعمالهم لم تنفعهم، وإنما يجدون زبانية الله تأخذهم إلى جهنم، التي يسقون فيها الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.. الآيات [الكهف 18/ 102- 106] . وقال تعالى هنا: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي ووجد عقاب الله وعذابه الذي توعد به الكافرين، فجازاه الله الجزاء الأوفى على عمله في الدنيا، والله سريع المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . هذا حالهم في الآخرة، أو حال الكفار الدعاة إلى الكفر.
والخلاصة: أن الكفار سيصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم.
أما المثل الثاني لحالهم في الدنيا أو حال الكفار الجهلة المقلدين لأئمة الكفر فهو كما قال تعالى:
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أي إن مثل أعمال الكفار التي يعملونها في الدنيا على غير هدى،(18/258)
أو مثل الذين يقلدون غيرهم، مثل ظلمات متراكمة في بحر عميق كثير الماء، تغمره الأمواج المتلاطمة، ويحجب نور الكواكب السماوية غيم كثيف، فهي ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وكذا الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وهذه الظلمات حجبت عنه رؤية الحق وإدراك ما في الكون من عظات وآيات ترشد إلى الطريق الأقوم. قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل. وقال ابن عباس: شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث.
والمقصود من هذا المثل بيان أن الكافر تراكمت عليه أنواع الضلالات في الدنيا، فصار قلبه وبصره وسمعه في ظلمة شديدة كثيفة، لم يعد بعدها قادرا على تمييز طرق الصواب ومعرفة نور الحق. لذا قال تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي إن تلك الظلمات الثلاث ظلمات متراكمة مترادفة، بعضها يعلو البعض الآخر، حتى إنه إذا مدّ الإنسان يده، وهي أقرب شيء إليه، لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها، ومعنى «لم يكد» : لم يقارب الوقوع، والذي لم يقارب الوقوع لم يقع.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله ولم يوفقه إلى الهداية، فهو هالك جاهل خاسر، في ظلمة الباطل لا نور له، ولا هادي له، كقوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف 7/ 186] . وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد 13/ 33] ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم 14/ 27] . وهذا مقابل لما قال في مثل المؤمنين يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.(18/259)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مثلين لأعمال الكفار فهي إما كسراب خادع في فلاة أو صحراء، وإما كظلمات، والمثل الأول كما اختار الرازي دال على خيبة الكافر في الآخرة، والثاني دال على كون أعمالهم في متاهات وضلالات وظلمات يصعب اختراقها وتجاوزها، لكون قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم في ظلمة حالكة، يتخبط فيها، فلا يدري ما هو الصواب، وهو أيضا جاهل لا يدري أنه لا يدري.
ويستفاد من الآيات أن شرع الله ونظامه هو النور الصحيح المرشد لخيري الدنيا والآخرة، وأما التشريع المخالف لشرع الله فهو كالسراب الخادع، والظلمات المتراكمة. وهذا كله في مجال العقيدة. أما في مجال التحضر الدنيوي فقد يكون الكافر مبدعا فيها، متفوقا في إدراك غوامض الحياة، مبتكرا وسائل التقدم والمدينة، ولكنه عن الآخرة والنجاة فيها غافل جاهل.
قال ابن عباس في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يجعل الله له دينا فماله من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة، لم يهتد إلى الجنة كقوله تعالى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد 57/ 28] .
والسبب في إحباط أعمال الكافر وإهدارها: أنها لا تعتمد على أصل صحيح وهو الإيمان بالله تعالى، والله لا يقبل عملا إلا من مؤمن معترف بالله وبصفاته، موحد له توحيدا تاما كاملا لتصح نية عمله.
والخلاصة: أن المثلين المذكورين في الآيتين هما تحذير وتنبيه للكفار، فمن عقل كلام الله وتدبر فيه، صحح اعتقاده، فيصلح له عمله ويستقيم في الدنيا، ومن ظل مصرا على كفره، معرضا عن التأمل في آيات ربه، لقي جزاء عسيرا، وعقابا أليما، ولم ينفعه أي عمل صالح، ينجّيه من عذاب الله يوم القيامة.(18/260)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
الأدلة الكونية على وجود الله وتوحيده
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
الإعراب
صَافَّاتٍ حال.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ، مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى للابتداء لأن السماء ابتداء الإنزال، والثانية: للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، وهي مع المجرور في موضع المفعول، والثالثة: لبيان الجنس لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، وتقديره: فيها شيء من برد، وهو مرفوع بالظرف لأن الظرف صفة الجبال.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ من قرأ بفتح الياء تكون باء في بِالْأَبْصارِ للتعدية، ومن قرأ بضم الياء كانت الباء زائدة.(18/261)
البلاغة:
فَيُصِيبُ بِهِ وَيَصْرِفُهُ بينهما طباق.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ استعارة، شبه تعاقب الليل والنهار بتقليب الأشياء المادية.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ لِأُولِي الْأَبْصارِ بينهما جناس تام لأن المراد بالأولى العيون وبالثانية العقول والقلوب.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والثقة بالوحي أو بالدليل. يُسَبِّحُ ينزّه ويقدّس ذاته عن كل نقص، والصلاة من التسبيح. مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ:
لتغليب العقلاء. وَالطَّيْرُ جمع طائر، وهو تخصيص لما فيها من الدليل الباهر على وجود الخالق وقدرته، بجعل الأشياء الثقيلة تقف في الجو. صَافَّاتٍ باسطات أجنحتها في الهواء بعملية القبض والبسط. كُلٌّ كل واحد مما ذكر، أو من الطير. قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ تعميم بعد تخصيص، أي أن الله عالم بكل شيء من أفعالهم ومجازيهم عليها. وقوله: يَفْعَلُونَ فيه تغليب العقلاء.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله مالك السموات والأرض وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات، حاكم متصرف فيهما إيجادا وإعداما، لأنه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات والأفعال. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي وإليه المرجع والمآب.
يُزْجِي يسوق برفق وسهولة، ومنه البضاعة المزجاة يزجيها كل أحد أي يزهد فيها بسهولة. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يضم بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة. ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم، جمع خلل، كجبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ من الغمام، وكل ما علاك فهو سماء. مِنْ جِبالٍ فِيها من قطع عظام في السماء، وهو بدل بإعادة الجارّ. مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال، ومفعول يُنَزِّلُ محذوف، أي ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من جنس البرد، مأخوذ من برد بردا، والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت، ولم تحلّلها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحابا، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا، وإن اشتد البرد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا، وإلا نزل بردا، وكل ذلك لا بد وأن يستند إلى إرادة الله الحكيم، وإليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير للبرد.
يَكادُ يقرب. سَنا بَرْقِهِ ضوء البرق الذي في السحاب، والبرق: جمع برقة.(18/262)
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة، وذلك أقوى دليل على كمال القدرة من حيث توليد الضدّ من الضدّ، أي النار من البارد. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، فيأتي بكل منهما بدل الآخر، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك وهو الأولى. إِنَّ فِي ذلِكَ التقليب، وفيما تقدم ذكره.
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ للدلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عن الحاجة، لمن يتأمل ذلك من أهل العقول والبصائر.
دَابَّةٍ حيوان يدب على الأرض، وتستعمل عرفا للدواب ذوات الأربع. مِنْ ماءٍ هو جزء مادته، أو ماء مخصوص وهو النطفة، تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما لا يتولد عن النطفة. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والهوام من الحشرات، وإنما سمي الزحف مشيا بطريق الاستعارة أو المشاكلة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والأنعام، ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب، فإنها تعتمد في المشي على أربع. وتذكير الضمير في قوله: فَمِنْهُمْ والتعبير بمن لتغليب العقلاء، والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة. والترتيب في إيراد هذه المخلوقات لتقديم ما هو أدل على القدرة. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر، على اختلاف الصور في الأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى ما استنارت به قلوب المؤمنين بالهداية، وما أظلمت به قلوب الكافرين بالضلالة، أتبع ذلك ببيان أدلة التوحيد والقدرة، فذكر منها أربعة: الأول- تسبيح المخلوقات، والثاني- إنزال الأمطار، والثالث- اختلاف الليل والنهار، والرابع- أنواع الحيوانات.
التفسير والبيان:
النوع الأول- تسبيح المخلوقات:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي ألم تعلم بالدليل أيها النبي وكل مخاطب أن الله سبحانه ينزّهه ويقدّسه كل من في(18/263)
السموات والأرض من العقلاء وغيرهم من الملائكة والإنس والجن والجمادات، ومنها الطير الباسطات القابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء لكيلا تسقط، تنزيها يدركه المتأمل بعقله السليم إذ تكوينها بخصائصها المتفاوتة يدل بذاته على وجود الخالق لها.
والتنزيه يدل على اتصاف الخالق بجميع صفات الكمال، ويبطل قول الكفار الذين جعلوا الجمادات شركاء لله، ونسبوا إليه الولد، وهي من مخلوقاته وإيجاده. قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق.
وذكر الطير مع دخولها بما سبق لما فيها من دلالة خاصة على بديع الصنع الإلهي، وكمال القدرة الإلهية، ولطف التدبير لمبدعها لأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجة واضحة على كمال قدرة الخالق المبدع.
والافتتاح بقوله أَلَمْ تَرَ يشير إلى أن تسبيح الكائنات لله عزّ وجلّ أمر واضح يصل إلى حد العلم الذي لا شك فيه.
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أي كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزّ وجلّ. والله عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، سواء في حال الطاعة أو المعصية، ومجازيهم عليها.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي إن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما خلقا وإماتة، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا معقّب لحكمه، وإليه وحده مصيرهم ومعادهم يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء، ويجازي بما أراد، كقوله تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] .(18/264)
والخلاصة: إن عظمة الكون، وإبداع السموات والأرض، وما بثّ الله فيهما من كائنات حية وجامدة، وروعة ما نشاهده من تركيب الإنسان، وتنوع عالم الحيوان في البر والبحر والجو، وما يقوم به أضخم الحيوان وأصغره، وتفنّن النحل في بناء البيوت وتكوين العسل، وحيل العناكب الضعيفة في اصطياد الحشرات، وعجائب أعمال الطيور، وتصرف الرّب في المخلوقات إيجادا وإعداما، بدءا وإعادة، كل ذلك دليل قاطع محسوس على وجود الإله الخالق المبدع، والرّب الواحد المتصرف، الذي لا ربّ سواه، ولا معبود بحق غيره.
هذا أول دليل كوني على وجود الله وقدرته ووحدانيته، وهو شامل لعدة أدلة، كل دليل منها كاف وحده في تكوين القناعة، ويمكن تصنيف ما ذكر في الآيتين الأوليين في دليلين إجماليين: دليل العبودية في العالمين العلوي والسفلي، ودليل الملك المطلق ووحدة مصير الخلائق إلى الله تعالى.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وهذان دليلان آخران في الآيتين التاليتين على قدرة الله وتوحيده:
النوع الثاني- إنزال المطر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. إلى قوله: يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب كيفية تكوين المطر وإنزاله، إنه تعالى يسوق بقدرته السحاب أول ما ينشئه بعضه إلى بعض، بعد أن يتكون من بخار الماء الصاعد من البحار التي هي أربعة أخماس المعمورة، ثم يجمع ما تفرق من أجزائه في وحدة متضامة، ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، حتى يتكون منه سحاب عال في طبقات الجو الباردة، ثم يسوق ذلك السحاب بالرياح اللواقح إلى المكان الذي يريد إنزال المطر فيه، ثم ينزل المطر من خلال السحاب، أي من نتوقه وشقوقه التي تتكون بين أجزائه.(18/265)
وهكذا ينزل الله المطر من طبقات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال، كما ينزل الثلج والبرد بحسب نسبة تأثير البرودة في الأبخرة المتصاعدة. وكل ما علا الإنسان فهو سماء، فالسماء هي الغيم المرتفع على رؤوس الناس. وتكون الجبال كناية عن السحاب المشاهد الآن لكل راكب في الطائرة التي ترتفع عادة أكثر من ثلاثين ألف قدم في الجو فوق السحب البيضاء المتجمعة كالجبال الشاهقة «1» ويرى مفسرون آخرون أن جبال البرد قائمة فعلا في السماء، وينزل الله منها البرد، وهذا المعنى تؤيده بعض النظريات الحديثة التي تثبت أن في طبقات الجو ما يشبه الجبال مكونة من برد، وقد تنزل زيادة على ما يصعد من بخار البحار.
وتتحكم إرادة الله وقدرته وتصريفه في كيفية إنزال المطر، فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد من يشاء من عباده رحمة لهم، ويحجبه عمن يشاء، ويؤخر الغيث عمن يريد، إما نقمة وإما رحمة من إسقاط الثمار والأزهار وإتلاف الزروع والأشجار.
وأعجب من ذلك كله خلق الضد من الضد وهو النار من البارد، حتى ليكاد أو يقرب ضوء برق اصطدام الغيوم من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
النوع الثالث- اختلاف الليل والنهار:
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي إن الله عزّ وجلّ يتصرف في الليل والنهار بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وتغير أحوالهما
__________
(1) قال بعض النحاة في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، كما قدمنا في الإعراب، وهذا إنما يجيء على قول بعض المفسرين إلى أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال هاهنا كناية عن السحاب، فإن مِنْ الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بدل من الأولى، والله أعلم (تفسير ابن كثير: 3/ 297) .(18/266)
بالحرارة والبرودة، وتعاقبهما بنظام ثابت دقيق، إن في ذلك لدليلا على عظمته تعالى، وعظة لمن تأمل فيه من ذوي العقول، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران 3/ 190] ،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» .
النوع الرابع- أنواع المخلوقات:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد أن استدل الله تعالى على وحدانيته وقدرته بعالم السماء والأرض وبالآثار العلوية، استدل بأحوال الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها ومهماتها، فذكر أنه سبحانه خلق كل أنواع الحيوانات التي تدب على الأرض من ماء واحد هو جزء مادتها وأساس تكوينها، أو هو النطفة التي يحملها المني الحيواني الذي تلقح به بويضة الأنثى في منيها. وسبب تخصيص الماء بالذكر أنه أصل الخلقة الأول، ولأنه لا بقاء للحيوان بدونه، ولأن آثار التراب تمتزج فيه.
وأنواع الحيوان كثيرة، فمنها من يمشي زحفا على بطنه بانقباض عضلات البطن وانبساطها كالحيات والأسماك وسائر الزواحف. وسمي زحفها مشيا إشارة إلى كمال القدرة وتحقيقها هدف المشاة وهو الانتقال والحركة للبحث عن الرزق وتحقيق الغايات.
ومنها من يمشي على رجلين كالإنسان والطير.
ومنها من يمشي على أربع كالأنعام وسائر وحوش البر.
والله سبحانه يخلق بقدرته ما يشاء، وهذا تعبير إجمالي يدخل آلاف أنواع(18/267)
الحيوانات الأخرى من حشرات وغيرها مما يمشي على أكثر من أربع، وتختلف صوره وطبائعه وقواه.
إن الله قادر على خلق كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ثم ختم الله تعالى إيراد أدلة التوحيد ببيان جامع شامل يجمع تلك الأدلة فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أنزل الله في هذا القرآن آيات مفصلات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون، ومرشدة إلى طريق الحق والسداد بما فيها من حكم وأحكام وأمثال بينة محكمة، وأنه تعالى يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والوعي والعقل، ويرشد من يشاء إلى الطريق القويم الذي لا عوج فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه دلائل التوحيد وإثبات الذات الإلهية، الدالة دلالة حسية على أن لتلك المصنوعات المتغيرة صانعا قادرا على الكمال.
وأول هذه الأدلة أن جميع المخلوقات تسبح الله، أي تنزهه عن جميع النقائص، وتصفه بصفات الجلال والكمال، والله عليم بتسبيحها وبدعائها وعبادتها، يعلم صلاة المصلي وتسبيح المسبّح، ولا يخفى عليه طاعتهم وتسبيحهم.
والله تعالى مالك الملك في السموات والأرض، وهو الحاكم المدبر المتصرف بجميع المخلوقات، وإليه مصير الخلائق يوم القيامة. وكل مملوك عبد لله، وكل محاسب ضعيف ذليل أمام القاضي.(18/268)
وثاني الأدلة- إنزال المطر بكيفية عجيبة تبدأ بتصاعد أبخرة الماء وتحمل بقدرة الله إلى طبقات الجو العالية، وتتجمع حينئذ بها السحب والغيوم، وتقودها الرياح، وتلقحها وتؤثر فيها بالبرودة، ثم تتساقط الأمطار العذبة بعد أن كانت عند تبخرها من البحار مالحة، فتروي الأرض، وتحقق الخير، وتوفر الرزق، وتحيي جميع الكائنات الحية، فإن الرطوبة أهم عناصر الحياة، وهي الفارق المميز بين الشتاء والصيف.
وثالث الأدلة- تقليب الليل والنهار بالزيادة والنقص، والحرارة والبرودة، والتعاقب المستمر، ولكل من الليل والنهار طبيعة تناسب الإنسان، فالليل للراحة والهدوء، والنهار للحركة والكسب.
ورابع الأدلة- تنوع المخلوقات بأشكال شتى، وطبائع مختلفة، ومنافع متعددة، مع أن منشأها واحد وهو الماء، وتركيبها مختلف، ويخلق الله من الماء ما يشاء وما لا نعلم به إلى الآن، بالرغم من تعدد الاكتشافات العلمية إذ أول ما خلق الله من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء، وقدرة الله فوق الحصر والعد، وأغرب من السمع والبصر.
وما أجمل وأبدع ما ختمت به تلك الأدلة من قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ... فهي تشمل كل الأدلة والعبر، ومنها بيان القرآن العظيم الذي اشتمل على أدلة الإيمان والاعتقاد، وأحكام العبادة والتشريع، وأصول الفضائل والآداب والأخلاق. والله يهدي بتلك الأدلة من يريد إلى طريق الحق والصواب، والسداد والاستقامة، دون انحراف أو اعوجاج، فماذا بعد بيان الحق إلا الضلال؟!(18/269)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
البقاء على الضلال والنفاق بالرغم من البيان الشافي
[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 50]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
المفردات اللغوية:
وَيَقُولُونَ أي المنافقون. آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صدقنا بتوحيد الله وبالرسول محمد.
وَأَطَعْنا رضينا فيما حكما به. يَتَوَلَّى يعرض ويمتنع عن قبول حكمه. وَما أُولئِكَ المعرضون. بِالْمُؤْمِنِينَ الصادقي الإيمان التي توافق قلوبهم ألسنتهم.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليحكم بينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه الحاكم الدنيوي ظاهرا، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم الله. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ فريق بالإعراض عن المجيء إليك إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ لهم الحكم لا عليهم إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ طائعين منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، وتقديم إِلَيْهِ للاختصاص. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر أو ميل إلى الظلم.
ارْتابُوا شكوا في نبوتك، فزالت ثقتهم بك. يَحِيفَ يجور ويظلم في الحكم. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لا، بل هم الذين يريدون ظلم الناس وإنكار حقوقهم بالإعراض عنك.
سبب النزول:
قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.(18/270)
وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو محق، أذعن، وعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلّى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي:
قضى لي النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال:
بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم «1» .
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد، ذمّ الله تعالى قوما وهم المنافقون اعترفوا بالدين بألسنتهم، ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم، فيقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ ثم يفعلون نقيض ذلك.
التفسير والبيان:
هذه صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فقال تعالى:
وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) وهذا الحكم حق وعدل لأنهم في الواقع كفار استباحوا معارضة النبي صلى الله عليه وسلم في أحكامه، وشهروا بحكمه، وأحدثوا البلبلة والاضطراب في عدله ونبوته، وكل ذلك يختلف عن الكافر العادي.(18/271)
أي ويقول المنافقون أمام الناس: صدقنا بالله ربا وبمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولا، وأطعنا الله فيما قضى، والرسول صلّى الله عليه وسلم فيما حكم به، ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكمه، فيخالفون أقوالهم بأعمالهم، ويقولون ما لا يفعلون، ويرجعون بعدئذ إلى الباقين منهم، فيظهرون الرجوع عما أعلنوه، والحقيقة أن أولئك المنافقين ليسوا بالفعل من أهل الإيمان، وإنما مردوا على النفاق.
وهذا دليل واضح على أن الإيمان لا يكون بالقول، إذ لو كان به، لما صح أن ينفي عنهم كونهم مؤمنين. ومن مظاهر نفاقهم وذبذبتهم:
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي وإذا طلبوا إلى تحكيم كتاب الله واتباع هداه، وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهم في خصوماتهم، أعرضوا عن قبول حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، واستكبروا عن اتباع حكمه. وهذا ترك للرضا بحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء 4/ 60- 61] .
وفي الآية دلالة على أن حكم الرسول صلّى الله عليه وسلم هو حكم الله القائم على الحق والعدل.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي إذا كان الحكم في صالحهم جاؤوا إليه سامعين مطيعين لعلمهم بأنه لا يحكم إلا بالحق. وهذا دليل واضح على انتهازيتهم وإرادتهم النفع المعجل، فهم يعرضون عن حكم النبي صلّى الله عليه وسلم متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكّوا، فأما إذا عرفوه لأنفسهم أسرعوا إلى قبول الحكم النبوي والرضا به.(18/272)
ثم حلّل القرآن الكريم نفسيتهم فقال تعالى:
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ «1» أي أن ترددهم وذبذبتهم بين قبول حكم النبي صلّى الله عليه وسلم تارة والإعراض عنه تارة أخرى لأحد الأسباب التالية: وهي إما أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق، والمرض ملازم لهم، وإما أنهم شكوا في الدين وفي نبوته صلّى الله عليه وسلم، وإما أنهم يخافون أن يجور الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم عليهم في الحكم.
وأيا كان هو السبب فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم وبصفاتهم. لذا قال تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي بل هم الظالمون الفاجرون، يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، لا أنهم يخافون أن يحيف الرسول صلّى الله عليه وسلم عليهم لمعرفتهم بأمانته وعدله في حكمه وصونه عن الجور.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان بالمبدأ أو الاعتقاد لا يعرف إلا واجهة واحدة هي واجهة الصراحة في القول، والحزم والجزم بالعقيدة، ومطابقة القول العمل. أما أولئك المنافقون في صدر الإسلام وفي كل عصر الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فهم كفرة جبناء يطعنون في الإسلام من الخلف، ويريدون في الواقع هدمه، والتنصل من أحكامه وقواعده.
وهذه صورة مخزية لهم عرضها القرآن الكريم، تراهم إذا أحسوا بأن الحق في جانبهم قبلوا بحكم النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه كما أثبت الواقع لا يحكم إلا بالحق. وإن عرفوا
__________
(1) كلمة أم للاستفهام، وهو غير جائز على الله تعالى، والمراد به الإخبار عنهم، كقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ومعناه إثبات أنهم كذلك، ولو كان الاستفهام على حقيقته لكان ذما لهم، وإنما أتى بالاستفهام في الآية لأنه أبلغ في التوبيخ والذم.(18/273)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
الحق مع غيرهم وأرادوا جحوده، طلبوا التحاكم إلى غير هذا النبي من أعدائه الذين يحكمون بأهوائهم.
ففي قلوبهم مرض الكفر والنفاق، والشك والريب في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدله، وهم في الواقع الظالمون، أي المعاندون الكافرون الذين يريدون جحود الحقوق لإعراضهم عن حكم الله تعالى، وليس هناك أدنى جور في حكم الله والرسول.
هذه عادة الذين يتاجرون بالإسلام وتملق أهله ما دامت لهم مصلحة، فإن زالت المصلحة أو تغيرت ابتعدوا عن الإسلام وركبه.
وهذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. فواجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بينه وبين المدّعي أو المدّعى عليه.
ومن المعلوم أن القضاء يكون للمسلمين في الحكم بين المعاهد والمسلم، ولا حق لأهل الذمة فيه. أما القضاء بين الذميين فذلك راجع إليهما، فإن تراضيا وجاءا قاضي الإسلام، فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض.
الطاعة والامتثال عند المؤمنين
[سورة النور (24) : الآيات 51 الى 54]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)(18/274)
الإعراب:
وَيَتَّقْهِ بكسر القاف على الأصل، وقرئ بسكونها على التخفيف، مثل كتف وكتف.
طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
طاعَةٌ
خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمرنا طاعة، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أمثل من غيرها.
البلاغة:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
استعارة، شبّه الأيمان المبالغ فيها والمؤكدة بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه.
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ مشاكلة، أي عليه التبليغ، وعليكم إثم التكذيب.
المفردات اللغوية:
إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي دعوا إلى حكم الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي القول اللائق بهم أن يعلنوا الإطاعة بالإجابة الْمُفْلِحُونَ الناجون وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمرانه، أو في الفرائض والسنن وَيَخْشَ اللَّهَ أي يخف الله على ما صدر عنه من الذنوب في الماضي. وَيَتَّقْهِ بأن يطيعه فيما بقي من عمره الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم في جنان الله.
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
قدر طاقتهم وأقصى غاية الأيمان لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالجهاد أو الخروج عن ديارهم وأموالهم لَيَخْرُجُنَ
جواب أقسموا، على الحكاية أي قائلين: لنخرجن قُلْ: لا تُقْسِمُوا
على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أي المطلوب منكم طاعة معروفة، لا اليمين والطاعة النفاقية المنكرة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
فلا يخفى عليه سرائركم قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به، على الحكاية، مبالغة في تبكيتهم تَوَلَّوْا أى تتولوا وتعرضوا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي على محمد صلّى الله عليه وسلم ما حمّل من مهمه التبليغ، وعليكم ما حملتم من الامتثال والطاعة ووزر التكذيب وَإِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحق الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلفتم به.(18/275)
المناسبة:
جريا على عادة الله تعالى في إتباع ذكر المحق المبطل، والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره ما لا ينبغي، فبعد حكاية قول المنافقين وفعلهم وبقائهم على النفاق ونفي الإيمان الحق، ذكر الله تعالى ما هو شأن أهل الإيمان في الطاعة والامتثال، وصفات المؤمن الكامل وما يجب أن يسلكه المؤمنون.
التفسير والبيان:
هذه صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الممتثلين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي إن شأن المؤمنين الصادقي الإيمان وعادتهم أنهم إذا طلبهم أحد إلى حكم الله ورسوله في خصوماتهم أن يقولوا: سمعا وطاعة، لذا وصفهم تعالى بالفلاح، فأولئك هم الفائزون بنيل المطلوب، والسلامة من المرهوب، والنجاة من المخوف.
والسمع والطاعة هو محور الميثاق الأول مع المسلمين الأوائل، ففي بيعة العقبة الأولى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا من الأنصار على السمع والطاعة في المعروف، كما
روى عبادة بن الصامت. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعظ الصحابة فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة..»
وأوصى عبادة بن الصامت ابن أخيه جنادة بن أبي أمية لما حضره الموت فقال ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.(18/276)
وقال أبو الدرداء: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة.
ثم أبان الله تعالى أن كل طاعة لله ورسوله محققة الفوز، فقال:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به، وترك ما نهياه عنه، وخاف الله فيما مضى من ذنوبه، واتقاه فيما يستقبل من أيامه، فأولئك هم الذين فازوا بكل خير، وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
ثم قارن الله تعالى موقف هؤلاء بموقف أولئك المنافقين، وهم كثيرون في كل زمان، فعاد إلى كشف موقفهم من الطاعة بعد بيان كراهيتهم لحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
أي كان أهل النفاق يحلفون للرسول صلّى الله عليه وسلم مغلّظين الأيمان، مبالغين فيها إلى غايتها: لئن أمرتهم بالجهاد والخروج مع المجاهدين، ليخرجن كما طلبت، فقالوا: والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
فرد الله تعالى عليهم مبينا أكاذيبهم بقوله:
قُلْ: لا تُقْسِمُوا، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قل يا محمد لهم: لا تحلفوا، فإن المطلوب منكم طاعة معروفة، صدق باللسان، وتصديق بالقلب والأفعال.
وقيل: معناه طاعتكم طاعة معروفة لنا، فهي مجرد طاعة باللسان فحسب من غير تصديق قلبي، وقول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة 9/ 96] وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة 58/ 16] .(18/277)
وهذا نهي عن القسم القبيح الكاذب إذ لو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه، فتبين أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أي أن الله مطلع على أعمالكم الظاهرة والباطنة، خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، يعلم بأيمانكم الكاذبة وبكل ما في ضمائر عباده من الكفر والنفاق وخداع المؤمنين، فيجازيكم على كل عمل سيء.
وهذا تهديد ووعيد.
ثم رغبهم الله ورهبهم فقال:
قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قل لهم أيها الرسول: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا دليل على أنهم لم يطيعوا ما فيهما.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي فإن تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم أو إن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فإن الذي عليه أي الرسول إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، وعليكم بقبول ذلك وبطاعته فيما أمر، وتعظيمه، فما حملتم هو الطاعة.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اي وإن تطيعوا هذا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق لأنه يدعو إلى صراط مستقيم، وما على الرسول إلا التبليغ البين والواضح والموضح لما تحتاجون إليه، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] .
فقه الحياة أو الأحكام:
قارن الله تعالى في هذه الآيات بين المؤمنين والمنافقين في شأن الطاعة:(18/278)
طاعة الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، فإن المؤمنين الصادقين وهم عند نزول الآيات المهاجرون والأنصار كانوا إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وحكم رسوله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: سمعا وطاعة، دون تمهل ولا تردد.
وهم في هذا القول لم يخسروا، وإنما حققوا لأنفسهم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن يطع أوامر الله تعالى ويلتزم بحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمره، ويخف عذاب الله على ذنوبه الماضية، ويتق الله في مستقبل عمره، فهو من الفائزين بكل خير، البعيدين عن كل شر.
ذكر أسلم أن عمر رضي الله عنه بينما هو قائم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله، قال:
هل لهذا سبب؟ قال: نعم! إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت، قال: ما هذه الآية؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَرَسُولَهُ في السنن وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من عمره وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ والفائز: من نجا من النار، وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي: «أوتيت جوامع الكلم» .
وأما المنافقون فيقسمون بالله تعالى أغلظ الأيمان، وطاقة ما قدروا أن يحلفوا على أنهم يجاهدون مع النبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل ويطيعونه فيما أمر، ولكن أيمانهم كاذبة، لذا نهاهم الله تعالى عن هذا القسم القبيح الكاذب، وأمرهم بالطاعة المعروفة المعتادة لدى المؤمنين، وهي النابعة من إخلاص القلب، ولا حاجة بعدئذ إلى اليمين، فإن الله خبير بما يعملون من الطاعة بالقول، والمخالفة بالفعل.(18/279)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
ثم أكد الله تعالى الأمر بطاعة أوامر الله تعالى وحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم بإخلاص لا نفاق فيه، فإن تولوا عن الطاعة، فما على النبي صلّى الله عليه وسلم إلا تبليغ الرسالة، وما عليهم إلا الطاعة له، فإن أطاعوه اهتدوا إلى الحق، فجعل الاهتداء مقرونا بطاعته، ثم أكد أنه ما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا التبليغ الواضح الذي لا شائبة فيه لكل ما كلف فيه الناس، فهو لا يحمل أحدا على الإيمان الحق، ولا يكره إنسانا على الدين القويم.
قال بعض السلف: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
أصول دولة الإيمان
[سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
الإعراب:
وَعَدَ: وعد في الأصل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، ولهذا اقتصر في هذه الآية على مفعول واحد، وفسّر العدة بقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. وهو جواب قسم مضمر تقديره: وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم.(18/280)
يَعْبُدُونَنِي جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ أو استئناف كلام جديد.
لا يُشْرِكُونَ حال من واو يَعْبُدُونَنِي.
البلاغة:
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً طباق بين الخوف والأمن.
المفردات اللغوية:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم والأمة لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في ممالكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ مبني للمعلوم، وقرئ مبنيا للمجهول الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من بني إسرائيل في مصر وفلسطين بدلا عن الجبابرة: فرعون وأمثاله وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت وإظهاره على جميع الأديان، فالتمكين: هو جعل هذا الدين ممكّنا في الأرض بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليجعلنهم بعد الخوف من الكفار في حالة أمن وسلام، وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقوا مستنفرين في السلاح صباح مساء، حتى أنجز الله وعده، فغلّبهم على العرب كلهم، وفتح لهم بلاد الشرق والغرب. وفيه دليل على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به، وعلى صحة خلافة الراشدين.
يَعْبُدُونَنِي حال من الَّذِينَ لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من واو يَعْبُدُونَنِي أي يعبدونني غير مشركين وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي ومن ارتد، أو كفر هذه النعمة بعد الوعد أو حصول الخلافة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة. وأول من كفر به قتلة عثمان رضي الله عنه، فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.. معطوف على قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ والفاصل وإن طال وعد على المأمور به، فيكون تكرارا للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لتأكيد وجوبها، وتعليق الرحمة بها، أي بالطاعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي راجين الرحمة.
لا تَحْسَبَنَّ الخطاب للرسول مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا تلحقهم قدرة الله على(18/281)
الإهلاك، بأن يفوتوا منها، أي لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في الأرض وَمَأْواهُمُ النَّارُ ومرجعهم النار، وذلك معطوف من حيث المعنى على قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار، والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم. وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي، أو المأوى الذي يصيرون إليه.
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه، والطبراني عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: فينا نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
المناسبة:
بعد الكلام عن الطاعة وثمرتها: وهي أن من أطاع الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة، وعد الله سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض، وتأييدهم بالنصر والإعزاز، وإظهار دينهم على الدين كله، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون. ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وعد الله الذين تحقق فيهم وصفان معا هما الإيمان(18/282)
بالله ورسوله والعمل الصالح الطيب الذي يقرب من الله تعالى ويرضيه بأن يجعل أمة النبي صلّى الله عليه وسلم خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، كما استخلف داود وسليمان عليهما السلام على الأرض، وكما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وقوله مِنْكُمْ من للبيان كالتي في آخر سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [29] .
وبما أن وعد الله صادق ومنجز، كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ [الزمر 39/ 20] فقد أنجز الله وعده، وأظهر المسلمين على جزيرة العرب، وافتتحوا بعدئذ بلاد المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة (حكام فارس) وملكوا خزائنهم، وفتحوا بلاد القياصرة (بلاد الروم) واستولوا على الدنيا، وظلت دولة الإسلام قوية منيعة في ظل خلافات متعاقبة: الخلافة الراشدية، ثم الخلافة الأموية في الشام والأندلس، ثم الخلافة العباسية، ثم الخلافة العثمانية إلى انتهاء الربع الأول من القرن العشرين (1924) حيث ألغى أتاتورك الخلافة.
ففي عهده صلّى الله عليه وسلم فتحت مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن كلها. وأخذت الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وملك عمان.
وفي عهد الخلفاء الراشدين افتتحت بلاد كثيرة في الشرق والغرب وهي أكثر بلاد فارس والروم في العراق والشام ومصر وبعض بلاد شمال إفريقيا، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل كثير من الترك.
وفي العهد الأموي استمرت الفتوح الواسعة حتى شملت بلاد الأندلس والهند.
واستقر الحكم الإسلامي في العهد العباسي في مختلف أجزاء بلاد الإسلام.(18/283)
وفي عهد الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس، وقبرص والقسطنطينية، وبلاد القيروان وسبتة مما يلي المحيط الأطلسي، وامتد الفتح إلى أقصى بلاد الصين.
وصدق
قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد: «إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» .
ونظير الآية قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال 8/ 26] ، وقوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص 28/ 5- 6] .
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي وليجعلن دين الإسلام مكينا ثابتا في الأرض، عزيزا قويا منيعا، مرهوب الجانب في نظر أعدائه، منصورا على ملة الكفر.
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة- المرأة في الهودج- من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد» .
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في(18/284)
غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قالها.
وتحققت الثالثة في عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بشّر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب» .
ثم بيّن حال هذه الأمة أثناء تمكنها في الأرض أو علة تمكينها في الأرض فقال:
يَعْبُدُونَنِي «1» لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أي إن هذه الأمة تعبد الله وحده لا شريك له، ولا يتغيرون من عبادة الله تعالى إلى الشرك، ووعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم.
روى الإمام أحمد والشيخان عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذبهم» .
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي ومن ارتد أو كفر النعمة، كقوله تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل 16/ 112] ، أو خرج عن طاعة ربه وأمره، فأولئك هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة، وتناسوا فضل الله عليهم، وهذا ربما يصدر من بعض الأمة بدليل
حديث الصحيحين وغيرهما من الأئمة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة» .
__________
(1) يعبدونني كما تقدم: هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. [.....](18/285)
وبعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا للنعمة، وإحسانا إلى عباد الله الفقراء، مكررا للتأكيد الأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وأدوا الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، واعبدوا الله وحده لا شريك له، وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم لما فيها من الإحسان إلى الضعفاء والفقراء، وأطيعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أمركم به أو نهاكم عنه أو زجركم عنه، لعل الله يرحمكم بذلك، وينجيكم من عذاب أليم. ولا شك أن من فعل هذا سيرحمه الله، كما قال: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة 9/ 71] .
وأما المتنكرون لطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم فهم كما قال تعالى:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي لا تظنن أيها الرسول أن الذين خالفوك وكذبوك وكفروا برسالتك يعجزون الله ويفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب في الدنيا بألوان مختلفة فردية كالمرض والهم والقلق والانتحار، أو جماعية كالقتل في الحروب والزلازل والبراكين والحرق والغرق، ومأواهم في الآخرة نار جهنم، وبئس المآل مآل الكافرين، وبئس المرجع والقرار والمهاد. ومعجزين: معناه فائتين، والمصير: المرجع، كما بيّنا.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه هي أصول دولة الإيمان، تنبئ عن قواعد ومبادئ أهمها الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، وثمرتها أولا- إنجاز وعد الله بالعزة والسيادة في الأرض في الدنيا، ونصرة الإسلام على الكفر، وتمكين هذا الدين المرتضى وهو دين(18/286)
الإسلام في الأرض، أي تثبيته وتوطيده وتأمينه وتأمين أهله وإزالة الخوف الذي كانوا عليه، وثانيا- الظفر برحمة الله في الآخرة.
ودلت الآيات على ما يلي «1» :
1- إثبات صفة الكلام لله عزّ وجلّ وأنه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام، ومن وصف بالنوع وصف بالجنس.
2- الله تعالى حيّ قادر على جميع الممكنات لأنه قال: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وقد فعل ذلك كما بيّنا في التفسير السابق، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات.
3- الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لقوله: يَعْبُدُونَنِي.
4- إنه سبحانه منزه عن الشريك لقوله: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وذلك يدل على نفي الإله الآخر، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى، سواء كان كوكبا كما يقول الصابئة، أو صنما كما يقول عبدة الأوثان.
5- صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب في قوله تعالى:
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. الآية، وقد تحقق الخبر المعجز، فدل على صدق المخبر وهو محمد صلّى الله عليه وسلم.
6- العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان.
7- إثبات خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، فالآية وَعَدَ اللَّهُ..
أوضح دليل وأبينه لأنهم المستخلفون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين
__________
(1) انظر تفسير الرازي: 24/ 24(18/287)
وعدهم الله بالاستخلاف بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، والاستخلاف: الإمامة فقط، وأما الذين من قبلهم فهم الخلفاء إما بالنبوة وإما بالإمامة والخلافة.
ولكن لا تختص الخلافة بهم، بل تشمل غيرهم ممن استخلفوا على المسلمين.
8- إن من أتم النعم على الصحابة وتابعيهم بعد نصرة الإسلام هو تبديل خوفهم أمنا، كما وعد تعالى، وأكده رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا، ليس عليه حديدة»
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحة: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»
فالآية معجزة النبوة لأنها إخبار عما سيكون، فكان، كما بيّنا.
9- إن أساس العمل الإسلامي عبادة الله بالإخلاص، دون أن يشوبها شرك ظاهر أو خفي وهو الرياء.
10- المراد بالكفران في قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ في رأي أكثر المفسرين كفران النعمة لأنه قال تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أما الكافر الحقيقي فهو فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
11- إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه سبب للرحمة الشاملة من الله تعالى.
12- لن يعجز الله هربا في الأرض أحد من الكفار، وإنما قدرة الله تطولهم في أي مكان، وهم المقهورون، ومأواهم النار. قال صاحب الكشاف: النظم في قوله تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ لا يحتمل أن يكون متصلا بقوله: لا تَحْسَبَنَّ لأن ذلك نفي، وهذا إيجاب، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره:
لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض، بل هم مقهورون، ومأواهم النار.(18/288)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر حالات الاستئذان في داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
الإعراب:
ثَلاثُ عَوْراتٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه ثلاث عورات، أي هذه ثلاثة أوقات عورات، وحذف المضاف اتساعا. ويقرأ بالنصب على أنه بدل من قوله: ثَلاثَ مَرَّاتٍ وهذا ظرف زمان أي ثلاثة أوقات، وأخبر عن هذه الأوقات بالعورات لظهورها فيها، مثل ليلك نائم، ونهارك صائم. وتسكين واو عَوْراتٍ لأنه حرف العلة، والحركة تستثقل على حرف العلة.
وقرئ بفتح الواو على قياس جمع التصحيح، نحو ضربة ضربات.
طَوَّافُونَ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون، أي أنتم طوافون، وبَعْضُكُمْ بدل من ضمير طَوَّافُونَ أي يطوف بعضكم على بعض.
وَالْقَواعِدُ جمع قاعد: وهي التي قعدت عن الزواج للكبر، ولم يدخلها الهاء لأن المراد(18/289)
به النسب، أي ذات قعود، كقولهم: حامل وحائض وطاهر وطالق، أي ذات حمل وطمث وطهر وطلاق.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ دخول الفاء في فَلَيْسَ يدل على أن اللَّاتِي في موضع رفع لأنه صفة للقواعد لا للنساء لأنك لو جعلته صفة للنساء، لم يكن لدخول الفاء وجه لأن الموصول هي التي يدخل الفاء في خبرها، فإذا جعلت اللَّاتِي صفة للقواعد، فالصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد.
غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من ضمير (هن) في ثيابهن، أو من ضمير يَضَعْنَ.
البلاغة:
عَلِيمٌ حَكِيمٌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد والإماء. وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار، والحلم من حلم: وقت البلوغ: إما بالاحتلام وإما ببلوغ خمس عشرة سنة.
ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي في ثلاثة أوقات. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي تخلعون ثيابكم وقت الظهر، وقوله: من الظهيرة: بيان للحين. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. ثَلاثُ عَوْراتٍ أي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم وتبدو فيها العورات لإلقاء الثياب، والعورة: الخلل، والأعور: المختل العين، وسميت كل حالة عورة لأن الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ أي لا على المماليك والصبيان.
جُناحٌ إثم وذنب في الدخول عليكم بغير استئذان. بَعْدَهُنَّ بعد الأوقات الثلاثة.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي هم طوافون عليكم للخدمة والمخالطة وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام. بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض، أو يطوف بعضكم على بعض، والجملة مؤكدة لما قبلها.
كَذلِكَ مثل ذلك التبيين لما ذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الأحكام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمور خلقه وأحوالهم. حَكِيمٌ بما دبره لهم وشرع. ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها الأحرار، ولا يدخل فيهم المماليك. فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات. كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الأحرار الكبار الذين بلغوا من قبلهم.(18/290)
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل والولد لكبرهن.
لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبرهن. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أن يتخففن بإلقاء الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء، والقناع فوق الخمار. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال. وأصل التبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، مأخوذ من قولهم: سفينة بارجة أي لا غطاء عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي يرتدين أكمل الثياب خير لهن من الوضع لأنه أبعد من التهمة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهن للرجال وقولكم. عَلِيمٌ بمقصودهن وبما في قلوبكم.
سبب النزول:
قال ابن عباس: وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له:
مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ...
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.
وفي رواية: ثم انطلق- أي عمر- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرّ ساجدا، شكرا لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا(18/291)
عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية.
فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للرجال والنساء بطريق التغليب لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول.
التفسير والبيان:
هذه الآيات عود إلى تتمة الأحكام السالفة في هذه السورة، بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها، والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها. وموضوع هذه الآيات استئذان الأقارب بعضهم على بعض، والتخفيف عن العجائز بإلقاء الثياب الظاهرة. أما ما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. وتفسير الآيات ما يأتي:
الحكم الحادي عشر:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ أي أيها المؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله يطلب من خدمكم مما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، وأطفالكم الصغار أن يستأذنوكم في ثلاثة أحوال أو أوقات:
الأول- من قبل صلاة الفجر لأنه وقت النوم في الفراش واليقظة من المضاجع وتغيير ثياب النوم وارتداء ثياب اليقظة، ويحتمل انكشاف العورة.
الثاني- حين تخلعون ثياب العمل وتستعدون للنوم وقت الظهيرة أو وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.(18/292)
الثالث- من بعد صلاة العشاء لأنه وقت خلع ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم.
فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من انكشاف العورات ونحو ذلك من مقدمات النوم والراحة، فهي ساعات الخلوة والانفراد ووضع الملابس.
والأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ظاهر في الوجوب، لكن قال الجمهور: إنه مصروف إلى الندب والاستحباب، والتعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، مثل
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» .
فلو حدث دخول بغير استئذان لم يكن ذلك معصية، وإنما خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. فإن علم الخادم أن في دخوله على سيده إيذاء له، حرم الدخول بسبب الأذى لغيره.
وزعم البعض أن حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة منسوخ لجريان عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول على خلافه، أو أنه كان يعمل بها عند عدم وجود ستور للبيوت. والأصح أن حكم الاستئذان في هذه الأوقات محكم غير منسوخ، وهو قول أكثر أهل العلم. قال أبو حنيفة رحمه الله: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ.
والجمهور على أن الخطاب في الآية عام في الذكور والإناث من الأرقاء، الكبار منهم والصغار. وروي عن ابن عباس أنه خاص بالصغار، كما روي عن السّلمي أنه خاص بالإناث، وكلا الرأيين غير معقول.
والمراد بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ هم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم. وهم المراهقون لقوله تعالى:(18/293)
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور 24/ 31] .
وعلة طلب الاستئذان ما قال الله تعالى:
ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي إن هذه الأوقات المذكورة هي ثلاثة أوقات عورات يختل فيها التستر عادة، والعورة لا يجوز النظر إليها. وما عدا ذلك فهو مباح كما قال سبحانه:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، وإنما الأمر مباح على أصل الإباحة في الأشياء.
وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر، فيدخل في وقت المنع قبل صلاة الفجر، من باب أولى، وإنما سكت عنه النص لندرة الدخول فيه بسبب النوم، ولأن المعمول به عادة حصول الاستئذان فيه، منعا من التهمة وسوء الظن.
وعلة الإباحة كما ذكر تعالى:
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي إن هؤلاء الخدم والأطفال الصغار يطوفون عليكم في الخدمة وغير ذلك، ويترددون على مجالسكم أنسا بكم ومعاشرة ومداخلة، وقضاء حاجات، وبعضكم طائف عادة على بعض، وكرر الله تعالى ذلك للتأكيد، فالتعبير الأول تسلية للمماليك والخدم، والتعبير الثاني مراعاة لجانب السادة المخدومين وإشعار بحاجتهم إلى خدمات الخدم.
وفيه دلالة على تعليل الأحكام لأن الله تعالى نبّه على علة طلب الاستئذان بقوله: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ كما نبّه على أن التطواف علة الإباحة في غير الأوقات الثلاثة، ويغتفر في الطوافين دفعا للحرج والمشقة ما لا يغتفر في غيرهم.
لهذا
روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الهزة: «إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات» .(18/294)
وفي الآية دلالة أيضا على أن المميز غير البالغ يعوّد على الأدب والنظام والانضباط والإعداد لتحمل المسؤولية والتكاليف الشرعية، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] أي أدبوهم وعلموهم.
وهذا التأديب والتعليم والبيان والتشريع بفضل الله تعالى، لذا قال:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي مثل ذلك التبيين لما ذكر من الأحكام يبين الله لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على معانيها ومقاصدها، والله عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما لا يصلحهم، حكيم في تدبير أمورهم وتشريع الأصلح الأنسب لهم في الدنيا والآخرة.
الحكم الثاني عشر:
انتقل البيان لمعرفة حكم استئذان البالغين الأحرار، فقال تعالى:
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إذا بلغ الحلم الأطفال الذين كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، فيجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، مع الأجانب والأقارب، كما استأذن الكبار الذين سبقوهم من ولد الرجل وأقاربه. فهذه الآية مبينة لآية: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور 24/ 31] أي أن الطفل الذي لم يظهر على العورات مستثنى، فإذا ظهر على العورات، وذلك بالبلوغ، فيستأذن.
وأفرد «الطفل» في الآية لأنه يراد به الجنس.
ولم يذكر المماليك هنا، وإنما بقي الحكم السابق مقررا عليهم وهو الاستئذان في أوقات ثلاثة لأن حكم كبارهم وصغارهم واحد.
وبلوغ الحلم إما بالاحتلام أو ببلوغ خمس عشرة سنة في رأي أكثر العلماء لما
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق، وله خمس عشرة سنة فأجازه.(18/295)
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها، والفتاة حتى تبلغ سبع عشرة سنة لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام 6/ 152] وأقل حد لبلوغ الأشد ثماني عشرة سنة، فيبنى الحكم عليها للتيقن، أما الإناث فيكون إدراكهن ونشوؤهن أسرع، فنقص في حقهن سنة «1» .
ويرى جماعة من العلماء منهم الشافعي أن الإنبات (إنبات الشعر) من أمارات البلوغ لما
روى عطية القرظي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إلي فلم أكن أنبتّ، فاستبقاني صلّى الله عليه وسلم.
ولا يعتبر الإنبات عند الحنفية بلوغا لظاهر قوله تعالى:
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فإنه ينفي كون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم، كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا.
ثم عاد البيان القرآني لتأكيد نعمة الله بتشريع هذه الأحكام فقال تعالى:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي كما بين لكم ما ذكر بيانا كافيا شافيا، يبيّن لكم أحكاما أخرى تحقق الاستقرار والاطمئنان وسعادة الدنيا والآخرة، والله عليم بأحوال عباده، حكيم في معالجة أمورهم.
الحكم الثالث عشر:
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ هذا بيان حكم النساء العجائز، والمعنى: إن النساء اللواتي كبرن، وانقطع الحيض عنهن، ويئسن من الولد، ولم يبق لهن رغبة في التزوج، فلا إثم عليهن ولا حرج أن يخففن في ملابسهن ويخلعن ثيابهن الظاهرة
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 331 وما بعدها.(18/296)
كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار (غطاء الرأس) إذا لم يقصدن إظهار ما عليهن من الزينة الخفية كشعر ونحر وساق، ولم يكن فيهن جمال ظاهر، فإن وجد حرم خلع الثياب الظاهرة، ولم يؤد إلى كشف شيء من العورة.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي أن التعفف والاحتياط بالستر، وإبقاء ثيابهن المعتادة، وإن كان جائزا، خير وأفضل لهن، والله سميع لأحاديثهن وكلامهن مع الرجال وكلام الرجال معهن، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن وغير ذلك، فإياكم ووساوس الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على أحكام ثلاثة هي:
1- يندب ندبا مؤكدا للمماليك العبيد والإماء والأطفال غير البالغين الاستئذان عند الدخول على الأبوين (عماد الأسرة) في أوقات ثلاثة: هي ما قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة ظهرا، وما بعد صلاة العشاء. قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحبّ السّتر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال «1» ، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل، والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك.
وسبب تخصيص هذه الأوقات أنها أوقات تقتضي عادة الناس كشف شيء من عوراتهم فيها، فطلب فيها الاستئذان منعا من الاطلاع على العورات. وهذه الآية خاصة، وأما التي سبق ذكرها فهي عامة، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها.
__________
(1) الحجال جمع حجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب، ويكون له أزرار كبار كبيت الشّعر اليوم.(18/297)
2- يجب على البالغين الأحرار الاستئذان في كل وقت عند الدخول على الآخرين أجانب أو أقارب.
3- يباح للعجائز القاعدات في البيوت اللواتي لا يشتهين عادة من الرجال خلع الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، دون أن يؤدي ذلك إلى كشف شيء من العورة، ودون قصد التبرج أو إظهار الزينة لينظر إليهن، وإن كن لسن بمحل لذلك عادة، والاستعفاف خير وأفضل من فعل المباح.
وإنما خص الله تعالى القواعد من النساء بهذا الحكم دون غيرهن لانصراف النفوس عنهن عادة.
ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصف جسدها، وهو المراد
بقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة: «ربّ نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها»
جعلن كاسيات لأن الثياب عليهن، ووصفن بعاريات لأن الثوب إذا رقّ يكشفهن، وذلك حرام «1» .
4- قال أبو بكر الرازي الجصاص: دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل، يؤمر بفعل الشرائع، وينهى عن ارتكاب القبائح، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «مروهم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نعلّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وكان زين العابدين علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، فقيل له: يصلون الصلاة لغير وقتها، فقال: هذا خير من أن يتناهوا عنها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، حتى يحتلم.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1389(18/298)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
وإنما يؤمر بذلك على وجه التعليم، وليعتاده ويتمرن عليه، فيكون أسهل عليه بعد البلوغ، وأقل نفورا منه، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير، وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر، لصعب عليه الامتناع بعد الكبر، وقال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً قيل في التفسير: أدبوهم وعلّموهم «1» .
5- الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبّه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين:
أحدهما- بقوله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وهي علة طلب الاستئذان.
والثاني- بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين ما عداها، وهو علة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وما عداها يختلف عنها، كما تقدم بيانه.
إباحة الأكل من بيوت معينة دون إذن
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 333(18/299)
الإعراب:
جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً حال من واو تَأْكُلُوا.
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ منصوب على المصدر لأن قوله: فَسَلِّمُوا معناه: فحيّوا.
البلاغة:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ: إطناب بتكرار لفظ الحرج، تأكيدا للحكم شرعا.
المفردات اللغوية:
حَرَجٌ الحرج لغة: الضيق، ويراد به شرعا الإثم أو الذنب. ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي ما كنتم فيه وكلاء عن غيركم أو حفظة له. أَوْ صَدِيقِكُمْ الصديق: يطلق على الواحد والجمع، كالخليط والعدو، وهو من صدقكم في مودته. ومعنى الآية: يجوز الأكل من بيوت المذكورين، وإن لم يحضروا، إذا علم رضاهم به. جَمِيعاً أي مجتمعين. أَشْتاتاً متفرقين، جمع شتّ، أي متفرق، وشتى: جمع شتيت.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا أهل بها أو من هذه البيوت فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي على أهل البيوت، أو قولوا: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فإن الملائكة تردّ عليكم، وإن كان بها أهل فسلموا عليهم. تَحِيَّةً مصدر حيّا. مُبارَكَةً كثيرة الخير. طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ذلك البيان يبين لكم معالم دينكم، كرره مرة ثالثة لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام السابقة المختتمة به. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا ذلك، وتعقلوا الحق والخير في الأمور.
سبب النزول:
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية، أذكر ثلاث روايات منها.(18/300)
الأولى- في نفي الحرج عن الأكل من بيوت معينة:
قال سعيد بن المسيّب: أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. وهذا ما اختاره ابن جرير.
والآية وإن نزلت في تحرج أصحاب الأعذار هؤلاء من الأكل في بيوت من خلفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عاما لكل الناس. ومعنى نفي الحرج من أكل الناس في بيوتهم إظهار التسوية بين أكلهم من بيوتهم وأكلهم من بيوت أقاربهم وموكليهم وأصدقائهم.
الثانية- رفع الإثم عن المعذورين في التخلف عن الجهاد:
قال الحسن البصري: نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد، وكان أعمى.
وقال أبو حيان: إن الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله. والجمع بينهما في مقام الإفتاء والبيان مقبول غير مستغرب. ووجه اتصال الآية حينئذ بما قبلها أنه تعالى بعد أن ذكر حكم الاستئذان، بيّن أن تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد لا يحتاج إلى إذن النبي صلّى الله عليه وسلم.
الثالثة- نفي الحرج عن الناس في مؤاكلة المرضى
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أنزل الله تبارك وتعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعرج،(18/301)
وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير والضحاك: كان العرجان والعميان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يتقذرونهم، ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأيا ما كان سبب نزول الآية فإنها تبيح الأكل من هذه البيوت، بشرط أن يعلم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، وخصصت هذه البيوت بالذكر لتبسط الناس فيما بينهم عادة في الأكل من بيوت أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم.
سبب نزول آية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً:
قال قتادة والضحاك: نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم: بنو ليث بن عمرو، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل، والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، تحرّجا من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا متحلقين أو أشتاتا متفرقين.
والكلام متصل بما قبله، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل نفسه، أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل، فلا جناح في الأكل من هذه البيوت، سواء(18/302)
مع أصحابها أو بدونهم. وقيل: الكلام مستقل عما قبله لبيان حكم آخر، مماثل له، وهو أن الأكل كما يجوز منفردا، يجوز مع الضيف.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حكم دخول المماليك والصبيان إلى البيوت في غير العورات الثلاث دون استئذان، ذكر هنا حكم تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد من غير استئذان، وحكم الأكل من البيوت المذكورة في الآية من غير إذن صريح إذا علم رضا أصحابها.
التفسير والبيان:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم ولا ذنب في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم، كما نقل عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكما قال تعالى في سورة براءة: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [91- 92] .
وذكر الفخر الرازي أن الأكثرين قالوا: المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل، فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله.
والظاهر لي أن الآية في أمر يتعلق بنظام الحياة في الأسرة، كالآيات السابقة في الاستئذان وتخفيف العجائز من الألبسة الظاهرة، وأنها تريد أن تجمع بين أفراد الأسرة الأصحاء وأصحاب الأعذار في تناول الطعام على مائدة واحدة، وترفع الكلفة والمشقة في الأكل من البيوت الخاصة أو بيوت الأقارب والأصدقاء،(18/303)
دون إذن صريح، وأن الحكم في البيت الخاص كبيت القريب والصديق على حدّ سواء، وذكر الأكل من البيوت ليساوي ما بعده في الحكم ويعطفه عليه، فهو أدب اجتماعي من أدب الإسلام الرفيع.
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم الخاصة، ويشمل ذلك بيوت الأولاد لأنه وإن لم ينص عليهم، فهم كبيت الإنسان لأن بيت الولد كبيت الوالد، ومال الولد بمنزلة مال أبيه.
روى الإمام أحمد في المسند وأصحاب السنن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنت ومالك لأبيك»
وقال أيضا فيما أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» .
وقوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ للإشارة إلى أن الأكل مع أصحاب الأعذار لا يخل بقدر الأصحاء أهل الشأن، وأن التواضع مطلوب، والترفع عن مؤاكلتهم منبوذ ممجوج شرعا ودينا، وفي ذلك توسعة على الناس، وبيان ما تقتضيه أواصر المحبة والصلة والود بين الأفراد.
أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أي أن الله تعالى أباح لنا الأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن صريح، حيث علمنا رضاه وسروره، وأنه لا يبخل ولا يتألم، فإن كان يتضجر أو يتألف أو يتألم فلا نأكل من طعامه في غيبته، ويطلب التعفف حينئذ. وتلك المواضع هي:
الأكل من بيوتنا ومنها بيوت أولادنا كما بينا، وبيوت آبائنا وأجدادنا، وبيوت أمهاتنا وجداتنا، وبيوت إخواننا، وبيوت أخواتنا، وبيوت أعمامنا، وبيوت عماتنا، وبيوت أخوالنا، وبيوت خالاتنا، وما ملكنا مفاتحه بالوكالة عن أصحاب البيوت، وبيوت أصدقائنا إذا عرفنا أنه راض ومسرور بما نفعل،(18/304)
وإلا فلا يجوز
لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
وحديث الشيخين عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» .
وهؤلاء المذكورون من الأقارب تطيب نفوسهم عادة وطبعا بأكل أحد من قراباتهم عندهم.
أما المقصود بقوله: ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فيراد به كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح: كونها في يده وحفظه. وهذا مأذون به ضمنا من الموكل، ولكن يأكل ولا يحمل ولا يدّخر، إذا لم يكن له أجر على عمله، فإن كان مستأجرا بأجر فلا يأكل.
وأما بيوت الأصدقاء الذين ترتفع الكلفة بينهم، ويصفو الودّ معهم، فيؤكل منها إذا علم رضاهم صراحة أو بالقرائن. روي عن الحسن البصري أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه، وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبّون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك، وقال: هكذا وجدناهم، أي أكابر الصحابة. وكذلك يقال في دخول بيوت الأصدقاء لا بدّ فيه من إذن صريح أو قرينة.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم، فلا يكون ماله محرزا منهم، أي بسبب وجود شبهة الإذن. والحقيقة أنه لا بدّ من الإذن الصريح، أو الضمني الذي يعرف بالقرائن.
ثم ذكر الله تعالى حكم الأكل الجماعي والانفرادي فقال:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أي يباح ولا إثم عليكم أن(18/305)
تأكلوا كيف شئتم مجتمعين أو متفرقين.
وهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة، لكن الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال:
«لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» .
وروى ابن ماجه أيضا عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كلوا جميعا، ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة» .
ثم ذكر الله تعالى حكم تحية الداخل على بيته فقال:
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي فليسلّم بعضكم على بعض، أو فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا فابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. وعبر بقوله: أَنْفُسِكُمْ للدلالة على أنهم منكم بمنزلة أنفسكم، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم.
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً أي حيوا تحية ثابتة بأمر الله، مشروعة من لدنه، يرجى منها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع لأن معنى التحية والتسليم طلب السلامة والحياة للمسلّم عليه، ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن ترجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق، وتستجلب فيها مودة المسلم.
قال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك.
وكذلك قال مجاهد وابن عباس رضي الله عنهم.
وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة» .(18/306)
وهذا الحكم وهو التحية على الأهل، وإن كان معلوما من الآية المتقدمة:
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لطلبه بين الأقارب، حتى لا يظن أن علاقة القرابة لا تحتاج إلى تبادل السلام والتحية، فذلك من الآداب العامة والحقوق الإسلامية التي لا يصح إهمالها. قال الضحاك: في السلام عشر حسنات، ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وكما بيّن لكم ما في هذه السورة أيضا من أحكام وشرائع بيانا شافيا، لكي تتدبروها وتتفهموا عن الله أمره ونهيه وآدابه، فتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- لا إثم ولا حرج على أصحاب الأعذار في التخلف عن الجهاد، وهم الأعمى والأعرج والمريض، أي أن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي للتكليف به، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك.
ولا مانع من مؤاكلة هؤلاء ذوي الأعذار، وترك عادة تخصيصهم بطعام خاص حذرا من استقذارهم والترفع عن مجالستهم.
2- أباح الله للناس الأكل من مواضع أحد عشر دون استئذان صريح إذا علم رضا صاحب الطعام لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم في الأغلب بأكل من يدخل عليهم، والعادة كالإذن في ذلك، لذا خصهم الله تعالى بالذكر،(18/307)
وافتتحها تعالى بالأكل من البيوت الخاصة بأصحابها للإشارة إلى التسوية بينها وبين تلك المواضع العشرة الباقية.
وأسباب رفع الحرج في الأكل من هذه المواضع إذن: إما الملك الخاص وإما القرابة وإما الوكالة والاستئجار، وإما الصداقة. والقرابة، وكذا الملك الخاص للبيوت: تشمل بيوت الأبناء والآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات. والوكالة مفهومة من قوله: أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فإنه يشمل عند جمهور المفسرين الوكلاء والعبيد والأجراء. والصداقة تبيح الأكل والشرب من بيوت الأصدقاء بغير إذن إذا علم أن نفس صاحب الشيء تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة. والصديق: من يصدقك في مودّته وتصدقه في مودتك، ولكن لا يجوز الادخار والحمل، واتخاذ ذلك وقاية لماله، ولو كان المتناول تافها يسيرا. وكان صلّى الله عليه وسلم يدخل حائط (بستان) أبي طلحة المسمى ب (بيرحا) ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه.
وبناء عليه، لا تجوز في رأي المالكية شهادة الصديق لصديقه، ولا شهادة القريب لقريبه.
3- يباح الأكل منفردا أو جماعة، وإن اختلفت أحوال الجماعة في الأكل كمّا وكيفا، فللإنسان أن يأكل وحده، أو مع القريب أو الصديق أو الجار أو أي شخص مسلم أو كافر. وقد نزلت الآية كما عرفنا في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده، ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا، فإني لست آكله وحدي
أو أنها نزلت في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه، أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطباع في القزازة.(18/308)
قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عند العرب عن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت الآية مبينة سنّة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرّما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.
4- يسن السلام عند الدخول على الأهل والأقارب في البيوت المسكونة، وكذا غير المسكونة، فيسلّم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وكذا المساجد، فيسلّم على من كان فيها، فإن لم يكن في المساجد أحد، فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال إبراهيم النخعي والحسن البصري عن آية: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أراد المساجد.
قال ابن العربي: «القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص» وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان لغيره أو لنفسه، فإذا دخل الإنسان بيتا لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلّم، كما ورد في الخبر المتقدم عن ابن عمر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال القشيري في قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً: والأوجه أن يقال: إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال: السلام على من اتّبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.(18/309)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
5- كرر الله تعالى ثلاث مرات في آيات متعاقبة [58، 59، 61] قوله سبحانه: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [58، 61] لكن في الآية [59] لفظ: «آياته» للتأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به، والمعنى: كما بيّن لكم سنة دينكم في هذه الأشياء، يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.
الاستئذان عند الخروج وأدب خطاب النبي صلّى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمره
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
الإعراب:
كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً الكاف في موضع نصب لأنه مفعول لفعل تَجْعَلُوا.
لِواذاً: منصوب على المصدر في موضع الحال من واو يَتَسَلَّلُونَ أي يتسللون ملاوذين، وهو مصدر (لاوذ) كقاوم قواما لأن المصدر يتبع الفعل في الصحة والاعتلال، ولو كان مصدر (لاذ) لكان (لياذا) معتلا لاعتلال الفعل، كقام قياما.(18/310)
البلاغة:
غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلِيمٌ عَلِيمٌ: صيغة مبالغة وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون في الإيمان. مَعَهُ مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أمر عام مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور، كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة، وقرئ «أمر جميع» . لَمْ يَذْهَبُوا لطروء عذر لهم. حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيأذن لهم، والمطالبة بالإذن واعتباره في كمال الإيمان لأنه دليل مصدق لصحته، ومميز للمخلص فيه من المنافق، ومبين تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلم بغير إذنه، ولذلك أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة، وإن الذاهب بغير إذن ليس مؤمنا.
لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أمرهم أو ما يعرض لهم من المهام، وفيه مبالغة وتضييق للأمر. فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ بالانصراف. دُعاءَ الرَّسُولِ طلب اجتماع الرسول صلّى الله عليه وسلم بهم. كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً بأن تقولوا: يا محمد، بل قولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لين وتواضع وخفض صوت، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض، والمساهلة في الجواب، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والخروج بغير إذنه محرّم.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي ينسلون أو يخرجون من المسجد خفية مستترين بشيء، فالتسلل: الخروج خفية، واللواذ: تستر بعضهم ببعض. وقد: للتحقيق.
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي عن أمر الله تعالى أو أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم، فإن الأمر لله في الحقيقة، ويصح عود الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه المقصود بالذكر. والمخالفة: اتخاذ طريق مخالف في القول أو الفعل. فِتْنَةٌ بلاء ومحنة وامتحان في الدنيا. أَلِيمٌ عذاب مؤلم موجع في الآخرة.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من الإيمان والنفاق والمخالفة والوفاق. وأكد علمه بقد: لتأكيد الوعيد. وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بما عملوا من خير أو شر، فيجازي على سوء الأعمال بالتوبيخ وغيره. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي الله عالم بكل شيء من أعمالهم، لا تخفى عليه خافية.(18/311)
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة- بئر بالمدينة- قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه، وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إلى قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وقال الكلبي: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يمينا وشمالا، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا، فنزلت هذه الآية، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته، حتى يستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.
نزول الآية (63) :
لا تَجْعَلُوا الآية: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.(18/312)
المناسبة:
بعد الأمر بالاستئذان عند الدخول، أمر الله تعالى بالاستئذان حين الخروج، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلم من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر مهم، ثم أمر المؤمنين بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلم ورعاية الأدب في مخاطبته، وحذرهم من مخالفة أمره وسنته وشريعته.
التفسير والبيان:
هذه آداب اجتماعية دينية إلزامية، وهي ثلاثة:
الأول- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته وصحة رسالة رسوله من عنده، وإذا كانوا معه في أمر اجتماعي مهم، كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد، أو مشاركة في مقاتلة عدو، أو تشاور في أمر خطير قد حدث، لم ينصرفوا عن المجلس حتى يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيأذن لهم.
وهذا الأدب مكمل لما سبقه، فلما أمر الله بالاستئذان حين الدخول، أمر بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والأمر الجامع: هو الأمر الموجب للاجتماع عليه، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز.
روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة» .
ثم أعاد الله تعالى طلب الإذن على سبيل التأكيد بأسلوب أبلغ من طريق جعله دليلا على كمال الإيمان، ومميزا المخلص من غيره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ(18/313)
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
أي إن الذين يستأذنون الرسول صلّى الله عليه وسلم في الانصراف، ويشاورونه في الخروج، هم من المؤمنين الكاملين المصدقين الله ورسوله، الذين يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه.
وبعد الاستئذان تعظيما للنبي ورعاية للأدب، تكون حرية الإذن له، فقال تعالى:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أي إذا استأذنك أحد منهم في بعض ما يطرأ له من مهمة، فأذن لمن تشاء منهم على وفق الحكمة والمصلحة، فقد استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وقال له: «انطلق فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا، فو الله ما نراه يعدل.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له، ثم قال: يا أبا حفص، لا تنسنا من صالح دعائك.
والآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم بعض أمر الدين، ليجتهد فيه برأيه.
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي واطلب من الله أن يغفر لهم ما قد يصدر عنهم من زلات أو هفوات، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد التوبة.
وهذا مشعر بأن الاستئذان، وإن كان لعذر مقبول، فيه ترك للأولى، لما فيه من تقديم مصالح الدنيا على مصالح الآخرة، فالاستئذان مهما كانت أسبابه مما يقتضي الاستغفار، لترك الأهم.(18/314)
ثم أمر الله تعالى أن يهاب نبيه صلّى الله عليه وسلم وأن يبجّل وأن يعظم وأن يسود، فقال:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تدعوا رسول الله باسمه بأن تقولوا: يا محمد أو يا ابن عبد الله، ولكن عظموه، فقولوا:
يا نبي الله، يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض والتواضع، فهذا نهي من الله عز وجل عن مناداة النبي باسمه أو نسبه، وهو الظاهر من السياق، فلا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه.
وفي تفسير آخر: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والتساهل في الإجابة والانصراف من مجلسه بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والرجوع عن مجلسه بغير إذن محرّم.
ثم حذر الله تعالى وأوعد المخالفين تلك الآداب فقال:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قد: للتحقيق، أي إنه تعالى يعلم يقينا أولئك الذين ينسلون من المسجد في الخطبة أو من مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم خفية، واحدا بعد الآخر، دون استئذان، يتستر بعضهم ببعض أو بشيء آخر، فالله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم البواعث والدواعي، والخفايا والأسرار، والظواهر والأفعال والأقوال. روى أبو داود أن بعض المنافقين كان يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه، يستتر به، فأنزل الله الآية.
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي فليخش من خالف شريعة الرسول صلّى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وصدّ وخرج عن أمره وطاعته، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، وهم(18/315)
المنافقون، أن يتعرضوا لمحنة أو بلاء وامتحان في الدنيا من كفر أو نفاق، أو يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة. وضمير أَمْرِهِ إما عائد إلى أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم.
والاية تدل على ان ظاهر الأمر للوجوب لان تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، ومخالف الأمر مستحق للعقاب، فتارك المأمور به مستحق للعقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
والآية أيضا تعم كل من خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم، وليس المنافقين فقط.
ثم ختم تعالى السورة ببيان نطاق المخلوقات، وأنهم تحت سلطان الله وعلمه، فقال:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَدْ للتحقيق أيضا كما هو حال ما قبلها، أي إن جميع ما في السموات والأرض مختص بالله عز وجل خلقا، وملكا، وعلما، وتصرفا وإيجادا وإعداما، يعلم كل ما لدى العباد من سر وجهر، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في سترها عن العيون وإخفائها. فقوله: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ معناه أنه عالم به، مشاهد إياه، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] .
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله تعالى سينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم، وسيجازيهم حق الجزاء: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة 75/ 13] ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] والله ذو علم شامل محيط بكل شيء، يوفره لهم، ويفاجئهم به يوم الحساب والعرض عليه. وهذا دليل على فصل القضاء الذي يتفرد به الله تعالى.(18/316)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجوب استئذان النبي صلّى الله عليه وسلم عند الانصراف من مجلسه، وأما غير النبي فيطلب الاستئذان من صاحب البيت وجوبا أيضا حتى لا يطلع الضيف على العورات كوجوب الاستئذان عند الدخول، كما تقدم، ويطلب الاستئذان من الإمام أيضا.
وقد أوجبت الآية الاستئذان في الأمر الجامع وهو ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنّة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب، قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] . فللإمام أن يجمع أهل الرأي والمشورة أو الناس لأمر فيه نفع أو ضرر.
2- وقوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دليل على التفويض إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أو الإمام المجتهد بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه النابع من أصول الشريعة وروح التشريع، والمنسجم مع المبادئ الشرعية.
3- الآية كما قدمنا دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب.
4- كان المنافقون يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر الله جميع المسلمين بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليتبين إيمانه ولأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة.
5- قيل: إن قوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ وقوله: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دالان على أن ذلك مخصوص في الحرب. أما في أثناء الخطبة، فليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه. والأصح القول بالعموم، فهو أولى وأحسن، ويشمل ذلك كل مجلس للنبي صلّى الله عليه وسلم.
6- إن تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم واجب، فلا ينادى كما ينادي الناس بعضهم(18/317)
بعضا، فيقال: يا محمد أو يا أبا القاسم، وإنما يقال: يا رسول الله، في رفق ولين، وبتشريف وتفخيم، كما قال تعالى في سورة الحجرات: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [3] .
7- تكرر في الآيات التأكيد على إحاطة علم الله بكل شيء، ومنه نوايا المنافقين وأفعالهم وأقوالهم: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وبيان علم الله في هذه الأحوال للتحذير والوعيد والزجر عن مخالفة أمره.
8- احتج الفقهاء بقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ على أن الأمر للوجوب وعلى وجوب طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره. ومخالفة أمره توجب أحد أمرين: العقوبة في الدنيا كالقتل والزلازل والأهوال وتسلط السلطان الجائر، والطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم، والعذاب الشديد المؤلم في الآخرة.
وقوله: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ معناه: يعرضون عن أمره، أو يخالفون بعد أمره.
9- لله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعلما، ومنه العلم بأحوال المنافقين، فهو يجازيهم به، ويخبرهم بأعمالهم يوم القيامة، ويجازيهم بها، والله علام بكل شيء من أعمالهم وأحوالهم. وهذا دليل على القدرة الفائقة لله تعالى، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من مجازاة بثواب أو بعقاب، وعلمه بما يخفيه ويعلنه، وأن له تعالى فصل القضاء.
آمنت بالله(18/318)
[الجزء التاسع عشر]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
مكية، وهي سبع وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الفرقان لافتتاحها بالثناء على الله عزّ وجلّ الذي نزل الفرقان، هذا الكتاب المجيد على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فهو النعمة العظمى، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وجعله نذيرا للعالمين: الجن والإنس، من بأس الله تعالى.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة سورة الفرقان لسورة النور من وجوه: أهمها: أن سورة النور ختمت بأن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وبدئت سورة الفرقان بتعظيم الله الذي له ملك السموات والأرض من غير ولد ولا شريك في الملك.
وأوجب الله تعالى في أواخر سورة النور إطاعة أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبان مطلع الفرقان وصف دستور الطاعة، وهو هذا القرآن العظيم الذي يرشد العالم لأقوم طريق.
وتضمنت سورة النور القول في الإلهيات، وأبانت ثلاثة أنواع من دلائل التوحيد: أحوال السماء والأرض، والآثار العلوية من إنزال المطر وكيفية تكون الثلج والبرد، وأحوال الحيوانات، وذكر في الفرقان جملة من المخلوقات الدالة على توحيد الله، كمدّ الظل، والليل والنهار، والرياح والماء، والأنعام،(19/5)
والأناسي، ومرج البحرين، وخلق الإنسان والنسب والصهر، وخلق السموات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسراج والقمر ونحو ذلك مما هو تفصيل لقوله سبحانه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال في النور: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [43] ، وقال في الفرقان:
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً [48] وقال في النور: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [45] وقال في الفرقان: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [54] .
وفي كلتا السورتين وصف أعمال الكافرين والمنافقين يوم القيامة وأنها تكون مهدرة باطلة، فقال في النور: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [39] وقال في الفرقان: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [23] .
وشمل آخر سورة النور الكلام على فصل القضاء: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [64] وافتتحت سورة الفرقان بالثناء على الله عزّ وجلّ مالك الملك، وصاحب السلطان المطلق.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كسائر السور المكية اهتمت بأصول العقيدة من التوحيد والنبوة وأحوال القيامة.
فبدأت بإثبات الوحدانية لله عزّ وجلّ، وصدق القرآن، وصحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم، ووقوع البعث والجزاء يوم القيامة لا محالة، وفندت أضداد هذه العقائد، ونعت على المشركين عبادة الأصنام والأوثان ونسبة الولد لله عزّ وجلّ، وتكذيبهم بالبعث والقيامة، وهددتهم بما سيلقون من ألوان العذاب والنكال في نار جهنم، ومفاجأتهم بما في جنان الخلد من أصناف النعيم المقيم.(19/6)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
ثم أبانت شؤم مصير بعض المشركين كعقبة بن أبي معيط الذي عرف الحق ثم ارتدّ عنه، فسمّاه القرآن بالظالم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ متأثرا بصديقه الذي سمي بالشيطان وهو أبيّ بن خلف.
ثم ذكرت قصص بعض الأنبياء السابقين وتكذيب أقوامهم لهم، وما حلّ بهم من نكال ودمار وهلاك بسبب تكذيبهم رسل الله، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرّس، وقوم لوط، وأمثالهم من الكافرين الطغاة.
وأوردت السورة أدلة على قدرة الله ووحدانيته، مما في الكون البديع من عجائب صنعه، وما في الأرض من آثار خلقه في الإنسان، والبحر، وخلق السموات والأرض في ستة أيام، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح مبشرات بالمطر، وجعل البروج في السماء، وتعاقب الليل والنهار.
ثم ختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن المخلصين الموقنين، وما يتحلون به من أخلاق سامية وآداب رضية، تجعلهم يستحقون بها إكرام الله تعالى وثوابه الجزيل في جنات النعيم.
إنزال القرآن ووحدانية الله تعالى
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)(19/7)
الإعراب:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ.. بدل من الَّذِي الاول، أو مدح مرفوع أو منصوب.
البلاغة:
عَلى عَبْدِهِ إضافة عبد إلى الله للتشريف والتكريم، دون ذكر اسم النبي.
لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي وبشيرا، واكتفى بأحد الوصفين لبيان حال المعاندين ومناسبة الكلام مع الكفار.
يَخْلُقُونَ ويَخْلُقُونَ جناس ناقص لتغاير الشكل فقط.
ضَرًّا ونَفْعاً مَوْتاً وحَياةً بين كلّ منهما طباق.
المفردات اللغوية:
تَبارَكَ تعالى وتعاظم وتكاثر خيره، من البركة: وهي كثرة الخير، ففي إنزال القرآن خير كثير من الله لعباده، ودلالة على تعاليه عنه وعلى كل شيء في صفاته وأفعاله. الْفُرْقانَ القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل، وبين المحق والمبطل بإعجازه، أو لأنه فرّق وفصل بعضه عن بعض في الإنزال كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء 17/ 106] .
عَبْدِهِ أي رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، ووصف بأنه عبد تشريفا له بكونه في أكمل مراتب العبودية، وتنبيها إلى أن الرسول عبد للمرسل، وهو ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام. لِيَكُونَ العبد أو الفرقان. لِلْعالَمِينَ للجن والأنس دون الملائكة.
نَذِيراً منذرا مخوفا من عذاب الله تعالى.
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كزعم النصارى. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كقول الثنوية والمشركين. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي خلق كل ما من شأنه أن يخلق. ويلاحظ أنه تعالى في أول الآية أثبت الملك له مطلقا، ثم نفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه، ثم نبّه بقوله: وَخَلَقَ على ما يدل عليه، والخلق: إحداث مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور أشكال معينة. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً سواه تسوية، وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير، واستخراج الصنائع المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة وغير ذلك.(19/8)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً بعد أن أثبت التوحيد والنبوة، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ لأن عبدتهم ينحتونهم ويصوّرونهم، ومن دونه أي غير الله، وآلهة: هي الأصنام. وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي دفع ضر ولا جلب نفع وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً أي إماتة أحد أو إحياء أحد وَلا نُشُوراً ولا بعث أحد من الأموات، فالنشور: الإحياء بعد الموت للحساب.
التفسير والبيان:
افتتح الله تعالى سورة الفرقان بالكلام عن إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال، وتنزهه عن النقصان والمحال، فقال:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي أن الله تعالى يحمد نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله صلّى الله عليه وسلم من القرآن العظيم، لينذر به الثقلين: الجن والإنس ويخوفه من بأسه أو عذابه وعقابه. وهذا دليل قاطع على عموم الرسالة الإسلامية للناس قاطبة وللجن أيضا. ومعنى:
تَبارَكَ: تعالى وتعاظم وكثر خيره، ولا خير، أكثر ولا أفضل من إنزال القرآن المجيد دستور الحياة الإنسانية، المشتمل على التبشير والإنذار، تبشير الطائعين بالجنة، والمخالفين المعاندين المعارضين بالنار. وإنما ذكر الإنذار فقط ولم يذكر التبشير، مع أن مهمة الرسول تشملهما، لمناسبة الكلام مع الكفار المعارضين الذين اتخذوا لله ولدا، وجعلوا معه شريكا. والعبد: هو محمد رسول الله، والْفُرْقانَ: القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، وفرّقه في الإنزال منجما حسب المناسبات.
ونظير الآية قوله تعالى في فاتحة سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [1- 2] وتكرار كلمة عَبْدِهِ في الآيتين مدح للنبي صلّى الله عليه وسلم وثناء عليه للإشارة إلى كمال عبوديته في(19/9)
منزلة الخلق والسلطان، كما وصفه بذلك في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ووصفه بذلك أيضا في مقام الدعوة إليه في قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن 72/ 19] ووصفه هنا عند إنزال الكتاب عليه وتكليفه بتبليغ الرسالة.
ثم وصف الله تعالى ذاته بأربع صفات من صفات الكبرياء، فقال:
1- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن المالك الحقيقي لجميع ما في السموات والأرض هو الله تعالى، والمالك: له السلطان المطلق في التصرف في ملكه كما يشاء، وله القدرة التامة على ما في ملكه إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وأمرا ونهيا على وفق الحكمة والمصلحة.
وهذا دليل على وجود الله تعالى، لأنه لا طريق إلى إثباته إلا ببيان احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه في أصل وجودها، وزمان حدوثها، وأثناء بقائها، وتصرفه تعالى فيها كيف يشاء، والحاجة إلى الموجد المتصرف يوجب وجوده، لذا قدمت هذه الصفة على سائر الصفات.
2- وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم يكن له ولد إطلاقا، خلافا لما زعم اليهود والنصارى ومشركو العرب من جعل عزير والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله، كما حكى القرآن عنهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟! [الصافات 37/ 149- 153] .
3- وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي ليس لله في ملكه وسلطانه شريك، فهو المتفرد بالألوهية، المستحق وحده للعبادة والعبودية، وإذا عرف(19/10)
العبد ذلك وجّه رجاءه إلى الله تعالى ولم يخف إلا منه، ولم يشغل قلبه إلا برحمته وإحسانه.
وهذا ردّ على الثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم: وهما النور والظلمة، وعلى عبدة النجوم والكواكب من الصابئة، وعلى عبدة الأوثان من مشركي العرب الذين كانوا يقولون في تلبية الحج: «لبّيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» .
والصفتان المتقدمتان نزّه الله تعالى نفسه فيهما عن الولد وعن الشريك.
4- وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي أوجد كل شيء مما سواه، وأحدثه إحداثا راعى فيه التقدير بقدر معين والتسوية بشكل محدد، وهيأه لما يصلح له من الخصائص والأفعال اللائقة به، فالإنسان مثلا خلقه الله بشكل مقدر مسوّى في أحسن تقويم، وأوجد فيه من الحواس والطاقات والإمكانات للإدراك والفهم، والنظر والتدبير، واستنباط الصنائع، ومزاولة الأعمال المختلفة، وكذلك الحيوان والجماد جاء به على خلقة مستوية مقدرة، مطابقة لما يراه من الحكمة والمصلحة والتدبير، ولما قدر له غير منافر أو متجاف عنه. والخلاصة: أنه قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد.
وفسّر ابن كثير الجملة الأخيرة بأن كل شيء مخلوق مربوب لله، والله هو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.
وبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو، أردف ذلك بتزييف مزاعم عبدة الأوثان فقال:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. إلى قوله: وَلا نُشُوراً والمعنى أن تلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لنقصانها من وجوه أربعة هي.(19/11)
أ- أنها لا تخلق شيئا، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد.
ب- أنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا عن غيره.
ولما اعتقد المشركون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع عبّر عنها بقوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ كما يعبر عن العقلاء.
ج- أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا، أي لا دفع ضرر ولا جلب نفع، فلا تملك ذلك لغيرها، ومن لا يملك لنفسه ولا لغيره النفع ودفع الضرر لا فائدة في عبادته.
د- أنها لا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا، أي لا تقدر على الإماتة والإحياء المبتدأ والمعاد في زماني التكليف والجزاء، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها؟
بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزّ وجلّ الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] .
والخلاصة: أن الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له، لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأما عبدة الأصنام والمشركون فقد عبدوا غير الخالق، الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا، ولا يقبل بهذا عاقل متزن، أو عالم متأمل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
1- الله تعالى هو الإله الموجود الواحد الأحد، الخالق المالك لكل شيء.
2- الله تعالى مصدر الخير الكثير الفياض على عباده، ومن أتمّ فضائله(19/12)
وخيراته ونعمه إنزاله القرآن الكريم على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم.
3- إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وتحديد مهمته في الإنذار والتبشير، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
4- الرسالة الإسلامية رسالة شاملة للثقلين: الجن والإنس، عالمية الهدف، موجهة لكل أبناء البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، لأنها التي تمثل الدين الحق، وخاتمة الرسالات الإلهية كما
قال صلّى الله عليه وسلم فيما ورد في الصحيحين والنسائي عن جابر: «بعثت إلى الأحمر والأسود»
وقال فيما رواه أحمد عن علي: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» وذكر منها: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى الناس عامة»
فالنبي صلّى الله عليه وسلم قد كان رسولا إلى العالمين: الإنس والجن، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح عليه السلام، فإنه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، بحكم الواقع لأنه بدأ به الخلق.
5- عظم الله تعالى نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء وهي أنه مالك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، فنزّه نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله أي بناته، وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، وعما قالت النصارى:
المسيح ابن الله، تعالى الله، وأنه لا شريك له في الملك لا كما قال عبدة الأوثان وخلق كل الأشياء لا كما قال المجوس والثّنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء.
6- دلّ قوله سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ على أنه تعالى خالق لأعمال العباد.
7- بالرغم من هذه الأدلة على وحدانية الله وقدرته اتخذ المشركون آلهة لا تتصف بأي صفة من صفات الله تعالى، بل إنها أعجز من البشر الذين عبدوها مع الله، فهي مخلوقة غير خالقة، ولا تدفع ضررا ولا تجلب نفعا لنفسها ولمن(19/13)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
يعبدها، لأنها جمادات، ولا تقدر على التصرف في شيء بالإحياء، والإماتة، والنشور: الإحياء بعد الموت، فهل بعد هذا يقبل عاقل اتخاذها آلهة معبودة؟! لقد احتقر الإنسان نفسه إذ يسجد لصنم أو وثن، أو يستوعب مثل هذه الخرافات والأباطيل.
مطاعن المشركين في القرآن
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
الإعراب:
وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أساطير: خبر مبتدأ محذوف، أي هذه أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، أو أسطار: وهو ما سطره المتقدمون.
المفردات اللغوية:
إِنْ هَذا ما القرآن. إِلَّا إِفْكٌ كذب واختلاق. افْتَراهُ اختلقه محمد. قَوْمٌ آخَرُونَ جماعة من اليهود، فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم، وهو يعبر عنه بعبارته، وقيل: هم جبر ويسار وعدّاس. ظُلْماً الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهو هنا جعل الكلام المعجز إفكا مختلفا متلقفا من اليهود. وَزُوراً الزور: الكذب والقول الباطل البعيد عن الحق، وهو هنا نسبة ما هو بريء منه إليه. والمعنى: جاؤوا بالأمرين: الظلم والزور، أي الكفر والكذب.
وَقالُوا أيضا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب المتقدمين التي سطروها وهو جمع أسطورة أو أسطار. اكْتَتَبَها انتسخها من ذلك القوم، بأن كتبها بنفسه أو استكتبها وأمر بكتابتها. تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه ليحفظها. بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشية، أو صباحا ومساء، والمراد: دائما.(19/14)
قُلْ: أَنْزَلَهُ رد عليهم. السِّرَّ الغيب، أي أعجزكم جميعا بفصاحته وتضمنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة، وأشياء خفية لا يعلمها إلا عالم الأسرار، فكيف تجعلونه أساطير الأولين؟! إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي إنه تعالى كان وما يزال غفورا للمؤمنين رحيما بهم، ولا يعجّل أيضا في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته على العقاب، واستحقاقكم إنزال العذاب.
سبب النزول:
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ عدّاس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر أو أبو فكيهة الرومي، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وكانوا يقرءون التوراة ويحدثون أحاديث منها، فلما أسلموا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعهدهم، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً.
المناسبة:
بعد أن تكلم سبحانه أولا في التوحيد، وثانيا في الرد على عبدة الأوثان، تكلم ثالثا في النبوة، وذكر مطاعن المشركين: طعنهم في القرآن، وطعنهم في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات شبهتين من شبهات المشركين الواهية التي تدل على سخافة عقولهم وجهلهم، فقال:
الشبهة الأولى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي وقال هؤلاء الجهلة من الكفار: ما هذا القرآن إلا كذب واختلاق، اختلقه(19/15)
محمد صلّى الله عليه وسلم، واستعان على جمعه بقوم آخرين من أهل الكتاب الذين أسلموا فيما بعد، كما ذكر في سبب النزول.
فأجابهم تعالى عن هذه الشبهة بقوله:
فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي فقد افتروا هم قولا باطلا، وهم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه، فكان قولهم كفرا وظلما بيّنا في غير موضعه، وكذبا مفترى على ربهم، إذ جعلوا الكلام المعجز وهو هذا القرآن إفكا مفترى من قبل البشر. وهذه غاية حجة الضعيف، فإنه إذا لم يجد جوابا مقنعا، بادر إلى الإنكار الذي لا دليل عليه، والتكذيب الذي لا مستند له، فلو صح ما قالوا فلم لم يأتوا بمثله، واستعانوا كما استعان محمد صلّى الله عليه وسلم بغيره على وفق زعمهم، فإعجاز القرآن دليل كاف وحده للرد عليهم وإبطال مفترياتهم، وهم أهل الفصاحة والبيان.
الشبهة الثانية:
وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي وقال الكفار المشركون أيضا: إن هذا القرآن أساطير الأولين أي أكاذيب المتقدمين، وأحاديث السابقين الذين سطروها في كتبهم كأحاديث رستم واسفنديار، انتسخها محمد صلّى الله عليه وسلم بوساطة أهل الكتاب يعني عامرا ويسارا، وجبرا أو أبا فكيهة مولى ابن الحضرمي، فهي تقرأ عليه صباح مساء، أي دائما، وخفية ليحفظها، إذ هو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وهذا محض افتراء آخر، وتضليل وبعد عن الحق ومكابرة، فقد عرفوا صدق محمد صلّى الله عليه وسلم، وأمانته وسلوكه، وبعده عن الكذب، مدة أربعين عاما قبل البعثة، حتى لقّبوه بالأمين، لما يعلمون من صدقه واستقامته، وكان أميا لا يعرف شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، فلما أكرمه الله بالرسالة عادوه واتهموه بما هو بريء منه، ووصفوا القرآن(19/16)
المنزل عليه بالأساطير، مع أنه دستور الحكمة والمدنية والحضارة والعلم والتشريع الأمثل للحياة الإنسانية.
ثم أجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قل لهم يا محمد النبي: أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين بصدق مطابق للواقع الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي إن هذا القرآن إنما نزل رحمة بالعباد، فلا يكون سببا لتعجيل العقاب، لذا لم يعاجلكم بالعقوبة رحمة بكم لأنه تعالى غفور رحيم، يمهل ولا يعجل، لتتوبوا وتقلعوا عن الكفر والشرك. فهذه دعوة لهم إلى التوبة والإنابة والإقبال على ساحة الإسلام والهدى، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، فمن تاب تاب الله عليه، بالرغم مما صدر منهم من افتراء وكذب، وكفر وعناد، كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة 5/ 73- 74] وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج 85/ 10] قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
وهذا دليل على أن التوبة الصادقة تسقط الإثم والذنب وتجبّ ما قبلها من الذنوب، فهي مغفورة كرما من الله تعالى، وفضلا ورحمة.(19/17)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات حكاية شبهتين للمشركين وجوابين عنهما، أما الشبهتان فهما: أن القرآن كذب مختلق اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلم وأعانه عليه قوم من اليهود وأن القرآن أساطير أي أكاذيب وحكايات المتقدمين، فهي تلقى على محمد، وتقرأ في أول النهار وآخره، أي دائما، حتى تحفظ.
والرد على الشبهة الأولى: أنهم هم الذين افتروا هذا القول الباطل وهم يعلمون بطلانه، لا أن القرآن مفترى. والرد على الشبهة الثانية أن منزل القرآن هو الله الذي يعلم السر والغيب والجهر، فلا يحتاج إلى معلّم، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها، وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء، لتمكّن المشركون منه أيضا، كما تمكن محمد صلّى الله عليه وسلم، فهلا عارضوه؟ فبطل اعتراضهم من كل وجه.
وبيان هذا الجواب: إن الله تحداهم بالمعارضة، وظهر عجزهم عنها ولو كان صلّى الله عليه وسلم أتى بالقرآن مستعينا بأحد، لسهل عليهم الاستعانة بآخرين، فيأتون بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه، ثبت أنه وحي الله وكلامه، لهذا قال: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي أن تلك الفصاحة القرآنية لا تتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، وأن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات، وذلك لا يتأتى إلا من كامل العلم، وأن القرآن مبرأ عن النقص والتعارض، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، كما قال سبحانه: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] والقرآن مشتمل على أحكام منسجمة مع مصالح العالم ونظام الناس، وهو لا يكون إلا من العالم الواسع العلم، وكذلك القرآن مشتمل على أنواع العلوم، وهو لا يتأتى إلا من العليم الخبير.(19/18)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
طعن المشركين في النبي المنزل عليه القرآن
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 10]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِأُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)
الإعراب:
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً فَيَكُونَ منصوب لأنه جواب التحضيض بالفاء، بتقدير «أن» .
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ معطوف على يُلْقى وكلاهما داخل في التحضيض، وليس بجواب له.
وَيَجْعَلْ معطوف على جواب الشرط وهو «جعل» وموضعه الجزم، وحسن أن يعطف المستقبل على الماضي لفظا لأنه في معنى المستقبل لأن «إن» الشرطية تنقل الفعل الماضي إلى الاستقبال. وقرئ بالرفع على أنه مستأنف، تقديره: وهو يجعل لك.
البلاغة:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ استفهام يراد به التهكم والتحقير.
وَقالَ الظَّالِمُونَ وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم ظلم ما قالوه.
المفردات اللغوية:
مالِ هذَا الرَّسُولِ أي ما لهذا يزعم الرسالة؟ وفيه استهانة وتهكم. يَأْكُلُ الطَّعامَ كما(19/19)
نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى: إن صح ادعاؤه، فما باله يخالف حاله حالنا، وذلك لقصور نظرهم على المحسوسات، فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما بالأمور المعنوية، كما أشار تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف 18/ 110، وفصلت 41/ 6] .
هلا. أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدقه، فنعلم صدقه بتصديق الملك. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء ينفقه ويستغني به عن طلب المعاش. أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان، أي إن لم يلق إليه كنز، فلا أقل من أن يكون له بستان، كما للدهاقين والمياسير، فيعيش من ريعه وغلته، وهذا منهم على سبيل التنزل. يَأْكُلُ مِنْها أي من أثمارها، فيكتفي بها ويتميز علينا بها. وقرئ نأكل أي نحن، وهذا كله تفكير الماديين. وَقالَ الظَّالِمُونَ الكافرون. إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون. إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فغلب على عقله واختل تفكيره. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا فيك الأقوال العجيبة الشاذة التي جرت مجرى الأمثال، واخترعوا لك الأحوال النادرة، كالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه، وإلى ملك يعاونه في الأمر. فَضَلُّوا بذلك عن الهدى وعن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي صلّى الله عليه وسلم، والمميز بينه وبين المتنبئ، فخبطوا خبط عشواء وقوله: ضلوا: أي بقوا متحيرين في ضلالهم.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إلى الرشد والهدى، أو إلى القدح في نبوتك. قُصُوراً جمع قصر وهو كل بيت مشيد بالحجارة ونحوها، أما ما يتخذ من الصوف أو الشعر فهو البيت في عرف العرب.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال:
قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة، وإن شئت جمعتهما لك في الآخرة، فقال: لا، بل اجمعها لي في الآخرة، فنزلت: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى، والسيادة والجاه، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.(19/20)
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض:
ابعثوا إلى محمد، وكلّموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف، فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلّغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فسل لربك، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.(19/21)
المناسبة:
بعد بيان شبهتي المشركين في القرآن، أبان الله تعالى شبهة ثالثة في النبي المنزل عليه القرآن، وهو الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم أبطل تعالى تلك الشبه، وكشف سخفها وزيفها وعدم صلاحيتها للطعن في النبي صلّى الله عليه وسلم، فهي في غاية السخافة والسقوط، ولا دليل عليها، وإنما هي تعللات تشير إلى تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة.
التفسير والبيان:
ذكر المشركون خمس صفات للنبي صلّى الله عليه وسلم تتعارض مع النبوة في زعمهم وهي:
1- وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أي قال المشركون: لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة، فهو يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويحتاج إلى ذلك كما نحتاج إليه، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش.
2- وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يتردد فيها وإليها، طلبا للتكسب والتجارة وابتغاء للرزق والمعيشة، فمن أين له الفضل علينا، وهو مثلنا في هذه الأمور؟
وهذا منهم تصور مادي محض، وموازنة ساذجة، فإن الرسل لم يمتازوا بصفات حسية مادية، فهم في هذا كغيرهم من البشر، وإنما امتازوا بقيم معنوية، ومكاسب أدبية، وطهارة نفسية، لذا قال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف 18/ 110] .
3-أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي هلا أنزل إليه ملك من عند الله، فيكون له شاهدا على صدق ما يدعيه، ويرد على من خالفه، كما(19/22)
قال فرعون عن موسى عليه السلام: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف 43/ 53] .
4- أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي وهلا ألقي عليه كنز من السماء، فينفق منه، فلا يحتاج إلى التردد في الأسواق لطلب المعاش.
5- أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي إن لم يكن له كنز فلا أقل من أن يكون كأحد الدهاقين أو المياسير، له بستان يأكل منه، ويعيش من غلته وثمرته.
قال الزمخشري: إنهم يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق. «1»
وهذا تصور مادي محض، وقياس على أحوال أصحاب السلطة والنفوذ الدنيوي، وتقدير منهم أن الرسالة أمر آخر فوق البشرية، وما فهموا ولا أدركوا أن الرسول بشر أوحي إليه من عند ربه.
وبعد أن انتقصوا الرسول صلّى الله عليه وسلم بصفات أهل الدنيا، وعيروه بها، نفوا عنه صفة العقل، وهي شبهة أخرى أو صفة سادسة، فقالوا:
6- وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي وقال الكافرون: ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختل عقله، فهو لا يدرك ما يقول، فكيف يطاع فيما يأمر؟.
__________
(1) الكشاف: 2/ 400(19/23)
فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله:
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، فَضَلُّوا، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي انظر متعجبا أيها الرسول، كيف قالوا فيك تلك الأقوال، واخترعوا لك تلك الصفات، والأحوال النادرة، وقذفوك وافتروا عليك بقولهم: ساحر مسحور، مجنون، كذاب، شاعر، وكلها أقوال باطلة، وأوصاف مفتراة، لا يصدق بها من له أدنى فهم وعقل، فصاروا متحيرين ضلّالا عن طريق الهدى والحق، فلا يجدون طريقا إليه.
وهذا جواب إجمالي، أردفه بجواب خاص عن طلب البستان والكنز، فقال: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي تكاثر خير ربك، فهو إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا أو طلبوا، وهو أن يعجل لك مثلما وعدك به في الآخرة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والقصور الشامخة النادرة، وأن يؤتيك خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن. ولكن الله تعالى ادخر لك العطاء في دار الآخرة الخالدة، لا في الدنيا الزائلة، حتى لا تشتغل بالدنيا عن الدين، وأداء مهمة تبليغ الرسالة، ولأن ما عند الله خير وأبقى.
قال خيثمة: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها، ما لم نعطه نبيا قبلك، ولا نعطي أحدا من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة» فأنزل الله عز وجل في ذلك:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- المقارنة البناءة المثمرة بين التفكير المادي الذي يؤثر الدنيا، والتفكير(19/24)
الديني الذي يتخذ الدنيا وسيلة للحياة، وجسرا إلى الآخرة، وأن الدنيا ليست هي كل هدف الإنسان العاقل، فأمامه عالم آخر، عليه الاستعداد له، والإعداد للظفر بخيراته بالإيمان والعمل الصالح.
2- إن دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب العيش، وكان صلّى الله عليه وسلم يدخلها لحاجته، ولتذكير الناس بأمر الله ودعوته، وعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق.
وقد تاجر الصحابة وبخاصة المهاجرون في الأسواق، كما خرّج البخاري عن أبي هريرة: «وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق «1» في الأسواق» .
3- من لم يتأثر بعقل مجرد وقلب طاهر بأقوال النبي صلّى الله عليه وسلم وبرسالته لذاتها، لما فيها من هداية إلى الحق والخير والتوحيد، لم تنفعه إنذارات الملائكة، فما وراء الإنذار إلا العذاب.
4- إن الاتهامات الرخيصة والأوصاف المرذولة زائفة باطلة عند أهل الحكمة والاتزان، والحصافة والعقل. فمن يصدّق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي عرف بالفطنة ورجاحة الرأي والعقل وسداد التفكير ساحر مسحور، وشاعر مأفون، ومجنون مختل العقل؟ إن الواقع خير شاهد على تكذيب تلك المزاعم والافتراءات. ولا تحتاج إلى جواب إلا كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.
5- إن فضل الله وخيره ونعمه كثيرة لا تعد ولا تحصى، وقدرته شاملة لكل شيء، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ لكنه تعالى لا يريد لأنبيائه وأوليائه أن يكونوا أهل غنى وثروة ودنيا، فأهل الغنى والثروة تنتهي سمعتهم بموتهم، ولا يبقى لهم ذكر أو شهرة، وإنما أراد الله تعالى لأنبيائه تخليد آثارهم
__________
(1) الصفق: التبايع.(19/25)
وذكراهم في الحياة الإنسانية بالقيم الخالدة، والمعاني السامية، وبما قدموه للبشرية من عطاء تذكره لهم الأجيال، ويحتكم إلى أصالته الحكماء، ويظل أثرهم الخالد مضرب الأمثال، وقدوة لكل إنسان، وأمل الحيارى، وحلم المعذبين في الأرض، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى.
[الأعلى 87/ 16- 17] .
يروى أن هذه الآية: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم «1»
وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلّم على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد، ربّ العزة يقرئك السلام، وهذا سفط «2» - فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له فضرب جبريل بيده الأرض، يشير أن تواضع، فقال: يا رضوان، لا حاجة لي فيها، الفقر أحب إليّ، وأن أكون عبدا صابرا شكورا، فقال رضوان: أصبت، الله لك.
6- دل قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ.. على أنه سبحانه يعطي العباد على حسب المصالح، فيرزق بعضهم نعمة المال، وآخر نعمة العلم، وغيرهم نعمة العقل والفهم، وهو فعال لما يريد.
__________
(1) كان رضوان في هذا مع جبريل عليهما السلام أمين الوحي بدليل بقية الخبر.
(2) السفط: المحفظة أو الوعاء المخصص لوضع الطيب ونحوه من أدوات النساء.(19/26)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
إنكار المشركين يوم القيامة وحالهم فيه ومقارنتهم بأهل الجنة
[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 الى 16]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15)
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
الإعراب:
سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، تقديره: سمعوا لها صوت تغيظ وزفير. أُلْقُوا مِنْها مَكاناً مِنْها حال من مَكاناً لأنه في الأصل صفة له.
قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ؟ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من السعير، وجاء التفضيل بينهما على حد قولهم: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وأفعل التفضيل يقتضي الاشتراك بين الشيئين في الأصل، وإن اختلفا في الوصف، فلا يجوز القول: العسل أحلى من الخلّ، لعدم الاشتراك في أصل الحلاوة، وأجازه الكوفيون.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ خالِدِينَ حال من ضمير. لَهُمْ أو من ضمير يَشاؤُنَ.
البلاغة:
سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً استعارة تمثيلية، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره، لما فيهما من هياج واضطرام، وهو صوت يسمع من جوفه.(19/27)
المفردات اللغوية:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ القيامة، والمعنى: ليس ما ذكروه من الشبهة في وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم بما زعموا من الأوصاف الخمسة أو الستة يصلح أن يكون شبهة ذات بال أو أهمية، بل الذي حملهم على تقولهم وافترائهم تكذيبهم بالساعة، وبما فيها من ثواب وعقاب لان من يخاف الآخرة ينظر ويفكر، ولا يتورط بالتكذيب والافتراء وَأَعْتَدْنا هيأنا. سَعِيراً نارا مسعّرة شديدة الاشتعال. رَأَتْهُمْ إذا كانت بمرأى منهم،
كقوله صلّى الله عليه وسلم عن المسلمين والمشركين فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير: «لا تتراءى ناراهما»
أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى عن الأخرى، على سبيل المجاز. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي سمعوا لها صوت تغيظ وزفير، والتغيظ: شدة الغضب، والزفير: هو النّفس الخارج من الإنسان، ضد الشهيق.
مِنْها مَكاناً أي في مكان، ومنها: بيان تقدم، فصار حالا. ضَيِّقاً بأن يضيق عليهم، ووصف بالضيق لزيادة العذاب، فإن الكرب مع الضيق، والانشراح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض مُقَرَّنِينَ مصفدين، قد قرنت (جمعت) أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل. هُنالِكَ في ذلك المكان. ثُبُوراً أي هلاكا، والمعنى:
أنهم يتمنون الهلاك ويطلبونه قائلين: يا ثبوراه تعال. فهذا حينك. وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي اطلبوا أنواعا من الهلاك لأن عذابكم أنواع كثيرة، كل نوع منها ثبور، لشدته، أو لأنه يتجدد، كقوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء 4/ 56] .
أَذلِكَ المذكور من الوعيد والعذاب وصفة النار. والاستفهام والتفضيل والترديد في قوله: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ للتقريع مع التهكم. وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح، أو الدلالة على خلودها، وتمييزها عن جنات الدنيا. وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وعدها المتقون وهم الذين يتقون الكفر والتكذيب كانَتْ لَهُمْ في علم الله أو في اللوح المحفوظ. جَزاءً ثوابا على أعمالهم بوعد جازم من الله. وَمَصِيراً مرجعا ينقلبون إليه. ما يَشاؤُنَ ما يشاءونه من النعيم، وفيه تنبيه على ان كل المرادات والرغبات لا تحصل إلا في الجنة. وَعْداً مَسْؤُلًا أي كان ذلك موعودا، حقيقا بأن يسأل ويطلب، ويسأله الذين وعدوا به، كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران 3/ 194] أو تسأله الملائكة لهم، كما قال سبحانه: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر 40/ 8] .(19/28)
المناسبة:
بعد بيان الشبهات الثلاث المتقدمة للمشركين وهي: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ الآية، وبعد الجواب عن الشبهة الثالثة بجوابين: أولهما- انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ وثانيهما- تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ بعد ما ذكر، أجاب الله تعالى بجواب ثالث عن تلك الشبهة بقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ.. أي إن تقولهم عليك أيها الرسول مصدره تكذيبهم بالبعث، وعدم تصديقهم بالثواب والعقاب.
أو أنه عطف على ما حكي عنهم، ثم قال: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة.
التفسير والبيان:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي إن موقف هؤلاء المشركين منك أيها الرسول بالتكذيب والعناد، لا بالتبصر والاسترشاد، والتقول عليك بالأباطيل، ناشئ من تكذيبهم بيوم القيامة، فذلك هو الذي يحملهم على ما يقولونه من تلك الأقوال الساقطة لأن من لا يوقن بالقيامة، ولا بالحساب والجزاء يتورط بسرعة في الاتهام دون تقدير للمسؤولية، ولا تأمل في عواقب الأمور، ولا انتفاع بالأدلة التي ترشده إلى التعقل والتبصر بما يقول، فهذا أعجب من كل ما صدر منهم.
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي هيأنا وأرصدنا لمن كذب بالقيامة وما فيها من حساب وجزاء، نارا مستعرة شديدة الالتهاب، وعذابا أليما حارا في نار جهنم. والسعير: مذكر، ولكن جاء هنا مؤنثا لعود الضمير بالتأنيث في قوله تعالى: رَأَتْهُمْ وقوله سَمِعُوا لَها وإنما جاء مؤنثا على معنى النار.
ودلت الآية على أن النار مخلوقة لأن أَعْتَدْنا أعددنا إخبار عن فعل(19/29)
وقع في الماضي، مثل قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران 3/ 131] وكذلك الجنة مخلوقة لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 133] .
ثم وصف الله تعالى أهوال النار بصفتين فقال:
الصفة الأولى:
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي إذا كانت النار بمرأى من الناظر من بعيد، سمعوا صوت غليانها، الذي يشبه صوت المتغيظ، لشدة التهابها، وصوت الزافر الحزين الذي يخرج النّفس من جوفه.
أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال: «إن جهنم لتزفر زفرة، لا يبقى ملك مقرّب، ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه، ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه، ويقول: ربّ، لا أسألك اليوم إلا نفسي» .
الصفة الثانية:
إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي بعد أن وصف الله حال الكفار، وهم في بعد من جهنم، وصف حالهم عند إلقائهم فيها، فإذا ألقوا فيها في مكان ضيق مكتّفين، أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، صاحوا واستغاثوا وقالوا: يا ثبوراه، أي يا هلاكنا احضر، فهذا وقتك، فيقال لهم: لا تنادوا هلاكا واحدا، ونادوا هلاكا كثيرا، أي أنكم وقعتم ليس في هلاك واحد، وإنما في ثبور كثير، إما لتنوع ألوان العذاب، فكل نوع منها عذاب لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدّلوا غيرها. والمقصود تيئيسهم من الخلاص من العذاب بالهلاك، والتنبيه إلى أن عذابهم أبدي لا خلاص منه.(19/30)
ووصف المكان بالضيق لأن الكرب مع الضيق، كما أن الرّوح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث «أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» ولقد جمع الله على أهل النار أنواع الإرهاق والتضييق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما ذكر صاحب الكشاف، وكما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزّج- الحديدة التي في أسفل الرمح- على الرمح» وسئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك
فقال: «والذي نفسي بيده، إنهم يستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط» .
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أول من يكسى حلّة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فيقول: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً»
أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا، وادعوا ويلا كثيرا. قال ابن كثير: الأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء 17/ 102] . أي هالكا.
وبعد أن وصف الله عقاب المكذبين بالساعة قارن بينه وبين ثواب المؤمنين المتقين، بما يؤكد الحسرة والندامة، فقال لرسوله صلّى الله عليه وسلم: قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم: أهذا العذاب الذي وصفت لكم أفضل أم نعيم جنة الخلد الذي يدوم إلى الأبد، وقد وعدها المتقون الأبرار الذين أطاعوا الله فيما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه، وجعلها لهم جزاء طاعتهم في الدنيا، ومآلهم الحسن إليها. وجنة الخلد: هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور.(19/31)
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ للمتقين في جنة الخلد ما يشتهون من الملاذ في الأكل والشرب والملبس والمسكن والمركب والمنظر، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم في النعيم خالدون أبدا دائما، بلا انقطاع ولا زوال، ولا يبغون عنها حولا.
وهذا دليل على تحقيق جميع الرغبات، ووعد من الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، لهذا قال: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي لا بد أن يقع، وأن يكون وعدا واجبا، وموعودا به، جديرا بأن يسأل ويطلب، وينجز، كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران 3/ 194] وقال سبحانه: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة 2/ 201] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن منشأ إنكار المشركين لوحدانية الله، وتكذيبهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم، وطعنهم بالقرآن وبالنبوة، هو إنكار يوم القيامة وعدم الإيمان باليوم الآخر:
لأن من آمن به تبصر وتدبر، ولم يكن متهورا في سوء الاعتقاد.
2- دل قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً على أن النار مخلوقة الآن وموجودة، كما أن الجنة مخلوقة وموجودة لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 133] . والسعير: النار الشديدة الاستعار.
3- وصف الله تعالى النار بصفتين: الأولى- شدة الاستعار والالتهاب، يرى لها تغيظ، ويسمع لها زفير من مكان بعيد. والثانية- إذا ألقي فيها المعذّبون تضيق عليهم، وتشتد في المضايقة لأن جو العذاب مضايق.(19/32)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
4- يتمنى المعذّبون في جهنم الموت والهلاك، للخلاص من شدة العذاب، ولكن لا يتحقق لهم ذلك، ويبقون فيها معذّبين، لا أمل لهم في النجاة أو الخلاص مما هم فيه.
5- لا مجال أصلا للمقارنة بين عذاب النار ونعيم الجنة، فلا خير في النار، وإنما يقال للكفار: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ للتنبيه على التفاوت بين المنزلتين، وللتهكم بهم والتحسير لهم، وتفادي ما يؤدي بهم إلى النار، وهذا رحمة من الله عز وجل بهم، وإنذار مسبق، ولقد أعذر من أنذر.
6- في الجنة تحقيق كل الرغبات والمطالب، ففيها ما لا تتصوره العقول في الدنيا.
7- وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، ووعده حق وصدق ومنجز لا محالة، فسألوه ذلك الوعد، وقالوا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أو أن الملائكة تسأل لهم الجنة، كما قال تعالى: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. قال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا، ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا.
أحوال الكفار مع معبوداتهم يوم القيامة
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)(19/33)
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء، وقرئ: نحشرهم. وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير الله، ويشمل كل معبود من الملائكة والجن وعيسى وعزير، والأصنام، واستعمال ما لأنه أعم، أو لتغليب الأصنام تحقيرا. والأصنام ينطقها الله، أو تتكلم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. فَيَقُولُ تعالى للمعبودين، إثباتا للحجة على العابدين، وقرئ: فنقول: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ: هل أنتم أوقعتموهم في الضلال، بأمركم إياهم بعبادتكم. أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي أم أخطئوا طريق الحق بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح. وهو استفهام تقريع وتبكيت للعابدين. وضلّ السبيل: فقده وخرج عنه.
سُبْحانَكَ تنزيها لك عما لا يليق بك، وكان جوابهم تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون أو جمادات لا تقدر على شيء. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ما كان يصح أو يستقيم لنا. مِنْ دُونِكَ غيرك، ومرادهم أنه لا يتصور منا دعوة أحد إلى عبادتنا، للعصمة أو للعجز، فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ من قبلهم بإطالة العمر وسعة الرزق وأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات. حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن، وغفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك ونعمك والتدبر في آياتك، والذِّكْرَ:
ما ذكّر به الناس بواسطة أنبيائهم، وهو هنا القرآن والشرائع، أو ذكر الله والإيمان به.
بُوراً هلكى أو هالكين، من البوار، أي الهلاك.
كَذَّبُوكُمْ كذب المعبودون العابدين، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب للتنويع في الأسلوب ولفت الأنظار. بِما تَقُولُونَ أنهم آلهة. فما يستطيعون أي هم، وقرئ بالتاء:
أي أنتم. صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم. وَلا نَصْراً منعا لكم منه. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يشرك أو يكفر منكم أيها المخاطبون. عَذاباً كَبِيراً شديدا في الآخرة، وهو النار، وقوله:
وَمَنْ يَظْلِمْ شرط، وإن عمّ كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم التوبة من العبد، والعفو من الله تعالى.
المناسبة:
بعد بيان ما أعد الله للكافرين من شدة العذاب يوم القيامة، ومقارنته بنعيم أهل الجنة، ذكر الله تعالى مشهدا من مشاهد القيامة وهو حال العابدين مع المعبودين من غير الله الذين يحشرهم الله تعالى، ويسألهم: أهم الذين أوقعوا عابديهم في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟(19/34)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله كالملائكة وغيرهم فقال:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي واذكر أيها الرسول لأولئك المشركين يوم يجمعهم مع معبوديهم من الملائكة والمسيح وعزير والأصنام التي ينطقها الله وغيرهم من الناس كفرعون، الذين عبدوا من دون الله، فيقال لأولئك المعبودين على سبيل التقرير والتثبيت: أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق، أو هل دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم أو عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 5/ 116] .
واستعمال ما في قوله تعالى: وَما يَعْبُدُونَ لأنها موضوعة للعقلاء وغيرهم: على العموم، وفائدة أَنْتُمْ ويَحْشُرُهُمْ لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه وفاعله، فلا بد من ذكره، ليعلم أنه المسؤول عنه. والسؤال ليس لإخبار الله، فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، ففائدته أن يجيبوا بما أجابوا به لتقريع عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك كشفا وافتضاحا لعبدة الأصنام والأوثان وغيرهم، ومسوغا لإلحاق غضب الله وعذابه، كما أبان الزمخشري.
وظاهر السؤال في قوله: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ.. من الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى.(19/35)
ثم أخبر الله تعالى عما يجيب به المعبودون يوم القيامة فقال:
قالُوا: سُبْحانَكَ، ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي قال المعبودون بلسان المقال أو الحال على طريق التعجب مما قيل لهم: تنزيها لك يا ربّ مما نسبه إليك المشركون، ما كان يصح لنا بحال أن نتخذ أنصارا من دونك، فنحن الفقراء إليك، وليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، فنحن ما دعوناهم إلى عبادتنا، بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا، ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، وإذا كنا لا نرى من دونك أولياء، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ ولكن طال عليهم العمر، وشغلوا بما أنعمت عليهم من صنوف الخيرات، واستغرقوا في اللذات والشهوات، ونسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك، وكانوا قوما لا خير فيهم، وهلكى في نهاية الأمر.
ونظير الآية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ، قالُوا: سُبْحانَكَ [سبأ 34/ 40- 41] .
فيقال للعابدين:
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ، فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً أي فقد كذّبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء مناصرون، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، فلا يقدرون، أي الآلهة المزعومة، على صرف العذاب عنهم، ولا الانتصار لأنفسهم بأي حال أبدا، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] .
ثم أعلن الله تعالى حكم كل ظالم، فقال:(19/36)
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً أي ومن يشرك بالله أو يكفر، أو يفسق نذقه يوم القيامة عذابا شديدا لا يعرف قدره. والظلم هنا هو الإشراك ونحوه كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] وقال سبحانه:
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات 49/ 11] .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه صورة مسبقة من الحوار، معروضة في الدنيا، للعظة والعبرة بين المعبودين الذين اتخذوا آلهة من غير رضا منهم، وبين العابدين الذين ضلوا عن الحق، فعبدوا من لا يستحق العبادة، يبيّن فيها سلفا مصير الكافرين. وهذا غير مألوف في أحكام الدنيا التي لا تعرف إلا بإعلان القاضي لها.
وكانت نتيجة الجواب والسؤال بيان حصر المسؤولية عن الضلال في العابدين دون المعبودين، وجعل تبرؤ المعبودين عن العابدين سببا واضحا في حسرتهم وحيرتهم.
ويقول الله تعالى عند تبرّي المعبودين: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أي كذبتكم تلك الآلهة المزعومة في نظركم في قولكم: إنهم آلهة، وحينئذ لا يستطيع هؤلاء الكفار لما كذّبهم المعبودون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصر أنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم.
ونوع العذاب الذي سيوقع عليهم وعلى أمثالهم هو كما قال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً أي ومن يشرك منكم ثم يموت عليه من غير توبة، نذقه في الآخرة عذابا كبيرا أي شديدا، كما قال تعالى: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً [الإسراء 17/ 4] أي شديدا.(19/37)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
بشرية الرسل
[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
البلاغة:
أَرْسَلْنا الْمُرْسَلِينَ جناس اشتقاق.
تَصْبِرُونَ بَصِيراً جناس ناقص، لتقديم بعض الحروف، وتأخير بعضها.
المفردات اللغوية:
إِلَّا إِنَّهُمْ أي إلا رسلا إنهم، فحذف الموصوف لدلالة الْمُرْسَلِينَ عليه، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات 37/ 164] . وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي فأنت مثلهم في ذلك، وقد قيل لهم مثل ما قيل لك.
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي وجعلنا بعضكم أيها الناس لبعض ابتلاء، ومن ذلك ابتلاء الغني بالفقير، والصحيح بالمريض، والشريف بالوضيع، لمعرفة مدى قيامه بواجبه نحوه أو إيذاء أحدهم لغيره. وفيه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قاله المشركون في حقه، بعد نقضه والرد عليه، وفيه دليل على القضاء والقدر لأنه تعالى هو الذي جعل البعض فتنة للبعض.
أَتَصْبِرُونَ على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم؟ وهو استفهام بمعنى الأمر، بمعنى: اصبروا، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة 5/ 91] أي انتهوا، فهو حث على الصبر على الابتداء وأمر به للنبي صلّى الله عليه وسلم وغيره، أو علة لقوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ.. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، لنعلم أيكم يصبر، كقوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف 18/ 7] . وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي عالما بمن يصبر وبمن يجزع.
سبب النزول:
أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال: لما عيّر المشركون رسول الله(19/38)
صلّى الله عليه وسلم بالفاقة، وقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ.
المناسبة:
هذه الآية إذن جواب عن قول المشركين: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ. فيها أبان الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله، فلا وجه للطعن.
التفسير والبيان:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي إن جميع الرسل المتقدمين كانوا بشرا يأكلون الطعام، للتغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك منافيا لحالهم ومنصبهم، أو يغضّ من شأنهم، وإنما امتيازهم في اتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وقيامهم بالأعمال الكاملة، وتأييدهم بخوارق العادات أو بالمعجزات التي تدل كل عاقل على صدق رسالتهم وما جاؤوا به من عند ربهم، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كغيره من الرسل في هذا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف 12/ 109] وقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء 21/ 8] .
والمعنى: أن الرسول يكون من جنس المرسل إليهم، وليس الفقر عيبا، وليس العمل منقصا من قدر الشخص واعتباره، وإنما قيم الرجال بالآداب والأعمال.
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم(19/39)
ببعض، لنعلم من يطيع ممن يعصي، فالناس طبقات في الغنى والفقر، والعلم والجهل، والفهم والغباء، والصحة والمرض، وصاحب النعمة مسئول عمن حرم منها، والله قادر على منح الدنيا رسله الكرام، ولكنه أراد تساميهم عن الدنيا، وحشد طاقاتهم وأعمالهم للآخرة، ليقتدى بهم، كما أراد سبحانه ابتلاء العباد بهم وابتلاءهم بالعباد، ليعرف المطيع من العاصي، والمسالم من المؤذي.
أَتَصْبِرُونَ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي اصبروا على ما أراده الله لكم، وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع، وبمن يستقيم وبمن يتنكر لطريق الحق، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.
روى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، وويل للمالك من المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية، أسنده الثعلبي رحمه الله تعالى.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتلي بك»
وفي مسند أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» .
وفي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم خيّر بين أن يكون نبيا ملكا، أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا.
وقال مقاتل: إن الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمارا، وبلالا، وصهيبا، وسالما مولى أبي حذيفة، قالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟! فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين:
أَتَصْبِرُونَ؟ أي على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر والجهد(19/40)
والإيذاء، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا «1» [المؤمنون 23/ 111] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن الرسل عليهم السلام كباقي البشر فيما عدا إنزال الوحي عليهم، وتخلقهم بالأخلاق العالية، وقيامهم بالأعمال الطيبة بدرجة تفوق غيرهم، فهم يأكلون ويشربون ويتاجرون في الأسواق.
والآية أصل في وجوب اتخاذ الأسباب، وإباحة طلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن في غير موضع.
ودل قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً على أن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض الناس امتحانا واختبارا لبعض على العموم الذي يشمل كل مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فعلى الغني مواساة الفقير وألا يسخر منه، وعلى الفقير ألا يحسد الغني ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق.
والله سبحانه يأمر بالصبر على كل حال، حتى لا يهتز إيمان أحد، ويفوض الأمر في كل شيء إلى الله تعالى.
والله تعالى بصير بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدّي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 18- 19(19/41)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
طلب المشركين إنزال الملائكة عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَناأُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
الإعراب:
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا اللام جواب قسم محذوف.
يَوْمَ يَرَوْنَ يَوْمَ منصوب على الظرف، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اذكر، أي اذكر يوم يرون الملائكة. ولا يجوز أن يعمل فيه لا بُشْرى لأن ما في حيّز النفي لا يعمل فيما قبله. وأجاز الزمخشري نصب يَوْمَ بما دل عليه لا بُشْرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويَوْمَئِذٍ للتكرار.
ولا بُشْرى: إن جعلت بُشْرى مبنية مع لا كان يَوْمَئِذٍ خبرا لها لأنه ظرف زمان، وظروف الزمان تكون أخبارا عن المصادر. ولِلْمُجْرِمِينَ صفة للبشرى. وإن جعلت بُشْرى غير مبنية مع لا أعملت بُشْرى في يَوْمَئِذٍ لأن الظروف يعمل فيها معاني الأفعال، وللمجرمين خبر لا.
البلاغة:
أُنْزِلَهنا بمعنى هلا للترجي.
عَتَوْا عُتُوًّا وحِجْراً مَحْجُوراً جناس الاشتقاق.(19/42)
لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ مبالغة بنفي الجنس، والمعنى: لا يبشر يومئذ المجرمون، وعدل عنه إلى ذلك للمبالغة.
هَباءً مَنْثُوراً تشبيه بليغ، حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، أي كالغبار المنثور في الجو في حقارته وعدم نفعه.
المفردات اللغوية:
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يأملون لقاءنا بالخير لكفرهم بالبعث، أو لا يخافون لقاءنا بالشر، أي لا يخافون البعث، على لغة تهامة، أي أن الرجاء في بعض لغات العرب: الخوف، مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وأصل اللقاء: الوصول إلى الشيء، ومنه الرؤية، فإنه وصول إلى المرئي، والمراد به: الوصول إلى جزائه، أي لقاء جزائنا.
هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي أرسلوا إلينا، فيخبروننا بصدق محمد صلّى الله عليه وسلم أَوْ نَرى رَبَّنا فيأمرنا بتصديقه واتباعه لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي لقد تكبروا في شأن أنفسهم، حتى أرادوا لها ان تكون أنبياء أو ما هو أعظم من ذلك وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً تجاوزوا الحد في الظلم حتى بلغوا أقصى الغاية، بطلبهم رؤية الله تعالى في الدنيا، وكذبوا الرسول الذي جاء بالوحي، ولم يأبهوا بمعجزاته. وعَتَوْا بالواو على أصله، بخلاف «عتي» بالإبدال في سورة مريم في قوله:
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [8] .
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ في جملة الخلائق، وهو يوم القيامة، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره: اذكر لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين، والمعنى: يمنعون البشرى، بخلاف المؤمنين، فلهم البشرى بالجنة وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً أي ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، وهي كلمة تقال عند حصول شدة كلقاء عدو أو حدث خطير، يقصد بها العرب: الاستعاذة من وقوع الخطر، والطلب من الله أن يمنع ذلك الحادث منعا. والحجر لغة: المنع، ومنه الحجر على القاصر أي منعه من التصرف، وسمي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من بعض الأعمال.
وَقَدِمْنا عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا في كفرهم في الدنيا من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، فأحبطناه لعدم الإيمان فَجَعَلْناهُ هَباءً هو ما يرى في الهواء أثناء ضوء الشمس الداخل من الكوى أو النوافذ، أي جعلناه كالغبار المفرق في عدم النفع فيه مُسْتَقَرًّا أي مكانا يستقرون فيه أكثر الوقت للجلوس والمحادثة، والمعنى: أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرا من الكافرين في الدنيا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يؤوي إليه للقيلولة والراحة: وهي الاستراحة نصف النهار في الحر تشبيها بمكان القيلولة في الدنيا إذ لا نوم في الجنة. وأخذ من ذلك انقضاء(19/43)
الحساب في نصف نهار، كما ورد في الحديث: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
المناسبة:
هذا هو موضوع الشبهة الرابعة للمشركين منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ومكذبي القرآن، ومفادها: لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محقّ في دعواه، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا.
والشبهات الثلاث المتقدمة لهم: هي قولهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وما حكي عنهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها وذكرهم خمس صفات للرسول، زعموا أنها تخل بالرسالة، منها قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ إلخ.
التفسير والبيان:
هذا موقف عجيب من مواقف تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم، صوره القرآن بقوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا أي وقال المشركون الذين ينكرون البعث والثواب والعقاب: هلا أنزل علينا الملائكة كما تنزل على الأنبياء فنراهم عيانا، فيخبرونا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق في دعواه النبوة، أو نرى ربنا جهارا نهارا، فيخبرنا بأنه أرسله إلينا، ويأمرنا بتصديقه واتباعه، كقولهم في آية أخرى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 92] والحقيقة أنهم لا يرومون من كلامهم هذا إلا المكابرة والتمادي في الإنكار والعناد، لذا قال تعالى:
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي والله لقد تكبروا وأضمروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال سبحانه: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر 40/ 56] وتجاوزوا(19/44)
الحد في الظلم والكفر تجاوزا بلغ أقصى الغاية، فهم لم يجسروا على هذا القول الشنيع إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
ولن يؤمنوا في الحقيقة والواقع، كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام 6/ 111] .
ثم أخبر الله تعالى مهددا عن حال رؤيتهم الملائكة، فقال:
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً أي هم لا يرون الملائكة في حال خير، وإنما في حال شر وسوء، فإنهم سيرونهم عند الموت أو يوم القيامة قائلين لهم: لا بشرى لهم بخير، ولا مرحبا بهم، وتبشرهم الملائكة بالنار وغضب الجبار، وتقول لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام 6/ 93] .
ويقول الكفار: حجرا محجورا، أي استعاذة وطلبا من الله أن يمنع عنهم الخطر والضرر، والمقصود أنهم يتعوذون من الملائكة. قال ابن كثير: وهذا القول، وإن كان له مأخذ ووجه، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه. وإنما هذا من قول الملائكة لهم، يراد به: حرام محرم عليكم البشرى بالمغفرة والجنة، وبما يبشر به المتقون، وحرام محرم عليكم الفلاح اليوم.
وهذا بخلاف حال المؤمنين وقت احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها(19/45)
ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
[فصلت 41/ 30- 32] وفي
الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: «إن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب، إن كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، وربّ غير غضبان» .
ثم أخبر الله تعالى عن إحباط أعمال الكفار الخيرية التي كانوا يعتزون بها في الدنيا كالإكرام والصدقة وفك الأسير وإنقاذ الملهوف وحماية المستجير وخدمة البيت الحرام والحجيج، فقال:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي قصدنا يوم القيامة إلى محاسن أعمال هؤلاء الكفار في الدنيا، حين حساب العباد على ما عملوه من الخير والشر، تلك الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم، كالتي ذكرت، فجعلناها مبددة لا نفع فيها ولا خير كالغبار المتناثر الذي لا جدوى فيه ولا فائدة، لفقد الشرط الشرعي لقبولها وهو إما الإخلاص فيها لله، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا لوجه الله الكريم، وليس على منهج الشريعة المرضية لله، فهو باطل، وأعمال الكفار تفقد أحد الشرطين أو كليهما، فتكون أبعد عن القبول.
ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء الكفار بحال المؤمنين فقال:
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي إن حال أهل الجنة خير مأوى ومنزلا، وأتم استقرارا، وأفضل راحة من حال المشركين في النار.
والمستقر: مكان الاستقرار، والمقيل: زمان القيلولة. وهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان. وبما أنه لا خير في النار، فيكون المراد من قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا.. هو ما أريد من قوله:
أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ وهو التقريع والتوبيخ، كما إذا أعطى السيد خادمه(19/46)
مالا، فتمرد وأبى واستكبر، فيضربه ضربا وجيعا، ويقول له موبخا: هذا أطيب أم ذاك.
وهذا يدل على انتهاء حساب الخلائق في نصف يوم، كما
ورد في الحديث: «إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» .
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس 36/ 55- 56] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- إن عدم الخوف من البعث ولقاء الله، أي عدم الإيمان بذلك هو سبب التمادي في إنكار صدق القرآن والنبي المنزل عليه، والعناد والإصرار على الكفر. ثم إن التستر على الكفر والدفاع عنه يجعل الكفرة يطالبون بما فيه تعجيز وشطط وخروج عن المألوف، مثل المطالبة بإنزال الملائكة عليهم لإخبارهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق، أو رؤية الله عيانا لإخبارهم برسالته، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم في آيات أخرى: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 90- 92] .
لذا قال الله تعالى في الآيات المفسرة هنا: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً حيث سألوا الله الشطط لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت، والله تعالى لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، فلا عين تراه. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين.(19/47)
2- إذا رؤيت الملائكة عند الموت، فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم، وتقول الملائكة لهم:
حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وأقام شرائعها، وذلك القول يحصل عند الموت، كما روي عن ابن عباس وغيره.
وقيل: إن ذلك يوم القيامة.
3- إن جميع أعمال الكفار لا سيما التي اعتقدوا أنها برّ وخير، وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى تكون يوم القيامة مهدرة باطلة لا جدوى فيها ولا نفع منها بسبب الكفر، ولأن قبولها يفقد الشرط الشرعي لها وهو الإيمان بالله وإخلاص العمل له. وقوله سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ تنبيه على عظم قدر يوم القيامة، ومعناه كما بينا: قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل برّ عند أنفسهم.
4- أصحاب الجنة في مكان مستقر ومأوى ثابت، ومنزل حسن مريح طيب الإقامة، على النقيض من حال أهل النار. فقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا، وَأَحْسَنُ مَقِيلًا كقوله: قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ التقريع والتوبيخ، وإنما قال: خَيْرٌ ولا خير في النار والعذاب: بالنظر إلى التفاوت بين منزلتي الجنة والنار، وهما من المنازل. أما من حيث الواقع فإن خَيْرٌ هنا ليس للمفاضلة التي تفهم من صيغة أفعل التفضيل، وإنما لتقرير أن الجنة هي الخير المحض والحسن المطلق، ولا خير أصلا في ضدها وهي النار.(19/48)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
رهبة يوم القيامة وهوله
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
الإعراب:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الباء في قوله بِالْغَمامِ للحال، والتقدير: يوم تشقق السماء، وعليها الغمام، كقولك: خرج زيد بسلاحه، أي وعليه سلاحه.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ: الْمُلْكُ مبتدأ، والْحَقُّ صفة له، ولِلرَّحْمنِ الخبر، ويَوْمَئِذٍ: ظرف للملك.
البلاغة:
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والحسرة، وكذلك كلمة «فلان» كناية عن الصديق الضال المضل.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الأصل: تتشقق والمراد يوم القيامة السَّماءُ كل سماء بِالْغَمامِ هو غيم أبيض، أي مع الغمام، مثل قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 73/ 18] والمعنى أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، أو عن الغمام وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا أي تنزل الملائكة من كل سماء، وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الثابت يوم القيامة لله تعالى وحده، لا يشركه فيه أحد وَكانَ يَوْماً أي وكان اليوم يوما عسيرا أي شديدا على الكافرين، بخلاف المؤمنين.(19/49)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والتحسر يوم القيامة، والمراد بالظالم:
الجنس، أو المشرك عقبة بن أبي معيط الذي كان نطق بالشهادتين، ثم رجع إرضاء لأبي بن خلف اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا محمد صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى الهدى والنجاة يا وَيْلَتى ألفه عوض عن ياء الإضافة، أي ويلتي، ومعناه: هلكتي. وقرئ: يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالي فهذا أوانك: وإنما قلبت الياء ألفا كما في صحارى ومداري.
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ذكر الله أو القرآن أو موعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم بَعْدَ إِذْ جاءَنِي بأن ردني عن الإيمان به وَكانَ الشَّيْطانُ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم لِلْإِنْسانِ الكافر خَذُولًا بأن يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ويتبرأ منه عند البلاء، ولا ينفعه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أبيّ بن خلف يحضر النبي صلّى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي معيط، فنزل: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله: خَذُولًا.
وفي رواية: كان عقبة بن أبي معيط يكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال: صبأت؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر، فأمر عليا فقتله
، وطعن أبيا بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا.
قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.(19/50)
المناسبة:
بعد بيان طلب المشركين إنزال الملائكة، أخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وعن نزول الملائكة حينئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، فيعض الظالم على يديه ألما وحسرة على ما فات، ويتمنى أن لو كان أطاع الرسول فيما أمر ونهى، ولم يكن ممن أطاع الشيطان من الإنس والجن، ثم يفصل الله تعالى القضاء بين الخلائق.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي اذكر أيها النبي الرسول يوم تتشقق السماء عن الغمام، وتتفتح عنه، ويتبدل نظام العالم، وتنتهي الدنيا، وتصبح الشمس والكواكب أشبه بالغمام، لتفرقها وتحللها وتناثرها في الجو، كما قال تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 1- 2] وقال سبحانه: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 19- 20] . وقال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة 69/ 15- 16] .
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ أي وتنزل الملائكة وفي أيديهم صحائف أعمال العباد، لتكون حجة وشاهدا عليهم.
ونظير الآية قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة 2/ 210] .
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي وكان يوم القيامة على الكافرين يوما شديدا صعبا لأنه يوم عدل وقضاء فصل (محاكمة) كما في آية أخرى:
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر 74/ 9- 10] .(19/51)
أما المؤمنون فكما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء 21/ 103] روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله: يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنه ليخفّف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا» .
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي واذكر أيها الرسول يوم القيامة الذي يعض المشرك وكل ظالم على يديه ندما وحسرة وأسفا على ما فرّط في حياته، وعلى إعراضه عن طريق الحق والهدى الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى النجاة والسلامة.
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني خليلا أي صديقا حميما، أرداني اتباعه، وصرفني عن الهدى، وعدل بي إلى طريق الضلال، سواء في ذلك أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو غيرهما.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي هذا من قول الناس، أي لقد ضللني وحرفني عن ذكر الله والإيمان والقرآن بعد بلوغه إلي.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا هذا من قول الله، لا من قول الظالم أي إن من شأن الشيطان أن يخذل الإنسان عن الحق، ويصرفه عنه، ويدعوه إلى الباطل ويستعمله فيه، ثم يتركه ويتبرأ منه عند المحنة، ولا ينفعه في العاقبة.
والشيطان: إشارة إلى خليله سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو أراد إبليس وأنه هو الذي حمله على مصادقة أو مخالّة المضل ومخالفة(19/52)
الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم خذله، أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس.
والمعنى الأخير هو الأولى.
فقه الحياة أو الأحكام:
طلب المشركون إنزال الملائكة، فأبان سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له أربع صفات هي:
1- إن في ذلك اليوم تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام، لأن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس، روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، فتنشق السماء عنه، وهو الذي قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة 2/ 210] . وقوله: تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ جامع لمعنى الآيتين:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار 82/ 1] وآية فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ المذكورة.
وفي ذلك اليوم تنزل الملائكة من السموات إلى الأرض لحساب الثقلين.
ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول، ودلالة على إسراعهم فيه.
2- يكون الملك الثابت الدائم في ذلك اليوم لله الرحمن الرحيم، وهذا دليل الألوهية لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده.
3- يكون هذا اليوم شديدا صعبا على الكافرين لما ينالهم من الأهوال، ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، كما دل الحديث المتقدم، وهذه الآية لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا، فهو على المؤمنين يسير.
4- إنه يوم يعض فيه الظالم الكافر وكل مكذب وطاغ على يديه، حسرة(19/53)
وألما على ما فرط في دنياه، فلم يؤمن بربه وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، فكلمة الظَّالِمُ للعموم، يعم جميع الظلمة، ويشمل عقبة بن أبي معيط الذي همّ بالإسلام، فمنعه منه صديقه أمية بن خلف الجمحيّ، ويروى: أبي بن خلف أخ أمية. وعضّه يديه: فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله، وعدم اتخاذه في الدنيا طريقا إلى الجنة، فيدعو على نفسه بالويل والهلاك على محالفة الكافر ومتابعته، ويقول: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا عنى أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه، لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به، ولا مقصورا عليه، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما.
فهذه العبارات الثلاث: الظالم، وفلان، والشيطان عامة.
والخليل الصاحب قد يضل صاحبه عن ذكر الله والإيمان به والقرآن وموعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والشيطان يوسوس ويغري بالكفر والشرك والمعصية، ثم يخذل أتباعه، والخذل: الترك من الإعانة، والتبرؤ من فعله. وكل من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله، فهو شيطان للإنسان، خذول عند نزول العذاب والبلاء، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر 59/ 16] .
وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك «1» ، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة» «2» .
وذكر أبو بكر البزّار
__________
(1) أحذاه: أعطاه.
(2) وأخرجه أبو داود من حديث أنس.(19/54)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله، أيّ جلسائنا خير؟ قال: «من ذكّركم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكّركم بالآخرة عمله» .
هجر الكفار القرآن ومطالبتهم بإنزاله جملة واحدة
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوانُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
الإعراب:
في لام لِنُثَبِّتَ وجهان: أن تتعلق بفعل مقدر، أي نزلناه لنثبت به فؤادك لقولهم:
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أو أن تكون اللام لام القسم، وتقدر النون مع الفعل، وتظهر النون إذا فتحت اللام فيقال: «والله لنثبتن» وتسقط إذا كسرت. وكاف كَذلِكَ صفة لمصدر محذوف دل عليه نزلناه.
البلاغة:
شَرٌّ مَكاناً إسناد مجازي، لأن الضلال لا ينسب إلى المكان، ولكن إلى أهله.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلم مشتكيا إلى ربه في الدنيا إِنَّ قَوْمِي قريشا مَهْجُوراً متروكا وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا عدوا من مشركي قومك، جعلنا(19/55)
لكل نبي قبلك عدوا من المشركين، فاصبر كما صبروا، وفيه دليل على أن الله خالق الشر. والعدو:
يطلق على الواحد والجمع هادِياً لك إلى طريق قهرهم وَنَصِيراً ناصرا لك على أعدائك.
هلا جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه كذلك مفرّقا لتقوية قلبك بتفريقه على حفظه وفهمه لأنه صلّى الله عليه وسلم بخلاف حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام كان أميا، وكانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة، عانى التعب والإجهاد في حفظه، ولأن نزوله بحسب الوقائع يزيد الأمر تبصرا، وتعمقا في فهم المعنى. وكلمة كَذلِكَ صفة مصدر محذوف يشير إلى إنزاله مفرقا وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أتينا به شيئا بعد شيء، أو قرأناه عليك شيئا بعد شيء، بتمهل وتؤدة، لتيسير فهمه وحفظه، في مدى ثلاث وعشرين سنة. وأصله الترتيل في الأسنان: وهو تفليجها.
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بحال وصفة غريبة ونوع من الكلام يشبه المثل في تنميقه وتحسينه ورصف لفظه، بقصد القدح في نبوتك وإبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ الدافع له، أو الدامغ له في جوابه وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي بما هو أحسن بيانا لهم، وأصح معنى من سؤالهم العجيب الذي كأنه مثل في البطلان.
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يساقون ويسحبون على وجوههم، أي مقلوبين شَرٌّ مَكاناً هو جهنم وَأَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا من غيرهم، وهو كفرهم
سبب النزول: نزول الآية (32) :
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلّى الله عليه وسلم، كما يزعم نبيا، فلم يعذبه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.
المناسبة:
بعد بيان اعتراضات المشركين وأقاويلهم الباطلة، وأوجه تعنتهم، كطلب إنزال الملائكة أو رؤية الله، وتكذيب القرآن ووصفه بالأساطير، أوضح الله(19/56)
تعالى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم ضاق صدره واشتكاهم إلى ربه بأن قومه هجروا القرآن.
التفسير والبيان:
وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي شكى الرسول إلى ربه سوء أفعال المشركين وأقوالهم الساقطة قائلا: يا ربّ، إن قومي قريشا تركوا الإصغاء لهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، وأعرضوا عن استماعه واتباعه، فكانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما حكى تعالى عنهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت 41/ 26] فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعونه، فهذا من هجرانه، وكذلك ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو من هجرانه، كما قال ابن كثير «1» .
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ هذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما يلقى من قومه من الأذى والصدود والإعراض، أي لا تحزن يا محمد، فتلك سنة الله في خلقه، فكما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك الأباطيل، ويهجرون القرآن، جعلنا لكل نبي من أنبياء الأمم الماضين أعداء من المشركين الظالمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام 6/ 112] فاصبر كما صبروا، وامض في تبليغ رسالتك. قال ابن عباس: كان عدو النبي صلّى الله عليه وسلم أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى.
لكن النصر والغلبة للرسول صلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 3/ 317(19/57)
وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً أي وكفى بالله ربك هاديا لك إلى الحق، وهاديا من اتبعك وآمن بكتابك وصدقك إلى مصالح الدين والدنيا، وناصرك على أعدائك في الدنيا والآخرة.
وقد قرن الله تعالى بين الهداية والنصر لأن الأولى سبيل لتحقيق نصر المؤمنين على الكافرين، وكان المشركون يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد بالرسول صلّى الله عليه وسلم، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن، وللحفاظ على قوة التفوق والغلبة، وإبقاء ميزان القوى راجحا في صالحهم.
الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم:
بعد بيان شكوى الرسول صلّى الله عليه وسلم قومه إلى ربه، حكى الله تعالى شبهة أخرى للمشركين أهل مكة فقال:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوانُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي أضاف المشركون أهل مكة لطعنهم السابق في القرآن بأنه إفك مفترى وأنه أساطير الأولين، أضافوا شبهة أخرى هي قولهم: إذا كنت تزعم أنك رسول من عند الله، أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة، كما أنزلت التوراة جملة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؟
ومعنى الآية: لو كان القرآن من عند الله حقا، فهلا أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم جملة واحدة، كما نزلت الكتب الإلهية المتقدمة.
فأجابهم الله تعالى عن ذلك بقوله:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي أنزلناه كذلك مفرقا، وأتينا به شيئا بعد شيء وقرأناه على لسان جبريل في مدى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام.(19/58)
والحكمة أو الفائدة من ذلك متنوعة وكثيرة أهمها ما يأتي «1» :
أ- تثبيت قلب النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بشريعة الله، والعون على حفظ القرآن وفهمه، وتطبيق أحكامه بنحو دقيق وشامل لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان أميا، وكانت أمته أمية، لا يعرفون القراءة والكتابة، فلو نزل القرآن جملة واحدة، لصعب عليهم ضبطه، وجاز عليهم السهو والغلط. ثم إن مشاهدة النبي صلّى الله عليه وسلم جبريل وقتا بعد وقت مما يقوي عزيمته، ويحمله على الصبر في تبليغ الرسالة وتصحيح المسيرة، والصمود في وجه التحديات واحتمال أذى قومه، ومتابعة جهاده.
ب- دفع الحرج عن المكلفين بتكليفهم بأحكام كثيرة مرة واحدة: فلو طولب المؤمنون بتحمل أعباء الشريعة دفعة واحدة، فربما وقعوا في الحرج والمشقة، وصار التنفيذ أمرا صعبا غير سهل ولا يسير.
ج- مراعاة مبدأ التدرج في التشريع: فقد كانت العادات والتقاليد الموروثة، والأعراف العامة مسيطرة في بيئة العرب وغيرهم من الأمم، فلو طولبوا بالإقلاع عما تحكمت فيهم العادات، لنفروا وأعرضوا وقالوا جميعا:
لا نترك هذا الأمر، فكان من الحكمة والمصلحة والنجاح في التربية، وتغيير تلك العادات المستحكمة أو المألوفة أن ينزل القرآن منجّما، ويتدرج في الأحكام من مرحلة إلى أخرى، تتهيأ بها النفوس لقبول الحكم النهائي.
د- معالجة الوقائع والطوارئ والأحداث وإجابة الأسئلة بما هو الأنسب والأوفق: فلو كان التشريع دفعة واحدة، سواء فيما يتعلق بحالة السلم أو حالة الحرب، لانكشفت الخطة، ودبر الأعداء المكايد لتحقيق الغلبة على المسلمين، وهان على أهل الحيلة والمكر التشكيك في مدى صلاحية حكم تشريعي ما.
ثم أبان تعالى تأييد نبيه بالوحي وإبطال حجج المشركين فقال:
__________
(1) انظر وقارن تفسير الرازي: 24/ 79 [.....](19/59)
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي لا يأتيك هؤلاء المشركون المعاندون بحجة أو شبهة، ولا يقولون قولا يعارضون به الحق، والتشكيك في نبوتك إلا أجبناهم بما هو الحق الثابت الذي يدحض قولهم، ويبطل حجتهم، ويكون أصدق في الواقع، وأبين وأوضح وأفصح مما يقولون، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] .
وبعد وصف القوم المتعنتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأوصاف كاذبة، أورد الله تعالى وصفهم يوم القيامة بما يدل على سوء حالهم في معادهم وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات، فقال:
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ، أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي إن أولئك المشركين المفترين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذين يسحبون على وجوههم إلى جهنم إذلالا وخزيا وهوانا، ويساقون إليها بالسلاسل والأغلال، هم شر مكانا وهو جهنم من أهل الجنة، وأضل سبيلا وطريقا عن الحق.
والمقصود منه الزجر عن طريقهم، كما في قوله تعالى المتقدم: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فلا يراد من ذلك المفاضلة، وإنما بيان سوء حال أهل النار، وحسن حال أهل الجنة، ولفت نظر الكفار إلى أن مكانهم شر من مكان المؤمنين، وسبيلهم أضل من سبيل المسلمين.
جاء في صحيح البخاري عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: «إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» .
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم،(19/60)
قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- ترك المشركون والكفار القرآن في أوضاع متعددة، إما بعدم الاستماع والإصغاء إليه، وإما بترك تدبره وتفهمه، وإما بترك الإيمان به وعدم تصديقه، وإما بترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإما بالعدول عنه إلى غيره من أنظمة الجاهلية والكفار أمثالهم.
روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من تعلّم القرآن، وعلّق مصحفه، لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، إن عبدك هذا اتخذني مهجورا، فاقض بيني وبينه» .
وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع: أحدها- هجر سماعه والإيمان به، والثاني- هجر العمل به وإن قرأه وآمن به، والثالث- هجر تحكيمه والتحاكم إليه، والرابع- هجر تدبره وتفهم معانيه، والخامس- هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وكل هذا داخل في قوله تعالى: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
2- ما من حق إلا ويقابله باطل، وما من مصلح صادق إلا وله أعداء، وكما جعل الله لنبيه محمد عدوا من مشركي قومه كأبي جهل وأمثاله، جعل لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فما على المحق والمصلح إلا الصبر كما صبر الأنبياء المتقدمون، والله هاد أهل الحق والصلاح، وناصرهم على كل من ناوأهم.(19/61)
3- استدل أهل السنة بآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ... على أنه تعالى خالق الخير والشر لأن ذلك القول يدل على أن تلك العداوة من جعل الله، وتلك العداوة كفر.
4- طلب كفار قريش أو اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا أن ينزل على محمد جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود. والتغاير في طريقة الإنزال له معنى وحكمة.
5- إن نزول القرآن مفرقا لتقوية قلب النبي صلّى الله عليه وسلم في تحمله ووعيه لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، فتفريقه ليكون أوعى للنبي صلّى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب. وقد ذكرت تلك الفوائد والحكم في أثناء التفسير للآية.
وقوله تعالى: كَذلِكَ إما من قول المشركين أي كالتوراة والإنجيل، فيوقف على كَذلِكَ ثم يبتدأ بقوله: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ويجوز الوقف على قوله: جُمْلَةً واحِدَةً ثم يبتدأ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ
أي أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير. وقال النحاس: والأولى أن يكون التمام جُمْلَةً واحِدَةً لأنه إذا وقف على كَذلِكَ صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور، ولم يتقدم لها ذكر. وهذا موافق لرسم القرآن.
6- نزل القرآن مرتلا مرسلا، أي شيئا بعد شيء.
7- إن الله تعالى مؤيد رسوله وهاديه وناصره، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة، ثم سألوه عن أمر، لم يكن عنده ما يجيب به، فإذا كان مفرقا ثم سألوه أجاب بوحي من عند الله. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة لأنهم(19/62)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم. ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى تنبيه الناس إلى ما فيه الخير والحكمة والصواب.
8- أهل النار وهم الكفار يحشرون إليها على وجوههم إما حقيقة كما تقدم، وإما أن القصد الذل والخزي والهوان، وإما الدلالة على الحيرة في طريق الذهاب. وهم في شر مكان لأنهم في جهنم، وأضل دينا وطريقا.
قصص بعض الأنبياء وعقوبات مكذبيهم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
الإعراب:
وَقَوْمَ نُوحٍ قَوْمَ منصوب عطفا على الهاء والميم في فَدَمَّرْناهُمْ أو بتقدير فعل يفسره أَغْرَقْناهُمْ أي أغرقنا قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم، أو بتقدير فعل «اذكر» .
وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بالعطف على قَوْمَ نُوحٍ إذا نصب بتقدير «اذكر» أو بالعطف على فَدَمَّرْناهُمْ. ولا يجوز العطف على وَجَعَلْناهُمْ.(19/63)
وَكُلًّا ضَرَبْنا كُلًّا منصوب بفعل تقديره: أنذرنا كلا لأن ضرب الأمثال في معنى الإنذار، فجاز أن يكون تفسيرا ل «أنذرنا» . وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً كُلًّا منصوب بتبرنا، وتَتْبِيراً مصدر مؤكد.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَزِيراً معينا يؤازره في الدعوة إلى الله وإعلاء كلمته، ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، لتآزرهما في الأمر. والوزير: من يستعان برأيه ويستشار في الأمور، يقال: وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره ويعينه في أعباء الملك أو الرئاسة إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هم فرعون وقومه القبط فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أهلكناهم إهلاكا، وفيه محذوف تقديره: فذهبا إليهم فكذبوهما.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي واذكر لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا وغيره، أو نوحا وحده لأن تكذيبه تكذيب لباقي الرسل لاشتراكهم في الدعوة إلى التوحيد أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وهو جواب لمّا وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ بعدهم أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم للناس آيَةً عبرة وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أعددنا في الآخرة للكافرين عذابا مؤلما، سوى ما يحل بهم في الدنيا. والجملة إما للتعميم، وإما للتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع الضمير.
وَعاداً أي واذكر عادا قوم هود وثمود أو: وثمودا: قوم صالح، فهو إما ممنوع من الصرف على أنه اسم قبيلة، وإما مصروف على أنه الحي أو اسم الأب الأكبر وَأَصْحابَ الرَّسِّ هم قوم كانوا يعبدون الأصنام ولهم آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا، وقيل: غيره، فكذبوه، فبينا هم حول الرّس: وهي البئر غير المطوية (غير المبنية) قعودا، انهارت بهم وبمنازلهم، جمع رساس. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ أقواما بين ذلك المذكور، بين عاد وأصحاب الرس. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ في إقامة الحجة عليهم، فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أهلكنا إهلاكا بتكذيبهم أنبياءهم.
وَلَقَدْ أَتَوْا أي مرّ كفار مكة أثناء تجارتهم إلى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ هي سدوم عظمي قرى قوم لوط، فأهلك الله أهلها لفعلهم الفاحشة، بمطر مصحوب بالحجارة. والسوء: مصدر ساء أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في أثناء سفرهم إلى الشام، فيعتبروا ويتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله. والاستفهام للتقرير. بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي بل كانوا كفرة لا يخافون بعثا، فلا يؤمنون ولا يتعظون.(19/64)
المناسبة:
بعد بيان شبهات المشركين حول القرآن والنبوة والبعث، ذكر الله تعالى قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وما نزل بهم من عذاب بسبب تكذيبهم الرسل، ليعتبر هؤلاء المشركون، ويحذروا ما حلّ بمن سبقهم من الأمم الماضية من أليم العقاب، إذا بقوا على كفرهم وعنادهم، وذكر تعالى أربعة قصص هي ما يأتي:
القصة الأولى- قصة موسى وهارون عليهما السلام:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً بدأ تعالى بذكر موسى، فقال: وتالله لقد آتينا موسى التوراة، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له، أي نبيا مؤازرا ومعينا وناصرا. ونبوة هارون ثابتة في آية أخرى هي قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم 19/ 53] لكنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام، وهو تابع له فيها، لذا أمر الاثنان بتبليغ رسالتهما في قوله تعالى:
فَقُلْنَا: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي فقال الله تعالى آمرا موسى وهارون: اذهبا إلى فرعون وقومه لتبليغ الرسالة وهي إعلان الوحدانية والربوبية لله عز وجلّ، فلا إله غيره، ولا معبود سواه، فلما ذهبا كذبهما فرعون وجنوده، كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى [النازعات 79/ 17- 21] وقال سبحانه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي، وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي، اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى، قالَ: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 42- 46] .
فلما كذب فرعون وقومه برسالة موسى وأخيه هارون، ولم يعترفوا بوحدانية(19/65)
الله تعالى، أهلكهم الله إهلاكا، كما قال: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمّد 47/ 10] . فانظروا يا كفار مكة عاقبة الكفر وتكذيب الرسل.
القصة الثانية- قصة نوح عليه السلام:
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي واذكر يا محمد لقومك ما فعله قوم نوح حين كذبوا رسولهم نوحا عليه السلام الذي مكث فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من عقابه ونقمته ألف سنة إلا خمسين، فما آمن به إلا قليل، فأغرقناهم بالطوفان، وجعلناهم عبرة وعظة للناس يعتبرون بها، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] .
وقوله كَذَّبُوا الرُّسُلَ قصد به تكذيب نوح عليه السلام، على أساس أن من كذب رسولا واحدا، فقد كذب بجميع الرسل إذ لا فرق بين رسول ورسول، فدعوتهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام واحدة، ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول، فإنهم كانوا يكذبون.
ثم عمّم تعالى الحكم فقال:
وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي وأعددنا وهيأنا عذابا مؤلما في الآخرة لكل ظالم كفر بالله، ولم يؤمن برسله، وسلك سبيلهم في تكذيب الرسل. وفي هذا تهديد لكفار قريش أنه سيصيبهم من العذاب مثلما أصاب قوم نوح.
القصة الثالثة- قصة عاد وثمود وأصحاب الرّس:
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ أي واذكر أيها الرسول أيضا لقومك قصة عاد الذين كذبوا رسولهم هودا، وقصة قبيلة ثمود الذين كذبوا رسولهم صالحا، وقصة أصحاب الرس أي البئر وهم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية،(19/66)
بعث الله لهم شعيبا وقيل غيره، فدعاهم إلى توحيد الله والإيمان به وبرسالته، فكذّبوه، فبينا هم حول البئر قعود، خسف الله بهم وبمنازلهم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرسّ: هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج.
وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي واذكر لهم أمما كثيرة بين قوم نوح وعاد وأصحاب الرس، لما كذبوا الرسل، أهلكناهم جميعا.
وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ، وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي وكل واحد من هؤلاء الأقوام بيّنا لهم الحجج، وأوضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، فلم يؤمنوا وإنما كذّبوا، بالرغم من الرد على كل الشبهات والاعتراضات، فأهلكناهم إهلاكا شديدا، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء 17/ 17] . والقرن في الأظهر: هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهو قرن آخر، كما
ثبت في الصحيحين: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
والتتبير: التفتيت والتكسير.
القصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام:
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي ذكّر مشركي مكة بعبرة أخرى، وهي أنهم والله لقد مروا أثناء تجارتهم إلى الشام في رحلة الصيف على سدوم أعظم قرى قوم لوط التي أهلكها الله بالقلب (جعل عاليها سافلها) وبالمطر المصحوب بالحجارة من سجّيل، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء 26/ 173] لارتكابهم الفاحشة.
أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي أفلم يروا ما حلّ بتلك القرية من عذاب الله ونكاله، بسبب تكذيبهم بالرسول، وبمخالفتهم أوامر الله، إنهم فعلا يرون ذلك، ولكنهم لم يعتبروا، ومنشأ عدم العظة والعبرة(19/67)
وتكذيب النبي محمد صلّى الله عليه وسلم أنهم قوم لا يخافون أو لا يتوقعون نشورا، أي معادا يوم القيامة. وهذا تأكيد لما قال تعالى سابقا في هذه السورة نفسها: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
[11] فإن عدم الخوف من اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب هو السبب الجوهري في الإعراض عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
ورجح الرازي أن الرجاء في قوله تعالى لا يَرْجُونَ نُشُوراً على حقيقته لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف إلا لرجاء ثواب الآخرة، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها، فلا يتحمل تلك المتاعب.
فقه الحياة أو الأحكام:
الغرض من إيراد هذه القصص هنا واضح، وهو تحذير المشركين من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلم، فيحل بهم من العذاب، كما حلّ بالأمم الماضية المكذبين رسل الله.
فالقصة الأولى- قصة موسى وأخيه هارون عليهما السلام، كان معهما التوراة، وأمرا بالذهاب إلى فرعون وقومه من أقباط مصر لدعوتهم إلى الإيمان بوجود الله، والإقرار بوحدانيته، فكذبوا بآيات الله الدالة على صدق النبوة والتوحيد، فدمرهم الله تدميرا، وأهلكهم إهلاكا شديدا بالإغراق في البحر.
والقصة الثانية- قصة نوح عليه السلام مع قومه الذي مكث يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام زمنا هو ألف سنة إلا خمسين، مما لم يمكث فيه نبي مع قومه مثل هذا، فبعد أن كذبوه ويئس من إيمانهم، أغرقهم الله جميعا بالطوفان، وجعلهم للناس آية أي علامة ظاهرة على قدرته، وأعدّ لهؤلاء المشركين من قوم نوح ولكل ظالم عذابا شديد الألم في الآخرة، ونجّى الله الذين آمنوا مع نوح في السفينة.(19/68)
وقوله: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ذكر الجنس، وأراد به نوحا وحده لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده، فنوح إنما بعث ب «لا إله إلا الله» وبالإيمان بما ينزل الله تعالى، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة.
والقصة الثالثة- قصة عاد وثمود وأصحاب الرس وأقوام آخرين مما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، أنذروا جميعا، وضربت لهم الأمثال الحقة، وبيّنت لهم الحجة، فأبوا الإيمان، وكذبوا الرسل، فأهلكهم الله بالعذاب ودمرهم تدميرا. والرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية.
وأصحاب الرسّ كما عرفنا كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام، فدعاهم إلى الإسلام، فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه، فبينما هم حول الرس، خسف الله بهم وبدارهم. وقيل:
الرس: قرية باليمامة قتلوا نبيهم، فهلكوا، وهم بقية ثمود.
والقصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام مع قومه في قرية سدوم إحدى قرى قوم لوط الخمس، دعاهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام، والتطهر من الفاحشة، فأصروا على ما هم عليه لأنهم لا يصدقون بالبعث، أو لا يرجون ثواب الآخرة، فأهلكهم الله بمطر السوء، أي بالحجارة من السماء، وكان مشركو مكة يمرون في أسفارهم بتلك المدائن، ومع ذلك لم يعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط، كما قال الله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
[الصافات 37/ 137] وقال: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر 15/ 79] .
وقد أهلك الله تعالى أربعا من قرى قوم لوط بأهلها، وبقيت واحدة.(19/69)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
استهزاء المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلم وتسمية دعوته إضلالا
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
الإعراب:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً إِنْ بمعنى «ما» أي ما يتخذونك إلا ذا هزء أو موضع هزء أو مهزوءا به، مثل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي ما الكافرون إلا في غرور. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكي بعد قول مضمر تقديره: قائلين: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
وأَ هذَا مبتدأ، والَّذِي خبره، ورَسُولًا إما منصوب على الحال وهو الأولى، أو على المصدر، بجعل رَسُولًا بمعنى «رسالة» مثل قول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة.
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا إِنْ هنا عند البصريين مخففة من الثقيلة، تقديره: ما كاد إلا يضلّنا.
البلاغة:
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا الاستفهام للاستهزاء والتهكم، والإشارة للاستحقار.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب، وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به، والأصل: اتخذ هواه إلها له، بأن أطاعه وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا.(19/70)
المفردات اللغوية:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا هناك محذوف تقديره: يقولون، أو قائلين: أهذا الذي بعث الله رسولا في دعواه، والاستفهام للاستهزاء والتقدير، والإشارة للاستحقار وعدم تأهله للرسالة في زعمهم. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا ... يصرفنا وإِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي إنه قارب إضلالنا، وصرفنا عن آلهتنا بفرط اجتهاده في الدعوة إلى التوحيد، لولا أننا ثبتنا على عبادة آلهتنا. وهذا اعتراف صريح من المشركين بأن محمدا بلغ الغاية في الدعوة إلى ربه.
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ عيانا في الآخرة، وهذا كالجواب عن قولهم: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا فإنهم نسبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الضلال، وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه، وإن طالت مدة الإمهال، ولا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير، وسينزل بهم العقاب ويعرفون حينئذ من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون؟! أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أخبرني عمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا وَكِيلًا حافظا تحفظه عن اتباع هواه أي مهويه، وتمنعه عن الشرك والمعاصي، وحاله هذا؟ لا، فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني للإنكار.
أَمْ تَحْسَبُ بل أتحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع تفهم أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقول لهم، فتجديهم الآيات أو الحجج، فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي ما هم إلا كالسوائم في عدم انتفاعهم بقرع الآيات بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا منها لأنها تنقاد لمن يتعهدها بالرعاية، وهم لا يطيعون مولاهم وخالقهم المنعم عليهم بنعم كثيرة، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار.
سبب النزول: نزول الآية (41) :
روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟.(19/71)
المناسبة:
بعد بيان مواقف المشركين في إنكار نزول القرآن من الله، والطعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعدم الإيمان برسالته، وإيراد الشبهات الواهية حول ذلك، أبان الله تعالى إسرافهم في الشطط والغلو والاستعلاء، وإساءتهم لهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم بالاستهزاء به، والاستهانة بشخصه، والحط من قدره، متهكمين على اختياره للبعثة النبوية، ومغالين في ذلك حتى سموا دعوته إضلالا، ولجؤوا إلى التحذير من تأثير تلك الدعوة القوية والآيات والحجج البالغة التي شارفت أن تجرفهم إلى الإيمان، وترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا ثباتهم على الوثنية، واستمساكهم بعبادة آلهتهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلّى الله عليه وسلم وتعييره بالعيب والنقص، فيقول:
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي إذا رآك أيها النبي المشركون الذين كفروا بالله ورسوله، ما يتخذونك إلا موضع هزء وسخرية، أو مهزوءا به، مقارنة بما هم عليه من العزة والسيادة والغنى، وما أنت عليه من الفقر واليتم والمسكنة.
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ويقولون على سبيل التنقص والازدراء:
أهذا المبعوث من عند الله رسولا إلينا؟ كما قال تعالى في شأن غيره: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام 6/ 10] .
قبحهم الله، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا المثل الأعلى للأنبياء وللبشر قاطبة في مشيه وسلوكه وتصرفاته وأخلاقه وفكره ومنطقه العذب، ولكنه العناد في(19/72)
الكفر الذي يصر أهله على تدليس الحقائق وطمس الفضائل، وهم في أصائل قلوبهم يرون الحقيقة ويظهرون غيرها، بدليل قولهم الآتي: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي قارب محمد أن يثنيهم عن عبادة الأصنام، ويحملهم على ترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على ما هم عليه، وتمسكوا بالوثنية والأسطورة والخرافة التي لا يقبل بها عاقل رشيد.
وفي هذا دلالة واضحة على تناقضهم وإظهارهم خلاف ما يعتقدون من الحقيقة لأنهم عرفوا محمدا الصادق الأمين الراجح العقل في غضون أربعين عاما من العمر قبل النبوة، ولم يوجهوا له يوما ما أي طعن أو نقد، وإنما على العكس كان محل احترام وإجلال من جميع قومه، كما هو معروف.
ثم إن في هذا القول اعترافا ضمنيا بقوة تأثير محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم، بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام بحجج بالغة وأدلة دامغة، حتى إنهم شارفوا مفارقة دينهم إلى الإسلام، لولا المكابرة والعناد والاستكبار والغلو، فراحوا يقولون بأن صنيعه إضلال.
وبعد أن حكى الله تعالى كلامهم زيّف طريقتهم وسفه آراءهم من وجوه ثلاثة:
الأول:
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا هذا وعيد شديد لهم وتهديد على التعامي عن الحق والإعراض عن الاستدلال والنظر، وعلى وصفهم له بالإضلال، فإنهم حين يشاهدون العذاب الذي لا مفرّ لهم منه يدركون من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون وهو صلّى الله عليه وسلم قائدهم، ومن الضّال ومن المضلّ؟
الثاني:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وهذا تنبيه على(19/73)
عدم الفائدة من دعوة من سيطرت عليه الأهواء إلى الدين الحق، فانظر فيمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، واستولى عليه التقليد، وصمّ أذنه عن سماع الدليل المقنع والبرهان الساطع، فكل ما زين له الهوى شيئا انقاد له، وحينئذ لن تستطيع منعه من الشرك والمعاصي، ولن تكون مستطيعا دعوته إلى الهدى ولا وليا حافظا على شؤونه لتقمعه عن الضلال، وترشده إلى الهدى والصواب فما استحسنه بهواه جعله دينه ومذهبه، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ الآية [فاطر 35/ 8] .
قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني، وترك الأول.
وهذا دليل على ألا حجة لهم في عبادة الأصنام إلا التقليد واتباع الأهواء، ولا يرشد إلى طريقهم فكر ولا عقل سليم.
ونظير الآية قوله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 22] ، وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق 50/ 45] ، وقوله عزّ وجلّ:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة 2/ 256] .
الثالث:
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وهذا ذمّ أشد مما سبق، لذا عبر عنه بقوله أَمْ أي بل للإضراب عما سبق إليه، والمعنى بل أتظن أن أكثرهم يسمعون سماع تدبر وفهم، أو يتعقلون ويفكرون فيما تتلو عليهم، وترشدهم إليه من الفضائل والأخلاق الحميدة، فتجهد نفسك في إقناعهم بدعوتك، ونقلهم إلى العقيدة الصحيحة، فما حالهم إلا كالأنعام السائمة، بل هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة، وأخطأ طريقا منها، فإن تلك البهائم تفعل ما هو خير لها ونفع، وتتجنب ما هو ضارّ(19/74)
بها وخطر عليها، أما هؤلاء فلا يقدّرون مصلحتهم حق التقدير، فتراهم متهورين في المعاصي، قاذفين أنفسهم في المهالك، لا يشكرون نعمة الخالق عليهم ولا يعرفون إحسانه، وإساءة الشيطان لهم، ولا يفعلون ما يحقق لهم الثواب الأخروي، ولا يتجنبون ما يؤدي بهم إلى العقاب والعذاب.
والسبب في قوله أَكْثَرَهُمْ لا الكل أن بعضهم عرف الله تعالى وعلم أن الإسلام حق، لكنه لم يعلن إسلامه لمجرد حب الرياسة.
وهذا دليل على فقدهم الإدراك الصحيح والوعي السليم، وتعطيلهم طاقات الحواس والمواهب الإلهية التي لو فكروا بموجبها دون تأثر بعصبية، أو تقليد موروث، أو هوى متبع كحب الزعامة والسيطرة، لانقادوا إلى رسالة الحق والتوحيد، وآمنوا بدعوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- اتّخذ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم موضع استهزاء وسخرية، فهل بعد هذا من جرم أفظع منه وأشنع؟
2- دلّ قوله تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا.. على أمور: هي أنهم سمّوا ذلك إضلالا، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم بلغ أقصى الجهد والاجتهاد في صرفهم عن عبادة الأوثان، وأنهم لم يعترضوا على دلائل النبوة إلا بمحض الجحود والتقليد، وأن القوم أقروا بقوة حجته صلّى الله عليه وسلم وكمال عقله، لكنهم طاشوا كالمجانين، فاستهزؤوا به، وذلك فعل الجاهل العاجز المتحير في أمره.
3- كان الرد الحاسم من الله على قبائح المشركين هذه من وجوه ثلاثة:(19/75)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
أولها:
أنهم حين مشاهدة العذاب يدركون من أضل دينا أهم أم محمد؟
ثانيها:
أنهم لجهالتهم وإعراضهم عن آيات الله اتخذوا أهواءهم آلهة، فأصروا على الشرك، وقلدوا آباءهم، مع إقرارهم بأن الله خالقهم ورازقهم، وعبدوا الأحجار من غير حجة.
ثالثها:
أن أكثرهم لا يسمعون سماع قبول أو يفكرون فيما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيعقلونه، أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع، وما هم إلا كالأنعام لا يفكرون في الآخرة، بل هم أضل إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام.
4- دلّ قوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، على أن الهداية والضلالة ليستا موكولتين إلى مشيئة النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما عليه التبليغ. والآية تسلية له عن تركهم الإيمان وإعراضهم عن دعوته.
أدلة خمسة على وجود الله وتوحيده
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)(19/76)
الإعراب:
وَأَناسِيَّ معطوف على أَنْعاماً وواحده (أنسي) أو (إنسان) . قال الفراء والزجاج: الأنسي والأناسي كالكرسي والكراسي. وقال الزمخشري: الأناسي: جمع أنسي أو إنسان.
البلاغة:
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تشبيه بليغ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه، أي كاللباس الساتر.
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً مقابلة بين الليل والنهار، والنوم والتقلب في المعاش.
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة، استعار اليدين لما هو أمام الشيء وقدّامه.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ التفات من الغيبة: أَرْسَلَ الرِّياحَ إلى التكلم للتعظيم والامتنان.
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ بينهما مقابلة، أي في نهاية العذوبة ونهاية الملوحة.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تنظر. إِلى رَبِّكَ إلى صنعه وفعله. مَدَّ الظِّلَّ بسطه، والظل:
خيال الأشياء المادية ذات الجسم كجبل أو بناء أو شجر من حين طلوع الشمس حتى غروبها. وهو دليل الحدوث وتصرف الله فيه على الوجه النافع، مما يدل على أن ذلك فعل الصانع الحكيم. وَلَوْ(19/77)
شاءَ
ربك. ساكِناً ثابتا مقيما على حاله في القدر، فلا يزول ولا تذهبه الشمس بأن يجعل الشمس قائمة على وضع واحد. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي جعلنا الشمس علامة على الظل، فلولا الشمس ما عرف الظل. ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي أزلنا الظل ومحوناه بإيقاع الشعاع عليه تدريجيا قليلا قليلا شيئا فشيئا بمعدل سير الشمس في فلكها وبمقدار ارتفاعها.
لِباساً جعل ظلام الليل ساترا كاللباس. سُباتاً راحة لأبدانكم بقطع الأعمال والمشاغل، من السبت وهو القطع. نُشُوراً ذا نشور، أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش وابتغاء الرزق، أو بعثا من النوم بعث الأموات. بُشْراً مبشرات. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدّام المطر، وقرئ: نشرا أي متفرقة قدّام المطر، جمع نشور كرسول ورسل. طَهُوراً مطهرا يتطهر به، لقوله تعالى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال 8/ 11] وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما يوقد به. وتطهير الظواهر دليل على تطهير البواطن.
بَلْدَةً مَيْتاً أي لا نبات فيها، والميت يستوي فيه المذكر والمؤنث، وذكّر ميتا باعتبار المكان، أي لأن البلدة في معنى البلد. والفرق بين الميت بالتخفيف، والميّت بالتشديد أن الأول لمن مات حقيقة، والثاني لمن سيموت. وَنُسْقِيَهُ أي الماء. أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم.
وَأَناسِيَّ كَثِيراً هم الناس، جمع أنسي. والمراد: أنعاما كثيرة وبشرا كثيرين لأن فعيل يراد به الكثرة.
صَرَّفْناهُ أي الماء بمعنى فرقناه وحولناه من جهة إلى أخرى، ومنه: تصريف الأمور.
لِيَذَّكَّرُوا أي يتذكروا نعمة الله به ويعتبروا. كُفُوراً كفران النعمة وإنكارها وقلة الاكتراث بها، حيث قالوا: مطرنا بنوء كذا أي سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما، ما عدا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع لأنه في سلطانه، وجمعه أنواء.
نَذِيراً نبيا ينذر أهلها ويخوفهم، ولكن بعثناك إلى أهل القرى كلها نذيرا، ليعظم أجرك. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ في هواهم وفيما يريدون منك وهو تهييج له وللمؤمنين. وَجاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن أو بترك طاعتهم الذي يدل عليه. فَلا تُطِعِ والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. جِهاداً كَبِيراً لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان. فُراتٌ مفرط العذوبة. مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة. بَرْزَخاً حاجزا.
وَحِجْراً مَحْجُوراً تنافرا بليغا شديدا أو حدا محدودا. نَسَباً وَصِهْراً أي ذوي نسب وهم الذكور الذين ينسب إليهم، والصهر: أي ذوي صهر وهم الإناث اللائي يصاهر بهن.(19/78)
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى جهل المعرضين عن أدلة التوحيد ومناقشتهم وفساد تفكيرهم في ذلك، ذكر خمسة أدلة دالة بنحو قاطع حسا وعقلا على وجود الصانع الحكيم، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة.
التفسير والبيان:
أورد الحق تعالى أدلة خمسة على وجوده وقدرته من الظواهر الكونية التي يدركها ويشاهدها عيانا كل مخلوق وهي خلق الظل، والليل والنهار، والرياح والأمطار، والبحار المالحة والعذبة، والإنسان من الماء، وهي ما يلي:
1- أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ألم تنظر أيها الرسول وكل سامع إلى صنع ربك الذي يدل على كمال قدرته ومنتهى رحمته كيف بسط الظل، يتفيأ به الناس طوال النهار، وينعمون فيه بالوقاية من شدة حر الشمس، من طلوع الشمس إلى غروبها. ولو شاء لجعله ثابتا دائما على حال واحدة لا يتغير طولا وقصرا، وإنما جعله متفاوتا في ساعات النهار والفصول المختلفة، وفي ذلك فوائد كثيرة للإنسان والنبات والحيوان، ومن فوائده: اتخاذه مقياسا للزمن، حتى إن الفقهاء جعلوه علامة على بعض أوقات الصلاة، كالظهر عند الزوال، أي تحول الظل نحو المشرق وميل الشمس نحو المغرب، والعصر إذا بلغ ظل كل شيء مثله في رأي الجمهور، وعند أبي حنيفة: إذا بلغ ظل كل شيء مثليه.
وهذا على تفسير أَلَمْ تَرَ برؤية العين، والأولى في رأي الرازي حمله على رؤية القلب، والمعنى: ألم تعلم لأن الظل من المبصرات ولكن تأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي.(19/79)
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي ثم جعلنا طلوع الشمس علامة على الظل، فلولا طلوعها لما عرف الظل فإن كل شيء يتميز بضده. وهذا يعني أن الله تعالى خلق الظل أولا، ثم جعل الشمس دليلا عليه. ثم أزلنا الظل وحولناه وغيرنا اتجاهه بضوء الشمس قليلا قليلا وشيئا فشيئا على مهل غير فجأة بحسب سير الشمس وارتفاعها، حتى لا يبقى على الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة، وقد أظلت الشمس ما فوقه.
وفي إيجاد الظل وتغيره بعد شروق الشمس إلى غروبها، وانتقاله من حال إلى حال، وقبضه وبسطه، والتصرف فيه على وفق الحكمة دليل واضح على وجود الإله القادر، الخبير البصير، العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم.
2- وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، وَالنَّوْمَ سُباتاً، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي والله هو الذي جعل ظلام الليل ساترا كاللباس، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل 92/ 1] وجعل النوم كالموت قاطعا للحركة، توفيرا لراحة الأبدان والحواس والأعضاء، بعد إجهاد النهار، وعناء العمل، فبالنوم تسكن الحركات وتستريح الأعصاب والأعضاء والبدن والروح معا.
وجعل تعالى النهار مجالا للانتشار في الأرض، ينتشر فيه الناس لابتغاء الرزق وغيره، ويتوزعون فيه لمعايشهم ومكاسبهم.
وكما أن النوم يشبه الموت، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر 39/ 42] فإن الانتشار واليقظة يشبه البعث، قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
ونظير الآية قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص 28/ 73] .(19/80)
وفي الليل وسكونه، والنوم وراحته، والنهار وحركته دليل واضح على وجود الإله الخالق القادر المتصرف في الكون، ففي ضوء النهار الحياة والبهجة والحركة والعمل، وفي الليل الهدوء والسكون وإعداد النفس للكد والكدح والجهاد، والله تعالى جعل لكل ظرف ما يناسبه تماما ويحقق المقصود على أكمل وجه. وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق، فيها إظهار لنعمته على خلقه لأن في ستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي تشبيه النوم واليقظة بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر.
3- وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي والله تعالى الذي يرسل الرياح مبشّرات بمجيء السحاب وهطول الأمطار.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً أي وأنزلنا مطرا من السماء، أي السحاب وجعلناه طاهرا مطهّرا، أي وسيلة يتطهر بها في تنظيف الأجسام والملابس والأشياء المختلفة، والانتفاع به في الطعام والشراب وسقي النباتات والحيوانات. والطهور: اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما يوقد به.
روى الشافعي وأحمد وصححه، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الماء طهور لا ينجّسه شيء» .
وروى أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لما سئل عن التوضؤ بماء البحر: «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته» .
وقال سعيد بن المسيّب في هذه الآية: أنزله الله طهورا، لا ينجسه شيء.
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي وأنزلناه لإحياء الأرض التي لا نبات فيها، وطال انتظارها للغيث، فتصبح بعد ريها مزدهرة بأنواع النبات والزهر والشجر، كما قال تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
[الحج 22/ 5] .(19/81)
وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي وليشرب منه الحيوان والإنسان المحتاجان إليه أشد الحاجة لبقاء الحياة وسقي الزروع والأشجار، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى 42/ 28] .
والخلاصة: ذكر الله تعالى لمنافع الماء أمرين: إحياء النبات، لقوله:
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وإحياء الحيوان والإنسان لقوله: أَنْعاماً وَأَناسِيَّ.
والسبب في تخصيص الإنسان والأنعام هنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء هو شدة الحاجة، فالطير والوحش تبعد في طلب الماء، وتصبر على فقده أكثر من الناس والحيوان الأهلي، فلا يعوزها الشرب غالبا.
وتنكير الأنعام والأناسي، ووصفهما بالكثرة، لملاحظة أحوال الماشية البعيدة عن منابع الماء، وأهل البوادي الذين يعيشون بالمطر، أما أهل المدن والقرى فيقيمون عادة بقرب الأنهار ومنابع الماء، فهم في غنية عن المطر بشرب المياه المجاورة لهم.
وقدم الأنعام وأخر الإنسان عن النبات والحيوان لشدة حاجة الحيوان وكونه عاجزا عن التعبير عن مراده، أما الإنسان فيتفنن في استخراج الماء بوسائل عديدة، ولأن الناس إذا ظفروا بما يسقي أرضهم ومواشيهم، فقد ظفروا أيضا بسقياهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي ولقد فرقنا المطر وحولناه من جهة إلى أخرى، فأمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب من مكان إلى آخر ليتذكروا نعمة الله ويعتبروا، فإن الحرمان من الشيء ثم الإفاضة به يذكّر بفضل الله ونعمته، فيوجب الشكر، ويدفع الإنسان إلى العظة والعبرة، ولكن أكثر الناس يأبون شكر النعمة، ويكفرون بها(19/82)
ويجحدونها، وينسبون ذلك لغير الخالق الحقيقي، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، أي من النجوم الساقطة أو الطالعة، كما
ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل: «أتدرون ماذا قال ربّكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب» .
وفسر بعضهم قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ أي تصريف القرآن وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال، ليذكر الناس ويتعظوا، ومع ذلك كفر به كثيرون.
وفي إنزال المطر والتحكم فيه من قبل الله دليل على وجوده وقدرته وحكمته، فإذا ما أحيا الله الأرض الميتة به، تذكر الناس أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات، وإذا ما حرم قوم المطر تذكروا أنما أصيبوا بالحرمان بذنب حدث منهم، فيقلعون عما هم عليه، ليتعرضوا إلى رحمة الله. وكما أن المطر نعمة ينبغي أن تذكر فتشكر، هناك نعمة عظمي على الإنسانية وهي إرسال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، فقال تعالى:
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية رسولا منذرا يخوف الناس من عذاب أليم لفعلنا، ولكنا بعثناك يا محمد إلى الثقلين: الجن والإنس، وإلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى 42/ 7] وقال:
قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158]
وجاء في الصحيحين: «بعثت إلى الأحمر والأسود»
أي إلى العجم والعرب.
وفيهما أيضا:
«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»
وعموم البعثة لندّخر(19/83)
لك أيها الرسول عظيم الثواب، وواسع الجزاء، فما عليك إلا الجهاد والصبر، ولا تأبه بإعراضهم عن دعوتك. لهذا قال:
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً أي فلا تتبع الكفار فيما يدعونك إليه من مجاملة أو موافقة لآرائهم ومذاهبهم، وجاهدهم بكل سلاح مادي أو عقلي وهو القرآن جهادا شاملا لا هوادة فيه، متناسبا مع كل فرصة تنتهزها، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 73] . والجهاد الكبير: هو الذي لا يخالطه فتور.
4- وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أي والله الذي جعل البحرين المتضادين متجاورين متلاصقين لا يمتزجان، هذا ماء زلال عذب شديد العذوبة، وهذا مالح شديد الملوحة، ولكن لا يختلط أحدهما بالآخر، كأن بينهما حاجزا منيعا، وكأنهما ضدان مفترقان متنافران لا يجتمعان، ولا يصل أحدهما إلى الآخر، فهما في مرأى العين واحد، ولكنهما في الحقيقة والواقع منفصلان، كما قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 19- 21] وقال: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل 27/ 61] .
أي دليل آخر يدل على قدرة الله الباهرة غير مثل هذا الدليل؟ إن الماء ماء واحد، ولكن الماء العذب لا يختلط بالماء المالح، والله خلق الماءين: الحلو والملح، وجعل الأنهار والعيون والآبار حلوة، وهي البحر الحلو الفرات الزلال، وجعل البحار في المشارق والمغارب والمحيطات الخمس مالحة، وملوحتها سبب لنقاوتها وعدم فسادها، ويتجدد هواء البحر بالمد والجزر، فتستطيع الأسماك في قيعانه العيش بسلام.(19/84)
5- وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أي والله سبحانه الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسواه وعدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكرا وأنثى كما يشاء، فقسمه قسمين: ذكورا تنسب إليهم الأنساب، وإناثا يصاهر بهن، كما قال: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة 75/ 39] وكان الله قديرا بالغ القدرة على كل شيء من هذا وغيره، يخلق ما يريد، وقد أبدع كل شيء خلقه، وأتقن كل ما في الوجود، وهو ما يزال كامل القدرة على الإبداع والخلق والتكوين. وختم الآية بإثبات القدرة هو مسك الختام.
قال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه لأنه جمعه معه نسب وصهر. وقال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.
وهذا دليل آخر على قدرة الله تعالى إذ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوده بطاقات الحس والعقل، والمعرفة والتفكير، وأقدره على مخلوقات الدنيا، وجعلها مذلّلة مسخرة لخدمته ونفعه، فسبحانه من إله بديع الخلق، عجيب الصنع، واهب الوجود، ومبدع الكون العجيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذه الآيات أدلة خمسة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وهي:
أولا- خلق الظل المقابل للشمس وتمديده طوال النهار وانعدامه عند الظهيرة ما عدا سقف البيت والشجر، حكى أبو عبيدة عن رؤبة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل.
والظل نعمة عظمي للأحياء والعقلاء في كل مكان، لا سيما في البلاد الحارة، ففيه الراحة والهدوء، وتوقي الحر، أو الوقاية من ضربات الشمس الحادّة، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ [النحل 16/ 48] .(19/85)
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم، أي من رؤية القلب. والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلّى الله عليه وسلم فهو عام في المعنى.
والشمس دليل على الظل لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، فالشمس دليل، أي حجة وبرهان.
ويتفاوت طول الظل وقصره أثناء النهار تفاوتا سهلا يسيرا، شيئا فشيئا، والله هو الذي يقبضه بيسر وسهولة، وكل أمر ربنا عليه يسير.
ثانيا- الليل ستر للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن، والنوم راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال، والنهار ذو نشور، أي انتشار للمعاش، فهو سبب الإحياء للانتشار. والنوم ليلا يشبه الإماتة، واليقظة نهارا تشبه البعث،
وكان صلّى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» .
ثالثا- الرياح مبشّرات بهطول المطر، تقود السحب من مكان إلى آخر، والأمطار الهاطلة حياة الأبدان والنباتات والحيوانات، وهي ماء طهور أي ما يتطهر به، والمراد أنه مطهر. وأجمعت الأمة على أن وصف (طهور) يختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات، وهي طاهرة.
والمياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة، على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. والمخالط للماء ثلاثة أنواع: نوع يوافقه في صفتيه جميعا وهو التراب طاهر مطهر، ونوع يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيّره سلبه صلاحية التطهير وهو ماء الورد وسائر المائعات الطاهرات، ونوع يخالفه في الصفتين جميعا، وهو النجس.
ويرى الجمهور أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، والكثير لا يفسده إلا(19/86)
ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه من النجاسات. ويرى أبو حنيفة أنه إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته، كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت النجاسة فيه، فإن وقعت نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس.
وميّز الشافعية بين القليل والكثير بمقدار القلتين (15 صفيحة) فإذا بلغ الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة، ولم تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فهو طاهر مطهر، وإذا غيرت أحد أوصافه، ولو تغيرا يسيرا فنجس
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر: «إذا بلغ الماء قلّتين، لم يحمل الخبث» أو «لم ينجس»
قال الحاكم: على شرط الشيخين: البخاري ومسلم.
ولا حدّ عند المالكية بين القليل والكثير، والمرجع فيه إلى العرف والعادة، فما هو قدر آنية الوضوء والغسل قليل يسير، وما يزيد عن ذلك كثير.
ولا يضر تغير الماء بما في مقره وممره كزرنيخ وطحلب وورق شجر ينبت عليه. وكذلك لا يضر ما مات في الماء مما لا دم له، أو له دم سائل من دواب الماء، كالحوت والضفدع إن لم يغيّر ريحه.
والماء المستعمل القليل في رفع حدث أو إزالة نجس طاهر مطهر عند المالكية، وطاهر غير مطهر عند الجمهور. ودليل المالكية: الآية التي وصفت الماء بالطهور والمطهر، والأصل في الثابت بقاؤه، والسنة وهو
أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده، وأنه توضأ فأخذ من بلل لحيته، فمسح به رأسه،
والقياس: وهو أنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا، فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا. ودليل الجمهور
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم «1» وهو جنب»
ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى.
__________
(1) الماء الدائم: هو الراكد الساكن.(19/87)
والقياس وهو أن الصحابة كانوا يتوضئون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه، مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة. «1»
والماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات: هو الماء الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كماء الورد، ولا يضره لون أرضه، كما بينا.
ولا بأس في مذهب الجمهور أن يتوضأ الرجل بفضل ماء وضوء المرأة وتتوضأ المرأة من فضل ماء وضوء الرجل، سواء انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا.
رابعا- أرسل الله البحرين: العذب والمالح، وجعلهما متجاورين متلاصقين لا يمتزجان ولا يختلطان، وجعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، وسترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ: الحاجز، والحجر: المانع.
خامسا- خلق الله تعالى من النطفة إنسانا، وجعل من الإنسان صنفين: الذكر والأنثى، وجعل الذكر موضع نسبة النسب، والأنثى سببا للمصاهرة، وإيجاد قرابات جديدة، فكل من النسب والصهر قرابة ويعمان كل قربى بين آدميين.
وتضمنت الآيات أيضا بالإضافة إلى الاستدلال بها على قدرة الله تعداد النعم على بني الإنسان من إيجاد الظل، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال الأمطار،
__________
(1) تفسير الرازي: 24/ 92(19/88)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
وخلق الماءين: الحلو والمالح، وتسخير البحار والأنهار لسير المراكب وتنقل الناس، وإيجاد الإنسان بعد العدم، والتنبيه على العبرة في كل ذلك.
كما تضمنت الآيات بيان فضله تعالى في إنزال القرآن على تفسير التصريف بتصريف آيات القرآن وترداد الحجج والبينات فيه، وفي بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم لجميع العالم في الشرق والغرب، فهاتان هما النعمتان العظيمتان على بني الإنسان، وعلى التخصيص المسلمين.
وإذا لم يكن النسب ثابتا شرعا لم تثبت حرمة المصاهرة، وعليه قال الجمهور: إذا لم يكن نسب شرعا، فلا صهر شرعا، فلا يحرّم الزنى بنت أم ولا أمّ بنت، ولا بنتا من الزنى، وما يحرّم من الحلال لا يحرّم من الحرام لأن الله امتنّ بالنسب والصهر على عباده، ورفع قدرهما، وعلّق الأحكام في الحل والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما. وقال الحنفية: تحرم البنت من الزنى أو الأخت أو بنت الابن من الزنى بسبب التولد من ماء الرجل.
جهل المشركين في عبادة الأوثان وتوجيه النبي وسبب جعل العبادة للرحمن
[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 62]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)(19/89)
الإعراب:
وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ... أي على معصية ربه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ مِنْ في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وإِلى رَبِّهِ أي إلى قربة ربه، فحذف المضاف.
وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفاك الله، فحذف المفعول الذي هو الكاف، والباء:
زائدة، وخَبِيراً تمييز أو حال.
الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الرَّحْمنُ: إما خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن، أو مبتدأ، وفَسْئَلْ بِهِ خبره، أو الخبر الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أو بدل من ضمير اسْتَوى.
ويجوز النصب على المدح، والجر على البدل من الْحَيِّ وخَبِيراً: مفعول اسأل، وهو وصف لموصوف محذوف، تقديره: فاسأل به إنسانا خبيرا، والباء بمعنى (عن) مثل: فإن تسألوني بالنساء أي عن النساء.
أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ما: إما اسم موصول، والتقدير: للذي تأمرنا به، فحذف حرف الجر ثم الهاء العائدة إلى الاسم الموصول. وإما مصدرية، فلا يكون هناك شيء محذوف.
المفردات اللغوية:
وَيَعْبُدُونَ أي الكفار. ما لا يَنْفَعُهُمْ بعبادته. وَلا يَضُرُّهُمْ بتركها، وهو الأصنام. ظَهِيراً معينا للشيطان بالعداوة والشرك. مُبَشِّراً بالجنة. وَنَذِيراً مخوّفا من النار. أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ ما أرسلت به. إِلَّا مَنْ شاءَ أي لكن فعل من أراد.
سَبِيلًا طريقا بإنفاق ماله في مرضاته تعالى، فلا أمنعه من ذلك، أو إلا من أراد أن يتقرب(19/90)
إلى ربه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة. وفيه إشعار بأن الطاعة تعود على صاحبها بالثواب.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ نزّهه عن صفات النقصان وصفه بصفات الكمال، قائلا: سبحان الله والحمد لله. خَبِيراً عالما بالظاهر والباطن. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي قدر ستة أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهن في لمحة واحدة، ولكنه عدل إلى ذلك لتعليم خلقه التثبت والتأني في الأمر والتدرّج.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استوى استواء يليق به على العرش الذي هو أعظم من خلق السموات والأرض وأعظم المخلوقات، وليس خلق العرش بعد خلق السموات لقوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود 11/ 7] .
فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي اسأل بالرحمن أي عن الرحمن خبيرا يخبرك بصفاته. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ لكفار مكة أي قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، فهو الآمر بالسجود. لِما تَأْمُرُنا للذي تأمرنا به أي تأمرنا بسجوده. وَزادَهُمْ هذا القول نُفُوراً إعراضا عن الإيمان.
تَبارَكَ تعاظم. بُرُوجاً منازل الكواكب السيارة الاثني عشر المعروفة وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، المجموعة في قول الشاعر:
حمل الثور جوزة السّرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان
ورمى عقرب بقوس لجدي ... نزح الدلو بركة الحيتان
وهي منازل الكواكب السيارة السبعة وهي المرّيخ: وله الحمل والعقرب، والزّهرة: ولها الثور والميزان، وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة، والقمر: وله السرطان، والشمس: ولها الأسد والمشتري: وله القوس والحوت، وزحل: وله الجدي والدلو. ونظم الشاعر هذه الكواكب بقوله:
زحل شرى مرّيخه من شمه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار
وسميت بالبروج وهي لغة: القصور العالية للتشبيه بها، فهي للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها.
سِراجاً هو الشمس، وقرئ: سرجا بالجمع وهي الشمس والكواكب الكبار فيها. وَقَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل، وقرئ: قمر جمع قمراء، وخص الشمس والقمر بالذكر لفضيلتهما.
خِلْفَةً أي يخلف كل منهما الآخر بأن يأتي بعده ويقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه. أَنْ يَذَّكَّرَ أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه، فيعلم أنه لا بدّ له من صانع حكيم واجب الذات رحيم بالعباد، ويتذكر أيضا ما فاته في أحدهما من خير فيفعله في الآخر. أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر الله على ما فيه من النعم.(19/91)
المناسبة:
بالرغم مما أبان الله تعالى من أدلة التوحيد في ظواهر الكون، فإن المشركين ظلوا يعكفون على عبادة الأصنام، فأخبر تعالى عن جهلهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، بلا دليل ولا حجة في ذلك، بل بمجرد التقليد والهوى والتشهي، تاركين اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي جاء يبشرهم بالخير إن أطاعوا، وينذرهم بالعذاب إن عصوا وأعرضوا، وهو لا يبتغي على ذلك أجرا.
ثم وجه الله تعالى رسوله بأن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت، العالم بجميع المعلومات، القادر على كل الممكنات، فلا يرهب جانب المشركين ولا يخشى بأسهم، وأمره أيضا بأن ينزه ربه عن كل صفات النقص كالشريك والولد، ويصفه بجميع صفات الكمال، وأبان له أن وجوب السجود والعبادة لا يكون إلا للرحمن الذي خلق الكواكب السيارة وجعل لها منازل، وجعل الليل والنهار في تعاقب دائم للتذكر وتوجيه الشكر لله تعالى.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن ضلال المشركين عن عبادة الله وجهلهم وكفرهم بربهم فيقول:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ أي ويعبد المشركون آلهة من غير الله لا تنفعهم عبادتها، ولا يضرهم هجرها وتركها، ولا دليل لهم على ذلك إلا مجرد الهوى والتشهي، ويتركون عبادة من أنعم عليهم بالنعم السابق ذكرها في الآيات من مدّ الظل وغيره.
وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي وكان الكافر على معصية ربه معينا للشيطان بالعداوة والشرك أو يعينه على معصية الله. والمراد: جنس الكافر وهو عام في كل كافر.(19/92)
قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام. لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأولى حمل لفظ الْكافِرُ على العموم، ولأنه أوفق لظاهر قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي أن المشركين قوم حمقى جهال، فكيف يعينون الشيطان على معصية الله ورسوله، مع أن الله أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم ليبشر من أطاعه بالجنة، وينذر من عصاه بالنار؟ وأما أنت أيها الرسول فلا تأبه بعنادهم وكفرهم، فما أنت إلا نذير وبشير، وعلى الله الحساب والعقاب، فلا تحزن على عدم إيمانهم. وهل من جهل أعظم من الإمعان في إيذاء من يريد نفعهم في الدنيا والآخرة؟! ونظير الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] .
وهو يريد نفعهم بمحض الإخلاص دون أن يبغي لنفسه نفعا من أجر أو غيره، لذا قال تعالى: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب على هذا البلاغ وهذا الإنذار أجرة من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. ومِنْ للتأكيد.
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي لم أسألكم أجرا أبدا، لكن من أراد أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد والتطوعات وغيرها، ويتخذ إلى ربه طريقا يؤدي به إلى رحمته ونيل ثوابه، بالعمل الصالح، فليفعل ولا يتردد.
والمراد: لا تصنعوا معي إحسانا بأجر تدفعونه لي، ولكن اطلبوا الأجر لأنفسكم بفعل الخير وعبادة الله وشكره.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ بعد أن بيّن سبحانه(19/93)
لرسوله أن الكفار متظاهرون على إيذائه، مع أنه لا يطلب منهم أجرا مطلقا، أمره بأن يتوكل عليه في أموره كلها لدفع جميع المضار، وجلب جميع المنافع، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر، وناصره، ثم أمره بأن ينزهه عن كل نقص كالشريك والولد، تنزيها مقترنا بحمده وشكره، فيقرن بين الحمد والتسبيح، قائلا: سبحان الله وبحمده، ولهذا
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك»
أي أخلص له العبادة والتوكل. ومعنى التوكل:
تفويض الأمر كله لله بعد اتخاذ الأسباب والوسائط المطلوبة شرعا وعقلا.
وللآية نظائر كثيرة مثل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمّل 73/ 9] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 11/ 123] قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك 67/ 29] .
وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفاك الله عالما علما تاما بمعاصي عباده، لا تخفى عليه خافية، يعلم ما ظهر منها وما بطن، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد 57/ 3] . وفي هذا سلوة لرسوله، ووعيد للكفار إن لم يؤمنوا على كفرهم ومعاصيهم.
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي أن الله الخبير العليم بكل شيء هو الذي أوجد السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام بقدرته وسلطانه، ثم استوى على العرش أعظم المخلوقات استواء يليق بعظمته، كما يقول السلف، وهو الأصح، واستولى على العرش كما يقول الخلف، يدبر الأمر، ويقضي بالحق، وهو خير الفاصلين. وكلمة ثُمَّ للترتيب الإخباري، لا للترتيب الزمني لأنها ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات.(19/94)
الرَّحْمنُ، فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي إن ذلك الخالق هو العظيم الرحمة بكم، فلا تتكلوا إلا عليه، واستعلم أيها السامع من هو خبير به، عالم بعظمته، فاتبعه واقتد به. ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فما قاله فهو الحق، وما أخبر به فهو الصدق، وهو الإمام المحكم فيما يتنازع فيه البشر: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم 53/ 4] .
تبين مما ذكر أن الله سبحانه لما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يتوكل عليه، وصف نفسه بأمور ثلاثة هي:
الأول- أنه حي لا يموت، وهو قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ.
الثاني- أنه عالم بجميع المعلومات، وهو قوله: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً.
الثالث- أنه قادر على جميع الممكنات، وهو المراد من قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لأنه لما كان هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ولا خالق سواه، ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضارّ، وأن النعم كلها من جهته، فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه.
أما الكفار فقابلوا الشكر والتوكل بالكفر والاعتماد على النفس، فقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ أي وإذا طلب منهم السجود لله الرحمن الرحيم، وعبادته وحده دون سواه، قالوا: لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسم الرَّحْمنُ وإذا كنا لا نعرف الرحمن فكيف نسجد له. وهذا شبيه بقول موسى لفرعون: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 104] فقال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء 26/ 23] .(19/95)
أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً أي أنسجد للذي أمرتنا بالسجود له، لمجرد قولك، من غير أن نعرفه، وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وإعراضا، وبعدا عن الحق والصواب، ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول.
وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان يشرع السجود عندها لقارئها ومستمعها. وهذا شأن المؤمنين الذين يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويفردونه بالألوهية، ويسجدون له. روى الضحاك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فهذا هو المراد من قوله: وَزادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفورا.
وبعد أن حكى سبحانه عن الكفار مزيد النفرة عن السجود، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن، فقال:
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً يمجّد الله تعالى نفسه ويعظمها على جميل ما خلق في السموات، فيذكر أنه تعاظم وتقدس الله الذي جعل في السماء كواكب عظاما ومنازل لتلك الكواكب السيارة وغيرها، التي عدها المتقومون ألفا، ورصدتها الآلات الحديثة أكثر من مائتي ألف ألف، وجعل في السماء سراجا وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود، كما قال: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً [النبأ 78/ 13] وجعل في السماء أيضا قمرا منيرا، أي مشرقا مضيئا، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس 10/ 5] .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي والله هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ويأتي بعده، توقيتا لعبادة عباده له عز وجل. فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار،(19/96)
ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل، فيكون في ذلك عظة لمن أراد أن يتذكر ما يجب عليه، ويتفكر في آلاء الله وعجائب صنعه، ويشكر ربه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
جاء في الحديث الصحيح لدى الشيخين: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» .
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، وقد فاتته قراءة القرآن بالليل: «يا ابن الخطاب، لقد أنزل الله فيك آية وتلا:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً.
ما فاتك من النوافل بالليل، فاقضه في نهارك، وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك» . وروى أبو داود الطيالسي عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال: أقضيه، وتلا هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً.
وهذه الآية وما قبلها من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته ووجوده.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- إن مما يثير العجب والدهشة أن الله تعالى بعد أن عدد النعم وبيّن كمال قدرته، وجد المشركين باقين على إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضرر، بسبب جهلهم وعنادهم، وشأن الكافر أنه معين للشيطان على المعاصي.
2- لا سلطان للرسول صلّى الله عليه وسلم في مجال الإيمان والطاعة على أحد، وإنما تقتصر مهمته على تبشير من أطاعه بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار، يفعل ذلك بمحض الإخلاص وحب الخير للناس، دون أن يطلب على التبليغ والإنذار أو الوحي والقرآن أجرا ولا جزاء ولا شكورا.(19/97)
لكن باب التنافس في القربات والمبادرة إلى الخيرات مفتوح على مصراعيه، فمن أراد أن ينفق من ماله في سبيل الله من جهاد وصدقات وغيرها فليفعل.
3- على الرسول صلّى الله عليه وسلم وكل مؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائط أن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت. والتوكل: اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. ويجب تنزيه الله تعالى عما يصفه الكفار به من الشركاء، فيقول الواحد: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم أستغفر الله، كما ورد في المأثور. والتسبيح: التنزيه.
وحسبك أيها الإنسان أن الله عليم بكل شيء من أمورك ظاهرها وباطنها، فيجازيك عليها خيرا أو شرا.
4- إن الله تعالى هو الحي الدائم الباقي الذي لا يموت ولا يفنى، وهو عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات.
5- الله سبحانه هو خالق كل شيء، خلق جميع السموات في ارتفاعها واتساعها، وخلق جميع الأرضين في سفولها وكثافتها. وقد أتم خلق السماء والأرض في ستة أيام لتعليم الناس التثبت والتروي والتؤدة. وخلق العرش واستوى عليه استواء يليق بجلاله وكماله وعظمته، وما على الجاهل إلا أن يسأل خبيرا بالله من رسول أو عالم، ثم يتبعه ويقتدي به.
قال الرازي في تفسير قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: الاستقرار غير جائز لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب والبعضية، وكل ذلك على الله محال، بل المراد: ثم خلق العرش ورفعه على السموات، وهو مستول، كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [محمد 47/ 31] فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون. وليس خلق العرش بعد خلق السموات(19/98)
لقوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود 11/ 7] وكلمة ثُمَّ ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات.
6- استبد العناد والاستكبار بالمشركين أنه إذا طلب منهم السجود للرحمن، قالوا على جهة الإنكار والتعجب: وما الرحمن؟ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة الكذاب، أنسجد لما تأمرنا أنت يا محمد؟ وزادهم هذا الأمر نفورا عن الدين، ومن شأنه حملهم على الفعل والقبول. كان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا.
7- من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته: جعله في السماء بروجا، أي منازل للكواكب العظام كالزّهرة والمشتري وزحل والسماكين ونحوها، وجعله فيها الشمس ضياء والقمر نورا ينير الأرض إذا طلع، وجعله الليل والنهار في تعاقب دائم في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، لا عبثا وإنما ليتذكر المقصر تقصيره والمسيء إساءته، فيصلح ما بدر منه، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. قال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
ففي الليل دعة وسكون وهدوء يستدعي التذكر، وفي النهار حركة وتصرف وانشغال قد يشغل عن التذكر، أو يكون سببا لتذكر ما مر من الليل بالنوم، فيستدرك المؤمن ما فاته في أحدهما من الخير في وقت الآخر، فهما وقتان للمتذكرين والشاكرين، والله يتقبل عمل الليل وعمل النهار، فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
ثم إن سكون الليل والتصرف بالنهار نعمة تستحق الشكر، كما قال تعالى:
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص 28/ 73] .(19/99)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
صفات عباد الرحمن
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 77]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّيدُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(19/100)
الإعراب:
وَعِبادُ الرَّحْمنِ: مبتدأ، وخبره: الَّذِينَ يَمْشُونَ.
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ إلى قوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مبتدأ، وخبره أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ.
قالُوا: سَلاماً منصوب على المصدر أي (تسليما) فسلام في موضع تسليم.
وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً اسم كانَ مضمر فيها، وقَواماً خبرها، أي كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار. ويجوز جعل بَيْنَ متعلقا بخبر كانَ أي كائنا بين ذلك، فيكون قَواماً خبرا بعد خبر.
يُضاعَفْ بالجزم: بدل من يَلْقَ أَثاماً والفعل يبدل من الفعل، كما يبدل الاسم من الاسم. ويقرأ بالضم على أنه في موضع الحال، أو على الاستئناف والقطع مما قبله.
مَتاباً منصوب على المصدر، وهو مصدر مؤكد. وأصله: متوب، فنقلت الفتحة من الواو إلى التاء، فتحركت في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.
كِراماً حال من واو مَرُّوا.
صُمًّا وَعُمْياناً حال من واو لَمْ يَخِرُّوا.
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً إِماماً أي إماما واحدا أريد به الجمع، أي أئمة كثيرا، واكتفى بالواحد عن الجمع للعلم به، كقولهم: نزلنا الوادي فصدنا غزالا كثيرا، أي غزلانا. ويجوز أن يكون جمع (آمّ) على وزن فاعل، وفاعل يجمع على فعال نحو قائم وقيام وصاحب وصحاب.
لِزاماً خبر يَكُونُ واسمها مضمر فيها، وتقديره: فسوف يكون التكذيب لزاما لدلالة قوله: كَذَّبْتُمْ.
البلاغة:
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الإضافة للتشريف والتكريم.
سُجَّداً وَقِياماً ولَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا بين كلّ طباق.
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مقابلة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.(19/101)
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً استعارة، استعار لمن لم يتغافل عن الهداية والإنذار حال من لا يسمع ولا يبصر.
قُرَّةَ أَعْيُنٍ كناية عن الفرحة والسرور، وكذلك الْغُرْفَةَ كناية عن الدرجات العالية في الجنة.
المفردات اللغوية:
هَوْناً الهون: اللين والرفق، والمراد أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار، دون تكبر ولا تجبر. الْجاهِلُونَ السفهاء. سَلاماً أي تسليم متاركة بلا خير ولا شر، أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. يَبِيتُونَ يدركون الليل، ناموا أو لم يناموا. سُجَّداً جمع ساجد. وَقِياماً أي قائمين يصلون بالليل. وخصّ البيتوتة لأن العبادة بالليل أبعد عن الرياء، وأكثر خشوعا وقربة إلى الله تعالى.
غَراماً لازما لا يفارق لأنه عذاب دائم، وهو إشارة إلى أنهم مع اجتهادهم في عبادة الحق خائفون من العذاب، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم، لعدم اعتدادهم بأعمالهم. ساءَتْ بئست. مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع استقرار وإقامة. والجملة تعليل لما سبق.
أَنْفَقُوا على عيالهم وأنفسهم. لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا لم يجاوزوا الحدّ المعتاد، ولم يضيقوا تضييق الشحيح، والقتر والإقتار والتقتير: البخل. وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي كان الإنفاق بين الإسراف والإقتار وسطا عدلا. وقرئ بكسر القاف أي ما يقام به الحاجة، لا يفضل عنها ولا ينقص، وهو ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
لا يَدْعُونَ لا يعبدون ولا يشركون. حَرَّمَ اللَّهُ أي حرّمها بمعنى حرّم قتلها.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ واحدا من الثلاثة. أَثاماً عقوبة وجزاء إثم في الآخرة، والآثام: الإثم، والمراد جزاؤه. يُضاعَفْ وفي قراءة: يضعّف، وسبب مضاعفة العذاب انضمام المعصية إلى الكفر. مُهاناً ذليلا مستحقرا. يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي في الآخرة. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي ولم يزل متصفا بذلك، فيعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات. وَمَنْ تابَ من ذنوبه أو معاصيه، بتركها والندم عليها. وَعَمِلَ صالِحاً يتلافى به ما فرط. فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يرجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله، ماحيا للعقاب، ومحصلا للثواب، فيجازيه عليه. وهذا تعميم بعد تخصيص.
لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يقيمون الشهادة الباطلة أو الكاذبة، والزُّورَ الكذب والباطل، والمقصود: لا يعينون أهل الباطل على باطلهم. بِاللَّغْوِ ما يجب أن يلغى ويطرح(19/102)
من الكلام القبيح وغيره. مَرُّوا كِراماً معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب.
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي وعظوا بالقرآن. لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها يسقطوا، والخرور: السقوط على غير نظام ولا ترتيب. صُمًّا وَعُمْياناً المراد: لم يقيموا عليها غير واعين ولا متبصرين بما فيها، كمن لا يسمع ولا يبصر، بل أقبلوا عليها سامعين بآذان واعية، مبصرين ناظرين منتفعين. قُرَّةَ أَعْيُنٍ لنا بأن نراهم مطيعين لك، والمراد: الفرح والسرور بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل، فإن المؤمن يسرّ قلبه بطاعة أهله وأولاده لربهم، ليلحقوا به في الجنة.
ومِنْ في قوله: مِنْ أَزْواجِنا.. ابتدائية أو بيانية. وتنكير الأعين للتعظيم، والإتيان بجمع القلة في كلمة أَعْيُنٍ لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم.
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً في الخير، يقتدون بنا في أمر الدين، بإفاضة العلم والتوفيق للعمل.
وأفرده، وأراد به الجمع، أي أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين، لأنه يستعمل للمفرد والجمع.
الْغُرْفَةَ كل بناء مرتفع عال، والمراد الدرجة العليا في الجنة أو أعلى مواضع الجنة، وهي اسم جنس أريد به الجمع، لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ 34/ 37] .
بِما صَبَرُوا بصبرهم على المشاق والقيام بطاعة الله. وَيُلَقَّوْنَ فِيها بالتشديد، والتخفيف، أي يلقون في الغرفة. تَحِيَّةً وَسَلاماً من الملائكة، أي تحييهم الملائكة ويسلمون عليهم، وهو دعاء بالتعمير والسلامة. أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع استقرار وإقامة دائمة لهم.
قُلْ يا محمد لأهل مكة ما يَعْبَؤُا بِكُمْ ما يعتدّ بكم ولا يبالي ولا يكترث، وما:
نافية. دُعاؤُكُمْ إياه في الشدائد، فيكشفها، أو عبادتكم له تعالى، فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي كيف يعبأ بكم وقد كَذَّبْتُمْ الرسول والقرآن. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي سوف يكون العذاب وجزاء التكذيب ملازما لكم في الآخرة حتى يقذفكم في النار، بعد ما يحلّ بكم في الدنيا، فقتل منهم يوم بدر سبعون. وجوابدلّ عليه ما قبله، أي لولا دعاؤكم لم يبال بكم.
سبب النزول:
نزول الآية (68) :
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ:
أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت(19/103)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك» ، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» ، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.
وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: غَفُوراً رَحِيماً. ونزل: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية [الزمر 39/ 53] .
سبب نزول الآية (70) :
إِلَّا مَنْ تابَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلها آخر، وأتينا الفواحش، فنزلت: إِلَّا مَنْ تابَ الآية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة، وإعراض الكافرين عن السجود له، بالرغم من اطلاعهم على دلائل التوحيد والقدرة الإلهية، ذكر صفات المؤمنين عباد الرحمن التي استحقوا من أجلها أعلى منازل الجنان، وأنه خصّ اسم العبودية بالمشتغلين بالعبادة، مما يدل على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره وقلبه ولسانه بما أمره، فهو الذي يستحق اسم العبودية.(19/104)
ووصفهم سبحانه بتسع صفات كما ذكر الرازي، وقال القرطبي: وصف تعالى عباد الرحمن بإحدى عشرة صفة حميدة من التحلّي والتخلّي، وهي: (التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والبعد عن الزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله) .
ثم بيّن الله تعالى جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة التي هي الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا «1» .
التفسير والبيان:
هذه صفات عباد الله المؤمنين عباد الرحمن الذين استحقوا أعلى الدرجات في الجنة، وهي في الجملة تسع صفات:
1- التواضع: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي وعباد الله المخلصين الربانيين الذين لهم الجزاء الحسن من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار، من غير تجبر ولا استكبار، يطؤون الأرض برفق، ويعاملون الناس بلين، لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا، كما قال تعالى حاكيا وصية لقمان لابنه: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان 31/ 18] .
وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء، وإنما بعزة وأنفة هي عزة المؤمن المتواضع لله وحده، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «2» ، وكأنما الأرض تطوى له.
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 83.
(2) أي كأنما ينحدر من مكان عال مرتفع.(19/105)
وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا، فقال: مالك أأنت مريض؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدّرة، وأمره أن يمشي بقوة.
وإنما المراد بالهون هنا: السكينة والوقار، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة: «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها، وعليكم السكينة، فما أدركتم منها فصلوا، وما فاتكم فأتموا» .
وروي أيضا أن عمر رضي الله عنه رأى غلاما يتبختر في مشيته، فقال: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله، وقد مدح الله أقواما فقال: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
فاقصد في مشيتك.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] .
2- الحلم أو الكلام الطيب: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء، لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص 28/ 55] .
قال النحاس: ليس سَلاماً من التسليم، إنما هو من التسلّم، تقول العرب:
سلاما، أي تسلّما منك، أي براءة منك.
وروى الإمام أحمد عن النعمان بن مقرّن المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وسبّ رجل رجلا عنده، فجعل المسبوب يقول: عليك السلام-: «أما إن ملكا بينكما يذبّ عنك، كلما شتمك هذا، قال له: بل أنت، وأنت أحقّ به، وإذا قلت له: وعليك السلام قال: لا، بل عليك، وأنت أحق به» .(19/106)
وقوله: قالُوا: سَلاماً يعني قالوا سدادا، أو ردوا معروفا من القول.
وقال الحسن البصري: قالوا: سلام عليكم: إن جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون.
هاتان صفتان بينهم وبين الناس وهما ترك الإيذاء وتحمل الأذى، ثم ذكر الله تعالى صفاتهم فيما بينه وبينهم فقال:
3- التهجد ليلا: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي أن سيرتهم في الليل كسيرتهم في النهار، فنهارهم خير نهار، وليلهم خير ليل، فإذا أمسوا أو أدركوا الليل باتوا ساجدين قائمين لربهم، يصلّون بعض الليل أو أكثره، طائعين عابدين، كما قال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات 51/ 17- 18] ، وقال سبحانه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة 32/ 16] ، وقال عزّ وجلّ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر 39/ 9] .
قال ابن عباس: من صلّى ركعتين أو أكثر بعد العشاء، فقد بات لله ساجدا وقائما.
4- الخوف من عذاب الله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ أي والذين يخافون ربّهم ويدعونه في وجل، ويقولون في حذر: ربّنا أبعد عنا عذاب جهنّم وشدته، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون 23/ 60] . ثم ذكر تعالى أن علة سؤالهم ودعائهم شيئان:
الأول- إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي إن عذابا كان ملازما دائما للإنسان العاصي، لزوم الدائن الغريم لمدينه، أو هلاكا وخسرانا لازما.(19/107)
الثاني- إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي إن جهنم بئس المنزل مستقرا ومنظرا يستقر فيه، وبئس المقيل مقاما. وهذا أمر لا شك فيه يعلمه كل من اكتوى بشيء من نار الدنيا.
5- الاعتدال في الإنفاق: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي والذين إذا أنفقوا على أنفسهم أو عيالهم ليسوا بالمبذّرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا بالبخلاء، فيقصرون في حقهم وفيما يجب عليهم، بل ينفقون عدلا وسطا خيارا، بقدر الحاجة، وخير الأمور أوسطها، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] أي الوسطية في الاعتدال، وترك الإسراف والتقتير.
وهذا أساس الاقتصاد وعماد الإنفاق في الإسلام،
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» .
وروى الحافظ أبو بكر البزّار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في العبادة» .
فالتبذير سبب في ضياع مال الشخص ومال الأمة: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء 17/ 27] ومن المعلوم أنه لا سرف في الخير، ولا خير في السرف، قال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر:
الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا(19/108)
ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله.
وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من السّرف أن تأكل كل ما اشتهيت» .
ثم ذكر الله تعالى صفات سلبية بعيدة عن المؤمنين، وإنما هي من صفات المشركين والفاسقين فقال:
6- البعد عن الشرك والقتل والزنى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيجعلون مع الله في عبادتهم شريكا آخر، وإنما يخلصون له الطاعة والعبادة، ولا يقتلون النفس عمدا إلا بحق، كالكفر بعد الإيمان، والزنى بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق، ويكون القتل بحكم الحاكم أو القاضي لا برأي شخصي، ولا يزنون، وهذه أعظم الجرائم: الشرك، والقتل العمد العدوان، والزنى، والجريمة الأولى عدوان على الله، والثانية عدوان على الإنسانية، والثانية عدوان على الحقوق وانتهاك للأعراض.
فإذا جعلنا هذه الصفات ثلاثا، صارت إحدى عشرة، كما ذكر القرطبي. ثم توعد الله تعالى مرتكب هذه الجرائم فقال:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ومن يفعل واحدة من تلك الجرائم الثلاث، يلق في الآخرة عقابا شديدا وجزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل يضاعف له العذاب ضعفين بسبب انضمام المعصية إلى الكفر، ويخلد في نار جهنم أبدا مع الإهانة والإذلال والاحتقار، وذلك عذابان: حسي ومعنوي.
ثم فتح الله تعالى باب التوبة للترغيب في الإصلاح والعودة إلى الاستقامة فقال:
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لكن من تاب في الدنيا إلى الله عزّ وجلّ عن جميع ذلك بأن أقلع عن(19/109)
الذنب، وندم على المعصية، وكان مؤمنا مصدقا بالله ورسله واليوم الآخر، وعمل الصالحات، فأولئك يمحو الله عنهم بالتوبة السيئات، ويبدلهم مكانها حسنات بإثبات لواحق الطاعة، أو تنقلب تلك السيئات الماضية بنفس التوبة حسنات.
روى أبو ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن السيئات تبدل بحسنات»
وروى أحمد والترمذي والبيهقي عن معاذ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»
وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] .
والخلاصة: في معنى قوله يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قولان «1» :
القول الأول- أنهم بدّلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا، وبالكفر إسلاما. أي أن التبديل يكون في الدنيا، وأثره في الآخرة.
والقول الثاني- أن تلك السيئات تنقلب بالتوبة النصوح نفسها حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم، واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، أي أن التبديل يكون في الآخرة.
والظاهر القول الأول، وأن التوبة تجبّ ما قبلها، وتفتح للتائب صفحة جديدة، فيثاب على الأعمال الصالحة، ويعاقب على السيئات، كغيره من المؤمنين.
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي ومن تاب عن معاصيه، وعمل الأعمال الصالحة، فإن الله يقبل توبته، لأنه رجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله، فيمحو عنه العقاب، ويجزل له الثواب.
__________
(1) تفسير الرازي: 24/ 112، تفسير ابن كثير: 3/ 327.(19/110)
وهذا تعميم لقبول التوبة عن جميع المعاصي، بعد تخصيص قبولها ممن تاب عن كبائر المعاصي السابقة التي هي الشرك والقتل العمد والزنى.
وللآية نظائر كثيرة، مثل قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] وقوله سبحانه: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53] .
7- البعد عن شهادة الزور أو تجنب الكذب: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي الذين لا يشهدون شهادة الزور وهي الكذب متعمدا على غيره، أو لا يحضرون مواضع الكذب، قال ابن كثير:
والأظهر من السياق أن المراد لا يحضرون الزور، ولهذا قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرّوا، ولم يتدنسوا منه بشيء. ونظير الآية: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 55] .
والواقع أن الآية تدل على أمرين: تحريم شهادة الزور وتجنب مجالس اللغو أو العفو عن المسيء، ويستدل بها الفقهاء على الأمر الأول، كما
ورد في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»
فما يزال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخّم وجهه (يطليه بالسواد) ويحلق رأسه، ويطوّف به السوق.
8- قبول المواعظ: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي والذين إذا ذكّروا بالآيات، أكبّوا عليها حرصا على استماعها،(19/111)
وأقبلوا على من ذكّرهم بها بآذان صاغية واعية، وعيون مبصرة متفتحة، وقلوب مستوعبة، لا كالكفار والمنافقين والعصاة من المؤمنين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به، ولم يغيروا ما هم عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم، وجهلهم وطغيانهم، كأنهم صمّ عمي، كما قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] .
9- الابتهال إلى الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي والذين يبتهلون إلى ربّهم داعين الله أن يرزقهم زوجات صالحات وأولادا مؤمنين صالحين مهديين للإسلام يعملون الخير، ويبتعدون عن الشر، تقرّ بهم أعينهم، وتسرّ بهم نفوسهم، فإن المؤمن إذا رأى من يعمل بطاعة الله قرّت عينه، وسرّ قلبه في الدنيا والآخرة. ويدعونه أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير واتباع أوامر الدين.
وبذلك أحبوا أن تتصل عبادتهم بعبادة زوجاتهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع فهم دعاة خير وبر، وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
قال بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها، قال إبراهيم الخليل عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.
ثم ذكر الله تعالى جزاء المتصفين بتلك الصفات الإحدى عشرة فقال:(19/112)
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا، وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة، والأقوال والأفعال الحميدة يجزون يوم القيامة الغرفة أي الغرفات لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ 34/ 37] وهي المنازل العالية، والدرجات الرفيعة في الجنان، بصبرهم على القيام بها، ويلقّون في الجنة تحية وسلاما، أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويعاملون بالتوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، كما قال تعالى:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 23- 24] . ودلّ قوله: بِما صَبَرْتُمْ على أن الجنة بالاستحقاق.
ومفاد الآية أن الطائعين في نعيم الجنة مع التعظيم والاحترام، على عكس العصاة الذين يضاعف لهم العذاب، مع الإهانة والاحتقار.
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي إن نعيمهم دائم لا ينقطع، فهم مقيمون في الجنان، إقامة مستمرة لا يحوّلون، ولا يموتون ولا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا، حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا، كما قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108] .
والخلاصة: أن الله وعد عباد الرحمن بالمنافع الجلي في الجنة أولا، وبالتعظيم ثانيا، ثم بيّن أن صفتهما الدوام: خالِدِينَ فِيها، والخلوص أيضا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّيدُعاؤُكُمْ أي إن الله غني عن عباده، وإنما كلفهم لينتفعوا، وعذبهم لعصيانهم، فلا يبالي بهم ولا يكترث إذا لم يؤمنوا به ولم يعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا، كما قال سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] .(19/113)
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي أنكم أيها الكافرون والعصاة إذا كذبتم رسلي، ولم تؤمنوا بلقائي، فسوف يكون تكذيبكم سببا ملازما ومؤديا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود 11/ 106- 107] . واللّزام: الملازمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه هي صفات عباد الرحمن، وهي إحدى عشرة صفة، يستحق بها أهلها المنازل العالية في الجنان.
الصفة الأولى:
التواضع والطاعة لله تعالى: ويكون ذلك بالعلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه، والخشية من عذابه وعقابه.
الصفة الثانية:
الحلم والكلام الطيب: فإذا أوذوا قابلوا الإساءة بالإحسان، قال الحسن البصري: «حلماء، إن جهل عليهم لم يجهلوا» أي على نقيض خلق الجاهلية:
«ونجهل فوق جهل الجاهلين» وإنما يقول المؤمن للجاهل كلاما موصوفا بالرفق واللين.
الصفة الثالثة:
التهجّد ليلا: أي العبادة الخالصة لله تعالى في جوف الليل، فإنها أكثر خشوعا، وأضبط معنى، وأبعد عن الرياء.(19/114)
الصفة الرابعة:
الخوف من عذاب الله تعالى: أي أنهم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله، سواء في سجودهم وقيامهم لأن عذاب جهنم لازم دائم غير مفارق، وبئس المستقر، وبئس المقام، وهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم، كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجاح.
الصفة الخامسة:
الاعتدال في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير، والمراد من النفقة نفقة الطاعات في المباحات، فهذه يطالب فيها الإنسان ألا يفرط فيها حتى يضيع حقا آخر أو عيالا، وألا يضيق أيضا ويقتر، حتى يجيع العيال، ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب حاله وعياله، وصبره وجلده على الكسب، وخير الأمور أوساطها، وهذه الوسطية خير للإنسان في دينه وصحته ودنياه وآخرته.
أما النفقة في معصية الله فهو محظور حظرته الشريعة قليلا كان أو كثيرا، وكذلك التعدي على مال الغير، هو حرام أيضا.
الصفة السادسة:
البعد عن الشرك: وهو عبادة أحد مع الله أو عبادة غير الله، وهو أكبر الجرائم، لذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
الصفة السابعة:
الابتعاد عن القتل العمد: وهو إزهاق النفس الإنسانية عمدا دون حق، وهو اعتداء على صنع الله، وإهدار لحق الحياة الذي هو أقدس حقوق الإنسان.(19/115)
أما القتل بحق كالقتل بسبب الردة أو زنى المحصن أو القصاص فجائز من قبل الحاكم.
الصفة الثامنة:
اجتناب الزنى: وهو انتهاك حرمة العرض، وهو جريمة خطيرة تؤدي إلى اختلاط الأنساب، وإشاعة الأمراض، وهدم الحقوق، وإثارة العداوات والأحقاد والبغضاء.
ومن يرتكب هذه الجرائم العظمى (الشرك، والقتل، والزنى) يضاعف له العذاب في نار جهنم، ويكون مخلّدا فيها ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا من رحمة الله تعالى.
لكن إذا تاب الكافر والقاتل والزاني تقبل توبته، ويبدل الله سيئته حسنة إما في الدنيا على رأي، بأن يجعل الإيمان محل الشرك، والإخلاص محل الشك، والإحصان مكان الفجور، وإما في الآخرة على رأي آخر فيمن غلبت حسناته على سيئاته. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أن يبدلها حسنات.
ثم أكّد الله قبول التوبة الصادقة النصوح من كل إنسان.
الصفة التاسعة:
تجنب الكذب والباطل وشهادة الزور، فلا يحضر المسلم مجالس اللغو والكذب والغناء واللهو ونحوها، ولا يؤدي شهادة الزور مهما كانت البواعث والأسباب لأنها محرمة لذاتها. لذا قال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا، وإن تاب وحسنت حاله، فأمره إلى الله تعالى.(19/116)
الصفة العاشرة:
قبول المواعظ: فإذا قرئ القرآن عليهم ذكروا آخرتهم ومعادهم، ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع.
الصفة الحادية عشرة:
الابتهال إلى الله بجعل توابع الإنسان من أزواج وذريات هداة مهديين مطيعين لله، تقرّ النفوس بهم، وتثلج الصدور بسيرتهم العطرة، وأن يكونوا أئمة وقدوة يقتدى بهم في الخير، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الداعي تقيا صالحا.
وهذا يدل على جواز الدعاء بالولد، وللولد وللزوجة، وبأن يكون نفع الإنسان شاملا غيره.
وجزاؤهم الدرجات العليا في غرفات الجنان، مع التوقير والاحترام، بالتحية والسلام، والخلود الدائم، والتمتع بحسن المقام والمنظر والاستقرار.
ونفع الطاعة للعباد لا لله، فالله غني عن عباده، فلولا عبادتهم وكثرة استغاثتهم إليه في الشدائد ونحوها، لما ب إلى الله بهم ولا اكترث بشأنهم. فإن كذبوا بما دعوا إليه من الإيمان وعبادة الله كان تكذيبهم ملازما لهم، وجزاء التكذيب دائم لا مفرّ منه.(19/117)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
مكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الشعراء) لما ختمت به من المقارنة بين الشعراء الضالين والشعراء المؤمنين في قوله سبحانه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [224- 226] بقصد الرد على المشركين الذين زعموا أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان شاعرا، وأن ما جاء به من قبيل الشعر.
مناسبتها لما قبلها:
تتضح مناسبة هذه السورة لسورة الفرقان في الموضوع والبداية والنهاية.
أما الموضوع: ففيها تفصيل لما أجمل في الفرقان من قصص الأنبياء بحسب ترتيبها المذكور في تلك السورة، فبدأ بقصة موسى، وهذا سر لطيف يجمع بين السورتين. وكان في الفرقان إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة، ففصلت هنا قصة إبراهيم، وقوم شعيب، وقوم لوط.
وأما البداية: فقد بدئت كلتا السورتين بتمجيد القرآن العظيم: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
وأما النهاية: فإن خاتمة كلتا السورتين متشابهة، فقد ختمت الفرقان بوعيد المكذبين، ووصف المؤمنين بأنهم يقولون: سَلاماً للجاهلين، وأنهم(19/118)
يمرون مر الكرام باللغو، وختمت الشعراء بتهديد الظالمين المكذبين، والرضا عن الشعراء المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويذكرون الله كثيرا، وينتصرون ممن ظلمهم.
مشتملاتها:
تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية الكلام عن أصول الاعتقاد والإيمان من إثبات «التوحيد، والرسالة النبوية، والبعث» لذا كانت آياتها قصارا للزجر والردع وشدة التأثير.
وابتدأت الكلام عن القرآن الكريم وبيان هدفه في الهداية، وتبشير المؤمنين الصالحين بالجنة، وإنذار الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة بسوء العذاب، وإثبات إنزال القرآن وحيا على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتسليته عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته، والاستدلال بخلق النباتات على وجود الله وتوحيده.
ثم أوردت قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم لعظة المكذبين، مبتدئة بقصة موسى ومعجزاته، ومحاورته مع فرعون الجبار وقومه في شأن توحيد الله، وتأييده بالآيات البيّنات، وإيمان السحرة برب موسى وهارون، ثم تلتها قصة إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه عبدة الأوثان، وإبطاله عبادتها، وإثباته وحدانية الله عز وجل.
ثم جاء بعدها قصص «نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب» عليهم السلام وما فيها من حملاتهم العنيفة ضد الوثنية، والفساد الخلقي والاجتماعي، وبيان عاقبة التكذيب للرسل، ونهاية الجبابرة العتاة بأنواع رهيبة من العذاب.
وأعقب ذلك جعل الخاتمة كبدء السورة بإثبات كون القرآن العظيم وحيا وتنزيلا من رب العالمين لا من كلام الشياطين، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله لتبليغ رسالته إلى عشيرته والأمم جميعا، ليس بكاهن ولا شاعر، وأنه من سلالة(19/119)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
الموحدين، وبراءته من أفعال المشركين، والرد على افترائهم وزعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين التي تتنزل على كل أفّاكّ أثيم، وإعلامهم بأن الغاوين الضالين هم أتباع الشعراء، وليسوا المؤمنين الصلحاء المجاهدين.
فضلها:
ورد في فضل هذه السورة خبران: الأول عن ابن عباس، والثاني عن البراء.
-
روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذّكر الأول، وأعطيت طه، وطسم من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة» .
-
وروى البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبي قبلي» «1» .
تكذيب المشركين بالقرآن وإنذارهم وإثبات وحدانية الله
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 87.(19/120)
الإعراب:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ فَظَلَّتْ في موضع جزم بالعطف على نُنَزِّلْ.
وأَعْناقُهُمْ: اسمها، وخاضِعِينَ: خبرها.
وإنما قال خاضِعِينَ لأنه أراد بالأعناق الرؤساء، أي فظلت الرؤساء خاضعين لها، أو بتقدير مضاف محذوف، أي فظلت أصحاب الأعناق.
البلاغة:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ كناية عن الذل والهوان الذي يلحقهم.
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وعيد وتهديد.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ استفهام للتوبيخ على إهمال النظر في دلائل وجود الله وتوحيده.
المفردات اللغوية:
طسم تقرأ طا، سين، ميم، مع إدغام السين في الميم والمراد بهذه الأحرف الهجائية كما بينا سابقا الإشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وتحدي العرب بالإتيان بمثله، مع أنه مركب من الحروف الهجائية التي تتركب منها لغتهم، وينطق بها كل عربي، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة. وعليه، فهي حروف تنبيه مثل ألا ونحوها، ويا للنداء.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه الآيات في هذه السورة، أو آيات القرآن كله، هي آيات القرآن الظاهر إعجازه وصحته، والمظهر الحق من الباطل، وإضافة آياتُ إلى الْكِتابِ بمعنى من لَعَلَّكَ يا محمد، ولعل: هنا يراد بها الاستفهام المقصود به الإنكار والإشفاق، أي أشفق على نفسك بتخفيف هذا الغم. باخِعٌ نَفْسَكَ قاتلها أو مهلكها غما وحزنا. أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي من أجل عدم إيمان قومك أهل مكة. وأصل البخع: أن يبلغ بالذّبح البخاع: وهو عرق في فقرات الرقبة، مبالغة في الذبح. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً دلالة ملجئة إلى الإيمان، أو بلية قاسرة عليه. فَظَلَّتْ بمعنى المضارع، أي تظل(19/121)
وتدوم. أَعْناقُهُمْ أي أصحابها، كما يكنى عن النفس بالوجه، ولما وصفت الأعناق بصفات العقلاء وهو الخضوع أجريت مجراهم، وجمعت الصفة جمع العقلاء وهي: خاضعين، أي منقادين، وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين.
ذِكْرٍ تذكير وموعظة، وهو القرآن. مِنَ الرَّحْمنِ بوحيه إلى نبيه. مُحْدَثٍ مجدّد إنزاله لتكرار التذكير وتنويع التقرير. إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه فَقَدْ كَذَّبُوا به أي بالذكر بعد إعراضهم، وأمعنوا في تكذيبه، بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به. فَسَيَأْتِيهِمْ أي سيحل بهم العذاب إما في الدنيا كيوم بدر، وإما يوم القيامة. أَنْبؤُا عواقب. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من أنه كان حقا أم باطلا.
أَوَلَمْ يَرَوْا أو لم ينظروا إلى عجائبها. كَمْ أَنْبَتْنا أي كثيرا. مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف محمود كثير المنفعة، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضي. إِنَّ فِي ذلِكَ إن في إنبات تلك الأصناف. لَآيَةً دلالة على أن منبتها تام القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ في علم الله تعالى، فلا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام. الْعَزِيزُ ذو العزة الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. الرَّحِيمُ حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممن كفر، الرحيم لمن تاب وآمن.
التفسير والبيان:
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذا القرآن مكون من أحرف عربية، مثل الطاء والسين والميم، يقصد بها تحدي العرب به ليأتوا مثله، فإذا عجزوا دل على أنه كلام الله الموحى به إلى نبيه. وهذه آيات القرآن البيّن الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد.
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أأنت يا محمد مهلك نفسك حزنا وأسفا على عدم إيمان قومك برسالتك؟! وهذه تسلية من الله لرسوله في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] وقال سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] .(19/122)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي إن الله قادر على كل شيء، فلو نشاء لأنزلنا عليهم من السماء آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، وتقسرهم عليه، فتصبح رقابهم خاضعة ذليلة منقادة لما نريد، أو يصبح كبراؤهم ورؤساؤهم منقادين، ولكنا لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان عن اختيار وطواعية ورضا، لا بالقسر والإكراه، كما قال سبحانه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 99] وقال عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً [هود 11/ 118] . وأضحت سنتنا إرسال الرسل إلى البشر، وإنزال الكتب عليهم، ليؤمنوا عن بيّنة واقتناع.
لكن الكفار ممعنون في الكفر، موغلون في الضلال، معاندون معرضون، فقال: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، وما الهدف من تجديد إنزال الكتب الإلهية إلا تكرار التذكير، وتنويع البيان، للتأمل وإعمال الفكر، والهداية والإصلاح، غير أنه كلما جدد الله لهم موعظة وتذكيرا جددوا إعراضا وتكذيبا كما قال:
فَقَدْ كَذَّبُوا، فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي فقد كذب أولئك المشركون بما جاءهم من الذّكر والحق، ثم بادروا إلى الاستهزاء، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب والاستهزاء في المستقبل، كما قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص 38/ 88] وقال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس 36/ 30] .
ثم إنهم أعرضوا عن التفكير في آيات الله الكونية وآثاره المشاهدة فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي أولم ينظروا إلى(19/123)
الأرض التي خلقها الله، وأنبت فيها من كل صنف كثير النفع من الزروع والثمار، فيستدلوا بذلك على عظمة سلطان الله، وباهر قدرته، فهو موجود واحد قادر على كل شيء من هداية القوم وغيرها.
والجمع بين كَمْ وكُلِّ لدلالة كُلِّ على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، ودلالة كَمْ على أن هذا المحيط متكاثر، فجمع بين الكثرة والإحاطة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في ذلك الإنبات لدلالة على قدرة الخالق للأشياء، وقدرته على البعث والإحياء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره، وارتكبوا نهيه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك أيها الرسول لهو القادر على كل ما يريد، القاهر الغالب الذي قهر كل شيء وغلبه، الرحيم بخلقه، فلا يعجل على من عصاه، بل يمهله ويؤجله، لعله يرجع عن غيه، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن القرآن الكريم كلام الله المعجز الواضح الجلي الذي أبان الحق وزيّف الباطل، وقرر الأحكام، ودعا إلى الهدى والرشاد.
2- لا حاجة بك أيها النبي إلى الإسراف في الأسى والحزن على تكذيب القوم وإعراضهم عن رسالتك، وعدم إيمانهم بالقرآن ودعوة الإسلام.
3- إن الله جلت قدرته قادر على إنزال معجزة ظاهرة تجبرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل لأن سنته وحكمته اقتضت جعل الإيمان اختياريا لا قسر فيه ولا(19/124)
إكراه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة 2/ 256] .
4- بالرغم من تجدد المواعظ والمذكّرات فإن المشركين أعرضوا عن الهدى، وكذبوا بالمنزل على الأنبياء، فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا، والذي استهزءوا به.
ويلاحظ أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض عن القرآن المنزل أولا، وبالتكذيب ثانيا، والإنكار إلى درجة الاستهزاء ثالثا.
5- احتجت المعتزلة بقوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ على خلق القرآن فقالوا: الذكر هو القرآن، لقوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الأنبياء 21/ 50] وبيّن في هذه الآية أن الذكر محدث، فيلزم منه أن القرآن محدث، والجواب: أن الحدوث إنما هو لهذه الألفاظ المتلوة بالوحي الحاصل، أما أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم قدم الله تعالى.
6- نبّه الله تعالى بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ.. على عظمته وقدرته، وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم، لعلموا أن الله هو الذي يستحق أن يعبد، إذ هو القادر على كل شيء، لذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدليلا واضحا على أن الله قادر، ولكن، وما أكثر الناس بمصدقين، لما سبق من علمي فيهم، وإن الله هو المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.(19/125)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
القصة الأولى قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وقومه
- 1- امتنان فرعون على موسى بتربيته
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
الإعراب:
وَإِذْ نادى إِذْ: ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر، تقديره: واتل عليهم إذ نادى.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق بمحذوف في موضع الحال، تقديره: فأرسلني مضموما إلى هارون.(19/126)
نَّا رَسُولُ
قال سُولُ
بالإفراد، لأنه أراد بالرسول الجنس، فوحّد، أو أن يكون سُولُ
بمعنى رسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا.. أي بأن أرسل معنا، فحذف حرف الجر، وهي تحذف معها كثيرا.
أَنْ عَبَّدْتَ إما بدل مرفوع من نِعْمَةٌ وإما منصوب بتقدير: لأن عبدت، ثم حذف حرف الجر، لطول الكلام بصلة أَنْ طلبا للتخفيف.
البلاغة:
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بينهما مقابلة.
ُولُ
أَرْسِلْ جناس اشتقاق.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ جناس ناقص، لاختلاف الشكل واتحاد الحروف.
أَلَمْ نُرَبِّكَ.. إيجاز بالحذف، تقديره: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، فقال لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ كذلك إيجاز بالحذف، أي فأرسل جبريل إلى هارون واجعله نبيا يؤازرني ويعاضدني.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ نادى متعلق بفعل مقدر، أي اذكر أو اتل يا محمد لقومك. إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ليلة رأى النار والشجرة. أَنِ ائْتِ بأن ائت رسولا. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر واستعباد بنى إسرائيل وذبح أولادهم. قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الْقَوْمَ الأول أو عطف بيان له. أَلا يَتَّقُونَ الله بطاعته، فيوحدوه، والاستفهام إنكاري، وهو استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار، تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وفيه مزيد الحثّ على التقوى. وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم لي. وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأداء الرسالة، للعقدة التي فيه. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي أرسل جبريل إلى أخي هارون معي، ليكون نبيا. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ لهم علي تبعة ذنب، فحذف المضاف، والمراد قتل القبطي، وإنما سماه ذنبا على زعمهم. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به، وكان القتل قبل أداء الرسالة.
كَلَّا كلمة زجر وردع، أي ثق بالله، ولا تخف منهم، فلا يقتلونك. فَاذْهَبا أنت وأخوك، فيه تغليب الحاضر على الغائب، وهو معطوف على الفعل الذي دلّ عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت والذي طلبته ليكون معك نبيا وهو هارون.(19/127)
بِآياتِنا معجزاتنا. إِنَّا مَعَكُمْ يعني موسى وهارون وفرعون، أو أجريا مجرى الجماعة.
مُسْتَمِعُونَ ما تقولون وما يقال لكم وما يجري بينكما وبينه، فأجعل لكما الغلبة عليه.
َّا رَسُولُ
أي إن كلّا منا رسول من الله إليك، أو أراد به الجنس أو ضمنه معنى الإرسال والرسالة. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا أي بأن أرسل معنا إلى الشام، قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا أي فأتياه فقالا له ما ذكر، فقال فرعون لموسى: ألم نكن ربّيناك في منازلنا. وَلِيداً طفلا صغيرا، سمي بذلك لقربه من الولادة بعد فطامه. وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة، يلبس من ملابس فرعون، ويركب من مراكبه، وكان يسمى ابنه. ثم خرج إلى مدين عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الإغراق لفرعون وقومه خمسين. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي قتل القبطي، وبّخه به معظما إياه، بعد ما عدّد عليه نعمته. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد. وهو حال من تاء فَعَلْتَ.
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى: فعلتها حينئذ وأنا من المخطئين أو من الجاهلين، قبل أن يؤتيني الله العلم والرسالة، لأنه لم يتعمد قتله. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً حكمة وعلما. تَمُنُّها تمنّ بها، أي وتلك التربية نعمة تمتن علي بها ظاهرا، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وذبح أبنائهم، أي اتخذتهم عبيدا، ولم تستعبدني، لا نعمة لك بذلك لظلمك باستعبادهم. وقدر بعضهم أول الكلام همزة استفهام للإنكار، أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي أن عبدت؟ والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وأنك لم تستعبدني.
المناسبة:
هذه القصة التي ترددت في القرآن كثيرا في سور عديدة «1» يراد من ذكرها هنا تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه من صدود وإعراض وتكذيب، فبعد أن ذكر الله تعالى تكذيب المشركين برسالته وإنذارهم وإثبات وحدانية الله لهم بإنبات النبات، ذكر قصة موسى مع فرعون وقومه الذين كذبوه مع إثبات نبوته بالمعجزات البينات، ولما لم تغن الآيات والنذر، حاق بالمكذبين سوء العذاب، وأغرقهم الله في اليم، جزاء جحودهم وتكذيبهم.
__________
(1) ذكرت قصة موسى في البقرة، والأعراف، ويونس، وهود، وطه، والشعراء، والنمل، والقصص، وغافر (المؤمن) ، والسجدة (فصلت) ، والنازعات، بأساليب مختلفة.(19/128)
التفسير والبيان:
يبدأ الله تعالى القصة من بدء بعثة موسى بن عمران عليه السلام وتكليم ربّه له ومناجاته إياه من جانب الطور الأيمن، فيقول:
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ أي، اذكر يا محمد لقومك حين نادى الله موسى من جانب الطور الأيمن بالوادي المقدس طوى، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه القوم الظالمين أنفسهم بالشرك واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم، فيدعوهم إلى عبادة الله وحده، وتخلّيهم عن فكرة تأليه فرعون.
وقال الله لموسى تعجيبا من حالهم: ألا يتقونني، ألا يخافون بطشي وانتقامي في الآخرة، ويحذرون عصياني وعذابي على كفرهم وبغيهم. وقوله:
أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف، أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار وتسجيل الظلم عليهم، وأمنهم العواقب وقلة خوفهم.
والنداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هو كلام الله القديم المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات، مع أنه مسموع، على رأي أبي الحسن الأشعري.
وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات «1» .
قالَ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي قال موسى مجيبا ربّه: يا ربّ، إني أخشى تكذيبهم لي، فأحزن ويضيق صدري تأثرا وتألما بما يعملون، ولا ينطلق لساني بما يجب علي من أداء الرسالة، بل أتلعثم، وأخي هارون أفصح مني لسانا، وأقوى بنيانا.
__________
(1) تفسير الرازي: 24/ 121(19/129)
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي فاجعل هارون نبيا مثلي، أو أرسل جبريل عليه السلام له بالوحي ليكون معي نبيا ورسولا، يؤازرني ويعاضدني، فتتحقق أعباء الرسالة على الوجه الأكمل. وسبب آخر هو:
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي ولهم آل القبط علي تبعة جرم بقتل قبطي خطأ قبل الرسالة أدى إلى خروجي من مصر، فأخاف إن كنت وحدي أن يقتلوني بسبب ذلك، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، وأما هارون فليس متهما بشيء، فيتحقق المقصود من البعثة. وهذا إيماء إلى أن الخوف قد يطرأ على الأنبياء كما يطرأ على غيرهم من البشر، وقد وقع مثل هذا لنبينا، حتى طمأنه الله بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] .
والخلاصة: هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه، وأسباب لبعثة هارون معه إلى فرعون وقومه، بدأ بخوف التكذيب من فرعون وملئه، ثم ثنّى بضيق الصدر تأثرا وتألما، ثم ثلّث بعدم انطلاق اللسان، وأما هارون فهو أفصح لسانا، وأهدأ بالا، ثم ربّع بوجود تبعة الذنب وهو جرم القتل خطأ قبل النبوة، فخاف أن يبادروا إلى قتله، فيفوت أداء الرسالة ونشرها. ويجمع مطالبه أمران: طلب دفع السوء أو الشر أو التقصير عنه، وإرسال هارون معه.
فأجابه الله إليها فقال:
قالَ: كَلَّا، فَاذْهَبا بِآياتِنا، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي قال الله له:
ارتدع يا موسى عما تظن، ولا تخف من شيء، فإنهم لا يقدرون على قتلك، وأجابه إلى المطلب الثاني بقوله: فَاذْهَبا أي اذهب أنت وأخوك الذي طلبته وهو هارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقكما، وأنا ناصركما ومعينكما، كما قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي، وقوله: إِنَّا يريد(19/130)
نفسه تعالى، وقوله: مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون، وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما، وأنه يعينهما ويحفظهما.
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاذهبا إلى فرعون، فقولا له بلين ورفق: إننا رسولا ربّ العالمين أرسلنا الله لك ولقومك أي أرسل كلا منا إليك، فأطلق حرية بني إسرائيل، ليعبدوا ربّهم في أرض الله الواسعة، ويعودوا معنا إلى الأرض المقدسة:
فلسطين.
وجاء لفظ الرسول هنا مفردا، وفي آية أخرى مثنى إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه 20/ 47] لأن الرسول يطلق على الواحد وغيره، لأنه اسم جنس، أو لأنه بمعنى الرسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، أو لأنهما على شريعة واحدة وإخوة كأنهما رسول واحد، أو كل واحد منا رسول.
فأعرض عنهما فرعون، ونظر إلى موسى وأجابه بازدراء وتقريع معاتبا إياه بأمرين:
الأول:
قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ أي في الكلام حذف، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون:
ما هذا هو المؤمل منك، أأنت الذي ربيناك صغيرا في بيوتنا وعلى فراشنا، ولم نقتلك من جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك مدة من السنين- قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة- ثم تقابل الإحسان بكفر النعمة، وتبادرنا بما تقول؟ ومتى كان هذا الذي تدعيه؟(19/131)
الثاني:
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وقتلت أيضا رجلا منا، وهو ذلك القبطي الذي وكزته فقضيت عليه، وهو من أتباعي، فإنه كان خباز فرعون، وكنت من جاحدي النعمة، وهذا لا يليق في أخلاق الرجال من الوفاء وردّ الجميل.
فأجاب موسى عن قضية القتل، وترك أمر التربية المعلومة الظاهرة والتي لم ينكرها موسى، لأن الرسول مطالب بتبليغ الرسالة سواء كان المرسل عليه أنعم عليه أم لا، والإعراض عن مثل هذا الكلام أولى، إذ لا مكابرة فيه.
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى لفرعون: فعلت تلك الفعلة السيئة وهي قتل القبطي في تلك الحال، وأنا من المخطئين لا المتعمدين قبل أن يوحى إلى وينعم الله علي بالرسالة والنبوة كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو: وأنا من الجاهلين بأن ضربتي تؤدي إلى القتل، فإني تعمدت الوكز دفاعا وتأديبا، فأدى ذلك إلى القتل، وهو ما يسمى في القوانين الحديثة بالضرب المفضي إلى الموت. أي إن القتل الذي تعاتبني عليه لم يكن مقصودا مني.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي فولّيت هاربا إلى مدين خوفا من بأسكم، حين أخبرني رجل، فقال لي:
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص 28/ 20] وجاء أمر آخر وهو أن الله منحني فهما وعلما وحكمة «1» ، وأرسلني إليك، فإن أطعته سلمت، وإن خالفته هلكت.
__________
(1) قال الرازي: الأقرب أن الحكم غير النبوة، والنبوة مفهومة من قوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم: العلم، ويدخل في العلم: العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد.(19/132)
ثم أجاب موسى عن فضل التربية لفرد والإساءة إلى جماعة وهم بنو إسرائيل فقال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل قومي، فجعلتهم عبيدا وخدما، يقومون في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له قيمة بالنظر إلى الإساءة إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
فقوله: عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ معناه اتخذتهم عبيدا لك مستذلّين. وإنما جمع الضمير في مِنْكُمْ وخِفْتُكُمْ مع إفراده في تَمُنُّها وعَبَّدْتَ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله تعالى المتقدم: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد «1»
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا هو الفصل الأول من قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، ويستفاد منه ما يأتي:
1- كان إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، ومعه قومه الظالمون بالشرك واستعباد الضعفاء إعذارا وإنذارا، حتى لا يبقى لهم ولأمثالهم حجة يتذرعون بها للجهل بحقيقة الإيمان والدين.
2- في قوله: أَلا يَتَّقُونَ حثّ شديد على التقوى لمن تدبر وتأمل ووعى المستقبل المنتظر.
3- قدّر موسى خطورة المهمة وأداء الرسالة التي كلف بها إلى فرعون فسأل ربّه أمرين: أن يدفع عنه شرهم، وأن يرسل معه هارون نبيا، فأجابه الله تعالى
__________
(1) الكشاف: 2/ 422.(19/133)
إلى الأمرين، فهدّأ خوفه وروعه، وأمره بالثقة بالله تعالى، وأيّده بنصره وعونه، وجعل أخاه رسولا مثله، ليؤازره ويعاونه، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 29- 32] ، وقال سبحانه: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص 28/ 34] .
قال القرطبي: وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة، بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم «1» .
4- لا بدّ من اتخاذ الأسباب لكل مهمة خطيرة أو غير خطيرة، فذلك مأمور به شرعا، كما أن الحذر مطلوب، وتقدير المخاطر مما يوجبه الشرع والعقل.
5- لم يتردد موسى وأخوه هارون بعد هذا التأييد الإلهي من الذهاب إلى فرعون الظالم، وأعلنا له أنهما رسولان إليه من ربّ العالمين، وهذا واجب التبليغ الذي لا بدّ فيه من الجرأة والشجاعة والصبر، حتى إنه ذكر أن فرعون لم يأذن لهما سنة في الدخول عليه، ثم أذن استهزاء، فدخلا عليه وأدّيا الرسالة.
6- كان مطلب موسى وهارون بعد إعلان الرسالة والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك مطلبا عدلا، وهو إخلاء سبيل بني إسرائيل حتى يسيروا مع هذين الرسولين إلى فلسطين، وإنهاء عهد الاستعباد، فإن فرعون استعبدهم أربع مائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مائة وثلاثين ألفا.
7- إن حادثة قتل القبطي من قبل موسى عليه السلام كانت قبل النبوة في
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 92.(19/134)
عهد الشباب، بدليل قوله بعدئذ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وحدثت تلك الحادثة خطأ من غير تعمد القتل، وجهلا بأن الوكزة تؤدي إلى القتل. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون عن ذلك أولا.
8- قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ مختلف في معناه وفائدته:
- قال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
- وقال قتادة وغيره: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار، أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم، فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟! وقال الأخفش والفراء أيضا: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة؟! - وقال الضحّاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به.
والظاهر لي هو المعنى الثاني، وهو ما جريت عليه في أثناء التفسير.(19/135)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
- 2- الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
البلاغة:
أَلا تَسْتَمِعُونَ صيغة تعجيب.
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ التأكيد بأنّ واللام لتشكك السامع وتردده.
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بينهما طباق.
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال موسى ذلك في بدء مناظرته لفرعون وقومه بطريق التلطف والملاينة طمعا في إيمانهم، ثم لما رأى عنادهم ومغالطتهم وبخهم بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وهذا مقابل لقول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ.
المفردات اللغوية:
قالَ فِرْعَوْنُ لموسى. وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما حقيقته وأيّ شيء هو الذي قلت:
إنك رسوله. قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا لما لم يكن للخلق سبيل إلى معرفة حقيقته تعالى، وإنما يعرفونه بصفاته، أجابه موسى عليه السلام بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما، وهو أظهر خواصه وآثاره. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه تعالى خلق ذلك، فآمنوا به(19/136)
وحده، أو إن كنتم ذوي قلوب موقنة وأبصار نافذة، والمعنى: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ قال فرعون لأشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقة رب العالمين، فذكر أفعاله، أو يزعم أنه رب السموات وهي متحركة بذواتها وغير محتاجة إلى مؤثر، وهذا مذهب الدهرية، وفيه تعجب من نسبة الربوبية إلى غيره.
قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قال موسى: إنه رب جميع الخلائق وإنه رب المشرق والمغرب، وهذا وإن كان داخلا فيما قبله الذي استوعب به الخلائق كلها، فإنه تخصيص بعد تعميم، لأنه أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل. إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولا على سبيل السخرية.
قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما قال موسى: إنه الرب الذي تشاهدون آثاره كل يوم، فيأتي بالشمس من المشرق، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم ألا جواب لكم فوق ذاك. إنه بقوله السابق: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لاينهم أولا، ثم لما رأى شدتهم وخشانتهم عارضهم بمثل مقالتهم.
قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قال فرعون، عدولا إلى التهديد عن المحاجة والمناظرة، وهكذا شأن المعاند المحجوج. وهذا دليل على ادعائه الألوهية وإنكاره للصانع. واللام في المسجونين للعهد، أي ممن عرفت حالهم في سجوني، فإن سجنه كان شديدا، يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده، لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا، حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل.
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال له موسى: أتفعل ذلك ولو جئتك ببرهان على رسالتي يعني المعجزة. والواو في قوله: أَوَواو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام. قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي قال فرعون له: فائت به إن كنت صادقا في أن لك بينة، أو في دعواك النبوة، فإن مدعي النبوة لا بد له من حجة.
المناسبة:
لما سمع فرعون جواب موسى عما طعن به فيه وهو القتل والتربية، ورأى أن موسى وهارون مصران على دعوتهما إلى توحيد الله، وطلبهما إخراج بني إسرائيل من مصر، شرع في الاعتراض على الدعوى، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل(19/137)
للأنبياء، علما بأن فرعون لم يقل لموسى: وما ربّ العالمين إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، بدليل ما تقدم من قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
التفسير والبيان:
هذه مناظرة بين موسى وفرعون حول الإله، فلما قال موسى وهارون لفرعون: إنا أرسلنا إليك من رب العالمين لهدايتك إلى الحق وتوحيد الله، وتفوّقا عليه بالحجة، لجأ إلى المعارضة، وأصرّ على جحوده وتمرده وطغيانه، فقال:
قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي قال فرعون لموسى: وما حقيقة رب العالمين الذي أرسلك؟ ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ وسبب السؤال أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] فجحدوا الإله الصانع جلّ وعلا، واعتقدوا أنه لا رب لهم سوى فرعون.
فأجابه موسى عليه السلام:
قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي قال موسى: هو خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما من كواكب ونجوم، وبحار وجبال وأنهار وأشجار، وإنسان وحيوان ونبات، وما بينهما من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو، إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، الجميع عبيد له، خاضعون ذليلون، خلق الأشياء كلها، وهو المتصرف فيها. أو إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته، فاعرفوا أنه هو الله، وأنه لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. ونظير الآية قوله: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 20/ 49- 50] .(19/138)
فلم يعجبه الجواب والتفت إلى خاصته ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله:
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي قال فرعون لحاشيته: ألا تعجبون من قوله وزعمه أن لكم إلها غيري، وأ لا تستمعون لتخريفه وتهربه من الجواب؟
أسأله عن حقيقة رب العالمين، فيذكر أفعاله وآثاره.
فذكر موسى جوابا آخر أخص مما ذكر وأدل على المراد، لأنه واقع حسي مشاهد لهم:
قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي إنه تعالى خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، والمقصود أن التغير من وجود إلى عدم وبالعكس دليل الحدوث، فأنتم محدثون، كنتم بعد العدم، وآباؤكم ماتوا بعد أن كانوا موجودين، وأنتم مثلهم على الطريق، أما الإله الواجب لذاته فهو الباقي الذي لا يطرأ عليه الفناء، ولا أول لوجوده ولا آخر، فهو إذن الإله.
فلما حار فرعون ولم يجد جوابا مقنعا، لجأ إلى عقلية الصبية والاتهام الرخيص:
قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم ليس له عقل، لا يفهم السؤال، فضلا عن أن يجيب عنه، وهو يخلط في كلامه، ويدعي أن هناك إلها غيري.
فعدل موسى إلى طريق ثالث أوضح من الجواب الثاني فقال:
قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي قال موسى:
إنه الله تعالى رب طلوع الشمس وظهور النهار، ورب غروب الشمس وزوال النهار، وهو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا(19/139)
تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع انتظام مداراتها، فهذا الذي يغير ويبدل، وينظم ويدبر تدبيرا مستمرا كل يوم هو الله، بل هو الذي يدبر الكون كله، لا أنتم، إن كان لكم عقل تدركون به ظواهر الكون، وهذا مناسب لقولهم واتهامهم بأنه مجنون. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا، فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربا، والمغرب مشرقا.
وهذا الطريق في الاستدلال على وجود الله هو الذي سلكه إبراهيم الخليل عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة، وهو بعينه الذي أجاب به موسى هنا بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله:
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة 2/ 258] فقال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة 2/ 258] وهو الذي ذكره موسى هنا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
ولما غلب موسى فرعون بحجته، اتجه كأهل السلطة في كل زمان ومكان إلى التهديد والوعيد باستخدام القوة والقهر والسلطان، فقال:
قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي قال فرعون:
لئن ألّهت غيري، لجعلتك في عداد المسجونين الذين يزجّ بهم كما تعلم في قيعان السجون تحت الأرض، ويتركون حتى يموتوا، وكان سجنه أشد من القتل.
فقابل موسى التهديد والتخويف بالمعجزات الخارقة للعادة بعد أن لم تفلح الأدلة العقلية، فقال:
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال موسى: أتفعل هذا وهو السجن، ولو أتيتك بحجة بيّنة، وبرهان قاطع واضح على صدق دعواي النبوة؟
وهي المعجزة الدالة على وجود الله تعالى.(19/140)
قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قال فرعون: فأت بهذا الشيء الذي يشهد لك، والدليل الواضح على دعوى الرسالة، فكل من يدعي النبوة عليه تأييد دعواه، ظنا منه أنه سيعارضه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مناظرة حاسمة في شأن إثبات وجود الله بين موسى عليه السلام وفرعون الطاغية الجبار.
يتبين منها النزعة المادية عند الماديين والملحدين، الذين يريدون رؤية الله تعالى بالعين المجردة أو لمسه بالحس المجاور، كشأن بقية المواد، لذا استفهم فرعون عن حقيقة رب العالمين، فأتى موسى عليه السلام بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته، التي لا يشاركه فيها مخلوق لأن حقيقة الله لا يدركها أحد، ولأن المادة المجسدة محدثة، والله تعالى هو خالقها وموجدها.
وكان جواب موسى الأول أن الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما، فهو المالك والمتصرف وخالق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيّرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطير وغيرهما.
وخلق الأشياء هو الدليل القاطع على وجود الله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] .
فلما أدرك فرعون عجزه عن الإيجاد والخلق، قال: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟
مستخدما أسلوب الإغراء والتعجب من غرابة المقالة التي تصادم المقرر في عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، كالفراعنة المتقدمين.
ثم أتى موسى عليه السلام ثانيا بدليل يفهمونه عنه من الحس والمشاهدة التي(19/141)
يطلبونها، فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي أن الله خالقهم وخالق آبائهم الأوائل، فانحدارهم من آباء فنوا، ووجودهم بعد أن لم يكونوا، دليل على أنه لا بدّ لهم من مغيّر، فهم محدثون، ولا بد لهم من مكوّن وهم مخلوقون.
لم يجد فرعون جوابا، فلجأ إلى التهكم والاستخفاف واتهم موسى بالجنون لأنه لا يجيب عما سأله تماما.
فأجابه موسى ثالثا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أي إن الله هو مسيّر نظام الكون كله، ومحرك هذا العالم بأجمعه في نظام بديع لا يعرف الخلل والاضطراب، ومالك جميع أنحاء الأرض، أما فرعون فيملك بلدا واحدا، لا سلطان له على غيره، فهل من عقل يدرك هذا، وهل من إدراك يؤدي بهم إلى ضرورة الإيمان بصاحب الملك المطلق، وأن المالك الجزئي عبث وسفه وجنون أن يكون إلها، فمن إله بقية العالم؟
ولما هزم فرعون أمام حجة موسى، لم يجد بدا من استخدام السلطة الإرهابية، فتوعد موسى بالسجن، وذلك عين الضعف، مع أنه كما يروى كان سجنه أشد من القتل، وكان إذا سجن أحدا، لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا.
ولكن التأييد الإلهي أشد نفاذا وإرهابا وإقناعا، ولا يجدي معه توعد فرعون، ويهون أمامه كل مخاوف الدنيا، فحينئذ طلب موسى عليه السلام إثبات صدق دعواه النبوة بالمعجزة الخارقة للعادة التي لا تحدث إلا على يد نبي أو رسول بإحداث الله تعالى وإيجاده، فقبل فرعون إظهار تلك المعجزة، ظنا منه أنه سيبطلها، ويأتي بما يعارضها.(19/142)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
- 3- معجزة موسى عليه السلام ووصف فرعون لها بالسحر
[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
الإعراب:
أَرْجِهْ فعل أمر، أي أخر أمره وأمر أخيه، يقال: أرجأته وأرجيته، أي أخرته.
وسكّنت الهاء لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرئ بكسر الهاء من غير إشباع، اكتفاء بالكسرة عن الياء، وقرئ بكسر الهاء والإشباع، وقرئ بالضم دون الإشباع على الأصل، وبالضم دون الإشباع، اكتفاء بالضمة عن الواو.
المفردات اللغوية:
ثُعْبانٌ ذكر الحيات. مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته بلا تمويه ولا تخييل، كما يفعل السحرة. وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه. بَيْضاءُ ذات شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسدّ الأفق. لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من ظاهرة الجلد واللحم والعظم. لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ للأشراف والرؤساء المستقرين حوله، فهو ظرف وقع موقع الحال. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. فَماذا تَأْمُرُونَ بهره سلطان المعجزة حتى أنساه دعوى الربوبية إلى الاستعانة بائتمار القوم وتنفيرهم عن موسى، وفيه استشعار بتغلبه واستيلائه على ملكه.
أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما، وقيل: احبسهما. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أرسل في أنحاء البلاد شرطا يحشرون (يجمعون) السحرة. سَحَّارٍ عَلِيمٍ خبير بفن السحر يتفوق على موسى ويفضله.(19/143)
التفسير والبيان:
بعد أن وافق فرعون على إظهار موسى عليه السلام معجزته، أظهرها، فقال تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي رمى موسى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا واضحا ظاهرا، لا لبس فيه، ولا تمويه ولا تخييل. روي أنه لما انقلبت حية، ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت، ويقول فرعون: يا موسى، أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فعادت عصا «1» .
والسبب في قوله هنا: ثُعْبانٌ مُبِينٌ وفي آية أخرى: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه 20/ 20] وفي آية ثالثة: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص 28/ 31] : أن الحية اسم الجنس، ثم إنها لكبرها صارت ثعبانا، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها.
ولما أتى موسى عليه السلام بهذه الآية قال له فرعون: هل غيرها؟ قال:
نعم، وهذا في الآية التالية:
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي أدخل موسى يده في جيبه، ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء تلمع وتتلألأ للناظرين، لها شعاع كالشمس، يكاد يغشى الأبصار، ويسدّ الأفق.
ومع هذا كله، أراد فرعون تعمية الأمر، فبادر بشقاوته إلى التكذيب والعناد، فذكر أمورا ثلاثة:
1- قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي قال لحاشيته من القادة وأشراف قومه الذين حوله: إن هذا الرجل لبارع في السحر، يريد بذلك وصف فعله بأنه سحر لا معجز. ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به فقال:
__________
(1) تفسير الرازي 24/ 131، الكشاف 2/ 424.(19/144)
2، 3- يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ أي يريد إخراجكم من وطنكم، ويتغلب عليكم بسحره، وبما يلقيه بينكم من العداوات، فيفرق جمعكم، ويكثر أعوانه وأنصاره، ويغلبكم على دولتكم، ويأخذ معه بني إسرائيل، فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به؟ إني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم، وهذا أسلوب يستنفر حماسهم وجهودهم وتوحيد كلمتهم لمطاردته والتغلب عليه، فاتفقوا على جواب واحد وهو:
قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ، وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ أي قال مستشاروه بعد أن تشاوروا فيما يفعلون: أخر أمره ومناظرته وأخاه ولا تتعجل في عقابهما لوقت اجتماع السحرة، بأن تجمعهم من أنحاء البلاد، فتبعث في أرجاء مملكتك جامعين يحشرون السحرة، ويأتونك بكل خبير في السحر ماهر فيه، فيقابلون موسى بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت ويكون لك النصر والتأييد عليه.
وكان هذا من تسخير الله تعالى لموسى وأخيه، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس جهارا نهارا.
وقيل: معنى أَرْجِهْ احبسه، روي أن فرعون أراد قتله، ولم يكن يصل إليه، فقالوا له: لا تفعل، فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة، ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه، فلا يثبت له عليك حجة، ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنا منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه، وكشفوا حاله.
ويلاحظ أنهم عارضوا قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم: بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة، ليطيبوا قلبه، وليسكنوا بعض قلقه.(19/145)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
فقه الحياة أو الأحكام:
كانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، فألقى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا وهو أعظم ما يكون من الحيّات، وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي تلألأ، كأنها قطعة من الشمس، لكن كان بياضها نورانيا كالقمر.
فوصف فرعون تلك المعجزة لقومه بأنها من قبيل السحر، لا من قبيل المعجزة، وحرضهم على اتخاذ خطة للغلبة على موسى وأخيه، حتى لا يأخذ البلاد من أيديهم.
وهنا جاء دور المزايدة كما يفعل أتباع الرؤساء اليوم، فأشاروا على فرعون بجمع مهرة السحرة من أرجاء البلاد، ليقابلوه بنظير ما جاء به موسى، وتتحقق لفرعون الغلبة والنصرة عليه.
ولكن كان في هذا الجمع مفاجأة إلهية أدت إلى إيمان السحرة جميعا بإله موسى وهارون.
- 4- إيمان السحرة بالله في المبارزة الحاسمة في مشهد عظيم
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 51]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)(19/146)
الإعراب:
قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من فَأُلْقِيَ أو حال بإضمار: قد.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل للتوضيح.
المفردات اللغوية:
لِمِيقاتِ ما وقت به من ساعات يوم معين، وهو وقت الضحى من يوم الزينة الذي حدده موسى عليه السلام. والميقات يطلق على الميقات الزماني كأشهر الحج، والميقات المكاني وهو مواقيت الإحرام. وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ الاستفهام للحث على مبادرتهم إلى الاجتماع.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا، والترجي على تقدير غلبتهم، ليستمروا على دينهم، فلا يتبعوا موسى، فالمقصود الأصلي ألا يتبعوا موسى، لا أن يتبعوا السحرة، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه السلام.
قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسلا به إلى إظهار الحق. بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أقسموا بعزة فرعون، أي قوته على أن الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
تَلْقَفُ تبتلع. ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه، بتمويههم وتزويرهم، فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق، يخيل شيئا لا حقيقة له. وإنما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنهم أخذوا وطرحوا على(19/147)
وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما تعهدهم به من التوفيق. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فيه إشعار بأن موجب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهارون لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر.
قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون أآمنتم لموسى. آذَنَ لَكُمْ أنا. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ إن المسؤول هو كبيركم موسى الذي علمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم، وتواطأتم على ما حدث. أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني.
لا ضَيْرَ لا ضرر علينا في ذلك وفيما يلحقنا من عذاب الدنيا. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إنا راجعون في الآخرة بعد موتنا إلى الله ربنا بأي وجه كان، فالصبر على الإيمان محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى. إِنَّا نَطْمَعُ نرجو. أَنْ كُنَّا بأن كنا أو لأن. أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ في زماننا.
التفسير والبيان:
أراد فرعون وقومه القبط أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، وهذا شأن الإيمان والكفر، والحق والباطل، ما تواجها وتقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء 21/ 18] ، وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء 17/ 81] .
وهذا مشهد من مشاهد الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى:
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ جمع السحرة وجاؤوا من أقاليم مصر، في اليوم المخصص للقاء موسى، وهو وقت الضحى من يوم الزينة (العيد) كما حدد موسى: قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه 20/ 59] والميقات: ما وقت به الزمان أو المكان، ومنه مواقيت الإحرام.
وكان السحرة أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكانوا هم الفئة المثقفة، وكانوا جمعا كثيرا، قيل: كانوا اثني عشر ألفا، وقيل أكثر، والله أعلم(19/148)
بعددهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم:
سابور وعاذور وحطحط ومصفى.
وأراد موسى عليه السلام أن تقع تلك المبارزة يوم عيد لهم، ليكون ذلك أمام حشد عظيم، ولتظهر حجته عليهم أمام الجموع الغفيرة، وهذا كله من لطف الله تعالى في إظهار أمر موسى عليه السلام.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟ أي طلب من الناس الاجتماع، وحثهم قوم فرعون على الحضور لمشاهدة ما يحدث من الجانبين، ثقة من فرعون بالغلبة، وهم أرادوا ذلك حتى لا يؤمن أحد بموسى، وموسى عليه السلام رغب أيضا في هذا التجمع لتعلو كلمة الله، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي وقال قائلهم: إنا نرجو أن يتغلب السحرة، فنستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى. ولم يقولوا: نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى لأن الرعية على دين ملكهم.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي لما قدم السحرة إلى مجلس فرعون، وقد جمع حوله وزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، قالوا: هل لنا أجر من مال أو غيره إن تغلبنا على موسى، قال: نعم لكم الأجر، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقربين عندي ومن جلسائي، فهم ابتدؤوا بطلب الجزاء: وهو إما المال وإما الجاه، فبذل لهم كلا الأمرين.
وبعدئذ تحاوروا مع موسى على البادئ بالإلقاء، فجعلهم أولا كما قال تعالى:
قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي أذن لهم موسى بالبدء بالإلقاء، وقال: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة منه بأن الله غالبة ومؤيده، وليكون(19/149)
ما يلقونه طعمة لعصاه، بعد أن عرضوا عليه أن يبدأ أولا بالإلقاء، فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزئبق، والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزة فرعون أي بقوته وجبروته إنا لنحن المتغلبون عليه.
فلما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وامتلأت الساحة بالحيات والثعابين، وخيل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، كما قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه 20/ 66- 68] وقال سبحانه: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. [الأعراف 7/ 116] . وحينئذ ابتهج فرعون وقومه، واعتقدوا أن السحرة غلبوا، وأن عصا موسى لن تفعل شيئا أمام آلاف الحيات.
فأمره الله أن يلقي عصاه:
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي فلما ألقى موسى عصاه، فإذا هي تبتلع من كل بقعة ما قلبوا صورته وزيفوا حاله بتمويههم وتخييلهم أنها حيات تسعى، فلم تدع منه شيئا، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف 7/ 117- 118] .
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي فخرّ السحرة ساجدين بلا شعور لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل إليه الكون رب موسى وهارون، فلم يتمالكوا أنفسهم إلا ووجدوها ساجدة لهذا الإله، أما هم فقد بذلوا أقصى ما لديهم من علم وطاقة، وما هو منتهى فعل السحرة من تخييل وتمويه.(19/150)
وفاعل الإلقاء في فَأُلْقِيَ أو نائب الفاعل هو الله عز وجل بما رزقهم من التوفيق، أو هو إيمانهم، أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة. ويجوز عدم تقدير فاعل لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا.
والتعبير بالإلقاء إشارة إلى الدهشة التي اعترتهم، حتى لكأنهم أخذوا فطرحوا وسقطوا ساجدين لله. ثم أعلنوا ما وقر في صدورهم:
قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أي قال السحرة:
صدقنا واعترفنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى وهارون، مفضلين الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، غير عائبين بعزة فرعون وجبروته وباطله، ولا طامعين بأجره وقربته ومنافعه.
وهذا دليل على إسقاط ربوبية فرعون، وأن سبب الإيمان هو ما رأوه من معجزة الرسولين: موسى وهارون عليهما السلام.
ولما رأى فرعون ما حدث أسقط في يده، وتحير في أمره، فلجأ إلى التهديد والوعيد شأن العتاة الظالمين، حتى لا تسقط هيبته أمام شعبه، وتتداعى أركان حكمه وسلطانه، ويفعل الناس مثل فعل السحرة الكثيرين، فإنه توقع الغلبة، ففوجئ بالهزيمة المنكرة، ولكن لم تفلح تهديداته في السحرة شيئا، وأصروا على الإيمان بالله تعالى، لانكشاف الحقيقة لهم، وقال لإنقاذ موقفه:
أولا- قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قال فرعون للسحرة: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تخرجون عن طاعتي، وأنا الحاكم المطاع؟! وفي هذا إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه، وأنكم متهمون بالتواطؤ معه، فربما قصروا في إتقان السحر.
وإنما قال لَهُ لا (به) لأنه الذي يدعو إليه موسى وهارون.(19/151)
ثانيا- إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وهذا تصريح بما رمز إليه أولا، فإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، وقصّرتم في السحر، ليظهر أمر موسى.
وهذا تلبيس على القوم وتضليل لهم لئلا يعتقدوا أن إيمان السحرة حق، ومبالغة في التنفير عن موسى عليه السلام، ومكابرة ظاهرة الضعف، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل الموعد أصلا، فكيف يكون هو كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثالثا- فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني من عقاب.
وهذا وعيد مطلق وتهديد شديد.
رابعا- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أي توعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والصلب بعد ذلك جميعا. وليس في الإهلاك أشد من ذلك.
فأجابوه بما يدل على صلابة الإيمان بوجهين:
الأول- قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الضر والضير واحد، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت، ولو بعد حين، والمرجع إلى الله عز وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، وهذا دليل على أنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم مرضاة الله تعالى، ولهذا قالوا:
الثاني- إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا إشارة منهم إلى الكفر والسحر، أي إنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وما أكرهتنا عليه من السحر، من أجل أن كنا أول المؤمنين الذين شهدوا هذا الموقف، أو بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فما كان من فرعون إلا أن قتلهم جميعا. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم:(19/152)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء 26/ 82] ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيحصل في المستقبل.
ونظير الآية: قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه 20/ 72- 73] .
فقه الحياة أو الأحكام:
كان اجتماع السحرة مع موسى عليه السلام للمبارزة أمام فرعون وملئه في مشهد عظيم خلده التاريخ، تبين فيه موقف أهل الحق والإيمان بالله، وموقف الأفاكين والمبطلين.
اجتمع الناس يوم عيد للقبط هو يوم الزينة، كما حدد موسى عليه السلام:
قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه 20/ 59] وحرض بعضهم بعضا على الحضور، ورجوا أو تأملوا غلبة السحرة على موسى وأخيه هارون.
وبوادر الهزيمة كانت قائمة، فالسحرة أرادوا التفوق والغلبة لهدف دنيوي إما المال وإما الجاه، ووعدهم فرعون بالأمرين معا، وأما موسى وأخوه عليهما السلام فأرادوا نصرة الحق، وإثبات صدق النبوة والرسالة، وإعلاء كلمة الله، فأيدهما الله بنصره لأن المعجزة أمر خارق للعادة، مصدرها الإرادة الإلهية، وشتان بين قدرة الله وقدرة البشر! ومن علائم الهزيمة: ابتداء السحرة بإلقاء حبالهم وعصيهم لتكون طعمة لعصا موسى عليه السلام، بالرغم من انشداه الناس وانبهارهم بها، روي عن ابن عباس: أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم، وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق،(19/153)
والعصي مجوفة مملوءة بالزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض، فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له: ألق ما في يمينك فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ثم فتحت فاها، فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم، حتى أكلت الكل، ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك قالوا لفرعون: كنا نساحر الناس، فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا، ولكن هذا حق، فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
أما عدد السحرة والحبال والعصي فليس فيها رواية ثابتة، والذي يدل عليه القرآن أنها كانت كثيرة، من حيث حشروا من كل بلد، ولأن فرعون اطمأن إلى الغلبة بهذا الجمع الغفير.
ومن أمارات الهزيمة: أن السحرة قالوا حين الإلقاء: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي قطعوا بالغلبة، أما موسى فألقى باسم الله وعزته.
والمفاجأة العظمى الأخرى غير نصر المعجزة لموسى عليه السلام هي إيمان السحرة بالله عز وجل، فخروا ساجدين لله تعالى لأنهم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا أن عصا موسى تبتلع كل ما صنعوا من تخييل وتمويه، وشاهدوا أن ذلك خارج عن حدّ السحر، علموا أنه ليس بسحر.
وقد أعلنوا إيمانهم الجازم بالله عز وجل غير عائبين بتهديدات فرعون الجبار العاتي، وفضلوا الموت استشهادا في سبيل هذا الإيمان، مع تقطيع الأيدي والأرجل والصلب، على العودة إلى مستنقع الكفر وضلال السحر، وخلد القرآن الكريم موقفهم الصلب الثابت رضي الله عنهم، بأمرين:
الأول- التفاني في حب الله وابتغاء مرضاته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو(19/154)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
رهبة من عقاب: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وهذا أعلى درجات الصديقين.
الثاني- التخلص من تبعات الماضي الذميم القائم على الكفر والسحر: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا فكانوا بذلك السباقين إلى الإيمان في بيئة تغصّ بالكفر أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.
- 5- نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
الإعراب:
أَنْ أَسْرِ في موضع نصب ب أَوْحَيْنا وتقديره: بأن أسر، فحذفت الباء، فاتصل الفعل به.(19/155)
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ إنما جمع قَلِيلُونَ وإن كان لفظ لَشِرْذِمَةٌ مفردا، حملا على المعنى لأن الشرذمة جماعة من الناس، موافقة لرؤوس الآي، ولو أفرد لكان جائزا حملا على اللفظ.
كَذلِكَ فيه ثلاثة أوجه: النصب بفعل مقدر أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا. والجر على أنه وصف لمقام، أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. مُشْرِقِينَ حال لقوم فرعون.
فَانْفَلَقَ معطوف على جملة فعلية محذوفة، تقديرها: ضرب البحر فانفلق، ويجوز حذف الجملة الفعلية، كما يجوز حذف الجملة الاسمية، كقولهم: زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو أبوه منطلق، مثل: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.
البلاغة:
فَانْفَلَقَ إيجاز بالحذف، أي فضرب البحر فانفلق.
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه وحذف وجه الشبه، أي كالجبل في رسوخه وثباته.
المفردات اللغوية:
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أي بعد سنين أقامها في مصر يدعو شعبها بآيات الله إلى الحق، فلم يزيدوا إلا عتوا وفسادا وإعراضا. أَنْ أَسْرِ أي سر بهم ليلا، وأسر: من سرى بمعنى أسرى:
سار ليلا، وقد أمر موسى بالتوجه إلى البحر. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده، وهو علة الأمر بالإسراء، فإذا اتبعوكم مصبحين قبل وصولكم إلى البحر أنجيكم وأغرقهم، إذ إنهم يسيرون وراءكم، ويدخلون في مساركم في البحر. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسيرهم. فِي الْمَدائِنِ قيل: كان له ألف مدينة، واثنا عشر ألف قرية. حاشِرِينَ جامعين العساكر ليتبعوهم.
لَشِرْذِمَةٌ طائفة. قَلِيلُونَ قللهم بالنظر إلى كثرة جيشه، قيل: كان بنو إسرائيل ست مائة وسبعين ألفا، ومقدمة جيش فرعون سبع مائة ألف، كل رجل على حصان، وعلى رأسه خوذة، أما الجيش فهو مليون وخمس مائة ألف، والتحديد بهذه الأعداد محل نظر لم يثبت، والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي لفاعلون ما يغيظنا. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ وإنا لجميع مستعدون في حذر وحزم في الأمور. وقرئ: حذرون أي متيقظون.
فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه، أي هيأنا في أنفسهم دواعي الخروج وحملناهم عليه. جَنَّاتٍ بساتين كانت على جانبي النيل. وَعُيُونٍ أنهار(19/156)
جارية في الدور من النيل. وَكُنُوزٍ أموال كنزوها أو خزنوها في الأرض. وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي قصور عالية ومنازل فخمة. كَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، أو كذلك إخراجنا كما وصفنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ بعد إغراق فرعون وقومه. فَأَتْبَعُوهُمْ لحقوهم.
مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس.
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر. لَمُدْرَكُونَ لملحقون، يدركنا جمع فرعون، ولا طاقة لنا به. قالَ موسى. كَلَّا أي لن يدركونا. إِنَّ مَعِي رَبِّي بالحفظ والنصرة. سَيَهْدِينِ طريق النجاة منهم.
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي البحر الأحمر (القلزم) أو النيل. فَانْفَلَقَ أي فضرب، فانشق اثني عشر فرقا بينها مسالك. فِرْقٍ قطعة من البحر. كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الضخم الثابت، فدخلوا في شعابها، كل سبط في شعب، لم يبتل منها أحد. وَأَزْلَفْنا قرّبنا.
ثَمَّ هناك. الْآخَرِينَ فرعون وقومه، حتى دخلوا وراءهم مداخلهم، وسلكوا مسالكهم.
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وقومه، بإطباق البحر عليهم، لما تمّ دخولهم في البحر، وخروج بني إسرائيل منه. إِنَّ فِي ذلِكَ الإغراق. لَآيَةً لعظة وعبرة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وما تنبه عليها أكثرهم، إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي. مصر من القبط غير آسية امرأة فرعون، وأبيها (حزقيل) مؤمن ال فرعون، ومريم بنت ذا موسى التي دلت على عظام يوسف عليه السلام، وكذلك بنو إسرائيل بعد النجاة سألوا بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 2/ 55] . الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه. الرَّحِيمُ بالمؤمنين، فأنجاهم من الغرق.
مقدمة لخروج بني إسرائيل من مصر:
ذكر المفسرون أنه لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم في ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عزّ وجلّ. خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، قائلين لهم: إن لنا في هذه الليلة عيدا. وكان خروجه بهم وقت طلوع القمر.(19/157)
وكان موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم لأن يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوه معهم.
التفسير والبيان:
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ: أوحى الله إلى موسى أن يسير ليلا باتجاه البحر مع قومه بني إسرائيل، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون وقومه سيتبعونهم، حتى إذا تبعوهم مصبحين، تقدموا عليهم ولم يدركوهم قبل وصولهم إلى البحر، فيدخلون فيه، ثم يلحقهم في مسالكهم فرعون وجنده، فيطبقه عليهم ويغرقهم.
وكانت إقامة بني إسرائيل في مصر 430 سنة، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد. وكان عددهم كما روي عن ابن عباس ست مائة ألف ماش من الرجال.
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي فلما أصبح فرعون وقومه وعلم بخروج بني إسرائيل، غاظه ذلك واشتد غضبه على بني إسرائيل، فأرسل سريعا في مدائن مصر من يحشر الجند كالنقباء والحجّاب.
واستخدم فرعون أسلوب التعبئة المعنوية لتحريض قومه على الخروج معه، فوصف بني إسرائيل بثلاث صفات:
1- إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ إن بني إسرائيل لطائفة قليلة، فيسهل متابعتهم وأسرهم أو قتلهم أو إعادتهم إلى العبودية.
2- وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي أنهم في كل آونة يغيظوننا ويضايقوننا، بالفتنة والشغب، وقد ذهبوا بأموالنا، وخرجوا عن عبوديتنا، وخالفوا ديننا.(19/158)
3- وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي وإن جميعنا قوم آخذون حذرنا وأهبتنا ومستعدون بالسلاح، وإني أريد إبادتهم واستئصالهم.
فجمع الجموع الغفيرة، ولا يوجد رواية ثابتة تحصي عددهم، ولا عدد بني إسرائيل، لكن من المؤكد أن عددهم كان أقل من عدد جند فرعون.
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي فجعلنا في قلوبهم داعية الخروج، وخرجوا من النعيم إلى الجحيم، وتركوا البساتين الخضراء، والرياض الغناء، والأنهار الجارية والأموال المكنوزة المخزونة في الأرض والمنازل العالية والدور الفخمة والملك والجاه العظيم في الدنيا.
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي كان الأمر حقا كما قلنا، وكذلك كان إخراجنا كما وصفنا، وورثنا بني إسرائيل تلك الثروات، وتحولوا من العبودية إلى الحرية والاستقلال والترف والنعيم، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] ، وقال سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] .
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس على خليج السويس. وفي هذه الآونة ظهرت المخاوف على بني إسرائيل، فقال تعالى:
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ، قالَ أَصْحابُ مُوسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي فلما رأى كل من الفريقين صاحبه، قال بنو إسرائيل وقد أيقنوا بالهلاك: إن فرعون وجنوده لحقوا بنا وسيقتلوننا، أو إنا لمتابعون وسنموت على أيديهم.
فطمأنهم موسى عليه السلام وهدّأ نفوسهم قائلا:
قالَ: كَلَّا، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ قال موسى: كلا لا يدركوننا، إن(19/159)
معي ربي بالحفظ والنصرة سيهديني إلى طريق النجاة والخلاص منهم، وسينصرني عليهم وأوحى الله إلى موسى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي أمر الله موسى بضرب البحر بعصاه، فضربه بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق اثني عشر طريقا، وصارت كل قطعة من الماء المجوز عن الانسياب الواقف عن التحرك كالجبل الشامخ الكبير، وكانت الطرق الجافة بالهواء والشمس بعدد أسباط بني إسرائيل، لكل سبط منهم طريق، كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه 20/ 77] .
وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي وقرّبنا من البحر هنالك الآخرين وهم فرعون وجنوده، فتبعوهم.
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، ولم يبق منهم أحد.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن في هذه القصة وما فيها من العجائب لعبرة وعظة وآية دالة على قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى إنجاء عباد الله المؤمنين وإهلاك الكافرين.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي ولم يؤمن أكثر من بقي في مصر من القبط، وكذلك لم يؤمن أكثر بني إسرائيل، فإن هذه المعجزة تحمل على الإيمان، ومع ذلك كذب بنو إسرائيل، واتخذوا العجل إلها، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
وفي هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما أغمه وأحزنه من تكذيب قومه، مع قيام(19/160)
الأدلة والمعجزات على الإيمان بالله والرسل.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن الله تعالى لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين. وهذا بشارة بالنصر للنبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل القريب.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذا الفصل الخامس والأخير من قصة موسى وفرعون حسم الموقف حسما يظهر قدرة الله تعالى في أحلك الساعات وأشد الأزمات، ويبين مدى ضعف الاعتماد على القوة البشرية الظالمة في مواجهة قدرة الله تعالى واختراعه، أما عصا موسى فمجرد ضربها ليس بفارق للبحر إلا بما اقترن به من إظهار القدرة الإلهية، وهذا ما يجب التبصر به بالنسبة للكافرين غير المؤمنين الهازئين بتأثير العصا في فلق البحر اثني عشر طريقا يبسا.
ومن حكمته تعالى أن يستدرج الظالمين إلى الهاوية والهلاك، فيغرقهم جميعا ليكون عبرة للمعتبر، وأن يقود جيش الإيمان بقيادة نبيهم إلى ساحل النجاة، ليظهر فضله، وتمام نعمته عليهم، وكان بإمكان الله تعالى أن يهلك فرعون وجنوده في قلب مملكته وفي أرض دولته.
وإظهارا لتلك الحكمة وسنته تعالى في عباده لإنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده لأنهم آمنوا بموسى، وأوحى إليه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم ليردوهم إلى بلاد مصر، لإبقائهم عبيدا أرقاء.
فجمّع فرعون عساكره، وأعد جيشه في اليوم التالي لمسيرة موسى ببني إسرائيل ليلا، مستنفرا القوى العسكرية بأن هؤلاء طائفة قليلة حقيرة، وأنهم(19/161)
أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها كما تقدم بيانه، وأننا مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا.
وكان هذا الاستنفار تجريدا لهم من أرض مصر وما فيها من أشجار وأنهار ومنازل عالية، وجعل ممتلكاتهم إرثا مشروعا لبني إسرائيل الذين كانوا عبيدا أذلاء مستضعفين في مصر. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حليّ آل فرعون بأمر الله تعالى. قال القرطبي: وكلا الأمرين حصل لهم، والحمد لله، أي فقد عادوا إلى مصر وأصبحوا قادتها وسادتها وملاكها.
وتبع فرعون وقومه بني إسرائيل حين أشرقت الشمس. وكان سبب تأخر فرعون وقومه إما اشتغالهم بدفن بناتهم الأبكار الذين ماتوا في تلك الليلة بسبب وباء وقع فيهم، وإما لأن سحابة أظلتهم وظلمة أعاقتهم، فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا.
فلما تقابل الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه، خاف أصحاب موسى، وقالوا: لقد قرب منا العدو ولا طاقة لنا به، فالعدو وراءنا والبحر أمامنا، وساءت ظنونهم، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فردّ عليهم قولهم وزجرهم وذكّرهم وعد الله سبحانه بالهداية والظفر، قائلا لهم:
كَلَّا لم يدركوكم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي معي بالنصر على العدو، وسيدلني على طريق النجاة.
فلما عظم البلاء واشتدّ خوف بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه لأنه تعالى أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة في الظاهر بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى(19/162)
واختراعه، وجعل هذا من معجزات موسى عليه السلام.
ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالجبل العظيم، وكأنه جمّد، فصار البحر طريقا يبسا بتأثير رياح لفحتها وجففتها وجعلتها كوجه الأرض، كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه 20/ 77] .
وقرّب الله فرعون وقومه إلى البحر، والغيظ يملأ نفوسهم، ونار الحقد تغلي في قلوبهم كالمراجل، وأنجى موسى ومن معه أجمعين، ثم لما صار الآخرون في وسط البحر أطبقه عليهم وأغرقهم جميعا.
إنها آية وأي آية! عظة للمتعظ وعبرة للمعتبر المتأمل، حقا، إن الذي حدث في البحر آية عجيبة من آيات الله العظام الدالة على قدرته، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له، وعلى اعتبار المعتبرين به أبدا.
وفي هذا تحذير شديد من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى، وأمر رسوله، ويكون فيه اعتبار وتسلية لمحمد صلّى الله عليه وسلم الذي كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات، فلا تعجب يا محمد من تكذيب أكثر قومك لك، واصبر على إيذائهم، فلعلهم أن يصلحوا، لذا قال تعالى عقيب ذلك:
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ سواء من قوم فرعون أو من قوم موسى، فإنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل، وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وأما قوم موسى فبعد أن نجوا، عبدوا العجل، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً!! [البقرة 2/ 55] .(19/163)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
- 1- التنديد بعبادة الأصنام وبيان صفات الرّب المستحق للعبادة
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
الإعراب:
إِذْ قالَ بدل من قوله نَبَأَ إِبْراهِيمَ.
هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ فيه مضاف محذوف، أي هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون.
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ عَدُوٌّ: اسم مفرد يؤدي معنى الجمع. ورَبَّ الْعالَمِينَ: منصوب على الاستثناء المنقطع لأنه سبحانه ليس من أعداء إبراهيم.
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الَّذِي مبتدأ، وفَهُوَ يَهْدِينِ خبره، والفاء للسببية.(19/164)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ عطف على الَّذِي المتقدم، وخبره محذوف.
وتقديره: والذي هو يطعمني ويسقيني، فهو يهدين. وكذلك كل ما جاء بعدها من الَّذِي إلى قوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ... خبره: «فهو يهدين» مقدرا.
البلاغة:
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ بينهما طباق، وكذلك بين يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ.
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أسند المرض لنفسه مراعاة للأدب تأدبا مع الله لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبا، وإن كان المرض والشفاء كلاهما من الله، فلم يقل: أمرضني.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي العرب ومنهم كفار مكة وأمثالهم. نَبَأَ خبر مهم.
ما تَعْبُدُونَ؟ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة. نَعْبُدُ أَصْناماً صرحوا بالفعل. فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: ندوم مقيمين على عبادتها، وزادوا هذا الجواب على قولهم:
نَعْبُدُ تبجحا وافتخارا به، وإظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج. إِذْ تَدْعُونَ حين تدعون.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ حين تعبدونهم. أَوْ يَضُرُّونَ أي يضرونكم إن لم تعبدوهم. ومجيئه مضارعا مع إِذْ على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. كَذلِكَ يَفْعَلُونَ مثل فعلنا، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بالتقليد. وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ التقدم لا يدل على الصحة، ولا ينقلب به الباطل حقا.
عَدُوٌّ لِي لا أعبدهم، والمراد أنهم أعداء لعابديهم لأنهم يتضررون من جهتهم، لكنه صوّر الأمر في نفسه تعريضا لهم، فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه، ليكون أدعى إلى القبول. وإفراد لفظ العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب أي عدوي، أجراه على النسب. إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ لكن ربّ العالمين فإني أعبده، استثناء منقطع.
فَهُوَ يَهْدِينِ إلى الدين لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد، هداية مطردة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضارّ، كما قال تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] وتبدأ الهداية في الإنسان من وقت هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، وتنتهي إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها. أَطْمَعُ أرجو. يَوْمَ الدِّينِ الجزاء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في أول السورة شدة حزن محمد صلّى الله عليه وسلم بسبب كفر(19/165)
قومه، ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة حصلت لموسى فيكون ذلك تسلية له، ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضا أن حزن إبراهيم كان أشد من حزنه لأنه يرى أباه وقومه في النار، وهو لا يتمكن من إنقاذهم، وكل ذلك إشارة إلى أن معارضة الرسل من أقوامهم أمر قديم ومستمر، فلا داعي للغم والحزن.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الأول من قصة إبراهيم إمام الحنفاء عليه السلام مع قومه، موضوعه الإنكار على قومه عبادة الأصنام مع الله عزّ وجلّ، وتبيان صفات الربّ الذي يجب أن يعبد، فقال تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي واتل يا محمد على أمتك خبر إبراهيم عليه السلام، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله، وعبادته وحده لا شريك له، والتبري من الشرك وأهله، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره إلى كبره، ولما شبّ أنكر على قومه عبادة الأصنام، وقال لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ليلفت نظرهم إلى أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.
فأجابوه مقرين بعبادة الأصنام، ومظهرين لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بها: قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي قال قوم إبراهيم:
نعبد هذه الأصنام، وندوم مقيمين على عبادتها في الليل والنهار.
فناقشهم في جدوى تلك العبادة متعجبا من فعلهم:
قالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ أي قال إبراهيم: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، وهل يجلبون لكم نفعا أو يدفعون(19/166)
عنكم ضررا؟ إذ ما الفائدة من عبادة لا هدف لها؟ فهل تفكرون قليلا، وتتأملون كثيرا فيما تفعلون؟ وكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه؟
قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ لم يجدوا جوابا مقنعا يرد حجة إبراهيم إلا التمسك بالتقليد الأعمى للآباء والأجداد، وليس لهم حجة مقبولة لتسويغ عبادتها وتقديسها. وهذا من أقوى الأدلة على فساد التقليد في العقائد ووجوب الاعتماد على الاستدلال العقلي المقنع لأن الله أورد ذلك ذما لطريقة الكفار وإنكارا لمنهجهم.
فتقوّى إبراهيم في تقريعهم وتوبيخهم وتحديهم، فسألهم:
أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أخبروني عن حال ما تعبدونه، أنتم وآباؤكم وأجدادكم الغابرون من قديم الزمان إلى الآن، هل حققت هذه العبادة شيئا، وهل استحقت تلك الأصنام الجمادات التي لا تسمع ولا تنطق عبادة العابدين؟ فإن كان لهذه الأصنام تأثير، فلتجلب إليّ الإساءة والأذى، فإني عدو لها لا أعبدها، ولا أبالي بها، ولا أفكر فيها. وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، وتحد صارخ لصحة ما يعبدون.
لكن ربّ العالمين الذي خلقني ورزقني، وهو وليي في الدنيا والآخرة هو الذي أعبده وأنحني إجلالا لعظمته وعزته، فعبادتي للأصنام عبادة للعدو، لذا اجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله. وهذا نصيحة لنفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه.
وهذا نظير قول نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس 10/ 71] وقول هود عليه السلام: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ(19/167)
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
[هود 11/ 54- 56] .
ثم أكد إبراهيم أنه لا يعبد إلا المتصف بهذه الأوصاف الخمسة وهي:
1- الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي هو الخالق المبدع الموجد الذي خلقني وغيري من المخلوقات، وهو الذي يهديني دائما لما فيه الخير في الدنيا والآخرة، كما قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 2- 3] أي الخالق الذي قدر قدرا، وسوى المخلوق في أحسن تقويم، وهدى الخلائق إليه، فكلّ يجري على ما قدر له، فبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع لكل منتفع.
2- وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي هو خالقي ورازقي بما يسّر من الأسباب السماوية والأرضية، فأنزل الماء، وأحيى به الأرض، وأخرج به من الثمرات المختلفة رزقا للعباد، وأوجد الأنعام وغيرها، فوفر للإنسان الطعام والشراب وغيرهما من كل ما يتصل بالرزق.
3- وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي وإذا طرأ علي مرض، فهو تعالى الذي ينعم علي بالشفاء منه. ويلاحظ أنه نسب المرض إلى نفسه ولم يقل:
أمرضني، تأدبا مع الله، وإن كان المرض والشفاء من الله عزّ وجلّ جميعا وكلاهما يحدث بقدر الله وقضائه، كما قال تعالى آمرا المصلي أن يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ..
[الفاتحة 1/ 7] أسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى، وحذف فاعل الغضب أدبا وأسند الضلال إلى البشر، وكما قال فتى موسى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف 18/ 63] ، وكما قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن 72/ 10] . وهنا أضاف إبراهيم المرض إليه، أي إذا وقعت في مرض، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غير الله بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.(19/168)
4- وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي وهو الذي يحيي ويميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد، والمراد منه الإماتة في الدنيا، والإعادة والبعث في الآخرة، بدليل عطفه ب ثُمَّ.
5- وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي وهو الذي أرجو أن يستر ذنبي يوم القيامة، فإنه لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو، كما قال: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ [آل عمران 3/ 135] . وإنما قال أَطْمَعُ مع أنه صلّى الله عليه وسلم كان قاطعا بذلك لأنه لا يجب على الله لأحد شيء، فاستعمال الرجاء والظن للدلالة على أن الثواب ورفع العذاب فضل من الله ونعمة.
وأسند إلى نفسه الخطيئة، مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا قطعا، مريدا بذلك تسمية ما صدر عنه من عمل هو خلاف الأولى خطيئة، استعظاما له. وعلّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يظهر يوم الدين.
وقال: لِي في قوله: أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي لبيان أن غفرانه لي ولأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه البتة. والخلاصة: أن هذا من إبراهيم عليه السلام إظهار للعبودية، وإن كان يعلم أنه مغفور له.
جاء في صحيح مسلم عن عائشة: «قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين» .
ويوم الدين: هو يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم.(19/169)
فقه الحياة أو الأحكام:
إن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام هنا كان لتنبيه المشركين على فرط جهلهم إذا رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه، وهو أبوهم، وليسرّى «1» عن النبي صلّى الله عليه وسلم مما وقع فيه من همّ وغم وحزن لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
وتتضمن القصة نقاشا حادا بين سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وبين أبيه وقومه في فائدة عبادة الأصنام، حرصا على عدم إضاعة جهودهم سدى، فإن العبادة تكون عادة لفائدة، ويدرك كل عاقل أن هذه الأصنام الجمادات لا تأتي بخير أو رزق، ولا تملك لأحد خيرا، كما لا تدفع عنه ضرا إن عصيت، فإذا لم ينفعوكم أيها الوثنيون ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟
ولما وجدوا هذه الحجة مقنعة وقاطعة في الإفهام وإثبات المراد، لجؤوا إلى التمسك بالتقليد للآباء والأجداد من غير حجة ولا دليل. وفي هذا دلالة كافية على ذم التقليد وفساده في شأن العقائد، وأنه لا بد في تكوينه وإثباته من الاعتماد على الدليل المقنع المنطقي.
فأكد إبراهيم الخليل قوله السابق، وأفهم هؤلاء القوم الجهلة بأن عبادة هذه الأصنام ضرر محض لعابديها، وأنه لا تنبغي العبادة إلا لله ربّ العالمين من الإنس والجن والملائكة، فمن عبده انتفع ودفع الضرر عن نفسه في الدنيا والآخرة، ومن أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى.
ثم إن صفات هذا المعبود بحق تستوجب عبادته والتقرب إليه، فهو الخالق الهادي المرشد إلى الدين الحق، وهو الذي يرزق الطعام والشراب وغيرهما من المنافع، لا غيره، وهو الشافي المعافي، وهو المميت والمحيي، أي الموجد من العدم،
__________
(1) سرّي عنه، وانسرى عنه الهم: انكشف.(19/170)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
ثم المفني، ثم الباعث البعث، وهو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، الفعال لما يشاء.
- 2- دعاء إبراهيم عليه السلام دعاء المخلصين الأوّابين
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
البلاغة:
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ استعارة، استعار اللسان للذكر الجميل والثناء الحسن.
المفردات اللغوية:
حُكْماً فهما وعلما بالخير وعملا به وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء، والمراد: وفقني للأعمال التي تجعلني في زمرة الصالحين البعيدين عن صغائر الذنوب وكبائرها. لِسانَ صِدْقٍ ثناء حسنا وصيتا طيبا في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، بتوفيقي للعمل الصالح، حتى يقتدي بي الناس. فِي الْآخِرِينَ الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.
مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ في الآخرة، أي ممن يعطاها ويتمتعون بها، كما يتمتع الناس بميراث الدنيا. وَاغْفِرْ لِأَبِي بأن توفقه للهداية والإيمان وتتوب عليه، فتغفر له لأن المغفرة مشروطة بالإسلام، فهذا دعاء لأبيه بالإسلام. إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ طريق الحق أي المشركين. وهذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله. وَلا تُخْزِنِي لا تهنّي، من الخزي: وهو الهوان، أو من الخزاية وهي الحياء. يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي الناس، فالضمير للعباد لأنهم معلومون أو للضالين. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي مخلصا سليم القلب من الكفر والنفاق وميل للمعاصي، وهو قلب المؤمنين.(19/171)
المناسبة:
بعد أن أثنى إبراهيم عليه السلام على ربه وعظم شأنه، وعدّد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، أتبع ذلك بالدعاء بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، وهذا على ما هو مطلوب من تقديم الثناء على الدعاء.
التفسير والبيان:
سأل إبراهيم الخليل ربّه أمورا في هذه الدعوات تجعله من الأخيار المصطفين، للتعليم والاقتداء به، وتلك الأمور هي:
1- رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي امنحني يا رب علما وفهما ومعرفة تنير بها قلبي للتعرف على صفاتك، وإدراك الحق والصواب لأعمل به.
2- وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي وفقني لطاعتك، لأنتظم في زمرة الكاملين في الصلاح المنزهين عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، واجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم عند الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى» قالها ثلاثا.
وقال صلّى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدّلين» .
وقد أجاب الله دعاء إبراهيم كما قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت 29/ 27] .
3- وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به في الدنيا، بتوفيقي للعمل الصالح، فيقتدى بي في الخير.
فأجاب الله دعاءه كما قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات 37/ 108- 110] .(19/172)
قال مجاهد وقتادة: اللسان الصدق: يعني الثناء الحسن.
وقد اتفقت الملل على محبة إبراهيم عليه السلام وجعله قدوة في الدين.
وبعد أن طلب سعادة الدنيا، طلب ثواب الآخرة، فقال:
4- وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي واجعلني من أهل الجنة الذين يتمتعون بخيراتها ونعيمها، كما يتمتع الوارث بإرث غيره في الدنيا.
وبعد أن طلب لنفسه السعادة الدنيوية والأخروية طلبها لأبيه ولي نعمته وسبب وجوده، فقال:
5- وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ كما قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إبراهيم 14/ 41] أي اغفر له ذنوبه ووفقه للتوبة والإسلام، فإنه ضالّ عن طريق الهدى والحق، أي إنه مشرك. وهذا وفاء بما وعده من قبل، وقبل أن يتبين أنه عدو لله، كما قال تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة 9/ 114] .
ثم طلب الستر التام في الآخرة فقال:
6- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تفضحني بعتاب على ما فرطت، أو بنقص منزلة عن وارث، وأجرني من الخزي والهوان يوم القيامة ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وهذا مبالغة منه صلّى الله عليه وسلم في تحري الكمال والسلامة والنجاة، في يوم شديد الأهوال، وصفه فقال:
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي ذلك اليوم الذي لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، ولا أولاده ولو افتدى بمن على الأرض جميعا، وإنما ينفع يومئذ الإيمان بالله تعالى،(19/173)
وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك وأهله. فالمراد بالقلب السليم: هو الخالي من العقائد الفاسدة والأخلاق المرذولة والميل إلى المعاصي، وعلى رأسها الكفر والشرك والنفاق، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: القلب السليم: هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة 2/ 10] .
فقه الحياة أو الأحكام:
جمع إبراهيم الخليل عليه السلام في دعائه هذا خيري الدنيا والآخرة، فطلب أن يؤتيه الله علما وفهما ومعرفة بالله عز وجل وبحدوده وأحكامه. ثم طلب أن يخلد ذكره الجميل في الدنيا، ويمنح الثناء الحسن بالتوفيق لصالح العمل، وقال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه، ثم سأل الله أن يكون من أهل الجنة الذين يتمتعون بنعيمها.
روى أشهب عن مالك قال: قال الله عز وجل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ: لا بأس أن يحبّ الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه 20/ 39] وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم 19/ 96] أي حبا في قلوب عباده، وثناء حسنا. فنبه تعالى بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل، فهو الحياة الثانية.
وفي هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .(19/174)
ثم سأل الله تعالى أن يوفق أباه، ويهديه للإسلام والإيمان، ويخرجه من الشرك، لأن أباه وعده في الظاهر أن يؤمن به، فاستغفر له لهذا، فلما بأن أنه لا يفي بما قال، تبرأ منه.
وختم إبراهيم دعاءه بالستر التام والسلامة والنجاة فقال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة.
ثبت في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة، عليه الغبرة والقترة»
والغبرة هي القترة.
وفي البخاري أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه، فيقول: يا ربّ، إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين» .
ووصف إبراهيم يوم القيامة بأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون أحدا، ولكن ينفع القلب السليم وهو الخالص من الشك والشرك. أما الذنوب فلا يسلم منها أحد، وهذا رأي أكثر المفسرين.
وخص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح.
ومن المعلوم أن ذكر الله تعالى على الدوام من أهم حالات وأسباب ترويض القلوب على السلامة والخلوص من الأوصاف الذميمة، والاتصاف بالأوصاف الجميلة،
جاء في الأثر أو الحديث القدسي عن الله تعالى فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري: «من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» .
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية، قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لو علمنا أيّ المال خير اتخذناه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» .(19/175)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
والخلاصة: أن هذه الأدعية من أبي الأنبياء وإمام الحنفاء تستهدف التوجيه والتعليم والاتباع والالتزام، فما علينا إلا تردادها والعمل بها.
- 3- أوصاف يوم القيامة وثواب الله وعقابه وندم المشركين على ضلالهم
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
الإعراب:
أَجْمَعُونَ إما تأكيد للجنود إن جعل مبتدأ، وخبره ما بعده، وإما تأكيد للضمير هُمْ وما عطف عليه.
تَاللَّهِ إِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي إنه.
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: فتح أن لوقوعها بعد لو وإنما فتحت بعد لو لأنها لا يقع بعدها إلا الفعل، وهو فعل لا يجوز إظهاره، وتقديره: لو وقع أن لنا كرة. ونكون: منصوب على جواب التمني بالفاء بتقدير «أن» لأن «لو» في معنى التمني.(19/176)
البلاغة:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ووَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ بينهما مقابلة.
لِلْمُتَّقِينَ لِلْغاوِينَ مُبِينٍ الْعالَمِينَ شافِعِينَ الْمُؤْمِنِينَ سجع ومراعاة للفواصل أواخر الآيات.
تَعْبُدُونَ يَنْتَصِرُونَ الْغاوُونَ أَجْمَعُونَ يَخْتَصِمُونَ الْمُجْرِمُونَ سجع ومراعاة فواصل أيضا.
المفردات اللغوية:
وَأُزْلِفَتِ قرّبت ليدخلوها بحيث يرونها من الموقف. وَبُرِّزَتِ أظهرت وجعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها. لِلْغاوِينَ الكافرين الضالين عن طريق الحق. أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل لهم على سبيل التوبيخ: أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم من غير الله من الأصنام. هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم. أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ألقوا فيها على وجوههم، الآلهة وعبدتها. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أتباعه ومطيعوه من عصاة الثقلين: الجن والإنس. مُبِينٍ بيّن. قالُوا أي الغاوون. وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يتخاصمون مع معبوديهم، على أساس أن الله ينطق الأصنام، فتخاصم العبدة، ويؤيده الخطاب في قوله: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نجعلكم مساوين له في استحقاق العبادة. قال البيضاوي: ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة، كما في قالُوا والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى: أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة، متحسرون عليها. وَما أَضَلَّنا عن الهدى. إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الشياطين أو آباؤنا الذين اقتدينا بهم. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.
صَدِيقٍ صادق في وده. حَمِيمٍ يهمه أمرنا. وجمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل. كَرَّةً رجعة إلى الدنيا وقوله: فَلَوْ للتمني، أقيم مقام «ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير، ونكون: جواب التمني. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً فيما ذكر من قصة إبراهيم لَآيَةً لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قومه مُؤْمِنِينَ به. الْعَزِيزُ القادر على تعجيل الانتقام. الرَّحِيمُ بالإمهال لكي يؤمنوا، هم أو أحد من ذريتهم.(19/177)
المناسبة:
بعد أن دعا إبراهيم عليه السلام بدعوات المخلصين الأوابين، وختمها بألا يخزيه الله يوم البعث، وصف يوم القيامة، وما فيه من ثواب وعقاب، وندم المشركين وحسرتهم على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
التفسير والبيان:
وصف إبراهيم عليه السلام يوم القيامة بثلاثة أوصاف هي:
1- وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي إن ذلك اليوم هو اليوم الذي قرّبت وأدنيت فيه الجنة للمتقين السعداء، ينظرون إليها، ويدخلون فيها، تعجيلا للبشارة والمسرّة بما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال، كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، غَيْرَ بَعِيدٍ [ق 50/ 31] .
وهو اليوم الذي أظهرت فيه النار وجعلت بارزة مكشوفة للضالين عن الحق الكافرين الأشقياء، بحيث يرونها، ويعلمون أنهم مواقعوها، تعجيلا للغم والحسرة على شقاوتهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ، كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [الجاثية 45/ 34] وقال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك 67/ 27] .
ثم يسأل أهل النار تقريعا وتوبيخا، فيقال لهم:
2- وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ أي أين آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد، هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ويمنعونكم من العذاب، وهل ينفعون أنفسهم(19/178)
بانتصارهم ودفع العذاب عنهم؟ لا يحصل كلا الأمرين، فإنهم وآلهتهم وقود النار، وحصب جهنم، هم لها واردون، كما قال:
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي فدهوروا فيها، أي الآلهة غير المؤمنة وعبدتهم، والقادة وأتباعهم يلقون فيها إلقاء مكررا، بعضهم على بعض، كما يلقى معهم متّبعو إبليس من عصاة الإنس والجن أجمعين، أولهم وآخرهم. وتقديم إلقاء الآلهة ليشاهد الغاوون سوء حالهم، وييأسوا من النجاة.
3- قالُوا- وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ-: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي قال أهل الغواية، وهم في حال الغيظ الشديد من المخاصمة والمحاجة بينهم وبين الآلهة المعبودة والشياطين الداعية لتلك العبادة: والله لقد كنا في ضلال عن الحق واضح بيّن حين نجعلكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر متساوين في استحقاق العبادة وإطاعة الأمر مع رب العالمين من الإنس والجن: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص 38/ 64] .
وهذا خطاب في الحقيقة بدليل قولهم:
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي والحق أنه ما دعانا إلى ذلك الخطأ العظيم إلا المجرمون من الشياطين والقادة والرؤساء، كما قال تعالى: وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب 33/ 67] . وقد أفلسنا اليوم من وعودهم الكاذبة والآمال المعقودة كما قال:
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع، ولا صديق ودود قريب يهمه أمرنا، من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس يعدونهم بالنجاة والإنقاذ، كما قال تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ(19/179)
فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
[الأعراف 7/ 53] وقال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] .
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا، فنؤمن بالله ربنا وحده لا شريك له، ونؤمن برسله الكرام، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، ولكن ذلك كذب ومراوغة، كما أخبر تعالى عنهم بخلاف ذلك، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] وقال سبحانه أيضا: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ، وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون 23/ 75] .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في ذلك المذكور من قصة إبراهيم، ومحاجته لقومه، وإقامة الحجج عليهم في التوحيد، وتغلبه عليهم، وفي مخاصمة أهل النار، لعظة وعبرة، ودلالة واضحة جلية على أن:
لا إله إلا الله، وألا معبود سواه، ولا رب غيره، وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين بالله وبرسوله.
وفي هذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه وإعراضهم عن دعوته، مع إقامة الأدلة، وظهور المعجزات.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك الذي أحسن إليهم بإرسالك لهم لهدايتهم، لقادر على الانتقام منهم، ورحيم بهم إذ لم يعجل إهلاكهم، ورحيم بالمؤمنين الطائعين.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات الكريمة تصوير تام شامل لليوم الآخر، ووصف موجز ليوم القيامة بما فيه من ثواب المتقين وعقاب العصاة الكافرين، وندم المشركين على ضلالهم في الدنيا.(19/180)
وهو تصوير محبّب، ووصف جذاب يأخذ بمجامع القلوب، فالجنة تقرّب وتدنى للمتقين فتتعلق بها نفوسهم ويأخذهم الفرح والحبور، وتعمهم الغبطة، وجهنم تبرز وتكشف للكافرين الذين ضلوا عن الهدى، وتظهر لأهلها قبل أن يدخلوها حتى يستشعروا الروع والحزن، فيبدو منها عنق، فإذا زفرت زفرة بلغت القلوب منها الحناجر، كما يستشعر أهل الجنة الفرح، لعلمهم أنهم يدخلون الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
ويقال لأهل جهنم تقريعا وتوبيخا: أين آلهتكم من الأصنام والأنداد التي كنتم تعبدونها من دون الله، هل ينصرونكم وينجونكم من عذاب الله، وهل ينتصرون لأنفسهم؟! إنهم يقلبون على رؤوسهم، ويدهورون في النار، ويلقى بعضهم على بعض، الآلهة المعبودة وعابدوها وجنود إبليس أجمعون، وهم من كان من ذريته، وكل من دعاه إلى عبادة الأصنام ونحوها فاتّبعه.
حينئذ لا يجد هؤلاء الكفرة مناصا من الإقرار بكفرهم، ويقول الإنس والشياطين والغاوون والمعبودون المتخاصمون في جهنم: والله إننا كنا في ضلال مبين، أي في خسار وتبار وحيرة عن الحق بينة، إذ اتخذنا مع الله آلهة، فعبدناها كما يعبد الإله الحق، ونجعلها مساوية في العبادة لرب العالمين، وهذه الآلهة لا يستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسهم، ولقد أضلنا الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام، أو أسلافنا الذين قلدناهم، قال أبو العالية وعكرمة:
الْمُجْرِمُونَ: إبليس وابن آدم القاتل: هما أوّل من سنّ الكفر والقتل وأنواع المعاصي.
فليس لنا شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين، ولا صديق مشفق علينا. قال الزمخشري رحمه الله: وجمع الشافع لكثرة الشافعين، ووحّد(19/181)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
الصديق لقلته، أي أن الشفعاء يكثرون عادة عند المحنة، وإن لم يكن هناك سبق معرفة، وأما الصديق المخلص في وداده فقليل نادر.
ويتمنون الأماني حين لا ينفعهم التمني، ويقولون: ولو حدث لنا رجوع إلى الدنيا، لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. يقولون ذلك حين تشفع الملائكة والمؤمنون.
قال جابر بن عبد الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليقول في الجنة: ما فعل فلان وصديقه في الجحيم؟ فلا يزال يشفع له حتى يشفّعه الله فيه، فإذا نجا قال المشركون: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» .
وقال الحسن البصري: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفّعون.
وختمت الآيات ببيان العبرة والعظة، فقال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في المذكور من قصة إبراهيم واختصام أهل النار وحسرتهم على ضلالهم لعبرة وعظة مؤثرة، ولم يكن أكثر قوم إبراهيم، بل ولا أكثر الناس بمؤمنين بالله ورسله، ولكن الله هو المنتقم الجبار الذي ينتقم من المعاندين الكفرة، الرحيم بالناس إذ لم يعجل لهم الانتقام، وإنما أمهلهم لعلهم يعودون إلى دائرة الحق والإيمان والتوبة.
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)(19/182)
البلاغة:
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ في قوله: الْمُرْسَلِينَ: مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الكل وإرادة البعض، فإنه أراد بالمرسلين نوحا، وذكره بصيغة الجمع تعظيما له، وتنبيها على أن من كذب رسولا، فقد كذب جميع المرسلين.
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً استعارة تبعية، استعار المفتاح للحاكم، والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر، والمعنى: احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل.
المفردات اللغوية:
قَوْمُ اسم لا واحد له من لفظه، كرهط ونفر، يذكر ويؤنث، وتذكيره باعتبار لفظه، وتأنيثه باعتبار معناه الْمُرْسَلِينَ المراد به نوح عليه السلام، عبر عنه بصيغة الجمع تعظيما له، ولأن من كذب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، لاشتراكهم برسالة التوحيد، أو لأنه لطول لبثه فيهم كأنه رسل. أَخُوهُمْ أي أخوة نسب أو جنس لا أخوة دين لأنه كان منهم. أَلا تَتَّقُونَ الله، فتتركوا عبادة غيره. رَسُولٌ أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيكم، وأمين على تبليغ ما أرسلت به.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من توحيد الله وإطاعته. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغه. إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي إلا على الله. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرره للتأكيد. أَنُؤْمِنُ لَكَ أنصدق لقولك. وَاتَّبَعَكَ وفي قراءة: وأتباعك. الْأَرْذَلُونَ السفلة، الأقلون جاها ومالا، كأهل الحرف والمهن الوضيعة من الحاكة والأساكفة ونحوهم، جمع أرذل، والرذالة: الخسة والدناءة. وهذا من سخافة عقولهم وقصور نظرهم على المادة وحطام الدنيا، وإشارة إلى أن اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة، وإنما هو لتوقع مال ورفعة، لذلك قال: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا علم لي بأنهم عملوه إخلاصا، أو طمعا في شيء، وما على إلا اعتبار الظاهر.(19/183)
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله، فإنه المطلع عليها، لو تعلمون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما أنا إلا بيّن الإنذار، وهذا كالعلة لما سبق، فما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا أعزاء أو أذلاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول لنا. مِنَ الْمَرْجُومِينَ المقتولين أو المضروبين بالحجارة، أو من المشتومين. قالَ: رَبِّ، إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ قال نوح ذلك، إظهارا لسبب الدعاء عليهم وهو تكذيب الحق. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي فاحكم بيني وبينهم حكما. وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي نجني من شؤم عملهم. الْفُلْكِ يطلق على الواحد والجمع. الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجائهم. الْباقِينَ من قومه. لَآيَةً عبرة شاعت وتواترت.
المناسبة:
لما قص الله تعالى على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم قصة موسى وإبراهيم، أتبعه بذكر قصة أبي البشر الثاني نوح عليه السلام، ثم خبر هود، وصالح، ولوط وشعيب فيما يأتي بعد، والهدف من كل ذلك واحد، وهو تسلية رسوله فيما يلقاه من قومه، وبيان لسنة الله في عقاب المكذبين، فإن أقوام هؤلاء جميعا كذبوا رسلهم، فعوقبوا، وقومك يا محمد كمن سبقهم، فلا تجزع ولا تحزن ولا تغتم. وقد تقدم تفصيل نبأ نوح في سورتي الأعراف وهود.
التفسير والبيان:
هذا قصص نوح عليه السلام مع قومه، فهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد أن عبدت الأصنام والأنداد، فنهاهم عن ذلك وحذرهم من وبيل عقاب ربهم، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين، فكذبه قومه، واستمروا على ما هم عليه من الوثنية، ونزّل الله تكذيبهم له منزلة تكذيب جميع المرسلين، فقال:
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ أي كذب قوم نوح رسل الله أي نوحا نفسه فيما جاءهم به من الهداية لتوحيد الله(19/184)
وإنهاء عبادة الأصنام، حين قال لهم نوح أخوهم: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ ألا تحذرون عقابه على كفركم به؟
وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا لأن من كذب رسولا، فقد كذب جميع الرسل. وإنما قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ لأن القوم مؤنث، وتصغيرها قويمة. وقال: أَخُوهُمْ لأنه كان منهم، كما تقول العرب: يا أخا بني تميم، أي يا واحدا منهم.
وبعد أن خوفهم نوح من سوء فعلهم، وصف نفسه بأمرين:
الأول- إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي، دون زيادة ولا نقص.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي خافوا عذاب الله، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وعبادته وطاعته. وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته، وهي أساس الطاعة ومبعثها، فلولا الخوف من الله تعالى ما أطاعه الناس.
الثاني- وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم، بل أدخر ثواب ذلك عند الله تعالى.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فقد وضح لكم صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به، وائتمنني عليه. وكرر ذلك للتأكيد عليهم، وتقريره في نفوسهم لأن التقوى والطاعة أساس الدين، لكن جعل علة الأول كونه أمينا فيما بينهم، وعلة الثاني حسم طمعه عنهم.
ولما لم يجدوا سبيلا للتخلص من حجته وعدم إمكان الطعن بها، أوردوا شبهة واهية فقالوا: قالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟ أي إنهم قالوا: لا نؤمن(19/185)
لك ولا نتبعك، ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأراذل السفلة في المجتمع، فإنهم أراذلنا، وضعاف الناس، وفقراء القوم، ونحن السادة أهل الجاه والثروة والنفوذ!! وهذه شبهة في نهاية السقوط والضعف، فإن نوحا عليه السلام بعث هاديا لجميع الناس، لا فرق بين غني وفقير، ووجيه ووضيع، وحسيب ومغمور، وسيد ومسود، ولا يبحث الرسول عادة عن هويات المؤمنين ومنازلهم، لذا قال:
قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي قال نوح: لا علم لي بأعمال هؤلاء وحرفهم ومهنهم، ولا أنقب عنهم أو أبحث أو أفحص أمورهم الداخلية، وإنما ليس لي إلا الظاهر، فأقبل منهم تصديقهم إياي، وأترك سرائرهم إلى الله عز وجل، وحسابهم على ربهم، لا علي، كما قال:
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي إن كان لهم عمل شيء، فما حسابهم علي، وإنما على ربي، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر، لا محاسب ولا مجاز، لو تشعرون ذلك بأن كنتم ذوي شعور مرهف وحس صادق وعقل واع، ولكنكم تجهلون، فتنساقون مع الجهل حيث سيّركم ووجهكم.
والقصد من ذلك تبديد شبهتهم، وإنكار تسمية المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى.
ثم ردّ على ما فهم من مطلبهم بإبعاد هؤلاء وطردهم من مجلسه، فقال:
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني ولا من مبدئي ورسالتي طرد هؤلاء الذين آمنوا بربهم واتبعوني وصدقوني، إنما بعثت نذيرا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني، كان مني وأنا منه، سواء كان شريفا أو وضيعا، جليلا أو حقيرا، وإني أخوّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد.
فلما أفحمهم بجوابه، لم يجدوا بدا من اللجوء إلى التهديد:(19/186)
قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي قال قوم نوح له:
لئن لم تنته عن دعوتك إيانا إلى دينك، لنرجمنك بالحجارة. وهذا تخويف منهم بالقتل بالحجارة، فعندئذ دعا عليهم بعد اليأس من إيمانهم دعوة استجاب الله منه، بعد أن أذن له، فقال:
قالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي قال نوح: يا رب، إن قومي كذبوني في دعوتي إياهم إلى الإيمان بك، فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا تنصر به أهل الحق، وتهلك أهل الباطل والضلال، ونجني من العذاب مع من آمن برسالتي وصدق بدعوتي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] .
ويلاحظ أنه ليس الغرض من هذا إخبار الله تعالى بالتكذيب، لعلمه أن الله عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أني لا أدعوك عليهم لإيذائي، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك.
والمراد من هذا الحكم في قوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه: وَنَجِّنِي.
فأجاب الله دعاءه فقال:
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي أنجينا نوحا ومن آمن بدعوته، فوحد الله وأطاعه، وهجر عبادة الأصنام، وأنقذناهم بسفينة مملوءة بالناس والأمتعة وأجناس الحيوان. ثم أغرقنا بعد إنجائهم قومه الآخرين الذين بقوا على كفرهم، وخالفوا أمره. روي أن الناجين كانوا ثمانين، أربعين رجلا وأربعين امرأة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن في إنجاء المؤمنين(19/187)
وإغراق الكافرين لعبرة وعظة لكل من صدق أو كذب بالرسل، وإن من سنتنا دائما إنجاء الرسل وأتباعهم، وإهلاك الذين كذبوا برسالتهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك الله لهو القوي الغالب المنتقم ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بمن أطاعه وأناب إليه وتاب، فلا يعاقبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
الوثنية وعبادة الأصنام تقارن عادة وجود الشعوب البدائية، فهي في الغالب عقيدتهم، لذا كان نوح عليه السلام أول رسول للناس بعد ظهور هذه العقيدة. والبدائية والمادية وسخف العقل وسطحية التفكير أمور متلازمة، لذا كان الإصرار على عبادة شيء من دون الله هو الظاهرة الشائعة، وكانت مهمة الأنبياء المتقدمين عسيرة وصعبة.
فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم إلى توحيد الله والتخلي عن عبادة الأصنام، فكذبوه وآذوه، بالرغم من أنه أكد لهم أنه رسول أمين صادق فيما بلغهم عن الله تعالى، وقد عرفوا أمانته وصدقه من قبل، كمحمد صلّى الله عليه وسلم في قريش، وبالرغم من تخويفهم من عقاب الله قائلا لهم مرة: ألا تتقون الله في عبادة الأصنام؟ ومرة: فاتقوا الله وأطيعوني أي استتروا بطاعة الله تعالى من عقابه، وأطيعوني فيما آمركم به من الإيمان، ولا طمع لي في مالكم، وما جزائي إلا على رب العالمين.
ولكن تذرعوا بشبهة واهية للبقاء على عنادهم وكفرهم، ودفعهم الغرور والاستكبار إلى الترفع عن الإيمان بسبب تصديق فئة ضعيفة برسالة نوح، ليسوا من الوجهاء ولا من الأثرياء، وإنما من طبقة المهنيين والحرفيين. وهذا قول الكفرة، فإن تعلم الصناعات مما رغب به الدين، وليست الحرفة عيبا، وإنما هي(19/188)
شرف وعزة، يستغني بها الإنسان عن الآخرين، فلا يفهمن أحد خطأ أن الدين ينتقص من قدر هؤلاء، وإنما الذي انتقصهم هم الأغنياء المترفون.
ويؤكد ذلك جواب نوح عليه السلام لهم وهو: قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنني لم أكلف العلم بأعمالهم، إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان، لا بالحرف والصنائع، وليس للحرفة أو الصنعة تأثير في ميزان الدين، وكذلك النظر في الدعوة إلى الله إلى الظاهر، لا إلى الباطن.
ثم أجابهم بجواب آخر: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم، لما عبتموهم بصنائعهم.
وجواب ثالث: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم كما تتصورون، وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء، كما طلبته قريش. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أي إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء، إنما أنا رسول للناس جميعا، أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله، وإن كان فقيرا.
ولما تغلب نوح عليه السلام على قومه بالحجة العقلية والمنطق الصريح، لجؤوا إلى التهديد شأن كل العتاة، فقالوا: قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيب ديننا لنقتلنك بالحجارة، أو لنسبنك ونشتمنك. قال الثّماليّ: كل «مرجومين» في القرآن فهو القتل إلا في مريم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [19/ 46] .
وبعد أن يئس من إيمانهم، دعا عليهم بالعذاب، طالبا حكم الله العدل فيهم، فأنجاه ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالناس والدواب وغير ذلك، ثم أغرقهم الله أجمعين.
إن في ذلك لآية وأي آية، وعبرة وعظة، وكان أكثرهم كافرين، والله هو القادر المنتقم من كل مكذّب بالله ورسله، رحيم بمن آمن وأطاع.(19/189)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
وهاتان الآيتان الواردتان للعبرة والعظة هما اللتان ختمت بهما قصة إبراهيم عليه السلام لأنهما بيت القصيد من القصة.
القصة الرابعة قصة هود عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
الإعراب:
تَعْبَثُونَ الجملة حال من ضمير: تَبْنُونَ.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ عادٌ أنثه باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبي القبيلة الأكبر، ويعبر عن القبيلة عادة باسم الأب، أو ببني فلان. رِيعٍ مكان مرتفع آيَةً علامة أو علما بارزا(19/190)
للمارة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا، كاللعب مَصانِعَ مجامع الماء ومآخذه، وقيل:
قصورا مشيدة وحصونا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي كأنكم تخلدون فيها لا تموتون، ولعل هنا: للتشبيه وَإِذا بَطَشْتُمْ بضرب أو قتل، والبطش: الأخذ بالعنف جَبَّارِينَ متسلطين عاتين بلا رأفة ولا شفقة، ولا قصد تأديب فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.
أَمَدَّكُمْ أنعم عليكم أو سخر لكم أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ كرره للتأكيد والتنبيه على دوام الإمداد، والوعيد على تركه بالانقطاع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإنعام، قدر على الانتقام سَواءٌ عَلَيْنا مستو عندنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أصلا، أي لا نرعوي لوعظك عما نحن عليه. والوعظ: كلام لطيف يلين القلب بذكر الوعد والوعيد.
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الذي خوفتنا به إلا خلق المتقدمين وكذب الأولين وعادتهم وطبيعتهم ونحن بهم مقتدون، فلا حساب ولا بعث، والمراد: عادتهم في اعتقاد ألا بعث وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه فَكَذَّبُوهُ بالعذاب فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب التكذيب في الدنيا بريح صرصر.
المناسبة:
هذه قصة أخرى للعظة والعبرة، هي قصة هود عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله وطاعته، وحذرهم من عقابه، وهم في الزمان بعد قوم نوح، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الأعراف 7/ 69] وكانوا يسكنون الأحقاف: وهي جبال الرمل قرب حضرموت في بلاد اليمن. وكانوا أولي طول مديد وبأس وشدة، ورخاء ونعيم، بسبب كثرة الأرزاق والأموال والأنهار والزروع والثمار، لكنهم مع ذلك كانوا يعبدون غير الله تعالى، وكذبوا نبيهم هودا عليه السلام، فأهلكهم.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ(19/191)
أي كذبت قبيلة عاد رسالة الرسل المرسلين من عند الله، حين قال لهم هود عليه السلام: ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إني لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله فيما أمر ونهى، وأطيعوني فيما آمركم وأنهاكم عنه، يصلح حالكم، وتسعدون في دنياكم وأخراكم، ولا أطلب منكم على تبليغ رسالتي أجرا ولا مالا، ولا أبتغي بذلك سلطانا ولا جاها، إن أجري وجزائي إلا على ربي لو علمتم ذلك، ولكنهم كذبوه وآذوه.
وهذه المقالة بعينها جاءت على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه على وحدة رسالة الأنبياء الداعية إلى توحيد الله وطاعته، وترك عبادة ما سواه.
ثم تكلم معهم هود عليه السلام على ثلاثة أمور:
1- أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ أي أتعمرون في كل مكان مرتفع بنيانا محكما هائلا باهرا، يكون علامة على القوة والعزة والغنى تفاخرا، وإنما تفعلون ذلك عبثا لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، لا للحاجة إليه، لذا أنكر عليهم لأنه تضييع للزمان، وإتعاب الأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة.
2- وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي وتتخذون قصورا مشيدة وحصونا، لكي تقيموا فيها أبدا، كأنكم مخلدون في الدنيا، أو ترجون الخلد في الدنيا، مع أنكم زائلون عنها، كما زال من كان قبلكم. وقيل: المصانع: مآخذ الماء.
روى ابن أبي حاتم رحمه الله أن أبا الدرداء رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم، فنادى:
يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون،(19/192)
ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان خيلا وركابا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟! 3- وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي إنكم مع ذلك السرف والحرص، تعاملون غيركم معاملة الجبارين لأنكم قوم قساة غلاظ عتاة متجبرون.
والخلاصة: أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، فهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو، وهذه صفات الإله، وهي ممتنعة الوصف للعبد، فدل ذلك على حب الدنيا، والخروج عن حد العبودية، والحوم حول ادعاء الربوبية.
وفي هذا تنبيه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وعنوان كل كفر ومعصية، لذا قال:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فاحذروا عقاب الله، واعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم، فذلك أدوم لكم وأنفع، إذ لا خلود لأحد في هذه الدنيا.
ثم ذكّرهم نعم الله عليهم تفصيلا، فقال:
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي اتقوا عقاب الله الذي أمدكم بنعم وفيرة، ورزقكم أنواع الحيوانات المأكولة والأولاد الكثيرة، والبساتين الغنّاء والأنهار العذبة الفياضة، فاجعلوا مقابل هذه النعم عبادة الله الذي أنعم بها.(19/193)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي إني أخشى عليكم إن كذبتم وخالفتم وأصررتم على الكفر عذاب يوم شديد الأهوال.
وقد دل هذا على أنه دعاهم إلى الإيمان بالله بالحسنى وبالترغيب والترهيب، والتخويف والبيان، بما هو النهاية في ذلك، فكان جوابهم:
قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا، وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرجع عما نحن عليه، كقوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود 11/ 53] . وقال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة 2/ 6] . وذريعتهم في عدم إيمانهم هي:
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي ما جئت به اختلاق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، كما قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أو ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، ونحن تابعون لهم، سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، وما نحن بمعذّبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول.
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أي فكانت النتيجة أنهم كذبوا هودا عليه السلام فيما أتى به، واستمروا على تكذيبه ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، أي ريح شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا، فكان سبب إهلاكهم من جنس عملهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الفجر 89/ 6- 7] وهم عاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم 53/ 50] وهم من نسل إرم بن سام بن نوح، وذات العماد: الذين كانوا(19/194)
يسكنون العمد، وليست إرم بلدا. وقال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [فصلت 41/ 15] . وقد حصبت الريح كل شيء لهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف 46/ 25] .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في إهلاك عاد بسبب تكذيبها رسولها لعبرة لكل الأقوام فيما أتيتهم به من رسالة الله، وما كان أكثر هؤلاء المهلكين بمؤمنين في سابق علمنا، وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين من عباده إن تابوا وأصلحوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تبين من هذه القصة ما يلي:
1- لقد كان موقف هود عليه السلام من قومه موقف الحكيم الحليم المتلطف بهم، فبالرغم من أنهم وصفوه بالسفاهة والجنون، ترفّع عن اتهامهم، واكتفى بالقول: قالَ: يا قَوْمِ، لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 67] .
2- إن أسلوب الداعية يجب أن يكون لطيفا دون تنفير، فقد سلك هود عليه السلام هذا الأسلوب، فذكّر قومه بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، وحثهم على شكرها، والإيمان بالله المنعم كفاء ما أنعم، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر.
3- إن التجبر أو العتو أو الطغيان لا يأتي بخير، وكل من ظن أن جبروته يحقق له كل ما يريد فهو غرّ جاهل، فهؤلاء قبيلة عاد الأولى توافرت لهم القوة البدنية الفائقة، والطول المديد، والنعمة السابغة، من الأموال والبساتين(19/195)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
والأنهار، والحصون المشيدة والمباني الضخمة والزروع والثمار، ولكنهم لما طغوا وبغوا، وعاملوا الناس معاملة الجبابرة، وأصروا على كفرهم وعنادهم، عاقبهم الله بما هو أشد من جبروتهم، وأرسل عليهم ريحا باردة عاتية، فدمرت كل شيء لهم إذ أين قوة البشر من قوة الله وقدرته؟! 4- إذا استولى الكفر والعناد والكبرياء على قلب الإنسان، لم يبق أمل في نفوذ هداية الله إليه، ولم يعد يحسّ فيه بتقوى الله، ولا يقدّر وجوب طاعته:
قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ.
5- يعتمد عبدة الأوثان في اعتقادهم وعبادتهم على ما توارثوه عن الأسلاف، ويسيطر الفكر المادي على أذهانهم، فينظرون إلى الحياة نظرة المتمتع المترفه فيها، ثم يرتحل عنها: حياة ثم موت، ولا بعث.
6- يرى المتأمل كيف أهلك الله من كذّب رسوله، فليحذر الناس في كل زمان ومكان من عصيان الرسل وتكذيبهم، ولكن مع الأسف لا يتعظ أكثر الناس بهذا، ويبقون في كفرهم وعدم إيمانهم، ويهملون النظر إلى قدرة الله القادر على الانتقام من كل أحد.
القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)(19/196)
الإعراب:
فارِهِينَ حال من واو تَنْحِتُونَ.
هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ شِرْبٌ مرفوع بالظرف، على مذهب سيبويه والأخفش لأنه قد جرى وصفا على النكرة، والظرف إذا وقع وصفا ارتفع به ما بعده، كالفعل.
البلاغة:
وَأَطِيعُونِ استعار الطاعة التي هي انقياد الآمر لامتثال الأمر.
يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ بينهما طباق.
الْمُرْسَلِينَ تَتَّقُونَ أَمِينٌ أَطِيعُونِ الْعالَمِينَ عُيُونٍ ... توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذلك هَضِيمٌ مَعْلُومٍ عَظِيمٍ الرَّحِيمُ.
إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مبالغة لأن المسحّر مبالغة عن المسحور.
المفردات اللغوية:
إِنْ أَجْرِيَ ما أجري أَتُتْرَكُونَ إما إنكار لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم، وإما تذكير بالنعمة في تخلية الله إياهم فِي ما هاهُنا من الخيرات والنعيم طَلْعُها أول ما يطلع من ثمر النخل، وما يأتي بعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا، ثم رطبا، ثم تمرا هَضِيمٌ نضيج لطيف(19/197)
لين وَتَنْحِتُونَ النحت: النّجر والبري والتسوية فارِهِينَ بطرين، من الفره: وهو شدة الفرح، أو حاذقين بنحتها من الفراهة: وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب، وقرئ: فرهين، أي بطرين وهو أبلغ وَأَطِيعُونِ فيما أمرتكم به الْمُسْرِفِينَ العاصين يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ بطاعة الله، وأتى به لبيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح. الْمُسَحَّرِينَ المغلوب على عقولهم بكثرة السحر مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك الرسالة شِرْبٌ نصيب من الماء عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب فَعَقَرُوها رموها بسهم ثم قتلوها، وأسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقر برضاهم، ولذلك عذبوا جميعا نادِمِينَ على عقرها خوفا من حلول العذاب، لا توبة من ذنوبهم، أو عند حلول العذاب، ولذلك لم ينفعهم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود به، فهلكوا.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قال البيضاوي: في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم، لما أخذوا بالعذاب، وإن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم.
المناسبة:
لما قص الله على رسوله قصة هود عليه السلام وعاد، أتبعه بقصة صالح عليه السلام وثمود، وقد كانوا عربا مثل عاد، يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام أي على طريق المدينة، ومساكنهم معروفة مشهورة، كانت قريش في رحلة الصيف يمرون عليها، وهم ذاهبون إلى الشام، ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام، فوصل إلى تبوك ليتأهب لذلك. وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام.
دعاهم نبيهم صالح إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلّغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذّبوه وخالفوه، فأخذهم عذاب الزلزلة، فزلزلت بهم الأرض، ولم تبق منهم أحدا، كما قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة 69/ 5] .(19/198)
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قد عرفنا أن هذه المقالة مشابهة لما سبقها من مقالة نوح وهود عليهما السلام.
والمعنى: أن قبيلة ثمود كذبت برسالة نبيهم صالح عليه السلام حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله، فتؤمنوا به وتوحدوه وتعبدوه، وتطيعوني فيما بلغتكم من الرسالة، فإني رسول من عند الله تعالى، أمين على رسالته التي أرسلها معي إليكم، ولا أطلب على نصحي وتبليغي عوضا ولا جزاء، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني، وهو يتولاني في الدنيا والآخرة.
ثم وعظهم، وحذرهم نقم الله أن تحل بهم، وذكّرهم بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الطيبات، وفجّر لهم العيون والأنهار، وأنبت لهم الزروع والثمرات، وجعلهم في أمن من المحذورات، فقال مخاطبا لهم بأمور ثلاثة:
1- أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟ أي أتظنون أنكم في الدنيا مخلّدون في النعيم، وأنكم تتركون في دياركم آمنين، متمتعين في الجنات والعيون، والنخيل ذات الرطب الهضيم اللين اللطيف، والزروع والثمار، وتطمعون في ذلك، وتظنون ألا دار للجزاء على الأعمال؟ لا يعقل أن تبقوا على الشرك والكفر، وأنتم ترفلون في هذه النعم، وتتمتعون بهذه الخيرات.
وقوله: فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فصّله وفسره بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... إلخ، فهو تفصيل بعد إجمال.(19/199)
2- وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي وتتخذون بيوتا في الجبال حاذقين في نحتها وبنائها، بطرين فرحين أشرين بها، متنافسين في عمارتها، من غير حاجة إلى السكنى فيها. فاتقوا الله حق التقوى، وأقبلوا على ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم.
ويلاحظ أن الغالب على قوم هود الذين تقدم وصفهم هو اللذات المعنوية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية المادية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة.
3- وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي ولا تطيعوا أمر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا والترف والمجون، وهم كبراؤهم ورؤساؤهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق، وهم الرهط التسعة في أرض ثمود المشار إليهم في آية أخرى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَلا يُصْلِحُونَ
[النمل 27/ 49] . وإنما قال وَلا يُصْلِحُونَ بعد قوله يُفْسِدُونَ لبيان أن فسادهم خالص، ليس معه شيء من الصلاح، على عكس حال بعض المفسدين المخلوطة أعمالهم ببعض الصلاح.
فأجابوا نبيهم صالحا عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل بقولهم: قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي قال قومه: ثمود، الذي يغلب على الظن أنك أصبحت من المغلوب على عقولهم بكثرة السحر، وصرت من المسحورين، أي إنك في قولك هذا مسحور لا عقل لك، فلا يسمع لرأيك ولا لنصحك.
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحي إليك دوننا، وتكون نبيا لنا؟ كما قالوا في آية أخرى:(19/200)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر 54/ 25- 26] . وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين، لكانوا من جنس الملائكة.
ثم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم، وهو أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء (حامل لعشرة أشهر) صفتها كذا وكذا، فما كان منه إلا أن أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح عليه السلام، فصلى، ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء، على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم. «1»
قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي إن النبي صالح عليه السلام قال مجيبا طلبهم إرسال آية تكون دليلا على صدقه: الدليل هو ناقة الله هذه، فهي الآية والمعجزة الدالة على صدقي، ترد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي وإياكم أن تصيبوها بأذى من ضرب أو قتل أو غير ذلك، فيصيبكم عذاب شديد. وقد عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم بالعظم أبلغ من وصف العذاب لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب، كان موقعه من العظم أشد.
فَعَقَرُوها، فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي ذبحوا الناقة، ثم ندموا على فعلهم عند معاينة العذاب، أي حين علموا أن العذاب نازل بهم، فنالهم
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 344، تفسير القرطبي: 13/ 130، وهذا مرويّ عن ابن عباس، وربما كان الأمر محتاجا إلى رواية موثقة ثابتة السند ليجب علينا الاعتقاد بذلك. [.....](19/201)
عذاب الله وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، وأصبحوا في ديارهم جاثمين.
والذي حدث أن الناقة مكثت لديهم حينا من الزمان، ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها، يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا، فلما طال عليهم الأمد، وحضر أشقاهم، تمالؤوا على قتلها وعقرها. روي أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم، فأصاب رجلها، فسقطت، ثم ضربها قدار.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في ذلك المذكور من قصة صالح عليه السلام، وتكذيب قومه ثمود لرسالته، واعتدائهم على معجزة الناقة لآية وعبرة وعظة، وأي آية أعظم من هذا؟ إنهم كذبوا رسولهم فلم يؤمنوا به، واغتروا بما لهم ومتعتهم الدنيوية، واعتدوا على الناقة، فنزل بهم العذاب، ولم يكن أكثرهم مؤمنين بالله ورسله، وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأنابوا إليه.
وهذه الخاتمة بذاتها هي خاتمة قصة نوح وهود لأن القصد منها واحد، وهو العظة والاعتبار بحال المكذبين.
يقال: إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمان مائة رجل وامرأة.
فقه الحياة أو الأحكام:
كانت قبيلة ثمود تسكن في الحجر «1» وهي ذوات نخل وزروع ومياه، ومبان جبلية شاهقة فخمة، وكانوا معمّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، إلا أنهم اغتروا بمالهم وجاههم، فكذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، فقرعهم ووبخهم، وقال:
أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت؟.
__________
(1) الحجر: واد بين المدينة والشام.(19/202)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
وأمرهم بتقوى الله عز وجل وهي امتثال أمره واجتناب نهيه، وحذرهم من إطاعة أمر كبرائهم ورؤسائهم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
فاتهموه بأنه مسحور لا عقل له، ونفوا عنه الرسالة لأنه بشر مثلهم فكيف يوحى إليه دونهم، ويكون نبيا غيرهم؟ ثم طالبوه بالإتيان بمعجزة حسية تدل على صدقه، فأيده الله بالناقة العظيمة التي لا مثيل لها، فكانت تشرب ماء نهير صغير كله في يوم، ثم تدرّ لهم الحليب، فيحلبون منها ما شاؤوا في اليوم التالي.
ولكن أبطرتهم النعمة، وأساؤوا إلى أنفسهم، وتواطؤوا على عقرها، حبّا في الإساءة ذاتها، فعقرها رجل منهم اسمه «قدار» ثم ندموا على عقرها لما أيقنوا بالعذاب، ولكن لم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ... [النساء 4/ 18] فأهلكهم الله بالزلزلة والصيحة بسوء فعلهم وقبح كفرهم.
القصة السادسة قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)(19/203)
الإعراب:
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ على حذف مضاف، أي عقوبة ما يعملون من الفاحشة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ.
قالَ مِنَ الْقالِينَ جناس ناقص، الأول من القول، والثاني من القلى مصدر قلى:
أبغض بغضا شديدا.
المفردات اللغوية:
أَخُوهُمْ الذي يعايشهم في السكن والبلد، لا في الدين والنسب لأنه ابن أخي إبراهيم من أرض بابل الذُّكْرانَ الذكور مِنَ الْعالَمِينَ من الناس لَكُمْ لأجل استمتاعكم مِنْ أَزْواجِكُمْ أي أقبالهن عادُونَ متجاوزون الحدود الشرعية والعقلية والفطرية السليمة من الحلال إلى الحرام لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن إنكارك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ المطرودين المنفيين من بلدنا الْقالِينَ المبغضين لفعلكم غاية البغض أو أشد البغض مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من عذاب أو عقوبة أو شؤم عملهم.
وَأَهْلَهُ أي أهل بيته والمتبعين له على دينه، أخرجه الله من بينهم وقت حلول العذاب بهم إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم، راضية بفعلهم، وقيل: كانت فيمن بقي في القرية، فإنها لم تخرج مع لوط دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم أشد إهلاك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قيل: أمطر الله عليهم حجارة، فأهلكهم فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم، واللام فيه للجنس، حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل (ساء) والمخصوص بالذم محذوف، وهو مطرهم.(19/204)
المناسبة:
هذه قصة أخرى كسابقاتها للعبرة والعظة، هي قصة لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، بعثه الله تعالى إلى أمة عظيمة في عهد إبراهيم، تسكن من قطاع الأردن سدوم وأعمالها التي أهلكها الله وهي عمورة وثلاثة مدن أخرى، وجعل مكانها بلاد الغور المتاخمة لجبال بيت المقدس، والمحاذية لبلاد وجبال الكرك والشوبك، والمجاورة للبحر الميت «بحيرة لوط» فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما ابتدعوه من الفواحش، مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، من إتيان الذكور دون الإناث.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي إن قوم لوط كذبوا نبيهم المرسل إليهم ومن كذّب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، حين قال لهم لوط عليه السلام: ألا تتقون عذاب الله بترك معاصيه، فإني رسول لكم مؤتمن على تبليغ رسالته، فاتقوا الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وأطيعوني فيما آمركم به من عبادة الله وحده، وإتيان النساء بالزواج وما أنهاكم عنه من ارتكاب الفواحش، ولا أطلب منكم أجرا أو جزاء على تبليغ رسالتي، فما جزائي إلا على الله رب الإنس والجن وجميع العوالم في الأرض والسماء.
ثم وبخهم وقرعهم وأنكر عليهم ظاهرة الفحش الشنيعة قائلا: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي كيف تقدمون على شيء شاذ جدا، أترتكبون هذه المعصية الشنيعة؟ وهو إتيان(19/205)
الذكور من الناس، وهو كناية عن وطء الرجال، وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء، وسماه الله تعالى فاحشة، فقال: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 80] وتتركون إتيان نسائكم اللاتي جعلهن الله للاستمتاع الطبيعي بهن، كما قال تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 222] .
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي لكن أنتم قوم متجاوزون الحد في الظلم وفي جميع المعاصي، ومنها هذه الفعلة الشنيعة.
وقوله: بَلْ إضراب، بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم. والمراد: بل أنتم أحق بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة.
ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه وهددوه:
قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي قال قوم لوط له:
لئن لم تنته عن دعواك النبوة، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكور، وهو ما جئتنا به، لنطردنك وننفينك من هذه البلدة التي نشأت فيها، ونبعدنك من بيننا، كما أبعدنا من نهانا قبلك، كما قال تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل 27/ 56] .
فأجابهم بأن إبعاده لا يمنعه من الإنكار عليهم والتبرؤ منهم لما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه، وأنهم مستمرون على ضلالتهم، فقال:
إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي إني من المبغضين بغضا شديدا لعملكم، فلا أرضاه ولا أحبه، وإني بريء منكم، وإن هددتموني وأوعدتموني بالطرد. وكونه بعض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره، هو بعضهم، وقوله:
مِنَ الْقالِينَ أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قال.(19/206)
وفيه تنبيه على أن هذا الفعل موجب للبغض، حتى يبغضه الناس.
ثم دعا الله بإنجائه من سوء فعلهم قائلا:
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي يا ربّ، خلّصني من عقوبة ما يعملون من المعاصي، ونجني من شؤم أعمالهم.
والخلاصة: أنهم لما توعدوه بالإخراج، أخبرهم ببغض عملهم، ثم دعا ربّه بالنجاة من سوء فعلهم. فأجاب الله دعاءه:
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي فنجيناه وأهل بيته ومن آمن به جميعا ليلا من عقوبة عملهم ومعاصيهم، إلا امرأة عجوزا هي امرأته، وكانت عجوز سوء لم تؤمن بدين لوط، بقيت مع القوم ولم تخرج، فهلكت، كما قال سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [هود 11/ 81] لأنها كانت راضية بسوء أفعالهم، وتنقل إليهم الأخبار.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي ثم أهلكنا القوم الآخرين الباقين الذين انغمسوا في المنكرات، وكفروا بالله الذي خلقهم، ولم يؤمنوا برسله، وأنزلنا عليهم العذاب الذي عمّ جميعهم، وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل منضود، فبئس هذا المطر مطر المهلكين المنذرين بالهلاك. قال قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم.
وقال مقاتل: خسف الله بقوم لوط، وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط. وقال وهب بن منبّه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار، أي فجر الله فيها البراكين النارية. والْمُنْذَرِينَ لم يرد بهم قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
والخلاصة: أن عقابهم كان زلزالا شديدا جعل بلادهم عاليها سافلها، وكان(19/207)
مصحوبا بكبريت ونار وحجارة من السماء، فأحرقت قراهم، كما قال تعالى:
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود 11/ 82] فالعقوبة: هي الزلزال والبركان.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وهذه هي العبرة والخاتمة التي ختمت بها القصة، كما ختمت بها قصص الأنبياء المتقدمين، والمعنى: إن في تلك القصة لعبرة وعظة لكل متأمل، حيث أهلك الله العصاة الموغلين في المعصية، وهم اللوطيون، ونجى المؤمنين الصالحين الذين أنكروا تلك الفاحشة، وكانت امرأة لوط من الهالكين لتواطؤها مع قومها، ومحبتها فعلهم، ولم تنفعها صلتها بالنبي لوط عليه السلام لأن لكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وما كان أكثر هؤلاء القوم بمؤمنين، بل كانوا وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين التائبين.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الكفر بالله تعالى ورسله، والشذوذ الجنسي (اللواط) وترك الاستمتاع الطبيعي الحلال من طريق الزواج بالنساء، مدعاة للانتقام الإلهي، والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة.
ومهمة النبي لوط عليه السلام كانت صعبة جدا في علاج هذا الأمر المتأصل المستعصي في قومه، فأنكر عليهم أشد الإيمان، ووبّخهم أشد التوبيخ، ووصفهم بأنهم قوم موغلون في العدوان وتجاوز حدود الله، وأعلن بغضه الشديد لعملهم، بالرغم من تهديدهم له بالطرد والإبعاد من بلدهم.
ولما يئس لوط عليه السلام من إيمان هؤلاء القوم بالله، والتطهر من فعل الفاحشة الشنيعة، دعا ربه بأن ينجيه وأهله من عذاب عملهم، وألا يصيبه من عذابهم، وهذا يتضمن الدعاء عليهم، ولا يدعو النبي على قومه إلا بإذن من ربه.(19/208)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
فأجاب الله دعاءه، ونجاه وأهل بيته ومن آمن معه أجمعين من العقاب الأليم الذي أنزله بهم، إلا امرأته العجوز بقيت في عذاب الله تعالى.
وكان العقاب الدنيوي هو الإهلاك بالخسف والحصب، أي بالزلزال والبركان، فأمطر الله عليهم الحجارة، بأن خسف جبريل عليه السلام بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة.
إن في ذلك لآية وأي آية، والعاقل من اتعظ بغيره، ولم يكن من قوم لوط مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه، والله قادر على الانتقام من أعدائه، وهو في الوقت نفسه رحيم بأوليائه المؤمنين.
القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)(19/209)
الإعراب:
الْأَيْكَةِ معرّف بالألف واللام، ومجرور بالإضافة، يقرأ بالهمزة وبتخفيفها، وهو الوجه ويقرأ بلام أصلية مفردة «ليكة» بالنصب: اسم بلد، على أنه ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والتأنيث، ووزنه «فعلة» . والواقع أن أصل: «ليكة» : الأيكة، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت، فاستغني عن همزة الوصل، وصارت الكلمة «ليكة» . وكتبت هنا وفي سورة «ص» بغير ألف اتباعا للفظ.
البلاغة:
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ إطناب لأن وفاء الكيل نهي عن الخسران.
المفردات اللغوية:
الْأَيْكَةِ غيضة شجر كثير ناعم ملتف، قرب مدين، بعث الله إلى أهلها شعيبا عليه السلام، كما بعث إلى مدين، ولم يكن منهم نسبا، وكان أجنبيا منهم، ولذلك قال: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل «أخوهم» .
جاء في الحديث: «إن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم، وإلى أصحاب الأيكة» .
أَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ الميزان السوي أو العدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم من حقهم شيئا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تفسدوا أشد الإفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق، يقال: عثا في الأرض: أفسد فيها، ومُفْسِدِينَ حال مؤكدة لمعنى عاملها وَالْجِبِلَّةَ أي ذوي الجبلة، أي الخلقة والطبيعة، يقال: جبل فلان على كذا، أي خلق، والمراد: أنهم كانوا على خلقة عظيمة الْأَوَّلِينَ من تقدمهم من الخلائق الْمُسَحَّرِينَ المغلوبين على عقولهم بكثرة السحر.
وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة، مبالغة في تكذيبه، أي المسحور البشر وَإِنْ نَظُنُّكَ إِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها(19/210)
محذوف، أي إنه لَمِنَ الْكاذِبِينَ في دعواك كِسَفاً جمع كسفة أي قطعة (وزنا ومعنى) والمراد قطع عذاب. الظُّلَّةِ السحابة التي أظلتهم بعد حر شديد أصابهم، فاجتمعوا تحتها، ثم أمطرتهم نارا فاحترقوا جميعا.
إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إلى قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هي مقالة الأنبياء السابقين نفسها.
المناسبة:
هذا آخر القصص السبع المذكورة في هذه السورة باختصار، تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من إعراض قومه، فيغتم ويحزن، وتهديدا للمكذبين به، وإعلاما باطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به.
وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ومع أهل الأيكة، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر، بعثه الله إليهم، لإصلاح الوضع الاجتماعي المتردي فيهم، وهو بخس الكيل والميزان وتطفيفه، والإفساد الشديد في الأرض، فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان، وألا يعثوا في الأرض مفسدين، فكذبوه، فأهلكهم الله بعذاب يوم الظلة.
التفسير والبيان:
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي كذب أصحاب الغيضة وهي الشجر الكثير الملتفّ، وكانت قرب مدين، وقال ابن كثير: «أصحاب الأيكة: هم أصحاب مدين على الصحيح» «1» . كذبوا رسولهم الذي بعث إليهم، وهو شعيب عليه السلام.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 345.(19/211)
كذبوه حين قال لهم شعيب: ألا تتقون عذاب الله؟! بالإيمان به وبرسوله وبالامتناع عن معاصيه. ولم يقل «أخوهم شعيب» لأنه كما يرى الزمخشري والبيضاوي والرازي لم يكن منهم نسبا. ورأى ابن كثير أنه تعالى قطع نسب الأخوة بينه وبينهم، للمعنى الذي نسب إليهم وهو عبادة الأيكة وهي شجرة، وإن كان أخاهم نسبا.
وحثهم بإخلاص على اتباع رسالته مطمئنا لهم بصراحة أنه رسول إليهم مرسل من عند الله، أمين على تبليغ الرسالة بكاملها، فاتقوا الله وخافوه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وما أطلب منكم أجرا وجزاء ماديا أو معنويا كجاه أو سلطان أو رياسة على تبليغي الرسالة، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني إليكم.
نصحهم بهذه النصائح الأساسية في رسالته، ثم أمرهم بأشياء قائلا:
1- إيفاء الكيل والميزان: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي إذا بعتم فأتموا الكيل والميزان، ولا تكونوا ممن ينتقص الناس حقوقهم، وإذا اشتريتم فلا تزيدوا في الوزن والكيل طمعا بأموال الناس، كما لو بعتم، أي أن الواجب يقتضي المساواة في الأخذ والعطاء، فخذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي وزنوا بالميزان العادل السوي، ونظير الآية قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين 83/ 1- 4] فهذا نهي عن التطفيف في الكيل والوزن، يشمل المساواة في الأخذ والعطاء والبيع والشراء.
ثم نهاهم عن الظلم والبخس نهيا عاما في كل حق فقال:(19/212)
2- عدم إنقاص الحقوق: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوهم أموالهم أو حقوقهم في أي شيء مكيل أو موزون، مذروع أو معدود، فشمل كل المقادير، وأوجب العدل في المقاييس عامة، كيلا أو وزنا أو مساحة أو قدرا، كذلك شمل حقوقهم الأدبية والمعنوية كالحفاظ على الكرامة والعرض، قال الرازي: وهذا عام في كل حق يثبت لأحد ألا يهضم، وفي كل ملك ألا يغصب مالكه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض بجميع أنواعه فقال:
3- عدم الإفساد: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي ولا تفسدوا أشد الإفساد في الأرض كقطع الطريق والغارة والنهب والسلب والقتل وإهلاك الزرع وغير ذلك من أنواع الفساد التي كانوا يفعلونها.
4- تقوى الله: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي وخافوا بأس الله الذي تفضل عليكم بخلقكم وخلق من تقدمهم من ذوي الخلقة المتقدمين، من آبائهم الذين انحدروا منهم وكانوا في الظاهر سبب وجودهم وخلقهم، ومنهم أصحاب البأس والقوة والمال كقوم هود وقوم صالح. وهذا كما قال موسى عليه السلام سابقا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء 26/ 26] .
فأجابوه بالطعن في رسالته من ناحيتين، ثم بالاستخفاف بالوعيد والتهديد. أما الطعن فهو:
1- إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي ما أنت إلا رجل مسحور مغلوب على عقله، فلا يسمع لقولك، ولا يؤبه لنصحك. وهذا مثلما أجابت به ثمود رسولها، تشابهت قلوبهم، واتفقت منازع الكفر فيهم.
ثم قالوا له: إنك مثلنا بشر، فما الذي فضّلك علينا، وجعلك نبيا ورسولا دوننا؟!. وأتوا بالواو في قولهم وَما للتعبير عن قصدهم معنيين كلاهما مناف(19/213)
للرسالة في تقديرهم: السحر والبشرية. وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحدا، وهو كونه مسحرا، ثم قرروا كونه بشرا مثلهم.
2- وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي ويغلب على ظننا أنك ممن تعمد الكذب فيما يقول، ولست ممن أرسلك الله إلينا.
وأما الاستخفاف بالتهديد فهو:
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك بأننا سنعذب، فأنزل علينا قطعا من السحاب فيها نوازل العذاب. وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب والعناد واستبعادهم وقوع العذاب. وبعبارة أخرى: إن كنت صادقا أنك نبي، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء. والسماء: السحاب أو المظلة.
وهذا شبيه بما قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى:
وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى أن قالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:
17/ 90- 92] وقوله سبحانه: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] .
وهم بهذا ظنوا أنه إذا لم يقع العذاب ظهر كذبه، فأجابهم شعيب عليه السلام: قالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي قال شعيب: الله ربي أعلم بعملكم، فيجازيكم عليه، إما عاجلا وإما آجلا، وأما أنا فلا قدرة لي على إنزال العذاب، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به، وهو غير ظالم لكم.
وهذا دليل على أنه لم يدع عليهم، بل فوض الأمر في التعذيب إلى الله تعالى، فلما استمروا في التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظّلّة، فقال تعالى:(19/214)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي فلما أصروا على التكذيب واستمروا عليه، جوزوا بعذاب الظلة وهو أنهم أصيبوا بحر عظيم، أخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى الخروج إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا، فاحترقوا جميعا. وهذا كما حكى الله تعالى بقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور 52/ 44] .
إن ذلك العذاب عذاب شديد الهول، عظيم الوقع، أدى إلى الإفناء:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في تلك القصة البليغة لعبرة وعظة يا أهل مكة وغيركم من الكفار، تلك العبرة الدالة بوضوح على صدق الرسل، ومجيء العذاب بتوقيت الله، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن الله ربك يا محمد لهو القادر على الانتقام من الكافرين، الرحيم بعبادة المؤمنين.
وهذه هي الخاتمة بذاتها التي ختمت بها القصص السبع المذكورة في هذه السورة للدلالة على وجوب استنباط العظة والعبرة من كل قصة، وكلها دليل قاطع على أن القرآن كلام الله الذي يخبر وحده عن الغيب: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تكرر في المناسبة والتفسير بيان الهدف العام من هذه القصة وغيرها من القصص السابقة، وكان مجموعها في هذه السورة سبعا، فإن الله تعالى أنزل في قرآنه هذه القصص تسلية لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، وإزالة للحزن عن قلبه، بسبب صدود الناس عن دعوته، وهي تسرية دائمة لكل داعية مخلص، حتى لا ييأس(19/215)
ولا يعجز، ولا يلين ولا يقف عن السير في دعوته، فيستمر ثابت الخطا، ماضي العزم، رافع الرأس معتزا بما يقوم به.
والخلاصة: أن السبب في تشابه بداية هذه القصص وآخرها: هو التأكيد وتقرير المعاني في النفوس وتثبيتها في الصدور.
وفهم من هذه القصص أن الله هو الذي أنزل العذاب على المكذبين لرسله، وأنه إنما أنزله عليهم جزاء وفاقا على كفرهم، لا ظلما ولا تشفيا ولا ثارا، وإنما لإرساء معالم الحق، وتوطيد صرح العدل بين الخلائق.
ويلاحظ أن جميع الأنبياء متفقون على أصول الرسالات من الدعوة إلى توحيد الله، واحترام الفضائل ومحاربة الرذائل، ثم يقوم كل واحد منهم بمعالجة الظواهر المرضية، والأوضاع الشاذة عند قومه، فهذا هود عليه السلام ينكر على قومه العبث بالبناء، والطمع في الدنيا كأنهم مخلدون، والبطش بطش الجبارين وغير ذلك من النزعات المعنوية المغالية وهذا صالح عليه السلام ينكر على قومه إقامة البيوت في الجبال بطرين أشرين مستكبرين، حريصين على الملذات الحسية المادية وهذا لوط عليه السلام يستنكر الفاحشة الشنيعة وهي إتيان الذكور في أدبارهم، وترك إتيان النساء الأزواج في أقبالهن وهذا شعيب ينكر على قومه الظلم الاجتماعي بسرقة أموال الناس وإهدار حقوقهم بتطفيف الكيل والميزان، فيأمرهم بإيفاء الكيل والوزن كاملا غير زائد ولا ناقص، وبألا يبخسوا الناس أشياءهم، وألا يعثوا في الأرض فسادا، وأن يتقوا الله الذي خلقهم وخلق آباءهم العظام الأولين. ومن أنعم بهذه النعم كان هو المستحق للعبادة، لكنهم قوم ظالمون كافرون بالقيم والأخلاق الاجتماعية، مستصغرون وعيد الرسل، مستخفون بنصحهم ووعظهم.
وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة،(19/216)
والامتناع عن أخذ الأجر على تبليغ الرسالة.
واتفق هؤلاء الرسل على الترفع عن مقابلة إساءة أقوامهم لهم واتهاماتهم الباطلة، والصبر على الدعوة، وتفويض الأمر الحازم الحاسم بإنزال العذاب وغيره إلى الله عز وجل، ليبقوا في مرتبة البشرية التي ظنها الكفرة نقصا، وهي في الحقيقة عنوان العبودية لله عز وجل.
وأما صفة عذاب قوم شعيب وإهلاكهم، فإن الله أبانها في ثلاثة مواطن، كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق، ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين لأنهم قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [88] فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه، فأخذتهم الرجفة.
وفي سورة هود قال: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [67] ولأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [87] قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم، فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الآية.
وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلّط عليهم الحر سبعة أيام، حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم، فاستظل بها، فأصاب تحتها بردا وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعا، فاستظلوا تحتها، فأججت عليهم نارا «1» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 346.(19/217)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
إنزال القرآن من عند الله لإنذار المشركين وبشارة المؤمنين
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 212]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
الإعراب:
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ متعلق بنزل، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين، أي لتكون من المنذرين بلغة العرب.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ اسم يكن، وآيَةً خبر مقدم، ولَهُمْ متعلق بحال، والتقدير: أولم يكن لهم علم بني إسرائيل آية لهم. ويَكُنْ يقرأ بالياء والتاء. وعلى قراءة التاء تكون: آية خبر: تكن، والتاء لتأنيث القصة، وأَنْ يَعْلَمَهُ في موضع رفع مبتدأ، ولَهُمْ خبر مقدم، والتقدير: أولم تكن القصة علم بني إسرائيل آية لهم.
الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي، وهو من لا يتكلم بالعربية، أصله: أعجمين، فاستثقلوا(19/218)
اجتماع الأمثال، فحذفوا الياء الثانية من ياءي النسب، ثم حذفوا الياء الأولى لالتقاء الساكنين، مثل حذفهم ياءي النسب في «الأشعرين ومقتدين والياسين» .
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى وإما نافية، وما «الثانية» في موضع رفع ب أَغْنى.
ذِكْرى إما منصوب على المصدر، أي ذكّرنا ذكرى، وإما منصوب على الحال، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: إنذارنا ذكرى.
البلاغة:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ التأكيد بإن واللام لدفع شبهة المتشككين في صحة نزول القرآن.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت.
يَعْلَمَهُ عُلَماءُ جناس اشتقاق.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي من أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحال.
المفردات اللغوية:
الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل عليه السلام، فإنه أمين على وحي الله تعالى عَلى قَلْبِكَ على روحك لأنه مركز الإدراك والتكليف دون الجسد مِنَ الْمُنْذِرِينَ عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى، لئلا يقولوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ وقوله:
مِنَ الْمُنْذِرِينَ معناه من الذين أنذروا بلغة العرب، وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، إذا تعلق قوله بِلِسانٍ بالمنذرين. وأما إذا تعلق بنزل فمعناه نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به، فتنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك لأنك تفهمه ويفهمه قومك.
وَإِنَّهُ أي القرآن المنزل على محمد لَفِي زُبُرِ كتب جمع زبور الْأَوَّلِينَ كالتوراة والإنجيل أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي أولم يكن لكفار مكة دليلا وبرهانا على صحة القرآن، أو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: «أن يعلمه علماء بني إسرائيل» أن يعرفه هؤلاء العلماء، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن آمنوا، فإنهم يخبرون بذلك، بما هو مذكور في كتبهم.
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قرأه محمد عليه السلام على كفار مكة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ما صدقوا به(19/219)
أنفة من اتباعه، ولفرط عنادهم واستكبارهم كَذلِكَ سَلَكْناهُ أدخلناه، أي مثل إدخالنا التكذيب به أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين أي كفار مكة بقراءة النبي صلّى الله عليه وسلم، وضمير أدخلناه عائد للكفر المدلول عليه بقوله: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وهو يدل على أن الكفر بخلق الله تعالى، وقيل: يعود الضمير للقرآن، أي أدخلناه في قلوبهم، فعرفوا معانيه وإعجازه، ثم لم يؤمنوا به عنادا. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان.
بَغْتَةً فجأة في الدنيا والآخرة لا يَشْعُرُونَ بإتيانه مُنْظَرُونَ مؤخرون لنؤمن به، ويقولون ذلك تحسرا وتأسفا أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ فيقولون: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف 7/ 70 وهود 11/ 32 والأحقاف 46/ 22] أَفَرَأَيْتَ أخبرني ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما استفهامية بمعنى أي شيء، أو نافية، أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه.
لَها مُنْذِرُونَ رسل تنذر أهلها إلزاما للحجة ذِكْرى تذكرة وعظة لهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ في إهلاكهم بعد إنذارهم. وهو رد لقول المشركين وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ كما زعم المشركون أنه من قبيل ما تلقي الشياطين على الكهنة وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي ما يتيسر ولا يتسنى ولا يصح لهم أن يتنزلوا به وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ما يقدرون على ذلك إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ أي لممنوعون بالشهب لأن نفوسهم خبيثة شريرة بالذات لا تقبل ذلك.
سبب النزول: نزول الآية (205)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ ... :
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: «رئي النبي صلّى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولم، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد؟ فنزلت: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ فطابت نفسه» .
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسوله، ووعدا له بالفوز(19/220)
والغلبة، وإنذارا للمشركين من تكذيبه، حتى لا يهلكوا كما أهلك المكذبون السابقون، أردفه ببيان ما يدل على نبوته صلّى الله عليه وسلم من تنزيل القرآن المعجز على قلب نبيه صلّى الله عليه وسلم. كذلك لتتناسب خاتمة السورة مع فاتحتها التي افتتحت بالحديث عن إعراض المشركين عما يأتيهم من الذّكر: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [5- 6] .
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن خواص الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه وحي من عند الله، بلسان عربي، وللدلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلم، وذلك من وجهين:
الدليل الأول:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي إن القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لفصاحته كان معجزا، فكان تنزيله من ربّ العالمين، كما أن فيه إخبارا عن القصص الماضية من غير تعليم، وذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى. نزل به جبريل الأمين على الوحي والرسالة، ذو المكانة عند الله، المطاع في الملأ الأعلى، على قلبك أي على روحك المدركة الواعية، وفهمك إياه، سالما من الدنس والزيادة والنقص، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة، وكان إنزاله باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بيّنا واضحا قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا على الحق، هاديا إلى الرشاد، مصلحا أحوال العباد.(19/221)
وقوله عَلى قَلْبِكَ دليل على أن القرآن محفوظ، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم متمكن منه، وثابت في وعيه لأن القلب موضع التمييز، ومركز الحواس الروحية، ومحل الإدراك والوعي، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق 50/ 37] ،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الصحيحان: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
وندد تعالى بأن قلوب الكفار مغلقة، فقال: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] ، وقال: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] .
وقوله: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ توبيخ للمشركين في مكة وتقريع لهم وتحريض على الإيمان به، فإنهم كذبوه لا لعسر فهمه، فهو بلغتهم، وإنما بسبب العناد والاستكبار والأنفة.
وقوله: مِنَ الْمُنْذِرِينَ يدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح لأنه في كلا الحالين يوجد الخوف من العقاب.
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب المتقدمين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، عملا بالميثاق الذي أخذ به عليهم، وعبر عنه آخرهم وهو عيسى مبشرا بأحمد: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 61/ 6] والزبر هنا: هي الكتب، وهي جمع زبور، ومنها زبور داود أي كتابه. وكذلك جميع الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها، ويهيمن عليها: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ
[البقرة 2/ 89] . وقال سبحانه أيضا: وَأَنْزَلْنا(19/222)
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
[المائدة 5/ 48] .
والخلاصة: إن هذه الآيات تتضمن أدلة ثلاثة على أن القرآن من عند الله:
وهي كونه منزلا على قلب النبي الأمي الذي لم يسبق له علم بشيء منه، والذي وعاه وحفظه وأنذر به، وكونه بلسان عربي مبين تحدى به العرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، بل بسورة منه، فعجزوا، مما يدل على أنه من عند الله، لا من عند محمد، وكونه منوها به ومبشرا به في الكتب السماوية السابقة. وإذا ثبت كون القرآن من عند الله، ثبتت نبوة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني على نبوته صلّى الله عليه وسلم وصدقه:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟ أي أوليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل، وبيان صفة النبي صلّى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وكان مشركو قريش يذهبون إليهم ويسألونهم عن ذلك ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس: أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه، وذكروا نعته. «1»
وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.. الآية [الأعراف 7/ 157] .
وهذا يدل دلالة واضحة على نبوته صلّى الله عليه وسلم لأن تطابق الكتب الإلهية على إيراد نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته.
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 41.(19/223)
وبعد أن بيّن الله تعالى بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق لهجته، بيّن بعدئذ أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال:
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ولو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم، وهم الذين لا ينطقون باللغة العربية، فضلا عن أن يقدروا على نظم مثله، فقرأه عليهم فصيحا معجزا متحدى به، لكفروا به أيضا، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوافُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت 41/ 44] ، وذلك بحجة عدم فهمهم له.
أما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، فلا عذر لهم في عدم الإيمان به.
وعلى هذا، الأمر سيّان، فسواء أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، أو أنزلناه على أعجمي لا يحسن العربية لكفروا به.
وهذا دليل ملموس على تعنت كفار قريش وعنادهم وشدة كفرهم، مع أنهم عرفوا الحق، وأدركوا سرّ فصاحة القرآن وبلاغته، ولكنهم تجاهلوه عصبية وأنفة واستكبارا. وفيه أيضا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتخفيف لأحزانه لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
ثم أكد الله تعالى هذا الموقف المتعنت فقال:
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أدخلناه ومكنّاه، والمعنى: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجمي على العرب، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش. والمقصود أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على عربي أو أعجمي، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، فإن الكفر به والتكذيب له متمكن في قلوبهم، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من(19/224)
نفوسهم أي وسيلة علاج أو إصلاح، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] .
وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه إذا عرف هذا الرسول إصرارهم على الكفر، وأنه تمّ القضاء به لسبق علم الله بموقفهم المتصلب الذي لا يتغير، حصل له اليأس من إيمانهم والاطمئنان على سلامة موقفه منهم، وأنه لا ضير عليه في ذلك.
وزاد في التأكيد والتوضيح والبيان فقال:
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي إنهم يظلون كافرين، غير مؤمنين بالحق، جاحدين له في قلوبهم، لا يزالون على التكذيب به، حتى يعاينوا العذاب الشديد الألم.
ثم أخبر الله تعالى عما هو أشد من العذاب وهو مجيئه فجأة، فقال:
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي إن هذا العذاب يأتي أولئك المكذبين بالقرآن فجأة، دون أن يشعروا بمجيئه، وحينئذ يتحسرون، كما قال تعالى:
فَيَقُولُوا: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ؟ مؤخرون، أي إنهم يتمنون حينئذ تأخير العذاب قليلا حينما يشاهدونه، ليتداركوا ما فاتهم، ويعملوا في زعمهم بطاعة الله تعالى، ولكن لا ينفعهم الندم ولن يؤجلوا لأنهم يعلمون ألا ملجأ في الآخرة، وإنما يذكرون ذلك استرواحا.
ومع هذا البيان والإنذار تغلب عليهم الحماقة والجهل، فيطلبون تعجيل العذاب، فقال: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يطلبون تعجيل(19/225)
العذاب، بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] ، وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف 7/ 70] ، وهم عند نزول العذاب يطلبون التأجيل والتأخير، فهم قوم متناقضون.
وهذا إنكار عليهم وتهديد لهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول صلّى الله عليه وسلم تكذيبا واستبعادا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت 29/ 29] .
ثم بيّن الله تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يحدث منهم ليتمتعوا في الدنيا، فقال:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي لو فرض أيها المخاطب أننا لو أطلنا في عيشهم ليتمتعوا من نعيم الدنيا طوال سنين، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة، فلا يجدي أي شيء عنهم ولا ما كانوا فيه من النعيم، ولا يخفف من عذابهم، ولا يدفعه عنهم لأن مدة التمتع في الدنيا مهما طالت متناهية قليلة، ومدة العذاب في الآخرة غير متناهية، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] ، وقال سبحانه: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة 2/ 96] ، وقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل 92/ 11] .
عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة، فقال له:
عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. «1»
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له:
هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتى
__________
(1) تفسير الرازي: 24/ 171.(19/226)
بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط، فيقول: لا والله يا ربّ»
أي كأن شيئا لم يكن.
ثم أخبر الله تعالى عن قانون عدله التام الدائم في خلقه، وهو أنه لا يعذب قوما إلا بعد إنذار، ولا يهلك أمة إلا بعد إعذار وبيان الحجة، وبعثة الرسل، فقال:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم من عذابنا على كفرهم، ويبشرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا، وذلك تذكرة لهم وتنبيه إلى ما يجب عليهم، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم، وإنما أصروا على الكفر والجحود وعبادة غيرنا.
وهذا المبدأ شهير مكرر في القرآن، مثل قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] ، وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص 28/ 59] .
ثم ردّ الله تعالى على المشركين الذين كانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن ما أنزل عليه من القرآن مثلما تلقي الشياطين على الكهنة، فقال:
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي إن القرآن العظيم لم تلق به الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة، ولا يتيسر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب، معزولون عن استماع كلام أهل السماء.
فهذا الإنزال يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه «1» :
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 349.(19/227)
أحدها:
أنه ليس هو من بغيتهم ولا من مطلبهم لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وفي القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، وتغاير شديد.
الثاني:
أنّه لو انبغى لهم لما استطاعوا تحمله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر 59/ 21] .
الثالث:
أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله، وتأديته لما وصلوا إليه لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا، في مدة إنزال القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- القرآن الكريم: كلام الله القديم المنزل بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم باللسان العربي المبين، والذي أعلنت عن نزوله كتب الأنبياء المتقدمين. نزل به جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فتلاه عليه، ووعاه قلبه منه، ورسخ في عقله رسوخا كالنقش في الحجر، قال تعالى: قُلْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ.. [البقرة 2/ 97] ، وقال سبحانه:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة 75/ 16- 19] .(19/228)
ونزوله بلغة العرب لئلا يقولوا: لسنا نفهم ما تقول. وبشّرت بنزوله كتب الأنبياء المتقدمين، كما بشّرت ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم.
2- أثبتت الآيات نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه مع كونه أميّا بهر العالم ببلاغة القرآن وفصاحته، وإخباره عن المغيبات، وإثرائه الحياة بأنظمة سديدة رصينة لا تقبل الطعن ولا النقد، وهذا العطاء الإلهي دليل قاطع على النبوة. كما أن من الأدلة على النبوة علم أهل الكتاب بأوصاف النبي صلّى الله عليه وسلم ونعوته، سواء من أسلموا أو لم يسلموا.
وإنما صحت شهادة أهل الكتاب وصارت حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في شؤون الدين، يسألونهم عن مدى تطابق القرآن مع ما أخبرت به كتبهم الدينية.
3- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء هي الإنذار لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ويدخل في الإنذار الدعوة إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح.
4- إن كفر المشركين من أهل مكة بالقرآن مجرد عناد واستكبار، دون دليل ولا برهان، وإنما على العكس علموا بأنه الحق ثم جحدوه، وكان تحدي القرآن لهم بالإتيان بمثل سورة منه حجة عليهم، فهو منزل بلغتهم، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به، فلم يؤمنوا به وجحدوه عنادا وأنفة ومكابرة، وسموه- زورا وبهتانا- شعرا تارة، وسحرا أخرى.
ولو نزل هذا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان (أعجمي) فقرأه على كفار قريش بغير لغة العرب، لما آمنوا ولقالوا: لا نفقه ما نسمع. فهذا إلزام(19/229)
لهم، وإنكار عليهم، وفضح لأحوالهم لأن القرآن نزل بلغتهم فهم أولى الناس بالإيمان به.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الموقف المتعنت بقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي إن الذي منعهم من الإيمان، وإعلان الكفر بالقرآن والتكذيب به هو الإصرار على ما هم عليه والحفاظ على رياساتهم ومصالحهم المادية، حتى أصبح ذلك مدخلا سالكا في قلوبهم، خلقا غير قابل للتغيير والتبديل، بمنزلة أمر جبلوا عليه وفطروا، كما يقال: فلان مجبول على الشّح، والمراد تمكن الشّح فيه.
ولا يتصور إيمانهم بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم إلا حين مشاهدة العذاب المؤلم ومعاينته، ومجيئه فجأة دون أن يشعروا به، وهو إما عذاب الدنيا، وإما عذاب الساعة (القيامة) وحينئذ يقولون: هل نحن مؤخرون وممهلون، إنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا فلا يجابون إليها.
ومعنى التعقيب في قوله تعالى: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، ... فَيَقُولُوا كما ذكر الزمخشري: ليس ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال التأخير فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب، فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم فجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم التأخير. ومثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون، فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب: أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، إنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشد من مقتهم، وهو مقت الله «1» .
5- كان جزاء هذا الموقف المتعنت لكفار قريش تبكيتهم بالإنكار عليهم
__________
(1) الكشاف: 2/ 437(19/230)
والتهكم على أمر آخر، وهو: كيف يستعجل العذاب المعرّضون للعذاب؟ ثم يشنع القرآن عليهم ويوبخهم على حبهم إطالة الاستمتاع بالدنيا، فذلك العذاب المنتظر والهلاك كائن لا محالة، ولا يغني عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه.
عن الزهري: إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح، أمسك بلحيته، ثم قرأ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ.
6- اقتضت عدالة الله ورحمته ألا يهلك قوما أو يعذب أهل قرية إلا بعد إرسال الرسل المنذرين لهم بأس الله وعذابه، فإذا جاء العذاب أو العقاب، لم يكن الله ظالما في تعذيبهم، حيث قدم الحجة عليهم وأعذر إليهم.
7- القرآن- كما تقدم- نزل به الروح الأمين من عند الله تعالى، ولم تنزل به الشياطين، فإنه لا يتيسر لهم إنزاله، ولا يستطيعون تحمله وتأديته، ولا يتمكنون من اختلاسه واستراقه لأنهم معزولون عن سمع ملائكة السماء برمي الشهب عليهم فتحرقهم.
8- محل العقل: ورد في الآية أن القرآن منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم فهل المراد بالقلب العضو المعروف في الجانب الأيسر من الإنسان أم العقل الكائن في الدماغ؟ المعروف لدى علماء الطب والتشريح المعاصر أن محل العقل الدماغ.
أما العلماء القدماء فانقسموا فريقين: فريق يرى أن محل العقل القلب، وفريق آخر يرى أن محل العقل الدماغ «1» .
واستدل الفريق الأول بالأدلة التالية:
الأول- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها؟ [الحج 22/ 46] ،
__________
(1) تفسير الرازي: 24/ 167.(19/231)
، وقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف 7/ 179] ، وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] أي عقل، أطلق عليه اسم القلب لأنه محله.
الثاني- أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب، وقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة 2/ 10] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة 2/ 7] قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء 4/ 155] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة 9/ 64] يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح 48/ 11] كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين 83/ 14] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] دلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.
الثالث- إذا أمعن الإنسان في الفكر وغيره أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، مما يدل على أن موضع العقل هو القلب، فوجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم.
الرابع- أن القلب أول الأعضاء تكونا، وآخرها موتا.
واحتج الفريق الثاني القائل بأن العقل في الدماغ بما يأتي:
الأول- أن الحواس التي هي آلات الإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ محل الإحساس.
الثاني- أن الأعصاب آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ مركز التنبيه العصبي.(19/232)
الثالث- أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل، مثل الجنون والنزف الدماغي.
الرابع- جرى العرف على أن من أريد وصفه بقلة العقل، قيل: إنه خفيف الدماغ، خفيف الرأس.
الخامس- أن العقل أشرف أجزاء الإنسان، فيكون مكانه أشرف، والأعلى هو الأشرف، وذلك في الدماغ، لا القلب.
ورأيي هو ترجيح الرأي الثاني لأن العلم الحديث أجري مئات التجارب على الدماغ وما فيه من مخ ومخيخ، فوجد أنه محل العقل والإحساس والتنبيه والذاكرة وغير ذلك من وظائف الدماغ، فدل على أنه هو محل العقل. أما الآيات القرآنية المتقدمة التي يفهم منها كون العقل في القلب، فذلك من قبيل الإطلاق العرفي السائد في الكلام، والذي يراد به العقل، فيقال: لا قلب عنده، أي لا عقل.
أما القيم الأدبية أو الأخلاقية: فمحلها القلب باعتباره المعبر عن النفس الإنسانية التي لا حياة فيها إلا بالقلب.
ثم إن المعاني المتقدمة التي تختص بالقلوب، ويراد بها المعاني العقلية كالنية والمعلومات والمعارف، قد تنسب إلى الصدر تارة، وإلى الفؤاد أخرى. أما الصدر: فلقوله تعالى: وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات 100/ 10] ، وقوله:
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران 3/ 154] ، وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك 67/ 13] ، إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران 3/ 29] .
وأما الفؤاد فقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الأنعام 6/ 110] .(19/233)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
آداب الداعية وواجباته
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
البلاغة:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم بأسلوب التهييج والإلهاب، لما عرف عنه من زيادة إخلاص وتقوى.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ استعارة مكنية، حذف منها المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، شبّه التواضع ولين الجانب بخفض الطائر جناحه عند إرادة الهبوط، فأطلق على المشبه اسم الخفض.
المفردات اللغوية:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ إن فعلت شيئا مما دعوك إليه، وهذا تهييج للنبي صلّى الله عليه وسلم وإلهاب لزيادة الإخلاص، وتحذير لسائر المكلفين. عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ هم بنو هاشم وبنو المطلب، وقد أنذرهم جهارا، كما روى البخاري ومسلم، وبدأ بالأقرب منهم فالأقرب لأن الاهتمام بشأنهم أهم،
روى أحمد ومسلم وغيرهما أنه صلّى الله عليه وسلم: «لمّا نزلت هذه الآية، صعد الصفا، وناداهم فخذا فخذا، حتى اجتمعوا إليه، فقال: لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا، أكنتم مصدّقي؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» .
وَاخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين، ولِمَنِ: بيانية أو للتبيين. فَإِنْ عَصَوْكَ ولم يتبعوك أي عشيرتك. بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من عبادة غير الله، أي مما تعملونه أو من أعمالكم. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي فوض إلى الله جميع أمورك، فهو الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه.(19/234)
حِينَ تَقُومُ
إلى التهجد (صلاة الليل) . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ تغير أحوالك في أركان الصلاة، قائما وقاعدا وراكعا وساجدا. فِي السَّاجِدِينَ المصلين. وإنما وصف الله تعالى ذاته بعلمه بحال نبيه التي بها يستأهل ولايته، بعد أن وصف تعالى نفسه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه، تحقيقا للتوكل، وتطمينا لقلبه عليه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله. الْعَلِيمُ بما تنويه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
المناسبة:
بعد أن بالغ الله تعالى في تسلية رسوله أولا بقصص الأنبياء وما تبعها، ثم أقام الحجة على نبوته ثانيا، ثم أجاب عن سؤال المنكرين، أمره بعد ذلك بما يتعلق بالتبليغ والرسالة، فرتب له طريق الإنذار بدءا بالأقرب فالأقرب.
والرفق بالمؤمنين، ثم ختم وصاياه له بالتوكل عليه تعالى وحده.
سيرته صلّى الله عليه وسلم في التبليغ:
وردت أحاديث كثيرة توضح كيفية قيامه صلّى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته والدعوة إلى ربّه، منها:
ما رواه أحمد ومسلم عن عائشة قالت: «لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» .
ومنها:
ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أتى(19/235)
النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا، فصعد عليه، ثم نادى: «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ [المسد 111/ 1] .
ومنها:
ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا، فعمّ وخصّ، فقال: «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله، لا أملك لكم من الله شيئا، ألا إن لكم رحما، وسأبلّها ببلالها»
يريد: أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا.
التفسير والبيان:
تضمنت هذه الآيات أوامر أربعة للنبي صلّى الله عليه وسلم تتعلق بتبليغ رسالته وهي:
1- فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أي اعبد الله وحده لا شريك له، واحذر أن تدعو أو تعبد معه إلها غيره، فإن العبادة لا تكون إلا لله وحده بإخلاص، والشرك رأس المعاصي.
وهذا حثّ للرسول صلّى الله عليه وسلم على زيادة الإخلاص في العبادة، فالله يعلم أنه لا يكون ذلك منه، ثم إنه بدأ بالأمر به لأنه قائد الأمة، فكان ذلك في الحقيقة(19/236)
توجيها وخطابا لغيره من الناس لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر، وإن كان المقصود بذلك هم الأتباع.
والخلاصة: أنه بدأ بالرسول صلّى الله عليه وسلم فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، فقال:
2- وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي خوف أقاربك في العشيرة بأس الله وعذابه لمن أشرك به سواه.
وهذا جزء من مهمته بإنذار البشر كافة من عذاب الله، كما قال تعالى:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام 6/ 92] ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى 42/ 7] ، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] .
ويأتي التبشير عادة مع الإنذار، كما ذكر في آيات كثيرة، منها: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم 19/ 97] ، ومنها:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب 33/ 45- 46] .
وروى مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» .
ثم أمره ربه بالرفق بالمؤمنين، فقال:
3- وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك وارفق بأتباعك الذين آمنوا بك وصدقوك، فذلك أطيب لقلوبهم.
فَإِنْ عَصَوْكَ، فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي فإن عصاك أحد ممن(19/237)
أنذرتهم من عشيرتك وغيرهم، فقل: إني بريء من أعمالكم التي ستجازون عليها يوم القيامة.
4- وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي وفوض جميع أمورك إلى الله القوي القاهر الغالب القادر على الانتقام من أعدائه، الرحيم بأوليائه، الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى أحوالك متقلبا من قائم إلى قاعد، وراكع إلى ساجد، فيما بين المصلين.
وعبّر عنهم بالساجدين لأن العبد أقرب ما يكون من ربّه، وهو ساجد.
والمقصود أن الله مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، ومعتن بك في جميع أحوالك التي منها الصلاة وما فيها من قيام وركوع وسجود، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور 52/ 48] .
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن ربك هو السميع لأقوال عباده، العليم بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم ونواياهم، كما قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس 10/ 61] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- المساواة أمام التكاليف الشرعية دون استثناء أحد: فإذا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو القائد والقدوة بإخلاص العبادة لله تعالى، وبالبدء بإنذار أقاربه، كان غيرهم مطالبا بجميع التكاليف الشرعية بالأولى، وكان الإنذار لمن عداهم أشد تأثيرا وأجدى نفعا، وهو دليل على إلغاء جميع الامتيازات لأحد في الإسلام، فلا يعفى شخص وإن كان حاكما ولا حاشيته من الالتزام بتطبيق شرع الله ودينه.(19/238)
2- دلت الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ والأحاديث المتقدمة على أن القرب في الأنساب لا ينفع، مع إهمال الأسباب والتفاني في الأعمال الصالحة.
ودلت أيضا على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته
لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إن لكم رحما سأبلّها ببلالها»
وقوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة 60/ 8] .
3- إن الإحسان إلى الأتباع من حسن السياسة، ومما يحقق فوائد جمّة، لذا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالتواضع وإلانة الجانب لأتباعه المؤمنين برسالته، المستقيمين على منهج الحق وتقوى الله. فإن عصوا وخالفوا أمره، فإنه صلّى الله عليه وسلم بريء من معصيتهم إياه لأن عصيانهم إياه عصيان لله عزّ وجلّ، باعتبار أنه صلّى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يرضي ربه، ومن تبرأ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد تبرأ الله منه.
4- التوكل على الله من أصول الإيمان وخصائصه في الإسلام، وقد أمر الله نبيه بتفويض أمره إلى ربه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه.
5- إن الله تعالى عاصم نبيه من كل سوء، حافظه من كل مكروه، ناصره على أعدائه، معتن بأمره كله، يعلم بكل أنشطته وأعماله، فهو يراه حين يقوم إلى الصلاة، ويراه قائما وراكعا وساجدا لأنه سبحانه السميع لأقوال عباده جميعا، العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم.
6- قال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي تنقله وسلالته في أصلاب الآباء: آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا.
وقد استدل الشيعة بهذه الآية على أن آباء النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين، كما استدلوا على ذلك بالخبر التالي في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» .(19/239)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
الإعراب:
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أَيَّ منصوب على المصدر ب يَنْقَلِبُونَ وتقديره: أي انقلاب ينقلبون. ولا يجوز نصبه ب سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله لأن الاستفهام له صدر الكلام، وإنما يعمل فيه ما بعده.
البلاغة:
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ كلاهما صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل، أي كثير الكذب كثير الفجور.
يَقُولُونَ ويَفْعَلُونَ وانْتَصَرُوا وظُلِمُوا بين كلّ طباق.
فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استعارة تمثيلية، شبه حال الشعراء بإفراطهم في المديح والهجاء واسترسال الخيال بالتائه في الصحراء الذي هام على وجهه، فهو لا يدري أين يسير.
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ جناس اشتقاق.
يَهِيمُونَ، يَنْقَلِبُونَ، يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ سجع لمراعاة الفواصل وخواتيم الآيات.
المفردات اللغوية:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم يا أهل مكة وأمثالكم. تَنَزَّلُ أي تتنزل، ثم حذفت إحدى التاءين من الأصل. أَفَّاكٍ كذاب. أَثِيمٍ فاجر، مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة، وهما صيغة مبالغة، أي كثير الإفك والكذب، كثير الذنوب والفجور. يُلْقُونَ السَّمْعَ أي(19/240)
الأفاكون من الشياطين يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين، فيتلقون منهم ما أكثره كذب وزور من الظنون والأمارات. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فسره بعضهم بالكل لقوله تعالى: كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قال البيضاوي: والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم، على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل: تعود الضمائر للشياطين، أي يلقون ما سمعوه من الملائكة إلى الكهنة، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء.
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي الضالون المائلون عن منهج الاستقامة، فهم مذمومون، وهذا للمقارنة بينهم وبين المؤمنين، فالشعراء يتبعهم الضالون في شعرهم، فيقولون به، ويروونه عنهم، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فليسوا كذلك. أَلَمْ تَرَ تعلم. فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام وفنونه، والوادي: الشّعب. يَهِيمُونَ يمضون أو يسيرون حائرين، فيجاوزون الحد مدحا وهجاء لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في الباطل. يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي يكذبون فيقولون: فعلنا وهم لم يفعلوا.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. أي من الشعراء. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً لم يشغلهم الشعر عن الذكر. وَانْتَصَرُوا بهجوهم الكفار. مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بهجو الكفار لهم مع جملة المؤمنين، فليسوا بمذمومين، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] . مُنْقَلَبٍ مرجع. يَنْقَلِبُونَ يرجعون بعد الموت، وهو تهديد شديد لأن قوله: سَيَعْلَمُ وعيد بليغ، وقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا على الإطلاق والتعميم، وقوله:
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فيه إبهام وتهويل.
سبب النزول:
نزول الآية (224) وما بعدها: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الآيات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ إلى قوله:(19/241)
ما لا يَفْعَلُونَ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ السورة.
وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ الآية، جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.
المناسبة:
هذا عود على بدء، فبعد أن أبان الله تعالى استحالة تنزل الشياطين بالقرآن (الآية 210 وما بعدها) وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين، أردف ذلك بأن الشياطين تتنزل على كل كذاب فاجر، لا على الرسول الصادق الأمين، فهو ليس من فئة الكهنة الذين يستمعون إلى الشياطين، كما أنه ليس من فئة الشعراء الغارقين في الخيال، الهائمين في كل واد من فنون القول والكلام، من غير ترجمة للحقيقة، ولا صدق في القلب، وقناعة في العقل، والرسول صلّى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالحق ولا يتكلم إلا بالصدق.
ولما كان إعجاز القرآن من جهة المعنى واللفظ، وقد قدح المشركون في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء، فإنه تعالى ردّ على القسمين، وبيّن منافاة القرآن لهما، ومخالفة حال الرسول صلّى الله عليه وسلم لحال أصحابهما، فهو ليس بكاهن ولا بشاعر.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تتضمن نفي فريتين عن القرآن وعن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهما(19/242)
الكهانة والشعر، فليس القرآن الكريم من جنس ما تتلقاه الكهنة عن الشياطين، وليس هو من الشعر في شيء، كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس كاهنا ولا شاعرا.
أما الفرية الأولى فوصفها تعالى ثم ردّ عليها فقال:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ أي هل أخبركم خبرا حقيقيا، نافعا لكم في قاموس المعرفة والعلم، على من تنزل عليه الشياطين من الكهان ونحوهم من الكذبة الفسقة؟
وكان للكهانة تأثير كبير عند العرب في الجاهلية، ولكهانهم مركز مهم، لقطع النزاع، وفض المشكلات من الأمور، مثل هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الخثعمية.
وهذه الآيات رد على من زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ليس بحق، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن، أي مسّ، وبيان قاطع بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، أمين عظيم، وأنه ليس من قبل الشياطين، والجواب من وجهين:
1- تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي إن الشياطين تنزل على كل كذوب، فاجر فاسق في أفعاله، من الكهنة المتنبئة، مثل شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة، ومسيلمة وطليحة، ومن الكفار الذين يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه. وأما الكهنة فالغالب عليهم الكذب، ومحمد صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه من المغيبات لم يظهر عليه إلا الصدق.
2- يُلْقُونَ السَّمْعَ، وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي يصغي الكهنة الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، فيلقون وحيهم الزائف إليهم، ويتلقفون منهم ما أكثره كذب(19/243)
وزور من الظنون والأمارات، فأكثر الشياطين كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، كما أن أكثر الأفاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا به إليهم، فيكون أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا.
وقيل: يعود الضمير إلى الشياطين، أي يلقون إلى أوليائهم الكهنة المسموع من الملائكة، مما يختطفونه من بعض الكلمات، مما اطلعوا عليه من المغيبات، قبل أن يحجبوا بالرجم، ويبعدوا عن التقاط الكلام من الملأ الأعلى، ثم يوحون به إلى أوليائهم، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا.
والخلاصة: أن الواقع خير شاهد، يوضح كالشمس الفرق بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكهنة، فكل ما أخبر به النبي عن ربه كان صادقا مطابقا للواقع ولم يعرف عنه في سيرته الطويلة المدى إلا الصدق، وأكثر ما يخبر به الكهنة كذب يتنافى مع الواقع، ولم يعرف عن الكهنة إلا الكذب، لذا مجّهم التاريخ، ورفضهم العقل، ولم يعد يصدق أباطيلهم وترهاتهم إلا السّذّج البسطاء من الأولاد والنساء وبعض الكبار السطحيين.
وبعد أن بيّن الله تعالى الفرق بين محمد صلّى الله عليه وسلم وبين الكهنة، بين الفرق بينه صلّى الله عليه وسلم وبين الشعراء، ردا على الكفار القائلين: لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، جريا على ما هو المعتاد بأن لكل كاهن وشاعر شيطانا، فقال:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي أن الشعراء يتبعهم الضالون، ضلّال الإنس والجن، المنحرفون عن جادة الحق والاستقامة، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فهم المهتدون المستقيمون القائمون على منهج الحق والإيمان بالله وعبادته والاستقامة على أمره. ثم بيّن الله تعالى تلك الغواية بأمرين:
1- أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي ألم تعلم أن الشعراء يخوضون في كل(19/244)
فن من الكلام، ويتناقضون مع أنفسهم، فقد يمدحون الشيء بعد أن ذموه، وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا إعلان الصدق، فهم قوم خياليون عاطفيون، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالصدق، ويدعو إلى طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا غير المفيدة.
2- وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أن أكثر قولهم الكذب، فإنهم يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر عنهم، وهذا أيضا من علامات الغواة، فإنهم يرغّبون في الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويصرّون عليه، ويقدحون في الأعراض لأدنى سبب، ولا يرتكبون إلا الفواحش، أما النبي محمد صلّى الله عليه وسلم فعلى خلاف ذلك، لا يأمر بالشيء إلا وقد فعله، ولا ينهى عن الشيء إلا وقد اجتنبه، يأمره ربه بإخلاص العبادة له أولا: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ولا يستثني قرابته من شيء من التكاليف الشرعية أو المدنية أو السياسية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. فمنهج الشعراء مخالف لحال النبوة، فإنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ودعوة الأنبياء واحدة، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته والترغيب في الآخرة والصدق «1» .
ثم استثنى الله تعالى من الشعراء من اتصف بصفات أربع هي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله وتوحيده، ونصرة الحق وأهله، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي إلا الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، وذكروا الله كثيرا في كلامهم أو شعرهم، ودافعوا عن النبي ودينه وقاوموا الشرك وأهله، مثل حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك،
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 49.(19/245)
وكعب بن زهير الذين ردوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. ومثلهم بعدئذ البوصيري رحمه الله وأحمد شوقي في مدائحه النبوية ونحوهم.
وقيل: المراد بهذا الاستثناء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشا،
وعن كعب بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل»
وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك» .
ثم ختم الله تعالى السورة بالتهديد الشديد والوعيد الأكيد، فقال:
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات الفارقة بين نبوة النبي وكهانة الكهان وشعر الشعراء، سيعلمون أي مرجع يرجعون إليه بعد الموت لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب، وهو شر مرجع.
ذكر الجمهور أن المراد من الآية الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء. قال الرازي: والأول- أي هذا الرأي- أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها. ثم قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم، ومن الوقائع الشهيرة في الاستشهاد بهذه الآية ما قالته عائشة:
«كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما وصّى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به، ورجائي فيه، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .
قال القرطبي: والفرق بين المنقلب والمرجع: أن المنقلب: الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع: هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا، ذكره الماوردي.(19/246)
فقه الحياة أو الأحكام:
حسمت الآيات الفرق بين النبوة وبين الكهانة والشعر، فالنبوة حق وصدق، والنبي موحى إليه من عند ربه، والقرآن كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولا يمكن للشياطين أن تتنزل بالقرآن ولا تستطيعه ولا تنسجم معه، فهو يدعو إلى الإيمان والهداية والحق والاستقامة، أما الشياطين فتدعو إلى الكفر والضلال والباطل والفساد والانحراف.
والشياطين تتنزل على كل أفّاك (كذوب) أثيم (فاجر في أفعاله) والكهنة يصغون السمع إلى الشياطين، وأكثر الكهنة والشياطين كاذبون في أخبارهم وأقوالهم. أما الأنبياء فينزل جبريل الأمين عليهم بالوحي الصادق الذي لا مرية فيه بكونه من رب العالمين.
والشعراء الماجنون يتّبعهم ضلال الجن والإنس الزائغون عن الحق، وهذا دليل على أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين، ما كان أتباعهم غواة. أما النبي فيتبعه صلحاء الجن والإنس لأنه يدعو إلى الخير والصلاح والبر والتقوى.
والدليل على غواية أغلب الشعراء أمران: أنهم في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبّت، ولم يكن هائما على وجهه، لا يبالي بما قال وأن أكثرهم يكذبون، فيدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه.
لكن هناك أيضا شعراء صالحون هم المتصفون بالأوصاف الأربعة التالية:
وهي الإيمان بالله الحق وبنبيه المرسل، والقيام بالعمل الصالح الذي يرضي الله،(19/247)
وذكر الله كثيرا في كلامهم، والانتصار من الظالم بعد ظلمه، والانتصار يكون بالحق وحده وبما حدّه الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. ثم حذر القرآن وهدد من انتصر بظلم، فإنه سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة.
موقف الإسلام من الشعر:
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث في الشعر، منها ما أقره، ومنها ما ذمّه، فمن الأحاديث التي ذمّت الشعر:
ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه «1» خير من أن يمتلئ شعرا» .
ومن الأحاديث التي مدحت الشعر
ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحرا، وإن من الشعر حكما» .
ويمكن التوفيق بين الحديثين بحمل الأول على الشعر المذموم الرديء المردود، كالشعر الذي يتكلم في الغزل الخليع، ويشبّب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان فنا رائعا في الأدب. ومنه شعر الشاعر الذي يتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ومثل هذا، كلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، ولا يحل إعطاؤه شيئا لأن ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه للضرورة بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة.
__________
(1) ورى القيح جوفه يريه وريا: أكله. والقبح: المدّة يخالطها دم.(19/248)
ومنه شعر الهجاء الذي لم يقصد به هجو الكفار ونصرة الإسلام والمسلمين، فإن كان انتصارا لمن هجا المسلمين، وشبب بأعراضهم جاز، وكان مستحسنا لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] .
ويحمل الحديث الآخر على الشعر الممدوح الحسن المقبول الذي قصد به إظهار الحق، وإيراد الحكمة، وتعليم الجاهل، ونصرة المظلوم والحق، والدفاع عن الوطن، والذود عنه بجيد الكلام، ونحو ذلك من كل ما فيه نفع، وتربية للنفوس، وتهذيب للعقول، وتوحيد الصفوف.
وهذا التوفيق بين الحديثين ما هو إلا نوع من وسطية الإسلام المعروفة، والاعتدال في الأشياء كلها
روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» . «1»
وردد هذا المعنى كبار الأئمة وعلماء اللغة والأدب، فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الشعر نوع من الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمضمونه، وقد كان عند العرب عظيم الأثر والموقع.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النّهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثّل به أو سمعه، فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء، لا يحل سماعه ولا قوله. والخلاصة: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم.
__________
(1) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو، وأبو يعلى عن عائشة، وهو حسن.(19/249)
ومن الأمثال الرائدة والنماذج الطيبة للشعر الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلم ما يأتي:
1-
روي مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصّلت شيء؟
قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال:
هيه، حتى أنشدته مائة بيت.
قال القرطبي: وهذا دليل على جواز حفظ الأشعار المتضمنة للحكمة والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا وعقلا، أي والداعية إلى فضائل الأخلاق. وإنما استكثر النبي صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما ألا ترى
قوله صلّى الله عليه وسلم: «وكاد أمية بن أبي الصّلت أن يسلم» .
2- فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه، فذلك مندوب إليه، وكذلك مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد مدحه العباس،
فقال له: «لا يفضض الله فاك»
ومنه الدفاع عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أقر حسّان بن ثابت على ذلك،
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم- أو هاجهم- وجبريل معك» أو «قل وروح القدس معك» .
وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» أو «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل» .
3-
روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» .
أما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم: فهو المتكلم بالباطل، حتى يفضّلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء،(19/250)
ويفسقوا التقيّ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحة بعنوان (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر) .
لكن قد يكون الشعر حراما كما بينا في أغراضه وفي أمثلة الشعر المذموم، وقد يكون كفرا كهجو النبي صلّى الله عليه وسلم، سواء كان قليلا أو كثيرا. وأما هجو غير النبي صلّى الله عليه وسلم من المسلمين فهو محرم قليله وكثيره.
قال ابن العربي: أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها، وإن استغرقت الحدّ، وتجاوزت المعتاد. ثم قال: وبالجملة، فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه، فذلك مذموم شرعا «1» .
وقد أنهى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مشكلة تكسب الشعراء بشعرهم، فلم يعطهم العطايا المعتادة، وكشف حقائقهم، وساسهم بمنطق الشرع وعدله، فأعطى الفرزدق أربعة آلاف درهم، لئلا يعرض لأحد من أهل المدينة بمدح ولا هجاء، ومنح الأحوص أحد شعراء المدينة مائة دينار، على أن يكف عن هجاء أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعاقب الشاعر جرير بالرغم من مدحه، مع عمرو بن لجأ التيمي، لما تهاجيا وتقاذفا، وغضب على شاعر الخلاعة والعزل والتشبيب بالنساء عمر بن أبي ربيعة، ونفاه إلى دهلك، لكثرة تعرضه لنساء الأشراف وبناتهم «2» .
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1434 وما بعدها.
(2) الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز للمؤلف 62 وما بعدها، المرجع السابق: 3/ 1430.(19/251)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النمل
مكية، وهي ثلاث وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة النمل لإيراد قصة وادي النمل فيها، ونصيحة نملة منها بقية النمل بدخول جحورهن، حتى لا يتعرضن للدهس من قبل جند سليمان عليه السلام دون قصد، ففهم سليمان الذي علمه الله منطق الطير والدواب كلامها، وتبسم ضاحكا من قولها، ودعا ربه أن يلهمه شكره على ما أنعم به عليه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه:
1- أنها كالتتمة لها في بيان بقية قصص الأنبياء، وهي قصة داود وسليمان عليهما السلام.
2- أن فيها تفصيلا لما أجمل في سورة الشعراء من القصص النبوي، وهي قصة موسى في الآيات [7- 14] وقصة صالح في الآيات [45- 53] ولوط في الآيات [54- 58] .
3- نزلت هذه السور الثلاث (الشعراء، والنمل، والقصص) متتالية على هذا الترتيب، وذلك كاف في ترتيبها في المصحف على هذا النحو. روي عن(19/252)
ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب نزول السور: أن الشعراء، ثم طس، ثم القصص. كما يوجد تشابه بينها في البداية والافتتاح (طسم، الشعراء، طس، النمل، طسم، القصص) ولعل التشابه بين الأولى والثالثة، والاختلاف الجزئي في الثانية دليل على تأكيد المقصود بهذه الحروف المقطعة وهو تحدي العرب بالقرآن الذي تكوّن من حروف لغتهم المتركبة في جمل، بزيادة أحيانا ونقص أحيانا من تلك الحروف.
4- كذلك وجد التشابه الموضوعي بينهما في وصف القرآن وتنزيله من عند الله لأنه قال في بداية الشعراء: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وقال هنا:
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وقال في أواخر الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وقال هنا: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي الذي هو تنزيل رب العالمين.
5- تلتقي السورتان في بيان وحدة القصد من القصص القرآني، وهو تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه، وإعراضهم عنه.
مشتملاتها:
هذه السورة المكية تتفق مع أغراض السور المكية في بيان أصول العقيدة:
وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، وإثبات كون القرآن الكريم منزلا من عند الله العزيز الحكيم.
وإسهاما في توضيح تلك الأغراض أبانت السورة معجزة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الخالدة، وهي تنزيل القرآن المجيد هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، ثم سردت وقائع مثيرة من قصص الأنبياء: موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط، عليهم السلام، تبين مدى ما تعرّض له موسى وصالح ولوط من أذى أقوامهم، وتكذيبهم برسالاتهم، وإنزال العقاب الأليم بهم، وتنبّه إلى ما أنعم الله به على(19/253)
داود وسليمان من النعم العظمى، بهبة النبوة والملك والسلطان، وتسخير الجن والإنس والطير، وإذعان الملكة بلقيس لدعوة سليمان.
وفي هذا حكمة بالغة لأصحاب السلطة هي اتخاذ السلطان والنفوذ سبيلا للدعوة إلى الله جل جلاله.
وتلا ذلك بيان الأدلة والبراهين على وجود الله وتوحيده من خلق الكون:
سمائه وأرضه، بره وبحره، وإلهام الإنسان الإفادة من كنوز الأرض، والهداية في ظلمات البر والبحر، وإمداده بالأرزاق الوفيرة، ومفاجأته بأهوال يوم القيامة ومغيبات الأحداث، وسعة علم الله، وتعاقب الليل والنهار.
وأنكرت السورة بعدئذ على المشركين تكذيبهم بالبعث والحشر والنشور، وألزمت بني إسرائيل بالاحتكام إلى القرآن في خلافاتهم وخصوماتهم، وتحدثت عن أشراط الساعة، كخروج دابة الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال، ثم ذكّرت بالنفخ في الصور لجمع الناس ومجيئهم داخرين صاغرين لله تعالى.
وختمت السورة بتصنيف الناس إلى سعداء أبرار، وأشقياء فجار، وجزاء كلّ بما يستحق خيرا أو شرا، وإعلام المشركين بوجوب عبادة الله وحده، والتخلي عن عبادة الأصنام والأوثان، والالتزام بمنهج القرآن ودستوره في الحياة لأنه نور وهداية، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها، وتعريفهم بآيات الله العظمى في وقت لا ينفعهم فيه شيء غير الإيمان بالله وحده، وتعرضهم للجزاء الحتمي عن جميع أعمالهم.
والخلاصة: أن ما ذكر في هذه السورة يدعو إلى المبادرة إلى الإيمان بالله تعالى ربا وإلها لا شريك له، والتصديق بالبعث طريقا لإنصاف الخلائق، واتخاذ القرآن نبراسا ودستورا للحياة الإنسانية.(19/254)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
رسالة القرآن
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
الإعراب:
هُدىً.. إما منصوب على الحال من الكتاب، أي تلك آيات القرآن هاديا، وَبُشْرى عطف عليه، أي مبشرا وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو خبر بعد خبر، فإن قوله تعالى: تِلْكَ مبتدأ، وآياتُ الْقُرْآنِ خبره، وهُدىً خبر بعد خبر.
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي الْآخِرَةِ تبيين، وليس بمتعلق بالأخسرين، فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة.
البلاغة:
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ إشارة بالبعيد بدلا عن القريب، لبيان رفعة القرآن وعلو شأنه.
وَكِتابٍ مُبِينٍ التنكير للتفخيم والتعظيم، أي كتاب عظيم الشأن رفيع القدر.
هُدىً وَبُشْرى التعبير بالمصدر بدلا عن اسم الفاعل للمبالغة، أي هاديا ومبشرا.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ بينهما مقابلة، وتكرار الضمير فيهما لإفادة الحصر والاختصاص.(19/255)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ التأكيد بإن واللام للرد على المتشككين في القرآن.
المفردات اللغوية:
طس تقرأ: طا، سين، وهذه الحروف المقطعة التي ابتدئ بها في كثير من السور القرآنية للتنبيه، أريد بها تحدي العرب للإتيان بمثل القرآن، ما دام مكونا من حروف لغتهم التي بها ينطقون ويخطبون وينظمون الشعر.
تِلْكَ آياتُ أي هذه الآيات، أو أي السورة آياتُ الْقُرْآنِ أي آيات من القرآن، والإضافة للتفخيم لها والتعظيم لأن المضاف إلى العظيم عظيم. وَكِتابٍ مُبِينٍ مظهر للحق من الباطل، والمراد بالكتاب: إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن، فهو يبينه للناظرين، وإما القرآن ذاته، وإبانته: أنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم والشرائع، وإعجازه ظاهر مكشوف، وإذا أريد بالكتاب هنا القرآن، فيكون ذلك عطفا لإحدى الصفتين على الأخرى، بزيادة صفة، ولتغايرهما في المدلول عليه بالصفة، من حيث إن مدلول الْقُرْآنِ الاجتماع، ومدلول كِتابٍ الكتابة. وتنكير كِتابٍ للتفخيم والتعظيم.
هُدىً أي هو هاد من الضلالة. وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي مبشرا للمصدقين بالجنة، أو هما حالان من الآيات، والعامل فيهما معنى الإشارة. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بها تامة على وجهها المطلوب. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعطون الزكاة المفروضة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يصدقون ويعلمون بوجود الآخرة بالاستدلال، والواو: للحال، أو للعطف، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته، وأنهم الأوحدون فيه. ويصح أن تكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، لأن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والتوثق من المحاسبة.
زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة، بأن جعلها مشتهاة للطبع، محبوبة للنفس. فَهُمْ يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون فيها لقبحها وعدم إدراكهم ما يتبعها من ضر أو نفع. سُوءُ الْعَذابِ أشده في الدنيا، كالقتل والأسر يوم بدر. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة، واستحقاق العقوبة في النار المؤبدة عليهم.
وَإِنَّكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم. لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه، ويلقى عليك بشدة. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ من عند أحكم الحكماء وأعلم العلماء. والجمع بين الصفتين، مع أن العلم داخل في الحكمة، لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، وللدلالة على أن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقصص والإخبار عن المغيبات.(19/256)
التفسير والبيان:
طس حروف مقطعة في أوائل السور، للتنبيه على إعجاز القرآن، كما بينا.
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ أي هذه الآيات المنزلة عليك أيها النبي في هذه السورة هي آيات القرآن المجموع في النهاية، وآيات الكتاب المسطور في السطور، الواضح البيّن، الذي سيبقى إلى يوم القيامة، ويسهل العمل به لوضوحه وبيانه المشرق، ويستفيد منه من تأمل فيه، واستعذب حلاوة كلام الله، وفكّر في عظمته وفضل الله تعالى في إنزاله وبيانه، فهو ليس من كلام البشر، بل ولا يستطيع أحد الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه.
وعطف الكتاب على القرآن من عطف إحدى الصفتين على الأخرى، كما بينا في المفردات، كما تقول: هذا فعل السخي والجواد والكريم. ويلاحظ أن هاتين الصفتين مرة يذكران بالتعريف، ومرة بالتنكير، والمعنى واحد، وأن القرآن له صفتان: قرآن وكتاب لأنه يظهر بالقراءة والكتابة.
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن القرآن هاد للناس من الضلالة، ومبشر المؤمنين الطائعين بالجنة وبرحمة الله تعالى.
ومعنى كون القرآن هدى للمؤمنين: أنه يزيدهم هدى على هداهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة 9/ 124] وأنه يهديهم إلى الجنة، كما قال تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء 4/ 175] .
والتخصيص بالمؤمنين للدلالة على أن الهداية والبشارة إنما يحصلان لمن آمن به، واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه. ثم ذكر تعالى مظاهر الإيمان فقال:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي إن المؤمنين المنتفعين بالقرآن هداية وبشارة هم الذين يؤدون الصلاة كاملة(19/257)
الأركان، تامة الشروط، مستحضرا فيها المصلي عظمة ربه، خاشعا في تلاوته ومناجاته وأذكاره وتسبيحاته، ويعطون الزكاة المفروضة المطهرة لأموالهم وأنفسهم من الدنس والشبهات، ويوقنون بالدار الآخرة، والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها، والجنة والنار، فيستعدون للأنسب الأفضل لهم، ويطيعون ربهم فيما أمر به، وينأون عما نهي عنه وزجر.
ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء بحال من لا يؤمن بالآخرة، فذكر منكري البعث بعد ذكر المؤمنين الموقنين بالبعث فقال:
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ، فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي إن الذين يكذبون بالآخرة ويستبعدون وقوعها بعد الموت، حسّنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون ويترددون في ضلالهم، جزاء على ما كذبوا من الدار الآخرة، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 6/ 110] .
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي أولئك جزاؤهم العذاب السيء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمثل قتلهم وأسرهم يوم بدر، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار، بل هم في الآخرة أشد الناس خسرانا، لا يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر لأن عذابهم فيها دائم لا ينقطع.
وبعد وصف حال المؤمنين بالقرآن والمكذبين به، ذكر الله تعالى حال المنزل عليه فقال: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي وإنك أيها الرسول لتأخذ القرآن وتعطاه وتتعلمه من عند حكيم في أمره ونهيه وتدبير خلقه، عليم بالأمور جليلها وحقيرها وبأحوال خلقه وما فيه خيرهم، فخبره هو الصدق المحض، وحكمه هو العدل التام، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام 6/ 115] .(19/258)
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من هذه الآيات ما يلي:
1- آيات هذه السورة آيات القرآن، وآيات كتاب مبين، وهما صفتان:
صفة بأنه قرآن مقروء مجموع مصون، وصفة بأنه كتاب مكتوب، فهو يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة. وذكر القرآن بلفظ المعرفة، وذكر كتاب بلفظ النكرة، وهما في معنى المعرفة، كما تقول: فلان رجل عاقل، وفلان الرجل العاقل. وذلك بدليل ورودهما في سورة الحجر بالعكس: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فورد الكتاب بلفظ المعرفة، والقرآن بلفظ النكرة لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة.
ووصف القرآن أو الكتاب بصفة «المبين» لأنه تعالى بيّن فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده.
2- وكذلك آيات هذا الكتاب أو القرآن هادية ومبشرة للمؤمنين بالجنة، أولئك المؤمنون المتصفون بأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصدقون بالآخرة صدقا لا شك فيه ولا تردد.
3- أما الذين لا يصدقون بالبعث فهم في حيرة وضلالة، يترددون في مهاوي الضلال، لذا عاقبهم الله جزاء كفرهم بتزيين أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة، قال الزجّاج: «جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه» وهم يترددون في أعمالهم الخبيثة وفي ضلالتهم.
ولهم عدا هذا العقاب المعنوي عقاب مادي سيء في الدنيا والآخرة وهو جهنم، وبما أنهم خسروا الآخرة بكفرهم، فهم أخسر كل خاسر.(19/259)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
4- إن تنزيل القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم وتعليمه إياه وتلقينه به من عند الله العلي الحكيم بتدبير خلقه، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم. وهذه الآية الأخيرة تمهيد لسياق القصص التالية عن الأنبياء عليهم السلام.
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام بالوادي المقدس
[سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
الإعراب:
بِشِهابٍ قَبَسٍ قَبَسٍ بالتنوين: بدل مجرور من شهاب. ومن قرأ بغير تنوين أضاف كلمة بِشِهابٍ إلى قَبَسٍ إضافة النوع إلى جنسه، مثل: ثوب خزّ.
تَصْطَلُونَ أصلها «تصتليون» فأبدل من التاء طاء، لتوافق الطاء في الإطباق، ونقلت(19/260)
الضمة من الياء إلى اللام، فبقيت الياء ساكنة، وواو الجمع ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه بورك، وهو في موضع رفع ب نُودِيَ. ومَنْ فِي النَّارِ، أي من في طلب النار، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للخبر.
تَهْتَزُّ، كَأَنَّها جَانٌّ تَهْتَزُّ جملة فعلية حال من هاء رَآها. وكَأَنَّها جَانٌّ حال أيضا، أي فلما رآها مهتزة مشبهة جانا، ومُدْبِراً حال منصوب أيضا.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَنْ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع.
تَخْرُجْ بَيْضاءَ بَيْضاءَ حال من ضمير تَخْرُجْ. وإِلى فِرْعَوْنَ حال من مرسلا المحذوف المنصوب على الحال، لدلالة الحال عليه، أي مرسلا إلى فرعون.
مُبْصِرَةً حال من الآيات، أي مبينة.
البلاغة:
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ إيجاز بالحذف، حذفت جملة: فألقاها، فانقلبت حية، لدلالة السياق عليه.
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ووَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ بين كل منهما طباق.
آياتُنا مُبْصِرَةً استعارة، استعار لفظ الإبصار للوضوح والبيان لأن الإبصار يكون بالعينين.
كَأَنَّها جَانٌّ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه، وحذف وجه الشبه، فصار مرسلا مجملا.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ أي اذكر حين قال موسى. لِأَهْلِهِ كنى عن زوجته بالأهل عند مسيرته من مدين إلى مصر. آنَسْتُ أبصرت من بعيد. بِخَبَرٍ عن حال الطريق لأنه قد ضله. وجمع الضمير في قوله: سَآتِيكُمْ وآتِيكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ مراعاة لكلمة لِأَهْلِهِ. وأتى بالسين في قوله: سَآتِيكُمْ للدلالة على بعد المسافة، أو الوعد بالإتيان وإن أبطأ. وأتى بأو دون الواو اعتمادا أو رجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا، لم يعدم واحدة منهما: إما هداية الطريق،(19/261)
وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وقد ظفر بكلتا حاجتيه وهما عز الدنيا وعز الآخرة.
بِشِهابٍ شعلة نار. قَبَسٍ قطعة من النار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.
تَصْطَلُونَ تستدفئون من البرد، وقوله لَعَلَّكُمْ معناه رجاء أن تستدفئوا. نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي نودي بأن بارك الله، فأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، أو مفسرة، لأن النداء فيه معنى القول مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار وهو موسى والبقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص 28/ 30] .
وَمَنْ حَوْلَها المكان الذي حولها، والمعنى: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، قال البيضاوي: والظاهر أنه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا، وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى.
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من جملة ما نودي، ومعناه: تنزيه الله من السوء. يا مُوسى إِنَّهُ ضمير الشأن والأمر.
تَهْتَزُّ تتحرك باضطراب. كَأَنَّها جَانٌّ حية خفيفة سريعة. وَلَّى مُدْبِراً هرب.
وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع على عقبه. لا تَخَفْ من غيري ثقة بي، أو مطلقا، لقوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لا يخاف عندي الرسل من حية وغيرها، حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق. إِلَّا لكن فهو استثناء منقطع. مَنْ ظَلَمَ نفسه. ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أتى حسنا بعد سوء وبدل ذنبه بالتوبة، أي تاب. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أستر عليه وأغفر له وأرحمه بقبول التوبة. والمراد من الاستثناء التعريض بموسى حينما وكز القبطي.
فِي جَيْبِكَ طوق قميصك. تَخْرُجْ خلاف لونها من الأدمة أي الجلد. مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص ونحوه من الآفات، لها شعاع يغشي البصر. فِي تِسْعِ آياتٍ أي تلك آية من تسع آيات أي معجزات دالة على صدقك، أو في جملتها، والتسع: هي فلق البحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والطمسة، وجدب واديهم، ونقصان مزارعهم. ومن عد العصا واليد من التسع جعل الأخيرين واحدا، ولم يعد الفلق منها لأنه لم يبعث به إلى فرعون وقومه.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للإرسال. مُبْصِرَةً بينة واضحة مضيئة. مُبِينٌ بيّن ظاهر. وَجَحَدُوا بِها لم يقروا. اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ تيقنوا أنها من عند الله والاستيقان أبلغ من الإيقان. ظُلْماً لأنفسهم. وَعُلُوًّا ترفعا وتكبرا عن الإيمان بما جاء به موسى.
فَانْظُرْ يا محمد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.
قال الزمخشري: وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينات واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.(19/262)
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى أن القرآن المجيد متلقى من عند الله الحكيم العليم، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتلاوة بعض ما تلقاه، تقريرا له، وهو ما أورده من بعض القصص للعظة والذكرى.
التفسير والبيان:
ابتدأ الله تعالى بالتذكير بقصة موسى كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا، واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال:
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي اذكر أيها الرسول حين سار موسى بأهله (زوجته) من مدين إلى مصر، فضل الطريق في ليل مظلم، فرأى من بعيد نارا تتأجج وتضطرم، فقال لأهله مستبشرا بمعرفة الطريق والاصطلاء بالنار: إني أبصرت نارا، سآتيكم منها بخبر عن الطريق، أو آتيكم منها بشعلة نار، تستدفئون بها في هذه الليلة الباردة.
وكان الأمر كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم هو النبوة، واقتبس منها نورا عظيما لا نارا هو نور الرسالة، كما قال:
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فلما وصلها، ورأى منظرها هائلا حيث تضطرم النار في شجرة خضراء، فلا تزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضارة، ثم رفع رأسه، فإذا نورها متصل بعنان السماء، ولم تكن نارا، وإنما كانت نورا، هو نور رب العالمين، كما قال ابن عباس، فوقف موسى متعجبا مما رأى، فنودي أن(19/263)
بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها، أي تبارك من في النور، والمكان:
هو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص 28/ 30] وما حولها: أرض الشام ذات البركات والخيرات لكونها مهبط الأنبياء، ومبعث الرسالات.
وقيل: من في النور هو الله سبحانه، ومن حولها: الملائكة، والأولى ما ذكرناه.
وسبب المباركة: حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم الله موسى عليه السلام، وجعله رسولا، وإظهار المعجزات على يده، ولما كان هذا الحال قد يوهم بالتجسيم والمادية نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق بذاته وحكمته، فقال: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزه الله الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، والأحد الفرد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقد عرف موسى أن ذلك النداء من الله تعالى لأن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك كالمعجز الدال على صدور الكلام من الله سبحانه.
ومما يدل على صحة هذا التعليل
المروي عن ابن عباس: ما أخرجه مسلم في صحيحة وابن ماجه في سننه، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفها «1» لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شيء
__________
(1) لعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالأنوار، وهذه رواية ابن ماجه، ورواية مسلم: «لو كشفه» . [.....](19/264)
أدركه بصره»
ثم قرأ أبو عبيدة: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم صرح الله تعالى بإظهار كلامه فقال:
يا مُوسى، إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا موسى، إن الذي يخاطبك ويناجيك هو الله ربّك الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله.
ثم أراه قدرته وأيده بالمعجزات، فقال تعالى:
المعجزة الأولى:
وَأَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أي أمره الله بإلقاء عصاه من يده على الأرض، فلما ألقاها، انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة، في غاية الكبر وسرعة الحركة معا، فلما رآها هكذا، ولّى هاربا خوفا منها، ولم يرجع على عقبيه، ولم يلتفت وراءه من شدة خوفه.
فهدّأ الحق تعالى نفسه، وأزال عنه الرعب، فقال:
يا مُوسى، لا تَخَفْ، إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي لا تخف يا موسى مما ترى، فإني أريد أن أصطفيك رسولا، وأجعلك نبيا وجيها، ولا يخاف عندي الرسل والأنبياء إذا أمرتهم بإظهار المعجزة.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا استثناء عظيم، وبشارة عظيمة للبشر في هذا الكلام الرباني المباشر مع موسى، أي لكن من ظلم نفسه أو غيره أو كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب إلى ربه، فإن الله يقبل توبته لأنه بدل بتوبته عملا حسنا بعد سوء، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه 20/ 82] وقال(19/265)
سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء 4/ 110] .
المعجزة الثانية:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي أدخل يدك في جيب قميصك «1» فإذا أدخلتها وأخرجتها، خرجت بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، من غير آفة بها كبرص وغيره.
ويلاحظ أن المعجزة الأولى كانت بتغيير ما في يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وجعلها ذات أوصاف نورانية.
فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي هاتان المعجزتان أو الآيتان في جملة أو من تسع آيات أخرى أؤيدك بهن، وأجعلها برهانا لك، مرسلا بها إلى فرعون وقومه، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء 17/ 101] .
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي لأنهم كانوا قوما عصاة خارجين عن دائرة الحق، بتأليه فرعون. وهذا تعليل لما سبق من تأييده بالمعجزات.
ثم كان اللقاء مع فرعون وقومه، فقال تعالى:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي فلما جاءت فرعون وقومه آياتنا التسع بينة واضحة ظاهرة دالة على صدق موسى وأخيه هارون، أنكروها وقالوا: هذا سحر واضح ظاهر، وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين. وعبّر بقوله: مُبْصِرَةً للدلالة على أنها لفرط وضوحها
__________
(1) هو الفتحة التي يدخل منها الرأس ثم يتدلى الثوب إلى الصدر والجسد.(19/266)
كأنها تبصر نفسها. ونظرا لهذا الوضوح فيها صدقوا بها في قلوبهم، وكذبوا بها في الظاهر بألسنتهم فقال تعالى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا أي وأنكروها وكذبوا بها في ظاهر الأمر مكابرة بالألسنة وعنادا، وتيقنوا وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتباع الحق، كما جاء في آية أخرى:
فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون 23/ 46] .
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر أيها الرسول وكل سامع كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير لمكذبي الرسل الذين أرسلهم الله لهداية البشرية.
والمعنى: فاحذروا أيها المكذّبون لمحمد صلّى الله عليه وسلم، الجاحدون لما جاء به من عند ربه أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك بطريق الأولى والأخرى، لأن النبوات ختمت برسالته، ولأن القرآن المنزل عليه مصدّق لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السابقة ومهيمن عليها، ولبشارات الأنبياء به وأخذ المواثيق له، ولتأييده بأدلة دالة على صدق نبوته أكثر من موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء والرسل، وعلى رأسها معجزة القرآن المجيد، كما أخبر تعالى في مطلع هذه السورة: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.
فقه الحياة أو الأحكام:
تكررت قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في سور عديدة، لما تضمنت من العظة والعبرة التي تتجلى في قهر الله أكبر قوة عاتية بشرية وتحطيم جبروت سلطة ظالمة غاشمة، على يد رجل أعزل من السلاح هو وأخوه هارون إلا أنهما قويان بقوة الله، وقوة الإيمان، وعظمة النبوة.(19/267)
وهي أول قصة حكاها القرآن في هذه السورة على أثر قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي خذ يا محمد من آثار حكمة الله وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله: «إني آنست نارا ... » .
مشى موسى عليه السلام هو وزوجته من مدين إلى مصر، وشأنه ككل بشر عادي، يحار في الصحراء، ومفارق الطرق، وفي الليالي الظلماء الباردة العاصفة، فضل الطريق، وأحس هو وزوجته بالحاجة إلى الدفء، كما يحس المسافر العادي بالحاجة إلى النار أثناء البرد.
واستدرجه ربّه فيما يناسب ظرفه والمناخ الذي يكتنفه، فرأى نارا من بعيد، فبشّر أهله بما رأى، وأنه سيأتي بشعلة نار منها، ويهتدي بأهل النار إلى الطريق، إذ النار لا توقد وحدها من دون شخص يوقدها.
ولكنه فوجئ بنقيض مقصوده، لما جاء المكان الذي ظن أنه نار، وهي نور، وذلك أنه لما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فوجدها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الاخضرار، يقال لها العلّيق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرّما، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا، وأراد أن يقتطع منها غصنا ملتهبا، فلم يتمكن، حتى تبين أنها مباركة، ثم نودي: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي ناداه الله مباركا مكان النار، ومن حولها: الملائكة والبقعة وموسى. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه قال: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود 11/ 73] .
والخلاصة: إن هذه النار التي رآها موسى فيض من نور الله، تمهيدا لتكليم الله موسى وتحيته وجعله نبيا رسولا، وتنزيها وتقديسا لله رب العالمين، علما بأن هذا الكلام الأخير من قول الله تعالى تعليما لنا، وقيل: إن موسى عليه السلام قال حين فرغ من سماع النداء: استعانة بالله تعالى وتنزيها له.(19/268)
وكانت فاتحة خطاب الله لموسى إظهار عظمة الله وعزته وحكمته البالغة:
إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إنني أنا الله الغالب القاهر الذي ليس كمثله شيء، الحكيم في أمره وفعله.
ثم جعل له تسع آيات دليلا وبرهانا على نبوته، وأهمها وأبرزها: العصا واليد، فكان إذا ألقى عصاه من يده، صارت حية تهتز كأنها جانّ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقيل: إنها كبيرة ضخمة ذات حركة سريعة. وإذ أدخل يده في جيب ثم أخرجها أصبحت ذات مصدر إشعاع ونور كالقمر.
ومن الطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام لأول مرة من الحية المضطربة المتحركة التي يخشى الإنسان من لدغها بالفطرة، ففرّ هاربا منها، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه، فطمأنه ربه العلي العظيم قائلا: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وهذا خبر بالرسالة والنبوة.
ثم استثنى استثناء منقطعا من خلاف جنس المستثنى منه فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي لكن لا يخاف من ظلم وعصى وأساء، ثم تاب وأناب لربه، فالله غفور لمن تاب، رحيم بمن أناب. وهذا تثبيت لموسى بأنه ليس من شأنه الخوف، وتطمين له بأن ربّه غفر له بعد أن تاب من حادث قتل القبطي وهو شاب حدث قبل النبوة. أما بعد النبوة فالأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر.
ثم أخبره ربه بأنه مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه الفاسقين، أي الخارجين عن طاعة الله، فأظهر موسى عليه السلام لهم معجزاته الباهرة الدالة على صدقه دلالة واضحة بيّنة، فجروا على عادتهم في التكذيب، وأنكروها وعاندوها في الظاهر، ولكنهم تيقنوا من صدقها في الباطن أو في القلب، وأنها من عند الله، وأنها ليست سحرا، غير أنهم تجاهلوا ذلك، وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا واستكبارا كشأن كل العتاة المتكبرين.(19/269)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
ثم أوجز الله تعالى العبرة من هذه القصة بتلك العبارة التي ختمت بها فقال:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر يا محمد كيف كان مصير أو آخر أمر الكافرين الظالمين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه، ولينظر أيضا كل عاقل، وليعتبر بالنتائج الحادثة بأسباب تؤدي إليها في سنة الله ونظامه.
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام
- 1- نعم الله الجليلة عليهما
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)(19/270)
الإعراب:
قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ خاطبهم مخاطبة من يعقل لما وصفهم بصفات من يعقل.
لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ لا الناهية، ولهذا دخلت النون المشددة في يَحْطِمَنَّكُمْ.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ جملة حالية.
البلاغة:
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه حسن الاعتذار والالتفات.
يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه نداء، وتنبيه، وأمر بالدخول، وبيان الملجأ والمأمن، والتحذير، وتخصيص سليمان، ثم التعميم، والاعتذار الحسن.
المفردات اللغوية:
عِلْماً هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس ومنطق الطير وغير ذلك.
وَقالا شكرا لله، وعطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة، كأنه قال: ففعلا شكرا له ما فعلا، وقالا: الحمد لله الَّذِي فَضَّلَنا.. بالنبوة والعلم وتسخير الجن والإنس والشياطين على من لم يؤت علما. وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله، حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبروا ما دونه من الملك. وفيه أيضا تحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوة والعلم أو الملك دون باقي أولاده الذين كانوا تسعة عشر عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي علمنا فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، والمنطق والنطق: الصوت المعبر عما في النفس. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تؤتاه الأنبياء والملوك، وفيه التحدث بنعمة الله، ودعوة الناس إلى التصديق بالمعجزة التي هي علم الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه. إِنَّ هذا المؤتى. لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ البيّن الظاهر. يُوزَعُونَ يكفّون، ويجمعون بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم من الوزع: الكف والمنع. وَحُشِرَ جمع. وادِ النَّمْلِ واد في بلاد الشام كثير النمل، وقيل: في بلاد اليمن. قالَتْ نَمْلَةٌ هي ملكة النمل، وقد رأت جند سليمان.
لا يَحْطِمَنَّكُمْ أصله: لا يحتطمنكم، وهو نهي لهم عن الحطم أي عن التوقف بحيث يحطمونها(19/271)
ويكسرونها، وهو مثل قولهم: لا أرينك هاهنا. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنهم يحطمونكم، إذ لو شعروا لم يفعلوا، كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء. وقد نزل النمل منزلة العقلاء، في الخطاب بخطابهم.
فَتَبَسَّمَ سليمان. ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تعجبا من تحذيرها واهتدائها إلى مصالحها أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها وفهم غرضها. أَوْزِعْنِي ألهمني. وَعَلى والِدَيَّ أدرج في دعائه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ تماما للشكر واستدامة للنعمة. فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي أدخلني في عدادهم الجنة، وهم الأنبياء والأولياء.
المناسبة:
هذه قصة ثانية بعد قصة موسى عليه السلام تبين آثار حكمة الله، وتعليمه، وإنزال القرآن، وأنه من حكيم عليم، ففيها يخبر الله تعالى عما أنعم به على داود وسليمان من النعم الجليلة والصفات الجميلة، وما جمع لهما من سعادة الدنيا والآخرة بإيتاء النبوة والملك معا.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أي ولقد أعطينا كلا من داود وابنه سليمان طائفة من العلم هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس، وعلمنا داود صنعة دروع الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير، فشكرا الله تعالى على نعمه، وقالا: الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من العباد المؤمنين بهذه العلوم والمعارف الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، ولم يؤتهم مثلنا.
وهذا دليل على فضل العلم الذي لم يكن الملك إلا دونه، وعلى رفع مرتبة العلم والعلماء، كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا(19/272)
الْعِلْمَ دَرَجاتٍ
[المجادلة 58/ 11] وهو حث للعالم على شكر النعمة وعلى التواضع، فلم يفضلا أنفسهما على الكل، وإنما على الكثير، وتذكير بأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل على الكثير أناس مثله. وأشرف مراتب العلم: العلم بالله وبصفاته. روي ابن أبي حاتم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: إن الله لم ينعم على عبده نعمة، فيحمد الله عليها، إلا كان حمده أفضل من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي خلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النبوة والعلم والملك، وليس المراد وراثة المال، لأنه خصص بهذا الإرث عن بقية أولاد داود الكثر، ولأن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في
قوله فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: نحن معاشر الأنبياء «لا نورث، ما تركنا صدقة» .
وكان داود أكثر تعبدا من سليمان، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله، وكان أعظم ملكا من أبيه، فقد أعطي ما أعطي داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، ومعرفة لغة الطيور، كما أخبر تعالى معددا بعض نعم الله عليه:
1- تعليمه منطق الطير:
وَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي قال سليمان متحدثا بنعمة الله عليه أن ربه علّمه لغة الطير والحيوان إذا صوّت، فأستطيع التمييز بين مقاصده من نوع تصويته. وربما فهم بعض الناس الذين يقدمون خدمات للحيوان بعض أصوات الحيوانات، كالخيول والبغال والحمير والأبقار والإبل والقطط، فيدركون رغبتها في الأكل أو الشرب، ويفهمون تألمها عند المرض أو(19/273)
الضرب. وأدرك أناس في العصر الحديث كثيرا من لغات الطيور حال الحزن أو الفرح أو الحاجة إلى الطعام والشراب والاستغاثة وغير ذلك بالتجربة والملاحظة وتشابه النغمات في حال واحدة، كما حاولوا معرفة لغات الحشرات كالنمل والنحل.
قال البيضاوي: ولعل سليمان عليه السلام كان إذا سمع صوت حيوان، علم بقوّته الحدسية التخيل الذي صوّته، والغرض الذي توخاه به، ومن ذلك ما حكي: أنه مرّ ببلبل يصوّت ويرقص، فقال سليمان: إنه يقول: «إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء» وصاحت فاختة «1» ، فقال: إنها تقول: «ليت الخلق لم يخلقوا» فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال، وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب.
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا من ملك وثروة. وهذا الأسلوب كما ذكر الزمخشري يراد به كثرة ما أوتي كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد كثرة قصّاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه، ومثله قوله تعالى في مقال الهدهد عن بلقيس:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 27/ 23] .
والضمير في عُلِّمْنا، وَأُوتِينا لسليمان ولأبيه، أو له وحده، على عادة الملوك، لمراعاة قواعد السياسة.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي إن هذا المؤتى من الخيرات والنعم من النبوة والملك والحكم، لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد، وهو فضل الله علينا. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما
قال
__________
(1) نوع من الحمام البري، جمع فواخيت.(19/274)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر»
أي أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
2- جنود سليمان:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، أي ركب فيهم في أبّهة وعظمة، تليه الإنس، ثم الجن، ثم الطير، فإن كان حرّ أظلته منه بأجنحتها، فهم يجمعون بترتيب ونظام، بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم، ويردّ أو يكفّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته، وليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وهذا يدل على مسيرته في جيش عظيم منظم له عرفاء، ليس جيشا من الناس فقط، وإنما معه الجن، والطير.
قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة (عرفاء) ، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم. وعلى هذا فكلمة يُوزَعُونَ من الوزع وهو الكف والمنع، قال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن أي من الناس. وقال الحسن البصري: لا بد للناس من وازع، أي سلطان يكفّ ويمنع.
وهذا دليل على أن سليمان عليه السلام جمع بين النبوة والسلطات كلها، والملك الذي لم يتوافر لأحد بعده، فضلا من الله واستجابة لدعائه: قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص 38/ 35- 37] . وقال تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ 34/ 12- 13] .(19/275)