ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً أي مستقرين في ثوابهم عند الله وهو الجنة إلى الأبد، وخالدين فيه دائما، لا زوال له ولا انقضاء.
يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ... أي ويحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا، وهم مشركو العرب الذين قالوا: نحن نعبد الملائكة بنات الله، واليهود الذين اتخذوا عزيرا ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.
وإنما خصّ ذكر هؤلاء مع دخولهم في الإنذار العام المتقدم للكافرين، للدلالة على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ما لهم ولا لآبائهم أي أسلافهم علم ثابت بهذا القول الذي افتروه وهو اتخاذ الولد لله أو الوالد، وإنما هو صادر عن جهل مفرط وتقليد للآباء، ومن تسويل الشيطان. وانتفاء العلم بالشيء: إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يصلح محلا للعلم به.
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي عظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم متجرئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال:
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور، ولا حقيقة له أصلا.
ثم سرّى الله تعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام وواساه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه بقوله:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ.. أي فلعلك قاتل نفسك ومهلكها لأن لم يؤمنوا بهذا القرآن، أسفا وحسرة عليهم، ولعل هنا للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى النهي، أي لا تهلك نفسك أسفا لعدم إيمانهم، ولا تقتلها غضبا(15/204)
وجزعا وحزنا عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. والآثار جمع أثر أي على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
وللآية نظائر كثيرة منها: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 3] ومنها: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل 16/ 127] .
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية زائلة، وأنها دار اختبار لا دار قرار، فقال:
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ... أي إنا جعلنا ما على الأرض من زخارف الدنيا من إنسان وحيوان ونبات ومعادن ومنازل ومباهج ومفاتن زينة زائلة لها ولأهلها، لنعاملهم معاملة المختبرين، ليعرف المحسن عمله من الفاسد، فنجازي المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب. وحسن العمل: الزهد في الدنيا، وترك الاغترار بها، وجعلها وسيلة وجسرا للآخرة.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» .
ثم ذكر الله تعالى سبب التوجيه بالإعراض عن الكفار، فقال:
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي وإنا لنصير الأرض وما عليها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فقوله: صَعِيداً جُرُزاً يعني كالأرض البيضاء التي لا نبات فيها ولا ينتفع بها، بعد أن كانت خضراء معشبة. وذلك مثل قوله تعالى: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 107] . والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. والجرز في اللغة: اليابسة التي لا تنبت، أو الأرض التي لا نبات فيها.(15/205)
والمقصود من الآية تسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والقول له: لا تحزن فإنا سنهلكهم ونبيدهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أن أعظم نعمة من الله على عباده إنزال القرآن الكريم، الدواء الناجع لمشكلات البشرية، والمنقذ من الظلمات إلى النور، والحق العدل المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.
ومهمته أيضا إنذار الكافرين وتخويفهم بالعذاب الشديد في نار جهنم والنكال في الدنيا، وخصوصا المشركين الذين اتخذوا لله ولدا وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله. ولا دليل لهم ولا لأسلافهم على ما يقولون، وتلك كلمة كبيرة الإثم، شديدة الشناعة، عظيمة الجرم.
وللقرآن مهمة أخرى هي تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات من التصديق بما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتزام الأوامر واجتناب النواهي بالأجر الحسن وهو الجنة التي يخلد فيها أهلها، فهي دار الخلد التي لا يموتون فيها.
ولا يغترن أحد بالدنيا وما فيها من زينة وزخارف ومباهج، فتلك للاختبار والامتحان، ليعرف الصالحون الأبرار من المفسدين الفجار، ثم مآلها إلى الفناء والزوال والدمار والخراب، والرجوع إلى الملك الإله الدّيّان، ليجزي كل إنسان بعمله.
وإذا كان هذا هو المصير المحتوم، فلا تأس ولا تحزن أيها الرسول على ما ترى وتسمع في الدنيا، ولا حاجة لإتعاب نفسك وإهلاكها وقتلها بسبب توليهم وإعراضهم عنك، وعدم إيمانهم بالقرآن، وأسفا أي حزنا وغضبا على كفرهم.(15/206)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قصة أصحاب الكهف
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةًيَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)(15/207)
الإعراب:
مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) مِنْ آياتِنا حال، وعَجَباً: خبر كان، وهو وصف بالمصدر، أو على ذات عجب.(15/208)
سِنِينَ عَدَداً (11) سِنِينَ: ظرف منصوب، وعَدَداً: وصف لسنين منصوب، على معنى: ذات عدد، أو منصوب على المصدر.
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) : أي: مبتدأ مرفوع، أَحْصى: فعل ماض خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر سدت مسدّ مفعولي لِنَعْلَمَ وأَمَداً: ظرف زمان منصوب، وعامله: أَحْصى، وهو الأوجه، وقيل: لَبِثُوا. ولما لبثوا: حال من أَمَداً أو مفعول لأجله. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: صفة مصدر محذوف، فهو منصوب على المصدر، أي قولا شططا، أو منصوب بقلنا، مثل: قلنا شعرا.
يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ (15) : أي هلا يأتون على دعواهم بأنها آلهة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهؤلاء: مبتدأ، وقَوْمُنَا: عطف بيان، وجملة اتَّخَذُوا: خبر.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (16) : إِذِ: تتعلق بفعل مقدر، أي واذكروا إذ اعتزلتموهم. وما: إما مصدرية (أي وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، فحذف المضاف) وإما اسما موصولا (أي وإذ اعتزلتموهم والذي يعبدونه) وإما نافية (أي وإذ اعتزلتموهم غير عابدين إلا الله، فتكون الواو واو الحال) وما: في الوجهين الأوليين: في موضع نصب بالعطف على الهاء والميم في اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وفي الوجه الثالث: في موضع نصب على الحال. وقوله إِلَّا اللَّهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا لأنهم كانوا كأهل مكة يقرون بالخالق ويشركون معه، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ... (17) : الشَّمْسَ: مفعول تَرَى، وإِذا طَلَعَتْ وإِذا غَرَبَتْ: ظرفان يتعلقان بترى، وعَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ: يتعلق بترى. وتَتَزاوَرُ: جملة فعلية حال من الشَّمْسَ. وذاتَ الشِّمالِ:
يتعلق بتقرضهم. وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ: جملة اسمية حال.
باسِطٌ ذِراعَيْهِ.. فِراراً (18) : ذِراعَيْهِ: منصوب بباسط، وإنما أعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي لأنه أراد به حكاية الحال، مثل الإشارة للحاضر في قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص 28/ 15] ولم يكن المشار إليهما حاضرين حين قص القصة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما حكى تلك الحال. وفِراراً ورُعْباً: منصوبان على المصدر.
كَمْ لَبِثْتُمْ (19) : كَمْ: هنا ظرفية في موضع نصب بلبثتم، أي كم يوما لبثتم، ويوما المحذوف: تمييز، ودليل التقدير: كم يوما: أنه قال في الجواب: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.(15/209)
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً (19) أَيُّها: مبتدأ، وأَزْكى: خبر المبتدأ، وطَعاماً: تمييز، والجملة مفعول فَلْيَنْظُرْ.
إِذْ يَتَنازَعُونَ (21) : إِذْ: ظرف زمان في موضع نصب: وعامله لِيَعْلَمُوا.
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ، رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ (22) : ثَلاثَةٌ: خبر مبتدأ أي هم ثلاثة.
ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ: جملة اسمية صفة ثَلاثَةٌ. وكذلك التقدير في قوله: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وقوله سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وإنما جاء بالواو في قوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم يجئ به على الصفة كالعدد قبله لأن السبعة: أصل المبالغة في العدد، كما كانت السبعين كذلك في قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة 9/ 80] ولو جاء بالواو في ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ لكان جائزا ورَجْماً بِالْغَيْبِ: مفعول لأجله.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (24) : في موضع نصب (بفاعل) بتقدير حذف حرف الجر، أي:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بأن يشاء الله، وأن وصلتها في تأويل المصدر، وتقديره:
لمشيئة الله، إلا أنه حذف حرف الجر من أَنْ فاتصل الفعل به.
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ (25) : بالتنوين تكون سِنِينَ منصوبا على البدل من ثَلاثَ أو عطف بيان على ثَلاثَ أو تكون بدلا مجرورا من مِائَةٍ لأن المائة في معنى سِنِينَ.
ومن لم ينون: أضاف مِائَةٍ إلى سِنِينَ تنبيها على الأصل الذي كان يجب استعماله.
وتِسْعاً: مفعول به، مثل وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف 12/ 65] وليس بظرف، أي وازدادوا لبث تسع سنين، فحذف المضاف.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ (26) : أي ما أسمعه وأبصره، وتقديره: أسمع به، إلا أنه حذف اكتفاء بالأول عنه. وموضع أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ الرفع لإرادة التعجب.
البلاغة:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا استئناف مبني على سؤال من قبل المخاطب، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
يَهْدِ ويُضْلِلْ أَيْقاظاً ورُقُودٌ ذاتَ الْيَمِينِ وذاتَ الشِّمالِ بين كل طباق.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ.. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ بينهما طباق معنوي لأن معنى الأول: أنمناهم والثاني أيقظناهم.
إِذْ قامُوا فَقالُوا بينهما جناس ناقص.(15/210)
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغة تعجب.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ استعارة تبعية، شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان، كما تضرب الخيمة على السكان.
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة تبعية أيضا لأن الربط هو الشد، والمراد شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية.
المفردات اللغوية:
أَمْ حَسِبْتَ ظننت، وأَمْ: للانتقال من كلام إلى آخر، بمعنى: بل وهمزة الاستفهام، أي بل أحسبت، والخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به كل مخاطب الْكَهْفِ الغار أو النقب المتسع في الجبل وَالرَّقِيمِ لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقيل: اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً كانوا في قصتهم من جملة آياتنا محل تعجب، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات، أو أعجبها.
أَوَى اتخذه مأوى الْفِتْيَةُ جمع فتى، وهو الشاب الكامل، وهم فتية من الأشراف أرادهم دقيانوس على الشرك، فأبوا وهربوا إلى الكهف، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار مِنْ لَدُنْكَ من قبلك رَحْمَةً توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو وَهَيِّئْ يسّر، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء رَشَداً هداية إلى الطريق الموصل للمطلوب، والمعنى: هيّئ لنا من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار طريقا نصير به راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون، وأصله: ضربنا على آذانهم حجابا يمنع السماع سِنِينَ عَدَداً معدودة.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ علم مشاهدة أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الفريقين المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم وهما الحزب القائل: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والحزب القائل:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. أَحْصى فعل ماض، أو أفعل بمعنى أضبط لِما لَبِثُوا للبثهم أَمَداً غاية ومدة لها حد نَحْنُ نَقُصُّ نخبرك بِالْحَقِّ بالصدق الْفِتْيَةُ شبان جمع فتى وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناهم على قول الحق، والصبر على هجر الوطن والأهل والمال إِذْ قامُوا بين يدي ملكهم: دقيانوس الجبار، وقد أمرهم بالسجود للأصنام مِنْ دُونِهِ من غيره شَطَطاً أي قولا ذا شطط، أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الفرض لقول الشطط: هو الخارج عن المعقول المفرط في الظلم هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا إخبار في معنى الإنكارهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة أو ببرهان ظاهر،(15/211)
فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن مالا دليل عليه من الديانات مردود، وإن التقليد فيه غير جائز فَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خاطب بعض الفتية بعضهم الآخر بذلك وَما يَعْبُدُونَ عطف على الضمير المنصوب في الفعل المتقدم، أي ولأجل أنكم اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم، ويوسع عليكم من رحمته في الدارين وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما ترتفقون به أي تنتفعون، من غداء وعشاء. وقد جزموا بذلك لقوة ثقتهم بفضل الله تعالى.
تَتَزاوَرُ بتخفيف الزاي والتشديد أي تميل عنه، ولا يقع شعاعها عليهم، فيؤذيهم لأن الكهف كان جنوبيا، أو لأن الله تعالى زورها عنه ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين تَقْرِضُهُمْ تتركهم وتتجاوز عنهم، فلا تصيبهم البتة فَجْوَةٍ متسع من الكهف أي في وسطه، ينالهم برد الريح ونسيمها ذلِكَ المذكور وهو شأنهم أو تحول الشمس عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي من يهد الله بالتوفيق، فهو المهتدي الذي أصاب الفلاح، والمراد به إما الثناء عليهم، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها وَمَنْ يُضْلِلْ ومن يخذله، فلن تجد له من يليه ويرشده.
وبعبارة أخرى: من اهتدى بآيات الله واختار الإيمان بالدليل، فقد هداه الله ووفقه لاختياره، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضل وانحرف، ولن تجد له من يرشده ويهديه.
وَتَحْسَبُهُمْ لو رأيتهم أَيْقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة رُقُودٌ نيام، جمع راقد وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ لئلا تأكل الأرض لحومهم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ يديه واسم كلبهم: قطمير بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف، وقيل: بباب الكهف، وكان يتقلب في النوم واليقظة مثلهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم مِنْهُمْ رُعْباً منعهم الله بالرعب من دخول أحد عليهم. والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر. عن معاوية رضي الله عنه: أنه غزا الروم، فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء، فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنه:
ليس لك ذلك، وقد منع الله تعالى من هو خير منك، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فلم يسمع، وبعث ناسا، فلما دخلوا، جاءت ريح، فأحرقتهم.
وَكَذلِكَ كما فعلنا بهم ما ذكرنا بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ عن حالهم ومدة لبثهم قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم دخلوا عند طلوع الشمس، وبعثوا عند غروبها، فظنوا أنه غروب يوم الدخول، فقولهم مبني على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة لبثه، لذا أحالوا العلم إلى الله تعالى، فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ويجوز أن يكون ذلك قول(15/212)
بعضهم، وهذا إنكار الآخرين عليهم. ولما علموا أن الأمر ملتبس مجهول عليهم اتجهوا إلى ما يهمهم وقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ بفضتكم، الورق: الفضة، مضروبة كانت أو غيرها إِلَى الْمَدِينَةِ هي طرسوس أو أفسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فلينظر أيّ أطعمة المدينة أحل وأطيب، وأكثر وأرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إن يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير لأهل المدينة يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يصيروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن عدتم في ملتهم.
وَكَذلِكَ كما بعثناهم أَعْثَرْنا أطلعنا عَلَيْهِمْ قومهم والمؤمنين لِيَعْلَمُوا أي قومهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ ثابت لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت، ثم يبعث، والقادر على إنامتهم المدة الطويلة، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء، قادر على إحياء الموتى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها لا شك فيها إِذْ معمول لأعثرنا أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون يَتَنازَعُونَ أي المؤمنين والكفار، والتنازع: التخاصم أَمْرَهُمْ أمر الفتية، في البناء حولهم فَقالُوا أي الكفار ابْنُوا عَلَيْهِمْ أي حولهم بُنْياناً يسترهم. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة إما من الله رد على المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من المتنازعين للرد إلى الله، بعد ما تذكروا أمرهم.
قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ هم رؤساء البلد أهل الرأي وهم المؤمنون حين أماتهم الله ثانيا بالموت لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ حولهم مَسْجِداً معبدا يصلى فيه، وكانوا نصارى على المشهور وفعل ذلك على باب الكهف.
سَيَقُولُونَ أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي يقول بعضهم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم ثلاثة وَيَقُولُونَ يقول بعضهم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ والقولان لنصارى نجران رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا ورميا بالخبر الخفي الذي لا اطلاع لهم عليه، والرحم:
القول بالظن، والغيب: ما غاب عن الإنسان، والمراد هنا: القول بالظن والتخمين ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكرهم سبعة.
فَلا تُمارِ تجادل إِلَّا مِراءً المراء: المحاجة فيما فيه مرية وشك وتردد وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً لا تطلب الفتيا من أحد من أهل الكتاب: اليهود، أو لا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد، فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنه لا علم لهم بها، بل ولا سؤال متعنت، تريد افتضاح المسؤول وتزييف ما عنده، فإنه مخلّ بمكارم الأخلاق.(15/213)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً لا تقل لأجل شيء: سأفعله غدا أو فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى بأن تقول: إن شاء الله. وهذا نهي تأديب من الله تعالى لنبيه، حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه، فقال: ائتوني غدا أخبركم، ولم يقل: إن شاء الله، فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما، حتى شق عليه، وكذبته قريش، فنزلت الآية.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي مشيئته، معلقا الأمر بها إِذا نَسِيتَ التعليق بها، ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول، ما دام في المجلس، كما قال الحسن وغيره، وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم يحنث لِأَقْرَبَ مِنْ هذا من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوتي رَشَداً هداية، وقد تم المراد، وهداه الله لأعظم من ذلك، كقصص الأنبياء الغابرين، والإخبار عن المغيبات في المستقبل إلى قيام الساعة.
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هي عند أهل الكتاب شمسية، وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين، فقال: وَازْدَادُوا تِسْعاً أي تسع سنين، فالثلاث مائة الشمسية: ثلاث مائة وتسع قمرية أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ممن اختلفوا فيه لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علمه أَبْصِرْ بِهِ بالله، وهي صيغة تعجب وَأَسْمِعْ كذلك، بمعنى: ما أبصره وما أسمعه، وهما على جهة المجاز، والمراد:
أنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء ما لَهُمْ لأهل السموات والأرض وَلِيٍّ ناصر وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ولا يشرك في قضائه أحدا منهم، ولا يجعل له فيه مدخلا لأنه غني عن الشريك.
سبب النزول:
سبق ذكر سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء 17/ 85] . وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مفصلا موضحا، فقال: كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم أحاديث رستم وإسفنديار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.(15/214)
ثم إن قريشا بعثوه، وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود:
سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو متقوّل، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاءوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألوه،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن- لم يقل: إن شاء الله-
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، فشق عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطوّاف «1» .
نزول الآية (24) : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ..
أخرج ابن جرير عن الضحاك، وابن مردويه عن ابن عباس قال: حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على يمين، فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه جعل الزينة على ظهر الأرض، وفي ذلك من العجائب والإبداع ما يفوق القصص وغرائبها، أبان أن قصة أهل الكهف ليست
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 83، تفسير الألوسي: 15/ 216 [.....](15/215)
بالعجب وحدها من بين آياتنا، وأنها أقل عجبا من تزيين الأرض بالنبات، والحيوان والبشر، والشجر والأنهار وغير ذلك.
التفسير والبيان:
إجمال القصة:
هذا هو الخبر اليقين عن قصة أصحاب الكهف الذين بقوا أحياء ثلاث مائة وتسع سنوات في حال سبات (نوم) وهي من العجائب التي أشارت إليها الكتب السالفة.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ... تعجب القوم من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل الامتحان، فقال تعالى:
أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط، فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها عجب، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة أعجب من حال الدنيا، فإن زينة الأرض وعجائبها أعظم وأبدع وأعجب من هذه القصة، فإن من قدر على تزيين الأرض ثم جعلها ترابا، وعلى خلق السموات والأرض، قادر على كل شيء، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس دون طعام وشراب زمانا معلوما.
وبعبارة أخرى موجزة: لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم وهو اسم كلبهم أو واديهم أو كتاب بنيانهم كانوا آية عجبا من آياتنا، لا تظن ذلك فآياتنا كلها عجيبة وغريبة. والرقيم في الظاهر من الآية كما رجح ابن جرير وابن كثير:
الكتاب.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.. اذكر أيها الرسول حين لجأ أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم، لئلا يفتنوهم عنه، إلى غار في جبل ليختفوا عن(15/216)
قومهم عبدة الأصنام، فقالوا حين دخلوا سائلين الله تعالى الرحمة واللطف بهم:
رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي اجعل عاقبتنا رشدا، بأن توفر المصلحة لنا، وتجعلنا راشدين غير ضالين، مهتدين غير حائرين، أو اجعل أمرنا رشدا كله.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي ألقينا النوم الثقيل عليهم حين دخلوا إلى الكهف، فلم يعودوا يسمعون أي صوت، وناموا سنين كثيرة معدودة.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي ثم بعثناهم من رقدتهم تلك، وأيقظناهم من نومتهم ليظهر للناس معلومه سبحانه، أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما، فيظهر لهم عجزهم، ويعرفوا ما صنع الله بهم، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره.
تفصيل القصة:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق، وهذا يعني أن الأخبار المتداولة عنهم بين العرب لم تكن صحيحة.
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ.. أي إنهم شباب صدقوا بتوحيد ربهم، وشهدوا أن لا إله إلا هو، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله وإيثار العمل الصالح.
وفي هذا إيماء إلى أن الشباب أقبل للحق وأهدى للسبل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا- كما ذكر ابن كثير- كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم شبابا، وأما المشايخ من قريش فبقوا على دينهم، ولم(15/217)
يؤمن منهم إلا القليل. أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب، وقرأ: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء 21/ 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف 18/ 60] إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ.
واستدل بهذه الآية: وَزِدْناهُمْ هُدىً على زيادة الإيمان وتفاضله بين الناس، وأنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد 47/ 17] وقال سبحانه:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة 9/ 124] وقال عز وجل: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح 48/ 4] .
زمنهم أو عصرهم:
ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، ورجح ابن كثير أنهم كانوا قبل النصرانية، بدليل أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، كما تقدم في سبب النزول، وبدليل ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة، فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد، فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا، ولا يدري هذا علام خرج هذا، فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا، فإن اجتمعوا على شيء، وإلا كتم بعضهم بعضا، فاجتمعوا على كلمة واحدة، فقالوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: مِرفَقاً ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف، فضرب الله تعالى على آذانهم، فناموا وفقدوا في أهلهم، فجعلوا يطلبونهم، فلم يظفروا بهم، فرفع أمرهم إلى الملك، فقال:
ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية(15/218)
ولا شيء يعرف، فدعا بلوح من رصاص، فكتب فيه أسماءهم، ثم طرح في خزانته، ثم كان من شأن قصتهم ما قصه الله سبحانه وتعالى «1» .
إصرارهم على توحيد الله:
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا.. أي صبرناهم على مخالفة قومهم، وثبتناهم على عقيدتهم، وألهمناهم قوة العزيمة، حتى تركوا ما كان عليه قومهم من العيش الرغيد والسعادة، وقالوا حين مثلوا أمام ملكهم الجبار الذي يدعى (دقيانوس) والذي كان يحث الناس على عبادة الأصنام والطواغيت، ويدعوهم إليها ويأمرهم بها: ربنا هو رب السموات والأرض، لن ندعو إلها من دونه مطلقا إذ لا رب سواه، ولا معبود غيره، وأن الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض.
وقد أعلنوا في الجملة الأولى: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توحيد الألوهية، وذلك يقرّ به عبدة الأصنام، وفي الجملة الثانية: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً توحيد الربوبية، وذلك ما ينفيه عبدة الأصنام، بدليل ما حكى القرآن:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] وقوله:
ما نَعْبُدُهُمْ- أي الأصنام- إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] .
وقوله: لَنْ لنفي التأبيد، أي لا يقع منا هذا أبدا لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا، لهذا عللوا اعتقادهم بقولهم:
لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي إذا دعونا غير الله، لقد قلنا باطلا وكذبا وبهتانا. والشطط في اللغة: مجاوزة الحد، والبعد عن الحق. والمعنى: لقد قلنا إذن قولا شططا. وهذا يدل على أنهم دعوا لعبادة الأصنام، ولامهم الملك على ترك عبادتها.
__________
(1) تفسير الألوسي: 15/ 217(15/219)
تنديدهم بعبادة قومهم الأصنام:
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. أي قال أصحاب الكهف عن قومهم الذين كانوا في زمان (دقيانوس) يعبدون الأصنام: هلا يأتون بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة؟! وهلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟! وهذا يدل على أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة صحيحة عقلا ومنطقا.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه، فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.
وكان من لطف الله بهم أن ملكهم بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.
قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما
جاء في حديث البخاري وأبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن»
ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
العزلة بينهم وبين قومهم:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... واذكروا يا أهل الكهف ذلك الخطاب الذي صدر من بعضكم لبعض حينما صممتم على الفرار بدينكم فاعتزلتم(15/220)
قومكم وفارقتموهم عزلة مادية بالمفارقة بالأبدان والمقر والمقام، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينكم واعتزالكم معبوديهم غير عبادة الله وحده.
وقوله: إِلَّا اللَّهَ إما استثناء متصل أو منقطع كما ذكرنا، ويجوز أن يكون كلاما معترضا، إخبارا من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله.
وفارقوا قومكم جسديا، والجؤوا إلى الكهف (الغار الواسع في الجبل) بعد فراقهم روحيا، وأخلصوا العبادة لله في مكان خال بعيد عن أهل الشرك، فإن فعلتم ذلك يبسط الله عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، ويسهل لكم من أمركم مرفقا، أي أمرا ترتفقون به وتنتفعون.
حالهم في الكهف وانحسار الشمس عنهم:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ ... أي وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بأن تقلص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، وتراها عند الغروب تبتعد عنهم وتتركهم لا تقربهم وتعدل عنهم جهة الشمال، والحال أنهم في متسع من الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا.
وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا، بل الإخبار بكون الكهف في مكان لا تؤثر فيه الشمس أثناء طلوعها وغروبها، أي أنهم طوال نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، لولا أن الله يحجبها عنهم.
مكان الكهف:
ذكر المؤرخون أقوالا في تعيين مكان الكهف، فقيل: هو واد قريب من أيلة في العقبة جنوب فلسطين، وقيل: عند نينوى في الموصل شمال العراق(15/221)
وقيل: في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا، وكلها أقوال يعوزها الدليل.
قدرة الله تعالى وعنايته ولطفه:
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إن بقاء هؤلاء الفتية في الكهف سنين عديدة، وما صنعه الله بهم من تنحية الشمس عنهم عند الطلوع والغروب، بانعكاس أشعتها وتقليص وهجها عنهم، آية من آيات الله العجيبة الكثيرة الدالة على كمال قدرته وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن عبادة الأصنام والأوثان ضلال وشرك وزيغ، وأن صون أهل الكهف بلطف من الله وعناية منه، لذا قال:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين.
والمراد من ذلك إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن السعيد من وفقه الله تعالى للتأمل بها والاستبصار بها والاهتداء بها «1» . والخلاصة: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية.
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي ومن يضلل الله بأن لم يوفقه للاهتداء بآياته، لسوء اختياره واستعداده، وتوجيه رأيه إلى جادة الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، ولا هادي له، كأمثال الكفرة منكري البعث لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.
__________
(1) تفسير الألوسي: 15/ 223- 224(15/222)
وتفويض الهداية والإضلال إلى الله تعالى يخفف من معاناة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قومه، ويسرّي عنه حزنه وألمه على إعراضهم عن قبول دعوته.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أي وتظنهم إذا رأيتهم أيقاظا لانفتاح أعينهم وهم نيام، لئلا يسرع إليها البلى، كأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم.
وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ونقلبهم مرة في ناحية اليمين ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء.
واختلفوا في مدة التقليب، فقيل: يقلّبون في العام مرتين، وقيل: مرة في العام، ولا دليل لكل من القولين، ولا يرشد إليها العقل، ولم يشر إليها القرآن، ولم يرد فيه خبر صحيح، فيبقى النص على إطلاقه. قال ابن عباس:
لو لم يقلّبوا لأكلتهم الأرض.
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو بباب الكهف يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، كأنه يحرسهم، وقد أصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار.
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي لو نظرت عليهم لأدبرت عنهم فرارا وهربا، ولملئت منهم رعبا وفزعا لأن الله تعالى ألقى عليهم المهابة والوقار، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم، إلى أن انتهى أجل لبثهم راقدين، وتحققت فيهم الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة، وأقام الله فيهم الدليل المادي الحسي على قدرته على البعث والإعادة، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.(15/223)
بعثتهم من نومهم صحاح الأبدان بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين:
قال تعالى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ... أي كما زدناهم هدى وأنمناهم، وحفظنا أجسادهم من البلى والفناء، وأبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان، ونقلبهم، فكذلك بعثناهم، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا في الناس، وليتبصروا في أمرهم وليتساءلوا بينهم، واللام هنا لام العاقبة أو الصيرورة: فقال قائل منهم: كم لبثتم، أي كم رقدتم في نومكم؟ لإحساسهم بطول الرقاد. قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أي أجاب بعضهم قائلا: لبثنا في تقديرنا يوما كاملا أو جزءا من اليوم لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في أخر النهار، لذا استدركوا فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
قالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أجاب بعض آخر: ربكم أعلم بأمركم، وبمقدار لبثكم، وهذا استشعار منهم وتردد بكثرة نومهم، لما رأوا حالهم متغيرة، أي فالله أعلم منكم، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وهذا أدب الإيمان اليقظ في الرد على جواب البعض الأول.
الوكالة في شراء الطعام:
ثم تذاكروا فيما بينهم وقرروا البحث في المهم من أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا:
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي فأرسلوا أحدكم بدراهمكم أو فضتكم هذه التي استصحبوها معهم من منازلهم، لتغطية حوائجهم، إلى المدينة وهي «طرسوس» أي مدينتكم التي خرجتم منها، كما أكد الرازي «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 103(15/224)
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا، فليأتكم بمقدار مناسب منه.
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب وفي خروجه ودخوله المدينة، وفي شرائه، ولا يخبرن أو لا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي إن أصحاب دقيانوس الملك إن اطلعوا على مكانكم، يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يجبروكم ويكرهوكم على العودة إلى دينهم- دين الوثنية وعبادة الأصنام.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة.
اطلاع الناس عليهم:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ.. أي وكما أنمناهم ثم بعثناهم، أطلعنا الناس عليهم وعلى أحوالهم، وهم أولئك الذين كان لديهم شك في قدرة الله على إحياء الموتى، وفي البعث، وفي أمر القيامة، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك، وليدركوا ويعلموا أن وعد الله بالبعث حق وصدق وثابت، وأن حدوث الساعة أي القيامة أمر لا شك فيه، فمن شاهد حال أهل الكهف علم صحة الخبر وصدق وعد الله بالبعث لأن حالهم في نومتهم، وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث.
وسمى إعلام الناس بهم إعثارا لأن من غفل عن شيء ثم عثر به، نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سببا في العلم، والمعنى: أعثرنا عليهم حين يتنازعون بينهم.(15/225)
إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان حين كان بعضهم يتنازع مع بعض في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، ومن مؤمن بها وكافر، فجعل اطلاعهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث، وزال أمر الخلاف في أمر القيامة.
آراء القوم في شأنهم بعد اطلاعهم عليهم:
فَقالُوا: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً.. أي انقسم القوم في شأن أهل الكهف حين توفاهم الله تعالى فريقين: فريق- قيل هم الكفار منهم- قالوا: نسدّ عليهم باب كهفهم، ونتركهم على حالهم فإنهم كانوا على ديننا، فنتخذ عليهم بنيانا، أي على باب كهفهم، لئلا يدخل إليهم الناس، ضنا بتربتهم، ومحافظة عليها.
وقوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة، أي أعلم بشأنهم للرد على المتنازعين في عقيدتهم وبيان أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم.
وفريق آخر تغلبوا على الفريق الأول بالرأي وهم المسلمون وملكهم قالوا- وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم-: لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.
عددهم:
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.. أي إن الناس بعدئذ اختلفوا في عددهم، وهم من خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب والمؤمنين، إنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم وأن المصيب منهم من يقول: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
بعضهم قال: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وآخرون قالوا: هم خَمْسَةٌ(15/226)
سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
، وهم في هذا يقولون: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قولا بلا علم، وإنما هو مجرد ظن وتخمين، لا دليل عليه، ولا يقين معه، بدليل اتباع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقال جماعة آخرون: إنهم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، ولما حكى تعالى هذا القول، وسكت عليه أو قرره، دل على صحته، وأنه هو الواقع في الأمر نفسه.
قل يا محمد: ربي أعلم بعددهم، ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وأكثر أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم على ظن وتخمين. وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى إذ لا داعي إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم.
قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة.
والمهم في الأمر ليس معرفة العدد، وإنما المهم الاعتبار بالقصة، والانتفاع بما دلت عليه من إثبات قدرة الله تعالى على البعث والإعادة.
وتساءل صاحب الكشاف: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم دخلت عليها دون الجملتين الأوليين؟ ثم أجاب: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، وفائدتها تأكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، أي أن الذين قالوا:
سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قالوه عن ثبات وعلم، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.
فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى(15/227)
الله إليك فحسب، ولا تزيد، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف في الرد عليهم، كما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] وقال: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت 29/ 46] .
وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد لأن الله قد أرشدك، بأن أوحى إليك قصتهم.
وهذا يدل على عدم جواز الرجوع إلى أهل الكتاب في شيء من العلم.
إرشاد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأمته بتعليق الخبر بمشيئة الله:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً.. أي لا تقولن أيها الرسول لأجل شيء عزمت على فعله في المستقبل: إني سأفعل ذلك غدا إلا بأن تقرنه بمشيئة الله عز وجل، فتقول: إن شاء الله، كما
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفهن الليلة على سبعين امرأة- وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له- وفي رواية قال له الملك-: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته» .
وفي رواية: «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» .
وقد عرفنا سبب نزول هذه الآية في
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: «غدا أجيبكم»
فتأخر الوحي خمسة عشر يوما.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي واذكر مشيئة ربك، وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء، ثم تنبهت، فتداركها بالذكر، سواء طال الفصل أو قصر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد(15/228)
سنة ما لم تحنث. والاستثناء بالمشيئة عند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. وأوضح ابن جرير معنى قول ابن عباس: وهو أنه إذا نسي أن يقول في كلامه أو في حلفه: إن شاء الله، وتذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك، ليكون آتيا بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث. لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة.
وَقُلْ: عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي وقل يا محمد:
عسى أن يوفقني ربي لشيء آخر بدل المنسي أو أقرب خيرا ومنفعة، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك.
مدة لبثهم في الكهف:
أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مقدار لبث أهل الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، فقال:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً أي إنهم أقاموا في الكهف مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية، وهي ثلاث مائة سنة شمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاث مائة: وَازْدَادُوا تِسْعاً. وأكد ذلك الإخبار بقوله:
قُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ... أي إذا سئلت عن مدة لبثهم، وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى، فقل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، فلا تتعجل بالأخبار ما لم يكن عندك دليل عليها، والحق ما أخبرك به، لا ما يقولونه إذ له غيب السموات والأرض، وهو العالم بكل شيء، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم.(15/229)
وبما أن الله أخبر عن مدة لبثهم، فهو الحق الذي لا شك فيه. وفائدة تأخير إيراد هذه الجملة الدلالة على أنهم تنازعوا في مدة اللبث، كما تنازعوا في عددهم، وجاء هذا التذييل هنا كالتذييل المتقدم في حكاية عددهم: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.
والخلاصة: إن الخبر اليقين في بيان عدد أهل الكهف ومدة لبثهم هو من عند الله تعالى لأنه أعلم بالأشياء وبالحقائق، وأما أقوال الناس فهي ظنون لا دليل عليها، وتستند إلى الشائعات، ولله وحده علم ما غاب في شؤون السموات والأرض، وخفي من أحوال أهلها.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ هذا من صيغ التعجب والمبالغة، أي إن الله تعالى لبصير بهم، سميع لهم، وذلك في معنى المبالغة في المدح والتعجب، كأنه قيل:
ما أبصره وأسمعه، أي ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. قال قتادة في هذه الصيغة: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير.
وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً أي أن الله تعالى له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا يشاركه في قضائه أحد من الناس، وليس له شريك ولا مشير.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من بيان قصة أصحاب الكهف ما يأتي:
1- ليس حال هذه القصة هي الآية العجاب من آيات الله فقط، وإنما خلق السموات والأرض وما فيهما أشد عجبا وأعظم روعة، وأدل على قدرة الله عز وجل، فلا يعظم ذلك أيها النبي بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة.(15/230)
2- كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام. وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فارّا بدينه، وكذلك أصحابه، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس باتفاق العلماء مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين. وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة،
روى البغوي وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم» .
3- لما فر أصحاب الكهف ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء، ولجؤوا إلى الله تعالى قائلين: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي آتنا مغفرة ورزقا، وهيّئ لنا توفيقا للرشاد والسداد والصواب.
وقد اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف في مكانهم، أما الزمان الذي كانوا فيه: فقيل: إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح ثم بعثوا بعد عيسى وقبل محمد، وقيل: إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح.
وأما مكان هذا الكهف فلا يعرف على وجه اليقين، ويقال: إنه في بلاد الروم أي في جنوب تركيا اليوم في طرسوس، وهو الظاهر.
4- كان من تدبير الله تعالى لأهل الكهف للمكث فيه راقدين (309) سنوات(15/231)
إلقاء النوم عليهم ومنعهم من السماع لأن النائم إذا سمع انتبه، ثم بعثتهم من بعد نومهم، ثم اطلاع الناس على شأنهم.
وكان إيقاظهم من أجل اختبار الناس لمعرفة مقدار مدة لبثهم، وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى معناه: لنعلم ذلك موجودا، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الفريقين أحصى الأمد. والفريقان أو الحزبان: الفتية الذين ظنوا لبثهم قليلا، وأهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية.
5- إن صفات هؤلاء الفتية أو الجماعة من الشبان: أنهم آمنوا بالله، وألهم الله قلوبهم الصبر والثبات، وزاد الله في إيمانهم بالتيسير للعمل الصالح من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا.
وكان من أثر شدة عزيمتهم وقوة صبرهم التي أعطاها الله لهم أنهم أعلنوا أمام الكفار: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.
وكانوا يتذاكرون شأن إيمانهم، فقال بعضهم: هؤلاء أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة، فهلا يأتون بحجة على عبادتهم الصنم؟! 6- لقد قال الله لهم أو قالوا لبعضهم: إذ اعتزلتم قومكم، فأووا إلى الكهف تغمركم رحمة الله، ويهيء الله لكم ما ترتفقون وتنتفعون به من شؤون الحياة.
7- كان من رحمة الله بهم ولطفه بهم بعد الرقاد أن الشمس تتنحى عنهم وتميل جهة اليمين وجهة الشمال، أي عن يمين الكهف وعن شماله، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار، وكان الرائي يحسبهم أيقاظا لأن أعينهم كانت مفتوحة وهم نائمون، وأن كلبهم باسط ذراعيه في باب الكهف لحراستهم، وهو(15/232)
نائم مثلهم. ومن لطفه تعالى بهم أيضا تقليبهم ناحية اليمين وناحية الشمال لئلا تأكل الأرض لحومهم، وكان التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فينسب إلى الله تعالى.
8- يجوز اتخاذ الكلاب للحاجة والصيد والحراسة،
ورد في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان» .
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند الإمام مالك: هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السرّاق. وكلب الزرع: هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار، لا من السرّاق. وقد أجاز غير مالك اتخاذ الكلاب لسرّاق الماشية والزرع.
9- ينتفع الإنسان بصحبة الأخيار ومخالطة الصلحاء والأولياء، بدليل جعل كلب أهل الكهف مثلهم، إنه كلب أحب قوما، فذكره الله معهم.
روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدّة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أعددت لها؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «فأنت مع من أحببت» .
وأكثر المفسرين: على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه، أو غنمه، واسم «قطمير» كلب أنمر، والصحيح أنه زبيري.
10- ألقى الله عليهم الهيبة أو المهابة والوقار، فلو شاهدهم إنسان أشرف على الهرب منهم، وامتلأ قلبه خوفا ورعبا منهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم(15/233)
آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمّ.
11- بعد الرقاد والتقليب أيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم، وليصيروا إلى التساؤل فيما بينهم عن مدة نومهم، فقال بعضهم:
لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.
12- دل قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً.. الآية على مشروعية الوكالة، وعلى حسن السياسة والتلطف في دخول المدينة وخروجها وشراء الطعام من أهلها، حتى لا يعلم أهل المدينة بهم، فيقتلوهم بالحجارة، وهو أخبث القتل.
والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام،
وقد وكل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض الصحابة في تزويجه من بعض النسوة، ووكل عروة البارقي في شراء أضحية، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهما.
والوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه، وقيام المصلحة في ذلك إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفّه، فيستنيب من يريحه. ودل القرآن في غير هذه الآية على جواز الوكالة، مثل قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة 9/ 60] وقوله: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا [يوسف 12/ 93] .
والوكالة جائزة عند الجمهور لمن له عدر ومن لا عذر له، وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز لمن لا عذر له. ودليل الجمهور حديث البخاري عن أبي هريرة المتضمن توكيل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إعطاء بعض أنواع الإبل وفاء لدينه، وقال: «ان خيركم أحسنكم قضاء» .(15/234)
13- تضمنت هذه الآية: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ.. أيضا جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم، كما تضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة 2/ 220] .
14- أطلع الله تعالى الناس على أهل الكهف للعبرة والعظة والاسترشاد وإقامة الحجة على قدرة الله على الحشر وبعث الأجساد من القبور، والحساب.
15- إن اتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها، غير جائز في شرعنا، لما
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج» .
ويجوز الدفن في التابوت، لا سيما إذا كانت الأرض رخوة، وقد دفن دانيال ويوسف عليهما السلام في تابوت، وكان تابوت دانيال من حجر، وتابوت يوسف من زجاج. لكن يكره في شرعنا.
16- قوله تعالى: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تنبيه على أن هذا العدد هو الحق لسكوت النص على التعقيب عليه، خلافا لما قال تعالى في الجملتين المتقدمتين: رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقوله سبحانه قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أمر دال على أن يردّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علم عدّتهم إلى الله عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل.
وقوله فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم، فلهذا قال: إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي ذاهبا، ودليل على أنه لم يبح له في هذه الآية المراء والجدال إلا بالتي هي أحسن، كما جاء في آية أخرى.(15/235)
وفي قوله سبحانه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
17- السّنة والأدب الشرعيان يقتضيان تعليق الأمور المستقبلية بمشيئة الله تعالى للآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، بأن يقول:
إن شاء الله.
ويؤمر الإنسان بالذكر بعد النسيان، أي بذكر مشيئة الله عند التذكر ولو بعد حين، سنة أو أقل، أو أكثر.
18- أخبر تعالى في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... عن مدة لبث أهل الكهف، وهي ثلاث مائة وتسع سنوات، كانوا في هذه المدة نياما، لا أمواتا. وأمر الله تعالى برد العلم بمدتهم إلى الله عز وجل، كما أمر بذلك في معرفة عددهم لأن الله تعالى أعلم بكل شيء، وأعلم بغيب السموات والأرض وما فيها من أحوال المخلوقات، ولا شريك له ولا مشير، ولا نصير ولا معين ولا وزير.
والظاهر أن أهل الكهف ماتوا موتا حقيقيا، وإن كان لا مانع شرعا من بقاء أجسادهم محفوظة، لم يطرأ عليها البلى والفناء لأن أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء الصالحين لا تفنى ولا تبلى.
19- العبرة من القصة: دلت هذه القصة على أن الله قادر على البعث والقيامة لأن إثبات البعث والقيامة يدور على أصول ثلاثة: أحدها- أنه تعالى قادر على كل الممكنات، والثاني- أنه تعالى عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، والثالث- أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.(15/236)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
وهذه القصة تدل على أن الله تعالى عالم قادر على كل شيء، فثبت القول بإمكان البعث والقيامة.
توجيهات للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين تلاوة القرآن والصبر على مجالسة الفقراء وإظهار كون الحق من عند الله
[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)(15/237)
الإعراب:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ: الْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف، ومِنْ رَبِّكُمْ حال. يَشْوِي الْوُجُوهَ صفة ثانية لماء أو خال من المهل.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ وصلته: اسم إِنَّ، وخبرها إما أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وإما إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي لا نضيع أجرهم، فأقيم المظهر مقام المضمر، وإما أن خبرها مقدر، أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يجازيهم الله بأعمالهم، بدليل إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
البلاغة:
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وفَلْيُؤْمِنْ فَلْيَكْفُرْ بينهما طباق.
بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ونِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً مقابلة بين النار والجنة.
بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ تشبيه مرسل مفصل لذكر أداة الشبه ووجه التشبيه.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ من القرآن، ولا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس 10/ 15] . لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا مغير لأحكامه، فلا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. مُلْتَحَداً ملجأ تعدل إليه إذا هممت به. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ احبسها وثبّتها مع الفقراء. بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي في طرفي النهار، وخصا بالبيان لغفلة الناس واشتغالهم بدنياهم حينئذ. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يريدون بعبادتهم رضا الله وطاعته، لا شيئا من أعراض الدنيا. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، والمراد لا تهمل شأنهم وتهتم بالأغنياء، وعبر بقوله تعالى عَيْناكَ عن صاحبهما. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تقصد مجالسة الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروة. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ جعلناه غافلا وهو حينئذ عيينة بن حصن وأصحابه مثل أمية بن خلف. عَنْ ذِكْرِنا أي القرآن. وَاتَّبَعَ هَواهُ في الشرك. فُرُطاً أي تجاوزا حد الاعتدال، وتقدما على الحق، ونبذا له. وكانوا قد دعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى طرد الفقراء عن مجلسه لصناديد قريش. وفيه تنبيه إلى أن الداعي لهذا الاستدعاء غفلة القلب عن المعقولات، والانهماك في المحسوسات حتى خفي عليهم أن الشرف بحلية النفس، لا بزينة الجسد.(15/238)
وَقُلِ خطاب للنبي ولأصحابه. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الحق ومنه القرآن: ما يكون من جهة الله تعالى، لا ما يقتضيه الهوى. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ تهديد لهم ووعيد، قال البيضاوي: وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله، فإنه وإن كان بمشيئته، فمشيئته ليست إلا بمشيئة الله تعالى. أَعْتَدْنا أعددنا وهيأنا. لِلظَّالِمِينَ الكافرين. سُرادِقُها هو الفسطاط، وهو لفظ فارسي معرب، شبّه به ما يحيط بهم من لهب النار. كَالْمُهْلِ كعكر الزيت، أو كالشيء المذاب من المعادن كالنحاس والرصاص. يَشْوِي الْوُجُوهَ من حره إذا قدّم أو قرّب منها للشرب. بِئْسَ الشَّرابُ المهل هو. وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي وساءت النار متكأ، وهو لمقابلة قوله تعالى الآتي وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار. ومُرْتَفَقاً: تمييز منقول عن الفاعل، أي قبح مرتفقها.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا خبر إِنَّ الَّذِينَ وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، أي لا نضيع أجرهم، أي نثيبهم بما تضمنه. ويجوز أن يكون الخبر أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وما بينهما اعتراض. وهذا على الوجه الأول استئناف لبيان الأجر، أو خبر ثان. جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة واستقرار. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الأولى للابتداء، والثانية للبيان، صفة لأساور، وهي جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار، أي فهي جمع الجمع. وتنكير لفظها لتعظيم حسنها عن الإحاطة به.
سُنْدُسٍ مارقّ من الديباج، وهو فارسي معرب. وَإِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه، وهو رومي معرّب. جاء في آية من سورة الرحمن بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [54] وجمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. الْأَرائِكِ السرر، جمع أريكة وهي السرير الذي عليه الحجلة (الناموسية في عرفنا) . نِعْمَ الثَّوابُ الجنة ونعيمها.
سبب النزول:
نزول الآية (28) :
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ: عن سلمان الفارسي قال: جاءت المؤلفة القلوب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا:
يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس، ونحّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون. سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك، وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله(15/239)
تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حتى بلغ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً يتهددهم بالنار،
فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى قال: «الحمد لله الذي لم يمتني، حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات» «1» .
وفي رواية أخرى: أن عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يسلم، وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سلمان الفارسي، وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقّه، ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء، ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتّبعك، أو اجعل لهم مجلسا، ولنا مجلسا، فنزلت الآية.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورجل يقرأ سورة الحجر، أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم» .
نزول آية وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ..:
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ.. قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 171.(15/240)
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف التي يجهلها كثير من الناس لكونها من المغيبات، مما يدل على أن القرآن وحي من عند الله تعالى، أمر تعالى رسوله والمؤمنين ببعض الأوامر: وهي المواظبة على تلاوة القرآن، وملازمة مجالس أصحابه الفقراء الذين يتدارسون القرآن، وإظهار أن القرآن وكلّ حق هو من عند الله تعالى.
ثم ذكر تعالى جزاء الكافرين وعقابهم الأليم، وثواب المتقين ونعيمهم الدائم، جزاء كلّ بما يستحق.
التفسير والبيان:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ.. يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس، قائلا له: واتل الكتاب الموحى به إليك، واتبع ما جاء فيه من أمر ونهي، فإنه لا مغيّر لكلمات ربك من وعد الطائعين ووعيد للعصاة، ولا محرف ولا مزيل لها، فإن لم تعمل به، فوقعت في الوعيد، فلن تجد ملجأ ولا وليّا ناصرا من دون الله تعالى.
هذا هو التوجيه الأول: تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه، والتوجيه الثاني هو مجالسة الفقراء والمستضعفين فقال تعالى:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. أي جالس الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) والعشي (مساء) أي في كل وقت، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، يريدون وجهه (أي طاعته) ورضاه.
يقال كما بينا: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن(15/241)
يجلس معهم وحده، من غير وجود أصحابه الفقراء أو الضعفاء، كبلال، وعمار، وصهيب، وخبّاب، وابن مسعود، وليفردوهم في مجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يصبر ويثبّت نفسه في الجلوس مع هؤلاء، ونظير الآية قوله:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام 6/ 52] . وهذا شبيه بقول قوم نوح عليه السلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ، وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء 26/ 111] .
وأكد تعالى الأمر السابق بقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ.. أي ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ، والمقصود النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم،
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما نزلت هذه الآية: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه» .
ثم أكد تعالى هذا النهي بقوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا..
أي وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا، وشغل عن الدين وعبادة ربّه بالدنيا، وكان مسرفا مفرطا في أعماله وأفعاله غاية الإسراف والتفريط، متبعا شهواته.
وهو دليل على أن سبب البعد عنهم؟؟؟؟ لهم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها.
والتوجيه الثالث: إعلان مجيء الحق واضحا ظاهرا من الله تعالى، بحيث لم يبق إلا التهديد والوعيد الشديد على كفرهم فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. أي قل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو النظام الأصلح للحياة، فمن شاء آمن به، ومن شاء كفر به، فأنا في غنى عنكم، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم يحاسبكم ربكم على أعمالكم. وفي هذا تهديد ووعيد شديد.
ثم ذكر الله تعالى نوع الوعيد على الكفر، والوعد على العمل الصالح، فقال(15/242)
واصفا الأول: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي إنا أرصدنا وهيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم، الذي أحدق وأحاط بهم سورها من كل جانب، حتى لا يجدوا مخلصا منها.
أخرج أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «لسرادق النار أربعة جدر، كثف «1» كل جدار مسافة أربعين سنة»
والسّرادق: واحد السرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار، أو السور.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إن يطلب هؤلاء الكافرون الظالمون الإغاثة والمدد والماء وهم في النار، لإطفاء عطشهم، بسبب حرّ جهنم، يغاثوا بماء غليظ كدردي (عكر) الزيت، أو كالدم والقيح، يشوي جلود الوجوه من شدة حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه، حتى تسقط جلدة وجهه فيه، كما
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المهل كعكر الزيت، فإذا قرّبه إلى وجهه، سقطت فروة وجهه فيه» .
بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي بئس هذا الشراب شرابهم، فما أقبحه، فهو لا يزيل عطشا، ولا يسكّن حرارة، بل يزيد فيها، وساءت جهنم مرتفقا، أي وساءت النار منزلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق والانتفاع، كما قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 66] .
ثم وصف الله تعالى وعده للمؤمنين الصالحين السعداء فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل.
__________
(1) الكثف: جمع كثيف، وهو الثخين الغليظ.(15/243)
والعطف بين الإيمان والعمل يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة.
وأوصاف نعيمهم هي:
1- أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي أولئك لهم جنان إقامة دائمة، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم.
2- يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي يلبسون فيها حلية فيها أساور من ذهب،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» .
وفي آية أخرى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الحج 22/ 23] .
3- وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أي ويلبسون سندسا هو رقيق الحرير، وإستبرقا هو غليظ الديباج أو الحرير، واختير الأخضر لراحة العين عند إبصاره.
4- مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي مضطجعين فيها على السرر، شأنهم شأن الملوك والعظماء، والأرائك: جمع أريكة وهي السرير.
نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما، كما قال في آية أخرى: خالِدِينَ فِيها، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 76] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات الإرشادات التالية:
1- وجوب اتباع القرآن وما جاء به: لأنه لا مغيّر لما أوعد بكلماته أهل(15/244)
معاصيه والمخالفين لكتابه، ووعد أهل طاعته المتبعين ما أمر به، المبتعدين عما نهى عنه.
2- الإسلام دين المساواة: فلا فرق في نظامه بين شريف ووضيع، وغني وفقير، ورئيس ومرءوس، ولا تفرقة في أموره الاجتماعية بين الطبقات، الكل سواء في المجلس والمعاملة والحقوق والواجبات. وقد قضى القرآن بآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. على الامتيازات في المجلس والخطاب والكلام بين أشراف قريش وساداتها وبين فقراء المسلمين وضعفائهم.
بل إن الإسلام مع الضعيف التقي الذي يبتغي بعمله رضوان الله وطاعته، وينفر من الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويتبعون أهواءهم، ويبلغون في إسرافهم في المعاصي حد الإفراط ومجاوزة الحد.
لهذا فلا داعي لتزيين مجلس النبي والمؤمنين من بعده بمجالسة الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسه، ولم يرد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله. وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس وكان هذا من التكبر والإفراط في القول.
3- الحق من الله ربّ الناس، فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إلى أحد ولو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء، وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء، وإن كان قويا غنيا، وليس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطرد المؤمنين من مجلسه لهوى السادة الزعماء من قريش.
فإن شئتم أيها السادة فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد، أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.(15/245)
والدليل على كون ذلك تهديدا قوله تعالى بعدئذ مباشرة: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي إنا أعددنا للكافرين الجاحدين نارا شديد اللهب، أحاط بهم سرادقها، أي سورها، أو ما يعلو الكفار من دخان أو نار.
وشراب أهل النار: هو المهل، وهو ماء غليظ مثل درديّ الزيت (وهو ما يبقى في أسفل الوعاء) ، أو النحاس المذاب، أو كالقيح والدم، كما في قوله تعالى: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم 14/ 16- 17] ، وقوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد 47/ 15] .
وما أسوأ وأقبح العذاب في نار جهنم، لذا قال تعالى: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي مجتمعا ومنزلا ومقرا.
4- بعد أن ذكر تعالى ما أعد للكافرين من الهوان، ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن من المؤمنين عملا، مما يدل على أن أساس النجاة: الإيمان مع العمل الصالح. أما من أحسن عملا من غير المؤمنين، فعمله محبط.
وثواب المؤمنين: جنات عدن أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها، باللؤلؤ وأساور الذهب، ويلبسون الثياب الخضر من الرقيق الرقيق والغليظ الكثيف، ويتكئون على الأرائك وهي السرر في الحجال «1» .
فما أجمل وأحسن ذلك الثواب، لذا قال تعالى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا للمؤمنين الصالحين، وحسنت مقرا ومقاما ومجلسا ومجتمعا.
__________
(1) الحجال: جمع الحجلة كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس.(15/246)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
صاحب الجنتين مثل الغني المغتر بماله والفقير المعتز بعقيدته
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(15/247)
الإعراب:
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي لكِنَّا: أصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة، وأدغمت النونان ببعضهما أو نقلت حركة الهمزة إلى النون. ومن قرأ لكن بحذف الألف فعلى الأصل في حالة الوصل. ولكن هنا هي الخفيفة التي لا يراد بها الاستدراك. وأنا: مبتدأ، وهو: مبتدأ ثان، والله: خبر المبتدأ الثاني، وربي: صفته، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: خبر المبتدأ الأول.
والعائد إليه: الياء المجرور بالإضافة في رَبِّي.
ما شاءَ اللَّهُ ما: إما اسم موصول، وشاءَ اللَّهُ: صلته، وهو في موضع مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، أي الذي شاءه الله كائن، فحذف الهاء التي هي العائد تخفيفا، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله، وحذف العائد تخفيفا وإما أن تكون شرطية في موضع نصب بشاء، وجوابها محذوف، أي ما شاء الله كان.
إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ إِنْ: شرطية، وجوابها: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ وأَنَا: ضمير فصل، لا موضع له من الإعراب لأنه وقع بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة، فالمعرفة ياء تَرَنِ والنكرة التي تقارب المعرفة: أَقَلَّ مِنْكَ قرب من المعرفة لتعلق مِنْكَ به، وهو مفعول ثان، وياء تَرَنِ: مفعول أول.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً: إما بمعنى غائر، أو فيه مضاف محذوف، أي ذا غور، مثل وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي مثل رجلين. وغَوْراً: خبر أصبح المنصوب.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ثمره: اسم جنس كخشبة وخشب، وشجرة وشجر. وقرئ بثمره بضمتين، وهو إما جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فيكون جمع الجمع، كإزار وأزر، وإما أن يكون كخشبة وخشب. وقرئ بضمة واحدة ثمره مخففا من ثمر، مثل: خشب وخشب.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ قرئ تكن بالتاء لأن الفئة مؤنثة، وقرئ بالياء لوجود الفصل.
هُنالِكَ الْوَلايَةُ هُنالِكَ: يجوز أن يكون ظرف زمان وظرف مكان، والأصل فيه أن يكون للمكان، واللام للبعد، ويتعلق بقوله: مُنْتَصِراً وتكون الْوَلايَةُ لِلَّهِ مبتدأ وخبر. والْحَقِّ: بالرفع صفة للولاية، وجعله خبرا أولى من جعله صفة، لما فيه من الفصل بين الصفة والموصوف. وعلى قراءة الجر: صفة لله، فلا فصل فيه. ويجوز أن يتعلق بخبر المبتدأ الذي هو لِلَّهِ. ويجوز جعل هُنالِكَ خبر المبتدأ الذي هو الْوَلايَةُ وعامله: استقر، الذي قام هُنالِكَ مقامه، ولِلَّهِ: حال.
خَيْرٌ ثَواباً خَيْرٌ عُقْباً: نصبهما على التمييز.(15/248)
البلاغة:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً: مبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل، أي غائرا.
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها كناية عن التحسر والندم لأن النادم يضرب بيمينه على شماله.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا اجعل للكفار مع المؤمنين مثلا. رَجُلَيْنِ بدل، وهو وما بعده تفسير للمثل. جَعَلْنا لِأَحَدِهِما للكافر. جَنَّتَيْنِ بستانين، وسميت الجنة بذلك لا جنتان أرضها واستتارها بظل الشجر. أَعْنابٍ كروم العنب. حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ جعلنا النخل محيطة بهما. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ مبتدأ وخبر، وكِلْتَا: مفرد يدل على التثنية.
أُكُلَها ثمرها. وَلَمْ تَظْلِمْ تنقص. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما شققنا وسطهما. نَهَراً أو بتسكين العين: مجرى الماء العذب. وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله.
فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن. يُحاوِرُهُ يجادله ويراجعه في الكلام، من حاور: إذا راجع.
وَأَعَزُّ نَفَراً النفر هنا: الخدم والحشم والولد والأعوان.
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي دخل مع صاحبه بستانه يطوف به فيه، ويريه أثماره ويفاخره.
وأفرد الجنة ولم يقل جنتيه، للتنبيه على أنه ما له جنة غيرها، فلا نصيب له في جنة الخلد في الآخرة التي وعد بها المؤمنون، فما ملكه في الدنيا: هو جنته لا غير، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون عادة في واحدة ثم الأخرى. وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ معجب بما أوتي، مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. تَبِيدَ تنعدم أو تفنى وتهلك.
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث في الآخرة كما زعمت. خَيْراً مِنْها من جنته.
مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية. وإنما أقسم هذا الخاسر على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه هذه النعم، لاستحقاقه إياها لذاته. وَهُوَ يُحاوِرُهُ يجاوبه، خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلك من تراب، وهو آدم عليه السلام. نُطْفَةٍ مني. سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وصيّرك إنسانا كامل الرجولة. وجعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى، ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن من قدر على بدء خلقه منه، قدر على أن يعيده منه.(15/249)
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي هُوَ: ضمير الشأن، تفسره الجملة بعده، والمعنى: أنا أقول: الله ربي. وَلَوْلا هلا. قُلْتَ عند إعجابك بها، أو عند دخولك. ما شاءَ اللَّهُ.. الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله كائن، على أن ما موصولة، أو أي شيء شاء الله كان، على أنها شرطيه، يعني إقرارا بأن الجنة وما فيها بمشيئة الله، إن شاء أبقاها، وإن شاء أبادها. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فهلا قلت: لا قوة إلا بالله، اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله، وإن ما تيسر من عمارتها، فبمعونته وإقداره.
جاء في الحديث الذي رواه ابن السني عن أنس، وهو ضعيف. «من رأى شيئا فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم تضره العين» .
وفي رواية أخرى: «من أعطي خيرا من أهل أو مال، فيقول عند ذلك: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم ير فيه مكروها» .
إِنْ تَرَنِ أَنَا ضمير فصل بين المفعولين أو تأكيد للمفعول الأول. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي في الدنيا أو في الآخرة لإيماني، وهو جواب الشرط. وَيُرْسِلَ عَلَيْها على جنتك لكفرك. حُسْباناً مِنَ السَّماءِ جمع حسبانة، وهي الصواعق. فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أرضا ملساء لا يثبت عليها قدم. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا، ويصبح: عطف على يُرْسِلَ لا على: فَتُصْبِحَ لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق. طَلَباً للماء، أي عملا أو حيلة لرده.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلكت أمواله، بما فيها جنته، حسبما توقع صاحبه وأنذره منه.
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ هذا كناية في اللغة عن التحسر والندم. عَلى ما أَنْفَقَ فِيها في عمارة جنته. وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها دعائمها التي كانت منصوبة للكرم، بأن سقطت عروشها على الأرض، ثم سقطت الكروم. يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً يا:
للتنبيه، وكأنه تذكر موعظة أخيه.
فِئَةٌ جماعة. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عند هلاكها، بدفع الإهلاك فإن الله هو القادر على نصره وحده. وَما كانَ مُنْتَصِراً بنفسه عند هلاكها، ممتنعا بقوته عن انتقام الله منه. هُنالِكَ في ذلك المقام أو تلك الحال أو يوم القيامة. الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ بفتح الواو:
النصرة له وحده لا يقدر عليها غيره، وبكسر الواو: الملك والسلطان. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً من ثواب غيره لو كان يثيب. وَخَيْرٌ عُقْباً عاقبة للمؤمنين.
سبب النزول:
قيل: نزلت في أخوين من بني مخزوم: الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل، وكان كافرا، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود، كان مؤمنا، وهو زوج أم سلمة قبل زواج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بها.(15/250)
وقيل في قول ابن عباس: أخوان من بني إسرائيل، أحدهما كافر، اسمه فرطوس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو قطفير، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا، وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى ولم تثبت صحة هذه الأقوال.
وعن مقاتل: هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [51] . وهما من بني إسرائيل، كما ذكر ابن عباس.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى نبيه بملازمة مجالس أصحابه الفقراء، وعدم الاستجابة لمطالب المشركين المتجبرين بطرد الضعفاء المؤمنين، حتى لا يتساووا معهم، ولا يؤذوا بمناظرهم وروائحهم، فيمتهن كبرياؤهم وتتدنى عزتهم، أردف ذلك بمثل للغني الكافر، والفقير المؤمن لأن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، فأبان تعالى أن المال ليس سبيل الافتخار، لاحتمال أن يصير الفقير غنيا، والغني فقيرا، وإنما المفاخرة تكون بطاعة الله وعبادته، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين.
التفسير والبيان:
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين وأمثالهم المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا بأموالهم وأحسابهم.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... المعنى: اضرب مثلا أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين الدعاة المخلصين لله صباح مساء وفي كل وقت. ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع(15/251)
مثمر مقبل في غاية الجودة، فجمع بين القوت والفاكهة. فقوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين.
والرجلان أخوان أو صديقان أو شريكان من بني إسرائيل، أحدهما: كافر مغتر بدنياه، والثاني: مؤمن موحد بالله.
والقصد من هذا المثل العظة والعبرة، فقد آل حال الكافر المغرور إلى الدمار والإفلاس، لكفران النعم وعصيان الله، وظل المؤمن الفقير على طاعة الله، بالرغم من معاناته الشدائد والمتاعب، فآتاه الله الخلود في الجنة.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي أخرجت الجنتان ثمرهما.
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ولم تنقص منه شيئا في كل عام.
وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أي وشققنا وأجرينا وسط الجنتين نهرا، تتفرع عنه عدة جداول، لسقي جميع الجوانب.
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أي وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من المال من النقدين (الذهب والفضة) بسبب التجارة وتنمية ثمار الأرض.
وأدى به هذا الغنى إلى الزهو والكبرياء والاغترار بالمال، شأن كل غني مغرور. فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي فقال صاحب هاتين الجنتين لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
وازداد به الغرور ظنه استمرار تلك الثروة وعدم فنائها لقلة عقله وضعف يقينه بالله، وهذا ما حكاه القرآن عنه:
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... أي ودخل هذا الثري المترف بستانه ذا(15/252)
الجناحين مع صاحبه المؤمن الفقير الصالح، فقال اغترارا منه، وهو ظالم لنفسه بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد حين عاين الثمار والزروع والأنهار المتدفقة في مزرعته: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا، وما أظن أن يوم القيامة آت، كما تقول يا صاحبي، فقوله: السَّاعَةَ قائِمَةً، أي القيامة كائنة. وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه بوضعه الشيء في غير محله إذ كان يجب عليه شكر تلك النعمة، وتفكره في عالم الآخرة، وذلك لطول أمله، وشدة حرصه، وتمام غفلته، وشدة اغتراره بالدنيا.
ثم أقسم على فرض لقاء ربه بقوله:
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أي إن رجعت إلى ربي، على سبيل الفرض والتقدير، وكما يزعم صاحبي، لألفين في الآخرة عند ربي خيرا وأحسن من هذا الحظ في الدنيا، تمنيا على الله، وادعاء لكرامتي عنده ومكانتي لديه، وأنه لولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، ولولا استحقاقي واستئهالي ما أغناني في الدنيا، كما جاء في آية أخرى على لسان الكافر: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت 41/ 50] .
فأجابه المؤمن بقوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي أجابه صاحبه المؤمن واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار: أكفرت بمن خلقك من تراب؟ أي خلق أصلك من تراب، وخلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له، وكذلك غذاؤك وغذاء الحيوان من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دما، يتحول بعضه إلى نطفة تكون وسيلة للخلق، ثم خلقك بشرا سويا تام الخلق والأعضاء، فقوله: سَوَّاكَ معناه عدّلك وكمّلك إنسانا تاما، بالغا مبلغ الرجال.(15/253)
وقد وصفه صاحبه بأنه كافر بالله، جاحد لأنعمه لشكه في البعث.
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أقرّ لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال له مذكرا بوجوب الإيمان بالله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أي الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك دليلا على عبوديتك والاعتراف بالعجز.
ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده، فليقل: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عملا بهذه الآية، وبما روي من
الحديث المرفوع الذي أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول:
ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فيرى فيه آفة دون الموت» .
وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» .
ثم أجابه عن قضية الافتخار بالمال والولد:
إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ.. أي إنك إذ تنظر إلي بأني أفقر منك في المال، وأقل منك أولادا وعشيرة في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى عذابا من السماء، كمطر شديد يقلع زرعها وأشجارها(15/254)
أو صواعق، فيسلبك نعمته ويخرّب بستانك، وتصبح أرضا بيضاء لا نبات فيها، وترابا أملس، لا يثبت فيه قدم، وينزلق عليها لملاستها انزلاقا. وقوله:
فَعَسى رَبِّي أي فلعل ربي.
أو يصبح ماؤها غائرا في الأرض، فلن تتمكن من إدراكه بعد غوره، ولن تستطيع ردّ الماء الغائر بأية حيلة.
وتحقق ما توقعه المؤمن فقال:
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها ... أي ونزل الإهلاك والجائحة بالأموال والثمار بإرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها، وألهته عن الله عز وجل، ودمرت أمواله وثماره، فأصبح نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، فتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر، وتمنى متذكرا موعظة صاحبه أن لم يكن أشرك بربه أحدا، والخاوية على عروشها: هي التي سقطت عرائشها على الأرض، قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها، وسقط بعضها على بعض.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ولم تنصره وتفيده عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واعتز، وما كان منتصرا أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى.
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هذا تأكيد للجملة السابقة، أي أنه في هذه الحال من الشدة والمحنة تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويرجع كل أحد مؤمن أو كافر إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب. والولاية: السلطان والملك والنصرة والحكم.
هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي أن الله خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، ويكون ثواب الأعمال التي(15/255)
تكون لله خيرا، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير لأن الله هو خير ثوابا لمن آمن به، وخير عاقبة لمن رجاه وآمن به.
ونظير الآية: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر 40/ 84] .
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذه القصة عبر وعظات وهي:
1- هذا مثل واضح للمؤمنين والكافرين، مثل رجل مؤمن موحد بالله، فقير صالح آثر الآخرة على الدنيا، فآتاه الله الجنة وثوابه العظيم، ومثل رجل كافر مغتر بدنياه مستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهما- كما ذكر الكلبي- أخوان مخزوميان من أهل مكة، أو أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، كما ذكر ابن عباس ومقاتل، كان للكافر بستانان فيهما الأشجار والزروع والثمار والأنهار، وأموال أخرى، فكفر بأنعم الله، وتفاخر على صاحبه بالمال والأولاد، وشك في البعث، فدمّر الله ثروته، وأتلف البستانين بحسبان من السماء، وهو السحابة ذات المطر الغزير جدا، أو الصاعقة، أو العذاب، فندم وتحسر على ما أنفق، وقال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً أي يا ليتني عرفت نعم الله علي، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به، وهذا ندم منه حيث لا ينفعه الندم.
2- لا يمنع فضل الله عن الكافر، فقد آتى الله صاحب الجنتين ثروة ومالا وولدا وأتباعا.
3- شأن الغني دائما إلا من رحم الله المفاخرة بأمواله والاغترار بالدنيا، والترفع على الآخرين بالثروة، مع أنها مال زائل، وعرض متحول، فيمكن أن ينقلب صفر اليدين بين عشية وضحاها.(15/256)
4- على المؤمن ألا يستكين أمام عزة الغني الكافر، وعليه نصحه وإرشاده إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وشكر نعمه وأفضاله عليه.
5- قد يكون الاغترار بالمال سببا لإنكار البعث والقيامة والحشر والنشر لأن الغني الظالم يرى في المادة كل شيء، وقد يستبد به الغرور لغفلة منه وضعف عقل، فيزعم أن عطاء الدنيا له لاستحقاقه واستئهاله، ويقول: إن كان بعث، فكما أعطاني الله هذه النعم في الدنيا، فسيعطيني أفضل منه في الآخرة، لكرامتي عليه.
6- قال الإمام مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وهذه الكلمة كما
روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كنز من كنوز الجنة، وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا قالها العبد، قال الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم» .
وقد وردت هذه الكلمة في القصة في وصية المؤمن للكافر وردّه عليه، حينما ظن عدم فناء جنته، وتفاخر بثروته على صاحبه.
7- إذا نزل البلاء فلا تستطيع فئة في الدنيا منعه أو رفعه، أو الالتجاء إليها لإزالته، ولن يكون المبتلى الخاسر منتصرا أي ممتنعا عن إصابة العذاب له، فلا ينصر ولا ينتصر، لمّا أصابه العذاب.
8- إن الولاية، أي السلطان والقدرة، والملك والحكم الحق لله عز وجل، فلا يردّ أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] .(15/257)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
مثل الحياة الدنيا
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
الإعراب:
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ مَثَلَ: مفعول أول، وكَماءٍ: مفعول ثان، وقيل:
كَماءٍ: خبر مبتدأ محذوف، أي هي كماء، أي الحياة الدنيا كماء.
ثَواباً وأَمَلًا منصوبان على التمييز.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا اذكر لهم ما تشبهه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها وصفتها الغريبة. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ امتزج الماء بسبب نزول المطر بالنبات، حتى روي وحسن. فَأَصْبَحَ هَشِيماً فصار النبات يابسا مهشوما متفرقة أجزاؤه. تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرّقه وتنثره وتطيره وتذهب به. المعنى: شبّه الدنيا بنبات حسن، فيبس فتكسر، ففرقته الرياح.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي كان الله على كل شيء من الإنشاء والإفناء قادرا: كامل القدرة.
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتجمل بهما فيها. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، زاد بعضهم «ولا حول ولا قوة إلا بالله» أو هي الأعمال الصالحة كلها، ومنها الصلوات الخمس وأعمال الحج، وصيام رمضان، وسبحان الله.. إلخ، والكلام الطيب.
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي جزاء وعائدا. وَخَيْرٌ أَمَلًا أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.(15/258)
المناسبة:
هذا مثل آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها، والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين، فلما بيّن الله تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخار الكافر من الهلاك، بيّن في هذا المثل حال الحياة الدنيا واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك.
ولما بيّن تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والزوال، بيّن أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا في عرف الناس، وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض، فيقبح بالعاقل الافتخار به أو الفرح بسببه، مما يدل على فساد قول المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.
ثم ذكر الله تعالى ما يرجح أولئك المؤمنين الفقراء على أولئك الأغنياء الكفار بما يقدمونه من أعمال صالحة، فهي زاد الآخرة الدائم الباقي، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي.
وقد ورد في السنة ما يفسر الباقيات الصالحات، روى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» .
وروى سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
وروى الطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:(15/259)
«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول وإلا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة» .
وروى النسائي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: «خذوا جنتكم، قيل: يا رسول الله، من أي عدو قد حضر، قال: بل جنّتكم من النار: قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنّبات، وهن الباقيات الصالحات» .
التفسير والبيان:
اضرب مثلا آخر يا محمد للناس من مشركي مكة وغيرهم الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، مثلا يبين حقارة الدنيا وقلة بقائها، وزوالها وفناءها، فهي بعد الخضرة والنضارة والبهجة تصبح بمراد الله عابسة قاتمة لا جمال فيها ولا روعة، إنها في نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال تشبه حال نبات أخضر فيه زهر ونضرة وحبّ، نبت وتكوّن بماء السماء، ثم بعد هذا كله أصبح هشيما، أي يابسا، تذروه الرياح، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي والله قادر على الإنشاء والإفناء، وعلى كل الأحوال، حال الخضرة والنضرة، وحال اليبس والهلاك والفناء، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يفخر بها أو يتكبر بسببها.
وكثيرا ما يشبّه الله الحياة الدنيا بهذا المثل، كما قال تعالى في سورة يونس:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ [24] وفي سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [20] .(15/260)
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي إن الأموال والبنين هي من زينة الحياة الدنيا، وليست من زينة الآخرة الدائمة، فهي سريعة الفناء والانقراض، فلا ينبغي للعاقل الاغترار بها والتفاخر بها. والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل في المثل السابق الذي أبان سرعة انقضاء الدنيا وإشرافها على الزوال والفناء. والسبب في ذكر المال والبنين فقط لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا.
وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه لأنه أهم وأخطر، وأكثر تحقيقا للحاجة والرغبة والهوى، فقد يكون البنون دون المال، ويكون البؤس والشقاء.
ونظير الآية: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ، وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.. الآية [آل عمران 3/ 14] .
قال الإمام علي كرم الله وجهه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعات، كالصلوات والصدقات، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة الفقراء، والأذكار أفضل ثوابا، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثرا إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملا حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا.
وقال ابن عباس: الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وكذلك قال عثمان بن عفان: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(15/261)
فقه الحياة أو الأحكام:
ينبغي أن يعرف الناس ولا سيما المتكبرون الذين طلبوا طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها، فهي في عدم استقرارها وعدم استمرارها على حال واحدة كالماء لا يستقر في موضع، ولا يستقيم على حالة واحدة، وهي مثله أيضا في أنها تفنى، وهو يذهب ولا يبقى، وهي كذلك لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، كما أن من دخل الماء لا بد أن يبتلّ منه، والكفاف من الدنيا ينفع وفضولها يضر، كما أن الماء إذا جاوز المقدار كان ضارّا مهلكا.
ورد في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه» .
والخلاصة: أن هذا المثل يدل على سرعة زوال الدنيا وفنائها.
والله وحده هو الباقي المقتدر على كل شيء من الإنشاء والإفناء والإحياء.
وكذلك زينة الحياة الدنيا من المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض، والباقيات الصالحات مما يأتي به فقراء المسلمين كسلمان وصهيب من الطاعات أفضل ثوابا عند الله، وأفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه مثل قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان 25/ 24] .
واختلف العلماء في الباقيات الصالحات: فقال ابن عباس وآخرون: هي الصلوات الخمس، وروي عنه كما بينا أنها: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وذلك مأخوذ من حديث رواه النسائي عن أبي سعيد الخدري.
وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجّحه الطبري، وقال القرطبي: وهو الصحيح إن شاء الله لأن كل ما بقي ثوابه، جاز أن يقال له هذا.(15/262)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
تسيير الجبال والحشر وعرض صحائف الأعمال يوم القيامة
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
الإعراب:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ يَوْمَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكر يوم.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
فًّا
: حال منصوب من واورِضُوا
وهو عامله، وتقديره: عرضوا مصطفين.
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
فًّا
: حال منصوب من واورِضُوا
وهو عامله، وتقديره: عرضوا مصطفين. أَلَّنْ نَجْعَلَ أن: مخففة من الثقيلة، أي أنه.
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ واذكر يوم نقلع الجبال ونذهب بها عن وجه الأرض، فنجعلها هباء منبثا. بارِزَةً ظاهرة، ليس عليها شيء من جبل ولا غيره. وَحَشَرْناهُمْ جمعنا المؤمنين والكافرين إلى الموقف، والحشر: الجمع لأجل الحساب، والبعث: إحياؤهم من القبور للحشر.
ومجيء هذا الفعل ماضيا بعد المضارع نُسَيِّرُ لتحقيق الحشر، أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعدوا، وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار: قد فَلَمْ نُغادِرْ نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه الغدر: وهو ترك الوفاء، والغدير: ما غادره السيل.(15/263)
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، لا ليعرفهم، بل ليأمر فيهم. فًّا
مصطفين، كل أمة صف، لا يحجب أحد أحدا. قَدْ جِئْتُمُونا
على إضمار القول على وجه يكون حالا، أي قائلا أو عاملا في يَوْمَ نُسَيِّرُ. ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي فرادى حفاة عراة، لا شيء معكم من المال والولد، لقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام 6/ 94] .
ْ زَعَمْتُمْ
أي ويقال لمنكري البعث ذلك، ولْ
: للخروج من قصة إلى أخرى.
َّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
وقتا للبعث والنشور، لا نجاوز الوعد.
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي جعل كتاب كل إنسان في يده حين الحساب، في يمينه للمؤمنين وفي شماله للكافرين. مُشْفِقِينَ خائفين. وَيَقُولُونَ عند معاينتهم ما فيه من السيئات.
يا وَيْلَتَنا يا: للتنبيه، ووَيْلَتَنا: هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، أي يا هلاك أقبل، فهذا أوانك. صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا. إِلَّا أَحْصاها عدّها وأثبتها، وهو تعجب منه في ذلك. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مثبتا في كتابهم، أو مسطورا في كتاب كل واحد منهم. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب، فلا يعاقب أحدا بغير جرم، ولا ينقص من ثواب مؤمن.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى خساسة الدنيا وزوالها، وشرف القيامة ودوامها، وأن التفاخر ليس بالأموال، بل بالعمل الصالح، أردفه بأحوال القيامة، وما فيها من أخطار وأهوال، وتغير معالم الأرض والحشر، والعدل المطلق في رصيد أعمال الناس جميعا بكتب وصحائف شاملة، يتبين منها أن أساس النجاة: هو اتباع ما أمر به الدين، وترك ما نهى عنه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أهوال القيامة وما فيها من الأمور العظام وهي:
1- وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ.. أي واذكر يا محمد حين نذهب بالجبال من أماكنها، ونزيلها، ونبددها كالسحاب هباء منثورا، كما قال تعالى:(15/264)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه 20/ 105] وقال:
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة 56/ 5- 6] وقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. [المعارج 70/ 8- 9] أي كالصوف المندوف المنفوش.
وهذا يدل على تبدل الحال، وتغير الوضع الذي كان في الدنيا، وإزاحة الجبال من مواضعها، وجعلها هباء منتشرا كالسحاب.
2- وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي وتنظر أيها الإنسان جميع الأرض ظاهرة بادية، ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، بل الخلق كلهم في صعيد واحد، صافون أمام ربهم، لا تخفى عليه خافية. وهذا معنى قوله تعالى في آية نسف الجبال السابقة: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 106- 107] أي تصبح الأرض سطحا مستويا، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، ولا جبل ولا وادي.
هذان الأمران تسيير الجبال وتسوية الأرض متعلقان بشأن الدنيا.
3- وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب وجمعناكم إلى الموقف، فلم نترك منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة 56/ 49- 50] وقال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود 11/ 103] .
أخرج الإمام مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا «1» ، فقلت:
يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض» .
__________
(1) غرلا، أي غير مختونين، والغرلة: القلفة.(15/265)
وفي رواية للنسائي: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه»
وهذا الأمر يدل على إثبات الحشر.
4- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي ويعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، كما قال سبحانه: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر 89/ 22] .
لقد أتيتم إلينا أيها الناس جميعا أحياء، كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معكم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى، كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 6/ 94] .
وهذا تقريع لمنكري المعاد، وتوبيخ لهم أمام الناس، وهو إثبات لمبدأ العرض للحساب على الله تعالى، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم:
ْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أنه كائن.
5- وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي ووضع كتاب الأعمال: أعمال الناس من خير أو شر، صغير أو كبير، فترى العصاة المجرمين خائفين مما فيه من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة. والمراد بالكتاب: الجنس، وهو صحف الأعمال.
وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا، مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي ويقول أولئك المجرمون: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمالنا، وما لهذا الكتاب لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا، ولا شاردة ولا واردة إلا أحصاها، أي ضبطها وحفظها، فهو شامل لكل شيء، كما قال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ(15/266)
عَتِيدٌ
[ق 50/ 17- 18] . وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار 82/ 10- 12] .
والآية تدل على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب، وهذا متفق عليه بين المسلمين.
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أي ووجد الناس ما عملوا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، وقيل: جزاء ما عملوا، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران 3/ 30] وقال سبحانه: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة 75/ 13] .
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ليس في حكم الله أي ظلم لخلقه إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهي المطلق، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إنه تعالى بمقتضى رحمته يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء من خلقه بقدرته وحكمته وعدله، فيخلّد الكفار في نار جهنم، ويعذب العصاة فيها، ثم ينجّيهم منها، وحكمه في كل حال العدل، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، فلا يكتب على إنسان ما لم يعمل، ولا يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم.
ونحو الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء 4/ 40] ، وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] .
وهذه الآية تبين خاتمة مراحل الحساب بين يدي الله، القائم على مبدأ: أن الجزاء من جنس العمل، وأن صحائف أعمال الناس تشمل الحسنات والسيئات.(15/267)
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تبين بداية القيامة ونهاية الحساب، فتبدأ في بيان تغيير معالم الدنيا من تسيير الجبال، أي إزالتها من أماكنها على وجه الأرض، وتسييرها كما يسيّر السحاب، كما جاء في آية أخرى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88] ثم تكسر فتعود إلى الأرض، كما قال تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وتصبح الأرض بارزة ظاهرة، ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان لاجتثاث ثمارها، وقلع جبالها، وهدم بنيانها.
ثم تأتي مرحلة الحشر أي الجمع إلى الموقف، فلا يترك أحد ويجمع جميع المخلوقات في صعيد واحد، للحساب أمام الربّ تبارك وتعالى.
إنهم يعرضون صفا بعد صف، كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفّ، لا أنهم صف واحد.
أخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة وبصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله، لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين.
يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم، ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم، ويسّروا جوابا، فإنكم مسئولون محاسبون.
يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفا، على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» .
ويأتي الخلائق من قبورهم لموقف الحساب حفاة عراة، لا مال معهم ولا ولد، كما جاؤوا من بطون أمهاتهم أثناء ولادتهم في الدنيا. وتعرض كتب أعمال العباد وصحائفهم، بما فيها من صغائر وكبائر، قال الأسدي: الصغيرة: ما دون الشرك، والكبيرة: الشرك.(15/268)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
قال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: ويحك يا كعب! حدّثنا من حديث الآخرة قال: نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة، رفع اللوح المحفوظ، فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله، ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال الناس، فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ.. الآية.
ثم يدعى المؤمن، فيعطى كتابه بيمينه، فينظر فيه، فإذا حسناته باديات للناس، وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول: كانت لي حسنات، فلم تذكر، فأحب الله أن يريه عمله كلّه، حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخره ذلك كله أنه مغفور، وأنك من أهل الجنة فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول:
هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة 69/ 19- 20] .
ثم يدعى بالكافر، فيعطى كتابه بشماله، ثم يلف، فيجعل من وراء ظهره، ويلوى عنقه فذلك قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق 84/ 10] فينظر في كتابه، فإذا سيئاته باديات للناس، وينظر في حسناته، لكيلا يقول: أفأثاب على السيئات؟! «1» .
قصة السجود لآدم عليه السلام
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 419.(15/269)
الإعراب:
كانَ مِنَ الْجِنِّ حال بإضمار قد، واستئناف للتعليل كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل:
كان من الجن.
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فاعل بِئْسَ: مضمر فيها، وبَدَلًا تمييز مفسّر لذلك المضمر، أي بئس البدل للظالمين ذرّية إبليس. ولِلظَّالِمِينَ فصل بين بِئْسَ وما انتصب به، واستدل به المبرّد على جواز الفصل بين فعل التعجب وما انتصب به في نحو قولهم: ما أحسن اليوم زيدا. والمقصود بالذم: ذرية إبليس، وحذف لدلالة الحال عليه.
البلاغة:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ؟ الهمزة للإنكار والتعجيب.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أي اذكر. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود انحناء، تحية وإكراما له، اعترافا بفضله. وقد تكرر الأمر بالسجود لآدم في مواضع، لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال، وهنا لما شنع الله تعالى على المفتخرين بأموالهم واستقبح صنيعهم، قرر أن ذلك من سنن إبليس إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ إذا اعتبر الجن نوعا من الملائكة فالاستثناء متصل، وإلا فهو استثناء منقطع، وإبليس: أبو الجن، فله ذرية، والملائكة لا ذرية لهم. فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عن طاعة ربه أو عما أمره به ربه، بترك السجود. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ الخطاب لآدم وذريته، والهاء في الموضعين لإبليس، والذرية: الأولاد أو الأتباع، وسماهم ذرية مجازا. أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي تطيعونهم. عَدُوٌّ أعداء، والعدو: يطلق على الواحد والجمع. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا إبليس وذريته في إطاعتهم، بدل إطاعة الله.
ما أَشْهَدْتُهُمْ أي إبليس وذريته. وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي لم أحضر بعضهم خلق بعض.(15/270)
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الشياطين. عَضُداً أعوانا، والعضد في الأصل: ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين، كاليد ونحوها، وهو المراد هنا. أي لم أستعن بالشياطين في الخلق، فكيف تطيعونهم؟ وهو رد لاتخاذهم أولياء من دون الله، شركاء له في العبادة، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية. ووضع الْمُضِلِّينَ موضع الضمير ذمّا لهم، واستبعادا للاعتضاد بهم.
وَيَوْمَ يَقُولُ اذكر. نادُوا شُرَكائِيَ الأوثان وغيرها. الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي. وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. فَدَعَوْهُمْ فنادوهم للاستغاثة. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم أو لم يجيبوهم. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ بين الأوثان وعابديها، أو بين الكفار وآلهتهم. مَوْبِقاً مهلكا يشتركون فيه، وهو النار، أو واد من أودية جهنم، يهلكون فيه جميعا، أو حاجزا بينهم. فَظَنُّوا فأيقنوا. أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي واقعون فيها، وداخلوها. مَصْرِفاً معدلا أو مكانا ينصرفون إليه.
المناسبة:
هناك تشابه بين فعل المشركين سابقا، وافتخارهم بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين، وبين فعل إبليس الذي تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه، وقال: خلقتني من نار، وخلقته من طين، فأنا أشرف منه في الأصل والنسب، فكيف أسجد وأتواضع له؟ والمشركون قالوا: كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء، مع أنّا من أنساب شريفة، وهم من أنساب نازلة، ونحن أغنياء وهم فقراء. وهذه هي طريقة إبليس، فذكرت قصته هنا تنبيها على وجود التشابه، والله تعالى حذر من هذه الطريقة ومن الاقتداء بها.
وتكرار قصة إبليس في مواضع من القرآن: إنما هو لما يناسب المقصود، ولما يحقق الفائدة، ففي كل موضع تساق لفائدة مغايرة لما ذكرت في مواضع أخرى.
التفسير والبيان:
هذا تنبيه لبني آدم على عداوة إبليس لهم، ولأبيهم من قبلهم، وتقريع لمن اتبعه منهم، وخالف خالقه ومولاه، فقال:(15/271)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.. أي واذكر لهم يا محمد إذ أمرنا جميع الملائكة بالإلهام أن يسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام، تكريما للنوع الإنساني، كما ذكر مرارا في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها: في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [34] ، ومنها في سورة الحجر: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [28- 29] ، ومنها في سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [50] .
وسبب إباء إبليس السجود لآدم: اغتراره بأصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، وخلق آدم من تراب، كما
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»
، وبان من الآية السابقة أن إبليس من الجن، كما بان من آية أخرى أنه خلق من نار، وخلق آدم من طين، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 38/ 76] .
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر.
كانَ مِنَ الْجِنِّ أي أن سبب عصيانه أنه كان من عنصر الجن، فلم يعمل مثل ما عملوا، لذا قال:
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعة الله، فإن الفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من أكمامها أو قشرها، ودل هذا على أن فسقه بسبب كونه من الجن أي الشياطين، وشأن الجن التمرد والعصيان، لخبث ذواتهم. والخلاصة: أن قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف(15/272)
جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين. وقوله: فَفَسَقَ..
الفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه لأنه لو كان ملكا لم يفسق عن أمر ربه لأن الملائكة معصومون، على عكس الجن والإنس.
وأما ما ذكر في آية أخرى أنه من الملائكة، فلا يعارض هذه الآية لأنه قد يطلق على الملائكة أنهم جن لاستتارهم عن أعين الناس.
ثم عقب الله تعالى على القصة بقوله:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ أي أنه تعالى يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي، ويحذر من اتباعه بعد ما عرف موقفه من أبيهم آدم، ويوبخ ويقرع من اتّبعه وأطاعه، متخذا له ولجنده ونسله نصراء من دون الله، وبدلا عنه، لذا قال:
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بئس البدل للكافرين الظالمين أنفسهم وهو اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله، وهو المنعم عليهم.
ومما يدل على أن إبليس ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلا في هذه الآية، والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل، فوجب ألا يكون إبليس من الملائكة.
ثم سلب الله تعالى الولاية عمن دونه من الشركاء والأبالسة، فقال:
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى: ما أشهدت الذين اتخذتموهم أولياء من الشركاء خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا، ولا كانوا موجودين عند خلق السموات والأرض. وهؤلاء الشركاء هم الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم، حتى اتخذتموهم شركاء لي.(15/273)
ورجح الرازي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء، لم نؤمن بك، فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين اقترحوا هذا الاقتراح الفاسد، ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم «1» .
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذ الضالين المضلين أعوانا وأنصارا، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم، فإنهم إذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟
ثم يخبر الله تعالى عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا، فيقول:
وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي واذكر لهم أيها الرسول ما يحدث وقت الاجتماع في يوم الجمع في القيامة، حيث يقول الله للكافرين تأنيبا وتوبيخا: نادوا لنصرتكم من زعمتم أنهم شركائي، لينقذوكم مما أنتم فيه، فدعوهم، فلم يجيبوهم بشيء، ولم ينفعوهم في شيء، كما قال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام 6/ 94] .
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أي وجعلنا بين المشركين وآلهتهم المزعومة مكانا سحيقا ومهلكا، أي موضعا للهلاك، وهو نار جهنم أو واد في جهنم، وقال ابن عباس: الموبق: الحاجز، وقال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق. والمعنى أن الله تعالى بيّن أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 138(15/274)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا- والظن هنا بمعنى العلم واليقين- أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي إذا عاين المشركون النار، تحققوا لا محالة أنهم واقعون فيها، ومخالطوها وداخلون فيها حتما لا محالة، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا، والمعنى ليس لهم طريق ولا مكان يعدل بهم عنها، ولا بدّ لهم منها لإحاطتها بهم من كل جانب. ذكر ابن جرير عن أبي سعيد، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- كرم الله تعالى أبانا آدم عليه السلام والجنس البشري بأجمعه بأمره الملائكة أن تسجد له في بدء الخليقة سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة وتقديس.
2- أذعن الملائكة كلهم جميعا لأمر السجود فسجدوا إلا إبليس الذي كان من عنصر الجن أبي السجود وفسق عن أمر ربه وخرج عن طاعة الله تعالى.
3- تضمن رفض إبليس السجود عداوته للإنسان، لذا وبخ تعالى كل من اتخذ الشيطان وأتباعه أولياء: أعوانا ونصراء لأنهم أعداء، والعدو لا ينصر من عاداه ولا يؤتمن على نصرته. وكذلك تضمن الرفض التكبر على آدم والترفع عليه، لمّا ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم، إذ هو من نار، وآدم من طين، فوجب أن يكون هو أشرف من آدم، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم: إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم. لكل ما ذكر بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله، أو بئس إبليس بدلا عن عبادة الله تعالى.(15/275)
4- قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ يدل على إثبات ذرية إبليس، وهو دليل على أن لإبليس زوجة لأن الذرية لا تكون إلا من زوجة. وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذرّيته: أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرّية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم، وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم، وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.
والذي ثبت في هذا الموضوع ما
ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرّخ»
قال القرطبي: وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله أعلم.
5- لم يستعن الله تعالى بأحد في خلق السموات والأرض، ولم يكن أحد موجودا عند الخلق، ولم يشهد المشركين وإبليس وذريته الخلق، أي لم يشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقهم على ما أراد، ولا يصلح المخلوقون اتخاذهم أولياء من دون الله تعالى.
وهذا رد على طوائف من المنجّمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم وكل من يخوض في هذه الأشياء.
كذلك لم يتخذ الله تعالى المضلين عضدا، أي لم يتخذ الشياطين والكفار أعوانا لأنه تعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ.
6- هناك حاجز بين المؤمنين والكافرين، وبين المشركين وآلهتهم المزعومة من الأوثان وغيرها يوم القيامة، فلا ينتفع الكفار بمن أشركوا، ولا يتمكنون من منع العذاب عنهم، والكل هالكون في جهنم.(15/276)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
7- إذا عاين المشركون النار ظنوا أي تيقنوا أنهم مجتمعون فيها وواقعون فيها، ولا يجدون عنها مصرفا، أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب.
ورجح الرازي في تفسير الظن: أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد، فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها، كما قال تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان 25/ 12]
بيان القرآن ومهمة الرسل وظلم المعرض عن الإيمان وسبب تأخير العذاب لموعد معين
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)(15/277)
الإعراب:
جَدَلًا تمييز منقول من اسم كانَ، والمعنى: وكان جدل الإنسان أكثر شيء فيه.
قُبُلًا جمع قبيل، حال، أي ويأتيهم العذاب قبيلا قبيلا. وقيل: معناه مقابلة، وهو معنى قراءة قُبُلًا- بكسر القاف.
وَما أُنْذِرُوا ما: مصدرية بمعنى إنذارهم في موضع نصب عطفا على آياتِي، أي: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزوا. وهُزُواً: مفعول ثان لاتخذوا. ويجوز أن تكون ما موصولة وعائد الصلة محذوف.
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ تِلْكَ: مبتدأ، والْقُرى: صفة لتلك، وأَهْلَكْناهُمْ: خبر المبتدأ. لِمَهْلِكِهِمْ وقرئ: مهلك، ومهلك، ومهلك، الأول مصدر أهلك مثل مكرم، والثاني مصدر هلك مثل مضرب، والثالث اسم زمان، أي لوقت مهلكهم.
البلاغة:
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
صَرَّفْنا بينا مع الترداد والتكرار. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ صفة لمحذوف، أي مثلا من جنس كل مثل، ليتعظوا، والمثل: الصفة الغريبة. الْإِنْسانُ جنس الإنسان، وخاصة الكافر وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا خصومة بالباطل، وشيء هنا مفرد معناه الجمع، أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال. وَما مَنَعَ النَّاسَ أي كفار مكة ونحوهم. أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول ثان لمنع. إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى القرآن. سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فاعل تأتيهم، أي سنتنا فيهم، وهي الإهلاك المقدر عليهم، وهو عذاب الاستئصال، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قُبُلًا جمع قبيل، أي أنواعا وألوانا، وقرئ قبلا أي مقابلة وعيانا، كالقتل يوم بدر.
إِلَّا مُبَشِّرِينَ للمؤمنين. وَمُنْذِرِينَ مخوفين للكافرين. وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ بقولهم: أبعث الله بشرا رسولا ونحوه من اقتراح الآيات. لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ليبطلوه ويزيلوه، مأخوذ من إدحاض القدم أي إزلاقها وإزالتها عن مكانها، ويقال: دحضت حجته: بطلت وَاتَّخَذُوا آياتِي يعني القرآن. وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب. هُزُواً استهزاء وسخرية، وأصله: هزؤا.
فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتذكر بها. وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ما عمل من الكفر(15/278)
والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتها. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم. أَنْ يَفْقَهُوهُ أن يفهموه، أي كراهة أن يفقهوه، أو من أن يفهموا القرآن، أي فلا يفهمونه. وتذكير الضمير وإفراده مراعاة للمعنى. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا في السمع، يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه، أو فلا يسمعونه. فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي بالجعل المذكور صار ميئوسا من اهتدائهم لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، ولشدة تصميمهم، وإِذاً:
جزاء وجواب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وأَبَداً مدة التكليف كلها.
لَوْ يُؤاخِذُهُمْ في الدنيا. لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فيها. مَوْعِدٌ هو يوم القيامة.
مَوْئِلًا ملجأ ومنجى. وَتِلْكَ الْقُرى أي أهلها وهي قرى عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم.
لَمَّا ظَلَمُوا كفروا كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. لِمَهْلِكِهِمْ هلاكهم، ومن قرأ بضم الميم وفتح اللام فمعناه لإهلاكهم. مَوْعِداً وقتا معلوما، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليعتبروا بهم، ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الجواب على شبهات الكفار المبطلين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، أردف ذلك ببيان كثرة الأمثال في القرآن لمن تدبر فيها، ومع تلك الأمثلة الواقعية والإجابات الشافية، هؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة لأن الإنسان أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال، ثم هددهم تعالى على عدم الإيمان متسائلا: هل هناك مانع يمنعهم من الإيمان إلا نزول عذاب الاستئصال، أو مجيئه عيانا؟ وأبان أن مهمة الرسل هي الجدال في الدين من طريق تبشير المؤمنين بالجنان وإنذار العصاة بالنار، وأوضح أن أشد الناس ظلما هو المعرض عن هداية القرآن، ولله الفضل العظيم في تأخير العقاب عن الناس، وتخصيصه بموعد، لا يتجاوزه، لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ صَرَّفْنا.. أي ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم كل(15/279)
ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، كي يعرفوا طريق الحق والهدى، ولا يضلوا عنه. وتصريف الأمثال يقتضي التكرار لمختلف وجوه البيان.
وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي ومع هذا البيان الشافي والتوضيح الكافي، فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
وهذا دليل على كثرة الجدال في الإنسان وحبه له، لسعة حيلته، وقوة ذكائه، واختلاف نزعاته وأهوائه.
وبالرغم من بيان القرآن، وكثرة ما يشاهده الكفار من الآيات والدلالات الواضحات، فإنهم قوم متمردون منذ القديم، فقال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا.. أي وما منع المشركين من أهل مكة من الإيمان بالله، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود الله وتوحيده، واستغفار ربهم والتوبة إليه من ذنوبهم إلا طلبهم أحد أمرين:
إما أن تأتيهم سنة الأولين القدماء من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم وهو عذاب الاستئصال، كما قال جماعة لنبيهم: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت 29/ 29] وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
وإما أن يروا العذاب عيانا مواجهة ومقابلة.
والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 141(15/280)
وقال في الكشاف: وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك، أو انتظار أن يأتيهم عذاب الآخرة قبلا أي عيانا «1» .
ومجيء العذاب بيد الله لا من قبل الرسول، لذا قال تعالى:
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي إن مهمة الرسل إما تبشير من آمن بهم بالثواب على الطاعة، وإما إنذار من كذبهم وخالفهم بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا.
ومع هذه الأحوال يوجد الجدال بالباطل من الكفار لدحض الحق، فقال تعالى مخبرا عنهم:
وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ويجادل الكفار جدالا بالباطل لا بالحق، ليضعفوا بجدالهم الحق، الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، فهم يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون 23/ 24] .
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً أي اتخذوا آيات الله وهي القرآن والحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب هزوا أي استهزاء وسخرية، وهو أشد التكذيب، وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة.
وبعد أن حكى الله تعالى عن الكفار جدالهم بالباطل، وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان، فقال:
__________
(1) الكشاف: 2/ 263(15/281)
الصفة الأولى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْها، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي لا أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله، ونسي ما قدم من الكفر والمعصية، أو لا ظلم أعظم من كفر من يشاهد الآيات والبينات الدالة على الحق والإيمان، ثم يعرض عنها، ومع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يده من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة، وعلى رأسها الكفر بالله، والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم.
الصفة الثانية:
إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وعلة إعراضهم ونسيانهم بسبب جعل أغطية وغشاوة على قلوب هؤلاء، لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، وجعل صمم معنوي في آذانهم عن الرشاد وسماع الحق وتدبره.
وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي وإن دعوت يا محمد هؤلاء إلى دعوة الحق والهداية والاستقامة، فلن تجد منهم استجابة، ولن يهتدوا بهديك هدي القرآن أبدا مهما قدمت من الدلائل وتأملت الخير منهم.
وذلك كله لفقدهم الاستعداد لقبول الإيمان والرشاد، بما أصروا عليه من الكفر والعصيان، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة 2/ 7] . وهذه الآيات هي في قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركي مكة.
ثم ذكر الله تعالى ما يتصف به من رحمة وحلم وإرجاء للعقاب عن العصاة، وأنه لا يعجل لهم العذاب، تاركا الفرصة لهم ليتوبوا، فقال:
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ أي(15/282)
وربك يا محمد غفور ستّار، ذو رحمة واسعة، لو يؤاخذ الناس فورا بما كسبوا من السيئات واقترفوا من الخطيئات، لعجل لهم العذاب في الدنيا، على وفق أعمالهم. والغفور: البليغ المغفرة، فهي صيغة مبالغة، وذو الرحمة: الموصوف بالرحمة.
ونظير الآية قوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد 13/ 6] .
ثم استشهد تعالى بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال:
بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي إن الله أراد غير ذلك من تعجيل العذاب، وجعل للعذاب موعدا حدده وهو إما يوم القيامة، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح، لن يجدوا عنه ملجأ ومنجى، وليس له محيد ولا معدل عنه، والخلاصة: أن تأخير العقاب أو العذاب إمهال لا إهمال.
وشاهد آخر: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ... أي وتلك القرى، أي أهلها من الأمم الغابرة، كعاد وثمود ومدين وقوم لوط، أهلكناهم لما ظلموا بسبب كفرهم وعنادهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه، ومدة معلومة لا تزيد ولا تنقص، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم رسولكم، ولستم بأعز علينا منهم. والمهلك: الإهلاك أو وقته، والموعد: وقت أو مصدر. والمراد: إنا عجلنا هلاكهم، ومع ذلك حددنا له وقتا، رجاء أن يتوبوا.(15/283)
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات المبادئ التالية:
1- بيان القرآن من دلائل الربوبية والوحدانية ومن العبر والقرون الخالية بيان ضاف واف محقق لغاية الاهتداء به على أكمل وجه.
2- الإنسان وبخاصة الكافر كثير الجدال والمجادلة لطمس معالم الحق، والإبقاء على ما ارتضاه لنفسه من اتباع الأهواء، وتقليد الأسلاف والآباء، واحتضان الكفر، والاحتفاظ بالزعامة الدنيوية والمكاسب المادية.
3- الإنسان قاصر النظر غالبا، فما منع الناس بعد مجيء القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام عن الإيمان واستغفار ربهم والإنابة إليه إلا معاينة أحد الأمرين: الإتيان بما هو عادة الأولين في عذاب الاستئصال، ومعاينة العذاب، كما طلب المشركون فعلا، وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . أو مجيء العذاب عيانا مواجهة.
4- إن مجيء العذاب بيد الله وحده على وفق ما يرى من الحكمة والعدل، وأما الأنبياء المرسلون فمهمتهم التبشير بالجنة لمن آمن، والتخويف بالعذاب لمن كفر، ومع كل هذه الدلائل الهادية إلى الرشاد يجادل الكفار بالباطل لدحض الحق وهو الإيمان بالله وبقرآنه، والإبقاء على مهازل الكفر وأباطيله، واتخاذ القرآن وما أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا.
5- لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها، وترك كفره ومعاصيه، فلم يتب منها، فالنسيان بمعنى الترك.
6- علم الله من قوم معينين من أهل مكة ونحوهم أنهم لم يؤمنوا، فأخبر(15/284)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
تعالى عنهم أنه منعهم من دخول الإيمان في قلوبهم وأسماعهم، فلن تفلح معهم بعدئذ دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الإيمان، ولن يهتدوا أبدا إليه، لإصرارهم على الكفر، وفقدهم الاستعداد لقبول الهداية.
7- من صفات الله تعالى أنه الغفور لذنوب عباده، الرحيم بهم إن آمنوا وتابوا وأنابوا إليه، بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
ومن رحمته ألا يعجل المؤاخذة أو العقاب على الكفر والمعاصي، ولكنه يمهل ويؤخر، رجاء أن يتوب العباد، ويجعل للعذاب موعدا أي أجلا مقدرا يؤخرون إليه، كما قال: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام 6/ 67] وقال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] أي إذا حلّ لم يتأخر عنهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولا ملجأ ولا منجى للناس حينئذ من ذلك العذاب.
8- أهلك الله تعالى جماعة من أهل القرى الغابرة للعبرة والزجر نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط، لما ظلموا وكفروا، وجعل لهلاكهم وقتا معلوما وأجلا محددا لا يتجاوزوه.
قصة موسى عليه السلام مع الخضر
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 74]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)(15/285)
الإعراب:
سَرَباً مفعول ثان (لاتخذ) ومفعوله الأول سَبِيلَهُ.
أَنْ أَذْكُرَهُ أن وصلتها في موضع نصب على البدل من هاء أَنْسانِيهُ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وهو بدل اشتمال. عَجَباً مفعول ثان لاتخذ.
قَصَصاً منصوب على المصدر بفعل مقدّر، دل عليه فَارْتَدَّا أي فارتدا يقصان الأثر قصصا. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً مفعول ثان. عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ حال من كاف أَتَّبِعُكَ.
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ما: اسم موصول بمعنى الذي، وعُلِّمْتَ: جملة فعليه صلة «ما» والعائد محذوف تقديره: من الذي علّمته رشدا، فحذف الهاء وهي المفعول الثاني لعلّمت تخفيفا، ورُشْداً: المفعول الثاني لتعلّمني.(15/286)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً كَيْفَ: في موضع نصب على الظرف، وعامله تَصْبِرُ وخُبْراً: منصوب على المصدر بفعل دل عليه. ما لَمْ تُحِطْ بِهِ وتقديره: ما لم تخبره خبرا.
البلاغة:
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا تنكير. عَبْداً للتفخيم، والإضافة في عِبادِنا للتشريف.
حُقُباً سَرَباً نَصَباً عَجَباً سجع يناسب أواخر الآيات.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ واذكر حين قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم السلام الذي كان يتبعه ويخدمه ويتعلم منه. لا أَبْرَحُ لا أزال سائرا. حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ حتى أصل ملتقى بحري فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند مصيق باب المندب) مما يلي المشرق. وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلسي عند طنجة (ملتقى البحر الأبيض المتوسط عند مضيق جبل طارق أمام طنجة) . أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً دهرا طويلا في بلوغه إن بعد، والحقب: جمع حقبة وهو زمان من الدهر غير محدود، قيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون.
مَجْمَعَ بَيْنِهِما مكان الاجتماع بين البحرين. نَسِيا حُوتَهُما نسي يوشع حمله عند الرحيل، ونسي موسى تذكيره. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، مثل السرب: وهو الشق الطويل لا نفاد له، فصار الماء عليه كالقنطرة، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت، فصار كالطافي عليه.
فَلَمَّا جاوَزا ذلك المكان بالسير إلى وقت الغداء من اليوم الثاني. قالَ موسى.
لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا الغداء: هو ما يؤكل أول النهار، والمراد به هنا: الحوت. نَصَباً تعبا وإعياء.
قالَ: أَرَأَيْتَ أي تنبّه. إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي أرأيت ما دهاني، إذ لجأنا إلى الصخرة بذلك المكان، التي رقد عندها موسى. فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فقدته أو نسيت ذكره.
وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه. وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً أي اتخذ الحوت طريقا عجبا أي يتعجب منه موسى وفتاه.(15/287)
قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ قال موسى: ذلك أي فقد الحوت هو الذي كنا نطلبه، فإنه علامة لنا على وجود من نطلبه. فَارْتَدَّا رجعا. عَلى آثارِهِما أي على طريقهما الذي جاءا منه. قَصَصاً أي يقصان الطريق قصصا، أي يتبعان آثارهما اتباعا، أو مقتصين، حتى أتيا الصخرة.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو في رأي الجمهور الخضر، واسمه بليا بن ملكان. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي ولاية، في رأي أكثر العلماء، وقيل: وحيا ونبوة. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً من قبلنا معلوما من المغيبات.
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ على شرط أن تعلّمني. مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي تعلمني بعض ما علمت علما ذا رشد، أو صوابا أرشد به، والرشد: إصابة الخير. ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه، فيما بعث به من أصول الدين وفروعه، لا مطلقا. وقد راعى موسى في ذلك الطلب للتعلم غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعا للعبد الصالح، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه لأن الزيادة في العلم مطلوبة.
ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً علما بالشيء ومعرفة، ومنه الخبير: العالم بدقائق العلم، والمعنى:
ما لم تخبر حقيقته. وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي وغير عاص لك أمرا تأمرني به، وقيد الوعد على الصبر بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهي عادة الأنبياء ألا يثقوا بأنفسهم طرفة عين. وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى.
فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تنكره مني في علمك، أي فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولم تعلم وجه صحته. حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً بيانا، أي حتى أبتدئك ببيانه، وأذكره لك بعلته، فقبل موسى شرطه، رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر. رَكِبا فِي السَّفِينَةِ التي مرت بهما. خَرَقَها ثقبها الخضر، بأن اقتلع لوحا أو لوحين منها من جهة البحر بفأس، حينما سارت في ثبج البحر ولججه. قالَ: أَخَرَقْتَها قال له موسى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت أمرا عظيما منكرا، من أمر الأمر، أي عظم وكثر، روي أن الماء لم يدخلها.
لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ بالذي نسيته أو بشيء نسيته، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه، وهو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها. وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً لا تكلفني عسرا ومشقة، في صحبتي إياك، أي عاملني بالعفو واليسر.(15/288)
فَانْطَلَقا بعد خروجهما من السفينة يمشيان حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً لم يبلغ الحنث، يلعب مع الصبيان، وكان أحسنهم وجها فَقَتَلَهُ الخضر، إما بالذبح بالسكين، أو باقتلاع رأسه بيده بفتل عنقه، أو الضرب برأسه الحائط، أقوال مروية. وأتى بالفاء العاطفة هنا للدلالة على أنه لما لقيه قتله من غير تروّ واستكشاف حال قالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ أي قال موسى مستنكرا- وهو جواب إذا- كيف تقتل نفسا طاهرة من الذنوب، لم تبلغ حد التكليف، وقرئ زَكِيَّةً، بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير حق من قصاص لك عليها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي لقد
ارتكبت شيئا منكرا، والمنكر: الذي تنكره العقول والنفوس.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله قصة أصحاب الكهف لإثبات قدرته على البعث، وذكر أمثلة ثلاثة لتقرير حقيقة أن الحق والعزة والعلو لا ترتبط بكثرة المال والسلطان، وإنما بالعقيدة والإيمان، ليدرك تلك الحقيقة المشركون الذين افتخروا على فقراء المؤمنين، وأبوا مجالستهم، بعد هذا أردف الله تعالى بقصة ثانية هي قصة موسى مع الخضر، ليتعلم منه العلم، وذلك ليفهم المشركون أن موسى النبي كليم الله مع كثرة علمه وعمله، أمر أن يتعلم من العبد الصالح الخضر، مما يدل على أن التواضع خير من الكبر.
قصة موسى والخضر في السنة النبوية:
روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل، أي الناس أعلم؟ فقال:
أنا، فعتب الله عز وجل عليه، إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال موسى: يا ربّ، فكيف لي به؟ قال:
تأخذ حوتا، فتجعله في مكتل (قفة) فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، فانطلق موسى، ومعه فتاه- يوشع بن نون- حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما، فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً.(15/289)
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً- قال:
ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به- فقال فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
قال: فكان للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: رجعا يقصان آثارهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجّى بثوب، فسلّم عليه موسى، فقال الخضر، وأنى بأرضك السلام «1» ! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟
قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علّمت رشدا قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
يا موسى، إني على علم من علم الله، لا تعلمه، علّمنيه، وأنت على علم من علم الله علّمكه، لا أعلمه، فقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فقال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول- أي أجر- فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدّوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها: لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وكانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك
__________
(1) أي من أين السلام في هذه الأرض التي لا سلام فيها؟(15/290)
من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال سفيان: وهذه أشدّ من الأولى.
قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فقال الخضر بيده هكذا- أي أشار بيده- فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال الخضر: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يرحم الله موسى، لوددت أنه كان صبر، حتى يقص الله علينا من أخبارهما» .
التفسير والبيان:
هذه هي القصة الثالثة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة بعد قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين والأموال، وهي تلتقي أيضا مع ما ذكره الله تعالى من تشبيه الحياة الدنيا بماء السماء، وتفاخر الناس بالمال والبنين، كما تلتقي معهما في نبذ الافتخار والتكبر والتعالي على الآخرين، ليكون ذلك درسا بليغا وعظة لرؤساء قريش الذين طلبوا تخصيص مجلس لهم، وطرد الفقراء والمستضعفين من الجلوس معهم في مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنفة وكبرياء واستعلاء، فقال تعالى:(15/291)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ... أي واذكر أيها النبي حين قال موسى لفتاه لا أزال سائرا حتى أصل إلى المكان الذي فيه مجمع البحرين، ولو أني أسير حقبا أي دهرا من الزمان. والحقب: ثمانون أو سبعون سنة، والمراد: زمان غير محدود من الدهر.
والمقصود بموسى في رأي أكثر العلماء هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة.
وفتاه: هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان خادما لموسى، ويسمى الخادم فتى في لغة العرب.
ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: هو مكان اجتماع البحرين وصيرورتهما بحرا واحدا، وهما في رأي الأكثرين بحر فارس والروم، أي ملتقى البحر الأحمر بالمحيط الهندي عند باب المندب، وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي، أي ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق عند طنجة.
وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر.
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي فلما وصلا مجمع البحرين مكان اللقاء مع العبد الصالح، نسيا حوتهما، فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، وغطاه الماء، حتى صار كالقنطرة عليه، وكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا.
فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي فلما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين حيث نسيا الحوت فيه، وسارا بقية اليوم والليلة، وفي اليوم التالي في ضحوة الغد أحس موسى بالجوع، فقال لفتاه:
آتنا غداءنا، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.(15/292)
وذلك أن موسى كان قد أمر بحمل حوت مملّح معه، وذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، وسار هو وفتاه، حتى بلغا مجمع البحرين، وكان الحوت في مكتل (قفة) مع يوشع عليه السلام، فسقط في البحر، وجعل يسير في الماء.
وعودة الحياة للحوت بعد موته كانت معجزة لموسى عليه السلام، علامة على مكان وجود الخضر. والخضر: هو لقب العبد الصالح الذي أمر موسى بالتعلم منه، واسمه بليا بن ملكان، والأصح أنه لم يكن نبيا.
قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
أي قال له فتاه: أرأيت «1» أي أخبرني ما وقع لي حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من أمر الحوت، فإنه قد اضطرب وعاد حيا ووقع في البحر، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا. والمراد بالنسيان: اشتغال قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي من فعله.
قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه أمارة الفوز بما نقصد.
فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما،
__________
(1) همزة أَرَأَيْتَ همزة الاستفهام، ورَأَيْتَ على معناه الأصلي، وإدخال الهمزة عليه للتعجب، فإن المتعارف بين الناس أنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه: أرأيت ما حدث لي؟(15/293)
ويقفوان آثرهما. قال البقاعي: إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة عليها.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي وجد موسى وفتاه عند الصخرة في مجمع البحرين حين عادا إليها عبدا صالحا من عباد الله، قال الأكثرون: إن ذلك العبد هو الخضر، وكان مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟! وقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً يدل على أن تلك العلوم حصلت له من عند الله من غير وساطة.
فقال: أنا موسى، قال: موسى بن إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أصحبك وأرافقك لتعلمني مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح؟ وهذا سؤال تلطف وأدب، لا إلزام فيه ولا إجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
فأجابه الخضر: قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى: إنك لن تقدر على مصاحبتي، ولن تطيق صبرا ما تراه مني لأني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علمكه لا أعلمه، وكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، فلا تقدر على صحبتي.
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي وأؤكد لك أنك لن تصبر على شيء تراه مني، ولم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة وحقيقة أمره التي اطلعت أنا عليها دونك. فقوله: خُبْراً أي لم يحط به خبرك، ولم تلمّ بوجه الحكمة فيه وطريق الصواب.
قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي قال موسى:
ستجدني بمشيئة الله صابرا على ما أرى من أمورك، ولا أخالفك في شيء.(15/294)
قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي قال الخضر شارطا على موسى بقوله: إن سرت معي، فلا تسألني عن أمر يحدث، حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قصة السفينة:
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها أي فانطلق موسى وصاحبه مع الخضر، انطلقا يمشيان على ساحل البحر، يطلبان سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلّما أصحابها أن يركبا فيها معهم، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير أجر، تكرمة للخضر، فلما ركبوا وسارت بهم السفينة في وسط البحر، قام الخضر بخرقها بفأس، مستخرجا لوحا من ألواحها، ثم رقعها.
قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي لم يتمالك موسى عليه السلام نفسه وقال منكرا عليه: أخرقتها لتغرق «1» أهلها، أي ليصير الخرق سببا في إغراق أهلها، لقد جئت شيئا عظيما منكرا.
قالَ: أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى: ألم أقل سابقا لك يا موسى: إنك لن تتمكن من الصبر معي على ما ترى مني من أفعال.
قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي اعتذر موسى للخضر قائلا: لا تؤاخذني بنسياني، أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة، ولا تكلفني أمرا شاقا عسيرا علي، أي لا تعسر علي متابعتك، ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.
__________
(1) اللام لام العاقبة أو الصيرورة، لا لام التعليل. [.....](15/295)
قصة الغلام:
فَانْطَلَقا، حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ أي ثم خرجا من السفينة، وسارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما- وهذا يشمل الشاب البالغ- يلعب مع الغلمان، فقتله بفتل عنقه أو بضرب رأسه بالحائط، أو بغير ذلك، فقال موسى:
أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب، طيبة لم تخطئ، بغير قتل نفس أي بغير قصاص؟ وخص موسى هذه الحالة من مبيحات القتل لأنها أكثر وقوعا.
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي لقد أتيت شيئا منكرا. والنكر في حال القتل أعظم قبحا من الإمر في حال خرق السفينة لأن قتل النفس أعظم جرما من خرق السفينة إذ قد لا يحصل الغرق.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه رحلة موسى بن عمران نبي بني إسرائيل مع فتاه يوشع عليهما السلام للقاء العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام، لتعليمه التواضع في العلم، وأنه وإن كان نبيا مرسلا، فقد يكون بعض العباد أعلم منه.
وفي هذا من الفقه: رحلة العالم لطلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء، وإن بعدت أقطارهم، كما كان دأب السلف الصالح.
ونفع هذه القصة بوجه خاص في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار: هو أن موسى عليه السلام، مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه، ذهب إلى الخضر، لطلب العلم مع التواضع له، وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر.
ونفع هذه القصة مع قصة أصحاب الكهف: هو أن اليهود قالوا لكفار(15/296)
مكة: إن أخبركم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن هذه القصة فهو نبي، وإلا فلا، مع أنه لا يلزم من كونه نبيا من عند الله تعالى أن يكون عالما بجميع القصص والوقائع، كذلك لم يمنع كون موسى عليه السلام نبيا صادقا من عند الله أن يأمره الله بالذهاب إلى الخضر، ليتعلم منه.
ودل قوله: آتِنا غَداءَنا على تعليم الناس اتخاذ الزاد في الأسفار، ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى، فهذا موسى نبي الله وكليمه قد اتخذ الزاد، مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد.
وكان انقلاب الحوت حيا معجزة لموسى عليه السلام، وعلامة على مكان وجود العبد الصالح، لذا قال موسى فرحا لما أخبره فتاه بالأمر: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى لفتاه: أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا إليه موجود هناك.
والعبد الصالح على الصحيح هو الخضر، وهو نبي في رأي جماعة كثيرين بدليل ما يأتي «1» :
1- أنه تعالى قال: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي النبوة لقوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف 43/ 32] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص 28/ 86] .
2- قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 148، تفسير القرطبي: 11/ 16.(15/297)
3- قال موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم.
والراجح أن الخضر لم يكن نبيا وإنما هو عبد صالح كما قرر علماء الكلام (التوحيد) . والاستدلال بهذه الأدلة ضعيف، أما الدليل الأول: فلا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة، فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء. وأما الدليل الثاني: إن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله، وذلك لا يدل على النبوة. وأما الدليل الثالث: فلا مانع يمنع النبي من اتباع غير النبي في العلوم التي لا تتعلق بالنبوة.
ودل قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً على أن المتعلم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه لأن الفضل لمن فضله الله، فإن كان الخضر وليا فموسى أفضل منه، وإن كان نبيا فموسى فضله الله بالرسالة. ولقد كان موسى عليه السلام محقا في إنكاره على العبد الصالح لأن الأنبياء لا يقرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير، لذا علّق صبره على ما يحدث من أمر في المستقبل على مشيئة الله، وأنه لا يدري كيف يكون حاله، لا أنه عزم الصبر على المعصية.
وقد ذكر الرازي في قول موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر، ذكر منها اثني عشر نوعا، منها: أنه جعل نفسه تبعا له، واستأذن في هذه التبعية، وأقر على نفسي بالجهل بقوله تُعَلِّمَنِ وعلى أستاذه بالعلم، وصرح بأنه يطلب الإرشاد والهداية.
وكان قول الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، تأديبا وإرشادا لما يقتضي دوام(15/298)
الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض، فتعين الفراق.
وفي خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، كأن يخاف ظالما على ما يملكه، فيخرّب بعضه. وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض.
وفي قول موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، ولو نسي مرة ثانية له أن يعتذر أيضا.
وقتل النفس أشد من خرق السفينة، لذا قال موسى في القتل: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً وقال في الخرق لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً والنكر أعظم قبحا من الإمر، كما تقدم.
وكان عتاب الخضر في المرة الثانية أشد، لقوله أَلَمْ أَقُلْ لَكَ وزيادة لَكَ لزيادة التأنيب والتقريع على عدم الصبر في المرة الثانية.
ويأتي تمام القصة وما يستنبط منها في الجزء التالي بمشيئة الله.
تم هذا الجزء ولله الحمد(15/299)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
[الجزء السادس عشر]
[تتمة سورة الكهف]
تتمة قصة موسى مع الخضر
[سورة الكهف (18) : الآيات 75 الى 82]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
الإعراب:
لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قرئ لَاتَّخَذْتَ بالتشديد، وبالتخفيف.
لَاتَّخَذْتَ. وأدخل اللام على الفعل الذي هو جواب لَوْ.
مِنْ لَدُنِّي بالتشديد والتخفيف. وكذا أَنْ يُبْدِلَهُما بالتشديد والتخفيف.(16/5)
هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع.
والإضافة في بَيْنِكَ إضافة بين إلى غير متعدد: سوغها تكراره بالعطف بالواو.
غَصْباً منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ زَكاةً رُحْماً منصوبان على التمييز.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول لأجله.
البلاغة:
أَمَّا السَّفِينَةُ وَأَمَّا الْغُلامُ وَأَمَّا الْجِدارُ لف ونشر مرتب بعد ذكر ركوب السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار.
كُلَّ سَفِينَةٍ فيه إيجاز بالحذف، أي صالحة، لدلالة أَعِيبَها عليه، وكذا وَأَمَّا الْغُلامُ حذف منه لفظ الكافر، لدلالة قوله تعالى: فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ.
أَبَواهُ أي أبوه وأمه، بطريق التغليب.
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ استعارة لأن الإرادة من صفات العقلاء، وإسنادها إلى الجدار استعارة ومجاز.
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفَأَرَدْنا وفَأَرادَ رَبُّكَ: أسند ما ظاهره شر لنفسه، وأسند الخير إلى الله تعالى، على سبيل الأدب مع الله تعالى.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.. زاد لَكَ هنا على ما تقدم لعدم العذر بعد التنبيه، ووسما له بقلة الثبات والصبر، مع سبق التذكير أول مرة، فاحتاج إلى الإنكار عليه بما هو أشد مرة ثانية عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي إن سألت صحبتك بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي، أي لا تجعلني صاحبا قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قد وجدت عذرا من قبلي، لما خالفتك ثلاث مرات، في مفارقتك لي.
أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية، كما روي عن ابن عباس، أو الأبلّة: أبلة بصرة، أو الناصرة، والواقع لا دليل يوثق به على صحة تعيين القرية. اسْتَطْعَما أَهْلَها طلبا منهم الطعام بضيافة أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي ينزلوهما أضيافا، مأخوذ من ضيّفه وقرئ: يُضَيِّفُوهُما مأخوذ من أضافه، أي أنزله ضيفا.
جِداراً حائطا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ يداني أو يقرب أن يسقط لميلانه، فاستعيرت(16/6)
الإرادة للمشارفة، كما أستعير لها الهم والعزم فَأَقامَهُ الخضر بعمارته، أو بعمود عمده به، وقيل:
مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس، وقيل: نقضه وبناه، وهو الشائع. لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً جعلا، حيث لم يضيفونا، مع حاجتنا إلى الطعام، وهو تحريض على أخذ الجعل للارتفاق والانتعاش به، وتعريض بأنه فضول واشتغال بما لا يعنيه.
قالَ: هذا فِراقُ أي قال له الخضر: هذا وقت الفراق بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ قبل فراقي لك لِمَساكِينَ عشرة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يعملون بها مؤاجرة لها، طلبا للكسب وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أمامهم الآن، أو خلفهم إذا رجعوا عليه، وكان رجوعهم عليه، واسمه:
جلندي بن كركر، أو منوار بن جلندي الأزدي، وهو ملك كافر يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْباً من أصحابها، منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ.
أَنْ يُرْهِقَهُما أن يغشاهما طُغْياناً وَكُفْراً لنعمتهما بعقوقه، فيلحقهما شرا، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، أو يصيبهما بالعدوى فيرتدا بإضلاله،
جاء في حديث مسلم: «طبع كافرا، ولو عاش لأرهقهما ذلك، لمحبتهما له، يتبعانه في ذلك»
قيل: اسم المقتول: خيسور.
خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وتقى وَأَقْرَبَ رُحْماً أقرب منه رحمة، وهي البر بوالديه، فأبدلهما تعالى فتاة تزوجت نبيا، فولدت نبيا، فهدى الله تعالى به أمة.
وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما الكنز: المال المدفون من ذهب وفضة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً كان أبو الغلامين تقيا صالحا، فأكرمهما الله بصلاحه في أنفسهما ومالهما. قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، واسمه كاشح أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي إيناس الرشد، وكمال الرأي، قيل:
اسمهما: أصرم وصريم رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي مرحومين من ربك، وهو مفعول لأجله، عامله: أراد وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي ما فعلت ما ذكر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، باختياري، بل بأمر إلهام من الله ما لَمْ تَسْطِعْ، أي تستطع، يقال: اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، فجمع بين اللغتين.
المناسبة:
الكلام واضح الصلة بما قبله، فهو في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى النبي، كما أنه تعالى أعطى موسى بن العلم ما لم يعلّمه الخضر. وهذا أي قتل الغلام هو الحادث الثاني بعد خرق السفينة الذي(16/7)
اختبر فيه الخضر صبر موسى، ولم يصبر لمخالفته ظاهر شريعته لأن القتل لا يكون إلا لأجل القصاص بالنفس، مع أنه قد يكون لسبب آخر.
التفسير والبيان:
قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى الذي خالف الشرط: ألم أخبرك أنك لا تتمكن من احتمال ما أفعله، ولن تسكت على ما أقوم به. ويلاحظ أنه زاد هنا لفظ لَكَ على ما سبق لأن سبب العتاب أوضح وأقوى بعد التذكير المتقدم، وتكرر المخالفة من موسى للعهد أو الشرط الذي التزمه، وإن كان قتل الغلام الوضيء الجميل الحسن الذي كان يلعب مع الغلمان في قرية أعظم جرما وأقبح من خرق السفينة، لذا قال موسى:
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً والنكر أعظم من (الإمر) في القبح. وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن إتلاف النفس أخطر من إتلاف المال.
فاعتذر موسى عليه السلام بقوله:
قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قال موسى للخضر: إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل، أو هذه المرة، فلا تجعلني صاحبا لك، قد أعذرت إلي مرة بعد مرة، حيث أكون قد خالفتك إلى الآن مرتين. وهذا كلام نادم شديد الندامة.
روى ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا ذكر أحدا، فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .(16/8)
والحادث الثالث هو:
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي فانطلق الخضر وموسى يمشيان بعد المرتين الأوليين، حتى إذا وصلا إلى قرية، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما، فرفضوا ذلك وأبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من الضيافة. وهذا إخلال بالمروءة، واتصاف بالبخل والشح، وتلك القرية هي أنطاكية.
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ أي وجد الخضر وموسى في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط، فردّه الخضر كما كان، جاء في الحديث الصحيح: أنه مسحه بيده فإذا هو قد استقام. وهذا من كراماته.
وإسناد الإرادة هنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة كما تقدم، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض: هو السقوط، والأول من أفعال العقلاء والثاني من خواص الجمادات ونحوها.
فعند ذلك قال موسى للخضر:
قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي قال موسى للخضر: ليتك تطلب أجرة على إقامة الجدار وإصلاحه، فإنه نظرا لأنهم لم يضيفونا، كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا، فأجابه الخضر:
قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي قال الخضر لموسى عليهما السلام: هذا الإنكار أو الاعتراض المتكرر سبب الفراق بيننا أو المفرّق بيننا، بحسب الشرط الذي قبلته على نفسك، فقد قلت بعد قتل الغلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي. وسأخبرك بتفسير وبيان وجه الأفعال التي أنكرتها، ولم تطق صبرا عليها، وهي خرق السفينة،(16/9)
وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا عتاب ولوم على عدم الصبر. ثم ذكر الخضر سبب ما أقدم عليه من الأمور الثلاثة:
1- أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي إن السفينة التي خرقتها لأعيبها، فكانت مملوكة لضعفاء أيتام ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فأردت بخرقها ونزع لوح منها أن أعيبها لأنه كان أمامهم ملك جبار ظالم يستولي على كل سفينة صالحة غير معيبة، ويغتصبها ظلما وعدوانا دون وجه حق، فكان عملي حماية لهذه السفينة لأصحابها الضعفاء، فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين لدفع أعظمهما.
روى ابن جريج عن شعيب الجبائي: «أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد» وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.
ويلاحظ أن المراد بقوله وَراءَهُمْ أمامهم، كقوله تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية 45/ 10] وقوله تعالى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر 76/ 27] .
2- وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أي وأما الولد الغلام الذي قتلته، وكان اسمه شمعون أو حيثور أو حيسون، فإنه كان كافرا، وقد أطلعني الله على مستقبله، وكان أبواه مؤمنين، فخشينا إذا صار كبيرا أن يحملهما حبه على متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان والمنكرات لأن حب الولد غريزة. وهذا من قبيل سد الذرائع وفتحها، فإن كل ما كان وسيلة إلى المصلحة فهو مصلحة.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي(16/10)
لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وصح في الحديث: «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» وقال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 216] .
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً أي قال الخضر العالم: فأردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه دينا وصلاحا وطهارة من الذنوب، وأقرب رحمة لوالديه، وعطفا عليهما، وبرا بهما وشفقة عليهما.
ويلاحظ أن الغلام يشمل البالغ والصغير، ويرى الجمهور أن هذا الغلام لم يكن بالغا، لذا قال موسى: نفسا زكية أي لم تذنب. وقال الكلبي: كان بالغا.
3- وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وأما الحائط الذي أصلحته، فكان لولدين صغيرين يتيمين في قرية هي أنطاكية، وكان تحته كنز، أي مال جسيم مدفون، وكان أبوهما وهو الأب السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز (وكان مالا) مدفونا حفظا لمالهما، ولصلاح أبيهما، فأمرني ربي بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف وأخذ، وأراد الله أن يبلغ الغلامان كمالهما وتمام نموهما، ويستخرجا الكنز من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، رحمة لهما، بصلاح أبيهما. والمراد بالمدينة هي القرية المذكورة سابقا: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ وهو دليل على إطلاق القرية على المدينة. والظاهر أن الغلامين كانا صغيرين بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي: «لا يتم بعد احتلام» .
ويلاحظ أنه هنا أسند الإرادة إلى الله تعالى لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله. وأما في السفينة، فأسند الفعل إلى الخضر العالم، فقال تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها كما أن الأدب يقضي إسناد الخير إلى الله، والشر إلى العباد.(16/11)
وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي إن ما فعلته من الأمور الثلاثة لم يكن باجتهادي ورأيي، ولكنه بأمر الله وإلهامه ووحيه، فالإقدام على ذلك كله من الاعتداء على المال والنفس وإصلاح الجدار، وهو لا يكون إلا بالوحي والنص القاطع.
وذلك المذكور هو تفسير ما ضاق صبرك عنه، ولم تطق السكوت عنه، ولم تصبر حتى أبيّن لك السبب والحكمة فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن الأحداث الثلاثة التي فعلها الخضر كانت من قبيل اختيار أهون الشرين، وأخف الضررين، وتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وهو معنى قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، فهي وإن كانت مستنكرة في الظاهر، وحقّ لموسى عليه السلام إنكارها والاعتراض عليها، فهي خير في الحقيقة والواقع، وذلك لا يتسنى لأحد ادعاؤه بغير وحي صريح، وأحكام العالم والنبي في غير حال الوحي تنبني على ظواهر الأمور، وفي حال الوحي تنبني على الأسباب الحقيقية الواقعية.
والوحي لا يحصل إلا لنبي أو رسول، والجمهور كما تقدم على أن الخضر كان نبيا لأن قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يدل على نبوته لأن بواطن الأفعال لا تكون إلا بوحي ولأن الإنسان لا يتعلم ولا يتّبع إلا من فوقه، وليس فوق النبي من ليس بنبي.
ويرى آخرون أن الخضر لم يكن نبيا، وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال: كان نبيا لأن إثبات النبوة(16/12)
لا يجوز بأخبار الآحاد، وهذا هو المحقق في كتب العقائد، والمراد بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي الإلهام وليس الوحي.
2- إن ترك الضيافة المندوبة شرعا من المستقبح عرفا وعقلا وشرعا، وقد تصبح أمرا واجبا في حال تعرض الجائع للهلاك، ولعل موسى والخضر عليهما السلام كانا في حالة جوع شديد، وإن لم يبلغا حد الهلاك، مما سوغ الغضب الشديد لدى موسى.
3- قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها دليل على جواز سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يسد جوعه، والاستطعام: سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة لقوله تعالى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فاستحق أهل القرية لذلك أن يذمّوا، وينسبوا إلى اللوم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة. وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء.
4- إن ضرر المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة جدار أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام، وفيه ضرر شديد.
وتسوية الجدار تمت بإعادة بنائه،
ذكر ابن الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه «قرأ: فَوَجَدا فِيها جِداراً، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ثم قال: فهدمه ثم قعد يبنيه»
وهذا الحديث صحيح السند جار مجرى التفسير للقرآن. وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه، فقام. قال القرطبي: وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء.(16/13)
5- واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحت جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارّا عليه
لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مرّ أحدكم بطربال «1» مائل، فليسرع المشي» ذكره ابن الأثير في النهاية.
6- كرامات الأولياء ثابتة، بدليل الأخبار الثابتة والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد، فالآيات: مثل ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء، وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، ومثل ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وهذا على رأي من قال: إنه ليس نبيا.
7- هل يجوز أن يعلم الوليّ أنه ولي أو لا؟ قولان للعلماء:
أحدهما- أنه لا يجوز، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بحذر وحيطة، لأنه لا يأمن أن يكون استدراجا له، ولأنه لو علم أنه وليّ، لزال عنه الخوف من الله، وحصل له الأمن من عذابه، ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصّلت 41/ 30] ولأن الولي: من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة، ولا يدري أحد ما يختم له به ولهذا
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الأصبهاني عن ابن عباس: «وإنما الأعمال بخواتيمها» .
القول الثاني- أنه يجوز أن يعلم أنه ولي إذ لا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه وليّ الله تعالى، فجاز له أن يعلم ذلك، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حال العشرة المبشرين بالجنة من أصحابه: أنهم من أهل الجنة، ولم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله تعالى، وأشد خوفا وهيبة، فغيرهم مثلهم.
__________
(1) الطربال: القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل.(16/14)
8- لا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة (عقارات) يصون بها وجهه وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم، مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم.
وأما
حديث الترمذي عن ابن مسعود: «لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا»
فمحمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله، فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» .
9- تمّ خرق السفينة وتعييبها لحفظها لأصحابها المساكين (المحتاجين المتعيشين بها في البحر) من اغتصاب ملك ظالم عات لكل سفينة صالحة، وقد احتج الشافعي بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سمّاهم مساكين، مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة.
10- حدث قتل الغلام بسبب كفره حتى لا يتأثر به أبواه، ويميلا إلى دينه، بسبب محبتهما الفطرية له، وقد أبدلهما الله خيرا منه زكاة، أي دينا وصلاحا، وأقرب رحما، أي أقرب رحمة وعطفا وشفقة عليهما.
11- إن صلاح الآباء يفيد الأبناء حتى الجيل السابع لأن أب الغلامين كان هو الأب السابع، كما قال جعفر بن محمد. وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته، وعلى هذا يدل قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف 7/ 196] .
12- قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يقتضي أن الخضر نبي، وقال جماعة: لم يكن نبيا، وهو الأصح. واسم الخضر: إيليا بن ملكان بن قالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكنيته أبو العباس، وكان أبوه ملكا. وأمه كانت بنت فارس، واسمها ألمى، ولدته في مغارة.(16/15)
وذهب الجمهور إلى أن الخضر مات
لقوله عليه الصلاة والسلام: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» «1» .
وقالت فرقة: إنه حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض، وأنه يحج البيت.
قيل: إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني، قال: كن بسّاما ولا تكن ضحّاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
13- لا تثبت الأحكام الشرعية إلا بالوحي أو برؤيا الأنبياء، ولا يصح القول بأن الأحكام تثبت للأولياء بالإلهام في قلوبهم، وما يغلب عليهم من خواطر، لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، وفتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم، واستدلوا
بحديث رواه البخاري في التاريخ عن وابصة: «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون» .
قال أبو العباس المالكي: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب لأنه إنكار ما علم من الشرائع فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم لمبلغون عنه رسالته وكلامه، المبيّنون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج 22/ 75] وقال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124]
__________
(1)
رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنت منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد» .(16/16)
وقال تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة 2/ 213] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال القرطبي: وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك: أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو مما
قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي» «1» .
14- لهذه القصة فوائد أدبية رفيعة مجملها: أن يكون المرء متواضعا غير معجب بعلمه، وأن يلتزم بعهده، فلا ينقضه ويعترض على ما لم يعرف سره، وألا يتعجل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بطلب إنزال العقوبة بالمشركين الذين كذبوه وأنكروا رسالته واستهزءوا به وبكتابه، فهم معاقبون هالكون في الدنيا والآخرة.
وتتكرر حوادث القصة مع مرور الزمان، فلا يعترض الإنسان على موت غلام صغير، فقد يكون موته خيرا له ولوالديه، كما أن وقائع الموت المتكررة رحمة بالمجتمع، فلو لم يمت كبار السن وغيرهم لضاقت الأرض بالمواليد المتجددة يوميا. وخرق السفينة يذكرنا بتسلط الظلمة على أموال الضعفاء، وهدم الجدار وإقامته لون من ألوان توفير الثروة المنتظرة ليتيم أو ضعيف من الإله الرحيم
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 40- 41. والرّوع: القلب أو العقل. والحديث رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة، وهو ضعيف.(16/17)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
بعباده الضعفاء، وفيه مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن أهل القرية الذين أبوا الضيافة قابلهم الخضر بحسن الصنيع، وهذه سمة الأنبياء والأولياء المقربين من ربهم.
وكل هذه الوقائع من فعل الله تعالى، وما الخضر وأمثاله إلا وسطاء بين الناس لتنفيذ أمر الله تعالى.
قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 99]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)(16/18)
الإعراب:
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي كيف شاء، فحذف المفعول به.
وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ: تَغْرُبُ جملة فعلية، حال من هاء وَجَدَها ووجدها: بمعنى أصابها. وليست هنا بمعنى علم، فلو كانت كذلك، لكانت الجملة مفعولا ثانيا لوجد لأن (وجد) بمعنى (علم) تتعدى إلى مفعولين. إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ ... أن وصلتها:
إما في موضع نصب بفعل مقدر، كقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد 47/ 4] وإما على تقدير مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: إما العذاب واقع منك فيهم، وإما اتخاذ أمر ذي حسن واقع فيهم، فحذف الخبر لطول الكلام بالصلة.
فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى جَزاءً منصوب على المصدر في موضع الحال، والعامل فيه: له، أي ثبتت الحسنى له جزاء. وقيل: تمييز منصوب. ومن قرأ بالرفع: (جزاء) جعله مبتدأ، وله:
خبره، أي فله جزاء الخصال الحسنى، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. والْحُسْنى مضاف إليه مجرور. ويجوز جعله بدلا مرفوعا من جَزاءً والأصل فيه التنوين، وحذفه لالتقاء الساكنين، كما حذف التنوين من أَحَدٌ في قوله تعالى: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص 112/ 1- 2] وقرئ: (جزاء) بالنصب من غير تنوين.
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَوْلًا مفعول به. وقرئ يفقهون أي يفقهون الناس قولا، فحذف المفعول الأول، وبقي قَوْلًا المفعول الثاني، ويجوز حذف أحد المفعولين لأن هذا فعل متعد.(16/19)
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً منصوب بأفرغ عند البصريين لا ب آتُونِي لأن أُفْرِغْ أقرب من آتُونِي فكان إعماله أولى لأن القرب له أثر في قوة العمل. وذهب الكوفيون إلى أن العامل فيه آتُونِي. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ بمعنى استطاعوا.
قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي إنما قال: هذا، ولم يقل: هذه لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، والتأنيث غير الحقيقي يجوز فيه التذكير، ولأن الرحمة بمعنى الغفران، فذكّره حملا على المعنى، والتذكير بالحمل على المعنى كثير في كلام العرب.
البلاغة:
مَطْلِعَ ومَغْرِبَ بينهما طباق.
حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً تشبيه بليغ، أي كالنار في الحرارة وشدة الاحمرار، حذفت أداة الشبه ووجه التشبيه.
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ استعارة تبعية في الفعل يَمُوجُ شبههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعض، بموج البحر المتلاطم.
أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى بينهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
وَيَسْئَلُونَكَ أي اليهود أو مشركو مكة. عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قيل في رأي ضعيف: هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني، وقيل: الرومي، ملك فارس والروم، وقيل: ملك المشرق والمغرب، لكن الإسكندر كافر، والأصح أنه رجل صالح حكم الدنيا غير الإسكندر، وهو على التحقيق الملك الفارسي الصالح «قورش» ولذلك سمي ذا القرنين، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، وقيل: كان له قرنان، أي ضفيرتان، وقيل: كان لتاجه قرنان، ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته، ومع الاتفاق على إيمانه وصلاحه، لم يكن على الأصح نبيا. سَأَتْلُوا سأقص. عَلَيْكُمْ مِنْهُ من حاله. ذِكْراً خبرا مذكورا، وهو القرآن. قيل: ملك الدنيا. مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: نمروذ وبختنصر.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ سهلنا له السير فيها وجعلناه قادرا على التصرف فيها كيف شاء.
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه. سَبَباً طريقا يوصله إلى مراده من علم أو قدرة أو إرادة.
فَأَتْبَعَ سَبَباً طريقا نحو الغرب، أي فأراد بلوغ المغرب، فاتبع سببا يوصله إليه. مَغْرِبَ الشَّمْسِ موضع غروبها. فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة، وهي الطين الأسود، وغروبها في(16/20)
العين الحمئة هو في مجرد رأي العين، وإلا فهي أعظم من الدنيا وأكبر، كما هو معروف. وَوَجَدَ عِنْدَها عند تلك العين الحمئة. قَوْماً كافرين.
قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ أي ألهمناه بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان. إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ القوم بالقتل على كفرهم. وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي أمرا ذا حسن بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيّر بين القتل والأسر.
قالَ أي ذو القرنين مختارا الدعوة. أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالشرك والإصرار على الكفر.
فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ نقتله. نُكْراً أي منكرا فظيعا، أو شديدا في النار. فَلَهُ في الدارين. الْحُسْنى أي الجنة، أو المثوبة وهو مبتدأ، خبره فَلَهُ وجزاء: حال أي مجزيا بها، ومن قرأ: فله جزاء الحسنى، فالإضافة للبيان أي المثوبة الحسنى. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً اليسر: السهل الميسر غير الشاق، أي نأمره بما يسهل عليه. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً نحو المشرق.
مَطْلِعَ الشَّمْسِ موضع طلوعها. تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم الزنج. مِنْ دُونِها من دون الشمس. سِتْراً من اللباس أو البناء أو السقف لأن أرضهم لا تتحمل الأبنية، ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس، ويظهرون عند ارتفاعها.
كَذلِكَ أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من بلوغه المشرق والمغرب. وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي وقد اطلعنا علما على ما عند ذي القرنين من الآيات والجند وغيرهما، مما يتعلق بظواهره وخفاياه، والمراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب، آخذا من الجنوب إلى الشمال. بَيْنَ السَّدَّيْنِ بين الجبلين المبني بينهما سدة، وهما جبلا أرمينية وأذربيجان، وقيل: جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع بلاد الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج. مِنْ دُونِهِما أمامهما. يَفْقَهُونَ قَوْلًا يفهمون قولا إلا بعد بطء، أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتلعثمهم.
قالُوا أي مترجموهم. إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما اسمان أعجميان لقبيلتين، فهما ممنوعان من الصرف، وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح. يأجوج: هم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما من أب واحد يسمى ترك وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وتنتهي غربا ببلاد التركستان. مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالنهب والبغي والقتل والتخريب عند خروجهم إلينا، قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه. وقيل: كانوا يأكلون الناس، والأصح أن يأجوج ومأجوج قوم جبارون أشداء، يمر أوائلهم على بحيرة طبرية، يبعثهم الله في عهد نزول عيسى، كما جاء في صحيح مسلم وشرحه للنووي 18/ 68.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا من المال نتبرع به من أموالنا، وقرئ: (خراجا) والخراج: ما لزم أداؤه. سَدًّا حاجزا، فلا يصلون إلينا. ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي من المال(16/21)
وغيره. خَيْرٌ من الخرج الذي تجعلونه لي، فلا حاجة بي إليه، وأجعل لكم السد تبرعا.
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس التي أطلبها منكم. رَدْماً أي حاجزا حصينا، وهو أكبر من السد وأوثق.
زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعه، جمع زبرة كغرفة، وهي القطعة العظيمة أو الكبيرة التي يبنى بها، فبنى بها وجعل بينها الحطب والفحم. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو، والصدفان: واحدها صدف وهو جانب الجبل.
قالَ للعمال. انْفُخُوا بالكيران في زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين، فنفخوا. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي الحديد. ناراً كالنار اشتغالا وتوهجا. قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً نحاسا مذابا، أي صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمي، فالتصق بعضه ببعض، وسد فجوات الحديد، وصار جبلا صلدا وشيئا واحدا.
فَمَا اسْطاعُوا أي يأجوج ومأجوج. أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته. وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً خرقا لصلابته وسمكه. قالَ: هذا قال ذو القرنين:
هذا السد، أي بناؤه وتسويته. رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي أثر رحمة أو نعمة على عباده لأنه مانع من خروجهم. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقت وعده بقيام الساعة، أو وقت خروج يأجوج ومأجوج من وراء السد. جَعَلَهُ دَكَّاءَ أو دكا مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض. أطلق المصدر وأريد اسم المفعول، ودكه: بهدمه منهم أو من غيرهم. وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي وكان وعد ربي بخروجهم وغيره كائنا لا محالة.
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الضمير عائد إلى يأجوج ومأجوج. يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون مما وراء السد، يموجون، بعضهم في بعض، ويختلطون مع بعضهم لكثرتهم، مزدحمين في البلاد. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي القرن لقيام الساعة أو البعث.
فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي جمعنا الخلائق في مكان واحد يوم القيامة للحساب والجزاء.
المناسبة:
سبق لدينا عند بيان سبب نزول قصة أصحاب الكهف، أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، وعن الروح، والمشهور أن السائلين قريش. وذو القرنين: هو الإسكندر اليوناني، كما ذكر ابن إسحاق، وقال وهب: هو رومي، وهو خطأ.(16/22)
وهذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وردت بعد قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحبي الجنة، وقصة أمر الملائكة بالسجود لآدم وإباء إبليس.
التفسير والبيان:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي ويسألك اليهود وقريش يا محمد عن خبر ذي القرنين، سؤال اختبار وتعنت، فقل لهم:
سأخبركم عنه خبرا مذكورا في القرآن بطريق الوحي المتلو المنزّل علي من ربي.
وقد تقدم أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف.
وذو القرنين: قيل: هو إسكندر بن فيلبس المقدوني اليوناني «1» الذي ملك الدنيا بأسرها قبل الميلاد بنحو 330 سنة باني الإسكندرية، وتلميذ أرسطو الفيلسوف المعلّم الأول، حارب الفرس، واستولى على ملك دارا وتزوج ابنته، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك، ثم حكم مصر، وإنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، فغلب على أكثر البلاد شرقا وغربا، قال الشوكاني: «وهذا مشكل لأنه كان كافرا وتلميذ أرسطو» والظاهر أنه عبد صالح أعطاه الله ملكا واسعا، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى:
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي إنا أعطيناه ملكا عظيما، ومكّناه فيه من جميع ما يؤتى الملوك من السلطة المطلقة المدعمة بالجنود
__________
(1) والصحيح أنه أبو كرب الحميري، واسمه أبو بكر بن إفريقش، من الدولة الحميرية (من سنة 115 ق. م- 552 ب. م) التي يسمّى ملوكها بالتبابعة جمع تبّع. والصحيح المروي عن ابن عباس أن ذا القرنين كان ملكا صالحا، انظر مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 8/ 216.(16/23)
وآلات الحرب والعلم، وأقدرناه على التصرف بحيث يصل إلى جميع أنحاء المملكة، ومهّدنا له من الأسباب والوسائل التي تمكّنه من السيطرة وبسط النفوذ أين شاء وكيف شاء، فملك مشارق الأرض ومغاربها، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العرب والعجم. فقوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه أعطيناه من كل ما يتعلق بمطلوبه طريقا يتوصل بها إلى ما يريده، وهذه الطرق هي:
1- فَأَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي فاتّبع طريقا من الطرق التي تؤديه إلى مراده، حتى إذا وصل نهاية الأرض من جهة المغرب التي ليس بعدها إلا البحر المحيط، وهو بحر الظلمات أو المحيط الأطلسي، سائرا في بلاد المغرب: تونس والجزائر ومرّاكش، فوجد الشمس تغرب في عين كثيرة الحمأة، أي الطين الأسود، وهذا ما يلاحظ من غياب قرص الشمس على ساحل المحيط المختلط بالرمال والطينة السوداء.
قال الرازي: إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة، وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا، فنقول:
تأويل قوله تعالى: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب، ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر، إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، وهذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره «1» . ثم ذكر تأويلات أخرى بعيدة القبول.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 166(16/24)
وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي وجد في أقصى المغرب عند تلك العين الحمئة قوما كفّارا وأمة عظيمة من بني آدم، فقلنا له بالإلهام: أنت مخير فيهم بين أمرين: إما أن تعذبهم بالقتل إن أصروا على الكفر، وإما أن تحسن إليهم وتصبر عليهم، بدعوتهم إلى الحق والهدى والرشاد، وتعليمهم الشرائع والأحكام.
قالَ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي قال ذو القرنين لبعض حاشيته: أما من ظلم نفسه بالإصرار على الشرك، ولم يقبل دعوتي، فسنعذبه بالقتل في الدنيا، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذابا منكرا شنيعا في نار جهنم.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي وأما من آمن بالله ووحدانيته وصدّق دعوتي، وعمل عملا صالحا مما يقتضيه الإيمان، فجزاؤه الجنة، وسنطلب منه أمرا ذا يسر غير صعب ولا شاقّ، ليرغب في دين الله، ويحب فعل أوامر الله من صلاة وصيام وزكاة وخراج ونحوها، فلا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل الميسر.
2- ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أي ثم سلك طريقا آخر متجها من مغرب الشمس إلى مشرقها، حتى إذا وصل الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمور الأرض، وجدها تطلع على قوم حفاة عراة، لا شيء يسترهم من حر الشمس، لا من اللباس، ولا من البيوت والمباني والأشجار، وإنما يعيشون في مفازة لا مأوى فيها، ولا شجر، وأكثر معيشتهم من السمك.
كَذلِكَ، وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من قبل من اتباع الأسباب، حتى بلغ المشرق والمغرب، وقد علمنا حين ملكناه(16/25)
ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به، ونحن مطلعون على جميع أحواله، لا يخفى علينا منها شيء، كما في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [آل عمران 3/ 5] أي فهو كما وصف، مما لا يعلمه إلا عالم الغيب والشهادة.
3- ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب متجها من الشرق إلى الشمال، حتى إذا وصل بين الجبلين بين أرمينية وأذربيجان، وجد من ورائهما قوما من الناس لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ونباهتهم.
هؤلاء القوم من الصقالبة (السلاف) الذين يسكنون شرقي البحر الأسود، في سد منيع بين جبلين قرب مدينة «باب الأبواب» أو «دربت» بجبل قوقاف، اكتشفه السياح في القرن الحاضر.
قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي قال سكان السد بين الجبلين، وقد فهم كلامهم ذو القرنين بتيسير الله الأسباب التي أعطاها له: أو بواسطة الترجمان: إن يأجوج ومأجوج- وهما قبيلتان من الناس- يفسدون في أرضنا بالقتل والتخريب والظلم والغشم وسائر وجوه الإفساد.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي فهل توافق على أن نعطيك جعلا أو ضريبة من أموالنا، على أن تجعل بيننا وبينهم حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟
ويرى المراغي- وليس صحيحا- أنهم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما(16/26)
من أب واحد يسمى «ترك» وكانوا يسكنون شمال آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وغربا إلى الباكستان.
ومنهم الداهية الرحالة «تموجين» الذي لقب نفسه «جنكيز خان أي ملك العالم» الذي ظهر في أوائل القرن السابع الهجري في آسيا الوسطى، فأخضع الصين الشمالية، ثم أخضع بجبروته قطب الدين بن أرميلان من السلاجقة ملك خوارزم، ثم خلفه ابنه «أقطاي» وأغار ابن أخيه «باتو» على بلاد الروس سنة 723 هـ- ودمر بولونيا والمجر، ثم قام مقامه «جالوك» فحارب الروم، ثم خلفه ابن أخيه «منجو» فقام أخوه «كيلاي» بالاستيلاء على الصين، وأخوه «هولاكو» بالاستيلاء على البلاد الإسلامية وإسقاط بغداد مقر الخلافة العباسية في عهد الخليفة المستعصم بالله، أواسط القرن السابع الهجري 656 هـ-.
وأما السد الذي أقامه ذو القرنين، وشاهده بعض المؤرخين في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي: فهو وراء جيحون في عمالة «بلخ» واسمه «باب الحديد» قرب «ترمذ» وقد اجتازه تيمور لنك، ومرّ به «شاه رخ» مع العالم الألماني «سيلد برجر» ووصفه المؤرخ الإسباني «كلافيجو» في رحلته سنة 1403 م الذي الذي كان رسولا من ملك «قشتالة» بالأندلس إلى تيمورلنك، وقال: إن سد «باب الحديد» على الطريق الموصل بين سمرقند والهند «1» .
قالَ: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً قال ذو القرنين: ما مكنني فيه ربي، وآتاني من سعة الملك والقدرة ووفرة المال، خير من خرجكم ومما تجمعون، كما قال سليمان عليه السلام: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل 27/ 36] .
__________
(1) تفسير المراغي: 16/ 13- 15(16/27)
ولكن ساعدوني بقوة، أي بعمل الرجال وآلات البناء، أجعل بينكم وبينهم سدّا منيعا وحاجزا حصينا، ثم أوضح المراد من القوة بقوله:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ: انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي قدّموا لي قطع الحديد، فلما جاؤوا بها، أخذ يبني بها بين الجبلين، فيضع بعضها على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا على هذه الزّبر (القطع) بالكيران، حتى صار كله نارا مشتعلة متوهجة، ثم صب النحاس المذاب على الحديد المحمّى، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد.
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أي ما قدر يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من أسفله، لصلابته وشدّته. وأراح الله منهم الشعوب المجاورة لفسادهم وسوئهم.
وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين:
قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم أو بالناس لحيلولته بين يأجوج ومأجوج وبين الفساد في الأرض، فإذا حل أجل ربي بخروجهم من وراء السد، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه وخروج يأجوج ومأجوج وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة.
وتم فعلا خروج جنكيز خان وسلالته، فعاثوا في الأرض فسادا في الشرق والغرب، ودمروا معالم الحضارة الإسلامية، وأسقطوا الخلافة العباسية سنة 656 هـ-.(16/28)
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: استيقظ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نومه، وهو محمر وجهه، وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلّق، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» .
وقد اتسعت الحلقة حتى كبرت في منتصف القرن السابع الهجري، بخروج التتر والمغول، واجتياح البلاد الإسلامية، وتدمير صرح الخلافة الإسلامية وإسقاطها في بغداد سنة 656 هـ-، كما حكى القرآن في قوله تعالى:
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي وتركنا بعض الناس يوم خروج يأجوج ومأجوج يضطرب ويختلط مع بعض آخر، فيكثر القتل، وتفسد الزروع، وتتلف الأموال، كما أخبر تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء 21/ 96] . وذلك كله قبل قيام القيامة وقبل النفخ في الصور بزمن غير معلوم لنا. ويرى مفسرون آخرون أن معنى الآية: أنهم يضطربون ويختلطون كموج البحر يوم القيامة، في أول أيامها. ورجح القرطبي القول بأنه تركنا يأجوج ومأجوج وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض.
وإذا اقترب موعد القيامة نفخ في الصور، وهي النفخة الثانية، وجمعنا الناس جمعا بأن أحييناهم بعد تلاشي أبدانهم وصيرورتها ترابا، وأحضرناهم إلى المحشر والحساب جميعا، كما في آيات أخرى، منها: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة 56/ 49- 50] ومنها:
وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 18/ 47] . والصور كما
جاء في الحديث الثابت: قرن ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.(16/29)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- إن ذا القرنين أحد الملوك المؤمنين الذين ملكوا الدنيا وسيطروا على أهلها، فقد آتاه الله ملكا واسعا، ومنحه حكمة وهيبة وعلما نافعا، ونحن لا نقطع بمعرفته بالذات، ولا نؤمن إلا بالقدر الذي حكاه القرآن المجيد.
روي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان:
سليمان بن داود وإسكندر، والكافران: نمروذ وبختنصّر. قال ابن إسحاق:
وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتي ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلّط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق.
2- هيّأ الله تعالى لذي القرنين الأسباب التي توصله إلى مراده، وأخبرنا عن وقائع ثلاث حدثت له في المغرب والمشرق والوسط. أما في مغرب الشمس فقد وجد قوما كافرين، فخيّره الله بين أمرين: إما التعذيب بالقتل والإبادة جزاء كفرهم وطغيانهم، وإما الاستبقاء والإرشاد إلى الحق والهدى وتوحيد الله، فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة إلى الله، وأقام فيهم مدة ردع فيها الظالم، ونصر المظلوم، وأقام العدل، ودعا إلى الله تعالى.
وأما في المشرق فوجد قوما بدائيين يعيشون في بقعة رملية لا يستقر فيها بناء، ولا يستترون فيها بظل شجر أو سقف بيت، قال الحسن البصري: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.
وقال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، كانوا في مكان لا يستقر عليه(16/30)
بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم، يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها.
والقولان يدلان على ألا مدنية هناك، وربما يكون منهم من يدخل في الماء، ومنهم من يدخل في السّرب، فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.
وهذا تأريخ لحال جماعة بدائية تعيش على صيد الأسماك، دون ستر ولا مأوى، مما يستوجب على أهل المدينة شكر النعمة العظمى على العيش بأمان وارتياح تحت ظلال الأشجار وفي ردهات المنازل.
وأما رحلة ذي القرنين إلى الشمال بين الشرق والغرب وبين السدين وهما جبلان بين أرمينية وأذربيجان، فكانت إنقاذا لشعب مقهور مستضعف يتعرض لغارات القبائل المتوحشة، فيفسدون في الأرض، فبنى لهم سدا منيعا حصينا حماهم من تلك الموجات الغازية، وأعلمهم أن بقاءه مرهون بإرادة الله. وهذا مثل فيه عبرة للدول القوية التي يجب عليها المحافظة على الشعوب الضعيفة، والإبقاء على ثرواتها دون أخذ شيء منها، منعا من الاسهام في إضعافها، وأخذا بيدها نحو الأفضل، وإغاثتها وإنقاذها من التخلف والضياع، فإن ذا القرنين ملك الدنيا أبى أن يأخذ شيئا من أموال أولئك الأقوام، بالرغم من بناء السد الحصين.
3- قال القرطبي: في هذه الآية (آية السد) دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون، أو يكفلون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه «1» .
4- إن أهل الصلاح والإخلاص يحرصون على إنجاز الأعمال ابتغاء وجه الله،
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 59(16/31)
دون انتظار مقابل أو عوض دنيوي من الناس، فإن ذا القرنين الذي أيده الله قال: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي بالرجال وعمل الأبدان والآلة التي أبني بها السد (الردم) . وهذا بداية النجاح في العمل، فإن القوم لو جمعوا له خرجا، لم يعنه أحد، ولتركوه يبني، فكان عونهم أسرع في إنجاز العمل وإنجاح المشروع.
5- تدل الآية أيضا: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ على أن من واجب الملك أو الحاكم أن يقوم بحماية الخلق في حفظ ديارهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم، بشروط ثلاثة هي:
الأول- ألا يستأثر عليهم بشيء.
الثاني- أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم.
الثالث- أن يسوّي في العطاء بينهم على قدر منازلهم.
فإذا احتاج الحاكم إلى دعم رعيته، بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، ويؤخذ بقدر الحاجة من أموالهم، وتصرف بتدبير، فهذا ذو القرنين أبى أخذ شيء من أموال القوم، قائلا: إن الأموال عندي والرجال عندكم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى.
وضابط الأمر: أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر «1» .
6- إن الحديد والنحاس من مرتكزات الصناعة الثقيلة قديما وحديثا، فقد كانا أداة بناء السد المنيع على يد ذي القرنين، وهما الآن المادة الأساسية في الصناعات المختلفة الحربية والسلمية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 60(16/32)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
جزاء الكفار
[سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 106]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
الإعراب:
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ بدل من (الكافرين) .
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل فَحَسِبَ وأَنْ يَتَّخِذُوا أن وصلتها في موضع نصب، سدت مسد مفعولي فَحَسِبَ.
وعِبادِي مفعول أول ليتخذوا، وأَوْلِياءَ مفعول ثان.
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا تمييز منصوب، وجمع التمييز ولم يفرد: إشارة إلى أنهم خسروا في أعمال متعددة، لا في عمل واحد.
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ خبر لمحذوف، أو بدل، أو منصوب على الذم ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر، وجَهَنَّمُ عطف بيان للخبر.(16/33)
البلاغة:
كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي استعارة تمثيلية، شبه إعراضهم عن الآيات الكونية وعدم النظر فيها، وبالتالي عدم الإيمان. بمن ألقى غطاء على عينيه، على سبيل التمثيل.
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً جناس ناقص أو جناس التصحيف لتعير الشكل وبعض الحروف.
المفردات اللغوية:
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أبرزناها وأظهرناها لهم فِي غِطاءٍ أي غشاوة محيطة بها عَنْ ذِكْرِي أي القرآن، أو الآيات الموصلة إلى ذكري بتوحيدي وتمجيدي وتعظيمي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي لا يقدرون استماعا لذكري وكلامي، بغضا له، وصمما عن الحق، فلا يؤمنوا به إذ لا استطاعة بهم للسمع. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أظنوا، والاستفهام للإنكار أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي أي الملائكة والمسيح عيسى وعزير مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أربابا، المعنى: أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني، ولا أعاقبهم عليه؟ كلا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من هؤلاء وغيرهم نُزُلًا ما يقام للنزيل، أي هي معدة لهم كالمنزل المعد للضيف. وفيه تهكم.
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا جمع التمييز وهو: أَعْمالًا لتنوع أعمالهم الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ بطل وضاع عملهم لكفرهم وعجبهم وَهُمْ يَحْسَبُونَ يظنون يُحْسِنُونَ صُنْعاً عملا يجازون عليه، لعجبهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم على الحق.
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالقرآن، أو بدلائله الدالة فيه على التوحيد والنبوة وَلِقائِهِ بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، أو لقاء عذابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي لا نجعل لهم قدرا، وإنما نزدريهم.
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ أي الأمر الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وغيره، هو جزاؤهم هُزُواً هزؤا، أي مهزؤا بهما.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه بنفخ الصور يوم القيام، يقوم الناس من قبورهم، ثم يجمعون في صعيد واحد للحساب والجزاء، ذكر أنه حينئذ يظهر(16/34)
النار للكافرين، وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين، ويظن الكافرون أن اتخاذهم معبودات من دون الله ينجيهم من عذابه، ولكن حبطت أعمالهم وبطلت، وصارت عديمة النفع بسبب كفرهم.
والحاصل: أن الله تعالى يخبر عما يفعله بالكفار يوم القيامة، من عرض جهنم عليهم، أي إبرازها وإظهارها لهم، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولهم، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، ويخبر تعالى أيضا أنه لا يقام لهم وزن أو قدر، وأن أعمالهم قد أحبطت وضاعت بسبب كفرهم.
التفسير والبيان:
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً أي أظهرنا جهنم وأبرزناها إبرازا واضحا للكفار بالله بعد النفخة الثانية في الصور، حتى يشاهدوا أهوالها، يوم جمعنا لهم.
وأوصاف الكفار هي:
1- التعامي وإبعاد السمع عن الحق: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي إن عذاب جهنم لأولئك الذين تغافلوا وتعاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، ولم ينظروا في آيات الله ولم يتفكروا فيها، حتى يتوصلوا إلى توحيد الله وتمجيده، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] وكانوا لا يطيقون سماع ذكر الله الذي بيّنه لهم في كتابه، ولا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
والخلاصة: إنهم تعاموا عن مشاهدة آي الله بالأبصار، وأعرضوا عن الأدلة السمعية المذكورة في كتاب الله، كما قال تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] وقال سبحانه: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت 41/ 5] .(16/35)
2- عبادة معبودات من دون الله: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أي أفطن أو اعتقد الذين كفروا بي، واتخذوا أولياء أي معبودات من دوني كالملائكة والمسيح والشياطين أن ذلك ينفعهم، أو يدفع عنهم العذاب؟ كلا، لا تنفعهم تلك المعبودات، وسيظهر لهم خطؤهم، كما قال تعالى: كَلَّا، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 82] لذا أخبر تعالى عن عذابهم قائلا:
إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي إنا أعددنا وهيأنا لهؤلاء الكافرين بالله جهنم يوم القيامة منزلا ينزلون به، كما يعدّ النزل للضيف، بسبب اتخاذهم أولياء (أي معبودين) من دوني، وهذا تهكم بهم، وتخطئة لحساباتهم.
3- الجهل والغباء: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي قل لهم يا محمد:
هل نخبركم أيها الناس بأشد الناس خسرانا لأعمالهم وخطأ في حسابهم؟ هم الذين ضلوا في الحياة، فعملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مرضية مقبولة، وأتعبوا أنفسهم فيما لا نفع فيه، فهلكوا وضيعوا ثمار أعمالهم، وهم قوم مخدوعون بما هم عليه، يظنون أنهم محسنون في ذلك العمل، منتفعون بآثاره، مقبولون محبوبون. والآية توبيخ شديد لهم، مفادها الموجز: قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا، فهم الأخسرون أعمالا.
وسبب خسارة أعمالهم هو ما قال الله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي إن أولئك الأخسرين أعمالا هم الذين جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التكوينية والتنزيلية الدالة على توحيده، وكفروا وكذبوا بالبعث والحساب ولقاء الله وما بعده من أمور الآخرة، فحبطت وبطلت أعمالهم(16/36)
التي عملوها مما يظنونه حسنا، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] فلا يقام وزن لأعمالهم ولا يكون لهم عندنا قدر، ولا نعبأ بهم، ولا ثواب على تلك الأعمال لأنها خالية من الخير.
وحينئذ يكون جزاؤهم العادل على كفرهم ومعاصيهم جهنم لقوله تعالى:
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي إن ذلك الوعيد والجزاء على أعمالهم الباطلة في نار جهنم إنما هو بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله، وسخريتهم من رسل الله ومن معجزاتهم، فإنهم استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب. والهزء: الاستخفاف والسخرية.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
1- إثبات البعث والحشر، بجمع الجن والإنس في ساحات القيامة بالنفخة الثانية في الصور.
2- إبراز جهنم إبرازا ظاهرا واضحا للكفار بعد الحشر بسبب عدم النظر في دلائل الله تعالى على وجوده ووحدانيته، وعدم إطاقتهم سماع كلام الله تعالى، فهم بمنزلة العمي والصمّ. وفي هذا نوع من العقاب النفساني المؤلم بسبب ما ينتابهم حينئذ من الغم والكرب العظيم.
3- يخطئ الكفار حين يظنون أن اتخاذهم معبودين من دون الله، كعيسى وعزير والملائكة ينفعهم يوم القيامة، وأن الله لا يعاقبهم على ذلك، كلا، فإن الله أعد لهم جهنم منزلا ومأوى.
4- إن أشد الناس خسارة يوم القيامة هم الذين ضل سعيهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا في عبادة من سوى الله، فهم الأخسرون أعمالا، روى(16/37)
البخاري عن مصعب قال: سألت أبي: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية (أي الخوارج) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين.
والحقيقة أن الآية تشمل جميع أهل الضلال سواء من أهل الكتاب أو من المشركين.
5- في هذه الآية: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ.. دلالة على أن من الناس من يعمل العمل، وهو يظن أنه محسن، وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي: إما فساد الاعتقاد أو المراءاة.
6- إن سبب خسارة أعمال أهل الضلال هو الكفر بآيات الله وبالبعث، وهذا يشمل مشركي مكة عبدة الأوثان، وأهل الكتاب أيضا لأن إيمان هؤلاء بالبعث مشوّة غير صحيح.
7- إن عقاب هؤلاء الضالين على أعمالهم الباطلة ثلاثة أنواع: إحباط الأعمال، وإهدار الكرامة والاعتبار، والعذاب في نار جهنم، فلا ثواب على أعمالهم ولا نفع فيها، ولا يقيم الله عز وجل لهم وزنا، ويصلون جهنم، قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشّروب، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. وهذا في حكم المرفوع،
وقد ثبت معناه في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . والمعنى: أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار.(16/38)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
8- كرر الله تعالى ذكر سبب العذاب لهؤلاء الكفار للتأكيد، فأخبر بأن جزاءهم جهنم بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله وتكذيبهم رسل الله، وإنكارهم معجزات الأنبياء.
جزاء المؤمنين وسعة معلومات الله وتوحيده
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها حال.
لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا حِوَلًا مفعول لا يَبْغُونَ أي لا يطلبون ولا يتمنون عنها متحولا.
وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً مَدَداً تمييز.
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أن: المكفوفة بما: باقية على مصدريتها، والمعنى: يوحى إلي وحدانية الإله.
المفردات اللغوية:
كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من علم الله وحكمه ووعده الْفِرْدَوْسِ أعلى درجات الجنان وأوسطها، والإضافة إليه للبيان، وأصله: البستان الذي يجمع أشجار الفاكهة نُزُلًا منزلا لا يَبْغُونَ لا يطلبون حِوَلًا تحولا إلى غيرها إذ لا يجدون أطيب منها، حتى تنازعهم إليه أنفسهم لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً أي لو كان ماء البحر ما يكتب به من الحبر، وأصله: ما يمدّ به(16/39)
الشيء، كالحبر للدواة لِكَلِماتِ رَبِّي لكلمات علمه وحكمته ومعلوماته غير المتناهية، بأن تكتب به لَنَفِدَ الْبَحْرُ في كتابتها تَنْفَدَ تفرغ وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل البحر مَدَداً زيادة فيه، لنفد، ولم تفرغ هي.
أَنَا بَشَرٌ آدمي يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ يأمل ويطمع حسن لقائه بالبعث والجزاء.
والرجاء: تأمل شيء سارّ في المستقبل، ولِقاءَ رَبِّهِ هو البعث وتوابعه. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يرتضيه الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أي بأن يرائي في عبادته، أو يطلب منه أجرا.
سبب النزول:
نزول الآية (109) :
قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ: أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وقالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة، فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية.
نزول الآية (110) :
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا:
أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئا، حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً خبر مرسل، وأخرجه الحاكم في المستدرك موصولا عن طاوس عن ابن عباس، وصححه على شرط الشيخين (البخاري ومسلم) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان رجل من المسلمين يقاتل، وهو يحب أن يرى مكانه، فأنزل الله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية.(16/40)
وأخرج أبو نعيم وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس قال: قال جندب بن زهير: إذا صلى الرجل، أو صام، أو تصدق، فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس له، فنزلت في ذلك: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أعد للكافرين، ذكر ما أعد للمؤمنين، ثم ختم السورة ببيان سعة علم الله واتساع معلوماته وأنها غير متناهية، والاعلام ببشرية النبي ومماثلته لبقية الناس في ذلك، وأن علمه مستمد من الوحي الإلهي، والتنبيه على الوحدانية، والحض على ما فيه النجاة في الآخرة. قال البيضاوي: والآية جامعة لخلاصة العلم والعمل، وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة، بالبعد عن الرياء وهو الشرك الأصغر أو الخفي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أصداد صفات الكافرين الذين ذكروا قبل المؤمنين، فيقول:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا أي إن السعداء هم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا صالح الأعمال من إقامة الفرائض والتطوعات، ابتغاء رضوان الله، لهم جنات الفردوس (وهي أعلى الجنة وأوسعها وأفضلها) منزلا معدّا لهم، مبالغة في إكرامهم. والفردوس في كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وفي اللغة الرومية: البستان.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة» .(16/41)
خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي مقيمين ساكنين فيها على الدوام، لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، ولا يريدون تحولا عنها.
أخرج أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة، كل درجة منها ما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومن فوقها يكون العرش، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس» .
ثم يخبر الله تعالى عن عظمة شأن القرآن وسعة علم الله، فيقول:
قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي قل أيها الرسول لهم: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وكان ماء البحر حبرا للقلم الذي يكتب به، والقلم يكتب، لنفد البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك، ولو جيء بمثل البحر آخر وآخر وهكذا لنفد أيضا، ولم تنفد كلمات الله. وهذا دليل على كثرة كلمات الله، وسعة علم الله وحكمته وأسراره، بحيث لا تضبطها الأقلام والكتب.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان 31/ 27] .
وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ ... الآية، يقول: لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كجنة من خردل في خلال الأرض كلها.(16/42)
وروي أن حييّ ين أخطب اليهودي قال: في كتابكم: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقرؤون: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي أنه يعترض بوجود التناقض، فنزلت هذه الآية، يعني أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
وبعد بيان كمال كلام الله، أمر تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع فقال:
قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي قل يا محمد لهم: ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية، ليس لي صفة الملكية أو الألوهية، ولا علم لي إلا ما علمني الله، إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، فلا شريك له في ألوهيته، فمعبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو معبود واحد لا شريك له.
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي فمن آمن بلقاء الله، وطمع في ثواب الله على طاعته، فليتقرب إليه بصالح الأعمال، وليخلص له العبادة، وليجتنب الشرك بعبادة الله، أحدا من مخلوقاته، سواء أكان شركا ظاهرا كعبادة الأوثان، أم شركا خفيا كفعل شيء رياء أو سمعة وشهرة، والرياء: هو الشرك الأصغر، كما
في حديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟» .
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يرويه عن ربه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك» .(16/43)
قال الرازي: أورد تعالى في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات:
أولها- قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ.
وثانيها- قوله: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا.
وثالثها- قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ولا بيان أقوى من ذلك «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- للمؤمنين بالله ورسله الذين يعملون صالح الأعمال جنات الفردوس التي هي أعلى الجنان، وهم خالدون دائمون فيها، لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها.
2- لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يحصر كلمات الله تعالى وعلمه وحكمته وأسراره، ولو كانت البحار والمحيطات وأمثالها دون تحديد حبرا يكتب به.
قال ابن عباس: قالت اليهود، لما قال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالوا: وكيف، وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً.. الآية.
3- أمر الله رسوله بالتواضع، وبإعلان صفة البشرية وأنه لا امتياز له على غيره بشيء من الصفات، وأنه لا يعلم إلا ما علّمه الله تعالى، وعلم الله لا يحصى، إلا أن الله تعالى أمره بأن يبلّغ غيره بأن لا إله إلا الله.
4- دلت الآية: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ على مطلوبين:
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 177(16/44)
الأول- أن كلمة إنما تفيد الحصر، وهي قوله: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
والثاني- أن كون الإله تعالى إلها واحدا يمكن إثباته بالأدلة السمعية.
5- إن المؤمن بربه الذي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه يجب عليه أن يعمل العمل الصالح المرضي لله، وألا يشرك بالله أحدا في عبادته.
قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، قال: يا رسول الله، إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد به وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطّلع عليه سرّني فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن الله طيّب، ولا يقبل إلا الطيّب، ولا يقبل ما شورك فيه» فنزلت الآية.
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا..» .
والآية عامة في جميع الأعمال من عبادة وجهاد وصدقة وغيرها، وموضوعها إخلاص العمل لله عزّ وجلّ. سئل الحسن البصري عن الإخلاص والرياء فقال:
من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك، ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول: هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكّر قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا [المؤمنون 23/ 60] ، يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم. وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا قيل له: كيف يكون هذا؟
قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله والدار الآخرة، فهو رياء.(16/45)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة مريم
مكية، وهي ثمان وتسعون آية.
تسميتها:
سميت «سورة مريم» لاشتمالها على قصة حمل السيدة مريم، وولادتها عيسى عليه السلام، من غير أب، وأصداء ذلك الحمل، وما تبعه ورافق ولادة عيسى من أحداث عجيبة، من أهمها كلامه وهو طفل في المهد.
مناسبتها لما قبلها:
اشتملت السورتان على قصص عجيبة، فسورة الكهف اشتملت على قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة، بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من المثيرات، وقصة ذي القرنين.
وسورة مريم فيها أعجوبتان: قصة ولادة يحيى بن زكريا عليه السلام حال كبر الوالد وعقم الوالدة أي بين شيخ فان وعجوز عاقر، وقصة ولادة عيسى عليه السلام من غير أب.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع السورة كسائر السور المكية هو إثبات وجود الله ووحدانيته، وإثبات البعث والجزاء من خلال إيراد قصص جماعة من الأنبياء، على النحو التالي:(16/46)
1- افتتحت السورة بقصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام، من أب شيخ كبير وأم عاقر لا تلد، ولكن بقدرة الله القادر على كل شيء، خلافا للمعتاد، وإجابة لدعاء الوالد الصالح، وأعقبه الخبر بإيتاء يحيي النبوة في حال الصبا، الآيات [1- 15] .
2- أردف ذلك قصة ولادة عيسى من مريم العذراء، من غير أب، لتكون دليلا آخر على القدرة الربانية. وقد أثار ذلك موجة من النقد واللوم والتعنيف، خفف منها كلام عيسى وهو طفل في المهد، تبرئة لأمه، ووصف نفسه بصفات النبوة والكمال.
واقترن المخاض بحدثين غريبين: هما نداء عيسى أمه حين الولادة بألا تحزن، فقد جعل الله عندها نهرا، وأمرها بهز النخل أخذا بالأسباب لإسقاط الرطب، الآيات [16- 36] .
وأحدثت هذه الولادة اختلافا بين النصارى في شأن عيسى، الآيات [37- 40] .
3- انتقلت الآيات بعدئذ إلى بيان جانب من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، ومناقشته أباه في عبادة الأصنام، وإكرام الله له بهبته- وهو كبير، وامرأته سارّة عاقر- ولدا هو إسحاق ومن بعده ابنه يعقوب وجعلهما نبيين، كما حدث فعلا من ولادة إسماعيل قبل ذلك، وإبراهيم شيخ كبير بعد دخوله على زوجته هاجر، الآيات [41- 50] .
4- ثم تحدثت السورة عن قصة موسى ومناجاته ربه في الطور، وجعل أخيه هارون نبيا، الآيات [51- 53] .
5- ثم أشارت إلى قصص إسماعيل الموصوف بصدق الوعد وإقامة الصلاة(16/47)
وإيتاء الزكاة، وإدريس الصدّيق النبي، وما أنعم الله به على أولئك الأنبياء من ذرية آدم لإثبات وحدة الرسالة بدعوة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك الآيات [54- 58] . وما سبق كله يشمل حوالي ثلثي السورة.
6- قورن الخلف بالسلف، وبان الفرق بأن الخلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وجدد الوعد بجنات عدن لمن تاب وعمل صالحا [59- 63] .
7- ناسب ذلك الكلام عن الوحي، وأن جبريل لا ينزل بالوحي إلا بإذن ربه، الآيات [64- 65] .
8- ناقش الله المشركين الذين أنكروا البعث، وأخبر بحشر الكافرين مع الشياطين، وإحضارهم جثيا حول جهنم، وبأن جميع الخلق ترد على النار [66- 72] .
9- أبان الله تعالى موقف المشركين حين سماع القرآن من المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا ومجتمعا. وهددهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم السابقة بسبب عتوهم واستكبارهم، وأنه يمدّ للظالمين ويمهلهم، ويزيد الهداية للمهتدين، وأن معبودات المشركين ستكون أعداء لهم [73- 84] وذلك كله لتنزيه الله عن الولد والشريك.
10- التمييز بين حشر وفد المتقين إلى الجنان، وسوق المجرمين إلى النيران [85- 87] .
11- التنديد بمن ادعى الولد لله، والرضا عن المؤمنين الصالحين، وأن القرآن لتبشير المتقين وإنذار الكافرين المعاندين [88- 98] .
فضلها:
روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن(16/48)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
دعاء زكريا عليه السلام طالبا الولد وبشارته بيحيى
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
الإعراب:
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نادى رَبَّهُ ذِكْرُ إما مبتدأ محذوف الخبر، أي فيما يملى عليكم ذكر رحمة ربك، وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هذا ذكر رحمة ربك. وذِكْرُ مصدر مضاف إلى المفعول وهو رَحْمَتِ ورحمة: مصدر مضاف إلى الفاعل، وعَبْدَهُ مفعول منصوب بالمصدر المضاف وهو رَحْمَتِ رَبِّكَ. وزَكَرِيَّا بدل من عَبْدَهُ. وإِذْ نادى إِذْ منصوب على الظرف متعلق بذكر.(16/49)
شَيْباً تمييز منصوب، أو منصوب لأنه مصدر، والأول أظهر.
بِدُعائِكَ مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف، أي ولم أكن بدعائي إياك.
يَرِثُنِي إما مجزوم على جواب الأمر، وهو في الحقيقة جواب شرط مقدر، أي هب لي إن تهب لي يرث، وإما مرفوع على أنه صفة لقوله: وَلِيًّا أي فهب لي من لدنك وليا وارثا.
والوجهان هما في قوله: رِدْءاً يُصَدِّقُنِي.
عِتِيًّا منصوب ببلغت، وهو مصدر «عتا» .
قالَ: كَذلِكَ الكاف: خبر مبتدأ محذوف، أي قال الأمر كذلك سَوِيًّا حال من ضمير تُكَلِّمَ.
أَنْ سَبِّحُوا إما مفسّرة بمعنى «أي» وإما مخففة من الثقيلة، أي أنه سبّحوا.
البلاغة:
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.
اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً استعارة تبعية، شبه انتشار الشيب باشتعال النار في الحطب، وأستعير الاشتعال للانتشار، وهذا من أحسن الاستعارة وأبدعها في كلام العرب.
نادى نِداءً جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
كهيعص حروف مقطعة قصد بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع في أول الكلام مثل ألا ويا وغيرهما، كما قصد بها التحدي للعرب في الإتيان بمثل القرآن المكون من حروف اللغة العربية التي يتكلمون ويخطبون ويكتبون بها.
زَكَرِيَّا من ولد سليمان بن داود عليهم السلام، وكان نجارا نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا أي دعاه سرا في جوف الليل لأنه أسرع للإجابة، واختلف في سنه حينئذ فقيل 60، أو 70، أو 75، أو 85، أو 99 وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف جميعه بسبب الكبر وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أي صار الشيب منتشرا في شعره، كما تنتشر النار في الحطب وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ أي وإني أريد أن أدعوك، ولم أكن بدعائي إياك شَقِيًّا خائبا غير مستجاب الدعوة فيما مضى، فلا تخيبني فيما يأتي.(16/50)
الْمَوالِيَ هم عصبة الرجل، الذين يلونه في النسب، كبني العم. مِنْ وَرائِي بعد موتي، وخوفي منهم على الدين أن يضيعوه، كما شاهدته في بني إسرائيل من تبديل الدين وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقرة، أي عقيمان فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ من عندك وَلِيًّا ولدا من صلبي مِنْ آلِ يَعْقُوبَ جدي في العلم والنبوة، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان، وكان زكريا زوجا لخالة مريم رَضِيًّا أي مرضيا عندك.
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي مسمى بيحيى، فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله أَنَّى كيف عِتِيًّا من عتا: أي يبس، يبست مفاصله وعظامه، قيل: كان عمره: مائة وعشرين سنة، وبلغت امرأته ثمانية وتسعين سنة، وقرئ: عسيّا بمعنى عتيا قالَ: كَذلِكَ أي الأمر كذلك من خلق غلام منكما في هذه السن هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قبل خلقك، بل كنت معدوما صرفا. وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء.
آيَةً علامة أعلم بها وقوع ما بشرتني به ثَلاثَ لَيالٍ أي بأيامها، بدليل ذكر الأيام في سورة آل عمران: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. سَوِيًّا أي سوي الخلق سليم الجوارح بلا علة، ما بك من خرس ولا بكم الْمِحْرابِ المصلّى وكانوا ينتظرون فتحه، ليصلوا فيه بأمره على العادة فَأَوْحى أشار، أو أومأ سَبِّحُوا صلوا أو نزهوا ربكم، والمتفق عليه أنه أراد بالتسبيح الصلاة بُكْرَةً وَعَشِيًّا طرفي النهار، أوائل النهار وأواخره على العادة، أي صلاة الفجر وصلاة العصر، فعلم من امتناعه من الكلام حمل زوجته بيحيى.
قصة زكريا عليه السلام:
ذكر زكريا في القرآن الكريم ثماني مرات، في الآيتين [37، 38] من آل عمران، وفي الأنعام الآية [85] ، وفي مريم الآيتان [2، 7] ، وفي الأنبياء الآية [89] .
وكان لزكريا أبي يحيى شركة في خدمة الهيكل، فهو (لاوي) وكانت مريم التي نذرتها والدتها لخدمة الهيكل من نصيب زكريا وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا. وكان زكريا زوجا لخالة مريم أو لأختها. ولما رأى زكريا إكرام الله تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، دعا أن يرزقه الله تعالى الولد: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قالَ:(16/51)
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ
[آل عمران 3/ 38] ، فاستجاب الله دعاءه، وبشرته الملائكة بيحيى، وقد كان في سن الشيخوخة وامرأته عاقر: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَسَيِّداً، وَحَصُوراً، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران 3/ 39] فتعجب زكريا من البشرى قائلا: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ، قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ
وفي سورة مريم: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قالَ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [8- 9] .
ووالده اسمه (برخيا) ويلاحظ أنه يوجد شخص آخر اسمه (زكريا بن برخيا) له كتاب قانوني عند النصارى، وكان في زمن (داريوس) قبل زمن المسيح عليه السلام بما يقرب من ثلاثة قرون «1» .
التفسير والبيان:
كهيعص تقرأ هكذا: كاف، ها، يا، عاين، صاد بإدغام نون عاين في الصاد، ويتعين في الكاف والصاد منها المدّ المطول ست حركات بثلاث ألفات، ويتعين في الهاء والياء المد الطبيعي حركة واحدة بألف واحدة، ويجوز في العين المد المطول وقصره بحركتين بمقدار ألفين.
والمراد بهذه الحروف المقطعة التنبيه في أول الكلام على ما يأتي بعدها، وتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه، ما دام الكلام القرآني مركبا من حروف الهجاء العربية التي يتركب منها الكلام العربي نثرا وخطابة وشعرا. ولا يصح القول بأن هذه الأحرف مبهمات أو تشير إلى أسرار معينة أو أنها
__________
(1) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 368.(16/52)
علم (اسم) أو وصف لأنه كما قال الرازي: لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة، لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطنا، واللغة لا تدل على ما ذكروه، فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الملائكة أو الجنة أو النار، فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكما لا تدل عليه اللغة أصلا «1» .
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا أي هذا المتلو ذكر رحمة ربك الذي نقصه عليك عبده زكريا، الذي كان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل، وزوجته خالة عيسى عليه السلام، وأنه- كما في صحيح البخاري- كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة، حين دعا ربّه دعاء خفيّا مستترا، إخلاصا وبعدا عن الرياء، ولئلا ينسب في طلب الولد- وهو عجوز كبير- إلى الرعونة، ويكون محل اللوم والتهكم من قومه.
والمراد بذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها وإجابة الله دعاء زكريا وهو:
قالَ: رَبِّ، إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي قال زكريا:
يا ربّ، لقد صرت فاتر العظام، ضعيف القوى، هرما كثير الشيب جدا، ولم أعهد منك إلا إجابة الدعاء، ولم تردّني قط فيما سألتك، فما كنت خائبا، بل كلما دعوتك استجبت لي، وإني خفت أقاربي العصبات من بني العم ونحوهم إهمال أمر الدين وتضييعه بعد موتي، فطلبت ولدا نبيا من بعدي يحرس بنبوته شأن الدين والوحي، وكانت امرأتي (وهي أخت حمنة أم مريم) عاقرا لا تلد. واسم امرأته: إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، أخت حمنة بنت فاقوذا، وعلى هذا يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 179.(16/53)
ويلاحظ أنه ذكر مسوغات ثلاثة لدعائه، تستدعي العطف والرحمة والشفقة، وهي:
1- ضعف البدن باطنا وظاهرا، أي ضعف العظام وظهور الشيب.
2- كونه مستجاب الدعاء، فلم يكن في وقت من الأوقات خائبا، بل كان كلما دعا ربه أجابه.
3- خوفه من ورثته من ضياع الدين وما يوحى إليه بعد موته، ولم يكن خوفه من إرث المال، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من الإشفاق على ماله، ولأنه لم يكن ذا مال، وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده، ولأنه كما
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة»
وفي رواية الترمذي: «نحن معشر الأنبياء لا نورث»
ويكون ميراث الأنبياء هو وراثة النبوة أو العلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه.
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي فامنحني وأعطني من جنابك وواسع فضلك وليا يلي أمر الدين، يكون ولدا من صلبي يرثني النبوة، وهذا ما أراده وإن لم يصرح به، ويرث ميراث آل يعقوب وهي وراثة العلم والنبوة على الراجح لا وراثة المال، كما تقدم، فيرث ما عندهم من العلم، ويقوم برعاية أمورهم في الدين، واجعله يا رب برّا تقيا مرضيا عندك في أخلاقه وأفعاله، ترضاه وتحبه أنت ويرضاه عبادك ويحبونه، ليكون أهلا لحمل رسالة الدين وتعليمه وتبليغه وإقامة شعائره.
ونظير الآية: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ [آل عمران 3/ 38] ، وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء 21/ 89] . ويعقوب: هو إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب لأنها(16/54)
من ولد سليمان بن داود، وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق.
فأجاب الله دعاءه، كما قال تعالى:
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي فاستجاب الله دعاءه وناداه من جهة الملائكة: يا زكريا إنا نبشرك بمنحتنا لك غلاما اسمه يحيى (معرّب يوحنا، وهو يوحنا المعمدان الذي كان يعمّد الناس) لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم. وقال مجاهد: لم يجعل له شبيها ولا مثلا ولا نظيرا، أخذه من معنى قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم 19/ 65] ، أي شبيها.
وقال ابن عباس: «لم تلد العواقر قبله مثله» .
وهذا دليل على أن زكريا وامرأته عاقران لا يولد لهما، بخلاف إبراهيم وسارّة عليهما السلام، فإنهما تعجبا من البشارة بإسحاق، لكبرهما، لا لعقرهما، فقد ولد لإبراهيم قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة.
فتعجب زكريا من هذه البشارة سائلا:
قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا تعجب زكريا عليه السلام حين أجيب دعاؤه، وفرح فرحا شديدا، وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها وكبره، فتساءل متأثرا بالأحوال المعتادة لا مستبعدا قدرة الله تعالى: كيف يكون لي ولد، وامرأتي عاقر لا تحبل ولا تلد، وقد كبرت وضعفت؟ فقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا معناه: انتهى سنه وكبر ونحل عظمه وفقد القدرة على جماع النساء.
فأجابه الله تعالى بقوله:(16/55)
قالَ: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي قال الله تعالى من جهة الملك مجيبا زكريا عما تعجب منه: الأمر كما قلت، سنهب لك ولدا بالرغم من العقم والهرم، هو علي سهل ميسور، إذا أردت شيئا قلت له: كن فيكون، وقد خلقتك ابتداء وأوجدتك من العدم المحض، ولم تك شيئا قبل ذلك، فإيجاد الولد بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه.
وهذا دليل على القدرة الإلهية الفائقة، فإنه تعالى يسهل عليه كل شيء، وقد قرر هنا أن الأمر سهل يسير عليه، وذكر ما هو أعجب مما سأل عنه زكريا، بحسب تقدير الناس، والحقيقة أن الأمرين على قدرة الله سواء، فسيان خلق الإنسان من العدم أو من طريق التوالد، ومن قدر على خلق الذات، فهو قادر على تبديل الصفات، فيعيد الله إليه وإلى زوجته القدرة على الإنجاب، كما قال:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء 21/ 90] .
ثم أخبر الله تعالى عن طلب آخر لزكريا هو تعرف وقت طلوع المبشر به، فقال:
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي قال زكريا: يا رب اجعل لي علامة ودليلا على وقت وجود الأمر المبشر به وهو حمل امرأتي، لتستقر نفسي، ويطمئن قلبي بما وعدتني، إذ الحمل خفي في مبدئه، ولا سيما ممن انقطع حيضها في الكبر.
فأجابه الله مرة أخرى إلى مطلبه قائلا:
قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي قال الله بواسطة الملك: علامتك على وقوع المسؤول وحصول البشرى من الله سبحانه بحمل امرأتك بابنها يحيى أن يعتقل لسانك، ويحبس عن الكلام، فلا تقدر على تكليم الناس ومحاورتهم مدة ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي الخلق، ليس بك آفة أو مرض أو علة تمنعك من الكلام.(16/56)
ونظير الآية: قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران 3/ 41] .
فقوله تعالى سَوِيًّا صحيح الخلق سوي من غير مرض ولا علة، وقيل: متتابعات، والقول الأول عن الجمهور أصح.
وهذا دليل على أنه لم يكن يكلّم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها إلا رمزا أي إشارة، ولهذا قال تعالى هنا:
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي فخرج زكريا على قومه من المحراب وهو مصلاه الذي بشر فيه بالولد (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح: وهو مقصورة في مقدّم المعبد يصعد إليها بدرج بحيث يصبح المتعبد فيها محجوبا عمن في المعبد) وقد كان الناس ينتظرونه للصلاة في الغداة والعشي، فأشار إليهم إشارة خفية سريعة، ولم يستطع أن يكلّمهم بذلك، أن يقولوا: سبحان الله (أي تنزيها لله عن الشريك والولد وعن كل نقص) في الصباح والمساء في صلاتي الفجر والعصر، شكرا لله على ما أولاه، وقد كان أخبرهم بما بشّر به قبل ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن الله تعالى قص على نبيه قصة زكريا وما بشر به من الولد، في سن الكبر والشيخوخة وحال عقم امرأته منذ بداية عمرها، ليكون ذلك آية على قدرة الله العجيبة التي تستدعي الإيمان به إيمانا مطلقا.
2- الجهر والإخفاء في الدعاء عند الله سيان لقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف 7/ 55] ، ولكن زكريا(16/57)
عليه السلام ناجى ربه ودعاه في محرابه في حال الخفاء وهو أولى لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ولئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة.
3- قدّم زكريا عليه السلام على السؤال أمورا ثلاثة مثل حيثيات الحكم القضائي: أحدها- كونه ضعيفا، والثاني- أن الله تعالى ما ردّ دعاءه مطلقا، والثالث- كون المطلوب بالدعاء سببا في المنفعة الدينية.
4- قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع لأن قوله تعالى: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إظهار للخضوع.
وقوله: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، وعوّدتني الإجابة فيما مضى.
وقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ حرص على مصلحة الدين، فإن أقاربه كانوا مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين من بعده، لا أنه سأل من يرث ماله لأن الأنبياء لا تورث للحديث المتقدم في الصحيحين: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة» ، وفي سنن أبي داود: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، ورّثوا العلم» فتكون الوراثة على لسان زكريا هي وراثة الدين، وتكون مستعارة.
وقد ورث يحيى من آل يعقوب النبوة والحكمة والعلم والدين، كما أن سليمان ورث من داود الحكمة والعلم، ولم يرث منه مالا خلّفه له بعده.
5- قوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا سؤال ودعاء، ولم يصرح بولد، لشيخوخته وعقم امرأته، قال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. وقال مقاتل: خمس وتسعين سنة، قال القرطبي: وهو أشبه، فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره ولذلك قال: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا.(16/58)
6- يجوز الدعاء بالولد، ويجوز التضرع إلى الله في هداية الولد، اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء،
وقد دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنس خادمه فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته»
فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وكان دعاء زكريا أن يجعل الولي الوارث له مرضيا في أخلاقه وأفعاله.
7- دعاء زكريا عليه السلام لم يكن بالواسطة، وإنما كان يخاطب ربه مباشرة قائلا: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، فَهَبْ لِي، رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ.
كذلك قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ... نداء من الله تعالى، وإلا لفسد النظم. ويرى جماعة أن هذا نداء الملك لقوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران 3/ 39] ، وقوله سبحانه: قالَ: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله تعالى، فوجب أن يكون كلام الملك. وأجاب الرازي عن آية فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ بأنه يحتمل حصول النداءين: نداء الله ونداء الملائكة، وعن آية قالَ رَبُّكَ.. بأنه يمكن أن يكون كلام الله تعالى «1» .
8- في قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا دليل وشاهد على أن الأسامي السّنع (الجميلة) جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية، لكونها أنبه، وأنزه عن النّبز.
9- قوله تعالى: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؟ ليس شكا في قدرة الله تعالى على ذلك، وإلا كان كفرا، وهو غير جائز على الأنبياء عليهم السلام،
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 186.(16/59)
وليس إنكارا لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب والانبهار من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير.
10- قوله تعالى: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ دليل على قدرة الله الباهرة، سواء في تغيير الصفات أو إبداع الذوات، فكما أن الله خلق الإنسان من العدم، ولم يك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.
11- قوله سبحانه: قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً بعد قوله تعالى:
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ زيادة طمأنينة، كما طلب إبراهيم عليه السلام آية تدل على كيفية الخلق وإحياء الموتى، والمراد: تمم النعمة بأن تجعل لي آية وعلامة أتعرف بها وجود الحمل، بعد بشارة الملائكة إياه.
12- قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ وهو أرفع المواضع، وأشرف المجالس، دليل على أن ارتفاع الإمام على المأمومين كان مشروعا عندهم، وقد أجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع الإمام مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، خوفا من الكبر على الإمام، وعملا
بما رواه أبو داود عن ثلاثة من الصحابة (حذيفة وأبو مسعود، وعمار) من نهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك: «إذا أمّ الرجل القوم، فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم» .
13- قوله سبحانه: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا دليل على جواز العمل بالإشارة المفهمة. واتفق مالك والشافعي والكوفيون على أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.(16/60)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
إيتاء يحيى عليه السلام النبوة والحكم صبيا
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
الإعراب:
خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ الباء في موضع الحال، أي خذ الكتاب مجدّا مجتهدا.
وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا الْحُكْمَ مفعول ثان لآتيناه، وصَبِيًّا حال من هاء آتَيْناهُ الذي هو المفعول الأول.
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا معطوف منصوب على الْحُكْمَ.
المفردات اللغوية:
يا يَحْيى على تقدير القول، أي قلنا، ويحيى هو ابن خالة عيسى عليهما السلام. خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ بجدّ واجتهاد. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي أعطيناه النبوة، أو الحكمة وفهم التوراة، أو الفقه في الدين، وذلك في حال الصبا، قيل: كان ابن ثلاث سنين، وعن ابن عباس في حديث مرفوع: ابن سبع سنين.
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا رحمة وعطفا على الناس من عندنا. وَزَكاةً تطهيرا من الذنوب والآثام. وَكانَ تَقِيًّا مطيعا لما أمر به، متجنبا المعاصي وكل ما نهي عنه، فلم يفعل خطيئة ولا هم بها. وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
أي كثير البرّ والإحسان إليهما. جَبَّاراً
متكبرا متعاليا عن الحق.
عَصِيًّا
عاصيا أمر ربه. وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي أمان من الله عليه. يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ يَمُوتُ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أي أنه آمن في هذه الأيام المخوفة من عذاب النار وهول القيامة ومكدرات الحياة الدنيوية، فهو آمن حين الولادة من مؤثرات الشيطان، وحين الموت من عذاب القبر، وفي القيامة من عذاب جهنم.(16/61)
قصة يحيى عليه السلام:
ذكر يحيى خمس مرات في القرآن الكريم، في آل عمران [39] ، وفي الأنعام [85] ، وفي مريم [7، 12] ، وفي الأنبياء [90] ، وكان يحيى تقيا صالحا منذ صباه، وكان عالما بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا في أحكامها، وصار نبيا وهو صبي: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد أخذ النصارى طريقته، ويسمونه «يوحنا المعمدان» .
وكان لأحد حكام فلسطين «هيرودس» بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال، أراد عمها هذا أن يتزوجها، وكانت البنت وأمها تريدان ذلك، فلم يوافق يحيى عليه السلام على هذا الزواج لأنه محرم، فرقصت الفتاة أمام عمها فأعجب بها، وطلب إليها ما تتمناه ليعمله لها، فطلبت منه بمؤامرة أمها رأس يحيى بن زكريا، ففعل وقتل يحيى. ولما بلغ المسيح أن يحيى قتل، جهر بدعوته، وقام في الناس واعظا «1» .
التفسير والبيان:
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ في الكلام محذوف تقديره: أنه ولد لزكريا المولود، ووجد الغلام المبشر به، وهو يحيى عليه السلام، فخاطبه الله تعالى بعد أن بلغ المبلغ الذي يخاطب به، فقال له: يا يحيى خذ التوراة المتدارسة والتي يحكم بها النبيون، والتي هي نعمة على بني إسرائيل، بجد واجتهاد وعزيمة وحرص على العمل بها.
ثم ذكر الله تعالى ما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال ذاكرا صفاته:
__________
(1) قصص القرآن: المرجع السابق 369. [.....](16/62)
1- وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي وأعطيناه الحكم والفهم للكتاب والفقه في الدين والإقبال على الخير، وهو صغير حدث دون سبع سنين. وقيل: الحكمة:
النبوة لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام، وهما صبيان، قال الرازي: والأقرب حمله على النبوة لوجهين:
الأول- أن الله تعالى وصفه بصفات شريفة، والنبوة أشرف صفات الإنسان، فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها.
الثاني- أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره، ولغيره على الإطلاق، وذلك لا يكون إلا بالنبوة.
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيي بن زكريا:
اذهب بنا نلعب، فقال: ما للّعب خلقنا، فلهذا أنزل الله: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
2- وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمناه رحمة من عندنا. والحنان: الرحمة والشفقة والعطف والمحبة. قال ابن كثير: والظاهر من السياق أن قوله:
وَحَناناً معطوف على قوله: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة، أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان: هو المحبة في شفقة وميل «1» .
3- 5: وَزَكاةً، وَكانَ تَقِيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي وجعلنا مباركا للناس، يهديهم إلى الخير، مطهرا من الدنس والرجس والآثام والذنوب، وكان تقيا، أي متجنبا لمعاصي الله، مطيعا له، وكثير البر والطاعة لوالديه، متجنبا عقوقهما قولا وفعلا، أمرا ونهيا، فهو مطيع لله ولأبويه.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 113.(16/63)
6- 7: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
أي لم يكن متكبرا على الناس، بل كان متواضعا لهم، ولم يكن مخالفا عاصيا ما أمره به ربه،
روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا» .
وبعد ذكر هذه الأوصاف الجميلة ليحيي ذكر الله تعالى جزاءه على ذلك، فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أي له الأمان من الله في هذه الثلاثة أحوال: أمان عليه من الله يوم الولادة، فقد أمن أن يناله الشيطان في ذلك اليوم كما ينال سائر بني آدم، ويوم الموت، فيأمن عذاب القبر، ويوم البعث يأمن هول يوم القيامة وعذابه.
قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم ولد، فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم الله يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات تسع صفات ليحيي بن زكريا عليهما السلام وهي:
1- الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، فليس المراد من قوله خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على النبوة.
2- إيتاؤه النبوة وهو صبي لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان، لا كما بعث موسى ومحمدا عليهما السلام، وقد بلغا الأشد وهو أربعون سنة.(16/64)
3- جعله ذا حنان، أي محبة ورحمة وشفقة على الناس، كصفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه الرؤوف الرحيم.
4- جعله ذا بركة ونفع ونماء بتقديم الخير للناس وهدايتهم، كما وصف عيسى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم 19/ 31] .
5- كونه تقيا: يتقي نهي الله فيجتنبه، ويتقي أمر الله فلا يهمله، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلّم بها.
6- بارا بوالديه: فلا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين، والله تعالى جعل طاعة الوالدين بعد طاعته مباشرة، فقال: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] .
7- لم يكن جبارا متكبرا: بل كان ليّن الجانب متواضعا، وذلك من صفات المؤمنين، وقد أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر 15/ 88] وقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران 3/ 159] .
8- لم يكن عصيا لربه ولا لوالديه.
9- سلام وأمان من الله عليه يوم مولده ويوم وفاته ويوم بعثه. وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه، وحياة في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.(16/65)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
قصة مريم
- 1- حملها بعيسى عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 22]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
الإعراب:
إِذِ انْتَبَذَتْ
بدل من مريم بدل اشتمال.
مَكاناً شَرْقِيًّا
مَكاناً
إما ظرف مكان منصوب، وعامله انْتَبَذَتْ
وإما مفعول به، وعامله مقدر، أي وقصدت مكانا قصيا. وشَرْقِيًّا
صفة له.
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ الواو: إما واو عطف على قوله لِأَهَبَ لَكِ
وإما زائدة.
البلاغة:
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع.
شَرْقِيًّا
سَوِيًّا
تَقِيًّا
بَغِيًّا مَقْضِيًّا قَصِيًّا سَرِيًّا نَبِيًّا.. إلخ سجع لطيف.(16/66)
المفردات اللغوية:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
واذكر في القرآن خبر مريم. إِذِ انْتَبَذَتْ
حين اعتزلت.
مَكاناً شَرْقِيًّا
أي اعتزلت في مكان نحو الشرق من الدار. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أرسلت سترا تستتر به للاغتسال من الحيض، وكانت في العادة تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت، وتعود إليه إذا طهرت، فبينا هي في مغتسلها أتاها جبريل متمثلا بصورة شاب أمرد، سوي الخلق، لتستأنس بكلامه. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
جبريل. فَتَمَثَّلَ لَها
بعد لبسها ثيابها. بَشَراً سَوِيًّا
تام الخلق. قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
من غاية عفافها. إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
تتقي الله، وتحتفل بالاستعاذة، فتنتهي عني بتعوذي. وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فإني عائذة منك، أو فاتعظ بتعويذي، أو فلا تتعرض لي. ويجوز أن يكون للمبالغة، أي إن كنت تقيا متورعا، فإني أعوذ منك، فكيف إذا لم تكن كذلك.
قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
الذي استعذت به. لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في القميص (الدرع) . وزَكِيًّا
طاهرا من الذنوب، أو ناميا على الخير والصلاح. وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولم يباشرني رجل بالحلال من طريق الزواج. بَغِيًّا زانية.
قالَ: كَذلِكِ أي الأمر هكذا من خلق غلام منك من غير أب، أو كذلك الأمر حكم ربّك، بمجيء الغلام منك، وإن لم يكن لك زوج. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي فإن الأمر على الله يسير سهل. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ على قدرتنا، وهذا معطوف على جملة. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ التي هي في معنى العلة. وَرَحْمَةً مِنَّا أي ورحمة لهم ببعثته نبيا يهتدون بإرشاده، لمن آمن به.
وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي وكان خلقه أمرا مقضيا به في الأزل وفي علم الله، فنفخ جبريل في جيب قميصها، فأحست بالحمل في بطنها مصورا، إذ دخلت النفخة في جوفها، وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل: ثمانية، أو تسعة، وقيل: ساعة، كما حملته نبذته، وسنها ثلاث عشرة سنة، وقيل:
عشر سنين، وقد حاضت حيضتين، والأولى أن يكون حملها في المدة المعتادة وهي تسعة أشهر، إذ لا دليل على تلك الأقوال.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا اعتزلت، وهو في بطنها، مكانا بعيدا من أهلها وراء الجبل.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا، أردفه بذكر قصة مريم في إنجاب ولدها عيسى عليه السلام من غير أب، وبين القصتين تناسب وتشابه واضح(16/67)
ظاهر، ولذا ذكرا معا في آل عمران وهنا وفي الأنبياء، لتقاربهما في المعنى، ليدل تعالى عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قادر.
وعملا بمبدإ الانتقال في البيان والتعليم من الأسهل إلى الأصعب، بدأ تعالى بقصة يحيى عليه السلام لأن خلقه من أبوين كبيرين أقرب إلى العادة والتصديق من خلق الولد بلا أب، ثم ذكر قصة عيسى لأنها أغرب من تلك.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
أي واذكر يا محمد الرسول للناس في هذه السورة قصة مريم البتول بنت عمران من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، حين تنحّت، واعتزلت من أهلها، وتباعدت عنهم إلى مكان شرقي بيت المقدس أو المسجد المقدس لتنقطع إلى العبادة.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبله لقول الله تعالى: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
واتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
أي استترت منهم وتوارت بساتر أو حاجز يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام، متمثلا بصورة إنسان تام كامل، لتأنس بكلامه، ولئلا تنفر من محاورته في صورته الملكية، فظنت أنه يريدها بسوء.
وقوله: رُوحَنا
هو جبريل، كما جاء في آية أخرى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء 26/ 193- 194] .(16/68)
فكان موقفها منه كما قال تعالى:
قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي قالت السيدة مريم لعذراء البتول: إني أستعيذ (أو أستجير) بالرحمن منك أن تنالني بسوء إن كنت تخاف الله، فاخرج من وراء الحجاب. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله عز وجل، والاستعاذة والتخويف لا يؤثران إلا في التقي، وهو كقوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة 2/ 278] أي إن الإيمان يقتضي ذلك ويوجبه، لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال، وهذا دليل عفتها وورعها.
فأجابها جبريل عليه السلام:
قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
أي قال الملك جبريل مهدئا روعها ومزيلا خوفها: لست أريد بك سوءا، ولكن أنا رسول إليك من ربك الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه السوء أو مما تظنين، بعثني الله إليك لأهب لك غلاما طاهرا من الذنوب، ينمو على النزاهة والعفة. وقد نسب الهبة لنفسه لجريانها على يده بأمر الله تعالى.
فتعجبت مريم مما سمعت، وقالت:
قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي قالت لجبريل: كيف يكون لي غلام؟ وعلى أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، أو لم يقربني زوج، ولا يتصور مني الفجور، فلم أك يوما ما بغيا، أي زانية، تبغي الرجال بالأجر. وجوابها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله، وإنما عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور، وإن حدث خلاف هذا في القدرة الإلهية، فإنها عرفت أنه(16/69)
تعالى خلق أبا البشر من غير أب ولا أم، فهل سيكون هذا الولد مخلوقا بخلق الله ابتداء كآدم، أم عن طريق زوج تتزوجه في المستقبل؟
فأجابها بقوله:
قالَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَرَحْمَةً مِنَّا، وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلاما، وإن لم يكن لك زوج (بعل) ولا من طريق الفاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، وليجعل خلقه برهانا للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوّع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى فقط، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى.
ويجعل هذا الغلام أيضا رحمة من الله لعباده، يبعثه نبيا من الأنبياء، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، وكان هذا الأمر مقدرا قد قدره الله في سابق علمه، وجف به القلم، فلا يغير ولا يبدّل.
ونظير آخر الآية: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 47] ونظير القسم السابق له وهو: وَرَحْمَةً مِنَّا قوله سبحانه: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران 3/ 45- 46] .
ونظير قوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قوله سبحانه: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم 66/ 12] .
وحدث مراد الله تعالى:(16/70)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا أي لما قال جبريل لها عن الله تعالى ما قال، استسلمت لقضاء الله تعالى، فنفخ جبريل في جيب درعها (فتحة قميصها) فنزلت النفخة في جوفها، حتى ولجت فرجها، فحملت بالولد بإذن الله تعالى، فاعتزلت إلى مكان بعيد. والفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه.
ولم يعيّن القرآن الكريم مدة الحمل، إذ لا حاجة لمعرفتها، لذا نرى أن حملها كان بحسب المعتاد بين النساء، وهو تسعة أشهر قمرية. وإنما اتخذت المكان البعيد لا من أجل الوضع، وإنما حياء من قومها، وبعدا عن اتهامها بالريبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه بداية قصة السيدة مريم العذراء، حكى فيها الحق سبحانه كيفية حملها بعيسى عليه السلام، مبينا مقدمات ضرورية لإبراز عفتها وصونها.
فهي قد اعتزلت أهلها شرقي البيت المقدس للانقطاع للعبادة وللخلوة مع الله ومناجاة ربها، فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام بصورة بشر تام الخلقة لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته الحقيقية الملكية، ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر، قد خرق عليها الحجاب، ظنت أنه يريدها بسوء، فتعوذت بالله منه إن كان ممن يتقي الله.
فأخبرها جبريل بأنه رسول من عند الله بعثه إليها ليهبها غلاما طاهرا نقيا من الذنوب والمعاصي، وجعل الهبة من قبله لأنه الواسطة ورسول الاعلام بالهبة من قبله. روي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمّها.
فتساءلت مريم عن وسيلة إيجاد الغلام، لا استبعادا لقدرة الله تعالى، ولكن أرادت معرفة كيفية تكوّن هذا الولد، من قبل الزوج الذي تتزوجه في(16/71)
المستقبل، أم يخلقه الله ابتداء؟ وهي الآن ليست ذات زوج، ولم تكن في أي وقت زانية، وذكرت هذا تأكيدا لأن قولها: لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يشمل الحلال والحرام.
فأجابها جبريل: هذا أمر قدره الله وقضى به من الأزل، فهو في سابق علمه الأزلي القديم، وهو أمر هيّن يسير على قدرة الله، فهو القادر على كل شيء، وقد خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، ليكون ذلك دليلا وعلامة على قدرته العجيبة في تنوع الخلق والإبداع، ويكون عيسى بنبوته رحمة لمن آمن به، وكان أمرا مقدرا في اللوح مسطورا.
فاستسلمت مريم لقضاء الله وقدره، واعتزلت بالحمل إلى مكان بعيد، حياء من قومها، وبعدا عن اتهامها بالريبة وتعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج.
قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال. وقال ابن عباس أيضا: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي: وهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل «1» .
وقال آخرون: كان الحمل بحسب المعتاد بين النساء لأن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً.. [المؤمنون 23/ 12- 14] . وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج 22/ 63] قال ابن كثير: فالمشهور الظاهر- والله على كل شيء قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 92- 93.
(2) تفسير ابن كثير: 3/ 116.(16/72)
وقال محمد بن إسحاق: فلما حملت به، وملأت قلّتها، ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب (المرض والضعف) والتوحم وتغير اللون، حتى فطر لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: إنما صاحبها يوسف النجار (وهو رجل صالح من قراباتها، كان معها في المسجد يخدم معها البيت المقدس) ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابا، فلا يراها أحد ولا تراه.
ويحسن أن نذكر مقطعا من حوار بين يوسف النجار ومريم، ذكره الثعلبي في العرائس عن وهب، قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر، وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث، وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول: إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها؟
فقال يوسف: لا أقول هذا، ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون.
فقالت له مريم: أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟
فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 201- 202.(16/73)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
- 2- ولادة عيسى وما اقترن بها
[سورة مريم (19) : الآيات 23 الى 26]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
الإعراب:
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ الباء: زائدة، أي وهزي إليك جذع النخلة. وتُساقِطْ جواب الأمر، ورُطَباً جَنِيًّا مفعول تُساقِطْ أي تساقط النخلة رطبا. وقرئ تُساقِطْ وأصله: تتساقط، فحذف إحدى التاءين تخفيفا، وقرئ تساقط وأصله:
تتساقط أيضا، فأبدل من إحدى التاءين سينا، وأدغم السين في السين. ورطبا في هاتين القراءتين:
تمييز أو حال، ويجوز النصب بهزّي، أي وهزي إليك رطبا جنيا متمسكة بجذع النخلة، والباء في موضع الحال، لا زائدة، وقرئ يساقط ورُطَباً مفعول به، أي يساقط جذع النخلة رطبا.
وَقَرِّي عَيْناً تمييز أي من عين، مثل: طاب به نفسا، أي من نفس.
فَإِمَّا تَرَيِنَّ أصله «ترأيين» فحذفت الهمزة منه، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فبقي تَرَيِنَّ وحذفت النون لأنها نون إعراب، لطروء البناء بدخول نون التوكيد الثقيلة (المشددة) وكسرت الياء لسكونها وسكون النون المشددة أي لالتقاء الساكنين. وإما: أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة.
المفردات اللغوية:
فَأَجاءَهَا جاء بها وألجأها واضطرها. الْمَخاضُ وجع الولادة والطّلق حين تحرك الولد للخروج من البطن. إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، فولدت(16/74)
يا للتنبيه. قَبْلَ هذا الأمر، استحياء من الناس ومخافة لومهم. نَسْياً ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب، ككل شيء حقير من وتد وحبل. مَنْسِيًّا منسي الذكر، وهو ما لا يخطر بالبال لتفاهته، والمراد من الكلمتين: شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر.
فَناداها مِنْ تَحْتِها أي عيسى، وقيل: جبريل وكان أسفل منها أي من مكانها. وقيل:
ضمير تَحْتِها عائد للنخلة. أَلَّا تَحْزَنِي أي لا تحزني أو بألا تحزني. سَرِيًّا جدولا أو نهر ماء، هكذا روي مرفوعا، وقيل: السري: السيد الشريف، أي سيدا شريفا وهو عيسى.
وَهُزِّي الهز: تحريك الشيء بعنف أو بدونه، أو أميليه إليك أو افعلي الهز والإمالة به.
بِجِذْعِ الباء مزيدة للتأكيد. تُساقِطْ تسقط. رُطَباً تمرا طازجا ناضجا.
جَنِيًّا صالحا للاجتناء.
فَكُلِي من الرطب. وَاشْرَبِي من السري- النهر. وَقَرِّي عَيْناً أي لتقر عينك به، أي تسكن، فلا تطمح إلى غيره. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي إن تري آدميا، فيسألك عن الولد. فَقُولِي أشيري إليهم، قال الفراء: العرب تسمي كل ما أفهم الإنسان شيئا كلاما بأي طريق كان. نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا أو إمساكا عن الكلام في شأنه وشأن غيره من الناس، بدليل: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي أحدا من الناس بعد ذلك، أي بعد أن أخبرتكم عن نذري.
التفسير والبيان:
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي فاضطرها وألجأها وجع الولادة وألم الطلق إلى الاستناد إلى جذع النخلة والتعلق به، لتسهيل الولادة، فتمنت الموت قبل ذلك الحال، استحياء من الناس، وخوفا أن يظن بها السوء في دينها، أو أن تكون شيئا لا يبالي به، ولا يعتد به أحد من الناس كالوتد والحبل، أو لم تخلق ولم تك شيئا. قال ابن كثير: فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية. قال الزمخشري: أجاء منقول من جاء إلى معنى الإلجاء.(16/75)
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي فناداها جبريل من تحت الأكمة أو من تحت النخلة، وقيل: المنادي هو عيسى، وقد أنطقه الله بعد وضعه تطييبا لقلبها وإيناسا لها، قائلا: لا تحزني، فقد جعل ربك تحتك جدولا أو نهرا صغيرا، أجراه الله لها لتشرب منه. وقيل: المراد بالسريّ هنا عيسى، والسريّ: السيد العظيم الخصال من الرجال. قال ابن عباس: المراد ب مِنْ تَحْتِها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيم، وهذا هو الأصح.
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا أي حرّكي جذع النخلة، تسقط عليك رطبا طريا طيبا، صالحا للاجتناء والأكل من غير حاجة إلى تخمير وصناعة. وهذه آية أخرى، قال الزمخشري، كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة، وكان الوقت شتاء. وقيل: كانت النخلة مثمرة. والمهم في الأمر: وجوب اتخاذ الأسباب لتحصيل الرزق، والاعتقاد بأن الفاعل الحقيقي في تيسير الرزق هو الله تعالى، وأنه على كل شيء قدير. وأما التفاصيل فلا يجب علينا أن نعتقد إلا بما أخبر به القرآن صراحة، وأما الروايات فتحتاج إلى تثبت ودليل وسند صحيح. وما أحسن قول الشاعر:
ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أدنى الجذع من غير هزه ... إليها ولكن كل شيء له سبب
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أي فكلي من ذلك الرطب، واشربي من ذلك الماء، وطيبي نفسا ولا تحزني وقرّي عينا برؤية الولد النبي، فإن الله قدير على صون سمعتك، والإرشاد إلى حقيقة أمرك. قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وروى ابن أبي حاتم(16/76)
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء يلقّح غيرها» .
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً، فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي إن رأيت إنسانا يسألك عن أمرك وأمر ولدك، فأشيري له بأنك نذرت لله صوما عن الكلام، أي صمتا، بألا أكلم أحدا من الإنس، بل أكلم الملائكة، وأناجي الخالق.
والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم، يحرم عليهم الطعام والكلام، قال ابن زيد والسدّي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الكلام.
وليس الصوم عن الكلام مشروعا في الإسلام، روى ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان، فسلم أحدهما، ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف ألا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله بن مسعود: كلّم الناس، وسلّم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريم عليها السلام، ليكون عذرا لها إذا سئلت.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن ألم المخاض ووجع الطلق أمر معتاد في أثناء الولادة، أشبه بالموت، فتحتاج المرأة حينئذ إلى عون ورعاية، ولم تجد السيدة مريم معينا لها غير جذع النخلة، فاستندت إليه وتعلقت به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق.
2- يكون تمني الموت جائزا في مثل حال السيدة مريم، فإنها تمنت الموت من جهة الدّين لسببين:(16/77)
أحدهما- أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير، فيفتنها ذلك.
الثاني- لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى، وذلك مهلك.
فخافت صونا لسمعتها الدينية، وحماية لتدين الآخرين حتى لا يقعوا في الذنب.
3- تظاهرت الروايات بأن السيدة مريم ولدت عيسى عليه السلام لثمانية أشهر، وقد عاش، وتلك خاصة له، وقيل: ولدته لتسعة، أو لستة. ويرى ابن عباس كما تقدم أنها حملت فوضعت في الحال لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل.
4- لقد اقترنت ولادة السيدة مريم بأنواع من الألطاف الإلهية، فقد ناداها جبريل عليه السلام بأن الله جعل من تحتها نهرا صغيرا لتشرب منه، وأسقط لها رطب النخلة، ويقال: إنها أثمرت لها، وصار رطبها قابلا للأكل والاجتناء بقدرة الله، وطيب الله نفسها وأقر عينها، فأزال عن قلبها الكآبة والحزن، وأمرها على لسان جبريل بالإمساك عن كلام البشر حتى لا تتعب نفسها بالحوار والنقاش وردّ التّهم، وأحالت الأمر على ابنها الذي أنطقه الله في المهد مدافعا عنها، ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية، فيظهر عذرها. وكل هذه آيات خارقة للعادة أظهرها الله بمناسبة ميلاد عيسى عليه السلام.
5- استدل العلماء بهذه الآية على أن الرزق، وإن كان محتوما، فإن الله تعالى ربطه بالسعي، ووكل ابن آدم إلى سعي ما فيه لأنه سبحانه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية ألا تهتز النخلة لأن جذعها صلب قوي ثخين يصعب تحركه.
6- الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يتعارض مع التوكل، فإن التوكل على الله يكون بعد اتخاذ الأسباب. وقد كانت مريم قبل الولادة يأتيها رزقها من غير تكسب، تكريما خاصا لها، كما قال(16/78)
تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً.. الآية [آل عمران 3/ 37] فلما ولدت أمرت بهز الجذع لأن قلبها قبل الولادة كان مشغولا بالعبادة متفرغا لها، فلم تشغل أعضاؤها بتعب التكسب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، أمرت بالكسب، وردت إلى العادة بالتعلق بالأسباب، كسائر العباد.
7- الرطب خير شيء للنفساء، وكذلك التحنيك به للمولود، فإذا عسرت الولادة لم يكن للمرأة خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل.
8- في أمر مريم بالسكوت عن الكلام دليل على أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذلّ الناس سفيه لم يجد مسافها.
9- من التزم بالنذر بألا يكلم أحدا من الآدميين، أو نذر الصمت، فذلك كان مشروعا في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، وليس في شريعتنا، فلا يجوز نذر الصمت في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس، كنذر القيام في الشمس ونحوه، مما لم يجزه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام، كما تقدم. وهذا هو الصحيح
لحديث أبي إسرائيل: الذي نذر الصوم في الشمس، فأمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يتكلم ويتم صومه في الظل، والحديث خرّجه البخاري عن ابن عباس.
قال ابن زيد والسدّي كما تقدم: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح،
قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم»
وقال أيضا فيما رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» .(16/79)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
- 3- نبوة عيسى ونطقه وهو طفل في المهد
[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
الإعراب:
تَحْمِلُهُ جملة حالية.
يا أُخْتَ التاء هنا بدل عن واو، وليست للتأنيث لأنها تكتب بالتاء لا بالهاء نحو قائمة وذاهبة، مثل تاء: بنت.
بَغِيًّا على وزن فعول لا فعيل لأنه هنا بمعنى فاعل، وأتى بغير تاء. وهو صفة للمؤنث. كقولهم: امرأة صبور وشكور. وقد يأتي فعول بغير هاء إذا كان بمعنى مفعول، مثل فَمِنْها رَكُوبُهُمْ [يس 36/ 72] .
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ كان: إما بمعنى (حدث ووقع) فيكون صَبِيًّا حال من ضمير كانَ، وإما بمعنى (صار) فيكون صَبِيًّا خبر (صار) وإما كانَ زائدة.
وصَبِيًّا حال، وعامله فِي الْمَهْدِ. ولا يجوز جعل كانَ هنا ناقصة: لأنه لا اختصاص لعيسى بكونه في المهد، فهذا وصف لكل صبي، وإنما تعجبوا من كلام من صار في حال الصّبا في المهد.(16/80)
ما دُمْتُ حَيًّا ما مصدرية ظرفية زمانية، أي مدة دوامي حيا، وحَيًّا خبر ما دُمْتُ، والجملة منصوبة على الظرف، وعامله أَوْصانِي.
وَبَرًّا بِوالِدَتِي معطوف على قوله مُبارَكاً ومُبارَكاً مفعول ثان لجعل. ومن قرأ وبر عطفه على (الصلاة) أي أوصاني بالصلاة وببرّ بوالدتي.
المفردات اللغوية:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أتت مع ولدها قومها راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس حاملة إياه. فَرِيًّا عظيما منكرا خارقا للعادة، حيث أتيت بولد من غير أب. يا أُخْتَ هارُونَ هو أخو موسى عليه السلام، وكان بينهما ألف سنة، أو رجل صالح من بني إسرائيل، أي يا شبيهته في العفة، وشبهوها به تهكما. امْرَأَ سَوْءٍ أي زانيا. وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية، فمن أين لك هذا الولد؟! وفيه تنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أشارت لهم إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم. قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ أي وجد فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي لم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل. والْمَهْدِ فراش الصبي الرضيع الموطّأ له، جمع مهود.
آتانِيَ الْكِتابَ أي الإنجيل مُبارَكاً نفّاعا للناس، معلما للخير. والتعبير بالماضي:
إما باعتبار ما سبق في قضاء الله، فهو إخبار ما كتب له، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع.
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أمرني بهما أو كلفني. جَبَّاراً
متعاظما لا يرى لأحد حقا عليه.
شَقِيًّا عاصيا لربه. وَالسَّلامُ عَلَيَّ أي والأمان علي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث حيا، كما هو على يحيى عليه السلام، والتعريف هنا في السلام على الأظهر للجنس.
التفسير والبيان:
لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات، وسلمت لأمر الله عز وجل، واستسلمت لقضائه أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها، كما قال تعالى:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا: يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي لما برئت مريم من نفاسها، جاءت به قومها تحمله من المكان القصي، فلما رأوا الولد معها، حزنوا وأعظموا الأمر واستنكروه جدا، وقالوا منكرين: يا مريم، لقد فعلت أمرا عجيبا عظيما منكرا خارجا عن المألوف وهو الولادة بلا أب، وكانوا(16/81)
أهل بيت صالحين: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران 3/ 33- 34] .
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي يا شبيهة هارون في العبادة، أو يا من أنت من نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت، أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة، فكيف تأتين بمثل هذا؟
ما كان أبوك بالفاجر، وما كانت أمك بالزانية البغي، فمن أين يأتيك السوء، ومن أين لك هذا الولد؟!!
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرؤون:
يا أخت هرون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» .
وهذا يرشد إلى أن هارون هو رجل صالح في زمان مريم وعيسى عليهما السلام. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ، قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي فأشارت مريم إلى عيسى أن يكلمهم، وقد اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، فقالوا لها متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم تهزأ:
كيف نكلم طفلا ما يزال في المهد، أي فراش الرضيع؟
وهنا ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع ووصف نفسه بتسع صفات هي:
1- قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قال عيسى: إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات، الذي لا أعبد غيره، فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية لربه،(16/82)
وتبرئته عن الولد، تنبيها للنصارى على خطئهم فيما ادعوه له من الربوبية.
2- آتانِيَ الْكِتابَ سينزل علي الإنجيل، وقدّر لي وحكم في الأزل أن أكون نبيا ذا كتاب، وقضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى، وإن لم يكن الكتاب منزّلا في الحال.
3- وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أي قدّر لي أن أكون نبيا، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة، لأن الله تعالى لا يجعل الأنبياء أولاد زنى، وإنما هم نخبة عالية من الطهر وصفاء السلالة والمعدن.
4- وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي صيرني الله نفّاعا للعباد، معلما للخير، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت. وعبر تعالى عن هذه الصفات بصيغة الماضي إشارة إلى تحققها وحدوثها فعلا في المستقبل.
5- وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وأمرني ربي بالصلاة التي تربط العبد بربه وتطهر النفس، وتمنعه عن اقتراف الفاحشة، وأمرني أيضا بزكاة المال التي هي طهرة للمال، وعون للفقير والمسكين، ما دمت على قيد الحياة في الدنيا.
6- وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي وجعلني بارا بوالدتي مريم، وأمرني ببرها وطاعتها والإحسان إليها بعد طاعة ربي، لأن الله كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين. وهذا أيضا دليل على نفي الزنى عنها، إذ لو كانت زانية، لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها.
7- 8: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي ولم يجعلني متعظما عاصيا مستكبرا عن عبادة ربي وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.
9- وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي(16/83)
والسلامة علي من كل سوء يوم الميلاد، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت، ولا أغواني عند الموت، ولا عند البعث، فأنا في أمان لا يقدر أحد على ضري في هذه الأوقات الثلاثة. وهذا إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله الذي يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- جاءت مريم المؤمنة الواثقة بتأييد الله لها قومها مع ولدها، لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها.
2- يتأثر الناس عادة بظواهر الأمور ويتعجلون بالحكم عليها، فاتهموا مريم بأنها جاءت شيئا فريا، أي أمرا عظيما كالآتي بالشيء يفتريه، وأنكروا عليها بما عرفوا عنها من سيرة حميدة قضت شبابها في التبتل والعبادة، وبما علموا من استقامة أبويها.
فقالوا لها: يا أخت هارون، بمعنى: يا من كنا نظنّها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا؟ فهي كانت من ولد أو سلالة هارون أخي موسى، وإن كان بين موسى وهارون وبين عيسى زمان مديد قدّر بألف سنة فأكثر، فنسبت إليه بالأخوة، لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي: يا أخا العرب.
وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان، تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا، كلهم اسمه هارون. ويؤيد ذلك الحديث الثابت المتقدم.
3- من معجزات عيسى عليه السلام نطقه وهو صغير في المهد، ونحن(16/84)
المسلمون نعتقد بهذا اعتقادا جازما، لإثباته بنص القرآن القاطع، وأما اليهود والنصارى فينكرون أنه تكلم في المهد. وكان نطقه إظهارا لبراءة أمه، ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان.
4- وصف عيسى عليه السلام نفسه في كلامه المبين وهو طفل رضيع بصفات تسع، جمعت بين إثبات النبوة وإنزال الإنجيل عليه في المستقبل، وتبرئة أمه من تهمة الزنى، وإثبات عبوديته لله عز وجل، فهو عبد لله لا ربّ ولا إله، كما يعتقد النصارى، واتصافه بالبركات ومنافع الدين والدعوة إليه، واستقامة سلوكه وأخلاقه، فهو برّ بوالدته، ليس متعظما متكبرا، ولا عاصيا خائبا من الخير، ملتزما تشريع الله في العبادة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعد بلوغه من التكليف.
5- قوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي جعلني برا بوالدتي يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن الآية تدل على أن كونه برا، إنما حصل بجعل الله وخلقه.
6- قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر «1» ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت.
7- الإشارة بمنزلة الكلام وتدل على ما يدل عليه ويحدث بها الإفهام والفهم، كيف لا، وقد أخبر الله تعالى عن مريم، فقال: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ. وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس «بعثت أنا والساعة كهاتين» . وإجماع العقلاء على أن العيان أقوى من الخبر، دليل على أن الإشارة
__________
(1) هم القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله تعالى.(16/85)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام.
لذا قرر المالكية والشافعية جواز الاعتماد على الإشارة في المعاملات والعقوبات، وقد نص الإمام مالك على أن شهادة الأخرس مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما إذا كان الشخص قادرا على اللفظ، فلا بد من الكلام.
وذهب الحنفية وأحمد والأوزاعي وإسحاق إلى أنه لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا، ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة، قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع.
8- حظي عيسى بالسلامة من الله تعالى يوم ولادته في الدنيا من همز الشيطان، ويوم الموت في القبر، ويوم البعث في الآخرة، وهذه الأحوال الثلاثة مراحل مصيرية حاسمة فاصلة، وأشق شيء على الناس.
- 4- اختلاف النصارى في شأن عيسى
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)(16/86)
الإعراب:
قَوْلَ الْحَقِّ منصوب على المصدر، أي أقول قول الحق، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ذلك قول الحق، أو هذا قول. وقيل: إن الإشارة إلى عيسى، لأن الله تعالى سماه كلمة، إذ كان بالكلمة، على ما قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.
كُنْ فَيَكُونُ بالرفع بتقدير هو، وبالنصب بتقدير: أن.
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي من قرأها بالكسرة جعلها مبتدأ، ومن قرأ بالفتح، جعلها معطوفة، وتقديره: وأوصاني بالصلاة والزكاة وأن الله ربي.
مِنْ وَلَدٍ مِنْ زائدة، أي: ما كان لله أن يتخذ ولدا. وزيدت هنا في المفعول، وزيادتها في الفاعل أكثر، مثل: ما جاءني من أحد، أي ما جاءني أحد.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي ما أسمعهم وأبصرهم، والجار والمجرور في موضع رفع فاعل أَسْمِعْ. والأصل أن يقول: وأبصر بهم، لكنه حذف بِهِمْ اكتفاء بذكره مع أَسْمِعْ.
وهي صيغة تعجب، وليس بأمر، بدليل وروده بلفظ واحد في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع.
يَوْمَ يَأْتُونَنا منصوب على الظرف، متعلق بفعل التعجب.
إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ إِذْ بدل من اليوم أو ظرف للحسرة. إِنَّا نَحْنُ تأكيد.
البلاغة:
لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ الظَّالِمُونَ واقع موقع الضمير، فهو من قبيل إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على ظلم أنفسهم.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ عِيسَى ... أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم، لا ما يصفه النصارى، وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ قَوْلَ الْحَقِّ أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، أو أقول قول الحق، والإضافة للبيان، والضمير للكلام السابق، أو لتمام القصة يَمْتَرُونَ يشكون ويتنازعون ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، سُبْحانَهُ تكذيب للنصارى، وتنزيه لله تعالى عما بهتوه، والمعنى: ما ينبغي ولا يصح أن يجعل له ولدا. إِذا قَضى أَمْراً أراد أن يحدث أمرا(16/87)
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ تبكيت لهم بأن الله إذا أراد شيئا أوجده بكلمة كُنْ: كان تعالى منزها عن شبه الخلق والحاجة في اتخاذ الولد، بإحبال الإناث. وبعبارة أخرى: القادر على الخلق بالأمر الفوري، قادر على خلق عيسى من غير أب.
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بتقدير: قل، بدليل: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة 5/ 117] وعلى الفتح بتقدير: اذكر هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ هذا المذكور طريق مستقيم مؤد إلى الجنة. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف النصارى في عيسى، أهو ابن الله، أم إله معه، أم ثالث ثلاثة؟ فالأحزاب: فرق النصارى الثلاث أو اختلف اليهود والنصارى. فَوَيْلٌ كلمة عذاب أي فشدة عذاب، أو واد في جهنم لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي ويل لهم بما ذكر وغيره مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ من شهود أو حضور يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه، وهو يوم القيامة.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي بهم، صيغة تعجب، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا في الآخرة، أو يوم القيامة، بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي لكن الكافرون في الدنيا في خطأ بيّن، به صموا عن سماع الحق، وعموا عن إبصاره، أي أعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة، بعد أن كانوا في الدنيا صميا عميا. وذكر كلمة الظَّالِمُونَ من إقامة الظاهر مقام المضمر، إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم.
وَأَنْذِرْهُمْ خوّف يا محمد كفار مكة يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة، يوم يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان في الدنيا، والمحسن على قلة إحسانه إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب، وسيق الفريقان إلى الجنة والنار. وَهُمْ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ عنه وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها العقلاء وغيرهم بإهلاكهم وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فيه للجزاء.
إيضاح آية وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ بحديث صحيح:
روى الشيخان والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح «1» ، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون «2» وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد
__________
(1) الأملح: الذي يخالط بياضه سواد.
(2) يشرئبون: يمدون أعناقهم.(16/88)
رأوه، ثم ينادي مناد: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، ثم قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .
أضواء على قصة عيسى عليه السلام:
عيسى: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، ذكر اسمه في القرآن بلفظ المسيح وهو لقب له، وبلفظ عيسى وهو اسمه، وهو بالعبرية «يشوع» أي المخلّص، أي يخلص النصارى- في زعمهم- من الخطيئة، وذكر بلفظ ابن مريم.
ذكر عيسى في القرآن في ثلاث عشرة سورة في ثلاث وثلاثين آية منه: في البقرة [87، 136، 253] ، وآل عمران [45، 52، 55، 59، 84] ، والنساء [157، 163، 171، 172] ، والمائدة [17، 46، 72، 75، 78، 110، 112، 114، 116] ، والأنعام [85] ، والتوبة [30، 31] ، ومريم [34] ، والمؤمنون [50] ، والأحزاب [7] ، والشورى [13] ، والزخرف [57، 63] ، والحديد [27] ، والصف [6، 14] ونشأ عيسى المسيح في رأي النصارى وهو ابن يوسف النجار الذي هو شاب صالح من شبان اليهود، من قوم مريم، والمسيح في العبرية: النبي والملك.
وأمه مريم بنت عمران الذي كان رجلا عظيما من علماء بني إسرائيل، وقد حملت زوجه، فنذرت أن تجعل الحمل محررا لخدمة الهيكل. وتوفي عمران، وابنته صغيرة تحتاج إلى كافل يقوم بشأنها، فألقى رعاة الهيكل قرعة، فكان كافلها(16/89)
زكريا أبو يحيى عليهما السلام. وكان زكريا زوجا لخالة مريم أو لأختها، فنشأت مريم على الطهارة والعبادة والبعد عن الدنس.
ولما بلغت مبلغ النساء جاءها جبريل، فتعوذت منه، فأعلمها أنه مرسل من عند الله، ليهب لها غلاما زكيا، وتم حملها بنفخة منه في جيب قميصها، فدخلت في جوفها، ومرت بجميع أدوار الحمل إلى أن ولدته في بيت لحم، والراجح أن مدة حملها تسعة أشهر، بحسب الغالب. وهذا الحمل استثناء مما هو حادث عادة، ليكون دليلا على قدرة الله تعالى، بخلق إنسان بلا أب، خلافا للمعتاد، لأن الخالق الحقيقي هو الله عز وجل، سواء مع اتخاذ الأسباب أم لا.
وقد ختن المسيح بعد ثمانية أيام من ولادته، كما تقرّر الشريعة اليهودية، وقد أمر الله إبراهيم بالختان.
ولما أمر هيرودس حاكم فلسطين بقتل كل طفل في بيت لحم، أمر يوسف النجار في منامه بأن يذهب بالطفل وأمه إلى مصر، فقام من فوره، وأخذ الطفل وأمه، وذهب بهما إلى مصر، وأقاموا بها، إلى أن مات هيرودس.
ثم عادوا إلى فلسطين، وكان الطفل قد بلغ سبع سنين من العمر، فتربى في الناصرة، ولما بلغ اثني عشر عاما، جاء مع أمه ويوسف إلى أورشليم، للصلاة بحسب شريعة موسى، وفي اليوم الثالث بعد ضياعه، وجد عيسى يحاج علماء اليهود، ثم عاد مع أمه ويوسف إلى الناصرة.
ولما بلغ يسوع ثلاثين سنة من العمر، صعد إلى جبل الزيتون مع أمه ليجني زيتونا، وبينما كان يصلي في الظهيرة، تلقى الإنجيل من الملاك جبريل عليه السلام، وهذا كنبوة يحيى خلافا للغالب في أن النبوة تكون بعد الأربعين.(16/90)
الأناجيل:
ومعنى الإنجيل: البشارة، وهو كتاب تضمن هدى ونورا، لكن هذا الإنجيل الذي أتى به المسيح وسلمه إلى تلاميذه وأمرهم أن يبشروا به لا يوجد الآن، وإنما توجد قصص تاريخية تسرد سيرة المسيح، ألّفها التلاميذ، وفيها مواعظ وأمثال ونصائح مأخوذة عن المسيح، وهي كثيرة بلغت مائة ونيفا، تعترف الكنيسة المسيحية بأربعة منها: هي إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. ولم يكتب شيء من هذه الأناجيل في زمان المسيح.
وإنجيل متى هو أول الأناجيل وأقدمها، لكنه ليس من تصنيفه يقينا، بل ضيعوه بعد ما حرفوه، باعتراف قدماء المسيحية كافة، وقد كتب بالعبرانية، ثم ترجم إلى اليونانية، ولا يعرف إسناد هذه الترجمة.
وكان متّى قد كتب إنجيله سنة 39 بعد المسيح، على ما ذهب إليه القديس «إيرونيموس» .
ومرقس كان يهوديا لاويا أي من خدم الهيكل، وهو تلميذ بطرس، وكان ينكر ألوهية المسيح، وكتب إنجيله سنة 61 م ومات مقتولا في سجن الإسكندرية سنة 68 م.
ولوقا: كان طبيبا من أهل أنطاكية ولم ير المسيح أصلا، وقد لقن النصرانية عن بولس، وبولس هذا كان يهوديا متعصبا على المسيحية، ولم ير المسيح في حياته، وكان يسيء إلى النصارى باستمرار، ولما رأى أن اضطهاده للنصرانية لا يجدي، احتال بالدخول فيها، وأظهر الاعتقاد بالمسيح، ثم استطاع أن يجعل النصارى يتحللون من واجبات الناموس (التوراة) الذي ما جاء المسيح لإبطال أحكامه.(16/91)
وكتب لوقا إنجيله بعد كتابة مرقس، وبعد موت بطرس وبولس.
ويوحنا أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، وهو من صيدا في الجليل، وكان عيسى يحبه جدا، وقد كتب إنجيله في سنة 96 أو سنة 98، وكان يرى أن المسيح ليس إلا إنسانا، وقد أنكر كثير من علماء النصرانية أن يكون هذا الإنجيل من تأليف يوحنا التلميذ، وإنما صنفه أحد تلاميذه في القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنا ليغتر به الناس. وقد كتب لغرض خاص هو إثبات ألوهية المسيح، والقضاء على التعاليم التي كانت تؤكد أنه إنسان.
والخلاصة: إن هذه الأناجيل منقطعة السند إلى المسيح، وليست هي الإنجيل الصحيح الذي نزل على المسيح باعتراف النصارى أنفسهم.
إنجيل برنابا:
هو أحد الأناجيل التي ألفت في قصة المسيح، وبرنابا أحد أتباع المسيح المواظبين على نشر دعوته، ويختلف عن الأناجيل الأخرى في أمرين جوهريين:
الأول- التصريح بأن عيسى إنسان وليس بإله. والثاني- التصريح والتبشير باقتراب ملكوت السموات وباسم محمد في كثير من المواضع.
رسالة عيسى:
تتلخص رسالة عيسى عليه السلام فيما يأتي:
1- التخفيف من تنطع اليهود، والتزامهم بالشكليات المؤدية إلى تعطيل الخير في يوم السبت، وتوجيههم إلى جوهر الدين وحقيقته، وإبعادهم عن المادية الطاغية وتهالكهم على المال وحبه وجمعه، بتحريض الناس على النذر للهيكل، لأخذ ذلك المال.(16/92)
2- رد اليهود الذين يسمون بالصدوقيين إلى عقيدة الإيمان باليوم الآخر التي أنكروها، وتثبيت الإيمان في قلوبهم.
3- تصحيح مسيرة اليهود الذين يسمون بالفريسيين وهم في الأصل قوم تجردوا لطاعة الله تعالى، وتفردوا للعبادة، وزهدوا في حطام الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، ولكنهم أصبحوا في زمن المسيح يظهرون بمظهر الزهد فقط، ويتخذونه ستارا لجمع المال.
وكان هناك جماعة الكتبة الذين يكتبون الشريعة لمن يطلبها، وهم كالفريسيين في اقتناص أموال الناس.
وكذلك الكهنة وخدمة الهيكل صاروا متهالكين على جمع المال، يحرفون كلام الله لأغراض دنيوية.
فكانت هذه العيوب كلها موجبة لصيحة المسيح المدوية بالزهد في الدنيا، وإصلاح النفوس من أمراضها، وتوجيه الناس إلى مرضاة الرب عز وجل.
4- البشارة باقتراب ملكوت السموات، أي الشريعة الإلهية التي يرسل الله تعالى بها النبي الأمي المذكور في آية [15] وما بعدها من الإصحاح 18- سفر التثنية، الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى أن يرسله من بين إخوتهم، كما بشر به أنبياء كثيرون، منهم داود في المزمور (45) والمزمور (149) و (110) وأشعيا في الإصحاحات (8، 9، 26، 35، 42، 43، 50، 51، 52، 54، 55، 60، 65) ودانيال في ص (2، 7) وزكريا في ص (3) وغيرهم. والمسيحيون يحملون البشارة على الدين المسيحي.
لكن لم يجئ المسيح بغير طائفة من العظات والنصائح والحكم والأمثال، لإخلاص العبادة لله تعالى، والتخفيف من ماديات الجماهير التي غرقوا بها إلى الآذان، وترك الرياء والنفاق، والاهتمام بروح الدين الذي ورثوه عن موسى.(16/93)
وليس في الإنجيل سوى أحكام قليلة، مثل عدم تزوج من طلق امرأة بامرأة سواها، وعدم تزوج المطلقة بآخر، وعدم جواز الطلاق إلا بعلة الزنى، والأمر بالعفة. وفيه نهي عن الأخلاق المرذولة كالمكر والخداع وأكل الأموال بالباطل، والرياء والنفاق.
الحواريون:
هم أصحاب المسيح عيسى ابن مريم وخاصته الذين بادروا إلى الإيمان به وتتلمذوا له وتعلموا منه، وكانوا اثني عشر رجلا. وتعبر عنهم الأناجيل بلفظ (التلاميذ) . وقد أرسلهم المسيح في القرى اليهودية ليدعوا الكفار بدعوة المسيح الحقيقية.
معجزات عيسى:
صدرت عن عيسى كغيره من الأنبياء معجزات تؤيد دعواه النبوة، والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي يجريه الله تعالى على يد أحد الأنبياء مع انتفاء المعارض، منها خلق هيئة الطير من الطين والنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، والإخبار بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وقد ذكرت في سورة آل عمران [الآيات:
49- 51] .
وفاة المسيح:
كان افتضاح أمر الكهنة والفريسيين على يد المسيح عليه السلام سببا في كيدهم له، وشكايتهم إلى الوالي، مدّعين عنده أن عيسى يقول: إنه ملك اليهود، وهم لا يقرون بملك سوى قيصر رومية، فأرسل الوالي جندا للقبض على المسيح، فحينما جاؤوا يبحثون عنه ألقى الله شبهه على شخص آخر، هو (يهوذا(16/94)
الأسخريوطي) فألقوا القبض عليه وصلب وقتل، وهو الذي واطأ الكهنة على الدلالة عليه بأجر.
وأنجى الله عيسى من اليهود، فلم يقبضوا عليه، ولم يقتل ولم يصلب، لقوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 4/ 57] . ثم توفاه الله، ورفعه إليه إلى السماء حيا بجسده وروحه، أو بروحه فقط على قولين، والأول رأي جمهور المسلمين، لقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسى، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 3/ 55] .
الثالوث عند النصارى:
يعتقد النصارى بوجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت هي (الأب والابن وروح القدس) وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، والشرقية، وعموم البروتستانت إلا القليل منهم، مع أن لفظة الثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، وإنما تقرر ذلك في المجمع النيقاوي سنة (325 م) ومجمع القسطنطينية سنة 381 م، وحكما بأن (الابن والروح القدس) مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن (الابن) ولد منذ الأزل من الأب، وأن (الروح القدس) منبثق من الأب. ومجمع طليطلة سنة 589 م حكم بأن (الروح القدس) منبثق من الابن أيضا.
التفسير والبيان:
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ذلك المتصف بالأوصاف السابقة الذي قصصناه عليك هو عيسى ابن مريم، وهذا الكلام المذكور هو قول الحق والصدق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو حقيقة عيسى، لا ما يقوله اليهود: إنه ساحر، ولا ما يقوله النصارى: إنه ابن الله أو هو الله كما يذكر في مقدمة الإنجيل الحالي: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكّين [آل عمران 3/ 59- 60] . وهؤلاء الضالون والمغضوب عليهم يشكون(16/95)
ويتنازعون ويختلفون في عيسى عليه السلام: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [النساء 4/ 156] .
ثم نفى الله تعالى عنه أنه ولد له، فقال:
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي ما صح ولا استقام ولا ينبغي ولا يليق بالله أن يتخذ ولدا إذ لا حاجة له به، وهو حيّ أبدا لا يموت، تنزه وتقدس الله عن مقالتهم هذه، وعن كل نقص من اتخاذ الولد وغيره، إنه إذا أراد شيئا أوجده فورا، فإنه يأمر به فيصير كما يشاء، فمن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ لأن ذلك من أمارات النقص والحاجة: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... [النساء 4/ 171] .
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ.
ثم أمرهم بعبادة الله قائلا:
فَاعْبُدُوهُ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي فاعبدوا الله وحده لا شريك له، وهذا الذي جئتكم به عن الله هو الطريق القويم الذي لا اعوجاج فيه، ولا يضلّ سالكه، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضلّ وغوى.
جاء في الآية (10) من الإصحاح الرابع في إنجيل متى: «قال له يسوع:
اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» .
وبما أنه لا يصحّ أن يقول الله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فلا بدّ وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى؟ قال أبو مسلم الأصفهاني: الواو في وَإِنَّ اللَّهَ عطف على قول عيسى عليه السلام: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ كأنه قال: إني عبد الله، وإنه ربي وربكم فاعبدوه.(16/96)
وبالرغم من وضوح أمر عيسى وأنه عبد الله ورسوله، اختلفوا فيه، كما قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاليهود قالوا: إنه ولد زنى، وإنه ساحر، وكلامه هذا سحر، وإنه ابن يوسف النجار، واختلفت فرق النصارى فيه، فقالت النسطورية منهم: هو ابن الله، وقالت الملكية: هو ثالث ثلاثة، وقالت اليعقوبية «1» : هو الله تعالى.
فعذاب شديد لهؤلاء الكافرين المختلفين في أمره، من شهود يوم القيامة، وما فيه من الحساب والعقاب، حيث يشهدون حينئذ ذلك اليوم العظيم الهول.
وهذا تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله، وافترى وزعم أن له ولدا، ولكن الله تعالى أنظرهم إلى يوم القيامة، وأجّلهم حلما وثقة بقدرته عليهم، فإنه الذي لا يعجل على من عصاه، كما
جاء في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] .
وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم»
وقد قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج 22/ 48] وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم 14/ 42] .
__________
(1) النسطورية: نسبة إلى عالم يسمى نسطور، والملكية أو الملكانية: نسبة إلى الملك قسطنطين الفيلسوف العالم، واليعقوبية: نسبة إلى عالم يسمى يعقوب.(16/97)
والخلاصة في صحة الاعتقاد بعيسى عليه السلام هو
ما جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» .
ثم أخبر الله تعالى عن قوة سمع الكفار وحدة بصرهم يوم القيامة على الضدّ في الدنيا، فقال: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أقوى سمع الكفار وأشد بصرهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء، إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا.. [السجدة 32/ 12] أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا.
لكن هؤلاء الظالمون الكافرون يعرفون الحق في الآخرة، وفي الدنيا صم بكم عمي عن الحق، لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا تقصيرهم.
ثم أمر الله بإنذارهم، فقال لنبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي وأنذر أيها الرسول الخلائق من المشركين وغيرهم يوم يتحسرون جميعا، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير، حين فرغ من الحساب، وطويت الصحف، وفصل بين أهل الجنة، وأهل النار، وصار الأولون في الجنة، والآخرون في النار، وهم الآن في الدنيا غافلون عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة، غافلون عما يعمل بهم في ذلك اليوم وعما يلاقونه من أهوال، وهم لا يصدقون بالقيامة والحساب والجزاء.(16/98)
روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح (أبيض وأسود) فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيؤمر به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بيده وقال: أهل الدنيا في غفلة الدنيا» .
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي وأعلمهم أيها الرسول بأن الله يرث الأرض ومن عليها، فلا يبقى بها أحد من أهلها يرث الأموات ما خلّفوه من الديار والمتاع، ثم إلى الله يردون يوم القيامة، فيجازي كلا بعمله، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الكريمات ما يأتي:
1- إن ما أخبر به القرآن عن كيفية خلق عيسى هو الحق القاطع الذي لا شك فيه، وكل ما عداه من تقولات ومزاعم اليهود والنصارى باطل ساقط لا يليق بالأنبياء والرسل، وكيف يتقبل النصارى الزعم بأن عيسى ربّ وإله، وهم يتهمونه بأنه ابن زانية بغي؟! وإن الاختلاف في شأن عيسى وانقسام أهل الكتاب فيه أحزابا لا داعي له.
2- ليس عيسى ابنا لله كما يزعم النصارى، فما ينبغي لله ولا يجوز أن يتخذ ولدا، لعدم حاجته إليه، فهو منزه عن الشريك والولد وكل نقص، وإن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له: كُنْ فَيَكُونُ فهو القادر على كل(16/99)
شيء، وقول الله وكلامه قديم غير محدث، فلو كان قوله: كُنْ محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر، ولزم التسلسل، وهو محال.
3- لقد أمر عيسى عليه السلام قومه بوحدانية الله وعبادته، فالله ربه وربهم ورب كل شيء، وهو المستحق العبادة، لا أحد سواه، وهذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه.
وقد دلّ قوله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى، على خلاف قول المنجمين: إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب.
ودلّ أيضا على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه، فلما قال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى، دلّ ذلك على التوحيد.
4- اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام، فاليهود اتهموه بالسحر وقدحوا في نسبه، والنصارى فرق ثلاث، قالت النسطورية منهم: هو ابن الله، والملكانية: ثالث ثلاثة، وقالت اليعقوبية: هو الله، فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصّرت.
5- العذاب الشديد والهلاك لأولئك الكفار المختلفين في شأن عيسى عليه السلام عند شهود (أي حضور) يوم القيامة.
6- عرّف الله حال القوم الذين يأتونه ليعتبروا وينزجروا، فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، وما أصمهم وأعماهم في الدنيا، فهم في ضلال مبين في عالم الدنيا، وفي الآخرة يعرفون الحق، ففي الدنيا يكون الكافر أصم وأعمى، ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذاب، ولكنه لا ينفعه ذلك.(16/100)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
7- لقد أعذر من أنذر، وقد أنذر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قومه والمشركين جميعا ما سيلقونه من الحسرة والندامة يوم القيامة، ويوم الفصل في القضاء بين أهل الجنة وأهل النار، فيدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
8- إنه تعالى الخالق المالك المتصرف، وإن الخلق كلهم يهلكون، ويبقى هو تعالى، ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا، بل هو الوارث لجميع خلقه، الباقي بعدهم، فلا تظلم نفس شيئا ولا مثقال ذرة، ويرجع الخلائق كلهم إلى ربهم، فيجازي كلّا بعمله.
قصة إبراهيم عليه السلام أو مناقشته لأبيه في عبادة الأصنام
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)(16/101)
الإعراب:
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ..
إِذْ
في موضع نصب على البدل من قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ أي واذكر في الكتاب قصة إبراهيم، ثم بيّن ذلك، فقال: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
أي واذكر إذ قال لأبيه.
أَراغِبٌ أَنْتَ.. أَراغِبٌ مبتدأ، وابتدئ بالنكرة لاعتمادها على همزة الاستفهام.
وأَنْتَ فاعل راغِبٌ، لاعتماد اسم الفاعل على همزة الاستفهام، فيجري حينئذ مجرى الفعل، والفاعل هنا يسد مسد خبر المبتدأ.
سَلامٌ عَلَيْكَ سَلامٌ مبتدأ، وجاز الابتداء بالنكرة إذا كان فيها فائدة عند المخاطب، والفائدة هنا: تضمنها معنى الدعاء والمتاركة والتبرؤ.
البلاغة:
صِدِّيقاً نَبِيًّا الصدّيق: صيغة مبالغة، أي المبالغ في الصدق.
أَراغِبٌ الهمزة للإنكار والتعجب.
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا كناية عن الذكر الحسن والثناء الجميل باللسان لأن الثناء يكون باللسان.
نَبِيًّا، عَلِيًّا، حَفِيًّا، سَوِيًّا، عَصِيًّا، وَلِيًّا، حَفِيًّا، شَقِيًّا سجع رصين.
المفردات اللغوية:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ أي اذكر لهم واتل عليهم في هذه السورة قصة إبراهيم أو خبره. صِدِّيقاً مبالغا في الصدق، لم يكذب قط. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
آزر. يا أَبَتِ التاء: عوض عن ياء الإضافة (أبي) فلا يجمع بينهما، وكان آزر يعبد الأصنام، فناداه:
يا أَبَتِ وهو تلطف واستدعاء. لا يُغْنِي
لا يكفيك. شَيْئاً
من نفع أو ضرّ.
صِراطاً سَوِيًّا طريقا مستقيما مؤديا للسعادة. لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إن عبادة الأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان، لأنه الآمر بها، فبإطاعتك إياه في عبادة الأصنام، تكون عابدا له.
عَصِيًّا كثير العصيان. والمطاوع للعاصي عاص، والعاصي جدير بأن ينتقم منه.
أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ إن لم تتب. فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ناصرا، وقرينا في اللعن، أو العذاب في النار. أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي أكاره لها، فتعيبها؟ لَئِنْ لَمْ(16/102)
تَنْتَهِ
عن التعرض لها ومقالك فيها لَأَرْجُمَنَّكَ أي لأشتمنك بالكلام القبيح، أو لأرجمنك بالحجارة، فاحذرني. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا واتركني دهرا طويلا.
سَلامٌ عَلَيْكَ مني، أي سلام توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة، أي لا أصيبك بمكروه، ولا أقول لك بعد ما يؤذيك. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي ولكن سأستغفر لك الله، لعله يوفقك للتوبة والإيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر: استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته.
حَفِيًّا مبالغا في برّي وإكرامي، فيجيب دعائي. وقد وفى بوعده المذكور، فقال في سورة الشعراء: وَاغْفِرْ لِأَبِي.
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ وأترككم وما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. وَأَدْعُوا رَبِّي وأعبده وحده. بِدُعاءِ رَبِّي بعبادته. شَقِيًّا خائب المسعى، مثلكم في دعاء آلهتكم. وفي تصدير الكلام بعسى: تواضع وتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل من الله غير واجب عليه.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالهجرة إلى الشام، والذهاب إلى الأرض المقدسة.
وَهَبْنا لَهُ ابنا وابن ابن يأنس بهما، وهما إسحاق من سارّة التي تزوج بها، ثم ولد لإسحاق يعقوب، ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء. وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وكلّا منهما أو منهم وهبناه النبوة. وَوَهَبْنا لَهُمْ للثلاثة مِنْ رَحْمَتِنا الأموال والأولاد وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي ثناء حسنا رفيعا في جميع أهل الأديان.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة في سورة مريم، فبعد أن أبان الله تعالى ضلال النصارى، ذكر ضلال عبدة الأوثان. والفريقان، وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الفريق الثاني أعظم لأن مقصد السورة إثبات التوحيد والنبوة والبعث والحشر، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا وهم النصارى، وفريق أثبت معبودا غير الله جمادا ليس بحي ولا عاقل، وهم عبدة الأصنام، فذكر الفريق الأول، ثم الثاني، لإبطال المذهبين.
والسبب في ذكر قصة إبراهيم هو أنه أبو العرب، وكانوا معترفين بملته ودينه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج 22/ 78] فنبههم تعالى إلى منهج إبراهيم من خلال حجاجه مع أبيه آزر.(16/103)
وقد ذكرنا قصة إبراهيم في سورة البقرة، ويلاحظ أن إبراهيم عليه السلام- كما ذكر السيوطي- عاش من العمر مائة وخمسا وسبعين سنة (175) وبينه وبين آدم ألفا سنة (2000) وبينه وبين نوح ألف سنة (1000) ومنه تفرعت شجرة الأنبياء.
إسحاق عليه السلام:
هو ابن سارّة، ولم يذكر في القرآن من قصصه إلا بشارة الملائكة به، وأنه غلام عليم، وأنه نبي من الصالحين، وأن الله بارك عليه.
واليهود والنصارى يدّعون أنه الذبيح، مع تكذيب التوراة لهذه الدعوى، كما سأذكر في قصة إسماعيل قريبا.
وقد عاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ودفن في حبرون، وهي مدينة الخليل اليوم، بمغارة المكفيلة.
يعقوب عليه السلام:
هو إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، تزوج بابنتي خاله (لابان) وهما (ليئة وراحيل) في فدان آرام، ثم تزوج بجاريتيهما: زلفا وبلها، ومنهن كان أولاده الذين ولدوا جميعا في (آرام) إلا بنيامين الذي ولد في فلسطين.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة بعد قصتي زكريا ويحيى، وعيسى ومريم، وهي قصة إبراهيم عليه السلام. ومن المعلوم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر، والمنكرون للتوحيد أثبتوا معبودا سوى الله تعالى، وهؤلاء فريقان: منهم من أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا فاهما وهم(16/104)
النصارى، ومنهم من أثبت معبودا غير الله جمادا، ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم، وهم عبدة الأوثان.
والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم، فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول، تكلم في ضلال الفريق الثاني، وهم عبدة الأوثان.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا هذا عطف على قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
الذي هو عطف على قوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي واذكر أيها الرسول إبراهيم الصدّيق النبي، خليل الرحمن، أبا الأنبياء، واتل خبره على الناس في الكتاب المنزل عليك، فهو بالحجارة، وفي ذلك إيناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وفظاظة أبي جهل.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
اذكر إبراهيم حين قال بلطف وعقل واع وبرهان قاطع لأبيه آزر:
يا أبت، لم تعبد ما لا يسمع دعاءك إياه، ولا يبصر ما تفعله من عبادته، ولا يجلب لك نفعا، ولا يدفع عنك ضررا، وهي الأصنام الجمادات.
يا أَبَتِ، إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي يا أبي، وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله، على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك، فاتبعني في دعوتي أرشدك طريقا سويا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب، منجيا من كل مرهوب ومكروه.(16/105)
والمراد بالهداية: بيان الدليل وشرحه وإيضاحه، وقوله: فَاتَّبِعْنِي ليس أمر إيجاب، بل أمر إرشاد، وكانت هذه المحاورة بعد أن صار إبراهيم نبيا. ويلاحظ أنه لم يصف أباه بالجهل، ولا نفسه بالعلم الكامل، لئلا ينفر منه، وإنما قال: أعطيت شيئا من العلم لم تعطه.
يا أَبَتِ، لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي يا أبي، لا تطع الشيطان في عبادتك هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها، المستن لها، الراضي بها، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس 36/ 60] وقال سبحانه: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً [النساء 4/ 117] .
لا تطع الشيطان، فإن عبادة الأصنام، هي من طاعة الشيطان، والشيطان عاص (كثير العصيان) مخالف مستكبر عن طاعة ربه، حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم، وتحلّ به النقم، لذا طرده ربه وأبعده من رحمته، فلا تتبعه تصر مثله، فإن عبادة الأصنام لا يتقبلها عقل، ولكنها تنشأ من وسوسة الشيطان وإغوائه، فكانت عبادتها عبادة له، وطاعة لإغوائه، والشيطان عدو آدم وذريته، لا يريد لكم إلا الشر.
يا أَبَتِ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا يا أبي، إني أخشى أن يصيبك عذاب الله على شركك وعصيانك لما أطلبه منك، فتكون بذلك مواليا للشيطان، وقرينا معه في النار، بسبب موالاته.
وهذا تحذير لأبيه من سوء العاقبة، وإنذار بالشر، حيث لا يكون له مولى ولا ناصر ولا مغيث إلا إبليس، وليس له ولا لغيره من الأمر شيء، بل اتباعه موجب لإحاطة العذاب به، كما قال تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ(16/106)
قَبْلِكَ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
[النحل 16/ 63] .
وبالرغم من هذا الأدب في الدعوة إلى التوحيد مع البراهين والأدلة الدالة على بطلان عبادة الأوثان، أجابه أبوه بما هو غير مأمول منه، فقال تعالى:
قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أجاب أبو إبراهيم ولده إبراهيم فيما دعاه إليه قائلا: أمعرض أنت عن تلك الأصنام ومنصرف إلى غيرها؟ وإن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فامتنع عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك لأرجمنك بالحجارة أو لأشتمنك، وفارقني زمنا طويلا.
ويلاحظ أن الأب قابل ابنه بالعنف، فلم يقل له: يا بني، كما قال الابن له: يا أبت، وقابل وعظه الرقيق بالتهديد والوعيد بالشتم أو بالضرب بالحجارة، وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وفظاظة أبي جهل.
ومع كل هذا أجابه إبراهيم باللطف قائلا:
قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك سلام توديع وترك لا سلام تحية، فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، لحرمة الأبوة، وكما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] وقال سبحانه: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 55] .
ولكن سأطلب لك من الله أن يهديك ويغفر لك، بأن يوفقك للإيمان، ويرشدك للخير، إن ربي كان بي لطيفا كثير البرّ، يجيبني إذا دعوته. ونظير(16/107)
الآية: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء 26/ 86] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم 14/ 41] . والمراد بكل ذلك طلب الهداية وترك الضلال.
وإنما استغفر له لوعد سابق منه أن يؤمن، كما قال تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة 9/ 114] .
ويرى ابن كثير أن الاستغفار للمشركين كان جائزا ثم نسخ في شرعنا، فقال: وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام، وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك، حتى أنزل الله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ..
الآية [الممتحنة 60/ 4] يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، واستقر التشريع بما دلّ عليه قوله تعالى:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 9/ 113] «1» .
والخلاصة: إن الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق حال الحياة لا بأس به، وأما بعد الموت على الشرك أو الكفر، فهو ممنوع، فقول بعض الناس:
المرحوم فلان، وهو يعلم أنه مات كافرا، غير جائز.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 123- 124.(16/108)
ثم قرر إبراهيم عليه السلام الهجرة إلى بلاد الشام، فقال تعالى:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي وأبتعد عنكم، وأهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم، حين لم تقبلوا نصحي، وأعبد ربي وحده لا شريك له، وأجتنب عبادة غيره، لعلي لا أكون بدعاء ربي خائبا، كما خبتم أنتم بعبادة تلك الأصنام التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم. وعَسى ذكر ذلك على سبيل التواضع، كقوله:
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء 26/ 82] ويراد بها التحقق لا محالة، فهو عليه السلام أبو الأنبياء. كذلك قوله: شَقِيًّا ذكره على سبيل التواضع، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم في قوله المتقدم لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً.
ولما أنفذ ما نواه وعزم عليه، حقق الله رجاءه ودعاءه، فقال:
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي فلما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه، وترك أرضه ووطنه، وهجر موضع عبادتهم غير الله، وهاجر في سبيل الله إلى أرض بيت المقدس حيث يقدر على إظهار دينه، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق بعد أن تزوج من سارّة، وابنه يعقوب حفيده، بدل الأهل الذين فارقهم، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقرّ الله بهم عينيه، فكل الأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحب إبراهيم وتحترمه مع إسحاق ويعقوب.
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والأولاد والكتاب، وجعلنا لهم الثناء الحسن على ألسن العباد، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] . قال ابن جرير: وإنما قال: عَلِيًّا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(16/109)
وبما أن العرب من سلالة إبراهيم، وتدعي أنها على دين إبراهيم، فالله ذكر لهم قصته، ليعتبروا ويتعظوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- إن أسباب إيراد قصة إبراهيم عليه السلام ثلاثة:
الأول- كان إبراهيم عليه السلام أب العرب، وكانوا مقرين بعلو شأنه وطهارة دينه، فقال الله لنبيه: اقرأ عليهم في القرآن أمر إبراهيم، فهم من ولده، وإنه كان حنيفا مسلما، لم يتخذ الأنداد، فإن كنتم مقلدين لآبائكم، فقلدوا إبراهيم في ترك عبادة الأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان، وبالجملة:
فاتبعوا إبراهيم إما تقليدا وإما استدلالا، ولم تتخذون الأنداد؟! والله يقول:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة 2/ 130] .
الثاني- كان كثير من الكفار في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا، فذكر الله قصة إبراهيم عليه السلام، وبيّن أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل، فكونوا مثله.
الثالث- كان كثير من الكفار يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال، كما حكى الله تعالى عنهم: قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف 43/ 22] وقالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ [الأنبياء 21/ 53] فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريق الاستدلال، تنبيها على فساد هذه الطريقة.
2- وصف تعالى إبراهيم عليه السلام بأنه كان صديقا نبيا، أي مبالغا في كونه صادقا: وهو الذي يكون عادته الصدق، أو كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهورا به.(16/110)
3- كان إبراهيم عليه السلام في محاورته أباه في غاية الأدب واللطف والرفق، فكان يكرر قوله استعطافا وشفقة: يا أبت، ولما يئس من استجابته لدعوته، قال: سلام عليك، سلام متاركة وتوديع، لا سلام تحية، سأستغفر لك ربي، طالبا منه هدايتك، وكان في خطابه كله له شديد الخوف عليه من الكفر والعذاب في النار.
وكان الأب آزر مستعليا مترفعا يعتمد على التهديد والقطيعة والسب والشتم والرجم بالحجارة.
4- عاب إبراهيم عليه السلام الوثن من ثلاثة أوجه:
أحدها- لا يسمع.
الثاني- لا يبصر.
الثالث- لا يغني عنك شيئا، كأنه قال له: بل الألوهية ليست إلا لربي، فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر، كما قال: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] ويقضي الحوائج: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل 27/ 62] .
5- ليحذر الإنسان طاعة الشيطان فيما يأمره به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده، والشيطان دائما عاص لربه مخالف أوامره.
6- حذر إبراهيم عليه السلام أباه آزر من الكفر وعاقبته، فقال: إني أخاف أن تموت على الكفر، فيمسّك العذاب، فتكون للشيطان قرينا في النار.
7- يرى جمهور العلماء أنه لا يبدأ الكافر بالسلام لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم فاضطروه إلى أضيقه»
وربما كان هذا الحديث لواقعة معينة إثر تآمر اليهود على قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أشار بعضهم.(16/111)
وجوز سفيان بن عيينة تحية الكافر وأن يبدأ بها، قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم، قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
[الممتحنة 60/ 8] وقال: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة 60/ 4] الآية وقال إبراهيم لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ ويؤيده حديث آخر في الصحيحين عن أسامة بن زيد: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبيّ بن سلول. وقال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه، وقال: ولكن حق الصحبة. وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته، لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مرّ بكافر فسلّم عليه، فقال: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك.
وأما الاستغفار للكافر فقد أوضحناه في تفسير الآيات هنا، وخلاصته: أنه ممنوع بعد الموت، جائز في الحياة بمعنى طلب الهداية والرشاد. والدليل على أن الاستغفار للكافر لا يجوز آيتان تقدمتاهما: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة 9/ 113] وإِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.. [الممتحنة [60/ 4] أي لا تتبعوه في ذلك.
8- قال الرازي: اعلم أنه ما خسر على الله أحد، فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزل قومه في دينهم وفي بلدهم، واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره، لم يضره ذلك دينا ودنيا، بل نفعه فعوضه أولادا أنبياء، وذلك من أعظم النعم في الدنيا والآخرة. ثم إنه تعالى وهب لهم مع النبوة ما وهب من المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة، ثم قال تعالى: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ(16/112)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
عَلِيًّا
أي ثناء حسنا لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم «1» . واللسان يذكّر ويؤنث.
قصة موسى عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
الإعراب:
الْأَيْمَنِ صفة الطور أو الجانب، والظاهر أنها صفة الجانب لقوله في آية أخرى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم 19/ 52] بنصب الأيمن.
نجيا حال من أحد الضميرين في نادَيْناهُ وقَرَّبْناهُ.
أَخاهُ هارُونَ هارُونَ: بدل أو عطف بيان، وأَخاهُ مفعول لوهبنا.
نَبِيًّا حال، هي المقصودة بالهبة، إجابة لسؤاله أن يرسل أخاه معه، وكان أسنّ منه.
المفردات اللغوية:
مُخْلَصاً مختارا مصطفى مخلّصا من الدنس، وقرئ بكسر اللام، أي مخلصا في عبادته عن الشرك والرياء، موحدا أسلم وجهه لله. وَنادَيْناهُ يقول: يا موسى، إني أنا الله. مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ من ناحية الجبل اليمنى، وهي التي تلي يمين موسى حين أقبل من مدين، بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة، والطور: الجبل بين مصر ومدين. وَقَرَّبْناهُ تقريب تشريف وتكريم. نَجِيًّا مناجيا، مكلما الله بلا واسطة، بأن أسمعه الله تعالى كلامه. مِنْ رَحْمَتِنا نعمتنا، أي من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا. أَخاهُ معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه 20/ 29] فإنه كان أسنّ من موسى.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 230(16/113)
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة لإخبار العرب وغيرهم أن موسى عليه السلام مثل إبراهيم عليه السلام أخلص العبادة لله عن الشرك والرياء، وأسلم وجهه لله تعالى. ومثله أيضا أخوه هارون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام، وإنما وهب الله له نبوته، لا لشخصه وأخوته، وذلك إجابة لدعائه في قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي: هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه 20/ 29- 31] ، فأجابه الله تعالى إليه بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 36] ، وقوله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص 28/ 35] .
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى لما ذكر الله تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر موسى الكليم، فقال: واذكر يا محمد في الكتاب، واتل على قومك أوصاف موسى التي سأخبرك عنها وهي خمس صفات:
1- إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً أي جعلناه مختارا مصطفى، وأخلصناه مطهرا من الآثام والذنوب، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف 7/ 144] . وقرئ بالكسر (مخلصا) ومعناه: أخلص لله في التوحيد والعبادة، والإخلاص: هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده. قال الثوري عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله، أخبرنا عن المخلص لله، قال: الذي يعمل لله، لا يحب أن يحمده الناس.
2- وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا جمع الله له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة، وهم: (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم(16/114)
صلوات الله وسلامه) أرسله الله إلى عباده داعيا ومبشرا ونذيرا، فأنبأهم عن الله بشرائعه.
والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وكان معه كتاب فيه شريعته كموسى عليه السلام، سواء أنزل عليه كتاب مستقل أم كتاب من سبقه.
والنبي: هو من أوحي إليه بشرع يخبر به عن الله ويخبر به قومه، وليس معه كتاب، كيوشع عليه السلام.
3- وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي كلمناه من جانب الطور عن يمين موسى أو عن يمين الجبل نفسه، حين جاء من مدين متجها إلى مصر، فهو كليم الله بعدئذ، وأصبح رسولا، وواعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، وأنزلنا عليه كتاب التوراة. والمناداة عن يمين موسى أصح، فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال.
4- وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي أدنيناه إدناء تشريف وتقريب منزلة، حتى كلمناه، أو حين مناجاته لنا. فقوله: نَجِيًّا من المناجاة في المخاطبة، أي أنه أصبح في العالم الروحي قريب المنزلة من الله تعالى.
5- وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا أي منحناه من فضلنا ونعمتنا، فجعلنا أخاه نبيا، حين سأل ربه قائلا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 29- 32] فحقق له مطلبه وأجاب دعاءه وسؤاله وشفاعته بقوله: قالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 36] ، وقوله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص 28/ 35] .
قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة(16/115)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
موسى في هارون أن يكون نبيا، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا. قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يبلغ رسول مرتبة أولي العزم إلا بمقومات عالية، وخصائص فريدة رفيعة، وهذه بعض خصائص موسى وصفاته، أخلصه ربه واختاره، فكان مخلصا لله في عبادته، بعيدا عن الشرك والرياء، وجعله رسولا بشرع وكتاب ونبيا من الصالحين، وكلّمه ربه من غير وحي، وناجاه من جانب الطور، في البقعة المباركة، عند الشجرة، عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر.
وقربه إليه ربه تقريب تشريف وإجلال، حالة كونه مناجيا حضرة الله تعالى، مثل تقريب الملك لمناجاته، وأنعم عليه مجيبا سؤاله ودعاءه بجعل أخيه هارون الأكبر منه سنّا نبيا ورسولا، وتلك نعمة كبري على الأخوين، إذ آزرهما ببعضهما، وجعلهما متعاضدين متعاونين في تبليغ الرسالة الإلهية إلى فرعون وآله وإلى بني إسرائيل.
قصة إسماعيل عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
الإعراب:
مَرْضِيًّا خبر كان، وأصله «مرضويا» فأبدلوا من الضمة كسرة، ومن الواو ياء، على لغة من ثنى «الرضا» «رضوان» . ومن قال: «رضيان» كان من ذوات الياء، وأصله «مرضوي» فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن، فقلبوا الواو ياء، وأدغموا الياء في الياء، وكسروا ما قبل الياء مناسبة لها.(16/116)
المفردات اللغوية:
صادِقَ الْوَعْدِ ذكره بالمشهور به، فلم يعد شيئا إلا وفي به، وانتظر من وعد ثلاثة أيام، أو حولا، حتى رجع إليه في مكانه. وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا إلى قبيلة جرهم. وهو يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم عليه السلام كانوا على شريعته.
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ قومه، اشتغالا بما هو الأهم، وهو أن يعنى الإنسان بتكميل نفسه ومن هو أقرب الناس إليه أولا، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه 20/ 132] ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] . وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم 19/ 55] لاستقامة أقواله وأفعاله، والمرضي عند الله: الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات.
المناسبة:
هذه هي القصة الخامسة في سورة مريم، وهي قصة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان على شريعة أبيه في توحيد الله ومحاربة الوثنية وعبادة الأصنام، وإبراهيم كما عرفنا أبو العرب يمنيها ومضريها. قال الزمخشري: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة، ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس.
وقدم الله تعالى قصة موسى عليه السلام على قصة إسماعيل عليه السلام، لينسجم الكلام عن يعقوب وبنيه دون فاصل بينهما.
أضواء على قصة إسماعيل الذبيح:
رأى إبراهيم عليه السلام في منامه- ورؤيا الأنبياء حق- أنه يذبح ولده قربانا لله تعالى، وكان ذلك الولد على الأصح الراجح إسماعيل، فعرض الأمر على ولده، فتقبل القضاء بالرضا وقال: يا أَبَتِ، افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات 37/ 102] .(16/117)
فلما بدأ بتحقيق الأمر، وأهوى بالمدية إلى ذبح ولده، ناداه الله بالكفّ، وأن هذا العمل منه يكفي تصديقا للرؤيا، ورأى إبراهيم كبشا قريبا منه، فذبحه فدية عن ولده، ولم تعين الآيات اسم ذلك الولد، ولكن سياق الآيات، وتبشير إبراهيم بإسحاق بعدها، يدل على أن الذبيح إسماعيل، وذلك في الآيات من سورة الصافات [99- 113] ، وفيها: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [101] ، ثم قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [108] ، والضمير يعود إلى الذبيح. ثم قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [112] ، فالإتيان بالبشرى بإسحاق بعد ذكر قصة الذبيح صريح في أن إسحاق غير الغلام المأمور بذبحه، وعود الضمير إلى الغلام الذبيح، وذكر اسم إسحاق معه صريحا يقتضي التغاير بين الذبيح وإسحاق.
ويرى اليهود أن إسحاق هو الذبيح ليفتخروا بأن أباهم هو الذي جاد بنفسه في طاعة ربه، وهو في حالة صغره.
والدليل على أن الذبيح إسماعيل من التوراة نفسها: أن الذبيح وصف بأنه ابن إبراهيم الوحيد، والإقدام على ذبح الولد الوحيد هو الإسلام بعينه، أي الطاعة والامتثال، ولم يكن إسحاق وحيدا لإبراهيم في يوم من الأيام لأن إسحاق ولد، ولإسماعيل أربع عشرة سنة، كما هو صريح التوراة، وبقي إسماعيل إلى أن مات إبراهيم، وحضر إسماعيل وفاته ودفنه. وذبح إسحاق يناقض وعد الله لإبراهيم أن سيكون له ابن هو يعقوب. ثم إن مسألة الذبح وقعت في مكة وإسماعيل هو الذي ذهب به أبوه إليها رضيعا، كما في حديث البخاري الآتي «1» ،
وعند الزمخشري في الكشاف حديث: «أنا ابن الذبيحين» رواه الحاكم في المناقب.
__________
(1) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار 101- 103(16/118)
إسماعيل وأمه هاجر في مكة:
لم يبن بمكة شيء بعد البيت إلا في القرن الثاني قبل الإسلام، في عهد قصي بن كلاب، فإنه بنى دار الندوة، وتبعته قريش في البناء حول المسجد.
جاء في البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، حتى بلغ يَشْكُرُونَ.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى- أو قال:
يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات» .
قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» .
فلما(16/119)
أشرفت على المروة، سمعت صوتا، فقالت: صه- تريد نفسها، ثم تسمّعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه- أو قال: بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم- أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينا معينا» .
وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. إلخ الحديث.
بناء البيت:
كان إبراهيم عليه السلام يزور ولده إسماعيل حينا بعد آخر، ففي إحدى هذه الزيارات أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، فصدعا بالأمر وبنيا الكعبة. ولما تمّ بناؤها أمره الله تعالى أن يعلم الناس بأنه بنى بيتا لعبادة الله تعالى وأن عليهم أن يحجوه، وطلب إبراهيم وإسماعيل من الله تعالى أن يريهما المناسك التي ينسكانها. والآيات التي توضح ذلك: [البقرة 2/ 125- 129] ، [إبراهيم 14/ 35- 37] ، [الحج 22/ 26- 37] .
والكعبة: أول بيت وضع للناس لعبادة الله تعالى [آل عمران 3/ 96- 97] .
حياة إسماعيل وأولاده:
لإسماعيل اثنا عشر ولدا رؤساء قبائل، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، مات بمكة، ودفن بالحجر بجواز البيت هو وأمه.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ واذكر أيها الرسول في القرآن خبر وصفات(16/120)
إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم، وهي صفات أربع:
1- إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ مشهورا بالوفاء، مبالغا بإنجاز ما وعد، فما وعد وعدا مع الله أو مع الناس إلا وفّى به، فكان لا يخالف شيئا مما يؤمر به من طاعة ربه، وإذا وعد الناس بشيء أنجز وعده، وناهيك من صدق وعده أنه وعد أباه أن يصبر على الذبح، فوفّى بذلك، قائلا: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات 37/ 102] .
وصدق الوعد من الصفات الحميدة في كل زمان ومكان، وخلفه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف 61/ 2- 3] ،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»
، وإذا كانت هذه صفات المنافقين فضدها صفات المؤمنين، ومما يؤسف له أن خلف الوعد شائع بين المسلمين، وبخاصة التجار والعمال وأصحاب الحرف.
2- وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا جمع الله له بين الوصفين كأبيه وكموسى عليهم السلام، فكان رسولا إلى جرهم في مكة، لتبليغهم شريعة إبراهيم، وإخبارهم بما أنزل الله تعالى، وهذا دليل على أنه لا يشترط إنزال كتاب مستقل على الرسول. وفي هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة،
وأخرج الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» .
3- وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي وكان يأمر أمته وعشيرته وأهله بهاتين العبادتين الشرعيتين المهمتين جدا، فكان صابرا على طاعة ربه، كما(16/121)
قال تعالى لرسوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه 20/ 132] ، وقال سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] .
وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل، فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» .
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه- واللفظ له- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» .
4- وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي رضيا زاكيا صالحا، مرضي العمل غير مقصر في طاعة ربه، فعلى المؤمن الاقتداء به.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مجموعة خصال أخرى لرسول نبي هو إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، والأظهر أن الذبيح هو وليس إسحاق كما تقدم في سورة الصافات.
خصة الله تعالى بصدق الوعد، وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما، ولأنه كان مشهورا بذلك مبالغا في الوفاء بالوعد. وهو كما تقدم صفة حميد،
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الطبراني في الأوسط عن علي وابن مسعود، وهو ضعيف: «العدة دين» .
وإيجاب الوفاء من محاسن المروءة وموجبات الديانة، لكن لا يلزم قضاء، فليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر بن عبد البر: أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء، أي لا يقتسم مع الدائنين العاديين الآخرين ما يوجد من أموال المدين لأن ما وعد به لا يصبح دينا.(16/122)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
لكن لا خلاف أن الوفاء بالدين يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفّى بنذره.
ويرى الإمام مالك: أن الوعد ملزم إذا دخل الموعود في التزام ما، أو وعد بقضاء دين عنه، وشهد عليه اثنان، يلزمه ذلك قضاء «1» . ويرى سائر الفقهاء الآخرين: أن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم تقبض في العارية، وفي غير العارية: هي أشياء وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها.
وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى جرهم في مكة ونبيا صالحا، وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضيا مقبولا وهذا في نهاية المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز بأعلى الدرجات.
وإذا قرنت الزكاة بالصلاة أريد بها الصدقات الواجبة، فهي طاعة لله لازمة، تتطلب الإخلاص في أدائها، كما أن الصلاة واجبة.
والأقرب- كما قال الرازي- في الأهل: أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع، فيدخل فيه كل أمته لأنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة.
قصة إدريس عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
المفردات اللغوية:
إِدْرِيسَ هو سبط شيث، وجد نوح لأبيه، واسمه (أخنوخ) لقب إدريس بذلك لكثرة
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 116.(16/123)
درسه إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وإنه أول من خط بالقلم، وخاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة، فقاتل بني قابيل، وأول مرسل بعد آدم. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا يعني شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى، وقيل: الجنة، وقيل: في السماء الرابعة أو السادسة أو السابعة، والأول أصح.
المناسبة:
هذه قصة إدريس هي القصة السادسة من سورة مريم، ذكرت للعبرة لأنه دعا إلى دين الله والتوحيد وعبادة الخالق، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة بالعمل الصالح في الدنيا، وحض على الزهد في الدنيا والعمل بالعدل، وأمر بالصلاة وبصيام أيام من كل شهر، وحث على جهاد الأعداء، وأمر بالزكاة معونة للضعفاء، وغلظ في الطهارة من الجنابة والكلب والحمار، وحرم المسكر من كل شيء.
وهو أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام. فهو من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح.
وجاء في صحيح مسلم في حديث الإسراء أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ به في السماء الرابعة.
وهذا هو الصحيح، وأما ما ذكر في البخاري من أنه في السماء الثانية فهو وهم.
ولد بمنف في مصر، وسموه (هرمس الهرامسة) وقيل: ولد ببابل، وأخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم، وهو جد جد أبيه. وأقام بمصر يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الله عزّ وجلّ. وكان يعلّمهم كيفية تخطيط المدن.
أقام في الأرض اثنتين وثمانين سنة، وكان على فص خاتمه: «الصبر مع(16/124)
الإيمان بالله يورث الظفر» ، وعلى المنطقة التي يلبسها: «الأعياد في حفظ الفروض، والشريعة من تمام الدين، وتمام الدين من كمال المروءة» ، وعلى المنطقة التي يلبسها وقت الصلاة على الميت: «السعيد من نظر لنفسه، وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة» ، وكانت له مواعظ وآداب.
التفسير والبيان:
وصف الله تعالى إدريس جد نوح الذي هو أول من خط بالقلم، وخاط الثياب، ولبس المخيط بصفات ثلاث هي:
1- إنه كان صدّيقا، أي كثير الصدق، قوي التصديق بآيات الله تعالى.
2- وكان رسولا نبيا، أي موحى إليه بشرع، مأمورا بتبليغه إلى قومه، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذرّ.
3- ورفعه الله مكانا عليا، أي أعلى قدره، وشرفه بالنبوة، وجعله ذا منزلة عالية، كما قال الله لنبيه: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح 94/ 4] ،
وروى مسلم في صحيحة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ به في ليلة الإسراء، وهو في السماء الرابعة» .
وجرت العادة ألا يرفع إلى السماء إلا من كان عظيم القدر والمنزلة.
والأولى في رأي الرازي أن المراد بالصفة الثالثة الرفعة في المكان إلى موضع عال لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان، لا في الدرجة.
والظاهر لي أن المراد الرفعة في الدرجة، إذ لا فرق في التعبير بين المكان والمكانة، فيقال: فلان ذو مكان عال عند السلطان.
وسبب رفع مكانته: أنه كان كثير العبادة، يصوم النهار، ويتعبد في الليل. قال وهب بن منبّه: كان يرفع لإدريس عليه السلام كل يوم من العبادة(16/125)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
مثلما يرفع لأهل الأرض في زمانه. وأصحاب هذه الخصال هم قدوة يقتدي بها المؤمن، ويتحلى بها المخلص، وقد بدأ الله نبيه بالأمر بها والخطاب معه لأنه قدوة أمته، والمثل الأعلى للمؤمنين على الدوام، مشيرا إلى ذلك في الآية التالية.
جملة صفات الأنبياء عليهم السلام
[سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
الإعراب:
أُولئِكَ الَّذِينَ مبتدأ وخبر أو الذين: صفة، والخبر: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ..، وهو إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء.
خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا منصوبان على الحال المقدرة، أي مقدّرين السجود والبكاء.
وبُكِيًّا جمع باك.
إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الجملة الشرطية خبر، إذا جعلنا الَّذِينَ أَنْعَمَ.. صفة لأولئك، وهي كلام مستأنف إن جعلنا الَّذِينَ خبرا، لبيان خشيتهم من الله، مع علو الدرجة وشرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز وجل.
البلاغة:
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الإشارة بالبعيد لعلو الرتبة.
المفردات اللغوية:
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الدينية والدنيوية. مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول لأن جميع الأنبياء منعم عليهم.
مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ من هنا للتبعيض، والمراد به هنا: إدريس الذي هو من ذرية آدم عليه السلام، لقربه منه لأنه جد نوح أي جد أبيه. وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة، أي إبراهيم بن سام بن نوح. وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ أي إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وَإِسْرائِيلَ هو يعقوب(16/126)
عليه السلام، أي من ذريته وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي ومن جملتهم، واجْتَبَيْنا اصطفينا واخترنا للنبوة والكرامة. سُجَّداً جمع ساجد.
وَبُكِيًّا جمع باك،
روى ابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اتلو القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» .
والبكا: بالقصر مثل الحزن، لا صوت معه.
المناسبة:
بعد أن أثنى الله على كل رسول من رسله العشرة بما يخصه، جمعهم آخرا بصفة واحدة: هي الإنعام عليهم بالنبوة، والهداية إلى طريق الخير، والاصطفاء من سائر خلقه. قال ابن كثير: ليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس «1» .
التفسير والبيان:
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أي أولئك المذكورون من أول السورة إلى هنا، من لدن زكريا إلى إدريس، بل وجميع الأنبياء هم الذين أنعم الله عليهم بنعمة النبوة والقرب منه، وعظم المنزلة لديه، واختارهم واجتباهم من بين عباده، وهداهم وأرشدهم ليكونوا المثل الأعلى للبشرية، والأسوة الحسنة للناس جميعا في عبادة الله وطاعته والتأسي بطريقتهم ومنهجهم وأخلاقهم.
مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ أبي البشر الأول عليه السلام.
وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملنا في السفينة مع نوح أبي البشر الثاني، وهم من عدا إدريس عليه السلام الذي كان سابقا على نوح، على ما ثبت في الأخبار، جمعهم الله في كونهم من ذرية آدم، ثم خص بعضهم بأنه من ذرية المحمولين مع نوح، والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 126(16/127)
وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم السلام.
وَإِسْرائِيلَ أي ومن ذرية إسرائيل، أي يعقوب، وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم عليهم السلام.
وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي ومن جملة من هدينا إلى الإسلام الذي هو الدين الحق المشترك بين جميع الأنبياء، ومن جملة من اخترنا للنبوة والكرامة والاصطفاء.
إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أي كانوا إذا سمعوا آيات الله المتضمنة حججه ودلائله وبراهينه وشرائعه المنزلة، سجدوا لربهم خضوعا لذاته واستكانة وانقيادا لأمره، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، وهم باكون خشية من الله ومن عذابه. والبكي: جمع باك.
قال ابن كثير: ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء: أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ، كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ، وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
إلى قوله:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 83- 90] وقال سبحانه وتعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر 40/ 78] وفي صحيح البخاري عن مجاهد: أنه سأل ابن عباس أفي ص سجدة؟ فقال:
نعم، ثم تلا هذه الآية: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم يعني داود.(16/128)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
لهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم «1» .
وعند ابن ماجه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»
وعن صالح المرّي قال: قرأت القرآن عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، فقال لي: يا صالح، هذه القراءة، فأين البكاء؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود، حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه» «2» .
والذي يستنبط من هذه الآية كما فهم منها: أن جميع الأنبياء هم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة للبشرية في سلامة العقيدة، وكثرة العبادة، وصحة الدين، ونقاوة الأصل، وطهارة النسب والمعدن. واستقامة المنهج والطريق، ورفعة الشأن والخلق.
صفات خلف الأنبياء وجزاؤهم وصفات التائبين ومستحقي الجنة
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
__________
(1) المرجع السابق 127. [.....]
(2) تفسير الرازي: 21/ 234.(16/129)
الإعراب:
جَنَّاتِ عَدْنٍ جَنَّاتِ بدل منصوب من قوله: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي يدخلون جنات عدن، وهو بدل الشيء من نفسه لأن الألف واللام في الجنة للجنس.
إِلَّا سَلاماً إما منصوب لأنه استثناء منقطع، أو منصوب على البدل من (لغو) .
بِالْغَيْبِ حال.
نُورِثُ مِنْ عِبادِنا نُورِثُ مضارع أورث، وهو يتعدى إلى مفعولين، الأول منهما محذوف، وهو الهاء عائد الموصول، أي نورثها، والمفعول الثاني مَنْ كانَ تَقِيًّا. ومِنْ عِبادِنا متعلق بنورث، أي تلك الجنة التي نورثها من كان تقيا من عبادنا.
البلاغة:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ جناس ناقص لتغير الحركات والشكل.
بُكْرَةً وَعَشِيًّا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَخَلَفَ بسكون اللام: عقب السوء، وبفتح اللام: عقب الخير. أَضاعُوا الصَّلاةَ تركوها بتاتا، أو أخروها عن وقتها. وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ انهمكوا في المعاصي واللذات.
غَيًّا أي شرا أو واديا في جهنم، والمعنى: يقعون في نار جهنم، ويلقون جزاءهم فيها. إِلَّا بمعنى لكن، وهو يدل على أن الآية في الكفرة. وَلا يُظْلَمُونَ ينقصون. شَيْئاً من ثوابهم وجزاء أعمالهم.
جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام بِالْغَيْبِ أي وهي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها. إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ موعوده. مَأْتِيًّا بمعنى آتيا لا محالة. أو أن موعوده الذي هو الجنة يأتيه أهله الذين وعدوا به.
لَغْواً فضولا من الكلام لا يفيد. إِلَّا سَلاماً أي لكن يسمعون سلاما من الله أو من الملائكة عليهم، أو من بعضهم على بعض. بُكْرَةً وَعَشِيًّا على عادة المتنعمين، والتوسط، وفي قدر وقتهما في الدنيا، علما بأنه ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدا.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى أولئك الأنبياء وأتباعهم بصفات الثناء والمدح من(16/130)
اتباع أوامر الدين وترك نواهيه، ترغيبا في التأسي بطريقتهم، ذكر صفات الخلف الذين أتوا بعدهم ممن أضاعوا واجبات الدين، وانتهبوا اللذات والشهوات، ثم ذكر ما ينالهم من العقاب في الآخرة، إلا من تاب، فإن الله يقبل توبته، ويورثه جنات النعيم التي لا يرثها إلا الأتقياء.
قال الرازي: وظاهر الكلام. أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق، كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.
أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتلا هذه الآية، قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر» .
التفسير والبيان:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أي فجاء خلف سوء من بعد أولئك السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم القائمون بحدود الله وأوامره، المؤدون فرائض الله، التاركون لزواجره.
أولئك الخلف يدّعون الإيمان واتباع الأنبياء، ولكنهم مخالفون مقصرون كاليهود والنصارى وفسّاق المسلمين الذين تركوا الصلاة المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم من المحرّمات على طاعة الله، فاقترفوا الزنى، وشربوا الخمور، وشهدوا شهادة الزور، ولعبوا الميسر، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء جزاؤهم أنهم سيلقون غيا، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة، لارتكابهم المعاصي، وإهمال الواجبات.(16/131)
والمراد بإضاعة الصلاة في الأظهر تركها بالكلام، وعدم فعلها أصلا، وجحود وجوبها. ويرى بعضهم كالشوكاني أن من أخر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضا من فروضها، أو شرطا من شروطها، أو ركنا من أركانها، فقد أضاعها.
لذا ذهب جماعة من السلف والخلف والأئمة، كما الذي رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وهو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة
للحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة»
والحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن بريدة: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» .
ثم استثنى الله تعالى من الجزاء المتقدم التائبين، فقال:
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لكن من تاب مما فرط منه من ترك الصلوات، واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملا صالحا، فأولئك يدخلهم ربهم الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم لأن
«التوبة تجب ما قبلها» في حديث ذكره الفقهاء
، وفي
الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
وأولئك أيضا لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان العمل قليلا لأن أعمالهم السابقة ذهبت هدرا، وصارت منسية، تفضلا ورحمة من الله الكريم اللطيف الحليم.
وهذا الاستثناء كقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ.. ثم قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 68- 70] .(16/132)
ثم وصف الله تعالى الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم وهي أوصاف ثلاثة:
1- جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي هي جنات إقامة دائمة، وعد الرحمن بها عباده الأبرار بظهر الغيب، فآمنوا بها ولم يروها لقوة إيمانهم، ولأن وعد الله آت لا يخلف، ومنها الجنة، يأتيها أهلها لا محالة. وقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي آتيا: تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل 73/ 18] أي كائنا لا محالة.
2- لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أي لا يسمع الأبرار أهل الجنة فيها كلاما ساقطا، أو تافها لا معنى له، أو هذرا لا طائل تحته، كما قد يوجد في الدنيا، ولكن يسمعون سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، بما يشعرهم بالأمان والطمأنينة، وهما منتهى الراحة والسعادة.
وقوله: إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] .
3- وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب قدر وقت البكرة والعشي، أي وقت الغداء صباحا، والعشاء مساء إذ ليس هناك ليل ولا نهار، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا، وفي أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنهار، كما
أخرج الإمام أحمد والشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أول زمرة تلج الجنة، صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخّطون فيها، ولا يتغوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوّة «1» ، ورشحهم
__________
(1) الألوّة: بفتح الهمزة وضمها، عود يتبخر به، والمجامر جمع مجمرة: وهي الشيء الذي يوضع فيه الجمر والبخور.(16/133)
المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا» .
وهذا وقت طعام أهل الاعتدال، أما النهم فيأكل متى شاء. وأسباب استحقاق الجنان هي:
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا أي هذه الجنة التي وصفناها بتلك الأوصاف الرائعة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله عز وجل في السرّاء والضرّاء، أي نجعلها حقا خالصا لهم كملك الميراث، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى أن قال:
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون 23/ 1- 11] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- جاء بعد الأنبياء وأتباعهم الأتقياء خلف سوء وأولاد شر.
أ- تركوا أداء الصلوات المفروضة، وهذا دليل على أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يعذب بها صاحبها.
روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضّبّي أنه أتى المدينة، فلقي أبا هريرة، فقال له: يا فتى، ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به قلت: بلى، قال: «إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته- وهو أعلم-:
انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة، كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك» .(16/134)
وأخرجه النسائي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر..» الحديث.
ب- واتبعوا شهواتهم وهي عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه.
جاء في الصحيح: الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أنس «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» .
2- إن جزاء خلف السوء الغي، أي الهلاك والضلال في جهنم، أو أن الغي: واد في جهنم أبعدها قعرا، وأشدها حرا، فيه بئر يسمى البهيم، كلما خبت فتح الله تعالى تلك البئر، فتسعّر بها جهنم. قال ابن عباس: «غيّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولا مرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه» أي كانت زانية به.
3- يقبل الله توبة من تاب من عباده، من تضييع الصلوات واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله، وآمن به، وعمل صالح الأعمال، فهؤلاء يدخلون الجنة مع الأبرار، ولا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء بسبب تقصيرهم الماضي، لكن يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبع مائة.
4- تلك هي جنات عدن، أي إقامة دائمة، وهي التي وعد بها الرحمن عباده، فآمنوا بها غيبيا، وإن لم يشاهدوها، ووعد الله آت لا ريب فيه، وإن الله لا يخلف الميعاد.
5- خصائص الجنة وأوصافها: هي:
أولا- أن الوعد بها آت لا محالة، كما ذكر.(16/135)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
وثانيا- لا لغو فيها: وهو المنكر من القول، والباطل من الكلام، والفحش منه، والفضول الساقط الذي لا ينتفع به: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية 88/ 11] .
وثالثا- لكن يسمعون فيها سلام بعضهم على بعض، وسلام الملائكة عليهم، والسلام: اسم جامع للخير، والمعنى: أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون.
ورابعا- لهم ما يشتهون فيها من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا، أي قدر هذين الوقتين، إذ لا بكرة ثم ولا عشيا.
وخامسا- هذه الجنة حق خالص يرثه ويتملكه العباد الأتقياء، وهم من اتقى الله وعمل بطاعته، فقام بالأوامر، واجتنب النواهي.
تنزل الوحي بأمر الله تعالى
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
الإعراب:
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ على حذف: قل، أي قل: ما نتنزل إلا بأمر ربك، فحذف قل، والخطاب لجبريل، وحذف القول كثير في كلام العرب وفي القرآن. ولَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ دليل على أن الأزمنة ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل. وعطف كلام غير الله وَما نَتَنَزَّلُ على كلام الله تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ من غير فصل أمر جائز إذا كانت القرينة ظاهرة، مثل: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة 2/ 117 وآل عمران 3/ 47] الذي هو كلام الله، وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم 19/ 36] الذي هو كلام غير الله.(16/136)
وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبُّ السَّماواتِ إما مرفوع بدل من رَبِّكَ اسم كانَ، أو خبر مبتدأ مقدر، أي هو ربّ السموات، أو مبتدأ، وخبره فَاعْبُدْهُ عند أبي الحسن الأخفش لأنه يجوز أن تزاد الفاء في خبر المبتدأ، وإن لم يكن المبتدأ اسما موصولا، أو نكرة موصوفة، مثل: «زيد فمنطلق» والأكثرون على أن الفاء عاطفة، لا زائدة، أي هذا زيد فهو منطلق، فكل واحد منهما خبر مبتدأ محذوف.
البلاغة:
لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
نَتَنَزَّلُ التنزل: النزول على مهل وقتا بعد وقت، وهو حكاية قول جبريل حين استبطأه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر ما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ المعنى: وما ننزل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله ومشيئته على ما تقتضيه حكمته. وقرئ: وما يتنزل، والضمير للوحي لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ له ما أمامنا في الزمان المستقبل، وما وراءنا من الزمان الماضي، وما بينهما من الزمان الحاضر وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا تاركا لك، بتأخير الوحي عنك، والمعنى: ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك، وتوديعه إياك، كما زعمت الكفرة، وإنما كان لحكمة رآها فيه.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مرتب على ما سبق، أي لما عرفت ربّك بأنه لا ينبغي له أن ينساك، فأقبل على عبادته واصطبر عليها، أي اصبر على مشاقها وشدائدها، ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفرة. وإنما عدّي باللام لِعِبادَتِهِ لتضمنه معنى الثبات للعبادة، كما تقول للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له في حملاته هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا ونظيرا مسمى بذلك، أي الله؟ فإن المشركين لم يسموا الصنم الإله: (الله) قط. وإذا صح ألا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بد من التسليم لآمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.
سبب النزول:
أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وآله وسلّم لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.(16/137)
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين يوما، فذكر نحوه.
وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس: أن قريشا لما سألوه عن أصحاب الكهف، مكث خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله له في ذلك وحيا، فلما نزل جبريل، قال له: أبطأت، فذكره.
وروي عن ابن عباس «أن جبريل عليه السلام احتبس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أياما، حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟ فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون: إن ربّه ودّعه وقلاه، فلما نزل، قال له عليه الصلاة والسلام: يا جبريل، احتسبت عني، حتى ساء ظني، واشتقت إليك، فقال: إني إليك لأشوق، ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية» «1» .
ولا مانع من تعدد الوقائع وأسباب النزول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء كزكريا وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس، تثبيتا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر ما أنعم الله عليهم وما أحدثه الخلف بعدهم، وجزاء الفريقين، ذكر الله سبب تأخر الوحي على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، تنبيها على قصة قريش واليهود، من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وختما لقصص أولئك المنعم عليهم بمخاطبة أشرفهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو من ذرية إبراهيم.
التفسير والبيان:
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا عطف الله هذه الآية التي هي كلام غير الله على آية: تِلْكَ الْجَنَّةُ..
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 239(16/138)
التي هي كلام الله من غير فصل، وهو جائز إذا كانت القرينة ظاهرة، مثل عطف آية وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم 19/ 36] التي هي كلام غير الله، على قوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة 2/ 117 وآل عمران 3/ 47] الذي هو كلام الله.
ومعنى الآية: بعد أن استبطأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نزول جبريل عليه، أمر الله جبريل أن يقول: وما نتنزل نحن الملائكة بالوحي على الأنبياء والرسل إلا بأمر الله بالتنزيل على وفق الحكمة والمصلحة وخير العباد في الدنيا والآخرة.
إن لله تعالى التدبير والتصرف وأمر الدنيا والآخرة وما بين ذلك من الجهات والأماكن والأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه.
وقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول. والتنزل هنا: النزول على مهل، أي أن نزول الملائكة وقتا بعد وقت لا يكون إلا بأمر الله تعالى.
وما نسيك ربك يا محمد، وإن تأخر عنك الوحي، ولا ينسى شيئا، ولا يغفل عن شيء، وإنما يقدّم ويؤخّر لما يراه من الحكمة، وهذه الآية كقوله تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى 93/ 1- 3] .
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
والدليل على ذلك قوله سبحانه:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ(16/139)
سَمِيًّا
أي إن الله خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما، وهو المدبر والحاكم والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، فاثبت على عبادة ربك، واصطبر على العبادة والطاعة وما فيها من المتاعب والشدائد، ولا تنصرف عنها بسبب إبطاء الوحي، هل تعلم للرب مثلا أو شبيها، يكون أهلا للعبادة؟ فهو الخالق والمدبر والرازق والمنعم بأصول النعم وفروعها من خلق الأجسام والحياة والعقل وما يحتاجه الإنسان وغيره، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه.
والمراد بنفي العلم نفي الشريك على أي وجه، والاستفهام للإنكار، وهل بمعنى لا، أي لا تعلم.
قال ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على أمرين:
الأول- إن الملائكة رسل الله بالوحي لا تنزل على أحد من الأنبياء والرسل من البشر إلا بأمر الله مدبر الكائنات في كل زمان ومكان، والذي لا يغفل عن شيء ولا ينساه، إذا شاء أن يرسل الملك أرسله.
الثاني- إن الله عز وجل هو رب السموات والأرض وخالقهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك ما بينهما، فكما إليه تدبير الأزمان، كذلك إليه تدبير الأعيان، وبما أنه المالك على الإطلاق فهو الذي وجبت عبادته، ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود، الذي ليس له ولد ولا نظير أو مثيل أو شبيه يستحق مثل اسمه الذي هو الله وهو الرحمن.
والعبادة: الطاعة بغاية الخضوع لله تعالى، وما على الرسول وغيره من المؤمنين إلا الاشتغال بما أمر به والاستمرار عليه، دون استبطاء شيء آخر.(16/140)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
شبهة المشركين في إنكار البعث
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
الإعراب:
جِثِيًّا حال إن كان جمع (جاث) ، ومنصوب على المصدر إن كان مصدرا، لا جمعا، أي (جثوا) وأصله (جثوو) فأبدلوا منعا للاستثقال من الضمة كسرة، وقلبوا الواو الأخيرة ياء.
أَيُّهُمْ أَشَدُّ بالرفع، على رأي أكثر البصريين: في موضع نصب ب لَنَنْزِعَنَّ والضمة ضمة بناء. وعلى رأي الكوفيين: مبتدأ مرفوع، وأَشَدُّ خبره، والضمة ضمة إعراب، ولَنَنْزِعَنَّ ملغى لم يعمل. ومن قرأ بالنصب أيهم نصبها ب لَنَنْزِعَنَّ وجعلها معربة، وهي لغة بعض العرب.
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها: إن: بمعنى (ما) أي ما أحد منكم، وأحد: مبتدأ، ومِنْكُمْ صفته، ووارِدُها خبره. ولا يجوز إعمال إِنْ هنا لدخول حرف الاستثناء الذي يبطل عمل (ما) .
البلاغة:
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي الكافر لأنه المنكر للبعث، فهو عام أريد به الخاص.
مِتُّ وحَيًّا بينهما طباق.(16/141)
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ الاستفهام للإنكار والتوبيخ.
المفردات اللغوية:
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للبعث: أبيّ بن خلف أو الوليد بن المغيرة النازل فيه الآية. فإن الأول أخذ عظاما بالية، ففتّها، وقال: يزعم محمد أنّا نبعث بعد الموت. أو المراد بالإنسان: بعض الناس المعهود وهم الكفرة، أو المراد به الجنس، فإن المقول مقول فيما بينهم، وإن لم يقل كلهم، كقولك: بنو فلان قتلوا فلانا، والقاتل واحد منهم.
أَإِذا ما مِتُّ، لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا من الأرض، أو من حال الموت. وتقديم الظرف لأن المنكر وقت الحياة لأمر بعد الموت، وهو منصوب بفعل دل عليه أُخْرَجُ لا به، فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها، والاستفهام بمعنى النفي، أي لا أحيا بعد الموت. وما زائدة للتأكيد، وكذا اللام في لَسَوْفَ للتأكيد.
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ عطف على يَقُولُ وهو رد على مقاله السابق. ويذكر أصله: يتذكر أي يتفكر أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فيستدل بابتداء الخلق على الإعادة.
فَوَ رَبِّكَ قسم باسمه تعالى مضاف إلى نبيه، تحقيقا للأمر، وتفخيما لشأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لَنَحْشُرَنَّهُمْ لنجمعنهم أي الكفار المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ عطف أو مفعول معه. لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، كل مع شيطانه في سلسلة. وهذا وإن كان مخصوصا بالكفار، ساغ نسبته إلى الجنس البشري بأسره، فإنهم إذا حشروا، وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين، فقد حشروا جميعا معهم حَوْلَ جَهَنَّمَ من خارجها جِثِيًّا على الركب، جمع جاث: وهو البارك على ركبتيه.
شِيعَةٍ أمة أو جماعة أو فرقة منهم شايعت دينا وتعاونت على الباطل أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي تكبرا وجرأة وعصيانا ومجاوزة للحد، أي من كان أعصى وأعتى منهم، فنطرحهم في جهنم. وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن كثير من أهل العصيان. ولو خص ذلك بالكفرة، فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم، ويطرحهم في النار، على الترتيب، أو يدخل كلا طبقتها التي تليق بهم.
أَوْلى بِها أحق بجهنم، الأشد وغيره منهم صِلِيًّا أي أحق بالصلي، وهو الدخول فيها والاحتراق، من صلي بالنار: إذا قاس حرها. وَإِنْ مِنْكُمْ وما منكم أحد، التفات إلى الإنسان وارِدُها مارّ بها وهي خامدة، على الصراط الممدود عليها. وأما قوله: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أي عن عذابها حَتْماً واجبا مَقْضِيًّا قضي بوقوعه، فلا ينقص وعده مطلقا.(16/142)
سبب النزول: نزول: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ:
قال الكلبي: نزلت في أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية، يفتّها بيده، ويقول: زعم لكم محمد أنّا نبعث بعد ما نموت.
وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه.
المناسبة:
بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها، ذكر أنها تنجيهم يوم الحشر الذي لا ريب فيه، فإن إعادة الإنسان أهون من بدء خلقه.
وكذلك لما كان هدف السورة إثبات قدرة الله على الإحياء والإماتة، وإثبات يوم القيامة، ذكر هنا بعض شبهات الكفار المكذبين للبعث، ورد عليها بالأدلة القاطعة.
وذكر أيضا ما يلقاه الكفار من الذل والعذاب، وأردف ذلك ببيان أن جميع البشر يردون على النار، فلا ينجو منها إلا من آمن واتقى وعمل صالحا.
التفسير والبيان:
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي ويقول الكافر المشرك منكر البعث متعجبا مستبعدا إعادته بعد موته: هل إذا مت وأصبحت ترابا، سوف أخرج حيا من القبر، وأبعث للحساب؟! وأسند الكلام لكل مشرك كافر، وإن لم يقله إلا بعضهم، لرضاهم بمقالته.
ونظير الآية: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا تُراباً، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد 13/ 5] وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ(16/143)
الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
[يس 36/ 77- 79] .
والدليل على إمكان الإعادة:
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه، فقد خلقناه من العدم، دون أن يكون شيئا موجودا، فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة.
والمعنى: أنه تعالى قد خلق الإنسان، ولم يكن شيئا قبل خلقه، بل كان معدوما بالكلية، أفلا يعيده، وقد صار شيئا، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] . وجاء في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن لي كفوا أحد» .
ثم هدد تعالى منكري البعث تهديدا من وجوه قائلا.
1- 2: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي أقسم الرب تبارك وتعالى بذاته الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله، بأن يخرجهم من قبورهم أحياء ويجمعهم إلى المحشر مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم. ثم ليحضرنهم حول جهنم بعد طول الوقوف، جاثين قاعدين على ركبهم، لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، كما قال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية 45/ 28] . وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم، ويكون على أذل صورة لقوله:
جِثِيًّا.(16/144)
3- ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي لننتزعن ونأخذن من كل فرقة دينية أو طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم وأكثرهم تكبرا وتجاوزا لحدود الله، وهم قادتهم ورؤساؤهم في الشر.
فهذه وجوه التهديد: أولها- الحشر مع الشياطين، وثانيها- الإحضار قعودا حول جهنم في صورة الذليل العاجز، وثالثها- تمييز البعض من البعض، فمن كان أشدهم تمردا في كفره، خص بعذاب أعظم، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] وقال: وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] .
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى نار جهنم، ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال سبحانه: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] .
ثم أخبر الله تعالى عن ورود الناس جميعا نار جهنم، فقال:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي ما منكم من أحد من الناس إلا سوف يرد إلى النار، والورود: هو المرور على الصراط، كان ذلك المرور أمرا محتوما، قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة. وقيل:
الورود: الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها، وهو موضع المحاسبة، وقيل:
الورود: الدخول،
لحديث: «الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر، إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم» .
والأصح أن الورود: المرور، للحديث التالي:
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: يرد الناس جميعا الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل(16/145)
البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفّأ به الصراط، والصراط دحض مزلّة «1» ، عليه حسك كحسك القتاد «2» ، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس. وهذا المروي عن ابن مسعود سمعه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلّم سلّم.
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي بعد أن مر الخلائق كلهم على الصراط والنار، ننجي الذين اتقوا ما يوجب النار، وهو الكفر بالله ومعاصيه، ننجيهم من الوقوع في النار، فيمرون على الصراط بإيمانهم وأعمالهم.
ونبقي الكافرين والعصاة في النار، جاثين على ركبهم، لا يستطيعون الخروج، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، أما العصاة من المؤمنين فيخرجون بعد العذاب على معاصيهم، فيخرج الله من النار من قال يوما من الدهر: لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرا قط.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الكريمات ما يأتي:
1- يتعجب الكافر منكر البعث ويستبعد إعادته بعد موته، ولكن لا داعي لتعجبه، فإن الله قادر على كل شيء، ولو تأمل قليلا لأدرك أن من خلق
__________
(1) دحض مزلة: بمعنى واحد، وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر.
(2) أي عليه شوك كشوك نبات بنجد يقال له: السعدان.(16/146)
الإنسان من العدم، قادر على إعادته مرة أخرى، والإعادة أهون من ابتداء الخلق في ميزان عقل الإنسان، أما بالنسبة لله فهما سواء عليه.
2- الحشر وجمع الخلائق للحساب أمر ثابت أيضا بعد البعث من القبور، ويحشر كل كافر مقرونا مع شيطان في سلسلة.
3- يحضر الله الكفار جاثين على ركبهم حول جهنم، فهم لشدة ما هم فيه من الأهوال لا يقدرون على القيام.
4- يستخرج الله من كل أمة وأهل دين باطل أعتى الناس وأعصاهم، وهم القادة والرؤساء، لمضاعفة العذاب عليهم.
5- الله تعالى أعلم بمن هو أحق بدخول النار، من الإنس والجن، وبمن يخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب.
6- إن ورود جميع الخلائق على النار، أي المرور على الصراط، لا الدخول في النار، أمر واقع لا محالة. وقد فسر ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسّدّي والحسن البصري الورود بالمرور على الصراط. قال الحسن: ليس الورود الدخول، إنما تقول: وردت البصرة ولم أدخلها، فالورود: أن يمروا على الصراط لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء 21/ 101] قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها.
وقوله سبحانه بعد هذه الآية: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها، وقوله عز وجل: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل 27/ 89] .
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، تمسّه النار إلا تحلّة القسم»
أي لكن تحلة القسم لا بد منها في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس النار.(16/147)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
7- بنجي الله المتقين، ويخلصهم من نار جهنم، ويترك الكافرين فيها قعودا مخلدين على الدوام. والمذهب المقبول: أن صاحب الكبيرة وإن دخلها، فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة: لا يدخل، وقالت الخوارج:
يخلد. والقائلون بأن الورود الدخول، احتجوا بهذه الآية: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.. لأنه لم يقل: وندخل الظالمين، وإنما قال: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ.
قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا: إنا نزد النار؟ فيقال: لقد وردتموها فألفيتموها رمادا. وعقب القرطبي عليه قائلا:
وهذا القول يجمع شتات الأقوال، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها، فقد أبعد عنها، ونجّي منها. نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها، فدخلها سالما، وخرج منها غانما «1» .
شبهة أخرى للمشركين بحسن الحال في الدنيا
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 139.(16/148)
الإعراب:
بَيِّناتٍ حال.
وَكَمْ أَهْلَكْنا.. وَرِءْياً كَمْ منصوب بأهلكنا، أي وكم قرن أهلكنا، فحذف قَرْنٍ لدلالة الكلام عليه. ورئيا يقرأ بالهمز وترك الهمز، ويقرأ: وريئا على وزن «وريعا» بتقديم الياء على الهمزة. فمن قرأ بالهمز أتى به على الأصل لأنه من «رأيت» ومن قرأ وريا بغير همز، أبدل من الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، وجاز انقلاب كل همزة ساكنة ياء إذا كان قبلها كسرة. ومن قرأ وريئا قلب اللام إلى موضع العين، واللام ياء، والعين همزة، كقولهم: قسيّ. وقرئ: وزيا، والزي معروف، وأصله: زويّ، إلا أنه قلبت منه الواو ياء، لسكونها وانكسار ما قبلها.
فَلْيَمْدُدْ لفظه الأمر، ومعناه الخبر، كما يأتي لفظ الخبر ومعناه الأمر، مثل وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ.. أي ليرضعن. وجواب حَتَّى إِذا رَأَوْا.. قوله: فَسَيَعْلَمُونَ وإِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ انتصب كل منهما على البدل من ما في قوله تعالى: رَأَوْا ما يُوعَدُونَ.
البلاغة:
مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً لف ونشر مرتب، حيث رجع الأول إلى خَيْرٌ مَقاماً والثاني إلى وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
خَيْرٌ مَقاماً وشَرٌّ مَكاناً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين والكافرين آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات المعاني والإعجاز أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ نحن وأنتم خَيْرٌ مَقاماً مكانا ومنزلا نَدِيًّا أي ناديا، أي مجتمعا ومجلسا وهو مجتمع القوم يتحدثون فيه، ومنه دار الندوة لتشاور المشركين. وهم يعنون: نحن، فنكون خيرا منكم. والمعنى: أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات، وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، والاستدلال بذلك على فضلهم وحسن مكانهم عند الله، لقصور نظرهم على الحال، وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي كثيرا ما أهلكنا من القرون أي الأمم الماضية، والقرن:
أهل كل عصر، وهذا رد مع التهديد أَثاثاً هو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها.(16/149)
وَرِءْياً منظرا، والمراد نضارة وحسنا، مشتق من الرؤية، والمعنى: فكما أهلكناهم لكفرهم، نهلك هؤلاء.
فَلْيَمْدُدْ معناه الإخبار، أي يمد، أي يمهله بطول العمر والتمتع به، والتمكن من التصرف في الحياة، وهو جواب شرط: مَنْ كانَ. مَدًّا أي يستدرجه في الدنيا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ هو غاية المد إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ تفصيل للموعود، فإنه إما العذاب في الدنيا كالقتل والأسر وغلبة المسلمين عليهم، وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال ودخول جهنم فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه وهو جواب الشرط وَأَضْعَفُ جُنْداً أنصارا أو أعوانا، أهم وجندهم الشياطين أم المؤمنون وجندهم الملائكة؟.
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً يزيد المهتدين بالإيمان بما ينزل عليهم من الآيات.
وهي عطف على الجملة الشرطية المحكية بعد القول: قُلْ: مَنْ كانَ.. كأنه لما بيّن أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبيّن أن قصور حظ المؤمن منها، ليس لنقصه، بل لأن الله عز وجل أراد به ما هو خير، وعوضه منه.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ الطاعات التي تبقى آثارها، ومنها الصلوات الخمس، وقول:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً فائدة مما متّع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها وَخَيْرٌ مَرَدًّا مرجعا وعاقبة، بخلاف أعمال الكفار. والخيرية هنا في مقابلة قولهم: أي الفريقين خير مقاما.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث، أتبعه مع الوعيد والتهديد بذكر شبهة أخرى لهم: هي أنهم قالوا: لو كنتم أنتم على الحق، ونحن على الباطل، لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل، وأعداءه المعرضين عن طاعته في العز والراحة، ولما كان الأمر بالعكس، فإنا نحن المتمتعين بالنعمة ورفاهية العيش على الحق، وأنتم الواقعون في الخوف والذل والفقر على الباطل!! فرد الله عليهم بأن الكفار السابقين كانوا أحسن منكم حالا، وأكثر مالا،(16/150)
وقد أهلكهم الله بعذاب الاستئصال، فليس نعيم الدنيا قرينة على محبة الله، ولا سوء الدنيا علامة على غضب الله.
ثم رد عليهم ردا ثانيا بقوله: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ.. ومضمونه:
لا بد أن يأتيهم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وحينئذ سيعلمون أن نعم الدنيا لا تنقذهم من ذلك العذاب.
روي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث وأشباهه من قريش، حينما رأوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في خشونة عيش ورثاثة ثياب، وهم في غضارة العيش ورفعة الثياب.
التفسير والبيان:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا إذا تليت على الكفار آيات الله القرآنية واضحات الدلالة والبرهان، مبينات المقاصد، صدوا عن ذلك وأعرضوا وقالوا مفتخرين على المؤمنين ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل: أي الفريقين (المؤمنين والكافرين) خير منزلا ومسكنا، وأكبر جاها، وأكثر أنصارا؟ والندي: النادي والمجلس، وهو مجتمع الرجال للحديث ومجلسهم، والعرب تسمي المجلس النادي، فكيف نكون على الباطل، وأولئك الضعفاء الفقراء المختفون المستترون في دار الأرقم على الحق؟ كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ..
[الأحقاف 46/ 11] . وهذا اغترار بظاهر الحال في الدنيا، متوهمين أن من كان غنيا ثريا كان على الحق والصواب، ومن كان فقيرا كان على الباطل.
فرد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله:
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً هذا هو الجواب الأول(16/151)
عن شبهتهم، أي وكثيرا ما أهلكنا قبلهم من الأمم السابقة المكذبين رسلهم بكفرهم، وكانوا أحسن من هؤلاء متاعا ومنظرا. والأثاث: المال أجمع، من الإبل والغنم والبقر والمتاع، أو متاع البيت خاصة من الفرش واللباس والستائر والبسط والأرائك والسرر (الأسرّة) . والرئي: المنظر في تقدير الناس من جهة حسن اللباس أو حسن الأبدان وتنعمها.
والمعنى: أن مظاهر الثراء والنفوذ والكرامة لا تدل على حسن الحال عند الله، فقد أهلك الله المترفين، ونجى الفقراء الصالحين. وهذا تهديد ووعيد لكل من يتوهم من العوام وجهلة الأغنياء من المسلمين أن حسن حالهم في الدنيا دليل على رضا الله عنهم وحسن حالهم في الآخرة.
ثم أكد الله تعالى التهديد والوعيد وبالغ فيه، فقال:
قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا وهذا هو الجواب الثاني عن شبهة الكفار، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل: من كان في الضلالة منّا ومنكم، ومن كان يخبط في الدنيا على هواه، فإن الله تعالى جعل جزاءه أن يتركه في ضلالته، ويدعه في طغيانه، ويمهله فيما هو، ويمدّه ويستدرجه ليزداد إثما، حتى يلقى ربه، وينقضي أجله.
وهذه سنة الله في استدراج الظالمين والعصاة، يتركهم الله في ضلالهم، بل ويزيدهم من نعم الدنيا وملذات الحياة، إمعانا في إبقائهم على سوء حالهم الذي اتخذوه منهجا لهم، كما قال تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 3/ 178] وقال سبحانه: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 110] .
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً أي حتى إذا شاهدوا رأي العين ما يوعدون به، إما العذاب في الدنيا الذي يصيبهم بالقتل والأسر، كما حصل يوم بدر، وإما مجيء يوم(16/152)
القيامة بغتة وما يشتمل عليه من العذاب الأخروي، فحينئذ يعلمون من هو شر مكانا وأضعف جنودا، على عكس ما كانوا يظنون في الدنيا من خيرية المقام وحسن الندي (المجلس) ، ويتبين لهم حقيقة الأمر، أنهم هم شر مكانا، لا خير مكانا، وأضعف جندا، لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين. وهذا رد على قولهم السابق: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. ونظير الآية: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَما كانَ مُنْتَصِراً [الكهف 18/ 43] .
ولما ذكر الله تعالى إمداد أهل الضلالة في ضلالهم، أخبر عن زيادة الهدى للمهتدين، فقال:
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي إن الله يزيد المهتدين إلى الإيمان توفيقا وهدى للخير لأن الخير يدعو إلى الخير.
وهذه مقابلة أو مقارنة واضحة بين المؤمنين والكافرين، فالله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا، كما يجعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم، كما قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] .
وإن الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية، لا الأموال والأمتعة والأندية، خير جزاء، وخير مرجعا وعاقبة، وأجدى نفعا لصاحبها.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
1- إن معايير الدين ومفاهيمه الصحيحة تختلف عن تصورات الجهلة والعوام(16/153)
من الكفار والعصاة، فهؤلاء يرون أن الغنى وحسن الحال وكثرة أهل المجلس أو النادي دليل على خيريتهم وأفضليتهم على المؤمنين. وغرضهم إدخال الشبهة على المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله فهو المحق في دينه، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا، ولم يعلموا أن الله تعالى نحّى أولياءه عن الاغترار بالدنيا، وفرط الميل إليها.
2- لقد أهلك الله تعالى كثيرا من الأمم والجماعات هم أكثر متاعا وأموالا، وأحسن منظرا لحسن لباسهم وظهور آثار النعمة على وجوههم وأجسامهم.
3- من كان والغا في الضلالة، متأصلا في الكفر، يتركه الله في طغيان جهله وكفره، حتى يطول اغتراره، فيكون ذلك أشد لعقابه، فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فمصيره إلى الموت والعقاب، وهذا غاية في التهديد والوعيد.
4- ستتكشف الحقائق والأحوال يوم القيامة، فيظهر أن الكفار شر مكانا وأسوأ منزلا، وأضعف جندا من المؤمنين، وهذا رد لقولهم الذي حكاه القرآن:
أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
5- يثبّت الله المؤمنين على الهدى، ويزيدهم توفيقا ونصرة، وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم.
6- الباقيات الصالحات أي أعمال الخير والطاعة المالية والبدنية أفضل عند الله ثوابا وجزاء وأكثر منفعة لأهلها، وخير مرجعا، فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.(16/154)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
مقالة المشركين في البعث والحشر استهزاء وطعنا
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
الإعراب:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ رأيت هنا بمعنى علمت، يتعدى إلى مفعولين، والذي مع صلته: في موضع المفعول الأول.
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً في موضع المفعول الثاني.
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نرث منه ما يقول، فحذف حرف الجر، فصار نَرِثُهُ.
البلاغة:
سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ مجاز عقلي من إسناد الشيء إلى سببه، أي نأمر الملائكة بالكتابة.
عَهْداً مَدًّا فَرْداً ضِدًّا عَدًّا وَفْداً وَلَداً إِدًّا سجع رصين.
المفردات اللغوية:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أي أخبر عن العاص بن وائل، والفاء جاءت لإفادة معناها وهو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، وأذكر حديثه عقيب حديث أولئك الذي قال فيه لخباب بن الأرت: لأوتين.. حينما قال له: تبعث بعد الموت، في أثناء مطالبته له بمال لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أي فإذا بعثت جئتني فأعطيك أو أقضيك مالا وولدا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي أعلمه وأن يؤتى ما قاله، واستغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل، فحذفت. من قولهم: اطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه، والمعنى: أظهر له علم الغيب أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن يؤتى(16/155)
ما قاله، وقيل: عهدا: عملا صالحا، فإن وعد الله بالثواب عليه كالعهد عليه. والمعنى: أن ما ادّعى أن يؤتاه وتألى عليه، لا يتوصل إليه بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟
كَلَّا كلمة زجر أو ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه، أي لا يؤتى ذلك سَنَكْتُبُ نأمر بكتب، أو سنظهر له أنا كتبنا قوله. وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا سنطيل له العذاب الذي يستحقه، أو نزيد عذابه ونضاعفه له، لكفره وافترائه واستهزائه على الله، ولذلك أكده بالمصدر وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ نرث منه ما يقول من المال والولد، أي نسلبه منه بموته، ونأخذه أخذ الوارث، والمراد بما يقول: مدلوله ومصداقه: وهو ما أوتيه من المال والولد وَيَأْتِينا فَرْداً ويأتينا يوم القيامة لا يصحبه مال ولا ولد، كان له في الدنيا، فضلا عن أن يؤتى.
سبب النزول:
أخرج الأئمة منهم أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي والطبراني وابن حبّان عن خبّاب بن الأرتّ قال: كنت رجلا قينا- حدادا- وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا، والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت: لا، والله، لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني، ولي ثمّ مال وولد، فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها، أورد هنا ما قالوه على سبيل الاستهزاء، طعنا في القول بالحشر والبعث.
التفسير والبيان:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا، وَقالَ: لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أي ألا أخبرك بقصة هذا الكافر الذي تجرأ على الله وقال: لأعطينّ في الآخرة مالا وولدا.
وإيراد هذه القصة على سبيل التعجب للبشر.(16/156)
ثم فنّد الله تعالى قوله بعدم اعتماده على دليل غيبي أو عهد من الله، فقال:
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي إن دعواه تلك تعتمد على أحد أمرين: إما علم الغيب وإما عهد من الله، فهل اطلع على الغيب حتى يعلم أنه في الجنة، أو أخذ العهد الموثق من الله بذلك؟ والعهد عند الله للرحمة: أن يدخل المؤمن الجنة إذا قال: لا إله إلا الله، وعمل الصالحات. وقوله: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إشارة إلى أن الحصول على علم الغيب أمر صعب شاق لأن الله لا يطلع على غيبه إلا من ارتضى من رسول.
ثم هدده تعالى بقوله:
كَلَّا، سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً كَلَّا كلمة ردع وزجر لما قبلها، وتأكيد لما بعدها، ولم ترد في النصف الأول من القرآن. والإتيان بسين التسويف في قوله: سَنَكْتُبُ مع أنه يكتب من غير تأخير لمحض التهديد من المتوعد.
أي ليس الأمر على ما قال، بل سنحفظ ما يقول، فنجازيه به في الآخرة، ونزيده عذابا فوق عذابه، ونمده بالعذاب مدا في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا، مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد، جزاء عمله، ونميته فنرثه المال والولد الذي يقول: إنه يؤتاه، ونسلبه إياه، ويأتينا يوم القيامة فردا لا مال له ولا ولد مما كان معه في الدنيا، لأنّا نسلبه منه، فكيف يطمع أن نعطيه؟! وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 6/ 94] .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه قصة رجل آخر هو العاص بن وائل، وهي من أعاجيب القصص التي(16/157)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
تدل على سخف الكافر، وسذاجة تفكيره، وتمنيه الأماني المعسولة، وهو سيجد نقيضها تماما في عالم الآخرة.
إنه بالرغم من كفره الشديد بآيات الله، وإنكاره البعث واستهزائه به، يتأمل أن يعطى في الآخرة المال الوفير والولد الكثير، وليس لديه برهان أو وثيقة على ما يقول. ومثل هذا القول يحتاج إلى أحد أمرين: إما الاطلاع على الغيب أو اتخاذ عهد موثق عند الله.
فهل علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة أم لا، أم عاهد الله تعالى بالتوحيد والعمل الصالح والوعد أن يدخله الجنة؟!! لم يكن كل ذلك، لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا، وسيحفظ الله عليه قوله، فيجازيه به في الآخرة، وسيزيده عذابا فوق عذاب، ويسلبه ما أعطاه في الدنيا من مال وولد، ويأتي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره، ثم يزج به في نار جهنم جزاء عمله المنكر وكفره الظاهر.
الرد على عبّاد الأصنام بصيرورتهم لهم أعداء واتخاذهم الشياطين أولياء
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)(16/158)
الإعراب:
سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ عبادة: مصدر إما مضاف إلى الفاعل، أي سيكفر المشركون بعبادتهم الأصنام، كقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] وإما مضاف إلى المفعول، أي ستكفر الأصنام بعبادة المشركين.
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يَوْمَ منصوب على الظرف، وعامله إما:
لا يَمْلِكُونَ وإما نَعُدُّ. ووَفْداً حال، أي وافدين، ووفد: واحدهم وافد كصحب وصاحب، وركب وراكب، وهو اسم جمع وليس بتكسير.
إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً مَنِ إما مرفوع على البدل من واو يَمْلِكُونَ وإما منصوب على الاستثناء المنقطع.
البلاغة:
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً.. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً: بين المتقين الأبرار والمجرمين الأشرار مقابلة.
وَفْداً وِرْداً: جناس غير تام، لتغير الحرف الثاني.
المفردات اللغوية:
وَاتَّخَذُوا أي كفار مكة مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان آلِهَةً يعبدونهم عِزًّا منعة وقوة، أي ليتعززوا بهم حيث يجعلونهم شفعاء عند الله بألا يعذبوا كَلَّا ردع وإنكار لتعززهم بالأصنام سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ سيجحد الآلهة عبادتهم، ويقولون: ما عبدتمونا، أي ينفون عبادتهم، كما في آية أخرى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة 2/ 166] . ضِدًّا أعداء وأعوانا عليهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ سلطانهم عليهم، أو قيضنا لهم قرناء تَؤُزُّهُمْ تهيجهم إلى المعاصي وتغريهم بالتسويلات وتحبيب الشهوات. والأزّ والهز والاستفزاز:
شدة الإزعاج والإغراء على المعاصي. والمراد: تعجيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أقاويل الكفر وتماديهم في الغي، وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق، على ما نطقت به الآيات المتقدمة.
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ لا تطلب العجلة بهلاكهم أو تعذيبهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أيام آجالهم عدا. والمعنى: لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ(16/159)
بإيمانهم إِلَى الرَّحْمنِ أي إلى دار كرامته وهي الجنة وَفْداً جمع وافد، أي هم كما يفد الوافدون إلى الملوك لطلب الحوائج، مكرّمين مبجّلين وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بكفرهم وِرْداً جمع وارد أي مشاة عطاشى مهانين، يساقون باحتقار وإذلال كما تساق البهائم.
لا يَمْلِكُونَ أي الناس عَهْداً هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أي التبري من الحول والقوة وعدم رجاء أحد إلا الله.
المناسبة:
بعد الكلام عن الحشر والنشر والبعث، ردّ الله تعالى على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة، ليعتزوا بها يوم القيامة، ويكونوا لهم شفعاء وأنصارا ينقذونهم من الهلاك، فأبان تعالى أنهم سيكونون لهم أعداء. ثم بيّن سبب الضلال وهو وسوسة الشياطين، وطلب إلى رسوله ألا يستعجل بطلب عذاب المشركين، فما هي إلا آجال أو أنفاس معدودة ثم يهلكون.
ثم قارن تعالى بين وفد المتقين القادمين إلى الجنة، وورد المشركين المشاة بإهانة إلى النار.
التفسير والبيان:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي عجبا لهؤلاء الكفار بآيات الله، يتمنون على الله الأماني، ويتألون على الله تعالى، مع أنهم كفروا وأشركوا بالله، واتخذوا من دون الله آلهة، ليكونوا لهم أنصارا وأعوانا، وشفعاء عند ربهم يقربونهم إليه.
ولكن ليس الأمر كما زعموا ولا كما طمعوا، فقال تعالى:
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي ليس الأمر كما ظنوا وتأملوا في أنها تنقذهم من عذاب الله، بل ستجحد يوم القيامة هذه الأصنام المتخذة آلهة عبادة الكفار لها، يوم ينطقها الله سبحانه لأن الأصنام جمادات(16/160)
لا تعلم العبادة، ويكونون أعداء لهم، وأعوانا عليهم، بخلاف ما ظنوا فيهم، فيقولون: ما عبدتمونا، كما قال تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ، إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل 16/ 86] ، وقال سبحانه: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] ، وقال عزّ وجلّ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة 2/ 166] .
وبعد بيان حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة، ذكر تعالى حالهم مع الشياطين في الدنيا، فإنهم يسألونهم وينقادون لهم، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي ألم تعلم أننا سلطنا الشياطين على الكفار، وخلينا بينهم وبينهم، ومكناهم من إضلالهم، فهم يحركونهم إلى فعل المعاصي، ويهيجونهم ويغرونهم ويغوونهم، كما قال تعالى:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء 17/ 64] .
وهذا إثارة لعجب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من حال الكفار وإصرارهم على الكفر، وتسلية له عن صدودهم وإعراضهم، وتهوين الأمر على نفسه.
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي فلا تعجل يا محمد على هؤلاء بأن تطلب من الله إيقاع العذاب بهم وإهلاكهم وإبادتهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم، إنما نعد لهم أوقاتا معدودة، ونؤخرهم لأجل معدود مضبوط هو انتهاء آجالهم، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، أي فليس بينك وبين عذابهم إلا أوقات محصورة معدودة، وكل آت قريب، قال تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم 14/ 42] الآية، وقال(16/161)
سبحانه: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق 86/ 17] ، وقال عزّ وجلّ:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] .
ثم أبان سبحانه ما سيظهر في يوم القيامة من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر، فقال:
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم نحشر جماعة المتقين وافدين ركبانا إلى جنة الله ودار كرامته، والوفد: هم القادمون ركبانا، مراكبهم من نور من مراكب الدار الآخرة،
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم، استقبلوا بنوق بيض، لها أجنحة، عليها رحال الذهب» ثم تلا هذه الآية.
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي ونحث المجرمين المكذبين على السير طردا إلى جهنم، مشاة عطاشا، كالإبل ترد الماء.
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] ، ومَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً: وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، بأن كان صالح الاعتقاد والقول والعمل، وكان في الدنيا هاديا مصلحا. أما شفاعة الآلهة المزعومة فهي أمان زائفة، وأوهام فارغة، فهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا.
روى ابن أبي حاتم عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله بن مسعود هذه الآية: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ثم قال: اتخذوا عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلّمنا، قال: قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب(16/162)
والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلني إلى عمل يقربني من الشر، ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا نؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
وهذا مأخوذ من معنى حديث «1» تبين منه أن المراد بالعهد كلمة الشهادة.
ودلت الآية على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- اتخذ المشركون بالله آلهة عبدوها من دون الله، ليكونوا لهم أعوانا وأنصارا وشفعاء، يقربونهم من الله، ويمنعونهم من عذاب الله تعالى.
2- ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، فستجحد هذه الأصنام عبادة المشركين لها، أو ينكرون هم أنفسهم أنهم عبدوا الأصنام، وستكون هذه الأصنام أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم، ويكونون لهم أعداء، فتقول بإنطاق الله لهم: يا ربّ عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك.
3- سلط الله الشياطين على الكافرين بالإغواء والإغراء بالشر، والإخراج من الطاعة إلى المعصية.
4- لا داعي أيها الرسول أن تطلب العذاب لقومك المشركين، فما بينهم وبين العذاب إلا أوقات قصيرة معدودة.
5- يحشر الله المتقين من قبورهم ركبانا معززين مكرّمين، ويساق المجرمون الكفار المكذبون سوقا مشاة حفاة أفرادا عطاشا كالإبل التي ترد الماء، وفي هذا
__________
(1) ذكره الرازي في تفسيره: 21/ 253، والقرطبي أيضا: 11/ 154، وسيأتي نصه.(16/163)
مهانة وذلّ، ودليل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون في حال من التكريم، فهم آمنون من الخوف، فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال؟! 6- لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره، إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فهو يملك الشفاعة «1» ، والعهد: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والقيام بحقها، فقد تظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون، فيشفّعون،
قال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا؟ قيل: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فلا تكلني إلى نفسي، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير، وتقرّبني من الشر، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا، ووضعها تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الله عهد؟ فيقوم فيدخل الجنة» .
__________
(1) وحينئذ يكون الاستثناء متصلا لأن مَنِ في موضع رفع على البدل من واو يَمْلِكُونَ أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، فإنه يملك.
ويصح جعل الاستثناء منقطعا، بمعنى لكن، أي لا يملك هؤلاء الكفار الشفاعة لأحد، لكن المسلمون الذين اتخذوا عند الرحمن عهدا، فإنهم يملكون الشفاعة.(16/164)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
الرد على من نسب الولد إلى الله تعالى
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
الإعراب:
إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.. هَدًّا، أَنْ دَعَوْا 9: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ: كاد واسمها وخبرها وصف منصوب لقوله تعالى: إِدًّا. وهَدًّا: منصوب على المصدر، وأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً: في موضع نصب على المفعول لأجله، أي: وتخر الجبال هدّا لأن دعوا للرحمن ولدا. ويصح جعله مرفوعا بأنه فاعل: هَدًّا أو مجرورا بدلا من هاء مِنْهُ.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ ... كُلُّ: مبتدأ، وآتِي: خبره، ووحّده حملا على لفظ كل. وقد يحمل على المعنى مثل: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] .
وعَبْداً: حال من ضمير آتِي وهو عامله، وهو اسم فاعل من آتِي يقال: أتى فهو آت.
البلاغة:
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا التفات إلى الخطاب للمبالغة في الذم، وتسجيل الجرأة على الله عليهم.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله. جِئْتُمْ فعلتم.(16/165)
إِدًّا منكرا عظيما. والإدّة: الشدة. يقال: أدّني الأمر وآدني: أثقلني وعظم علي.
يَتَفَطَّرْنَ يتشققن مرة بعد أخرى، التفطر: التشقق. وَتَخِرُّ تسقط وتنهدم. هَدًّا أي تهدّ هدّا أو مهدودة. والمعنى: أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصوّر بصورة محسوسة، لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفتّت من شدتها.
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي ما يليق به ذلك. إِنْ كُلُّ ... ما كل.
عَبْداً منقادا خاضعا ذليلا يوم القيامة. لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم وأحاط بهم، فلا يخرجون عن علمه وقدرته. وَعَدَّهُمْ عَدًّا عدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم، فإن كل شيء عنده بمقدار.
فَرْداً منفردا بلا مال ولا نصير.
المناسبة:
بعد أن ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان، عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا كاليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله:
وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] ، وبعض مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وكل ذلك إفك مفترى.
التفسير والبيان:
وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي وقال الكفار (اليهود والنصارى والمشركون من العرب الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله) :
إن الله اتخذ ولدا، فردّ الله تعالى عليهم: لقد جئتم بهذا القول شيئا منكرا، وقلتم قولا عظيم الجرم والإثم. والإدّ: الداهية والأمر المنكر الشنيع الفظيع.
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أي تقارب السموات أن تتشقق منه، وأن تتصدع وتخسف الأرض، وتسقط بصوت شديد، وتنهدم الجبال هدما شديدا تتضعضع منه، لشدة نكرانه، إعظاما للربّ وإجلالا، لأنهن مخلوقات على توحيده، وأنه لا شريك له ولا نظير ولا ولد(16/166)
ولا صاحبة. قال ابن عباس وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال، وجميع المخلوقات إلا الثقلين (الإنس والجن) ، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم، وشاك الشجر، واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا: اتخذ الله ولدا. وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً.
وهذا تهويل عظيم، وأنه موجب غضب الله وسخطه، ولكن لولا حكمة الله وحلمه وأنه لا يبالي بكفر الكافر، لقامت القيامة، واستؤصل الكفار.
وسبب ذلك:
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي لأجل أنهم نسبوا الولد إلى الله، ولا يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد، لجلاله وعظمته، فإن هذا نقص، يتعالى الله ويتنزه عنه لأن جميع الخلائق عبيد له.
لهذا قال مؤكدا إنكار هذه الفرية:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي كل واحد من الخلق من الملائكة والإنس والجن لا بدّ له أن يأتي إلى الله يوم القيامة مقرّا بالعبودية، خاضعا ذليلا، معلنا أنه مملوك لله، فكيف يكون أحد المخلوقات ولدا له؟! لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي قد علم الله عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة، وعدّ أشخاصهم وأحوالهم كلها، فهم تحت سلطانه وأمره وتدبيره، وكل شيء عنده بمقدار، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة، لا ناصر له ولا مال معه، ولا مجير له إلا الله وحده لا شريك له،(16/167)
فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وقوله وَعَدَّهُمْ عَدًّا تأكيد لما سبق.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع هذه الآيات: تقرير التوحيد، وإثبات العبودية الخالصة لله، وإنكار اتخاذ الله ولدا: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1- 4] .
ومع هذا زعم اليهود والنصارى وبعض العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله: أن لله ولدا، وحاشا لله أن يتخذ ولدا، إذ لا حاجة به إليه، وهو منزه عن النقص والشريك والنظير والولد، وتعدّ هذه المقالة منكرا عظيما، وأمرا فظيعا، وجرما شنيعا.
حتى لتكاد تزول الأكوان، فتنشق السموات، وتتصدع الأرض، وتسقط الجبال بصوت شديد، رفضا لهذا القول، وإنكارا له، وغضبا لله عزّ وجلّ لأنها خلقت وأسست على الإقرار بتوحيد الله ولأن الولد يقتضي الحدوث، ولا ولد إلا من والد، والله سبحانه تعالى تنزه عن ذلك وتقدس.
وما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرّا لله بالعبودية، خاضعا ذليلا، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] أي ذليلين صاغرين لأن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولدا له عزّ وجلّ؟ تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وهذه الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد، فإن الله تعالى أبان المنافاة بين الأولاد والملك، فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات، عتق عليه(16/168)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
فورا.
أخرج مسلم في صحيحة: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه، فيعتقه» .
ولا يخفى على الله أحد من خلقه، فإنه تعالى علم عددهم، وعدهم عدا دقيقا، وكل واحد يأتيه يوم القيامة واحدا منفردا لا ناصر له، ولا مال معه لينفعه كما قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء 26/ 88- 89] فلا ينفعه إلا ما قدّم من عمل صالح.
وفي قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً إشارة إلى أنكم أيها المشركون لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم، والكل عبيده، فكيف رضيتم له ما لا ترضون لأنفسكم؟! وإذا كنتم أيضا لا ترضون لأنفسكم البنات، فكيف تنسبون البنات إلى الله؟ في قولكم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله.
والخلاصة: إن هذه الآيات المقررة لنفي اتخاذ الإله ولدا، تلتقي مع موضوع سورة الإخلاص المتقدمة: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ومع الحديث المتقدم الذي
أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الله تبارك وتعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن لي كفوا أحد» .
محبة المؤمنين وتيسير الذكر المبين وإهلاك المجرمين
[سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)(16/169)
المفردات اللغوية:
سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا الودّ: المودة والمحبة، والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تودد منهم، يحبهم الناس، ويتحابون فيما بينهم، ويحبهم الله تعالى، أي يرضى عنهم.
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أنزلناه بلغتك العربية، والباء بمعنى على، أو على أصله لتضمن «يسرنا» معنى (أنزلنا) . الْمُتَّقِينَ الصائرين إلى التقوى بالإيمان والعمل الصالح. وَتُنْذِرَ تخوف لُدًّا جمع ألدّ: وهو الشديد الخصومة، المجادل بالباطل، واللد: هم كفار مكة. وَكَمْ أي كثيرا. مِنْ قَرْنٍ أي أمة من الأمم الماضية، وهو تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على إنذارهم. هَلْ تُحِسُّ تجد. رِكْزاً صوتا خفيا؟ لا، والمعنى: فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
سبب النزول:
أخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي كرم الله وجهه: «اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدر المؤمنين ودّا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية» .
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على أصناف الكفار، وأبان أحوالهم في الدنيا والآخرة، ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وأوضح أنه سيغرس محبتهم في قلوب العباد، من غير تودد منهم، ولا تعرض لأسباب الوداد من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك.
ثم استأنف تعالى بيان تيسير القرآن بلسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لما تضمنه في هذه السورة من دلائل التوحيد والنبوة والحشر والنشر، وليبشر به وينذر.
ثم ختم السورة بموعظة بليغة وإنذار بإهلاك المشركين كما أهلك من قبلهم من الأمم، فإنهم إذا علموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا، والموت، خافوا ذلك، وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة، فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب.(16/170)
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي إن الذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا صالح الأعمال من المفروضات والتطوعات، وأحلوا الحلال وحرموا الحرام، وفعلوا ما يرضي الله، سيغرس الله محبتهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة. والصالحات: هي الأعمال التي ترضي الله عزّ وجلّ، لمتابعتها الشريعة المحمدية.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبّه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض»
فاتفق الحديث مع الآية في إنزال المحبة في الأرض للعباد الصالحين، وأن هذه المحبة والمودة في القلوب تكون بإحداث الله دون تعرض للأسباب المؤدية إلى إيجاد المودات من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك.
ثم استأنف الله تعالى كلامه لبيان موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر، والرد على الفرق الضالة المضلة، فقال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أي يسرنا القرآن لك بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، لتبشر به المتصفين بالتقوى، المستجيبين لله، المصدقين لرسوله، بأن لهم الجنة بالطاعة، وتنذر به القوم الألداء، الشديدي الخصومة والجدل، العوج عن الحق، المائلين إلى الباطل، بان لهم النار بالكفر والعصيان.
ثم ختم تعالى السورة بموعظة بليغة قائلا:(16/171)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي كثيرا ما أهلكنا قبل العرب المشركين من الأمم والجماعات من الناس، لكفرهم بآيات الله وتكذيب رسله، فهل ترى منهم أحدا، أو تسمع لهم صوتا؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
1- إذا أحب الله عبدا لتقواه، ورضاه عنه باتباعه شرع الله ودينه، كتب له المحبة والمودة في قلوب عباده الصالحين، وعند الملائكة المقربين، وإن كان مكروها عند الظلمة والكفار والفساق.
قال هرم بن حيّان: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.
والنموذج الأول لذاك هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنماذج التي بعده هم كبار صحابته، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة، لا يلقاه مؤمن إلا وقّره، ولا مشرك ولا منافق إلا عظّمه.
ومن كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا، ولا يرضى إلا خالصا نقيا، جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه.
2- نزل القرآن الكريم بلسان العرب ولغتهم، ليسهل عليهم فهمه.
3- عذب الله كثيرا من الأمم والجماعات عذاب الاستئصال لكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله الكرام، وأكرم الله الأمم بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فرفع عنهم عذاب الإبادة والاستئصال.(16/172)
4- في الآيتين الأخيرتين وعد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنصر والغلبة على المشركين العرب من قومه، ووعيد لأولئك الكافرين وأمثالهم بالعقاب والعذاب والذل والهوان.
5- تنحصر مهمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التبشير والإنذار، وفي الآية حث له عليهما، أي تبشير من أطاعه بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار.(16/173)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة طه
مكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية.
التسمية:
سميت (سورة طه) لابتداء السورة بالنداء بها طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وهو اسم من أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي ذلك تكريم له، وتسلية عما يلقاه من إعراض قومه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه هي:
أولا- أن طه نزلت بعد سورة مريم، كما روي عن ابن عباس.
ثانيا- أنه ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين (عشرة) مثل زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم، وموسى الذي ذكرت قصته موجزة مجملة، فذكرت في هذه السورة موضحة مفصلة، كما وضحت قصة آدم عليه السلام الذي لم يذكر في سورة مريم إلا مجرد اسمه فقط.
ثالثا- أنه ذكر في آخر سورة مريم تيسير القرآن باللسان العربي، لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم للتبشير والإنذار، وابتدئ ذكر هذه السورة بتأكيد هذا المعنى.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كموضوعات سائر السور المكية وهو إثبات أصول الدين(16/174)
من التوحيد والنبوة والبعث. وكانت بداية السورة ذات إيحاء وتأثير عجيب، من خلال الحديث عن سلطان الله وعظمته وقدرته وشمول علمه، وقد أدرك هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تلاوتها في بداية إسلامه، كما هو معروف في قصة إسلامه.
وتضمنت السورة ما يأتي:
1- القرآن الكريم تذكرة لمن يخشى رب الأرض والسموات العلى، وتثبيت لشخصية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قيامه بواجب الدعوة والتبليغ، والإنذار والتبشير، وعدم الالتفات لمكائد المشركين [الآيات: 1- 8] .
2- البيان الجلي لقصة موسى وتكليم الله له، وإلقائه صغيرا في اليم في صندوق، وإرساله مع أخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار، وجداله بالحسنى لإثبات ربوبية الله وحده، ومبارزته السحرة، وتأييد الله له وانتصاره المؤزر، وإيمان السحرة بدعوته، ومعجزة انفلاق البحر وعبور بني إسرائيل فيه، وإهلاك فرعون وجنوده، وكفران بني إسرائيل بنعم الله الكثيرة عليهم، وحديث السامري وإضلاله بني إسرائيل باتخاذ العجل إلها لهم، وغضب موسى من أخيه هارون، الآيات [9- 98] .
3- الإشارة لفائدة القصص القرآني، وتوضيح جزاء من أعرض عن القرآن [99- 101] .
4- بيان حالة الحشر الرهيبة، وإبادة الجبال، وأوصاف المجرمين يوم القيامة، والحساب العادل [102- 112] .
5- عربية القرآن ووعيده وعصمة رسوله من نسيانه [113- 114] .
6- إيراد قصة آدم عليه السلام مع إبليس في الجنة [115- 122] .(16/175)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
7- تأكيد بيان الجزاء في الدنيا والآخرة لمن أعرض عن القرآن، بالعيشة الضنك في الدنيا، والعمى في الآخرة عن الحجة المنقذة من العذاب [124- 127] .
8- العظة والاعتبار بهلاك الأمم السابقة وتأخير عذاب المشركين إلى يوم القيامة [128- 129] .
9- توجيهات ربانية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته في الصبر على الأذى، وتنزيه الله تعالى في الليل والنهار، وعدم الافتتان بزهرة الحياة الدنيا لدى الآخرين، وأمر الأهل بإقامة الصلاة ومتابعة التنفيذ [130- 132] .
10- طلب المشركين إنزال آيات مادية من الله، وإعذارهم بعد إرسال الرسول وإنزال القرآن، ثم وعيدهم بالعذاب المنتظر يوم القيامة [133- 135] .
القرآن سبب السعادة
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
الإعراب:
طه، ما أَنْزَلْنا.. إِلَّا تَذْكِرَةً ما أنزلنا: إما جواب القسم لأن قوله تعالى: طه جار مجرى القسم، وإما أن يكون طه بمعنى: يا رجل، أي يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن(16/176)
لتشقى، ولام لِتَشْقى لام النفي، أو لام الجحود. وتَذْكِرَةً منصوب على الاستثناء المنقطع.
تَنْزِيلًا منصوب على المصدر. الرَّحْمنُ مبتدأ، أو مرفوع على المدح أي هو الرحمن. وعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبران للمبتدأ.
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي وأخفى من السر، كقولهم: الله أكبر، أي أكبر من كل شيء.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... اللَّهُ مبتدأ مرفوع، أو بدل من ضمير يَعْلَمُ وخبر المبتدأ:
جملة: لَهُ الْأَسْماءُ.
البلاغة:
مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ التفات من ضمير التكلم إلى الغيبة، تفننا في الكلام، وتفخيما للمنزل من وجهين: إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، والتنبيه على أنه واجب الإيمان به.
المفردات اللغوية:
طه هذه الحروف المقطعة نزلت للتنبيه والتحدي بإعجاز القرآن البياني، ما دام مركبا من الحروف التي تتكون منها لغة العرب نفسها. أو هو اسم من أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو معناه:
يا رجل، كما روي عن ابن عباس وكبار جماعة التابعين.
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يا محمد لِتَشْقى لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل، أي خفف عن نفسك. إِلَّا تَذْكِرَةً لكن أنزلناه للتذكير والعظة لمن يخشى؟
لمن يخاف الله. الْعُلى جمع عليا، مؤنث الأعلى، كالكبرى مؤنث الأكبر.
الْعَرْشِ في اللغة: سرير الملك، وهو هنا كناية عن الملك، أو هو مخلوق الله أعلم به، وهذا هو الأصح. اسْتَوى استولى عليه، بدليل قول الشاعر:
استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
والأصح أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، كما قال الإمام مالك، فهو استواء يليق بجلال الله تعالى. وَما بَيْنَهُما من المخلوقات. وَما تَحْتَ الثَّرى التراب الندي، وهنا يراد مطلق التراب، والمراد: الأرضون السبع لأنها تحت التراب.
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ في ذكر أو دعاء، فالله غني عن الجهر به. وَأَخْفى من السر، وهو حديث النفس والخاطر الذي يدور في الذهن، دون التفوه به، فلا تجهد نفسك بالجهر. لَهُ الْأَسْماءُ الصفات والأسماء التسعة والتسعون الوارد بها الحديث. والحسنى: مؤنث الأحسن. والذي(16/177)
فضلت به أسماؤه في الحسن على سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن، كما قال الزمخشري.
سبب النزول:
قال مقاتل: قال أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، ومطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بل بعثت رحمة للعالمين»
قالوا: بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن دين الإسلام هو سبب كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول ما أنزل الله عليه الوحي يقوم على صدور قديمه إذا صلى، فأنزل الله: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى.
التفسير والبيان:
طه هذه الحروف المقطعة التي يبتدأ بها في أوائل السورة لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن، ما دام مركبا من حروف اللغة التي ينطقون بها ويكتبون. وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: طأ الأرض يا محمد، قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة، حتى كادت قدماه تتورمان، ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طأ الأرض، أي لا تتعب نفسك في الصلاة جدا، حتى تحتاج إلى المراوحة بين قدميك.
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لم ننزل القرآن عليك لتتعب نفسك بسبب تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وفرط تحسرك على أن يؤمنوا، فإن إيمانهم ليس إليك، بل أنزلناه لتبلغ وتذكر، فحسبك التبليغ(16/178)
والتذكير، ولا تلتفت بعدئذ لإعراض المعاندين، ولا ترهق نفسك وتتعبها بحملهم على قبول دعوتك.
ونظير الآية قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] . فقوله: لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا.
روى جويبر عن الضحاك قال، ومعه مقاتل: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم، فقد أراد به خيرا، كما
ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .
وما أنزلناه إلا تذكرة لتذكر به من يخاف عذاب الله، وينتفع بما سمع من كتاب الله الذي جعلناه رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة، وليس عليك جبرهم على الإيمان، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى 42/ 48] ، ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 22] .
وفي هذا إيناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعراض قومه عن دعوته، وضيق نفسه من تصميمهم على الكفر.
روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة، إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» .
وكلمة إِلَّا في الآية: إما استثناء منقطع بمعنى: لكن، أو متصل(16/179)
والتقدير: ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة.
وإنما خص لِمَنْ يَخْشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها، وإن كان القرآن عاما في الجميع، وهو كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] . ودليل العموم قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] .
ووجه التذكير بالقرآن: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعظهم به وببيانه.
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد نزل عليك تنزيلا من خالق الأرض والسموات العليا، والمراد بهما جهة السفل والعلو، الأرض بانخفاضها وكثافتها، والسموات في ارتفاعها ولطافتها.
والمراد بالآية: إخبار العباد عن كمال عظمة منزل القرآن، ليقدروا القرآن حق قدره.
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي ومنزل القرآن هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو الذي علا وارتفع على العرش، ولا يعلم البشر كيف ذلك، بل نؤمن به على طريقة السلف الصالح الذين يؤمنون بالصفات من دون تحريف ولا تأويل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، فهو استواء يليق بجلال الله وعظمته، بلا كيف ولا انحصار، كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 48/ 10] لأن الله تعالى ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث، والعرش:
شيء مخلوق، لا ندري حقيقته.
ويرى الخلف تأويل الصفات، فيراد بالاستواء: الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل، والعرش: هو الملك، واليد: القدرة.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أي إن الله(16/180)
منزل القرآن هو أيضا مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات، ومالك كل سيء ومدبره، ومتصرف فيه، ومالك ما تحت التراب من شيء. فله الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا.
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي إن تجهر بدعاء الله وذكره، فالله تعالى عالم بالجهر والسر، وما هو أخفى منه مما يخطر بالبال، أو يجري في حديث النفس، فالعلم بكل ذلك سواء بالنسبة لله عز وجل. والمعنى:
إن تجهر بذكر الله ودعائه، فاعلم أنه غني عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر.
وأما إجراء الأدعية والأذكار على اللسان، فلمساعدة القلب على ذلك، ولتصور المعنى، وشغل الحواس بالمطلوب وصرفها عن التفكر في غير ذلك، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف 7/ 205] .
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى إن صفات الكمال المتقدمة هي لله المعبود الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وله أحسن الأسماء والصفات الدالة على كل الكمال والتقديس والتمجيد، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح، والتي تقدم ذكرها في سورة الأعراف [الآية: 110] وله أيضا الأفعال الصادرة عن كمال الحكمة والصواب.
وبه يتبين أن هذه الآيات وصفت منزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه خالق الأرض والسماء، وأنه الرحمن صاحب النعم، وأنه الذي استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون، وأن له الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا، وأنه العالم بكل شيء، سواء عنده السر والجهر، وأنه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال السديدة.(16/181)
فهل بعد إيراد هذه الصفات من يدعي أن القرآن من عند غير الله، وهل يصح اتخاذ صنم من حجر أو خشب أو معدن شريكا لله؟
لذلك كله بادر عمر بن الخطاب في جاهليته بعقل متفتح إلى الإسلام والإيمان، لما قرأت عليه أخته هذه الآيات.
وقد نزلت سورة طه قبل إسلام عمر رضي الله عنه.
إسلام عمر:
روى ابن إسحاق في سيرته: أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام، وقد خرج في يوم متوشحا سيفه، يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله. فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم:
والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟! فقال: وأي أهل بيني؟ قال: ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.
قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها أول سورة يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهما، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (الكلام الخفي الذي لا يفهم) الذي سمعت؟
قالا له: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على(16/182)
دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها.
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
ولما رأى عمر ما صنع، ندم وارعوى، وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.
فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال لها: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.
فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه، فقال له:
يا عمر، والله، إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس، وهو
يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب»
فالله الله يا عمر، فقال عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه. فأسلم ورضي الله عنه.
هذا ما ذكره ابن إسحاق مطولا، وروى القصة بإيجاز الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا «1» ، فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب، وكانوا يقرءون طه فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا
__________
(1) يقال: صبا: خرج من دين إلى دين، وبابه «خضع» .(16/183)
المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- ليس إنزال القرآن العظيم لإتعاب النفوس وإضناء الأجسام، وإنما هو كتاب تذكرة ينتفع به الذين يخشون ربهم. وفي هذا رد على كفار قريش- كما تقدم في سبب النزول- الذين قالوا: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى طه.
ويوضح ذلك ما قاله الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بمكة، اجتهد في العبادة، واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية، فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه، فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل، فكان بعد هذه الآية يصلي وينام.
وهكذا لم يكن إنزال القرآن لإتعاب النفس في العبادة، وإذاقتها المشقة الفادحة، وإنما القرآن كتاب يسر، وما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالحنيفية السمحة.
2- الله تعالى منزل القرآن هو خالق الأرض والسموات العليا، وهو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها الذي اعتلى عرشه، فكان مطلق التصرف في الخلق والكون، وله جميع ما في السموات وما في الأرض وما بينهما من الموجودات وما تحت الأرض من معادن وذخائر وأموال وغير ذلك، والأرضون سبع والسموات سبع أيضا، وهو العالم بكل شيء، يستوي عنده السر والجهر وما هو أخفى من السر، قال ابن عباس: السر: ما حدث به الإنسان غيره في خفاء، وأخفى منه:
ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره.(16/184)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
وهو سبحانه الإله الوحيد في هذا الكون، لا إله غيره، ولا رب سواه، له الأسماء الحسنى التسع والتسعون، والصفات العليا، والأفعال الحميدة الحكيمة السديدة.
وقد وحد الله نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فكبر ذلك عليهم، فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن، قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر، وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وأنزل:
قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء 17/ 110] وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
قصة موسى عليه السلام
- 1- تكليم ربه إياه (أو مناجاة موسى) وابتداء الوحي إليه في الوادي المقدس
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)(16/185)
الإعراب:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِنِّي بالكسر على الابتداء لأن النداء في معنى القول، وإن: تكسر بعد القول لأنها في تقدير الابتداء. وتقرأ بالفتح أني لوقوع نُودِيَ عليها، أي نودي يا موسى بأني، فحذف الياء تخفيفا. وأَنَا تأكيد لياء المتكلم.
طُوىً من قرأ بتنوين، جعله منصرفا اسما للمكان غير معدول، كجعل وصرد، ومن لم ينون جعله ممنوعا من الصرف إما للتأنيث والتعريف، أو للتعريف والعدل عن طاو كعدول عمر عن عامر. وإعرابه: بدل من الوادي في كلا الوجهين.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل مما يوحى.
لِذِكْرِي إما مضاف إلى المفعول، أي لتذكرني، وإما مضاف إلى الفاعل، أي لأذكرك.
أَكادُ أُخْفِيها أُخْفِيها إما أن الهمزة فيه همزة السلب، أي أريد إخفاءها، مثل:
أشكيت الرجل، إذا أزلت شكايته، وإما أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف أظهرها لكم.
ولام لِتُجْزى متعلقة ب أُخْفِيها.
فَتَرْدى إما منصوب جوابا للنهي بالفاء، بتقدير (أن) مثل: لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ.. [طه 20/ 81] وإما مرفوع على تقدير: فإذا أنت تردى، مثل يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ [النساء 4/ 73] .
البلاغة:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى؟ للتشويق والحث على الإصغاء، وهو استفهام تقرير.
لِتَشْقى يَخْشى أَخْفى تَسْعى سجع حسن.
المفردات اللغوية:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ تشويق لسماع قصته بقصد التأسي به، والحديث: ما يبلغ الإنسان من الكلام، سواء بالسمع أو بالوحي. وهو استفهام تقرير.
إِذْ رَأى ظرف للحديث لأنه حدث، أو مفعول لفعل مقدر وهو اذكر. لِأَهْلِهِ لامرأته. امْكُثُوا هنا، والمكث: الإقامة، قال ذلك في أثناء مسيره من مدين إلى مصر.
آنَسْتُ أبصرت. آتِيكُمْ أجيئكم. بِقَبَسٍ بشعلة من النار مقتبسة على رأس فتيلة أو عود وقال: لَعَلِّي لعدم الجزم بوفاء الوعد. هُدىً هاديا يدلني على الطريق، وكان أخطأها لظلمة الليل.(16/186)
فَلَمَّا أَتاها أتى النار، وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي للتواضع والأدب. الْمُقَدَّسِ المطهر أو المبارك، وهو تعليل للأمر باحترام البقعة.
اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة من قومك. لِما يُوحى إليك مني، أو للوحي، واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين. أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي دال على أن الأمر مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم، والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لتكون ذاكرا لي، خصها بالذكر، لما فيها من تذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وقيل:
لذكر صلاتي، لما
روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ، إن الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة. أَكادُ أُخْفِيها أبالغ في إخفائها ولا أظهرها بأن أقول: إنها آتية، أو أريد إخفاء وقتها عن الناس، ويظهر لهم قربها بعلاماتها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي لتجزى فيها كل نفس بما تسعى من خير أو شر. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها لا يصرفنك عن الإيمان بها. هَواهُ ما تهواه نفسه في إنكارها. فَتَرْدى فتهلك إن صددت عنها.
المناسبة:
لما عظم الله تعالى حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه به من التبليغ، أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الإبلاغ من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود 11/ 120] . وبدأ بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة، وتبليغ الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، وكان موسى أشد الناس صبرا على تحمل مكاره قومه. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة.
التفسير والبيان:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه؟ وبدئ بالاستفهام لتثبيت الخبر، وتقريره في نفس المخاطب، فذلك أسلوب مؤثر في إلقاء الكلام العربي.(16/187)
قال المفسرون: استأذن موسى عليه السلام شعيبا في الرجوع إلى والدته، فأذن له، فخرج، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق، فقدح موسى عليه السلام النار، فلم تور المقدحة شيئا، فبينا هو يزاول ذلك، إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق، فظن أنها نار من نيران الرعاة، من جانب جبل الطور الواقع عن يمينه «1» ، كما قال تعالى:
إِذْ رَأى ناراً، فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر، والصحيح كما قال الرازي أنه رأى نارا، لا تخيل نارا، ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء.
فقال لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم: أقيموا مكانكم، إني رأيت نارا من بعيد، لعلني أوافيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب، أو جذوة كما في آية أخرى، لعلكم تستدفئون (أو تصطلون) بها، مما يدل على وجود البرد، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها، كما قال تعالى: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص 28/ 29] . والهدى: ما يهتدى به، وهو اسم مصدر، فكأنه قال: أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة.
ومعنى الاستعلاء على النار: أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ: يا مُوسى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً أي فلما أتى النار التي آنسها، واقترب منها نودي من قبل الرب تبارك وتعالى، كما قال: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ
__________
(1) تفسير الرازي 21/ 15(16/188)
الشَّجَرَةِ: أَنْ يا مُوسى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [القصص 28/ 30] . وقال هاهنا:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي نودي: يا موسى، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك، فاخلع حذاءك لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم، وحسن التأدب، إنك بالوادي المطهر المسمى طُوىً من أرض سيناء.
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي وأنا الله الذي اخترتك للرسالة والنبوة، فاستمع سماع قبول واستعداد ووعي لما ينزل عليك من الوحي، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف 7/ 144] أي على جميع الناس الموجودين في زمانك.
ثم ذكر الموحى به فقال تعالى:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي إن الذي يناديك هو الله، وهو تأكيد لما سبق، وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ووحدني وقم بعبادتي من غير شريك لأن اختصاص الألوهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة، والمعنى: أنا الإله الحق الواحد، المستحق للعبادة دون سواي.
وأد الصلاة المفروضة على النحو الذي آمرك به، مستكملة الأركان والشروط لتذكرني فيها وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخص الصلاة بالذكر، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة. أو المعنى: أقم الصلاة عند تذكرك بالواجب وذكرك لي لما
رواه الإمام أحمد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي»
وفي الصحيحين عن أنس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» .
وأخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(16/189)
صلى الله عليه وآله وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» .
واقتصر الحديث على حالتي النوم أو النسيان لأن شأن المؤمن ألا يقصر في واجبه بأداء الصلاة، فإذا تركها عمدا كان قضاؤها ألزم وأوجب إذ لا كفارة لها إلا أداؤها أو قضاؤها.
ثم أخبر عن الساعة أو مجيء يوم القيامة ومصير الخلائق بعد توحيد الله وعبادته، باعتبارها مقر الحساب على الأعمال، فقال:
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي إن الساعة قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري، فاعمل لها الخير من عبادة الله والصلاة، ولأن مجيء الساعة أمر حتم لازم لأجزي كل عامل بعمله، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها، كما قال تعالى:
إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور 52/ 16] وقال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7- 8] .
والله أخفى الساعة أي القيامة، وأجل الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ونشاط، ولا يؤخر التوبة، ويترقب الموت كل لحظة. وكلمة أَكادُ أي أقارب، وهي زائدة، أي إن الساعة آتية أخفيها.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها، وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى أي فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة (القيامة) والتصديق بها، والاستعداد لها من لا يصدق بها من الكفرة، واتبع أهواءه وتصوراته المغلوطة، بالانهماك في الملذات المحرمة الفانية، فإنك إن تفعل ذلك تهلك.
والخطاب ليس مقصورا على موسى الرسول عليه السلام، وإنما بدئ به لتعليم غيره، فهو شامل جميع الناس البالغين العقلاء.(16/190)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- ضرورة تعلم قصص الأنبياء والاطلاع عليها للعبرة والعظة، وقد حث القرآن على ذلك في مطلع الإخبار عن قصة موسى عليه السلام، بصيغة الاستفهام الذي هو استفهام إثبات وإيجاب. ولفظ الاستفهام وَهَلْ أَتاكَ وإن كان لا يجوز على الله تعالى، لأنه ليس بحاجة إليه، لكن المقصود به كما تقدم تقرير الجواب في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك، كما يقول المرء لصاحبه على سبيل التشويق ولفت النظر والانتباه: هل بلغك خبر كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر.
2- على الزوج واجب الإنفاق على الأهل (المرأة) من غذاء وكساء ومسكن ووسائل تدفئة وقت البرد، لذا بادر موسى عليه السلام إلى الذهاب في الليلة المظلمة الشاتية لإحضار شعلة نار أو جذوة (جمر من النار) للدفء، وللحاجة الشديدة إليه، وبخاصة حالة النفساء.
3- كان ذهاب موسى عليه السلام من أجل استحضار النار سببا في تكليم الله له، وابتداء الوحي عليه، وإيتائه النبوة والرسالة.
4- اقتضى أدب الخطاب الإلهي تكليفه بخلع نعليه، ففعل فورا. جاء في الخبر: أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
لذا وجب خلع النعال في أثناء الصلاة أو عند دخول المسجد إذا كان فيها نجاسة أو قذر، فإن كانت طاهرة جازت الصلاة فيها، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة في النعلين أفضل، وهو معنى قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف 7/ 31] .(16/191)
وكيفية تطهير النعلين من النجاسة على التفصيل الآتي: إن تحقق فيهما نجاسة مجمعا على تنجيسها كالدم والعذرة (الغائط) من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة، فيطهرها المسح بالتراب عند الأوزاعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة: يزيل النجاسة اليابسة الحك والفرك، ولا يزيل الرطبة إلا الغسل، أما البول فلا يجزئ فيه إلا الغسل. وعند المالكية قولان، أرجحهما أن المسح يطهر، وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء.
5- حسن الاستماع واجب مطلوب في الأمور المهمة، وأهمها الوحي المنزل من عند الله. وقد مدح الله من يحسن استماع كلام الله، فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر 39/ 18] وذم من يعرض عن الاستماع فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ الآية [الإسراء 17/ 47] فمدح المنصت لاستماع كلام الله مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف 7/ 204] وقال هاهنا: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.
قال وهب بن منبه: من أدب الاستماع: سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه، فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله، فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.
6- اشتمل أول الوحي على موسى على أصلين في العقيدة وهما الإقرار بتوحيد الله، والإيمان بالساعة (القيامة) وعلى أهم فريضة بعد الإيمان وهي الصلاة.(16/192)
وكان إخفاء الساعة للتهويل والتخويف، وترك المماطلة والتسويف في الإقبال على التوبة والعمل الصالح، فإن الإنسان إذا جهل وقت الساعة كان منها على حذر وخوف. وهذا أيضا سبب إخفاء الله وقت الموت.
وإقامة الصلاة واجب في الوقت المخصص لها، ويجب قضاؤها كما دلت الأحاديث النبوية المتقدمة في حالتي النوم والنسيان. وأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا آثما بتأخيرها عن وقتها، فالمتعمد آثم، والناسي والنائم غير آثمين. وحجة الجمهور قوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة 2/ 43] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعده، وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير آثمين، فالعامد أولى. ثم إن النسيان هو الترك، قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] ونَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر 59/ 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن لأن الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى في
الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي»
وهو تعالى لا ينسى، فيكون ذكره بعد نسيان، وإنما معناه: علمت، فكذلك يكون معنى
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ذكرها»
أي علمها.
وأيضا فإن ديون الآدميين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت، لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء، فإذا شغلت الذمة بدين وجب إبراء الذمة منه، أداء أو قضاء، وديون الله أحق بالوفاء.
ثم إن ترك يوم من رمضان متعمدا بغير عذر يوجب القضاء، فكذلك الصلاة «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 178.(16/193)
ومذهب المالكية: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها.
وهذا هو مذهب الحنفية إلا أنهم قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم.
وقال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه.
وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر، وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة، وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه.
ودليل تقديم الفائتة قبل الحاضرة:
ما روي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتته العصر يوم الخندق، حتى غربت الشمس، فصلى العصر بعد غروب الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وروى الترمذي عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
واختلف العلماء إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال:
- فذهب مالك والليث والزهري: إلى أنه يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة.
وذهب الحسن البصري والشافعي وفقهاء الحديث والمحاسبي وابن وهب من المالكية: إلى أنه يبدأ بالحاضرة.
- وقال أشهب: يتخير فيقدم أيتهما شاء.(16/194)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة: فإن كان وراء الإمام، فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به يقول: يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة وأحمد: يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الإمام، إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات.
وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين، سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات، أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة.
والفائتة بسبب النوم يبدأ عقب الصحو بصلاتها،
لحديث مسلم والدارقطني عن أبي قتادة: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين يتنبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها»
والصحيح ترك العمل بإعادة الصلاة في الجملة الأخيرة
لحديث الدارقطني عن عمران بن حصين: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم» .
- 2- انقلاب عصا موسى حية (المعجزة الأولى)
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 21]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)(16/195)
الإعراب:
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ما: مبتدأ، وتِلْكَ: خبره، وبِيَمِينِكَ: في موضع نصب على الحال، أي ما تلك كائنة بيمينك، مثل: وَسارَ بِأَهْلِهِ أي سار غير منفرد.
سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى سِيرَتَهَا منصوب ب سَنُعِيدُها بتقدير حذف حرف جر، أي: سنعيدها إلى سيرتها، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، أي منصوب بنزع الخافض.
البلاغة:
قالَ: هِيَ عَصايَ، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي إطناب، وكان مقتضى الجواب:
هي عصاي، ولكنه استرسل في الجواب، تلذذا بالخطاب.
المفردات اللغوية:
وَما تِلْكَ؟ استفهام يتضمن تنبيها لما يريه فيها من العجائب يا مُوسى تكرار لزيادة الاستئناس والتنبيه أَتَوَكَّؤُا أعتمد عليها في المشي إذا عييت، أو عند الوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وأخبط ورق الشجر بها على رؤوس غنمي، ليسقط، فتأكله مَآرِبُ منافع وحاجات أخر، جمع مأربه، كحمل الزاد والسقاء وطرد الهوام.
حَيَّةٌ ثعبان عظيم لآية أخرى، والحية في الأصل: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى. والثعبان: العظيم من الحيات، والجان: الصغير منها تَسْعى تمشي على بطنها سريعا خُذْها بأن يدخل يده في فمها فتعود عصا وَلا تَخَفْ لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر، خاف وهرب منها سِيرَتَهَا الْأُولى أي إلى حالتها الأولى وهي كونها عصا.
المناسبة:
بعد مناجاة الله لموسى، بدأ تعالى بذكر براهين نبوته، لتصديق رسالته، وأولها انقلاب العصا حية، أي انقلاب الجماد حيوانا، وبالعكس، وتلك آيات باهرات ومعجزات قاهرات أحدثها الله فيها لأجله، وليست من خواصها.
التفسير والبيان:
معجزة العصا لموسى هي البرهان الأول الخارق للعادة الدال على أنه لا يقدر(16/196)
على مثل هذا إلا الله عزّ وجلّ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، قال تعالى:
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ هذا السؤال عن العصا سؤال تقرير، سأله الله تعالى لموسى عليه السلام وهو العليم به، للتنبيه على كمال قدرة الله، والتأمل بما يحدثه من خوارق العادات، والتأكد من أنها هي عصاه الحقيقية التي يعرفها، وأنها هي التي ستتحول حية تسعى، وإلا فقد علم الله ما هي. والمعنى: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن؟! فأجابه موسى بالمطلوب وزاد عليه لأنه استمتع بخطاب الله تعالى، فقال:
قالَ: هِيَ عَصايَ قال موسى: هي عصاي، وبه تم المراد، ولكن موسى عليه السلام ذكر فائدتين لها، وأجمل الكلام في الجملة الثالثة، ليسأله ربه: وما هذه المآرب.
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى هذه عصاي أعتمد عليها في حال المشي، وأخبط بها الشجر وأهزه ليسقط منه الورق لتأكله الغنم، ولي فيها مصالح ومنافع وحوائج أخرى غير ذلك، كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم، وغير ذلك، فمنافع العصا كثيرة معروفة.
فأمره الله بإلقائها لتظهر المعجزة:
قالَ: أَلْقِها يا مُوسى قال تعالى لموسى عليه السلام: ألق هذه العصا التي في يدك يا موسى.
فَأَلْقاها، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فألقاها موسى على الأرض، فإذا هي قد صارت في الحال حية عظيمة، ثعبانا طويلا، يتحرك حركة سريعة، وفي آية أخرى: فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، قال تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل 27/ 10] لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها، فتبين أن هذه الحية في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة. وقوله تَسْعى تمشي وتضطرب.(16/197)
ثم أمره تعالى بالعودة إلى مكانه، فرجع موسى وهو شديد الخوف، فقال:
قالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال له ربه: خذها بيمينك، ولا تخف منها، سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي تعرفها قبل ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى خطاب من الله تعالى لموسى وحيا لأنه قال: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. ولا بد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك.
2- في جواب موسى في هذه الآية دليل على جواز كون الجواب على السؤال بأكثر مما سئل.
جاء في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ماء البحر للتوضؤ به، فقال:
«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» .
وسألته صلى الله عليه وآله وسلم امرأة عن الصغير حين رفعته إليه، فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولك أجر» أخرجه مسلم عن ابن عباس.
3- قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ.. خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة، لا يلزم منه أن يكون موسى أفضل من محمد لأن الله تعالى خاطب أيضا محمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج في قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم 53/ 10] إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان سرا لم يطلع عليه أحدا من الخلق.(16/198)
4- قال ابن عباس: إمساك العصا سنة للأنبياء وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال: سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم للمنافقين، وزيادة في الطاعات.
ومنافع العصا كثيرة، منها اتخاذها قبلة في الصحراء،
وقد كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عنزة «1» تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، وذلك ثابت في الصحيح.
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له مخصرة «2» .
والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء: أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب.
5- لقد تحولت العصا الملقاة من يد موسى حية كبيرة سريعة الحركة بفعل الله عز وجل القادر على خرق العوائد، فقلب الله أوصافها وأعراضها، كذلك عادت الحية عصا إلى حالتها الأولى بفعل الله تعالى، وكل ذلك كان معجزة لموسى عليه السلام وبرهانا حسيا قطعيا على نبوته.
وإنما أظهر الله هذه الآية لموسى، لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون.
وكان خوف موسى عند انقلابها لأول مرة حية- بعد أن علم أنه مبعوث من عند الله إلى الخلق- بمقتضى الطبع الإنساني الذي يخاف من الحيات لسميتها
__________
(1) العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا، وفيها سنان مثل سنان الرمح. والعنزة والحربة والنيزك والآلة بمعنى واحد.
(2) المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده، فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكئ عليها.(16/199)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
وخطرها لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عن بعض خواصه. قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى: وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه، فلا يخافه البتة.
- 3- اليد البيضاء (المعجزة الثانية)
[سورة طه (20) : الآيات 22 الى 35]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
الإعراب:
تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى بيضاء: حال من ضمير تَخْرُجْ وآيَةً إما منصوبة على الحال بدلا من بَيْضاءَ أي تخرج مبينة عن قدرة الله تعالى، وإما منصوبة بتقدير فعل، أي آتيناك آية أخرى.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً لِي في موضع نصب ظرف ل- اجْعَلْ أو صفة ل وَزِيراً فلما تقدم صار منصوبا على الحال.
هارُونَ أَخِي هارُونَ منصوب على البدل من قوله: وَزِيراً وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة، وأَخِي عطف بيان، أو بدل.(16/200)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً كَثِيراً منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف، أي نسبحك تسبيحا كثيرا.
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي يقرأ بوصل الهمزة وقطعها، فالوصل دعاء وطلب وهو كالأمر، والقطع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب اجْعَلْ على تقدير شرط مقدر، فهو مجزوم بجواب الطلب.
البلاغة:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ استعارة، استعار جناح الطير بجنب الإنسان.
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فيه احتراس: وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، فلو اقتصر على بَيْضاءَ لأوهم أن ذلك من برص أو بهق، فاحترس بقوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.
المفردات اللغوية:
وَاضْمُمْ الضم: الجمع يَدَكَ اليمنى بمعنى الكف إِلى جَناحِكَ إلى جنبك الأيسر تحت العضد، علما بأن أصل الجناح للطائر، ثم أطلق على اليد والعضد والجنب، وهذا هو المراد هنا تَخْرُجْ خلاف ما كانت عليه من الأدمة بَيْضاءَ مشعة كشعاع الشمس تعشي البصر مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير عاهة أو قبح كالبرص الذي تنفر الطباع منه آيَةً أُخْرى معجزة ثانية غير العصا.
لِنُرِيَكَ أي فعلنا ذلك لنريك بها مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى هي صفة: آياتِنَا أي من آياتنا العظمى الدالة على قدرتنا وعلى رسالتك. وإذا أراد عودها إلى حالتها الأولى، ضمها إلى جناحه كما تقدم، ثم أخرجها اذْهَبْ رسولا إِلى فِرْعَوْنَ ومن معه بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة إِنَّهُ طَغى جاوز الحد في كفره، وعتوه وتجبره، حتى ادعى الألوهية اشْرَحْ لِي صَدْرِي
أي وسعه لتحمل أعباء الرسالة والصبر على مشاقها وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي سهل لي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي أزل تلك العقدة التي في لساني، حدثت في احتراقه بجمرة وضعها بفيه وهو صغير، لئلا ينفر مني الناس ويستخفوا بي يَفْقَهُوا قَوْلِي يفهموا قولي عند تبليغ الرسالة.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً معينا، والأزر: القوة أو الظهر، يقال: آزره: أي قواه وأعانه وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي اجعله شريكا معي في النبوة والرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً أي تسبيحا كثيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي ونذكرك ذكرا كثيرا إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا، فأنعمت بالرسالة، ولا نريد بالطاعة إلا رضاك.(16/201)
المناسبة:
بعد أن ذكر تعالى معجزة العصا الدالة على صدق رسالة موسى عليه السلام، وهي المعجزة الأولى، ذكر المعجزة الثانية وهي معجزة اليد البيضاء التي تنقلب مشعة كشعاع الشمس، تعشي البصر.
وبعد هاتين الآيتين أمره الله بالذهاب إلى فرعون، لتبليغ رسالة ربه ودعوته إلى عبادة الله، فدعا موسى عليه السلام ربه بأربعة أمور: شرح صدره، وتيسير أمره، وحل عقدة لسانه، وجعل أخيه هارون نبيا وزيرا له، لتقويته، وتعاونه معه في أداء مهمة التبليغ، وذكر الله وعبادته، فصار مطلوب موسى ثمانية أمور، أربع منها وسائل، وأربع أخرى هي غايات.
التفسير والبيان:
هذا برهان ثان لموسى عليه السلام على نبوته، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه أو في جناحه (جنبه) معبرا عن الجنب بالجناح، فقال:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى أي واضمم يا موسى يدك اليمنى أو كفك إلى جناحك (وهو جنبك تحت العضد) واجعلها تحت الإبط الأيسر، تخرج بيضاء لامعة ذات نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر، من غير عيب كبرص أو أذى أو شين- علما بأن جلد موسى كان أسمر- معجزة أخرى غير العصا، ثم ردها فعادت كما كانت بلونها. وإذا حاول السحرة إبطال معجزة العصا، فإنه لم يحاول أحد إبطال معجزة اليد.
وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، كأنها فلقة قمر. قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل.(16/202)
قال الله تعالى في مكان آخر: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [القصص 28/ 32] ، وعبر تعالى عن الجناح أيضا بالجيب، فقال: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل 27/ 12] ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص 28/ 32] .
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فعلنا هذا لنريك بهاتين الآيتين بعض دلائل قدرتنا على كل شيء في السموات والأرض والمخلوقات الموجودات.
وبعد أن أظهر تعالى له هذه الآية أمره بالذهاب إلى فرعون، وبين العلة في ذلك، وهي أنه طغى، فقال:
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي اذهب رسولا إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه، ومعك ما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى توحيد الله وعبادته، ومره بأن يحسن إلى بني إسرائيل، فإنه كفر وتجاوز قدره والحدود كلها، فآثر الحياة الدنيا وادعى أنه الرب الأعلى.
ولما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون، وكان ذلك تكليفا شاقا، سأل ربه أمورا ثمانية، ثم ختمها بعلة سؤال تلك الأشياء، فقال:
1- قالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال موسى: رب وسع لي صدري وأزل عنه الضيق فيما بعثتني به، فإنه أمر عظيم وخطب جسيم، وسبب هذا السؤال قوله: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي [الشعراء 26/ 13] ، فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، ليحتمل أذى الناس وأعباء الرسالة.
2- وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل علي القيام بما كلفتني به من تبليغ الرسالة، وقوني على مهمتي، فإن لم تكن أنت عوني ونصيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.(16/203)
3- وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي أي وأطلق لساني بالنطق، وأزل ما فيه من العقدة والعي ليفهموا قولي وكلامي بتبليغ الرسالة. وقد كان في لسانه رتة (حبسة) أو لثغة حين عرض عليه وهو صغير التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، فكان فيه لكنة، وذلك حين نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير، فغضب، وتوجس منه شرا، فقالت امرأته: إنه صغير لا يدري شيئا، فأتت له بجمرة وبلحة، فوضع الجمرة على لسانه.
وروي أن الحسين رضي الله عنه كان في لسانه رتة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذه ورثها من عمه موسى» .
4- وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي أي واجعل لي عونا ومساعدا لي في بعض أموري، من أهل بيتي هارون أخي، اجعله رسولا، ليتحمل معي أعباء الرسالة. ودعم الأنبياء تقتضيه حاجة نشر الدين، لذا قال عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ، قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران 3/ 52] .
5- 6: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي يا رب أحكم به قوتي، واجعله شريكي في أمر الرسالة، حتى نؤدي المطلوب على الوجه الأكمل ونحقق أفضل الغايات. والحاصل أنه شفع له كي يكون نبيا مثله ليعينه، ويشد به أزره (قوته) ويجعله ناصرا له لأنه لا اعتماد على القرابة.
7- 8: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي لكي نزهك كثيرا عما لا يليق بك من الصفات والأفعال، ونذكرك كثيرا وحدك دون أن نشرك معك غيرك. قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي إنك يا رب كنت عليما بأحوالنا وأحوال(16/204)
غيرنا، في اصطفائك لنا، وإعطائك إيانا النبوة، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، فنمتثل أمرك، ولك الحمد على ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن إخراج موسى عليه السلام يده من جيبه أو جناحه بيضاء لامعة تضيء كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا: هي المعجزة الثانية بعد معجزة العصا.
2- أرسل الله موسى رسولا إلى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية، وآزرته فئته الباغية في ذلك الادعاء، وأيد الله موسى بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول.
3- دعا موسى ربه، والدعاء نوع من العبادة، لتيسير القيام بمهمته وتحقيقه أحسن الغايات، وقد أجابه ربه لكل ما طلب لقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، فشرح صدره وأزال عنه الضيق والغم، ويسر أمره وقواه، وانحل أكثر العقد من لسانه، وإن بقي منها شيء قليل، لقوله تعالى حكاية عن فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف 43/ 52] وجعل له أخاه هارون نبيا ليعاونه في أداء الرسالة، والتعاون ضروري لإنجاح المقصود، وآزره وأحكم قوته به، وشاركه في مهمته، وكانا كثيرا ما يسبحان الله وينزهانه عما لا يليق به من نقص كادعاء ولد أو شريك معه، ويذكرانه وحده لا شريك له، عملا بما دعا به موسى عليه السلام.
4- إن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، عالم بموسى وأخيه وبأحوال فرعون وغير ذلك، مدرك ما تعرض له موسى في الصغر، فأحسن إليه، ونصره على فرعون وملئه.(16/205)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
- 4- نعم الله الثمان على موسى قبل النبوة
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
الإعراب:
أَنِ اقْذِفِيهِ.. فَاقْذِفِيهِ أَنِ اقْذِفِيهِ في موضع نصب على البدل من ما. وهاء اقْذِفِيهِ لموسى، وهاء فَاقْذِفِيهِ للتابوت.
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فُتُوناً إما منصوب على المصدر (مفعول مطلق) مثل: ضربت ضربا، وإما منصوب بحذف حرف الجر، أي فتناك بفتون، ومعناه: وفتناك بأنواع من الفتن.
البلاغة:
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي استعارة تبعية، شبه اختياره للمحبة والرسالة والتكريم والتكليم بمن يختاره الملك للمهام الجليلة، لما يرى فيه من المقومات والخصال الحميدة، لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه.(16/206)
المفردات اللغوية:
سُؤْلَكَ مسئولك، أي مطلوبك مَنَنَّا أنعمنا إِذْ للتعليل أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ألهمنا أو في المنام، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون في جملة من يولد، كما أوحى إلى مريم، وإلى النحل، وإلى الحواريين وليس وحيا على جهة النبوة ما يُوحى في أمرك اقْذِفِيهِ ألقيه واطرحيه أي ألقي موسى الصغير في التابوت فَاقْذِفِيهِ فألقي التابوت فِي الْيَمِّ البحر، والمراد هنا نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ الشاطئ، والأمر هنا بمعنى الخبر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي محبة كائنة مني، لتصبح محبوبا بين الناس، فأحبك فرعون وكل من رآك وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وتربى على رعايتي وحفظي لك بمرأى مني.
إِذْ تَمْشِي إذ للتعليل أُخْتُكَ مريم، لتتعرف على خبرك، وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن يَكْفُلُهُ يضمه إلى نفسه ويصبح كافلا له، فأجيبت، فجاءت بأمه، فقبل ثديها تَقَرَّ عَيْنُها تسر بلقائك وَلا تَحْزَنَ بفراقك وأنت بفراقها وفقد شفقتها وَقَتَلْتَ نَفْساً هو القبطي بمصر الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، فاغتممت لقتله خوفا من فرعون الْغَمِّ غم قتله، خوفا من عقاب الله تعالى، والغم: الكدر الحادث من خوف شيء أو فوات مقصود وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك بأنواع من الابتلاء، فخلصناك مرة بعد أخرى. والفتون:
الابتلاء والاختبار بالمحن، ثم تخليصه منها. وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، وترك الأصحاب، والمشي راجلا على حذر، وفقد الزاد، وأجر نفسه، وغير ذلك أثناء مسيره من مصر إلى مدين، ومدين: على ثماني مراحل من مصر، وهي جنوب فلسطين «1» .
فَلَبِثْتَ سِنِينَ أقمت في أهل مدين عشر سنين، بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرته في علمي لأن أكلمك وأكلفك بالرسالة، وهو أربعون سنة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك بالرسالة والمحبة. وكرر: يا مُوسى للتنبيه على غاية القصة وهي التكليم.
المناسبة:
بعد أن سأل موسى ربه أمورا ثمانية، ذكر تعالى هنا أنه أجابه إليها، ليتمكن
__________
(1) خرج موسى عليه السلام من مصر إلى أرض مدين وهو شاب، بعد قتل القبطي في مصر، وفي هذه الرحلة أقام بمدين وتزوج بابنة شعيب عليه السلام، وقضى عشر سنين فأكثر. ثم بعد بعثته عليه السلام عاد إلى مصر لإخراج بني إسرائيل من ذل العبودية ودعوة فرعون إلى دينه. [.....](16/207)
من تبليغ رسالته، ثم ذكره بنعمه السالفة عليه قبل النبوة، وعد له ثماني نعم عظام وهي: إلهام أمه صنع صندوق وإلقاؤه وهو رضيع في النيل: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ. وإلقاء محبة الله عليه بحيث لا يراه أحد إلا أحبه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وحفظ الله له ورعايته:
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. وعودته إلى أمه للرضاع والحضانة: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها. ونجاته من القصاص بقتل القبطي: فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ. وابتلاؤه بالفتن: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. ومقاساته الفقر والغربة مع أهل مدين: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ. وتكليم الله له واختياره للنبوة والرسالة والهداية: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى في هذه الآيات دعاء موسى عليه السلام، وذكره بنعمه السالفة عليه، فقال:
قالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قال الله عز وجل لموسى: قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وحل العقدة، ونبوة هارون، وشد أزره به، وإشراكه في أمر الرسالة، والتمكين من التسبيح الكثير، والتذكر الكثير لله عز وجل.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى أي ولقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم سابقة كثيرة قبل النبوة وهي:
1- إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ أي مننا عليك حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون، أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تطرح هذا التابوت في البحر (اليم) وهو هنا نهر النيل، وأمرنا النيل(16/208)
بإلقائك على الشط قبالة منزل فرعون، فأخذك فرعون عدو الله وسيصير عدوا لك في المستقبل. فبينا فرعون جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق، فأمر به، فأخرج، ففتح، فإذا صبي جميل صبيح الوجه، فأحبه حبا شديدا هو وزوجته، كما قال تعالى:
2- وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي ألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد، لا يراك أحد إلا أحبك، فأحبك فرعون وزوجه التي قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص 28/ 9] .
3- وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتتربى بمرأى مني وفي ظل رعايتي.
4- إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ أي خرجت أختك تمشي على الشاطئ، تسير بسير التابوت، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان له مرضعة، فقالت: هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بالأم، فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة أخرى غيرها، فرددناك إلى أمك بألطافنا، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها، بعد أن طرحته في البحر، وعظم عليها فراقه.
5- وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي قتلت القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي، وكان قتلا خطأ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله خوفا من العقوبة، بالفرار إلى مدين، فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب.
6- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك مرة بعد مرة بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة، قبل أن يصطفيك الله لرسالته، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.(16/209)
7- فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي فأقمت ومكثت سنين مع أهل مدين بأرض العرب على ثماني مراحل من مصر، عانيت فيها من الفقر والغربة الشيء الكثير، حتى آجرت نفسك لشعيب لترعى غنمه مدة عشر سنين كانت مهر امرأتك.
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا.
8- وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي، وجعلتك رسولا بيني وبين خلقي لتبليغ الدين، والهداية إلى التوحيد والشرع القويم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لما سأل موسى عليه السلام ربه الأمور الثمانية، أجاب سؤله، وحقق مطلوبه ومرغوبه، فضلا من الله ونعمة، ورحمة ومنة.
2- وبعد إجابة دعائه، ذكره الله بما أنعم عليه من النعم الثماني التي أنعم بها عليه، قبل سؤاله، وتتلخص في حفظه سبحانه له من شر الأعداء والقتل من ابتداء حياته، وحين شبابه.
3- كان الإيحاء من الله لأم موسى بصنع الصندوق وقذفه في البحر إلهاما أو رؤيا رأتها في المنام، فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء 21/ 7] .(16/210)
وأيضا جاء في القرآن الوحي لا بمعنى النبوة، قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل 16/ 68] وقال سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [المائدة 5/ 111] .
4- من عجائب فعل الله وتدبيره وصنعه أن ينجي الله موسى الرضيع من قتل فرعون، وأن يتربى في بيت فرعون على مائدته، وأن يكون سببا في هلاك فرعون وإغراقه في البحر مع ملئه وقومه.
5- معنى محبة الله تعالى لموسى: إيصال النفع إلى عباده، بتهيئته للرسالة منذ الصغر، واستمرار ذلك حال الكبر إلى آخر عمره.
6- ومن تدبير الله الخفي أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أحد من المراضع، حتى أقبلت أخته المتجاهلة أمره، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها، فمصه وفرح به، فقالوا لها: تقيمين عندنا؟ فقالت: إنه لا لبن لي، ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون، قالوا: ومن هي؟ قالت: أمي، فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل:
بثلاث، وقيل: بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، كما قال ابن عباس. فجاءت الأم فقبل ثديها.
7- ليس هناك في الدنيا بعد النبي أشد عاطفة من عاطفة الأم على ولدها، بخلق الله وتقديره بإفرازها الحنان على ولدها من خلايا خاصة بها، لذا حزنت أم موسى وقلقت على ابنها بعد إلقائه في البحر، ولكن الله الرحيم بعباده رد إليها ابنها، وأقر عينها، وأزال حزنها وغمها.
8- لم يكن قتل موسى قبطيا كافرا عمدا، وإنما كان خطأ، وقبل النبوة حال الصغر، قال كعب كما روى مسلم في صحيحة: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة.(16/211)
9- آمن الله موسى من الخوف والقتل والحبس، واختبره اختبارا عسيرا شاقا في مراحل حياته أثناء الشباب، حتى صلح للرسالة.
10- أتم موسى عليه السلام عشر سنوات في رعي غنم شعيب الرجل الصالح مهرا لامرأته، وهو أتم الأجلين. وقال وهب: لبث موسى عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته «صفورا» ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده.
11- بعد مرور موسى بمحن كثيرة حان وقت نبوته، فجاء في وقت مقدر سابقا في علم الله وقضائه، موافقا للنبوة والرسالة لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة.
فاصطفاه الله واختاره لوحيه ورسالته، وأرسله إلى فرعون وملئه. وتتمة القصة في الآيات التالية.
أخرج البخاري ومسلم في تفسير الاصطفاء عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني، قال: نعم، فحج آدم موسى» .(16/212)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
- 5- التوجيهات لموسى وهارون في دعوة فرعون
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
المفردات اللغوية:
بِآياتِي بمعجزاتي التسع كالعصا واليد البيضاء، فإن فرعون لما قال لموسى: فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ. وَلا تَنِيا لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي أي لا تنسياني حيثما تقلبتما بتسبيح وغيره، واتخذا ذكري عونا ومددا وتأييدا مني إليكما. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالذكر: تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها.
وأما وقت نبوة هارون: فروي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، وقيل: سمع بمقبله، وقيل: ألهم ذلك، وخوطب مع أخيه موسى لأنه كان تابعا، وموسى متبوعا.
طَغى تجاوز الحد بادعائه الربوبية قَوْلًا لَيِّناً فيه تلطف وبعد عن الغلظة والشدة، نحو قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات 79/ 18- 19] . يَتَذَكَّرُ يتأمل ويتعظ فيؤمن. وقوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلق باذهبا، أو قولا، أي باشرا الأمر على رجاء وطمع منكما أنه يثمر. والفائدة في إرسالهما مع علمه تعالى بأنه- أي فرعون- لا يؤمن: إلزام الحجة وقطع المعذرة يَخْشى أي يخاف من بطش(16/213)
الله وعذابه. وقدم التذكر على الخشية لأن التذكر للمتحقق، والخشية للمتوهم، أي إن لم يتحقق صدقكما، ولم يتذكر، فلا أقل من أن يتوهمه، فيخشى. يَفْرُطَ يعجل بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى علينا، أي يتكبر ويزداد طغيانا إِنَّنِي مَعَكُما بالعون والحفظ والنصرة أَسْمَعُ ما يقول وَأَرى ما يفعل، بل أسمع وأرى ما يجزي بينكما من قول أو فعل، فأصرف شره عنكما.
فَأْتِياهُ قابلاه مواجهة فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أطلقهم من الأسر، ودعهم يذهبون معنا إلى الشام وَلا تُعَذِّبْهُمْ ولا تبقهم عندك معذبين بالتكاليف الصعبة والأشغال الشاقة كالحفر والبناء وحمل الأثقال، وقتل الولدان، وهذا دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ أي بحجة على صدقنا بالرسالة. وهي جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة. وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها، فالمراد: جنس الآية، لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها.
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي السلامة من العذاب في الدارين، لمن صدق بآيات الله الدالة على الحق كَذَّبَ ما جئنا به وَتَوَلَّى أعرض عنه. ويلاحظ أنه قدم البشارة بالسلام للترغيب وعملا بسياسة اللين المأمور بها، ثم جاء التصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن العقاب مؤيد والتهديد مهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى النعم الثماني على موسى في مقابل طلباته الثمانية، ذكر هنا الأوامر والنواهي أو التوجيهات التي ينفذها هو وأخوه هارون، كالتعليمات التي تعطى للرسل والسفراء والقناصل لدى الذهاب في مهمة إلى دولة أخرى، للتوصل إلى نجاح المهمة، وأداء الرسالة على أكمل وجه، والخلاصة: أنه لما قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عقبه بذكر ما لأجله اصطنعه، وهو الإبلاغ والأداء.
التفسير والبيان:
هذه هي الأوامر والنواهي الصادرة من الله لموسى وأخيه، فقال تعالى:
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بحججي وبراهيني ومعجزاتي التي جعلتها لك آية وعلامة على(16/214)
النبوة، وهي التسع آيات التي أنزلت عليك، ولا تضعفا، ولا تفترا عن ذكر الله، ولا عن تبليغ الرسالة إليهم، فإن ذكر الله عون وقوة وسلطان، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمارة بن دسكرة: «إن عبدي كل عبدي:
الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أي نظيره في الشجاعة والحرب. والذكر يقع على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، وذلك بأن يبينا لهم أن الله أرسلهما مبشرين ومنذرين، وأنه لا يرضى منهم بالكفر، ويذكرا لهما أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى اذهبا إلى فرعون، وأبطلا دعواه الألوهية بالحجة والبرهان لأنه جاوز الحد في الكفر والتمرد، وتجبر على الله وعصاه، حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات 79/ 24] .
وبدأ بفرعون لأنه الحاكم، فإذا آمن تبعه الرعية، ثم بين الله تعالى أسلوب الدعوة، فقال:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي فكلماه كلاما رقيقا لطيفا لا خشونة فيه، وخاطباه بالقول اللين، فذلك أدعى به وأحرى أن يفكر فيما تبلغانه، ويخشى عقاب الله الموعود به على لسانكما. والمراد تركهما التعنيف، كقولهما: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى..
[النازعات 79/ 18- 19] لأن نفس الحاكم مستعلية قاسية، لا تقبل القسر والقسوة، وتلين للمديح والاستعطاف. وكلمة «لعل» هنا لتوقع حصول ما بعدها، واحتمال تحققه، فالتوقع فيها من البشر، أي على أن تكونا راجيين لأن يتذكر أو يخشى. والخطاب وإن كان مع موسى، فإن هارون تابع له، فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون.
وفي هذه الآية عبرة وعظة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا(16/215)
بالملاطفة واللين، كما قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] .
فأجاب موسى وهارون بقولهما:
قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى أي قال موسى وهارون: يا ربنا، إننا نخاف من فرعون إن دعوناه إلى التوحيد وعبادتك، أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، ويشتط في أذيتنا ويعتدي علينا، لتجبره وعتوه وقساوته.
قالَ: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي قال الله لموسى وهارون:
لا تخافا من فرعون، فإنني معكما بالنصر والتأييد، والحفظ والعون عليه، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه، ولست بغافل عنكما، وأرى كل ما يقع، فأصرف شره عنكما. والمراد أنه تعالى حثهما على التبليغ بجرأة وحكمة، وتكفل لهما بالحفظ والمعونة والنصرة والوقاية من شر فرعون وغضبه. وتدل هذه الآية على أن كونه تعالى سميعا بصيرا صفتان زائدتان على العلم لأن قوله: إِنَّنِي مَعَكُما دل على العلم، وأَسْمَعُ وَأَرى على السمع والبصر.
فَأْتِياهُ فَقُولا: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أي فأتياه في مجلسه وقابلاه وقولا له:
إن الله أرسلنا إليك. وقوله رَبِّكَ إشارة إلى أن الرب الحقيقي هو الله، وأن دعواك الربوبية لنفسك لا معنى لها.
فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي أطلق سراح بني إسرائيل من الأسر، وخل عنهم، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وتكليفهم مالا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وإنما بدأ موسى وهارون بهذا الطلب لأنه أخف وأسهل من الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله تعالى.(16/216)
قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي قد أتيناك بمعجزة ودلالة وعلامة من ربك على أنا مرسلون لك، والسلامة والأمن من سخط الله ومن عذابه على من اتبع هدى ربه، فآمن برسله، واسترشد بآياته الداعية إلى الحق والخير وترك الظلم والضلال. وهذا ليس بتحية. والعبارة الأخيرة كانت تكتب في مكاتبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام.
مثل كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم، ونصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين» .
ولما كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا صورته:
«من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركتك في الأمر، فلك المدر، ولي الوبر، ولكن قريش قوم يعتدون» .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين» .
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي إننا وجهنا لك النصح والإرشاد لأن الله أخبرنا فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم: أن العذاب متمحض خالص لمن كذب بآيات الله وبما ندعو إليه من توحيده، وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات 79/ 37- 39] ، وقال سبحانه: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل 92/ 14- 16] ، وقال(16/217)
عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة 75/ 31- 32] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- ربط الله تعالى بين اصطناع موسى لنفسه، أي اختياره لوحيه ورسالته، وبين ما اختاره له، وهو إبلاغ الرسالة، وأداء الوحي إلى الناس.
2- أيد الله تعالى موسى وأخاه هارون عليهما السلام بتسع آيات أنزلت على موسى، لتكون دليلا وآية على النبوة، ومعجزة تثبت الصدق، وبرهانا لفرعون وقومه على أن موسى وأخاه هارون أرسلهما الله إليهم.
3- أمر الله تعالى موسى وهارون بالذهاب إلى دعوة فرعون إلى عبادة الله والإقرار بربوبيته وألوهيته وحده لا شريك له، وقد خاطب أولا موسى وحده تشريفا له، ثم كرر الخطاب له مع أخيه للتأكيد.
4- قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً دليل على جواز الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، فنحن أولى بذلك، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه.
والقول اللين: هو القول الذي لا خشونة فيه.
5- الخوف من عدوان الظلمة العتاة الجبابرة كفرعون من طبيعة البشر، لذا لم يكن مستغربا أن يقول موسى وهارون: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى أي أن يشطط في أذيتنا أو يعتدي علينا.
6- قال العلماء: لما لحقهما- أي موسى وهارون- ما يلحق البشر من الخوف(16/218)
على أنفسهما، عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية رد على من قال: إنه لا يخاف والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم.
لذا حكى القرآن عن موسى: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص 28/ 21] ، وقال: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص 28/ 18] ، وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه 20/ 67- 68] ، وقال في الآيات المتقدمة في هذه السورة: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى.
ومنه حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد. ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم.
قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها.
7- العصمة للأنبياء من الله تعالى وحده، لذا قال لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي إنه معهما بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. والسماع والبصر: عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية.
والآية دليل كما تقدم على العلم الإلهي، وعلى كونه تعالى سميعا وبصيرا.
8- كان أول مطلب موسى وهارون من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من الأسر، وإنقاذهم من السخرة والتعب في العمل لأن بني إسرائيل كانوا عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم، ويستخدم نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه.(16/219)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
9- كان خطاب موسى وهارون في غاية اللطف واستعمال المنطق، فقالا له: قد جئناك بآية دالة على نبوتنا ورسالتنا إليك، ومن اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه، وليس هذا بتحية، بدليل أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب.
وأضافا أيضا في كلامهما: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب أي الهلاك والدمار في الدنيا، والخلود في جهنم في الآخرة على من كذب أنبياء الله، وتولى، أي أعرض عن الإيمان. قال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.
- 6- الحوار بين فرعون وموسى حول الربوبية
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
الإعراب:
قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي: عِلْمُها: مبتدأ، وفِي كِتابٍ: خبره، وعِنْدَ رَبِّي: ظرف يتعلق بالخبر، وتقديره: علمها كائن في كتاب عند ربي. ويحتمل أن يكون عِنْدَ(16/220)
رَبِّي
في موضع نصب على الحال: لأنه في الأصل صفة لكتاب وهو نكرة، فلما تقدمت صفة النكرة عليها، وجب النصب على الحال. ويحتمل أن يكون فِي كِتابٍ بدلا من قوله: عِنْدَ رَبِّي ويكون عِنْدَ رَبِّي خبر المبتدأ.
ولا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يضل ربي عنه، فحذف الجار والمجرور، كما حذفا في آية فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات 79/ 41] أي المأوى له.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ خبر لمبتدأ محذوف، أو صفة لربي، أو منصوب على المدح.
كُلُوا وَارْعَوْا حال من ضمير أخرجنا، أي مبيحين لكم الأكل ورعي الأغنام.
البلاغة:
نُعِيدُكُمْ ونُخْرِجُكُمْ بينهما طباق.
فَأَخْرَجْنا التفات من الغيبة إلى التكلم.
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ مقابلة، قابل بين مِنْها وفِيها وبين الخلق والإعادة.
المفردات اللغوية:
قالَ: فرعون. فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ إنما خاطب الاثنين، وخص موسى بالنداء لأنه الأصل، وهارون وزيره وتابعه. أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي منح كل نوع من المخلوقات صورته وشكله الذي يطابق كماله، ويناسب خواصه ومنافعه، ومميزاته التي يتميز بها من غيره. ثُمَّ هَدى ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي له.
قالَ فرعون. فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة.
والبال في الأصل: الفكر، يقال: خطر ببالي كذا، ثم أطلق هنا على الحال المعني بها.
والْقُرُونِ الأمم، مثل قوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان.
قالَ موسى. عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ أي علم حالهم محفوظ عند ربي في اللوح المحفوظ، يجازيهم عليها يوم القيامة. والمراد أن حالهم غيب لا يعلمه إلا الله، وقصد بذلك كما علم الله الذي لا يضيع منه شيء. لا يَضِلُّ لا يخطئ مكان الشيء، والضلال: أن تخطئ الشيء في مكانه، فلم تهتد إليه. وَلا يَنْسى ربي شيئا، والنسيان: عدم تذكر الشيء بحيث لا يخطر ببالك. وهما محالان على الله العالم بالذات.(16/221)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أي هو الذي جعل للناس في جملة الخلق. مَهْداً وقرئ: مهادا، أي فراشا، أي جعل الأرض كالمهد تتمهدونها. والمهد: مصدر سمي به، والمهاد: اسم ما يمهد كالفراش، أو جمع مهد.
وَسَلَكَ سهل. سُبُلًا طرقا، أي جعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية والبراري، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. السَّماءِ مطرا. فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا وفيه التفات من لفظ الغيبة إلى صيغة المتكلم، على الحكاية لكلام الله تعالى، للتنبيه على ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، وللإشعار بأنه تعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته. مِنْ نَباتٍ شَتَّى شتى صفة. أَزْواجاً أي مختلفة الألوان والطعوم، وشَتَّى جمع شتيت، كمريض ومرضى، من شت الأمر: تفرق.
كُلُوا منها. وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ فيها، والأنعام جمع نعم: وهي الإبل والبقر والغنم.
والأمر للإباحة وتذكير النعمة. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور هنا. لَآياتٍ لدلالات. لِأُولِي النُّهى أصحاب العقول، جمع نهية، كغرفة وغرف، سمي به العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.
مِنْها خَلَقْناكُمْ من الأرض، فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم.
وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالموت، وتفكيك الأجزاء. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ عند البعث. تارَةً أُخْرى مرة أخرى، كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم.
المناسبة:
بعد مبادرة موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون امتثالا لأمر الله، ووصولهما إلى قصر فرعون، والإذن لهما بالدخول بعد انتظار طويل، وصف الله تعالى الحوار الذي دار بينه وبينهما، فسألهما سؤال إنكار للرب تكبرا وتجبرا، بعد أن أثبت نفسه ربا في قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. فاستدل موسى على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات.
التفسير والبيان:
قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أي إذا كنتما رسولي ربكما إلي، فأخبراني:
من ربكما الذي أرسلكما؟ ويلاحظ أنه أضاف الرب إليهما، ولم يضفه إلى نفسه(16/222)
لعدم تصديقه لهما، ولجحده للربوبية الحقة، ثم إنه خص موسى بالنداء بعد خطابهما مراعاة لرؤوس الآي، ولما ظهر له أنه الأصل المتبوع، وهارون وزيره وأخوه وأراد أن يقول: من هذا الرب الذي بعثك يا موسى وأرسلك؟ فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري.
فأجابه موسى:
قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي قال موسى: ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يليق به، ويطابق المنفعة المنوطة به، كاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع.
ثم أرشدهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم، فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، إما اختيارا كالإنسان والحيوان، وإما طبعا كالنبات والجماد، كقوله تعالى:
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم مشى الخلائق على ذلك، لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه. والآية لإثبات الصانع بأحوال المخلوقات.
قالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى بعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، قائلا:
إذا كان الأمر كذلك، فما حال وما شأن الأمم الماضية، لم يعبدوا ربك، بل عبدوا غيره من الأوثان وغيرها من المخلوقات؟
فأجاب موسى:
قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى قال موسى:
إن كل أعمالهم محفوظة عند الله، مثبتة عنده في اللوح المحفوظ، يجازي بها، لا يخطئ في علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، فعلم الله محيط بكل(16/223)
شيء. أما علم المخلوق فيعتريه الأمران: عدم الإحاطة بالشيء، ونسيانه بعد علمه، والله منزه عن ذلك.
وقصد فرعون بالسؤال عن الأمم الماضية أن يصرف موسى عن البراهين القوية، فيتبين للناس صدقه، ويشغله بالتواريخ والحكايات، لكن موسى تنبه لهذا، فأجاب عن إثبات الإله بأوجز عبارة وأحسن معنى، وفوض أمر الماضي إلى علام الغيوب.
وبعد أن ذكر موسى الدليل الأول العام الذي يتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات، ذكر بعدئذ أدلة خاصة وهي ثلاثة:
أولها- قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي ربي الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش، تعيشون فيها بيسر وسهولة، وقرارا تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها.
ثانيها- وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي جعل لكم فيها طرقا تسلكونها وسهلها لكم، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء 21/ 31] ، وقال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف 43/ 10] ، وقال عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح 71/ 19- 20] .
ثالثها- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي وأنزل من السحاب مطرا، أخرجنا به أنواعا من أصناف النبات المختلفة، من زروع وثمار حامضة وحلوة ومرة، وذات ألوان وروائح وأشكال مختلفة، بعضها صالح للإنسان، وبعضها للحيوان، لذا قال:(16/224)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي خلقنا أصناف النبات، بعضه للإنسان، وبعضه لطعام الحيوان، فكلوا وتفكهوا مما يناسبكم، وارعوا أنعامكم (الإبل والبقر والغنم) في الأخضر واليابس، إن فيما ذكرت لكم لدلالات وحججا وبراهين لذوي العقول السليمة المستقيمة، على أن الخالق لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وبعد أن ذكر الله تعالى منافع الأرض والسماء، بين أنها غير مطلوبة لذاتها، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة، فقال:
مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أي من الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب، والنطفة المتولدة من الغذاء مرجعها إلى الأرض، لأن الغذاء الحيواني من النبات، والنبات من امتزاج الماء والتراب.
وإلى الأرض مصيركم بعد موتكم، فتدفنون فيها، وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ترابا.
وسوف نخرجكم من قبوركم في الأرض مرة أخرى بالبعث والنشور، والمعنى:
من الأرض أخرجناكم، ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى. والغرض من الآية هنا تنزيه الرب نفسه وتذكير فرعون بأصله وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر بدنياه وملكه، وليعلم أن أمامه يوما شديد الأهوال، يسأل فيه عن كل شيء، ويحاسب على أعماله.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ، وَفِيها تَمُوتُونَ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الأعراف 7/ 25] ، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 52] .(16/225)
وجاء في الحديث المروي عند أصحاب السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب، فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم؟ ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لم يؤمن فرعون بدعوة موسى وهارون، وظل على كفره، وتساءل تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا، مع كونه عارفا بالله تعالى، وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟
2- تدل الآية المذكورة على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر، لكن يجب قرن الجواب بالسؤال، لئلا يبقى الشك.
3- وتدل الآية أيضا على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل، والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى بفرعون هنا، وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 16/ 125] ، وقال سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ، فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة 9/ 6] .
4- كان جواب موسى لفرعون: إن الله تعالى يعرف بصفاته، فهو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة معينة. قال مجاهد: أعطى كل شيء صورة لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة ... وكذاك الله ما شاء فعل(16/226)
أراد بالخلقة: الصورة.
5- الله هو المختص بعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل، فلما سأل فرعون عن حال وشأن الأمم الغابرة، أجابه موسى وأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.
6- هذه الآية: قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ.. ونظائرها تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى، فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع، فيقيده لئلا يذهب عنه.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي» .
وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قيدوا العلم بالكتابة» .
وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من الأنصار لا يحفظ الحديث: «استعن بيمينك» .
وأما النهي عن كتابة الأحاديث، فكان ذلك متقدما، فهو منسوخ بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة، وإباحتها لأبي شاه وغيره.
قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة، دون المداد «1» لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور، وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة.
__________
(1) الحبر والمداد في اللغة سواء. ولعل المراد به المداد الذي لا لون له أو لونه باهت.(16/227)
7- دل قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى على أن الله عالم بكل المعلومات، وهو اللفظ الأول، وعلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير، وهو اللفظ الثاني.
8- من نعم الله تعالى أن جعل الأرض رغم كرويتها الكلية ممهدة كالفراش، وقرارا للاستقرار عليها، لتصلح للعيش عليها.
9- ظاهر آية وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ.. يدل على أنه سبحانه إنما يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء، فيكون للماء فيه أثر، وهذا التأثير على تقدير أن الله تعالى هو الذي أعطى الماء هذه الخواص والطبائع، فيكون الماء المنزل سبب خروج النبات في الظاهر.
10- إن إخراج أصناف من النبات المختلفة الأنواع والألوان من الأرض دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجود الصانع. وإن جعل بعض النبات صالحا للإنسان وآخر للحيوان: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ من أجل النعم على الإنسان، ومما يقتضي التأمل والتفكير عند ذوي العقول الصحيحة.
11- ما أعظم خيرات الأرض، وما أحوج الناس إليها! فالله خلقنا منها، ويعيدنا إليها بعد الموت، ويخرجنا منها للبعث والحساب. أما كيفية الإخراج من الأرض فهو أن الله تعالى خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب، فكنا تبعا له، وأما استمرار الخلق فهو أن تولد الإنسان من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النبات، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب.(16/228)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
- 7- اتهام موسى بالسحر
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
الإعراب:
مَكاناً سُوىً مَكاناً بدل منصوب من مَوْعِداً ولا يجوز نصبه بقوله مَوْعِداً لأن مَوْعِداً قد وصف بقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ والمصدر إذا وصف لا يعمل ويجوز أن يجعل مَكاناً منصوبا بنزع الخافض: في.
سوى: يقرأ بكسر السين وبضمها، فمن قرأ بالكسر، فلأن «فعل» لم يأت في الوصف إلا نادرا نحو: قوم عدى، ولحم زيم. والضم أكثر لأن «فعل» في الوصف كثير، نحو: لكع وحطم.
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ.. يَوْمُ: خبر مَوْعِدُكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي موعدكم وقت يوم الزينة، ولا يجوز أن يكون يَوْمُ ظرفا لأن العرب لم تستعمله مع الظرف استعمال سائر المصادر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] بالرفع إذ يراد به هنا المصدر، ولو قلت: إن خروجكم الصبح، لم يجز فيه إلا النصب، أي وقت الصبح.
وموعد مصدر بمعنى الوعد في الأظهر.
والموعد: يكون مصدرا وزمانا ومكانا بلفظ واحد، وَأَنْ يُحْشَرَ معطوف بالرفع على يَوْمُ الزِّينَةِ أي موعدكم وقت يوم الزينة، وموعدكم وقت حشر الناس، فحذف المضاف أيضا.
البلاغة:
سُوىً ضُحًى ... سجع حسن.(16/229)
المفردات اللغوية:
أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها بصرنا فرعون آيات معهودة هي الآيات التسع المختصة بموسى.
فَكَذَّبَ بها وزعم أنها سحر. وَأَبى امتنع أن يوحد الله تعالى أو أبي الإيمان والطاعة، لعتوه. لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر، ليصبح لك الملك فيها. بسحر مثله يعارضه.
مَوْعِداً ميعادا معينا لذلك. لا نُخْلِفُهُ لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه، إذا جعل (موعد) هنا هو الزمان، وإذا جعل مصدرا أي لا نخلف ذلك الموعد. سُوىً أي وسطا، تستوي إليه مسافة الجائي من الطرفين.
قالَ موسى. مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يوم عيد كان لهم، يتزينون فيه ويجتمعون، ويوم: بضم الميم، وقرأ الحسن بالنصب، فمن رفع فعلى أنه خبر المبتدأ، والمعنى: وقت موعدكم يوم الزينة، ومن نصب فعلى الظرف، معناه: موعدكم يقع يوم الزينة. والسؤال وقع عن مكان الموعد، وطابقه من حيث المعنى ذكر الزمان، وإن لم يطابق لفظا لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان.
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ يجمعون. ضُحًى وقت ارتفاع شمس النهار.
المناسبة:
بعد سؤال فرعون عن رب موسى، ذكر الله تعالى أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله، مثل رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وقوله:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً والدالة على نبوة موسى مثل العصا واليد البيضاء، فكذب بكل هذا، واتهم موسى بالسحر، وطلب المبارزة مع السحرة، وتحديد مكان اللقاء وموعد الاجتماع.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى أي وتالله لقد بصرنا فرعون وعرفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى، كالآيات التسع «1» .
__________
(1) وهي العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الحل.(16/230)
وغيرها من الحجج والبراهين، فعاين ذلك وأبصره، ولكنه كذب بها، وأبى الاستجابة للإيمان والحق، كفرا وعنادا وبغيا، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] وقال سبحانه: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء 17/ 102] .
ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه، فقال:
قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى أي قال فرعون لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد: هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر، وهو قلب العصا حية؟ توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، وحملهم على السخط على موسى والغضب منه، والعمل على طرده وإخراجه من مصر.
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه.
فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي حدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما، نجتمع فيه نحن وأنت، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا. وقد فوض فرعون تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره.
وليكن المكان مكانا مستويا ظاهرا لا ارتفاع فيه ولا انخفاض، ليظهر فيه الحق، أو مكانا وسطا بين الفريقين، حتى لا يكون عذر في التخلف.
قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي قال موسى(16/231)
عليه السلام: موعد الاجتماع يوم العيد (عيد النيروز) الذي يتزين فيه الناس، وفي وقت الضحى، ليكون الاجتماع عاما في يوم يفرغ فيه الناس من أعمالهم، ويجتمعون جميعا، ويتحدثون بنتيجة المبارزة، فتظهر الدعوة، وتعلو كلمة الحق، ويزهق الباطل، وليكون الضوء غالبا، وفي نشاط أول النهار، فلا يشكوا في المعجزة، ويشاهدوا قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية.
واختيار هذا الوعد دليل على الثقة بالنصر، وسبيل لإيضاح الحجة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- لم يبق عذر لفرعون في كفره، بعد إرسال موسى وهارون رسولين إليه، وتأييدهما بالمعجزات الدالة على نبوة موسى، وإبدائهما البراهين والدلائل والحجج على وحدانية الله وقدرته، وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا، واقتنع بها في أعماق نفسه، كما قال سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] .
2- حاول فرعون تأليب قومه وتحريضهم على معاداة موسى وطرده، باتهامه بأنه بحسب عقلية الحاكم يريد إخراج الناس من مصر، والاستيلاء على السلطة.
3- وحاول أيضا إبطال المعجزات النبوية بالسحر، ظنا منه أن ما جاء به موسى من الآيات سحر يوهم الناس به لاتباعه والإيمان به، فإذا عورض السحر بمثله، تبين للناس أن ما أتى به موسى ليس من عند الله.
4- طلب فرعون من موسى تعيين يوم معلوم ومكان معروف لا يخلف فيه أحد الطرفين الوعد، إيهاما للناس بمدى الثقة به، وبكمال اقتداره، وإنهاء دعاوى موسى في يوم مشهود للجميع.(16/232)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
وكان اقتراحه أن يكون المكان مكانا سوى أي مكانا مستويا متوسطا بين الطرفين، حتى لا يكون عذر في التخلف.
5- اختار موسى يوم العيد (يوم الزينة) لتعلو كلمة الله، ويظهر دينه، ويكبت الكفر، ويزهق الباطل، أمام الناس قاطبة في المجمع العام، ليشيع الخبر، ويتناقل جميع أهل المدن والقرى والحضر والأعراب قصة الأمر العجيب، ونبأ المعجزة الكبرى. ثم عين موسى عليه السلام من اليوم وقتا معينا بقوله:
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي في ضحوة الناس بعد طلوع الشمس، حيث تكون الرؤية واضحة، والنفوس مستعدة نشيطة، ولأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وكان ذلك بالصدفة مناسبا للسحرة، لتسخين الحبال والأدوات المعبأة بالزئبق.
- 8- جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 64]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
الإعراب:
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إِنْ إما مخففة من الثقيلة لم تعمل، وإما بمعنى «ما» واللام بمعنى «إلا» أي ما هذان إلا ساحران. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين. ومن قرأ بالتشديد(16/233)
إِنْ أتى به على لغة بني الحارث بن كعب، فإنهم يقولون: مررت برجلان، وقبض منه درهمان، وهي لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث.
وقيل: إن بمعنى «نعم» أي نعم هذان لساحران، لكن فيه ضعف، لدخول اللام في الخبر، وهو قليل في كلامهم. وقرئ «إن هذين لساحران» .
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرئ: أجمعوا بقطع الهمزة ووصلها، ففي قراءة القطع نصب كَيْدَكُمْ ب فَأَجْمِعُوا على تقدير حذف حرف الجر، أي فأجمعوا على كيدكم. فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، يقال: أجمع على كذا: إذا عزم عليه، فحذف الجار من الآية، كما في آية: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة 2/ 235] أي على عقدة النكاح.
وعلى قراءة فاجمعوا بوصلها، لم يفتقر إلى تقدير حذف حرف الجر لأنه يتعدى بنفسه.
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصدر في موضع الحال، أي ائتوا مصطفين، أو مفعول به، أي ائتوا إلى صف، والأول أوجه.
المفردات اللغوية:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أدبر وانصرف عن المجلس. فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي جمع ذوي كيده من السحرة، والكيد: ما يكاد به من السحرة وأدواتهم. ثُمَّ أَتى أي أتى بالموعد بهم. قالَ لَهُمْ مُوسى وهم اثنان وسبعون مع كل واحد حبل وعصا. وَيْلَكُمْ أي هلاك لكم. لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا، وتشركوا أحدا مع الله. والافتراء: الاختلاق والكذب.
فَيُسْحِتَكُمْ يهلككم. بِعَذابٍ شديد من عنده. وَقَدْ خابَ خسر. مَنِ افْتَرى كذب على الله، كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك معه، فلم ينفعه.
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فتفاوض السحرة وتشاوروا في أمر موسى، حين سمعوا كلامه.
وَأَسَرُّوا النَّجْوى بالغوا في إخفاء الكلام بينهم. قالُوا لأنفسهم. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى المثلى: مؤنث أمثل بمعنى أشرف، أي يذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبه وإعلاء دينه، لقوله تعالى حكاية لقول فرعون: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر 40/ 26] .
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمزة القطع من أجمع أي أحكموا كيدكم الذي يكاد به، وبهمزة الوصل من جمع، أي لم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز اليوم من غلب.(16/234)
المناسبة:
بعد اتفاق موسى وفرعون على موعد المبارزة وهو يوم عيد لهم، ذكر الله تعالى ما قام به فرعون من تدبير أمره بجمع السحرة وآلاتهم، ثم ذكر ما حذرهم به موسى من عذاب شديد إن أقدموا على إبطال آيات الله، فأوقع الخلاف بينهم، وعقدوا المشاورات في خطتهم، فاتفقوا على وحدة الصف أمام موسى وهارون اللذين يريدان الغلبة والتفوق على دينهم الذي هو في زعمهم أفضل الأديان.
التفسير والبيان:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ، ثُمَّ أَتى أي انصرف فرعون وشرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، فجمع ما يكيد به من سحره وحيله وآلاته وأنصاره، وقد كان السحر شائعا عندهم، ثم أقبل في الموعد المعين، وجلس في مكان خاص به مع كبار أعوانه، كجناح العروض العسكرية المخصص اليوم لرئيس الدولة، وجاء موسى مع أخيه هارون، وجاءت السحرة ووقفوا صفوفا، وبدأ فرعون يحرضهم ويستحثهم ويعدهم، فتجرءوا أن يطلبوا منه الأجر، كما قال تعالى:
قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء 26/ 42] وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبي ليتفانوا في إجادة عملهم، ويتغلبوا على موسى عليه السلام.
وشرع موسى في الإعلان عن رسالته، فقال:
قالَ لَهُمْ مُوسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، بأن تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق، وأنه سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك من افترى على الله أي كذب كان.(16/235)
فأعرضوا عن قوله:
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي لما سمع السحرة كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتفاوضوا فيما بينهم في ذلك، وتناجوا فيما بينهم سرا عن موسى وأخيه، وقرروا ما يأتي:
قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي قالت السحرة: إن موسى وهرون لساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر بصناعة السحر، كما يريدان التغلب للاستيلاء على جميع المناصب، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء، ومآل ذلك أن تنقضي سنتكم في الحياة، ويعصف بمنهجكم في العيش الحر العزيز الكريم، وتسلب خيراتكم، ويزول مذهبكم الأمثل الحسن.
قالوا ذلك متأثرين بما قاله فرعون، ومرددين ما يشيعه، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير منهما، وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة، والكشف عن نواياهما البعيدة بطرد السكان الأصليين من أرضهم مصر، والاستيلاء على جميع المناصب والرياسات.
فيجب علينا الوقوف صفا واحدا أمام هذا الخطر، فقالوا:
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاعزموا على تقديم جميع خبراتكم ومهاراتكم، ولا تتركوا أقصى ما تستطيعون عليه من الكيد والحيلة، وقفوا صفا واحدا، وألقوا ما لديكم دفعة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم، وتغلبوا هذين الرجلين، فإنه قد فاز اليوم بالمطلوب من غلب منا ومنهما.
وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، بقصد التحريض وشد العزائم، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب.(16/236)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- بدأت استعدادات فرعون في جمع السحرة، وإعداد الحيل كما هي عادة التهيؤ للمبارزة، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي.
2- لما أتى فرعون وسحرته في الموعد المعين قال موسى لفرعون والسحرة:
الهلاك والعذاب لمن اختلق الكذب على الله، وأشرك به، ووصف المعجزات بأنها سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. وهذا شعار الأنبياء، وهو الصدق في الدعوة، وانتهاز الفرص المناسبة لإعلان دعوتهم.
3- تشاور السحرة سرا فيما بينهم، وقالوا: إن كان ما جاء به سحرا، فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وهذا حق وصدق لا شيء فيه.
4- ثم أعلنوا قرارهم بأن موسى وأخاه هارون ساحران عظيمان، يريدان إخراج الناس من مصر بسحرهما، وإفساد دينهم، وإزالة مذهبهم الحسن، كما قال فرعون عن موسى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر 40/ 26] . وهذا كله من دعاية فرعون وتحريضه.
5- ثم حرضوا بعضهم قائلين: اعزموا وجدوا في تجميع أنواع الكيد والحيلة، وأقصى فنون السحر، وأحكموا أمركم، وقفوا صفا واحدا، ليكون أشد لهيبتكم، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتغلبوا موسى وأخاه، وقد فاز اليوم من غلب. وهذا شأن كل من الفريقين المتبارزين، يحرص كل منهما على الفوز والانتصار، ويتأثران بالتأييد الشعبي وبحماس المتفرجين واللاعبين أنفسهم، كما هو معروف.(16/237)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
- 9- المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم بالله تعالى
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 76]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(16/238)
الإعراب:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى مُوسى فاعل أوجس، وهاء نَفْسِهِ تعود إلى موسى لأنه في تقدير التقديم، ونَفْسِهِ في تقدير التأخير. وخِيفَةً مفعول أوجس.
وأصل خيفة «خوفة» لأنها من الخوف، فانقلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
تَلْقَفْ التاء إما لتأنيث ما وهي العصا، حملا على المعنى، كأنه قال: ألق العصا تلقف ما صنعوا، وإما أن تكون التاء للمخاطب، أي تلقف أنت. وهو مجزوم بجواب الأمر، بتقدير حذف حرف الشرط. ومن قرأ بالرفع، كان حالا من ما أو من ضمير فِي يَمِينِكَ. وما في قوله إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ إما اسم موصول بمعنى الذي اسم إن، والعائد محذوف، أي إن الذي صنعوه، وكَيْدُ خبر إن، وإما أن تكون ما كافة، وكَيْدُ عند من قرأ بالنصب منصوب ب صَنَعُوا. ومن قرأ كيد سحر أي كيد ذي سحر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
«من خلاف» حال.
وَالَّذِي فَطَرَنا: إما مجرور بالعطف على ما جاءَنا أي «على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا» وإما مجرور بالقسم، وجوابه محذوف، لدلالة ما تقدم عليه.
وما في إِنَّما تَقْضِي إما بمعنى الذي في موضع نصب اسم «إن» والعائد محذوف، أي: إن الذي تقضيه. وهذه: خبر «إن» . وإما أن تكون «ما» كافة، وهذه: في موضع نصب على الظرف، أي إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا. والحياة الدنيا صفة هذِهِ في كلا الوجهين.
وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ما إما في موضع نصب بالعطف على خَطايانا وإما مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، تقديره: ما أكرهتنا عليه مغفور لنا. ومِنَ السِّحْرِ متعلق ب أَكْرَهْتَنا.
فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ.. الدَّرَجاتُ مرفوع بالظرف لأنه جرى خبرا عن المبتدأ، وهو أولئك، وجَنَّاتُ بدل مرفوع من الدَّرَجاتُ أي أولئك لهم جنات عدن. وخالِدِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ والعامل فيه: اللام، أي الاستقرار، أو معنى الإشارة.
البلاغة:
بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ فيه إيجاز بالحذف، أي فألقوا فإذا حبالهم. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ثم قال: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فيه إيجاز بالحذف، وهو: فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا من السحر، فألقي السحرة سجدا. وحسن الحذف في الموضعين لدلالة المعنى عليه.(16/239)
يَمُوتُ ويَحْيى بينهما طباق.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ووَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بينهما مقابلة: وهي أن يؤتى بمعينين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فيه مؤكدات هي: إن، وأنت، وتعريف الخبر: الْأَعْلى ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل الْأَعْلى.
المفردات اللغوية:
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قال السحرة ذلك مراعاة للأدب، وخيروه بين أن يلقي عصاه أو يلقوا عصيهم. وأن وما بعده: منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع بخبر محذوف، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاؤنا، أو الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا. قالَ: بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب، وعدم مبالاة بسحرهم، وليستنفدوا أقصى وسعهم، ثم يظهر الله سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ.. أي فألقوا، وكلمة فَإِذا التحقيق أنها ظرفية متعلقة بفعل المفاجأة، والجملة ابتدائية، والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إليه أنها تتحرك. وأَنَّها تَسْعى بدل اشتمال، أي أنها حيات تسعى على بطونها.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أحس بشيء من الخوف، من جهة أن سحرهم من جنس معجزته، أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به.
قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى قلنا له: لا تخف ما توهمت فإنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة، وهذا الأخير تعليل للنهي وتقرير لغلبته، مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق: «إن» وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ وهي العصا، ولم يقل: عصاك، تحقيرا لها، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، أو تعظيما لها، أي لا تحتفل بكثرة هذه الأشياء وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا، فألقه. تَلْقَفْ تبتلع بقوة وسرعة وبقدرة الله تعالى، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب إِنَّما صَنَعُوا إن الذي زوروا وافتعلوا كَيْدُ ساحِرٍ أي كيد سحري لا حقيقة له، أي ذي سحر، أو إضافة قصد بها البيان مثل: علم فقه. وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس. حَيْثُ أَتى بسحره، أي أينما كان، وأينما أقبل.(16/240)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً خروا ساجدين لله تعالى، أي فألقى فتلقفت، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر، وإنما هو من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله، توبة عما صنعوا وتعظيما لما رأوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قدم هارون لكبر سنه، أو لروي الآية، روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها. قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون: آمنتم لموسى، واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أنا في الإيمان له. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ إن موسى لمعلمكم أو لأستاذكم الذي علمكم السحر، وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. مِنْ خِلافٍ في موضع النصب على الحال أي لأقطعنها من حال مختلفة: اليد اليمنى والرجل اليسرى.
ومن: ابتدائية. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها، شبه تمكن المصلوب بالجذوع بتمكن المظروف بالظرف، وهو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه ورب موسى لقوله:
آمَنْتُمْ لَهُ. أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أدوم عذابا. وهل نفذ فيهم تهديده؟
الآيات لم تذكر ذلك، لكن ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فماتوا على الإيمان، فقال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة.
قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ قال السحرة: لن نختارك. عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ على ما جاءنا موسى به من المعجزات الواضحات الدالة على صدقه. وَالَّذِي فَطَرَنا خلقنا وأوجدنا من العدم. وهذا عطف على ما جاءنا، أو قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ اصنع ما أنت قاضيه، أي صانعه، أو ما قلته أو احكم. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا، فالنصب على الاتساع، أي فيها، ثم تجزى عليه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، فهو كالتعليل لما قبله، والتمهيد لما بعده.
لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر والمعاصي. وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ تعلما وعملا في معارضة موسى والمعجزة. وَاللَّهُ خَيْرٌ منك ثوابا إذا أطيع. وَأَبْقى منك عذابا إذا عصي.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً إن الأمر من يأت ربه كافرا، بأن يموت على كفره وعصيانه.
لا يَمُوتُ فِيها فيستريح. وَلا يَحْيى حياة هنيئة فتنفعه. قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ الفرائض والنوافل. لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى المنازل الرفيعة، جمع عليا مؤنث أعلى.
جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات أعدت للإقامة. مِنْ تَحْتِهَا من تحت غرفها. جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهر من الذنوب والكفر.
قال البيضاوي: والآيات الثلاث- أي الأخيرة- يحتمل أن تكون من كلام السحرة، وأن تكون ابتداء كلام الله.(16/241)
المناسبة:
بعد ذكر الموعد وهو يوم الزينة وذكر مجيئهم صفا، حدثت المبارزة بين السحرة وموسى، فخيروه بين بدئه بالإلقاء، وبدئهم به، وكان ذلك أدبا منهم وتواضعا، رزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى أدبا بأدب، وقدمهم في الإلقاء لأنه الطريق إلى إزالة الشبهة، فما كان منهم إلا الإيمان، لمعرفتهم بأن فعل موسى معجزة وليس سحرا، وصمدوا على إيمانهم هازئين بتهديد فرعون بالتقطيع والصلب.
التفسير والبيان:
لما بدأت المبارزة، والتقى الفريقان، قالت السحرة لموسى:
قالُوا: يا مُوسى، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي قالت السحرة لموسى حين تقابلوا معه: اختر أحد الأمرين: إما أن تلقي أنت أولا ما تريد، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال على الأرض.
وهذا التخيير مع تقديمه في الكلام أدب حسن وتواضع له، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابل موسى عليه السلام أدبهم بأدب، فقال:
قالَ: بَلْ أَلْقُوا قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوهم ما معهم، ثم إذا ألقى عصاه فتبتلع ما ألقوه كله، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. ففي بدء الكلام حذف، أي فألقوا، وقوله: فَإِذا في رأي الزمخشري أنها إذا المفاجأة، وتعقبه الرازي فقال: والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها.(16/242)
وجاء في آية أخرى أنهم لما ألقوا وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء 26/ 44] ونظير الآية التي هنا: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف 7/ 116] .
وذلك أنهم حشوها بالزئبق الذي يتأثر بحرارة الشمس، أو بمادة أخرى تتأثر بالحرارة، فيخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وكأن الوادي امتلأ حيات يركب بعضها بعضا.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس موسى بالخوف من أن يغلب، تأثرا بالطبيعة البشرية. وابتهج فرعون وقومه، وظنوا أنهم قد نجحوا، وأن السحرة فازوا على موسى وهارون.
قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي قال الله لموسى: لا تخف، فإنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة.
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع بعد أن تصير حية جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، وسحروا بها أعين الناس، إن الذي صنعوه ليس إلا سحرا خيالا لا حقيقة له ولا بقاء، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، وأنه لا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وإنما أبهم العصا تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة.
فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، وأدرك السحرة أن السحر لا يفعل هذا أبدا، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وأنه من فعل الإله خالق الكون، فآمنوا كما قال تعالى:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى أي فلما ألقى(16/243)
موسى عصاه، وابتلعت عصيهم وحبالهم، علموا أن فعل موسى ليس من قبيل السحر والحيل، بل هو عن أمر الله القادر على كل شيء، فسجدوا لله وآمنوا برسالة موسى، قائلين: آمنا برب العالمين، رب هارون وموسى، مفضلين الآخرة على الدنيا، والحق على الباطل. قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا أنه قال: كانت السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجدا، رفعت لهم الجنة، حتى نظروا إليها.
الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم، والفضل الكبير، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أنهم أجبروا على السجود، وإلا لما كانوا محمودين، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، قال صاحب الكشاف: ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!! وإنما قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ولم يقولوا برب العالمين فقط لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات 79/ 24] وادعى الألوهية في قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله، والدليل عليه: أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء 26/ 18] .
ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته، فقال:(16/244)
قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى المعجزة الباهرة، وإيمان من استنصر بهم من السحرة، وهزيمته الساحقة: هل صدقتموه أو صدقتم قوله واتبعتموه على دينه من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى، فهو معلمكم وأستاذكم، وأنتم تلاميذه، واتفقتم وتواطأتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه وتروجوا لدعوته، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ، لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 123] .
أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فإنه قد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسا لهم، ولا بينه وبينهم صلة أو مواصلة.
ثم لجأ فرعون إلى التهديد والتنفير عن الإيمان قائلا:
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أقسم أني لأمثلن بكم، فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكسه. قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، وهذا تعطيل للمنفعة، وأيضا لأصلبنكم على جذوع النخل، زيادة في الإيلام والتشهير، وإنما اختارها لخشونتها وأذاها، ولتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟
وفي هذا تحد لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإيماء إلى ماله من سلطة وقهر واقتدار.
ولما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل:
- قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا أي لن(16/245)
نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله تعالى، والمعجزات الظاهرة كاليد والعصا، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين، ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، فهو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت.
- فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي فافعل ما شئت، واصنع ما أنت صانع، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا التي هي دار الزوال، بما تريد من أنواع القتل، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، ونحن قد رغبنا في دار القرار.
- إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليتجاوز ويستر ويعفو عن سيئاتنا وآثامنا وذنوبنا، خصوصا ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه، والله خير لنا منك جزاء وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عقابا.
ذكر أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه.
ولم تدل الآيات على تنفيذ فرعون ما هدد به السحرة، ولكن الظاهر أنه نفذ ذلك، لقول ابن عباس المتقدم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة.
وتابع السحرة وعظ فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم، ويرغبونه في ثوابه الأبدي الخالد، فقالوا:
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي إن من يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة(16/246)
مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا من قول السحرة لما آمنوا، وقيل: ابتداء كلام من الله عز وجل.
ونظير الآية قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر 35/ 36] وقوله سبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى 87/ 11- 13] وقوله عز وجل: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف 43/ 77] .
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب، فأتى على هذه الآية، فقال: «أما أهلها الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها، فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر «1» على نهر، يقال له: نهر الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل» .
وفي الخبر الصحيح: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» .
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أي ومن يلقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، فعمل الطاعات، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفردوس» .
__________
(1) الضبر: الجماعة، جمع ضبور، وضبائر: جمع الجمع.(16/247)
وفي الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين»
وفي السنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما» .
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تلك الدرجات العلى في جنات إقامة تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- الأدب الحسن يفيد في الدنيا والآخرة، فلما خير السحرة موسى بين أن يلقي أولا أو يلقوهم، أفادهم ذلك في التوفيق للإيمان. ولما قدمهم موسى في الإلقاء وهم الجمع الكثير، نصره ربه، فالتقمت عصاه التي تحولت حية جميع ما ألقوه من الحبال والعصي، وكان ظهور المعجزة أوقع وأتم وأوضح.
وليس أمر موسى بالإلقاء رضى منه بما هو سحر وكفر إذ لا يقصد منه ظاهر الأمر فلا يكون نفس الإلقاء كفرا ومعصية، وإنما هو وسيلة لما بعده، ليظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول موسى عليه السلام، ولأن الأمر مشروط بتقدير محذوف هو: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين. ثم إنه قدمهم في الإلقاء على نفسه، مع أن تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة غير جائز ليكون إظهار المعجزة سببا لإزالة الشبهة.(16/248)
2- خاف موسى عليه السلام من الحيات، حسبما يعرض لطباع البشر، كما خاف لأول مرة حينما كلمه الله بإلقاء عصاه فصارت حية عظيمة. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه.
3- أزال الله الخوف عن قلب موسى بقوله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب لهم في الدنيا، وأنت في الدرجات العلى في الجنة، للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وبقوله أيضا: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العصا التي بيمينك، فإنها بقدرة الله تلتهم كل ما ألقوا، وهي أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فإنها تبتلع بإذن الله ما معهم وتمحقه.
4- اختلف الرواة في عدد السحرة، والظاهر كما نقل عن ابن عباس وغيره كالكلبي: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا، اثنان منهم من القبط، وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك. هذا مع العلم بأن ظاهر القرآن لا يدل على شيء من العدد، والمهم أنه لا يفوز ولا ينجو الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، ولا يحصل مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية.
5- خر السحرة ساجدين لله، لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي، وكانت حمل ثلاث مائة بعير، ثم عادت عصا، لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى «1» .
وفي قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً دلالة على أنه ألقى العصا، وصارت حية، وتلقفت ما صنعوه، وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته،
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 224(16/249)
وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكي عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه:
أحدها- ظهور حركة العصا على وجه لا يمكن بالحيلة.
وثانيها- زيادة عظمها على وجه لا يتم بالحيلة.
وثالثها- ظهور الأعضاء عليها من العين والمنخرين والفم وغيرها، ولا يتم ذلك بالحيلة.
ورابعها- تلقف جميع ما ألقوه على كثرته، وذلك لا يتم بالحيلة.
وخامسها- عودها خشبة صغيرة كما كانت، ولا يتم شيء من ذلك بالحيلة «1» .
6- قوله: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ فيه دلالة على أن ما مع موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويهات باطلة.
7- آمن السحرة بما رأوه من المعجزة، وعرفوا أن رب موسى وهارون هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة، وكان إيمانهم أرسخ من الجبال، فهان عليهم عذاب الدنيا، ولم يأبهوا بتهديد فرعون.
8- لم يملك فرعون إلا أن يعلن بأن موسى كبير السحرة ورئيسهم في التعليم، وأنه إنما غلبهم لأنه أحذق منهم ليشبه على الناس، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته.
9- ولجأ أخيرا إلى التهديد بالتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف، لتعطيل المنفعة، وضم إليه التصليب للإذلال والإهانة، وزاد في غيه وكفره وعناده أنه أشد عذابا وأدوم أثرا من عذاب رب موسى. وهذا إفك شديد.
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 85(16/250)
10- لم يتراجع السحرة عن إيمانهم بالرغم من شدة التهديد والوعيد وقالوا لفرعون: لن نختارك على ما جاءنا من اليقين والعلم، ولا على الذي فطرنا، أي خلقنا، فافعل ما شئت، إنما ينفذ أمرك في هذه الدنيا.
إننا صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى ليغفر الله لنا خطايانا، أي الشرك الذي كانوا عليه، ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وثواب الله خير وأبقى.
قال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم من الجنة فلهذا قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ.
وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها: غلب موسى وهارون فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة، فإن مضت على قولها فألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسدها، وليس في جسدها روح.
11- استمر السحرة في وعظ فرعون وغيره وتحذيره من عذاب الآخرة وترغيبه في العمل للجنة، فقالوا: إن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة، والمجرم: هو الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن في الآية التالية: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً.. وصفة الكافر المكذب الجاحد أنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وإذا كان هذا كلام السحرة، فلعلهم سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل، إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم، أنطقهم بذلك لما آمنوا.
وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على وعيد أصحاب الكبائر، وقالوا: صاحب الكبيرة مجرم، وكل مجرم فإن له جهنم لقوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ومن(16/251)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
الشرطية تفيد العموم. والجواب أن كلمة المجرم كما بينا يراد بها الكافر، بدليل مقابلتها بالمؤمن فيما بعد.
وأما من يموت على الإيمان، ويلقى ربه مصدقا به وبرسله وبالبعث، ويعمل الصالحات، أي الطاعات وما أمر به وما نهي عنه، فله الدرجة الرفيعة التي عجز الوصف عن إدراكها والإحاطة بها. والدرجات العلى هي جنان الخلد والإقامة التي تجري من تحت غرفها وسررها الأنهار من الخمر والعسل واللبن والماء، ماكثين دائمين، وذلك جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي.
- 10- إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
الإعراب:
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يَبَساً صفة طَرِيقاً وهو مصدر، فهو إما أن يكون بمعنى: ذا يبس، فحذف المضاف، أو جعل الطريق اليبس نفسه.(16/252)
لا تَخافُ دَرَكاً جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي غير خائف، مثل: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر 74/ 6] أي مستكثرا. ومن قرأ لا تخف جزمه جوابا لقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمفعول الثاني محذوف، أي فأتبعهم فرعون عقوبته بجنوده، أي معه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي من ماء اليم، وما غَشِيَهُمْ: في موضع رفع فاعل، وكان حق الكلام: فغشيهم من ماء اليم شدته. فعدل إلى لفظه ما لما فيها من الإبهام، تهويلا للأمر، وتعظيما للشأن لأنه أبلغ من التعيين، فيكون أبلغ تخويفا وتهديدا.
وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ جانِبَ الطُّورِ مفعول ثان لواعدناكم، والتقدير:
واعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن، ثم حذف المضاف. والْأَيْمَنَ صفة جانب.
وَعَمِلَ صالِحاً صفة لموصوف محذوف، أي: وعمل عملا صالحا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
البلاغة:
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ تهويل.
وَأَضَلَّ وَما هَدى طباق بينهما.
فَقَدْ هَوى استعارة، استعار لفظ الهوي: وهو السقوط من علو إلى سفل للهلاك والدمار.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ صيغة مبالغة، أي كثير المغفرة للذنوب.
المفردات اللغوية:
أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ليلا من مصر، والسري والإسراء: السير ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ اجعل لهم بعصاك يَبَساً أي طريقا يابسا، لا ماء فيه، فامتثل ما أمر به، وأيبس الله الأرض في قاع البحر، فمروا فيها لا تَخافُ دَرَكاً أو دركا، أي إدراكا ولحوقا وَلا تَخْشى ولا تخاف غرقا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ حذف المفعول الثاني، أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ فغمرهم وعلاهم من ماء البحر ما علاهم، فأغرقهم، والضمير: له ولهم. وفيه مبالغة وتهويل وإيجاز، أي غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي أضلهم في الدين وما هداهم بدعوتهم إلى عبادته، وإيقاعهم في الهلاك، خلافا(16/253)
لقوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر 40/ 29] فمعنى أَضَلَّهُمُ: سلك بهم طريقا إلى الخسران في دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا. ومعنى وَما هَدى: وما أرشدهم طريقا يؤدي بهم إلى السعادة.
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون بإغراقه الْأَيْمَنَ أي عن يمين من يأتي من الشام إلى مصر، لإنزال التوراة، للعمل بها، وقرئ الأيمن بالجر على الجوار الْمَنَّ نوع من الحلوى يسمى الترنجبين وَالسَّلْوى طائر هو السماني، وكلاهما في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه أو حلالاته مما أنعمنا به عليكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بأن تكفروا النعمة به، وتخلوا بشكره، وتتعدوا لما حد الله لكم فيه، كالسرف والبطر والمنع عن المستحق فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بكسر الحاء: أي فيجب ويلزمكم عذابي، وبضمها: أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ بكسر الحاء وضمها فَقَدْ هَوى سقط من النار وهلك.
لَغَفَّارٌ كثير المغفرة وستر الذنوب لِمَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وحد الله وآمن بما يجب الإيمان به وَعَمِلَ صالِحاً عمل الفرائض والنوافل ثُمَّ اهْتَدى ثم استقام على الهدى المذكور إلى موته.
المناسبة:
بعد بيان الانتصار الساحق لموسى عليه السلام على السحرة، أبان الله تعالى طريق الخلاص بين فرعون الطاغية وقومه وبين بني إسرائيل، فأغرق الله فرعون وجنوده في البحر، حين تبعوا موسى وقومه، لما خرج من مصر إلى الطور، وذلك بمعجزة العصا التي ضرب بها موسى البحر، فأحدث فيه بقدرة الله طريقا يبسا، بالرغم من الآيات المفصلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة حسبما ذكر في سورة الأعراف.
وأنقذ الله بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بأنواع من النعم الدينية والدنيوية وأهمها إزالة المضرة، فاقتضى تذكيرهم إياها، وابتدأ بالمنفعة الدنيوية بقوله: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وهو إنزال التوراة كتاب دينهم ومنهاج شريعتهم، ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ(16/254)
الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
ثم زجرهم عن العصيان بقوله:
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثم بيان قبول توبة العاصي بقوله:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ.
التفسير والبيان:
أمر الله موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، وينقذهم من قبضة فرعون، فقال:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أي ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ أو يجعل لهم طريقا يابسا في وسط البحر (بحر القلزم أو البحر الأحمر) وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين.
وأشعرناه بالأمان والنجاة، فقلنا له: أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء.
والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة بِعِبادِي دليل على العناية بهم، وأنهم كانوا حينئذ قوما صالحين، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي تبعهم فرعون ومعه جنوده، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور، فغرقوا جميعا. وتكرار غَشِيَهُمْ للتعظيم والتهويل.
وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى فكان بسبب أنه أمر مقدمة عسكره بالدخول، فدخلوا وما غرقوا، فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.(16/255)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أي أضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد، وما هداهم إلى طريق النجاة حينما سلك بهم في الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في وسط البحر.
ثم بدأ الله تعالى يعدد نعمه على بني إسرائيل، مقدما إزالة المضرة على جلب المنفعة، وهو ترتيب حسن معقول لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقال:
1- يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ أي قلنا لهم بعد إنجائهم:
يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم: فرعون، الذي كان يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم منهم، حين أغرقتهم وأنتم تنظرون إليهم، فقد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما في آية أخرى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 2/ 50] وهو إشارة إلى إزالة الضرر.
2- وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي جعلنا لكم ميقاتا وهو موعد تكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. وكان مكان الموعد جانب جبل الطور الأيمن، وهو جبل في سيناء. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.
3- وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي وأنزلنا عليكم المن والسلوى وأنتم في التيه، أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر. وأما السلوى: فهو طائر السماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: أنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال.(16/256)
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، ولا تأخذوا من الرزق من غير حاجة، وتخالفوا ما أمرتكم به من البعد عن السرف والبطر وارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق، فينزل بكم غضبي، وعقوبتي.
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أي وإني لستار وذو مغفرة شاملة لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه، ثم استقام على ذلك حتى يموت. وفي التعبير ب ثُمَّ اهْتَدى دلالة على وجوب الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل، ويموت عليه، ويؤكده قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت 41/ 30] وكلمة ثُمَّ هنا للتراخي، وليست لتباين المرتبتين، بل لتباين الوقتين، فكأنه تعالى قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، مما قد يحدث أحيانا لكل أحد، ولا صعوبة في ذلك، إنما الصعوبة في المداومة والاستمرار على المطلوب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى ما يأتي:
1- تفضل الله على بني إسرائيل بإنقاذهم وإنجائهم من ظلم فرعون وقومه، فأوحى الله إليه أن يتخذ لهم طريقا يابسا في البحر لا طين فيه ولا ماء، بأن ضربه بعصاه، فانشق، وجف بما هيأ الله له من الأسباب كالرياح، فأضحى لا يخاف لحاقا من فرعون وجنوده، ولا يخشى غرقا من البحر.(16/257)
2- تورط فرعون بعد أن أرسل فريقا من عسكره وراء بني إسرائيل في البحر، فلما لم يغرقوا، أمر جنوده بالمسيرة بقيادته، فتبعهم ليلحقهم مع جنوده، فأطبق عليهم البحر، ولم ينج أحد.
3- كان فرعون شؤما على نفسه وعلى قومه، فإنه أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر.
فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا، وكان الماء بين الطرق قائما كالجبال، كما قال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء 26/ 63] أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقا.
وأوحى الله إلى أطواد الماء بالتشبك، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات. فلما أقبل فرعون، ورأى الطرق في البحر، والماء قائما، أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه، فانطبق البحر عليهم. وهذا كله يحتاج إلى الإيمان بقدرة الله.
4- أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، ذكر منها هنا ثلاثا، وهي الإنجاء من آل فرعون، والمواعدة: إتيان جانب الطور، وإنزال المن والسلوى في التيه.
5- إن النعم تقتضي الحفظ والشكر، فقد يسر الله لهم الأكل من طيبات الرزق الحلال ولذيذه الذي لا شبهة فيه، فما عليهم إلا حفظ النعمة، فلا يؤخذ منها أكثر من الحاجة، وشكرها، فلا تؤدي إلى السرف والبطر والمعصية، وهذا هو الطغيان، أي التجاوز إلى ما لا يجوز.(16/258)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
6- إن جحود النعمة يوجب حلول غضب الله ونزوله، ومن نزل به غضب الله وعقابه ونقمته وعذابه، فقد شقي وهلك وهوى، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار.
7- الله غفور على الدوام لمن تاب من الشرك والكفر والمعصية، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال بأداء الفرائض والطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أقام على إيمانه حتى مات عليه.
- 11- تكليم الله موسى في الميقات وفتنة السامري بصناعة العجل إلها
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)(16/259)
الإعراب:
وَما أَعْجَلَكَ ... ما مبتدأ، وأَعْجَلَكَ خبره، وفيه ضمير يعود إلى ما وتقديره: أي شيء أعجلك؟.
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وَعْداً إما منصوب على المصدر، تقول: وعدته وعدا، كضربته ضربا، وإما أن يكون الوعد بمعنى الموعود، كالخلق بمعنى المخلوق، فيكون مفعولا به ثانيا ل يَعِدْكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي تمام وعد حسن.
ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالفتح: هو اسم أي بإصلاح ملكنا ورعايته، ومن ضم الميم جعله مصدر «ملك» يقال: ملك بين الملك، ومن كسر الميم جعله مصدر «مالك» يقال: مالك بين الملك، والمصدر هنا مضاف إلى الفاعل.
فَنَسِيَ الفاعل إما السَّامِرِيُّ أي نسي طاعتنا وتركها، والنسيان بمعنى الترك، قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] أي تركوا طاعة الله فتركهم في النار، وإما الفاعل مُوسى أي ترك موسى ذلك وأعرض عنه، والأول أوجه.
أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف: أنه.
المفردات اللغوية:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ لمجيء ميعاد أخذ التوراة، وهو يدل على تقدم قومه في المسير إلى المكان، وهو سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنها نقيصة في نفسها، انضم إليها إغفال القوم، وإيهام التعظم عليهم، فأجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم فقال: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي ما تقدمتهم إلا بخطي يسيرة لا يعتد بها عادة، وهم قادمون ورائي، ليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم الرفقة بها بعضهم بعضا. ثم قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى عني، أي زيادة على رضاك، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه. يقال: جاء على أثره: أي لحقه بلا تأخير.
قال تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي ابتليناهم واختبرناهم بعبادة العجل، بعد فراقك لهم، وأضلهم موسى السامري: أي أوقعهم في الضلال والخسران، باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته. وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ست مائة ألف، ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. وقرئ: وأضلهم السامري، أي أشدهم ضلالة لأنه كان ضالا مضلا.
والسامري: منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة.(16/260)
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة غَضْبانَ عليهم أَسِفاً شديد الحزن بما فعلوا وَعْداً حَسَناً أي صدقا أنه يعطيكم التوراة فيها هدى ونور أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي زمان الإنجاز، يعني زمان مفارقته لهم أَنْ يَحِلَّ يجب عليكم غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بعبادتكم العجل فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام بما أمرتكم به، وتركتم المجيء بعدي.
بِمَلْكِنا مثلث الميم أي بقدرتنا واختيارنا وأمرنا، إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول علينا السامري، لما أخلفنا موعدك وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ وقرئ: وحملنا، وأَوْزاراً أثقالا، وزينة القوم أي حلي قوم فرعون، أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر، باسم العروس فَقَذَفْناها طرحناها في النار بأمر السامري فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي كما ألقينا فكذلك ألقى السامري ما كان معه منها أي من حليهم ومن التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً أي صاغ من تلك الحلي المذابة عجلا جثة لا روح فيها لَهُ خُوارٌ الخوار: صوت العجل، والمراد هنا صوت يسمع بسبب التراب الذي يكون أثره الحياة فيما يوضع فيه، وقد وضعه في فم العجل بعد صوغه.
فَقالُوا أي السامري وأتباعه فَنَسِيَ أي نسي السامري وترك ما كان عليه من إظهار الإيمان، وقيل في زعم السامري: نسي موسى ربه هنا، وذهب يطلبه عند الطور.
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ألا يرد العجل لهم جوابا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدر على دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم، فكيف يتخذ إلها؟!
المناسبة:
بعد تعداد النعم على بني إسرائيل، أردف هذا بقصة الكلام الذي جرى بينه تعالى وبين موسى في الميقات بحسب المواعدة التي واعده بها ربه سابقا، ثم أعقبه ببيان فتنة السامري لبني إسرائيل باختراع العجل من الذهب، وجعله إلها، يصدر صوتا حينما تهب رياح معينة، فتحرك التراب الذي في فمه، فوبخهم الله بأن هذا العجل لا يجيب سائله، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.
وتجاوب بني إسرائيل في تأليه العجل وعبادته نابع من ميلهم إلى الوثنية(16/261)
أثناء مخالطة المصريين، بدليل أنه لما نجاهم الله من طغيان فرعون، طلبوا من موسى نفسه عليه السلام أن يصنع لهم تمثالا ليعبدوه، كما قال تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف 7/ 138] .
التفسير والبيان:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي ما حملك على أن تسبقهم، والقوم:
هم بنو إسرائيل، والمراد بهم هنا النقباء السبعون، أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم.
وذلك أن الله وعد موسى باللقاء في جبل الطور بعد هلاك فرعون، ليعطيه الألواح التي فيها الوصايا الدستورية لبني إسرائيل. فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما، ثم زيدت إلى أربعين يوما:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] .
وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فاختار موسى منهم سبعين رجلا: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا [الأعراف 7/ 155] وهم النقباء السبعون الذين اختارهم، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه، أي لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله، فقال الله له:
ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟.
وهذا الإنكار إنكار للعجلة في ذاتها لما فيها من عدم العناية بصحبه لأن من شرط المرافقة الموافقة، وهو تعليم للأدب الحسن الرفيع في المصاحبة.(16/262)
قالَ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي قال موسى مجيبا ربه: هم بالقرب مني، واصلون بعدي، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة، وسارعت إليك رب لتزداد عني رضا بمسارعتي إلى الوصول إلى مكان الموعد، امتثالا لأمرك، وشوقا إلى لقائك. فهو عليه السلام يعتذر بالخطإ في الاجتهاد.
قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي قال الله تعالى: إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم، وهم الذين تركهم مع أخيه هارون، وجعلهم موسى السامري في ضلالة عن الحق، باتخاذهم عبادة العجل من ذهب.
والسامري من قبيلة السامرة، أو من قوم يعبدون البقر، والأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة، قال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه وهو عشر ليال، لما صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم، وأمرهم بإلقائها في النار، وكان منها العجل، الذي يصدر منه صوت أحيانا بفعل تأثير الرياح.
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي فعاد موسى إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء الليالي الأربعين، شديد الغضب والحنق، والأسف والحزن والجزع.
قالَ: يا قَوْمِ، أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أي قال موسى: يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة، من إنزال الكتاب التشريعي العظيم لتعملوا به، والنصر على عدوكم، وتملككم أرض الجبارين وديارهم، والثواب الجزيل في الآخرة بقوله المتقدم: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.(16/263)
أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي هل طال عليكم الزمان في انتظار وعد الله ونسيان ما سلف من نعمه، ولم يمض على ذلك من العهد غير شهر وأيام، أَمْ (أي بل «1» ) أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم غضب ونقمة وعقوبة من ربكم؟ فأخلفتم وعدي، إذ وعدتموني أن تقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن أرجع إليكم من الطور. يعني هل طال العهد عليكم فنسيتم أو أردتم المعصية فأخلفتم؟.
قالُوا: ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي أجابوه قائلين: ما أخلفنا عهدك ووعدك باختيارنا وقدرتنا، بل كنا مضطرين إلى الخطأ. وهذا إقرار منهم بالمعصية والوقوع في الفتنة بتسويل السامري وغلبته على عقولهم، كما قال تعالى:
وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، فَقَذَفْناها، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ولكن حملنا أثقالا من زينة القوم أي القبط المصريين، حين خرجنا من مصر معك، وأوهمناهم أننا نجتمع في عيد لنا أو وليمة. وسميت أوزارا أي آثاما لأنه لا يحل لهم أخذها. وقال السامري لهم: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها، ثم أمرنا أن نحفر حفرة، ونملأها نارا، وأن نقذف الحلي فيها، فقذفناها، أي فطرحناها في النار طلبا للخلاص من إثمها، فمثل ذلك قذف السامري ما معه، وصاغ من الحلي عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول جبريل.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أي فأخرج السامري لبني إسرائيل من الذهب الملقى في النار (الأوزار) جسد عجل لا روح ولا حياة فيه، له خوار العجول لأنه صنعه بطريقة معينة، عمل فيه خروقا، وألقى فيه رملا من أثر جبريل، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار. والخوار: صوت البقر.
__________
(1) بل: للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم.. إلخ.(16/264)
فَقالُوا: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فَنَسِيَ أي قال السامري ومن فتن به:
هذا هو إلهكم وإله موسى، فاعبدوه، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم.
فرد الله تعالى عليهم مقرعا لهم ومسفها عقولهم، فقال:
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرد عليهم جوابا، ولا يكلمهم إذا كلموه، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا، أو يجلب لهم نفعا، فكيف يتوهمون أنه إله؟!.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- تعجل موسى عليه السلام سابقا قومه النقباء السبعين شوقا للقاء ربه وسماع كلامه، باجتهاد منه، ولكنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، فاستوجب العتاب.
ثم إن العجلة وإن كانت في الجملة مذمومة، فهي ممدوحة في الدين، قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران 3/ 133] .
وكنى موسى عن ذكر الشوق وصدقه بابتغاء الرضا، قائلا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني.
2- اختبر الله بني إسرائيل في غيبة موسى عليه السلام، ليتبين القائمين على أمر الله عز وجل، واعتقاد توحيده، والتزام شريعته، تبين انكشاف وظهور لأن الله عالم بالجميع.
3- لقد أضلهم السامري، أي دعاهم إلى الضلالة، أو هو سببها.(16/265)
4- حق لموسى عليه السلام أن يعود إلى قومه شديد الغضب والأسى بسبب ما أحدثوا بعده من عبادة العجل.
5- بادر موسى إلى عتاب قومه بتذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، ومنها إنجاؤهم من فرعون وجنوده، ووعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم. وقوله: أَلَمْ يَعِدْكُمْ يدل على أنهم كانوا معترفين بالإله، لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام.
6- لا عذر لهم في نقض العهد الذي لم يطل أمره، ولكنهم أرادوا العصيان وإحداث الأعمال التي تكون سبب حلول غضب الله بهم، وأخلفوا الوعد مع موسى أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور.
7- اعتذروا لموسى عليه السلام بأنهم كانوا مضطرين إلى خلف الموعد، ونقض العهد، وذلك للتخلص من آثام الحلي التي كانوا قد أخذوها من القبط المصريين، حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة، فألقوها في النار لتذوب.
8- لما ذابت الحلي في النار، أخذها السامري، وصاغ لهم منها عجلا، ثم ألقى عليه قبضته من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار.
9- زيف السامري الحقائق، ودلس على بني إسرائيل، وقال لهم مع أتباعه الذين كانوا ميالين إلى التجسيم والتشبيه إذ قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف 7/ 138] : هذا إلهكم وإله موسى الذي نسي أن يذكر لكم أنه إلهه.
10- سفه الحق تعالى أحلامهم وعاب تفكيرهم، وقال لهم: أفلا يعتبرون(16/266)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
ويتفكرون في أن هذا العجل لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم ولا نفعا يجلبه لهم، فكيف يكون إلها؟!.
أما الذي يعبده موسى عليه السلام فهو يضر وينفع ويعطي ويمنع.
11- دل قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ.. على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، كما في آية أخرى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف 7/ 148] . وهو قريب في المعنى من قوله تعالى في ذم عبدة الأصنام:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف 7/ 195] .
- 12- معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل وإلقائه في البحر وتوحيد الإله الحق
[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 98]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)(16/267)
الإعراب:
بْنَ أُمَ
بالفتح أراد يا بن أمي بفتح الياء، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذف الألف تخفيفا لأن الفتحة تدل عليها. ومن قرأ بالكسرا بْنَ أُمَ
أراد يا بن أمي إلا أنه حذف الياء لأن الكسرة قبلها تدل عليها، والأصل إثباتها لأن الياء إنما تحذف من المنادي المضاف، نحو: يا قوم، ويا عباد، والأم ليست بمناداة هنا، وإنما المنادي هو «الابن» .
لَنْ تُخْلَفَهُ فعل مبني للمجهول، وضمير المخاطب نائب الفاعل، وهاء تُخْلَفَهُ مفعول ثان منصوب. ومن قرأ بكسر اللام لَنْ تُخْلَفَهُ كان مضارع (أخلفت الموعد) والمفعول الثاني حينئذ محذوف، أي لَنْ تُخْلَفَهُ أي الموعد لأن أخلف: يتعدى إلى مفعولين.
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تمييز محول عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء.
البلاغة:
أَمْرِي وْلِي
نَفْسِي وكذا نَفْعاً نَسْفاً عِلْماً سجع حسن غير متكلف.
المفردات اللغوية:
مِنْ قَبْلُ من قبل رجوع موسى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ إنما وقعتم في الفتنة والضلال بالعجل فَاتَّبِعُونِي في الثبات على الحق وعبادة الرحمن وَأَطِيعُوا أَمْرِي في تلك العبادة لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ لن نزال على العجل وعبادته عاكِفِينَ مقيمين قالَ: يا هارُونُ قال موسى بعد رجوعه ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ لا: زائدة، أي أن تتبعني في الغضب لله ومقاتلة من كفر بالله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين، والمحاماة عنه، وعصيانك بإقامتك بين قوم لا يعبدون الله تعالى.
لَ: يَا بْنَ أُمَ
أراد أمي، وخص الأم استعطافا لقلبه تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
لا تأخذ بشعر لحيتي ولا بشعر رأسي، وكان أخذ بلحيته بشماله، وبشعره بيمينه، يجره إليه، من شدة(16/268)
غضبه لله، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام كان حديدا خشنا متصلبا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، ففعل ما فعل. شِيتُ
خفت لو اتبعتك لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
ولم تراع قولي فيما رأيته في ذلك.
قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ثم أقبل عليه وقال منكرا: ما شأنك الداعي إلى ما صنعت، وما الذي حملك على هذا الأمر الخطير؟ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي علمت بما لم يعلموه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فقبضت قبضة من تربة موطئ جبريل عليه السلام، فهو الرسول، وقيل: موسى عليه السلام، والقبضة: الأخذ بجميع الكف فَنَبَذْتُها ألقيتها وطرحتها في صورة العجل المصاغ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي ومثل ذلك زينت وحسنت لي نفسي.
قالَ: فَاذْهَبْ قال موسى له: فَاذْهَبْ من بيننا فِي الْحَياةِ مده حياتك أَنْ تَقُولَ لمن رأيته، عقوبة على ما فعلت لا مِساسَ أي لا تقربني، ولا مخالطة، فلا يقربه ولا يخالطه أحد، ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، وإذا حدث مساس مع أحد، أخذته الحمى وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً في الآخرة لعذابك لَنْ تُخْلَفَهُ أي سيأتيك الله به حتما، وتبعث إليه، وبكسر اللام: لن تغيب عنه ظَلْتَ أصله: ظلت، فحذفت الأولى تخفيفا، أي دمت عاكِفاً مقيما تعبده لَنُحَرِّقَنَّهُ أي بالنار لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرينه فِي الْيَمِّ في البحر نَسْفاً نذرا، فلا يصادف منه شيء، وقام موسى فعلا بإلقاء العجل في البحر.
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً وسع علمه كل شيء وأحاط به.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى مخالفة عبادة العجل لأبسط مبادئ العقل لأنه لا يجيب سائله ولا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، ذكر أن بني إسرائيل أيضا عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطأ فعلهم، ثم أوضح معاتبة موسى لأخيه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل، ثم أردف به مناقشة موسى للسامري وعقابه من الله في الدنيا والآخرة، وإلقاء موسى العجل في البحر، وإعلان موسى صراحة: من هو الإله الحق، وهو الذي وسع علمه السموات والأرض، لا الجماد الذي لا يضر ولا ينفع.(16/269)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام قومه عن عبادتهم العجل وتحذيرهم منه، وإخباره إياهم بأنه فتنة، فيقول:
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي لقد قال هارون عليه السلام لقومه عبدة العجل من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم: إنما وقعتم في الفتنة والاختبار لإيمانكم وحفظكم دينكم بسبب العجل، وضللتم عن طريق الحق لأجله، ليعرف صحيح الإيمان من عليله.
وإن ربكم الله الذي خلقكم وخلق كل شيء فقدره تقديرا، لا العجل، فاتبعوني في عبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل، وأطيعوا أمري لا أمره، واتركوا ما أنهاكم عنه.
ويلاحظ أن هارون عليه السلام وعظهم بأحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله:
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
وقوله إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ تذكير لهم بربوبية الله وقدرته التي أنجتهم من فرعون وجنوده، وتذكير برحمة الله التي تدل على أنهم متى تابوا، قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته تخليصهم من آفات فرعون وعذابه.
ولكنهم قابلوا الوعظ والنصح بالتقليد والجحود، فقالوا:
قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أي قالوا:
لا نقبل حجتك، ولكن نقبل قول موسى، فلا نترك عبادة العجل، حتى نسمع(16/270)
كلام موسى فيه. وكادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام. وما قصدهم إلا التسويف.
قالَ: يا هارُونُ، ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أي قال موسى لهارون حين رجع إلى قومه بعد تكليم ربه في الميقات: ما الذي منعك من اتباعي إلى جبل الطور، واللحوق بي مع من بقي مؤمنا، فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع، حين وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟ ففي مفارقتهم زجر لهم، ودليل على الغضب والإنكار عليهم. وأَلَّا في قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ زائدة، أي أن تتبع أمري ووصيتي.
أفعصيت أمري؟ أي كيف خالفت أمري لك بالقيام لله، ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ ألم أقل لك:
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] .
فقال هارون معتذرا عن تأخره عنه وإخباره بما حدث، مستعطفا إياه:
لَ: يَا بْنَ أُمَّ، لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي قال هارون لموسى:
يا ابن أم، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو:
، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي إني خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يقتتلوا ويتفرقوا، فتقول: إني فرقت جماعتهم لأنه لو خرج لتبعه جماعة منهم، وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، وحينئذ تقول: لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، وهي قوله المتقدم: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ولم تراع ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم، واعتذر إليه أيضا بقوله في آية أخرى:(16/271)
إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف 7/ 150] .
ثم كلم موسى كبير الفتنة وهو السامري قائلا:
قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي قال موسى للسامري: ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ سأله ليتخذ من جوابه وإقراره حجة للناس ببطلان فعله وقوله.
قالَ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها أي قال السامري: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرس، فأخذت قبضة من أثر فرسه- والقبضة: ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، وذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا- فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل، فصنعت لهم تمثال إله، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كآلهة المصريين عبدة الأصنام.
قال مجاهد: نبذ السامري، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدا له خوار: وهو حفيف الريح فيه.
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي كما زينت لي نفسي السوء، زينت لي أيضا وحسنت هذا الفعل بمحض الهوى، أو حدثتني نفسي، لا بإلهام إلهي أو ببرهان نقلي أو عقلي.
فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة، فقال: قالَ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ: لا مِساسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أي قال موسى للسامري: فعقوبتك في الدنيا أن تذهب من بيننا وتخرج عنا، وأن تقول ما دمت حيا: لا يمسك أحد، ولا تمس أحدا، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له، وهذه هي عقوبة النبذ من المجتمع أو العزل المدني.(16/272)
وعقوبتك في الآخرة: أن لك موعدا فيها للعذاب لا يخلفه الله، بل سينجزه، وهو يوم القيامة، وهو آت لا ريب فيه ولا مفر منه.
وأما إلهك المزعوم فمصيره كما قال تعالى:
وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً أي وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته، يعني العجل لنحرقنه تحريقا بالنار، ثم لنذرينه في البحر لتذهب به الريح. قال قتادة: فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر. وهذا موقف حازم من موسى عليه السلام أحد الأنبياء أولي العزم لأن مثل هذا المعبود في زعم السامري ومن اتبعه يجب استئصال آثاره، حفاظا على توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، لذا أتبعه بقوله:
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي قال موسى:
إن هذا العجل الذي فتنكم به السامري ليس بإله، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، أي فهو المستحق للعبادة، ولا تنبغي العبادة إلا له، فكل شيء فقير إليه، عبد له. وهو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
وهكذا بدأت قصة موسى بالتوحيد الخالص: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي.. وختمت به: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ.. شأن رسالة كل نبي.(16/273)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- أنكر هارون عليه السلام على السامري وتابعيه عبادة العجل إنكارا شديدا قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم، فعصوه وكادوا أن يقتلوه، وسوفوا وما طلوا حتى يرجع موسى عليه السلام، لينظروا هل يقرهم على ما فعلوا أم لا.
2- لقد توهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون مع اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى سمع الصياح والضجيج، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة.
3- قوله تعالى: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دليل على أن السكوت على المنكر ضلال، والمعنى: حين رأيتهم أخطئوا الطريق وكفروا، ما منعك عن اتباعي والإنكار عليهم، إن مقامك بينهم- وقد عبدوا غير الله- عصيان منك لي.
قال القرطبي: وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم.
وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله:
ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وهم جماعة يجتمعون، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟
فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب(16/274)
السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل وأما القضيب: فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق «1» .
4- أجاب هارون معتذرا مبينا وجهة اجتهاده: وهي أنه خشي إذا خرج وتركهم- وقد أمره موسى بالبقاء معهم- أن تقع الفرقة بين بني إسرائيل، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء، وخشي إن زجرهم أن يقع قتال، فيلومه موسى عليه، وقد أوضح ذلك هنا بقوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وفي الأعراف قال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ لأنك أمرتني أن أكون معهم.
5- بعد عتاب هارون اتجه موسى للسامري سائلا: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي ما أمرك وما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ وقصده من سؤاله: انتزاع اعتراف منه بباطله.
قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها «سامرة» ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكفون على أصنام لهم قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فاغتنمها السامري، وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل، فاتخذ العجل.
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 237- 238.(16/275)
فقال السامري مجيبا لموسى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ يعني رأيت ما لم يروا رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضته، فما ألقيته على شيء، إلا صار له روح ولحم ودم فلما سألوك أن تجعل لهم إلها، زينت لي نفسي ذلك.
6- عاقب موسى عليه السلام ذلك السامري الذي اعترف بأنه صنع العجل لهوى في نفسه، فنفاه عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الحسن البصري: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه، عقوبة له ولما كان منه إلى يوم القيامة وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا، ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا.
ويقال: لما قال له موسى: فاذهب، فإن لك في الحياة أن تقول:
لا مِساسَ خاف فهرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه، حتى صار كالقائل: لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.
7- قال القرطبي: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكعب بن مالك وصاحبيه الذين خلفوا.
ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، ليضطر إلى الخروج. ومن هذا القبيل: التغريب في حد الزنى.
8- وهناك عقاب آخر للسامري يوم القيامة، وموعد لعذابه لا بد من مجيئه، والصيرورة إليه، ولا خلف فيه.
9- حرق موسى عليه السلام بالنار العجل الذي اتخذه السامري. ثم ألقى(16/276)
رماده في البحر، وهذا هو الواجب المتعين في استئصال المنكر وتصفية جميع آثاره.
10- طوى موسى عليه السلام من تاريخ بني إسرائيل واقعة عبادة العجل التي طرأت في فترة زمنية قصيرة الأمد، وقرر إلى الأبد مبدأ التوحيد، وأوجب عبادة الله الذي لا إله إلا هو، العليم بكل شيء، وسع كل شيء علمه، الخبير بأحوال المخلوقات الظاهرة والباطنة، وهذه هي صفات الإله الحق المستحق للعبادة دون سواه.
11- لم يكن أخذ موسى برأس أخيه وبلحيته معصية قادحة بعصمة الأنبياء عليهم السلام، كما زعم بعض الطاغين، وإنما كان هذا تعبيرا قويا عن إنكاره، وغضبا لله لا لنفسه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت محارم الله. والغضب في هذا الموضع محمود غير مذموم، ولا يستنكر ولا يستغرب ظهور أمارات الغضب على النفس، وقد أجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه، ويفتل أصابعه، ويقبض لحيته «1» .
والدليل على ذلك أن هارون عليه السلام عذر أخاه موسى عليه السلام فيما فعل، وكل ما في الأمر أنه استمهله وهدأ أعصابه، ليبين له وجهة نظره، ووجه اجتهاده.
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 108.(16/277)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
العبرة من القصص القرآني وجزاء المعرض عن القرآن
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
الإعراب:
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً، خالِدِينَ فِيهِ أفرد ضمير أَعْرَضَ حملا على لفظ مَنْ، وجمع الضمير في قوله خالِدِينَ حملا على معناه. وخالِدِينَ حال من ضمير يَحْمِلُ.
وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا تمييز مفسر للضمير في ساءَ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وزرهم.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَوْمَ: بدل من يوم القيامة السابق.
البلاغة:
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ تشبيه مرسل مجمل.
وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا استعارة تصريحية، شبه الوزر بالحمل الثقيل، مصرحا بلفظ المشبه به.
المفردات اللغوية:
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي مثل ذلك الاقتصاص- اقتصاص موسى والسامري- نقص عليك يا محمد من أخبار الأمم الماضية. وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً وقد أعطيناك من عندنا قرآنا، فالذكر: القرآن، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وسمي بذلك لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه الناس في الدين والدنيا، والقصص والأخبار، والتنكير فيه للتعظيم.(16/278)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عن الذكر الذي هو القرآن الجامع لأسباب السعادة والنجاة، فلم يؤمن به. وِزْراً حملا ثقيلا من الإثم، والمراد به: العقوبة الشديدة التي تثقل صاحبها. خالِدِينَ فِيهِ في عذاب الوزر. وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي ساء أو بئس وزرهم، واللام للبيان، كما في هَيْتَ لَكَ.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يوم ينفخ في القرن النفخة الثانية. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ نجمع الكافرين. زُرْقاً أي زرق الأبدان والعيون، مع سواد وجوههم، لاشتماله على الشدائد والأهوال. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتسارون ويخفضون أصواتهم، لشدة الرعب والهول. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا من الليالي بأيامها، يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في ذلك أي في مدة لبثهم. أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أعدلهم رأيا أو عملا. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي يستقلون لبثهم في الدنيا جدا، لما يشاهدونه من أهوال الآخرة.
وحكاية اختلافهم في مدة اللبث: عَشْراً أو يَوْماً أو (ساعة) ليس على سبيل الحقيقة أو الشك في التعيين، بل المراد تقرير سرعة زواله.
المناسبة:
بعد بيان قصص موسى والسامري، أبان الله تعالى لنبيه إيناسا له أن إعلامك بأخبار الأمم الماضية وأحوالهم كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، هو زيادة في معجزاتك، وحث على الاعتبار والاتعاظ من قبل المكلفين في الدين.
وناسب بعده أن يذكر جزاء المعرضين عن أحكام القرآن، ذلك الجزاء الرهيب الذي تشيب منه الولدان.
التفسير والبيان:
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي كما قصصنا عليك أيها الرسول خبر موسى مع فرعون وجنوده وخبره مع بني إسرائيل في الحقيقة والواقع، كذلك نقص عليك أخبار الحوادث التي جرت مع الأمم الماضية، كما وقعت من(16/279)
غير زيادة ولا نقص، لتكون سلوة لك عما تكره، وبيانا لسيرة الأنبياء السابقين في مكابدتهم الشدائد مع أقوامهم لتتأس بهم، ودلالة على صدقك ونبوتك، مما يجعل في القصص عبرة وعظة، ودرسا وفائدة.
وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي هذا.. وقد أعطيناك من عندنا ذكرا، وهو القرآن العظيم، للتذكر به على الدوام لأنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولأنه لم يعط نبي من الأنبياء قبلك مثله، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وفيه حكم الفصل بين الناس، وكل ما هو صلاح للبشر في الدين والدنيا والآخرة، وجميع مكارم الأخلاق، ومناهج الحياة الفاضلة.
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي كل من كذب به، وأعرض عن اتباعه، فلم يؤمن به، ولا عمل بما فيه، وابتغى الهدى في غيره، يحمل إثما عظيما، وعقوبة ثقيلة يوم القيامة بسبب إعراضه، كما قال تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] .
وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى في بيان مهمة رسوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] ، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له، وداع للإيمان به، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه، ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة.
خالِدِينَ فِيهِ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي ماكثين مقيمين على الدوام في جزائه ووزره، وهو النار، لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، وبئس الحمل حملهم الذي حملوه من الأوزار، جزاء إعراضهم.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً أي إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ فيه في الصور النفخة الثانية، نفخة البعث التي يحشر الناس(16/280)
بعدها للحساب، وفي هذا اليوم بالذات يحشر المجرمون أيضا وهم المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، زرق العيون والوجوه من شدة ما هم فيه من الأهوال، والغيظ والندامة.
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي يتسارون بينهم، فيقول بعضهم لبعض سرا: ما لبثتم في الدنيا إلا قليلا بمقدار عشرة أيام أو نحوها أو عشر ليال، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا أو في القبور، بمقارنتها بأيام الآخرة الطويلة الأمد وبأعمار الآخرة.
وإنما خص العشرة واليوم الواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي نحن أعلم بما يتناجون وبما يقولون في مدة لبثهم، حين يقول أعدلهم قولا، وأكملهم رأيا وعقلا، وأعلمهم عند نفسه: ما لبثتم إلا يوما واحدا لأن دار الدنيا كلها، وإن طالت في أنظار الناس، كأنها يوم واحد، وغرضهم من ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم 30/ 55] وقال سبحانه: قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون 23/ 112- 113] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن في قصص القرآن من أخبار الأمم وأحوالهم عبرة وعظة، يستعبر بها أو يتعظ العقلاء المكلفون، وسلوة للنبي، ودليلا على صدقه، وزيادة في معجزاته.(16/281)
2- والقرآن العظيم كله تذكير ومواعظ للأمم والشعوب والأفراد، وشرف وفخر للإنسانية وللعرب خاصة، ونعمة عظمي لكل إنسان.
3- وكما أن القرآن نعمة، ففيه أيضا وعيد شديد لمن أعرض عنه، ولم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه، فهو- أي المعرض- يتحمل الإثم العظيم والحمل الثقيل يوم القيامة، حيث يقيم في جزائه، وجزاؤه جهنم، وبئس الحمل الذي حملوه يوم القيامة.
والوزر: هو العقوبة الثقيلة، سميت وزرا، تشبيها في ثقلها على المعاقب بثقل حمل الحامل، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم.
وصفة ذلك الوزر كما تبين شيئان: أحدهما- أنه مخلد مؤبد، وثانيهما- أنه ما أسوأ هذا الوزر حملا، أي محمولا.
4- إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ في الصور النفخة الثانية للبعث والحشر والحساب. والصور: قرن ينفخ فيه يدعى به الناس إلى الحشر.
5- يكون النفخ في الصور سببا لحشر المجرمين، أي المشركين، زرق العيون والأبدان من شدة العطش وشدة الأهوال التي يكابدونها.
6- يتسار المجرمون يوم القيامة قائلين: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة، ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا، وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه: أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا يوما واحدا أي مثل يوم أو أقل.(16/282)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
أحوال الأرض والجبال والناس يوم القيامة
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 112]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
البلاغة:
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ كناية عن أمر الدنيا والآخرة.
عِلْماً ظُلْماً هَضْماً سجع مؤثر غير متكلف.
المفردات اللغوية:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ عن حال أمرها وكيف تكون يوم القيامة، وقد سأل عنها رجل من ثقيف. فَقُلْ لهم. يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يفتتها ذرأت ويجعلها كالرمل السائل، ثم يطيرها كالريح. فَيَذَرُها فيتركها ويذر مقارها أو يذر الأرض. قاعاً أرضا منبسطة لا بناء ولا نبات. صَفْصَفاً أرضا ملساء مستوية. عِوَجاً انخفاضا. وَلا أَمْتاً ارتفاعا.
يَوْمَئِذٍ يوم نسف الجبال، على إضافة اليوم إلى وقت النسف، ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة. يَتَّبِعُونَ يتبع الناس بعد القيام من القبور. الدَّاعِيَ داعي الله إلى المحشر، بصوته، وهو إسرافيل يقول: هلموا إلى عرض الرحمن. لا عِوَجَ لَهُ لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، أي لا يقدر ألا يتبع، أو لا عوج لدعائه، فلا يميل إلى ناس دون ناس.(16/283)
وَخَشَعَتِ سكنت وذلت. إِلَّا هَمْساً الهمس: الصوت الخفي، أو صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر.
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الاستثناء من الشفاعة، أي إلا شفاعة من أذن له، فمن: مرفوع على البدلية بتقدير حذف المضاف إليه، أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن، وهذا هو المتبادر إلى الذهن، أو أن الاستثناء من أعم المفاعيل، أي إلا من أذن في أن يشفع له، فإن الشفاعة تنفعه، فتكون مَنْ: منصوبا على المفعولية، ورجح الرازي الاحتمال الثاني، أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شخصا مرضيا. وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة، أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. والخلاصة: أن الإذن إما أن يكون للشافع دون تعيين، وإما أن يكون للشافع من أجل المشفوع له، ورضي قوله لأجله، أي رضي للمشفوع له قولا.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعلم كل أمر من أمور الآخرة والدنيا، أو يعلم كل شؤون عباده في الدنيا والآخرة. فالمراد من قوله: وَما خَلْفَهُمْ إما أمور الدنيا على رأي، وإما أمور الآخرة وما يستقبلونه، على رأي الأكثرين. وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي لا يحيط علمهم بمعلوماته.
وَعَنَتِ خضعت وانقادت، ومنه العاني: الأسير. الْقَيُّومِ القائم بتدبير عباده ومجازاتهم. خابَ خسر. مَنْ حَمَلَ ظُلْماً شركا. الصَّالِحاتِ الطاعات. فَلا يَخافُ ظُلْماً منع الثواب عن المستحق بالوعد. وَلا هَضْماً ولا نقصا من حسناته.
سبب النزول: نزول الآية (105) :
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الآية.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى أهوال يوم القيامة، حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر عن مصير الجبال، ثم ضم إليه بيان حالة الأرض حينئذ، وحالة الناس الذين(16/284)
يسرعون إلى إجابة الداعي إلى المحشر مع خشوع وخضوع، دون أن تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي للشافع قولا لمكانه عند الله، أو رضي للمشفوع له قولا.
التفسير والبيان:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن حال الجبال يوم القيامة، هل تبقى أو تزول؟ فقل: يزيلها الله ويذهبها عن أماكنها، ويدكها دكا، ويجعلها هباء منثورا.
فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً أي فيترك مواضعها بعد نسفها أرضا ملساء مستوية، بلا نبات ولا بناء، ولا انخفاض ولا ارتفاع، فلا تجد مكانا منخفضا ولا مرتفعا، ولا واديا ولا تلة أو رابية.
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ أي حينئذ يتبع الناس داعي الله إلى المحشر، مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، لا معدل لهم عن دعائه، فلا يقدرون أن يميلوا عنه أو ينحرفوا منه، بل يسرعون إليه، كما قال تعالى:
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر 54/ 8] .
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي سكتت الأصوات رهبة وخشية وإنصاتا لسماع قول الله تعالى، فلا تسمع إلا همسا، أي صوتا خفيا.
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي في ذلك اليوم لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضي قوله في الشفاعة لأن الله تعالى هو المالك المتصرف في الخلق جميعا في الدنيا والآخرة.
ونظير الآية قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ(16/285)
[البقرة 2/ 255] ، وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] ، وقوله عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء 21/ 28] ، وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] .
وعلة تقييد الشفاعة بالإذن والرضا هي:
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي يعلم ما بين أيدي عباده من أمر القيامة وأحوالها، وما خلفهم من أمور الدنيا، وقيل بالعكس: يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا والأعمال، وما خلفهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب، والمراد أنه تعالى يحيط علما بالخلائق كلهم، ولا تحيط علوم الخلائق بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته.
ورجح الرازي معنى أن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وهو ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ولأنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى «1» .
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي ذلت وخضعت واستسلمت جميع النفوس والخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، أي قائم بتدبير شؤون خلقه وتصريف أمورهم، وقد خسر من حمل شيئا من الظلم والشرك. وخص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر.
جاء في الحديث الصحيح: «إياكم
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 119(16/286)
والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والخيبة كل الخيبة من لقي الله، وهو به مشرك، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] » .
وبعد ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً أي ومن يعمل الأعمال الصالحة (أي الفرائض) مقرونا عمله بالإيمان بربه ورسله وكتبه واليوم الآخر، فلا يظلم ولا يهضم حقه، أي لا يزاد في سيئاته بأن يعاقب بغير ذنب، ولا ينقص من ثواب حسناته.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- تتبدد الجبال يوم القيامة بأمر الله تعالى، فتقلع قلعا من أصولها، ثم تصير كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ويذر مواضعها أرضا ملساء بلا نبات ولا بناء، لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا، وعليه فإنه تعالى وصف الأرض بصفات ثلاث: كونها قاعا أي مستوية ملساء، وصفصفا أي لا نبات عليها، ولا عوج فيها ولا أمتا، أي لا منخفض ولا مرتفع.
2- يسير الناس يوم القيامة وراء قائد المحشر، ويتبعون إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور، لا معدل لهم عن دعائه، لا يزيغون ولا ينحرفون، بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه.
وتذل الأصوات وتسكن من أجل الرحمن، فلا تسمع إلا صوتا خفيا، أو حسا خفيا.
3- لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن، ورضي قوله في الشفاعة.(16/287)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
4- يعلم الله جميع أمور الخلائق وما يتعرضون له من أمر الساعة (القيامة) ومن أمر الدنيا، ولا أحد يحيط علما بذات الله وصفاته ومعلوماته.
والخلاصة: وصف الله تعالى يوم القيامة بست صفات هي:
نسف الجبال نسفا تاما، واتباع الناس داعي الله إلى المحشر وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وخشوع الأصوات من شدة الفزع وخضوعها فلا تسمع إلا الصوت الخفي، وعدم قبول الشفاعة من الملائكة والأنبياء وغيرهم عند الله إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضي قوله في الشفاعة، وإحاطة علم الله بجميع أحوال الخلائق وأمورهم في الدنيا والآخرة، فيعلم تعالى ما بين أيدي العباد وما خلفهم، ولا يحيطون بالله علما، وتذل الوجوه أي النفوس ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره.
عربية القرآن ووعيده وعدم التعجل بقراءته قبل إتمام الوحي
[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
المفردات اللغوية:
وَكَذلِكَ معطوف على كَذلِكَ نَقُصُّ أي مثل إنزال ما ذكر، أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد. أَنْزَلْناهُ أي القرآن. قُرْآناً عَرَبِيًّا كله على هذه الوتيرة.
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كررنا وفصلنا فيه آيات الوعيد ويشمل بيان الفرائض والمحارم.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي ومنها الشرك، فتصير التقوى لهم ملكة. والتقوى: اتقاء المحارم وترك الواجبات. أَوْ يُحْدِثُ القرآن لَهُمْ ذِكْراً عظة وعبرة حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذا أسند التقوى إليهم، والإحداث إلى القرآن.
فَتَعالَى اللَّهُ تعاظم وتنزه وتقدس في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين، فلا يماثل كلامه كلامهم، كما لا يماثل ذاته ذاتهم. الْمَلِكُ النافذ أمره ونهيه. الْحَقُّ الثابت في ذاته وصفاته.(16/288)
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي لا تستعجل في قراءة القرآن حتى يتم وحيه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي حتى يفرغ جبريل من إبلاغه لك. وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحى إليك يثبت في قلبك لا محالة.
سبب النزول: نزول الآية (114) :
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل، ولم يحفظه، فأنزل الله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الآية. وثبت في الصحيح عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية. يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه.
المناسبة:
كما أنزل الله آيات الوعيد من أهوال يوم القيامة، أنزل القرآن كله بلغة عربية مبينة، ليفهمه العرب، ثم أبان تعالى نفع هذا القرآن للناس بالتحصن بالتقوى والاتعاظ والاعتبار بهلاك الأمم المتقدمة، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقصان، وأنه ضامن غرس القرآن في صدر نبيه، وصونه عن النسيان والسهو.
التفسير والبيان:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي ومثل ذلك الإنزال لآيات الوعد(16/289)
والوعيد وأحوال يوم القيامة، أنزلنا القرآن كله بلغة العرب ليفهموه، فهو بلسان عربي مبين فصيح، لا ليس فيه ولا عي.
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي وبينا فيه أنواع الوعيد تخويفا وتهديدا، كي يخافوا الله، فيتجنبوا معاصيه، ويحذروا عقابه، أو يحدث لهم في قلوبهم عبرة وعظة يعتبرون بها ويتعظون، ويقبلون على فعل الطاعات.
وبعد تعظيم القرآن عظم تعالى نفسه، فقال:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تقدس وتنزه الله الملك المتصرف بالأمر والنهي، الثابت الذي لا يزول ولا يتغير عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون، فإنه الملك حقا الذي بيده الثواب والعقاب، وحقه وعدله: ألا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه، لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي ولا تتعجل أو تبادر إلى قراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه، بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده.
ومثله قوله تبارك وتعالى في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[16- 19] أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا.
وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل ربك زيادة العلم، روى الترمذي
وابن ماجه والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» .(16/290)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- نزل القرآن بلغة العرب، فهو فخر وشرف لهم إلى الأبد، كما قال تعالى:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] .
2- اشتمل القرآن على ما فيه كفاية لجميع مستويات البشر، الأخيار والأشرار، من التخويف والتهديد، والثواب والعقاب، والعبرة والعظة، حتى يخاف الناس ربهم، فيجتنبوا معاصيه، ويحذروا عقابه.
3- عظم الله القرآن وعظم ذاته، فلما عرف تعالى العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن، نزه نفسه عن الأولاد والأنداد، جل الله عن ذلك، فهو الملك المتصرف في الأكوان، الحق، أي ذو الحق، وتقدس لأنه هو حق ثابت دائم لا يتغير، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، وكل شيء منه حق.
4- علم الله نبيه كيف يتلقى القرآن، قال ابن عباس: كان صلى الله عليه وآله وسلم يبادر جبريل، فيقرأ قبر أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك، وأنزل: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. وهذا كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة 75/ 16] .
5- أمر الله نبيه بأن يدعو بقوله: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي فهما. قال الحسن البصري: نزلت في رجل لطم وجه امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها القصاص، فنزل الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء 4/ 34] ولهذا قال: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي فهما ومعرفة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم حكم بالقصاص وأبى الله ذلك، لكن قال الرازي: وهذا(16/291)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
بعيد، أما قوله تعالى: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.
وفي الآية: الترغيب في تحصيل العلم والترقي فيه إلى ما شاء الله لأن رتبة العلم أعلى الرتب، وبحره واسع لا يحيط به إنسان.
قصة آدم في الجنة وإخراجه منها وإلزامه بالهداية الربانية
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)(16/292)
الإعراب:
أَلَّا تَجُوعَ فِيها الجملة في موضع نصب لأنها اسم إن. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إما موضعها النصب بالعطف على أَلَّا تَجُوعَ أي: إن لك عدم الجوع وعدم الظمأ في الجنة، وإما موضعها الرفع بالعطف على الموضع، مثل: إن زيدا قائم، وعمرو، بالعطف على موضع إن.
ومن كسر وإنك فعلى الابتداء والاستئناف، مثل إن الأولى.
البلاغة:
أَعْمى وبَصِيراً بينهما طباق.
فَتَشْقى، تَعْرى، تَضْحى سجع حسن غير متكلف.
أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فيه ما يسمى قطع النظير عن النظير، ففصل بين الظمأ والجوع، وبين الضحو والكسوة بقصد تحقيق تعداد هذه النعم، ومراعاة فواصل الآيات.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي وصيناه وأمرناه ألا يأكل من هذه الشجرة، يقال: عهد إليه:
إذا أمره وأوصاه به، ولام وَلَقَدْ جواب قسم محذوف، وإنما عطف قصة آدم على قوله:
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وأنهم متأصلون في النسيان. مِنْ قَبْلُ من قبل هذا الزمان وقبل أكله من الشجرة وقبل وجود هؤلاء المخالفين.
فَنَسِيَ العهد وتركه ولم يعن به حتى غفل عنه. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ولم نعلم له تصميما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده. ونجد من الوجود بمعنى العلم، له مفعولان، والعزم: التصميم على الشيء والثبات عليه.
وَإِذْ قُلْنا أي اذكر حاله في مثل ذلك الوقت، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. إِبْلِيسَ هو أبو الجن، كان يصحب الملائكة، ويعبد الله معهم. أَبى امتنع عن السجود لآدم، قائلا: أنا خير منه، وهي جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، وهو الاستكبار.(16/293)
فَتَشْقى تتعب بمتاعب الدنيا الكثيرة. واقتصر على نسبة الشقاء لآدم لأن الرجل هو المسؤول عن كفاية زوجته، وهو الذي يسعى. تَظْمَؤُا تعطش. تَضْحى تصيبك الشمس، يقال: ضحا وضحي: إذا أصابته الشمس بحرها، والمراد: لا يحصل لك شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة. والمقصود من الآية: أَلَّا تَجُوعَ.. بيان وتذكير لما في الجنة من أسباب الكفاية، وأساسيات الكفاية هي الشبع والري والكسوة والسكنى.
شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي التي يخلد من يأكل منها، فلا يموت أصلا. لا يَبْلى لا يفنى ولا يضعف، وهو لازم الخلد. فَأَكَلا مِنْها أي آدم وحواء. فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت لهما عوراتهما من القبل والدبر، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي شرعا وأخذا يلزقان ورق التين على سوآتهما ليستترا به. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بالأكل من الشجرة. فَغَوى فضل عن الرشد حيث اغتر بقول عدوه. ثُمَّ اجْتَباهُ اصطفاه وقربه إليه بالتوفيق للتوبة. فَتابَ عَلَيْهِ فقبل توبته لما تاب. وَهَدى إلى الثبات على التوبة والأخذ بأسباب العصمة.
اهْبِطا مِنْها أي آدم وحواء من الجنة. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي بعض الذرية عدو للبعض الآخر بالظلم والتحارب والتنافس الشديد على أمر المعاش. فَإِمَّا فيه إدغام نون (إن) الشرطية في (ما) المزيدة. هَدى كتاب ورسول. هُدايَ هدى الوحي الإلهي.
فَلا يَضِلُّ في الدنيا. وَلا يَشْقى في الآخرة.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي الهداية بكتبي السماوية المذكرة بي والداعية إلى عبادتي.
وأعرض: أي امتنع فلم يؤمن بالذكر. ضَنْكاً مصدر وهو الضيق الشديد، والمعنى هنا: ضيقة.
وَنَحْشُرُهُ أي المعرض عن الذكر الإلهي ومنه القرآن. أَعْمى أي أعمى البصر أو القلب فلم ينظر في البراهين الإلهية، ويؤيد الأول: قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا وعند البعث. قالَ أي الأمر كَذلِكَ مثل ذلك فعلت، ثم فسره بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها تركتها ولم تؤمن بها. وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي ومثل تركك إياها- أي الآيات- تترك اليوم في العمى والعذاب. والآيات: الأدلة والبراهين الإلهية.
وَكَذلِكَ أي ومثل جزائنا من أعرض عن الذكر. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ نعاقب من أشرك وأسرف في الانهماك في الشهوات، والإعراض عن الآيات. وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وخالفها. أَشَدُّ من عذاب الدنيا وعذاب القبر وضنك العيش والعمى. وَأَبْقى أدوم.
وذلك كقوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد 13/ 34] .(16/294)
المناسبة:
هذه هي المرة السادسة لذكر قصة آدم في القرآن، بعد البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف.
ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أنه بعد أن عظم أمر القرآن، وأبان ما فيه من الوعيد لتربية التقوى والعظة والعبرة، أردفه بقصة آدم، للدلالة على أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأنهم ينسون الأوامر الإلهية، كما نسي أبوهم آدم. ثم ذكر إباء إبليس السجود لآدم للتحذير من هذا العدو الذي أخرج بوساوسه آدم من الجنة، ثم بين جزاء المطيع للهدي الإلهي، وجزاء المعرض عنه، وأنه سيحشر أعمى عن الحجة التي تنقذه من العذاب، بسبب إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي وو الله لقد وصينا آدم بألا يأكل من الشجرة، فنسي ما عهد الله به إليه، وترك العمل بمقتضى العهد، فأكل من تلك الشجرة، ولم يكن عنده قبل ذلك عزم وتصميم على ذلك إذ كان قد صمم على ترك الأكل، ثم فتر عزمه، عند ما وسوس إليه إبليس بالأكل، فلم يصبر عن أكل الشجرة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه، فنسي. والمراد بالعهد: أمر من الله تعالى أو نهي منه، والمراد هنا: عهدنا إليه ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها. والآية دليل على أن النسيان وعدم العزم هما سبب العصيان، وأن التذكر وقوة العزم هما سبب الخير والرشد.
ثم ذكر الله تعالى خلق آدم وتكريمه وتشريفه، فقال:(16/295)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي واذكر أيها النبي لقومك حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تشريف وتكريم وتفضيل على كثير من خلق الله، فسجدوا إلا إبليس امتنع واستكبر ورفض المشاركة في السجود لأنه كان حسودا، فلما رأى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده، فصار عدوا له، كما قال تعالى:
فَقُلْنا: يا آدَمُ، إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى أي فقلنا له عقب إبائه السجود: يا آدم، إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلم يسجد لك وعصاني، فلا تطيعاه، ولا يكوننّ سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، بلا كلفة ولا مشقة، كما قال تعالى:
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش، وتنعما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فلا تجوع ولا تعرى، ولا تعطش في الجنة، ولا يؤذيك الحرّ، كما يكون لسكان الأرض، فإن أصول المتاعب في الدنيا: هي تحصيل الشبع (ضد الجوع) والكسوة (ضد العري) والريّ (ضد الظمأ) والسكن (ضد العيش في العراء أو تحت حرّ الشمس) .
ويلاحظ أن نعم الجنة كما جاء في الآية لا عناء فيها في هذه الأصول الأربعة، فلا جوع فيها ولا عري ولا ظمأ ولا إصابة بحرّ الشمس. فأيهما يفضل العقلاء: ما فيه تعب وعناء أو ما ليس فيه تعب؟! وبعد بيان مدى تكريم آدم وتعظيمه وتحذيره من عدوه، أبان تعالى تورطه في وسوسة الشيطان، فقال:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ(16/296)
وَمُلْكٍ لا يَبْلى
أي قال الشيطان لآدم بنوع من الخفية: ألا أرشدك إلى شجرة الخلد: وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا، وإلى ملك دائم لا يزول ولا ينقضي. وكان ذلك كذبا من إبليس ليستدرجهما إلى معصية الله تعالى:
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 7/ 21] فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الأعراف 7/ 22] .
جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ما يقطعها، وهي شجرة الخلد» .
فَأَكَلا مِنْها، فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعا من الأكل منها، فانكشفت عورتهما وسقط عنهما لباسهما، فشرعا يلصقان عليهما ويلزقان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما، وعصى آدم ربه أو خالف أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عن الآكل منها، فضلّ عن الصواب، وفسد عليه عيشه.
ولا شك بأن مخالفة الأمر الواجب معصية، وأن الجزاء حق وعدل بسبب المعصية، لكنها معصية من نوع خاص بترتيب وتدبير وإرادة الله عز وجل، وفي حال نسيان آدم عهد الله إليه بألا يأكل من الشجرة،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ، قبل أن يخلقني، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فحجّ آدم موسى» .(16/297)
لهذا تاب الله تعالى على آدم من معصيته، فقال:
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي ثم اصطفاه ربه وقرّبه إليه، بعد أن تاب من المعصية واستغفر ربه منها، وأنه قد ظلم نفسه، فتاب الله عليه من معصيته، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل، كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 37] وقال هو وزوجه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف 7/ 23] .
قالَ: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي قال الله تعالى لآدم وحواء: انزلا من الجنة إلى الأرض معا، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض في أمر المعاش ونحوه، مما يؤدي ذلك إلى وقوع الخصام والنزاع والاقتتال.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أي فإن يأتكم أيها البشر مني هدى بواسطة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب، فمن اتبع الهدى، فلا يضل عن الصواب في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس: «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية» . وقال أيضا: «من قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية» .
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ومن أدبر عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه، فإن له في هذه الدنيا عيشا ضيقا، ومعيشة شديدة منغصة، إما بشح المادة وإما بالقلق والهموم والأمراض.
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أي ونحشره ونبعثه في الآخرة مسلوب البصر، أو أعمى عن الجنة وطريق النجاة، أو أعمى البصر والبصيرة، كما قال(16/298)
تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء 17/ 97] .
قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ أي قال المعرض عن دين الله: يا ربّ، لم حشرتني أعمى، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟
فأجابه الله تعالى:
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا، فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي مثل ذلك فعلت أنت، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها، تترك في العمى والعذاب في النار، ونعاملك معاملة المنسي، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف 7/ 51] فإن الجزاء من جنس العمل.
قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
أخرج الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من رجل قرأ القرآن، فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم» «1» .
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أي وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، ولعذاب الآخرة في النار أشد ألما من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه. قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد 13/ 34] .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 169.(16/299)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة آدم عليه السلام على ما يلي:
1- قد يرتكب الإنسان معصية مخالفا أمر الله في حال النسيان والسهو عن عهد الله بطاعته، والنسيان مرفوع عنا الحرج والإثم فيه. قال ابن زيد: نسي آدم ما عهد الله إليه في ذلك اليوم، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.
2- أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتشريف وتكريم، لا سجود عبادة، وأبى إبليس السجود مع الملائكة تكبرا واستعلاء وحسدا.
3- لا شك بأن الجنة ذات نعيم مطلق، فلا تعب ولا عناء في الحصول على الملذات والرغبات، ومن أهمها الشبع والكساء والري والسكن أو المأوى، على عكس حال الدنيا التي ترتبط أصول المعايش هذه فيها بالجهد والمشقة.
4- كانت وسوسة الشيطان لآدم بالأكل من الشجرة سببا في المخالفة والإخراج من الجنة والهبوط إلى الأرض.
5- لا يجوز الحديث عن ذنوب الأنبياء إلا بالقدر المذكور في القرآن الكريم أو السنة النبوية الثابتة، قال بعض العلماء من المالكية: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم (أي بعض الأنبياء) ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم، وتنصّلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة.(16/300)
ولقد أحسن الجنيد حين قال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فهم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله على نبينا وعليهم وسلامه «1» .
6- أما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول: تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدّر الله علي ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه «2» .
7- لقد اجتبى الله تعالى آدم وهداه بعد العصيان، فإن وقع هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، وإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه، لم يضر ما سلف منهم من الذنوب.
8- أمر الله تعالى آدم وزوجه حواء بالهبوط إلى دار الدنيا، والدنيا دار تكليف وتنافس وتزاحم ومعاداة، وسبيل التقويم والتميز: الالتزام بهداية الله، فمن اهتدى بهداية الرسل والكتب الإلهية فقد رشد، ولا يضل عن الصواب، ولا يشقى في الآخرة.
ومن أعرض عن دين الله، وتلاوة كتابه، والعمل بما فيه، كان له عيش ضيق مشحون بالعذاب النفسي والجسدي والعقلي، ويحشر يوم القيامة أعمى البصر والبصيرة، لا يدرك طريق النجاة، ويزج به في عذاب جهنم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 255.
(2) المصدر السابق: 11/ 257.(16/301)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
9- لا عذر للكافر يوم القيامة بعد أن أتته الآيات والدلائل على إثبات وحدانية الله وقدرته ووجوب العمل بشرعه، فإذا ما تركها ولم ينظر فيها، ترك في العذاب في جهنم.
وهكذا يعاقب كل من أعرض عن القرآن، وعن النظر في مصنوعات الله، والتفكر فيها، وجاوز الحد في المعصية، ولم يصدق بآيات ربه، علما بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا حال الحياة أو في القبر، وأدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
الاعتبار بهلاك الأمم الماضية والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم وأمر الأهل بالصلاة
[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 132]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
الإعراب:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ فاعل يَهْدِ مقدر، وهو المصدر، أي: أفلم يهد لهم الهدى أو الأمر.
وكَمْ في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وهو مفعول مقدم، أي كم قرية. وكَمْ خبرية. ويَمْشُونَ جملة حال من ضمير لَهُمْ(16/302)
وَأَجَلٌ معطوف بالرفع على كَلِمَةٌ أي: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان العذاب لزاما، أي لازما لهم، ففصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجواب لولا: وهو كان واسمها وخبرها.
وَأَطْرافَ النَّهارِ معطوف على محل مِنْ آناءِ.
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا منصوب لثلاثة أوجه: الأول- بتقدير فعل دل عليه مَتَّعْنا الذي هو بمنزلة جعلنا فكأنه قال: وجعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا. والثاني- النصب على الحال، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، مثل قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص 112/ 1- 2] والْحَياةِ بدل من ما في قوله إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أي: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة، أي في حال زهرتها. والثالث- النصب على البدل من هاء بِهِ على الموضع، كما يقال: مررت به أباك.
البلاغة:
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا تشبيه تمثيلي، شبه متاع الحياة الدنيا ونعيمها بالزهر الجميل الذي يذبل وييبس.
المفردات اللغوية:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي أفلم يتبين لهم- لكفار مكة- العبر. كَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا إهلاكنا. الْقُرُونِ الأمم الماضية، لتكذيب الرسل. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يسيرون فيها، ويشاهدون آثار إهلاكهم أثناء سفرهم إلى الشام وغيرها، فيعتبروا لَآياتٍ لعبرا. لِأُولِي النُّهى لذوي العقول.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة.
لَكانَ لِزاماً لكان الإهلاك لازما لهم في الدنيا، لا يتأخر عنهم. وَأَجَلٌ مُسَمًّى معطوف على كَلِمَةٌ أي ولولا الوعد بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم القتل في المعركة في الدنيا كبدر، لكان العذاب لازما. ويجوز عطف وَأَجَلٌ على ضمير لَكانَ المستتر، أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه مقترنا بحمده، أو: صلّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الصبح. وَقَبْلَ غُرُوبِها صلاة الظهر والعصر أو العصر وحده. وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ساعاته، جمع إنى وإنو. فَسَبِّحْ صل المغرب والعشاء. وَأَطْرافَ النَّهارِ أي صل الظهر لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف(16/303)
النصف الأول وطرف النصف الثاني. لَعَلَّكَ تَرْضى متعلق بسبح، أي سبّح في هذه الأوقات، طمعا أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك.
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطيلن نظر عينيك رغبة واستحسانا إلى ما في أيدي الآخرين من متع الدنيا، وتتمنى أن يكون لك مثله. أَزْواجاً أصنافا وأشكالا. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا زينتها وبهجتها. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم ونختبرهم فيه. وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ما ادّخره لك في الآخرة، أو ما رزقك من الهدى والنبوة. خَيْرٌ مما منحهم في الدنيا. وَأَبْقى أدوم لا ينقطع. وَاصْطَبِرْ اصبر وداوم عليه. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرغ بالك لأمر الآخرة. وَالْعاقِبَةُ المحمودة وهي الجنة.
لِلتَّقْوى لأهل التقوى أو لذويها.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حال من أعرض عن ذكر الله، في الآخرة، أتبعه بما هو عبرة للناس من أحوال المكذبين بالرسل في الدنيا، كقوم عاد وثمود، ثم أبان فضله تعالى بتأخير العذاب عن الكافرين والعصاة إلى الآخرة، ثم أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين، وبمداومة الصلاة والتسبيح ليلا نهارا، ونهاه عن تمني ما عند الكفار من متع الدنيا، ثم أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة،
روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أصاب أهله ضر، أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية.
التفسير والبيان:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي أفلم يتبين لهؤلاء المكذبين أهل مكة بما جئتهم به يا محمد إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا ولم يبق لهم أثر، كعاد وثمود وأصحاب الحجر وقرى قوم لوط الذين يتقلبون في ديارهم أو يمشون في مساكنهم، ويشاهدون آثارهم المدمرة، فإن في ذلك لعبرا وعظات(16/304)
توجب الاعتبار لذوي العقول الصحيحة التي تنهى أصحابها عن القبيح، وتدرك احتمال أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
ونظير الآية قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة 32/ 26] .
ثم بيّن الله تعالى سبب تأخير العذاب عنهم، فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً، وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي ولولا الكلمة السابقة النافذة من الله في الأزل، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الدار الآخرة، لكان عقاب ذنوبهم لازما لهم، لا ينفك عنهم بحال، ولا يتأخر، ولولا الأجل المسمى عندنا لكان الأخذ العاجل.
لهذا قال الله لنبيه مسليا له وآمرا له بالصبر:
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله، من أنك ساحر كذاب، أو مجنون، أو شاعر، ونحو ذلك من أباطيلهم ومطاعنهم، لا تأبه بهم، فإن لعذابهم وقتا معينا لا يتقدم، واشتغل بتنزيه ربك وحمده وشكره وأداء الصلوات الخمس المفروضة قبل طلوع الشمس، أي صلاة الفجر، وقبل غروبها، أي صلاة العصر والظهر، ومن ساعات الليل أي صلاة العشاء والمغرب والتهجد أواخر الليل، وفي أطراف النهار، أي صلاة الفجر والمغرب تأكيدا لهاتين الصلاتين الواقعتين في طرفي النهار، كالتأكيد على (الصلاة الوسطى) وهي العصر، سبّحه رجاء أن(16/305)
تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك من الثواب، كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى 93/ 5] .
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عمارة بن رؤيبة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» .
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا، وقرأ هذه الآية» .
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربّنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» .
دلت الآية على أن سبيل التغلب على تكذيب المكذبين الكافرين المعاندين هو الصبر لما فيه من قوة الإرادة، ثم التسبيح والتحميد والصلاة والتكبير باعتبارها مقوية للروح والصلة بالله تعالى، فنزول عن النفس والجسد المتاعب والآلام والهموم.
والاستعلاء بالروح يستتبع الانصراف عن متع الحياة الدنيا، لذا قال تعالى:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ولا تنظر أو لا تطل النظر إلى ما عند هؤلاء المترفين من النعيم ومتع الدنيا من زينة وبهجة من مال وبناء ورياش ومراكب، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك، ونتعرف على من يؤدي(16/306)
واجب شكر النعمة، واجعل همتك فيما عند الله، فقد آتاك ربك خيرا مما آتاهم، فقد يسر لك رزقك في الدنيا، وثواب الله وما ادخر لك في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر 15/ 87- 88] وليس المقصود بالآيتين التكاسل عن طلب الرزق، ولكن النهي عن تمني مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا، والانشغال بها، وترك العمل للآخرة، بل إننا نعمل للآخرة والدنيا معا.
ثم أمره الله بأن يأمر أهله بالصلاة، فقال:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي وأمر أيها الرسول أهل بيتك واستنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها وحافظ عليها، لا نطلب منك رزقا ترزق نفسك وأهلك ولا نكلفك الطلب، بل تفرغ للعبادة والتقوى، فنحن نرزقك ونرزقهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] ، والعاقبة المحمودة، وهي الجنة لأهل التقوى والطاعة.
فإذا أقمت الصلاة مع أهلك، أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] . وأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهله بالصلاة أمر للأمة قاطبة.
أخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن(16/307)
عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق، أمرهم بالصلاة وتلا: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ.
وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك» .
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود، سمعت نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك» .
وروى أيضا عن زيد بن ثابت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- يعظ الله تعالى الكفار بأن يعتبروا بأحوال الأمم الماضية الذين أهلكهم لتكذيبهم الرسل، فلربما حل بهم من العذاب مثلما حل بالكفار قبلهم.
2- لولا الحكم السابق من الله في الأزل بتأخير عذاب أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم القيامة، لكان العذاب لازما في الحال لمن كفر وأعرض عن آيات الله تعالى.
3- الصبر علاج حاسم على أذى الكفار المناوئين دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لذا أمر الله تعالى نبيه بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كذاب، ونحو ذلك، وألا يحفل بهم فإن لعذابهم وقتا محددا معينا لا يتقدم ولا يتأخر.(16/308)
4- قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... يراد به في رأي الأكثرين الصلوات الخمس المفروضة، فصلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر قبل الغروب، ومعها الظهر لأنها تجمع معها، وصلاة العشاء في ساعات الليل، وكذا صلاة المغرب. ويرى آخرون أن قوله تعالى: وَأَطْرافَ النَّهارِ إشارة إلى المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث: غروب الشمس وهو وقت المغرب.
5- إن أداء الصلوات في أوقاتها من رضوان الله، وسبب للثواب العظيم، وقد جعل تعالى الثواب واسعا غير محدود على فعل الصلوات، فقال مخاطبا نبيه، وأمته مثله: لَعَلَّكَ تَرْضى أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به.
6- إن همّ المؤمن أصالة هو العمل للآخرة، وأما الدنيا فهي تبع لهذا المقصد الأصلي، على عكس الحال بالنسبة للكفار، فلا همّ لهم إلا الدنيا، لذا نهى الله نبيه عن تمني مثل ما لدى الكفار من زهرة الحياة الدنيا من المال والمباني والأثاث والمراكب وغيرها، فهذا ابتلاء واختبار لهم، ليكون جحودهم ونكرانهم نعم الله سببا لعذابهم في الآخرة.
ويلاحظ التسلسل المنطقي في هذه الأحكام والآيات الدالة عليها، فقد وبخ الله تعالى الكفار على ترك الاعتبار بالأمم السابقة، ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه باحتقار شأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك زائل عنهم، صائر إلى خزي.
وختم ذلك بتسلية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى لأنه يبقى والدنيا تفنى.
7- أمر الله نبيه بأن يأمر أهله بالصلاة وبالمحافظة عليها وملازمتها،(16/309)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
ويدخل في عموم خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جميع أمته وأهل بيته على التخصيص.
وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول: «الصلاة» .
وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئا من أحوال السلاطين بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.. الآية، ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله.
8- نهى الله تعالى نبيه أن يشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل تكفل له برزقه ورزق أهله، فكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل بأهله ضيق، أمرهم بالصلاة، وقد قال الله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 56- 58] .
9- إن العاقبة الجميلة المحمودة وهي الجنة لأهل التقوى. وأما عاقبة غيرهم فهي مذمومة كالمعدومة.
اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أو إرسال رسول وتهديدهم بمآل المستقبل
[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135]
وَقالُوايَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
الإعراب:
أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ بغير تنوين مضاف إلى ما. ومن قرأ بتنوين، جعل ما في موضع نصب بدلا من بَيِّنَةُ.(16/310)
مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ مَنْ استفهامية مبتدأ، وأَصْحابُ الصِّراطِ خبره. ولا يجوز أن تكون مَنْ اسما موصولا بمعنى الذي لأنه ليس في الكلام الذي بعدها عائد يعود إليه، والجملة في موضع نصب ب فَسَتَعْلَمُونَ.
البلاغة:
فَتَرَبَّصُوا وعيد وتهديد.
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي المشركون. هلا. يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ بمعجزة يقترحونها تدل على صدقه في ادعاء النبوة، كناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص، فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأتقنها لأن حقيقة المعجزة:
اختصاص مدّعي النبوة بنوع من العلم أو العمل، على وجه خارق للعادة، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرا، وأبقى أثرا، والقرآن محقق لذلك.
ونبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجاز القرآن: وهو الإخبار عن الأمم السابقة، فقال:
أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، فإن اشتماله على خلاصة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية، مع أن الآتي بها أمي، لم يرها ولم يتعلم من علمائها، إعجاز بين وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته، برهان لما تقدمه من الكتب، من حيث إنه معجز، وهي ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد بصحتها.
فقوله: بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي بيان ما اشتملت عليه، وأخبار الأمم الماضية التي أهلكت بتكذيب الرسل، في القرآن.
مِنْ قَبْلِهِ قبل محمد الرسول. لَقالُوا يوم القيامة. هلا. آياتِكَ المرسل بها. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ نهان في الدنيا بالقتل والسبي. أو في القيامة. وَنَخْزى نفتضح بدخول النار جهنم يوم القيامة.
قُلْ: كُلٌّ قل لهم: كل واحد منا ومنكم. مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر.
فَسَتَعْلَمُونَ في القيامة. الصِّراطِ السَّوِيِّ الطريق المستقيم. وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، أنحن أم أنتم؟
!(16/311)
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر على ما يقوله المشركون، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح والتحميد، وأتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متع به القوم، ذكر هنا بعض أقاويلهم الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أوضح لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بيّنة، وأنه لو أهلكناهم لطلبوا إرسال، ثم هددهم وأوعدهم بما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، ويتميز المحق من المبطل.
التفسير والبيان:
كان المشركون يكثرون من اقتراح الآيات على النبي للتعجيز والعناد والمضايقة بسبب عدم إيمانهم، وعدم الاكتفاء بالمعجزات التي يرونها، فقال تعالى واصفا تعنتهم:
وَقالُوا: يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي وقال الكفار المشركون: هلا يأتينا محمد بآية من ربه دالة على صدقه في أنه رسول الله، كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء، من الآيات التي اقترحناها عليه؟ مثل ناقة صالح وعصا موسى، وإحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فأجابهم الله: ألم يأتهم القرآن المعجزة الباقية الخالدة، وهو البينة والشاهد على صحة ما في الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة المشتملة على العقيدة والأحكام التشريعية، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم؟! ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ(16/312)
يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
[العنكبوت 29/ 50- 51] .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
وقد ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو القرآن وإلا فله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر.
وسيعترف المشركون يوم القيامة بأن القرآن آية بينة كما قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، لَقالُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى أي ولو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل بعثة هذا الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنزال هذا الكتاب العظيم، لقالوا يوم القيامة: يا ربنا هلا كنت أرسلت إلينا رسولا في الدنيا، حتى نتبع آياتك التي يأتي بها الرسول من قبل أن نذل بالعذاب في الدنيا ونخزى بدخول النار؟ والآية دليل على أن التكليف والعقاب لا يكون قبل مجيء الشرع.
والحق أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون، لا يؤمنون ولو جاءتهم الآيات تترى، كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 109- 110] .
قُلْ: كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ، فَتَرَبَّصُوا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى أي قل يا محمد لهؤلاء الذين كذبوك وخالفوك واستمروا على كفرهم وعنادهم: كل واحد منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه الأمر، فانتظروا أنتم، فستعلمون عن قريب في عاقبة الأمر، من هو على الطريق الحق المستقيم، أنحن(16/313)
أم أنتم؟ وستعلمون من المهتدي من الضلالة، البعيد عن الغواية، السائر على منهج الحق والرشاد؟
وهذا كقوله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 42] وقوله سبحانه: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر 54/ 26] .
والآية التي ختمت بها السورة مشتملة على وعيد وتهديد وزجر للكفار، وهي مناسبة لبدء السورة المتضمن قيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتبليغ رسالته حتى أتعب نفسه، وما على أهل البلاغ إلا الطاعة، فإن أطاعوا نجوا، وإن أعرضوا هلكوا، وسيتبين لهم الحق من الباطل، وقد تبين لجماعات كثيرة من الكفار في التاريخ خطؤهم وسوء حالهم وعاقبة كفرهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- تكاثرت اقتراحات الكافرين من أهل مكة بأن يأتيهم محمد بآية تدل عيانا على الإيمان، أو علامة ظاهرة حسا كالناقة والعصا، أو آيات يقترحونها هم كما أتى الأنبياء من قبله.
2- كان الرد القرآني الحاسم عليهم أنه يكفيهم هذا القرآن العظيم المعجزة الخالدة، وهو المهيمن على الكتب السماوية السابقة، والمعبر عما كان فيها من عقائد وحكم وأحكام وآداب. بل إن تلك الكتب الماضية تضمنت العلامة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة.
3- لو أهلك الله الكفار قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزول القرآن، لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا، حتى نتبع آياتك من قبل هذا الذل(16/314)
بالعذاب في الدنيا والخزي بدخول النار؟! وكون القول يوم القيامة لأن الهالك لا يصح أن يقول، ولذلك قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى وهو لا يليق إلا بعذاب الآخرة. والآية دليل على أنه لا عقاب قبل الشرع.
4- هدد الله الكفار بما ينتظرهم من العذاب وما يؤول إليه أمرهم، فإن كان كل فريق من المؤمنين والكافرين منتظرا دوائر الزمان ولمن يكون النصر، فسيعلم الكفار أن النصر سيكون لمن اهتدى إلى دين الحق.(16/315)
[الجزء السابع عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأنبياء
مكية، وهي مائة واثنتا عشرة آية
تسميتها:
سميت سورة الأنبياء لتضمنها الحديث عن جهاد الأنبياء المرسلين مع أقوامهم الوثنيين، بدءا من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بإسهاب وتفصيل، ثم إسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون: يونس، وزكريا، وعيسى، إلى خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذلك بإيجاز يدل على مدى ما تعرضوا له من أهوال وشدائد، فصبروا عليها، وضحوا في سبيل الله، لإسعاد البشرية.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من ناحيتين:
الأولى:
الإشارة إلى قرب الأجل المسمى للعذاب، ودنو الأمل المنتظر، فقال تعالى في آخر سورة طه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ثم قال: قُلْ: كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا وقال تعالى في مطلع هذه السورة:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.(17/5)
والثانية:
التحذير من الاغترار بالدنيا، والعمل للآخرة، فقال تعالى في آخر سورة طه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا..
فإن قرب الساعة يقتض الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا لدنوها من الزوال والفناء، وختمت سورة الأنبياء بمثل ما بدئت به السورة المتقدمة، فأبان الله تعالى أنه بالرغم من قرب الساعة والحساب، فإن الناس غافلون عنها، ولاهون عن القرآن والاستماع إليه.
فضلها ومزيتها:
ورد في فضل هذه السورة أحاديث صحاح منها:
ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: «بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن من العتاق الأول، وهن من تلادي»
أي من قديم ما حفظ من القرآن، كالمال التّلاد.
ولما نزلت هذه السورة قيل لعامر بن ربيعة رضي الله عنه: هلا سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا» .
مشتملاتها:
موضوع السورة بيان أصول العقيدة الإسلامية ومبادئها وهي التوحيد، والرسالة النبوية، والبعث والجزاء، وقد بدأت بوصف أهوال القيامة، ثم ذكرت قصص جملة من الأنبياء الكرام عليهم السلام، كما تقدم.
كانت البداية مرهبة مرعبة، منذرة محذّرة بقرب قيام الساعة، والناس لاهون غافلون عنها وعن خطورة الحساب والعقاب، معرضون عن سماع القرآن، مفتونون بلذائذ الحياة الدنيا.(17/6)
ثم أوضحت السبب في إنكار المشركين في مكة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وهو أنه بشر مثلهم، وعجزه عن الإتيان بآيات فذة ومعجزات باهرة مادية، كما أتى بها الأنبياء السابقون مثل موسى وعيسى، فرد القرآن عليهم بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ثم أنذرهم بالإهلاك، كما أهلك بعض الأمم المتقدمة لتكذيبهم رسلهم، ولفت أنظارهم إلى عظمة خلق السموات والأرض، وإلى أن الملائكة طائعون لله، منقادون لأمره، ينفّذون ما أمروا به من التعذيب بسرعة لا تعرف التردد والانتظار، ونعى على من ادعى أنهم بنات الله تعالى.
ثم ناقشهم القرآن في اتخاذهم آلهة من دون الله، وطالبهم بالدليل على ادعائهم، وأقام البرهان على وحدانية الله إذ لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، ووصف النشأة الأولى للسموات والأرض، وأنهما كانتا رتقا ففصلتا، وأبان أن الجبال أوتاد للأرض حتى لا تميد بأهلها، وأن الله تعالى خالق الليل والنهار والشمس والقمر، ثم تكون النهاية الموت والفناء لكل شيء، حتى للملائكة والأنبياء، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأوضح أن استعجال الكافرين العذاب غباء وطلب في غير محله فإن العذاب قريب، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنها تأتيهم بغتة فتبهتهم، وأن موازين الحساب دقيقة وفي أتم عدل، فلا يبخس أحد شيئا من حقه، ولا يظلم إنسان مثقال حبة من خردل.
وتحقيقا لهاتيك الغايات وتأكيدا عليها، جاءت الأمثال الواقعية تنذر وتذكّر، من خلال إيراد قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون، وإبراهيم ولوط، وإسحاق ويعقوب، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب وإسماعيل، وإدريس وذي الكفل، ويونس وزكريا ويحيى، وعيسى عليهم السلام.
وأثبت القرآن عقب ذلك وحدة مهام الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة الله، وتطمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن، وأن الأمم المعذبة في الدنيا سترجع حتما إلى الله في الدار الآخرة لعذاب آخر.(17/7)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
ومن علائم الساعة انفتاح سد يأجوج ومأجوج.
وفي القيامة عذاب شديد، وأهوال شديدة يلقاها الكفار، وأنهم مع أصنامهم حطب جهنم، وفيها تتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السموات كطي الكتب، ويحظى الصالحون بالنعيم الأبدي، ويرث الأرض من هو أصلح لعمارتها.
وختمت السورة ببيان كون النبي صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأنه أوحي إليه بأن الإله واحد لا شريك له، وأنه يجب الانقياد لحكمه، وأنه ينذر الناس بعذاب قريب وأن مجيء الساعة واقع محتم، وأن الإمهال به وتأخير العقوبة امتحان واختبار، وأن الله يحكم بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين أعدائه المشركين، وأنه المستعان على افتراءاتهم واتهاماتهم.
غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة ودليل ذلك
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)(17/8)
الإعراب:
مُحْدَثٍ صفة ذِكْرٍ وأجاز الفرّاء رفعه على النعت حملا على موضع مِنْ ذِكْرٍ ومِنْ: زائدة، مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف 7/ 59 وغيرها] وأجاز الكسائي نصبه على الحال.
وَهُمْ يَلْعَبُونَ جملة اسمية في موضع حال من واو اسْتَمَعُوهُ.
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ لاهِيَةً: حال من ضمير يَلْعَبُونَ وقُلُوبُهُمْ: فاعله، مثل وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الأنعام 6/ 141] لأن اسم الفاعل إذا وقع حالا ارتفع الاسم به كالفعل.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ إما مرفوع أو منصوب أو مجرور، والرفع إما على أنه بدل من واو أَسَرُّوا وإما أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين ظلموا، وإما أنه مبتدأ خبره محذوف أي يقولون: ما هذا إلا بشر، وإما فاعل أسروا على لغة «أكلوني البراغيث» والنصب بتقدير: أعني، والجر على أنه نعت ل «الناس» .
هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الكلام كله في محل نصب بدلا من النجوى، أي وأسروا هذا الحديث، ويجوز أن يتعلق بقالوا بمعنى اعتقدوا.
البلاغة:
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ التنكير للتعظيم والتهويل.
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة.
بَلْ قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ فيه إضراب ترقي، يدل على أن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وذلك كله دليل الاضطراب والتردد والتحرير في وصف القرآن، وتزييف الحقائق.
المفردات اللغوية:
اقْتَرَبَ قرب أي اقترب زمان الحساب، والمراد اقتراب الساعة، وأصله: اقترب حساب الناس، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك.
لِلنَّاسِ أي جميع المكلفين من الناس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المراد بالناس:
المشركون، وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه، بدليل الوصف التالي: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ(17/9)
مُعْرِضُونَ
وصفهم بالغفلة مع الإعراض، والغفلة في الأصل: عدم تذكر الشيء، والمراد هنا: الترك إهمالا وإعراضا. والإعراض: الإضراب والتولي عن الشيء، والمراد هنا الإعراض عن التأهب للحساب بالإيمان.
مِنْ ذِكْرٍ أي قرآن ينبّه من الغفلة والجهالة مُحْدَثٍ أي جديد إنزاله، منزّل شيئا فشيئا، أتى به لتكرير التنبيه لأسماعهم كي يتعظوا يَلْعَبُونَ يستهزئون ويسخرون لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ غافلة ساهية متشاغلة عن التأمل وتفهم معناه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي أسروا التناجي والكلام، والمراد: أنهم أخفوا التناجي وبالغوا في الإخفاء هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي أسروا هذا الحديث، أو قالوا بمعنى اعتقدوا، والمراد: هل هذا أي محمد إلا بشر مثل الناس، وكل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحر، ولذلك قالوا: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أتتبعون السحر، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟! قالَ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي قال لهم محمد: الله يعلم القول كائنا في السماء والأرض، جهرا كان أو سرا، فضلا عما أسرّوا به وَهُوَ السَّمِيعُ لما أسروه الْعَلِيمُ بما قالوا، فلا يخفى عليه ما تسرون، ولا ما تضمرون.
بَلْ للانتقال من غرض إلى آخر، ولا تذكر في القرآن إلا على هذا النحو قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي إنهم قالوا: إن ما أتى به من القرآن تخاليط أحلام رآها في النوم، فهم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه أخلاط أحلام بَلِ افْتَراهُ أي اختلقه من عنده، فهم أضربوا ثانية إلى أنه كلام افتراء بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي ثم أضربوا إلى أنه قول شاعر، فما أتى به هو شعر، والانتقال في المواضع الثلاثة للدلالة على التردد والتحير في وصف القرآن فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ.. أي كناقة صالح، وعصا موسى ويده، ومعجزات عيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي ما آمن أهل قرية أهلكناها بتكذيب ما أتاها من الآيات التي جاءتهم لما اقترحوها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لو جئتهم بها، وهم أعتى منهم؟ لا. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به، ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم.
سبب النزول: نزول الآية (6) :
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كان ما تقول حقا، ويسرّك أن تؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل عليه(17/10)
السلام، فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثمّ لم يؤمنوا، لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بل أستأني بقومي، فأنزل الله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ.
التفسير والبيان:
ينبه الله تعالى على اقتراب الساعة ودنوها فيقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.. أي قرب زمان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا، وهو اقتراب الساعة، ولكن الناس في حياتهم ساهون غافلون، لاهون معرضون عن التأهب للحساب، والتفكر بالآخرة، بالمبادرة إلى الإيمان.
والمراد بالناس في رأي ابن عباس المشركون منكرو البعث، بدليل قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ إلى قوله: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وذلك للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه.
والظاهر أن لفظ الآية يتناول عموم الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، بدليل ما بعد ذلك من الآيات، فتكون الآية لوقف الأطماع، والحث على الإقبال على الإيمان، فمن علم اقتراب الساعة، بادر إلى التوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. قال الرازي: يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون، دون من لا مدخل له.
روي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبني جدارا، فمرّ به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ(17/11)
مُعْرِضُونَ
فنفض يده من البنيان، وقال: والله، لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب.
وفي الآية دليل على قرب القيامة، لذا
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس: «بعثت أنا والساعة كهاتين» .
ثم استدل الله تعالى على غفلة الناس، فقال:
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ما يأتي أولئك الكفار من قريش وأشباههم من قرآن جديد إنزاله، ينزل سورة سورة، وآية آية، على وفق المناسبات والوقائع، إلا استمعوه وهم لاهون ساخرون مستهزءون، متشاغلة قلوبهم عن التأمل وتفهم معناه.
وهذا ذم صريح للكفار، وزجر لأمثالهم عن تعطيل الانتفاع بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
وقوله مُحْدَثٍ لا يوهم كون القرآن مخلوقا، فإن الحروف المنطوق بها، والصوت المسموع حادث بلا شك، وأما أصل القرآن الذي هو كلام الله تعالى النفسي فهو قديم بقدم الله تعالى وصفاته القدسية.
ثم وصف الله تعالى موقف الكفار عند نزول القرآن فقال:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي وأخفوا التناجي والكلام فيما بينهم، بل وبالغوا في الإخفاء حتى لا يطلع أحد على تناجيهم، قائلين:
هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟ أي هل محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بشر كغيره من الناس، أمثالكم في تكوينه وعقله وتفكيره، فكيف يختص بالرسالة دونكم؟ وهذا ناشئ من اعتقادهم أن الرسول النبي لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من(17/12)
البشر، وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار:
أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أي أفتتبعونه، فتكونون كمن يأتي السحر، وهو يعلم أنه سحر، أو أتصدقون بالسحر، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟! فهم يستبعدون كون رسول الله صلّى الله عليه وسلم نبيا لأنه بشر مثلهم، والرسول لا يكون إلا ملكا، وأما ما أتى به من القرآن فهو سحر.
وإنما أسروا الحديث بينهم في ذلك للتشاور في المخلص، والتوصل إلى أنجع الطرق لهدم دينه.
فأجابهم تعالى عما افتروه واختلقوه من الكذب بقوله:
قالَ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي قال لهم الرسول بأمر من الله مفتضحا أسرارهم: لا تخفوا ما تقولون، فإن الله ربي وربكم يعلم ذلك، لا يخفى عليه خافية من أمر السماء والأرض وما يحدث فيهما من أقوال وأفعال، وهو الذي أنزل القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم.
وفي هذا تهديد لهم ووعيد.
وإنما قال: يَعْلَمُ الْقَوْلَ ولم يقل: يعلم السر لقوله المتقدم:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى لأن القول عام يشمل السر والجهر، وعلمه بالأمرين على سواء، لا تفاوت فيه، خلافا لمعلومات الناس، فكان التعبير شاملا للعلم بالسر وزيادة، وكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ.
ثم أخبر الله تعالى عن تخبط الكفار، وتعنتهم وإلحادهم، وحيرتهم وضلالهم،(17/13)
وترددهم في وصف القرآن، واختلافهم في ذلك، فقال:
بَلْ قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي إنهم وصفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولا بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر، ثم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في المنام، ثم إلى أنه كلام مفترى مختلق من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر.
وهذا الاضطراب والتردد والتحير دليل على أن قولهم باطل، يشوه الحق، ويزيف الحقائق، فهم إما جاهلون بحقيقة ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم، أو عارفون الحقيقة، ولكنهم مكابرون يائسون يأس المهزوم المغلوب، فقالوا: إنه سحر وكذب.
ولما فرغوا من تعداد هذه الاحتمالات، وترداد هذه المزاعم قالوا:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي إن كان محمد صادقا في أنه رسول من عند الله، وأن القرآن الموحى به إليه كلام الله، فليأتنا بآية جلية غير القرآن، لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات، كالآيات المنقولة عن الأنبياء السابقين، مثل ناقة صالح، وآيات موسى كالعصا واليد، وعيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ونحو ذلك من المعجزات الحسية التي تثبت النبوة والرسالة.
وقوله: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ يدل على أن تلك الآيات مسلّم بها عندهم، وتحقّق المقصود.
ثم أجابهم تعالى عن هذا السؤال الأخير مفندا كذبهم، ومشيرا إلى عدم إفادة الآيات المنزلة، بسبب إمعانهم في الكفر، فقال:
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟ أي ما أتينا أهل(17/14)
قرية من القرى الذين بعث إليهم الرسل آية على يدي نبيهم، فآمنوا بها، بل كذبوا، فأهلكناهم بذلك، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟
والمعنى: أنهم أشد عتوا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات، ووعدوا أنهم يؤمنون عند مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد، وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] .
والخلاصة: أن عدم تلبية اقتراحاتهم هو في صالحهم، إذ لو أجابهم تعالى لما طلبوا، ثم بقوا على كفرهم وعنادهم، لنزل بهم عذاب الاستئصال، إلا أن حكمة الله اقتضت تأخير العذاب عنهم إلى الآخرة.
وأما سؤالهم فهو سؤال تعنت، والله يعلم أنهم لا يؤمنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن قيام الساعة أمر محتم لا ريب فيه، وهو قريب الحصول، وأما مرور القرون السالفة من عهد البعثة إلى يومنا هذا وإلى ما شاءالله من أزمان، فلا يدل على طول المدة لأن هذه القرون قصيرة جدا في عمر الدهر والتاريخ، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى.
2- الناس مع الأسف وبالرغم من قرب القيامة في غفلة وإعراض، أما الغفلة: فهي السهو عن الحساب وعن التفكر في العاقبة المحتومة، مع أن عقولهم تقتضي أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء.(17/15)
وأما الإعراض: فهو الإمعان في البعد عن القرآن وترك آياته وعدم الإيمان بالله، بالرغم من الانتباه من الغفلة والجهالة.
3- لقد عطل كفار قريش مفاتيح الهداية والانتفاع بنور القرآن، وهزؤوا وسخروا من آيات الله التي تأخذ بيدهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
4- احتج المعتزلة على حدوث القرآن بقوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.. فقالوا: القرآن ذكر، والذكر محدث، فالقرآن محدث.
وأجابهم أهل السنة بأن المقصود بالإحداث: هو ما يسمع من حروف القرآن وأصواته، فهذا حادث لا شك. أما القرآن الذي هو كلام الله تعالى فهو قديم بقدم الله سبحانه وصفاته الحسنى.
5- طعن كفار قريش في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بأمرين:
أحدهما- أنه بشر مثلهم.
والثاني- أن الذي أتى به سحر.
وكلا الطعنين مردود لأن النبوة تثبت بالمعجزات والدلائل، لا بالصور، فكونه بشرا لا يمنع نبوته، ولو بعث إليهم الملك لما علم كونه نبيا لمجرد صورته، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا لأن الإنسان يأنس بأمثاله، وهو أقرب إلى قبول الشيء من أشباهه.
ثم إن ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلم من القرآن وغيره لا تمويه فيه ولا تلبيس، وليس فيه شيء من ظواهر السحر، فقد تحداهم صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، فلو قدروا على المعارضة لأتوا بما يشبه القرآن، فلما لم يأتوا بمثله، دل ذلك على كونه معجزة في نفسه.
6- الحق أن قلوب الكفار ساهية معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل(17/16)
والتفهم لمعاني القرآن، وقد تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، وتشاوروا، فما صدر عن مشاوراتهم أعجب من موقفهم، فوصفوا محمدا صلّى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وبأن ما أتى به سحر، وقالوا: فكيف تجيئون إليه وتتبعونه، وأنتم تشاهدون أنه إنسان مثلكم؟! 7- أطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلم على ما تناجوا به، وأعلمهم بأن الله لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض، فسواء أسروا القول أم جهروا به، فإن الله به عليم.
8- صور القرآن الكريم اضطراب كفار قريش وترددهم وحيرتهم في وصف النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وفي وصف القرآن بأشد أنواع الاستهجان، فقالوا: إنه ساحر وما أتى به سحر، ثم قالوا: إن ما أتى به أخلاط كالأحلام المختلطة، رآها في المنام، ثم قالوا: إنه افتراء، ثم قالوا: إنه شاعر، فهم متحيرون لا يستقرون على شيء، قالوا مرة: سحر ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراء، ومرة شاعر.
ثم عدلوا عن ذلك إلى المطالبة بالآيات على صدق نبوته كالآيات التي ظهرت على يد موسى كالعصا واليد، ومثل ناقة صالح، ومثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بوساطة عيسى، وإنما كان سؤالهم تعنتا، فقد أعطاهم الله ما فيه الكفاية.
9- اقتضت حكمة الله ورحمته تأخير العذاب عن الكفار المنكرين للبعث ولبعثة محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ لو أجابهم تعالى إلى مطلبهم، لعجل لهم عذاب الاستئصال، كما فعل بأهل القرى المتقدمين مثل قوم صالح وقوم فرعون، فإنهم ما آمنوا بالآيات، فاستؤصلوا، فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا لما سبق من القضاء في علم الله بأنهم لا يؤمنون أيضا وإنما تأخر عقابهم لعلمه تعالى بأن في أصلابهم من يؤمن.(17/17)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
بشرية الرسل وإنجاز الوعد لهم وجعل القرآن عظة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
الإعراب:
فِيهِ ذِكْرُكُمْ ذِكْرُكُمْ: مرفوع بالظرف، ويجوز كونه مبتدأ، وفِيهِ خبره، والجملة في موضع نصب لأنها وصف كتاب.
جَسَداً على حذف مضاف أي ذوي جسد، فتوحيد الجسد على حذف مضاف، أو لإرادة الجنس أو لأنه مصدر في الأصل.
لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسدا.
البلاغة:
أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ إنكار توبيخي.
المفردات اللغوية:
أَهْلَ الذِّكْرِ هم هنا أهل الكتاب العلماء بالتوراة والإنجيل جَسَداً الجسد هو الجسم، إلا أنه لا يطلق على غير الإنسان خالِدِينَ باقين دائمين في الحياة الدنيا صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي نصرناهم على أعدائهم وأنجيناهم، والمراد: صدقناهم في الوعد فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني المؤمنين المصدقين لهم، ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته، ولذلك حمى الله العرب من عذاب الاستئصال وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ في الكفر والمعاصي، المكذبين.(17/18)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا قريش كِتاباً يعني القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه سمعتكم وصيتكم، لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] أو فيه موعظتكم أَفَلا تَعْقِلُونَ تتدبرون ما فيه من المواعظ والعبر، فتؤمنوا به.
المناسبة:
هذه الآيات جواب لقول كفار قريش: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو أن سنة الله تعالى في الرسل قبل محمد صلّى الله عليه وسلم إرسال رجال من البشر أنبياء، فلا يكون الرسول إلا بشرا، خلافا لما ينكرون، فلا يصح اعتراضهم في كون محمد بشرا.
التفسير والبيان:
يرد الله تعالى على من أنكر بعثة الرسل من البشر بقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ ... أي إن جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر، ولم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال تعالى في آية أخرى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف 12/ 109] وقوله سبحانه: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 9] وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم الذين قالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن 64/ 6] .
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم في شك من كون جميع الرسل بشرا، فاسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ فالله يأمرهم أن يسألوا علماء الكتب السابقة عن حال الرسل المتقدمة، لتزول عنهم الشبهة، وليعلموا أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا.
وإنما أحالهم على أولئك لأن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، ويثقون بقولهم، ويلتقون معهم في معاداته قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ(17/19)
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً
[آل عمران 3/ 186] .
وإنما كانوا بشرا ليتمكن الناس من تلقي الوحي عنهم، والأخذ بيسر بما نزل عليهم. وهذا نص صريح في بشرية الرسل وفي كونهم رجالا لا نساء.
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَما كانُوا خالِدِينَ أي وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين كالملائكة، بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام، وما كانوا مخلّدين باقين في الدنيا، ونظير الآية: وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان 25/ 7] وقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان 25/ 20] .
وهذا نفي لما اعتقدوا أن من صفات الرسل الترفع عن الحاجة إلى الطعام، فهم كانوا بشرا يأكلون الطعام، ويتصفون بكل الصفات الإنسانية، ويطرأ عليهم الحزن والسرور، والمرض، والنوم واليقظة، والحياة والموت، فلا خلود لهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء 21/ 34] .
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ ... أي إننا نصون حياة الرسل وكراماتهم، ونصدقهم في الوعد الذي نعدهم به من النصر على أعدائهم، وإهلاك الظالمين، وننجيهم ومن نشاء من أتباعهم المؤمنين بهم، ونهلك المكذبين لهم، المسرفين على أنفسهم بالكفر والمعاصي، المكذبين بما جاءت به الرسل.
وبعد إثبات بشرية الرسل للرد على المشركين الذين اعتقدوا بأن الرسالة من خواص الملائكة، نبّه تعالى على شرف القرآن وفضله ونفعه للناس، وحرض على معرفة قدره، فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي لقد أعطيناكم هذا القرآن العظيم(17/20)
المشتمل على دستور الحياة الإنسانية الفاضلة، فيه شرفكم وصيتكم وسمعتكم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] أو فيه عظتكم وتذكيركم بمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم، والأخذ بأيديكم إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون أمركم، وتقدرون هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، وتتفكرون بما اشتمل عليه هذا القرآن من العظات والعبر، فتأخذوا بما فيه، وتتجنبوا ما حذره وما نهى عنه.
وفي هذا حث شديد على تدبر أحكام القرآن وتعقل ما جاء فيه من أمور الدنيا والدين والحياة.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على ما يأتي:
1- الأنبياء والرسل من جنس البشر، وليسوا من الملائكة، ليسهل الأخذ عنهم، ومناقشتهم وتفهم الموحى به إليهم، فقد ثبت بالتواتر والاستقراء والتتبع أن الرسل كانوا من البشر.
2- إن سؤال أهل العلم واجب، وعلى العامة تقليد العلماء، وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن الأعمى لا بدّ له من تقليد غيره ممن يثق به في الاتجاه إلى القبلة إذا أشكلت عليه، وكذلك كل من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به، لا بد له من تقليد أحد العلماء. ولا يجوز للعامة الفتيا في الدين، للجهل بالمعاني التي يرتكز عليها التحليل والتحريم.
3- لم يجعل الله تعالى الرسل بصفات منافية لطباع البشر، لا يحتاجون إلى طعام وشراب، بل هم كغيرهم من البشر يأكلون الطعام، ويشربون الماء، ويمشون في الأسواق، ويتعاطون شؤون الحياة والمكاسب المتعددة.(17/21)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
4- يصون الله تعالى حياة الأنبياء ويعصمهم من الناس، وينجز لهم وعده بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم، وينجي معهم المؤمنين المصدقين برسالاتهم، ويهلك الله المشركين المكذبين لهم.
5- إن القرآن الكريم سبب لرفعة شأن العرب لأنه نزل بلغتهم، وفيه أحكام الشرع، وبيان مصير الناس في الآخرة، وما يلقونه من ثواب وعقاب.
وهو أيضا عظة وعبرة، يرغب ويبشر، ويحذر وينفر، ويأمر وينهى، ويرشد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويوضح ما فيه سعادة الدارين، ويرشد البشرية كافة إلى اتباع النظام الأصلح.
6- يحث القرآن الكريم دائما على تدبر ما جاء فيه من أحكام، وتفهم ما تضمنه من نظام سديد في الدين والدنيا والآخرة.
الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 20]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)(17/22)
الإعراب:
فَما زالَتْ تِلْكَ تِلْكَ مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا، وكذلك دَعْواهُمْ.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ.. مَنْ: مبتدأ، وَلَهُ: خبره. وذهب الأخفش إلى أنه في موضع رفع بالظرف.
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ.. مبتدأ وخبر، وليس معطوفا على مَنْ فِي السَّماواتِ.
فإن جعل معطوفا كان قوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ في موضع الحال، أي غير مستكبرين، وكذلك لا يَسْتَحْسِرُونَ أي غير مستحسرين.
البلاغة:
حَصِيداً خامِدِينَ تشبيه بليغ، أي جعلناهم كالزرع المحصود، وكالنار الخامدة.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ في قوله: نَقْذِفُ استعارة تمثيلية، شبّه الحق بشيء صلب جامد، والباطل بشيء رخو، وأستعير لفظ القذف لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل، كما يرمي الإنسان شيئا فيتلفه.
المفردات اللغوية:
وَكَمْ خبرية تفيد كثرة وقوع ما بعدها، فهي صيغة تكثير قَصَمْنا أهلكنا وأصل القصم: كسر بتفريق الأجزاء وإبانة تلاؤمها، وهو يدل على غضب عظيم. أما الفصم فلا يدل على تفريق الأجزاء، فهو كسر من غير إبانة مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً كافرة، وهي صفة لأهلها، ووصف بها القرية لأنها أقيمت مقام أهلها وَأَنْشَأْنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ مكانهم.
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس، والضمير عائد لأهل القرية المحذوف، أي شعر أهل القرية بالإهلاك. والإحساس: الإدراك بالحاسة، وهو هنا الإدراك بحاسة البصر، والبأس: الشدة يَرْكُضُونَ يهربون مسرعين، والركض: الفرار والهرب بسرعة،(17/23)
وأصله: ضرب الدابة وكدّها بالرجل، ومنه قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص 38/ 42] .
أُتْرِفْتُمْ أي نعمتم، والإتراف: التنعم والتلذذ، أو إبطار النعمة. وَمَساكِنِكُمْ التي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أي لتسألوا غدا عن أعمالكم أو تعذبون، فإن السؤال من مقدمات العذاب يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه ظالِمِينَ بالكفر فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمات دَعْواهُمْ أي دعوتهم التي يردّدونها، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة حَصِيداً محصودين، كما يحصد الزرع بالمناجل، بأن قتلوا بالسيف خامِدِينَ ميتين، كخمود النار إذا طفئت.
لاعِبِينَ عابثين، بل دالين على قدرتنا ومرشدين عبادنا لَهْواً ما يلهى به من زوجة أو ولد. والفرق بين اللعب واللهو: أن الأول لا يقصد به هدف صحيح، والثاني يقصد به الترويح عن النفس مِنْ لَدُنَّا من عندنا من الحور العين والملائكة إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ذلك، لكنا لم نفعله فلم نرده.
نَقْذِفُ نرمي رميا بعيدا بِالْحَقِّ الإيمان عَلَى الْباطِلِ الكفر فَيَدْمَغُهُ يذهبه ويقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو، وإصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ذاهب وهالك وزائل وَلَكُمُ يا كفار مكة الْوَيْلُ العذاب الشديد مِمَّا تَصِفُونَ الله به من الزوجة أو الولد.
وَلَهُ لله تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لا يتعظمون وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يكلون ولا يعيون ولا يتعبون يُسَبِّحُونَ ينزهونه ويعظمونه دائما لا يَفْتُرُونَ لا يضعفون.
المناسبة:
هذه الآيات مبالغة في زجر الكفار عن عصيانهم وكفرهم، فبعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك المسرفين في تكذيبهم وكفرهم بالله، ونصر الأنبياء المرسلين عليهم، وأسقط اعتراضاتهم التي أظهرت إعجاز القرآن، وأوضحت أن إيراد تلك الاعتراضات كان لحب الدنيا وحب الرياسة فيها، بالغ تعالى في زجرهم عن ذلك، فقال:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أي كثيرا ما أهلكنا من أهل القرى الذين كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب(17/24)
الرسل، وأوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم قوما آخرين مكانهم، كما قال تعالى في آية أخرى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء 17/ 17] وقال تعالى:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج 22/ 45] .
والمراد بالقرية: مدائن كانت باليمن، وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور، وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له: ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين لأن قصة «حضور» قبل زمن عيسى عليه السلام، وبعد مئات من السنين من زمن سليمان عليه السلام، لكنهم قتلوا نبيهم، وكانت «حضور» بأرض الحجاز من ناحية الشام «1» .
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، كما وعدهم نبيهم، إذا هم يفرون هاربين منهزمين من قريتهم، لما أدركتهم مقدمة العذاب.
لا تَرْكُضُوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ... أي يقال لهم تهكما واستهزاء:
لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم والسرور، والمعيشة الرغيدة، والمساكن الطيبة، لعلكم تسألون عما كنتم فيه، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو يسألكم الناس: لماذا نزل هذا العذاب؟! وقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ، فأجابوا:
قالُوا: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إنهم اعترفوا بذنوبهم حين
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 274(17/25)
لا ينفعهم ذلك، فقالوا: يا هلاكنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بربنا. وهذا اعتراف صريح منهم بالكفر الموجب للعذاب.
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ أي فما زالوا يرددون تلك المقالة، وهي الاعتراف بالظلم، حتى حصدناهم حصدا، وخمدت حركاتهم، وسكنت أصواتهم خمودا كالنار التي أصبحت خامدة لا حياة فيها.
فقوله: تِلْكَ إشارة إلى قولهم: يا وَيْلَنا.. إلخ لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم. والدعوى هنا بمعنى الدعوة أي المطلب، قال تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس 10/ 10] وسميت دعوى لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا: يا وَيْلَنا والمولول كأنه يدعو الويل، فيقول: تعال يا ويل، فهذا وقتك. والحصيد: الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، تشبيها لهم به في استئصالهم، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي مثل الرماد، فهم يشبهون الحصيد والخمود.
وعقابهم هذا حق وعدل جزاء إنكار هم النبوة، وجعلهم معجزات النبي عبثا ولعبا، لذا أبان تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالعدل فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي وما أوجدنا السموات والأرضين إلا بالحق، أي بالعدل والقسط، لا للهو واللعب، فإنا خلقناها لفائدة دينية هي أن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ولمنافع أخرى دنيوية وغيرها، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولعبا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص 38/ 27] ثم أكد تعالى نفي اللعب فقال:(17/26)
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ أي لو شئنا أن نتخذ ما يلهو كما يتخذ العباد من الزوج والولد، لاتخذناه مما لدينا من الملائكة والحور العين، إن كنا نقصد اللهو ونفعل اللعب. واللهو: المرأة بلسان أهل اليمن، والولد أيضا لأنه ملازم للمرأة.
وهو كقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر 39/ 4] . وهذا رد على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله تعالى.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي بل إننا نبين الحق، فيدحض الباطل ويزيله، فإذا هو زائل مبدّد، ذاهب مضمحل.
وبَلْ هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، فليس من صفاتنا وحكمتنا اللعب، وإنما تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، بل من عادتنا تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق.
وقد استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة التي ترسخ في الأذهان، وتدل على قوة الحق، وضعف الباطل، حتى لكأنه غير موجود.
وإذا كان هذا من شأننا فكيف لا نبين الحق وننذر الناس، وإلا كنا لاهين لاعبين. فقوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ معناه: ما كنا فاعلين، مثل إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر 35/ 23] أي ما أنت إلا نذير. وأَنْ بمعنى الجحد، وقيل:
إنها بمعنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد.
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي ولكم أيها القائلون: لله ولد، أو أيها(17/27)
المشركون الظالمون الهلاك والدمار والعذاب الشديد لوصفكم ربكم بما ليس من صفته، وتقولكم وافترائكم عليه أنه اتخذ صاحبة أو زوجة، وولدا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وكيف يكون لله شريك خاص، وهو مالك جميع من في السموات والأرض، وكيف تتنكرون لطاعته، وله تعالى جميع المخلوقات ملكا وخلقا وعبيدا؟! الكل ومنهم الملائكة طائعون خاضعون له، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا، لذا قال:
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي وجميع من عنده من الملائكة لا يترفعون عن عبادته، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون.
والعندية هنا ليست مكانية، وإنما هي عندية مكانة وتشريف. وتخصيص الملائكة بالذكر هنا لإبانة رفعة شأنهم.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لا يَفْتُرُونَ أي يعبدون الله وينزهونه في الليل والنهار، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه، لا ينقطعون عن الطاعة ولا يفترون ساعة عنها، كما قال تعالى:
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الإنذار الشديد الأكيد لأهل الكفر والعصيان الذين أنكروا النبوات بحال أهل القرى الظالمة الكافرة، حيث دمرها الله تعالى تدميرا شديدا بمن فيها، لظلمهم، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.
2- عند دنوّ العذاب تقع الحيرة والاضطراب، وتحدث محاولات الفرار من(17/28)
القرية، فيركض أهلها هاربين منها، والركض: العدو بشدة الوطء، فتناديهم الملائكة استهزاء: لا تركضوا ولا تفرّوا، وارجعوا إلى مواطن الترف والنعم التي كانت سبب بطركم، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم.
ولما قالت لهم الملائكة: لا تَرْكُضُوا ونادت: يا لثارات الأنباء! ولم يروا شخصا يكلمهم، عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم، بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وهذا اعتراف منهم بأنهم ظلموا، حين لا ينفع الاعتراف.
وما زالوا يقولون: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ حتى أصبحوا أثرا بعد عين، وجثثا هامدة لا حراك فيها، وتم استئصالهم، وحصدوا بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، وصاروا خامدين ميتين.
3- لما بيّن الله تعالى إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم، أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه، ومجازاة على ما فعلوا، وهو خلق السموات والأرض بالعدل والقسط: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان 44/ 39] فهو تعالى خلقها لفوائد دينية ودنيوية، أما الدينية: فليتفكر المتفكرون فيها، كما قال تعالى:
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران 3/ 191] وأما الدنيوية: فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعدّ ولا تحصى.
وبما أن خلق السموات والأرض حق لا لعب فيه، فإن المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلّى الله عليه وسلم هي حق أيضا لا لعب فيها، تقرر صحة نبوته، وترد على منكريها.
4- إن خلق السموات والأرض للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء والمحسن، وليس خلقها ليظلم بعض الناس بعضا،(17/29)
ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا ولا يجازوا، فذلك هو اللعب بعينه.
5- تعالى الله وتقدس وتنزه عن اتخاذ الزوجة والولد، فذلك من اللهو، ولو أراد الله أن يتخذ لهوا من زوجة أو ولد لاتخذه من عنده لا من عند الناس.
وهذا رد واضح على من قال: المسيح أو عزير ابن الله، والأصنام أو الملائكة بنات الله تعالى.
6- يبين الله تعالى الحق ومنهجه لدحر الباطل وزخارفه، والحق هنا:
القرآن، والباطل: الشيطان وكذب الكفار ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وللكفار الويل، أي العذاب في الآخرة بسبب وصفهم الرب بما لا يجوز وصفه وهو اتخاذه سبحانه الولد.
7- إذا كان كل من في السموات والأرض لله خلقا وملكا، فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه؟! وأما الملائكة الذين ذكر المشركون أنهم بنات الله فلا يأنفون عن عبادة الله والتذلل له، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون، وهم دائما في الليل والنهار يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما، لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النّفس. سئل كعب عن تسبيح الملائكة: أما لهم شغل عن التسبيح، أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: يا بان أخي، هل يشغلك شيء عن النّفس؟ إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم «1» .
وهذا دليل على استغناء الله تعالى عن طاعة الكفار لأنه هو المالك لجميع
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 278 [.....](17/30)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
المخلوقات، وإنما فائدة الطاعة تعود على الطائعين أنفسهم، فأجدر بهم أن يطيعوه، وأولى بهم أن يعبدوه، بل يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه لأن كل المكلفين في السماء والأرض عبيده، وهو الخالق لهم، والمنعم عليهم بأصناف النعم.
توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 29]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
الإعراب:
مِنَ الْأَرْضِ صفة لآلهة، أو متعلقة بالفعل، على معنى الابتداء، وفائدتها التحقير لا التخصيص.(17/31)
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ: إِلَّا: في موضع (غير) وهي وصف ل آلِهَةٌ وتقديره: غير الله، ولهذا أعربت إعراب الاسم الواقع بعد إِلَّا وهو الرفع. ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل لأن البدل إنما يكون في النفي لا في الإثبات، وهذا في حكم الإثبات. وذهب الفراء إلى أن إِلَّا بمعنى «سوى» .
ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ذكر غير منون: مضاف إلى مِنْ الذي هو مضاف إليه. ويقرأ بتنوين على تقدير محذوف، أي ذكر ذكر من معي.
لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ منصوب بيعلمون. وقرأ الحسن الْحَقَّ بالرفع بتقدير مبتدأ محذوف، أي هو الحق.
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عِبادٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: بل هم عباد مكرمون.
وأجاز الفراء: بل عبادا مكرمين على تقدير: بل خلقهم عبادا مكرمين.
البلاغة:
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ طباق السلب.
قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ تبكيت للخصم.
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ فيهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَمِ اتَّخَذُوا أي بل اتخذوا، للانتقال، والهمزة لإنكار اتخاذهم آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ أي آلهة كائنة من الأرض، كحجر وذهب وفضة هُمْ يُنْشِرُونَ أي الآلهة يحيون الموتى من قبورهم، من أنشره: أي أحياه؟ لا، فلا يكون إلها إلا من يحيي الموتى، فالنشر: إحياء الموتى من قبورهم، والحشر: سوقهم إلى أرض المحشر.
لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض إِلَّا اللَّهُ غيره لَفَسَدَتا لبطلتا وخربتا وخرجتا عن نظامهما المشاهد لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع، على وفق العادة، فإنه عند تعدد الحاكم والاتفاق في المراد، يحدث التنافر في القدرات، إذ بأي قدرة لهما سيوجد؟! وعند الاختلاف يحدث التمانع في الشيء وعدم وجوده، مثلا لو اختلفا في تحريك زيد وتسكينه، فلا يمكن حدوث المرادين لاستحالة الجمع بين الضدين، ولا يمكن حدوث أحد المرادين لمعارضة الآخر، وإذا حدث كان أحد الإلهين قادرا والآخر عاجزا، والعجز نقص، وهو على الله محال.(17/32)
فَسُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله عما وصفوه به رَبِّ الْعَرْشِ خالق الكرسي عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها لله عما يصف الكفار الله به من الشريك له، وغير ذلك.
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية وَهُمْ يُسْئَلُونَ عن أفعالهم لأنهم مملوكون مستعبدون، والضمير للآلهة المزعومة أو للعباد.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل اتخذوا من دون الله تعالى أي سواه آلهة، وفيه استفهام توبيخ، وكرره استعظاما لكفرهم، وتبكيتا، وإظهارا لجهلهم، والمعنى: أوجدوا آلهة ينشرون الموتى، فاتخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم، فاتخذوهم تنفيذا للأمر، ثم أبان فساد الأول عقلا، والثاني نقلا، فقال:
قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أحضروا برهانكم على ذلك من العقل أو النقل، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه.
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي هذا هو القرآن المنزل على من معي أي على أمتي أي عظة لهم وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي والكتب السماوية المنزلة على الأمم قبلي وهي عظة لهم، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، ليس في واحد منها أن مع الله إلها، مما قالوا. وإنما فيها الأمر بالتوحيد، والنهي عن الإشراك. وإضافة الذكر إليهم لأنه عظتهم.
لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي توحيد الله، ولا يميزون بين الحق والباطل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك، وعن النظر الموصل إليه.
فَاعْبُدُونِ أي وحدوني وَلَداً من الملائكة سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي بل هم عِبادٌ مخلوقون، عنده مُكْرَمُونَ: مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، فليسوا بأولاد.
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون حتى يأمرهم، ولا يأتون بقولهم إلا بعد قوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون قط ما لم يأمرهم به، ويعملون بعد أمره يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، وهو كالعلة لما قبله، والتمهيد لما بعده، وبذلك يضبطون أنفسهم، ويراقبون أحوالهم. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أن يشفع له، مهابة منه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي من عظمته ومهابته تعالى مُشْفِقُونَ خائفون مرتعدون.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة أو من الخلائق إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي غير الله وهو إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ هذا تهديد للمشركين بتهديد مدعي الربوبية كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المشركين أي من أظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.(17/33)
المناسبة:
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات، وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد، ونفي الشريك.
التفسير والبيان:
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ أي بل اتخذ المشركون آلهة من الأرض من دون الله يحيون الموتى من قبورهم، أي لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! قال الزمخشري: وأَمِ هنا- أي مع الاستفهام- هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» الإضرابية، والهمزة قد آذنت بالإضراب عما قبلها، والإنكار لما بعدها، وهو اتخاذهم آلهة ينشرون الموتى.
والمراد بالآية التذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم، فإن المشركين وإن لم يصرحوا بذلك، فإنهم بادعائهم الألوهية لها يثبتون تلك الصفة لها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض. وهذا تهكم بهم وتوبيخ وتجهيل لهم.
ثم أثبت الله تعالى التوحيد ونفي وجود إله غير الله، فقال:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أي لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامها لأنهما إذا اختلفا وقع الاضطراب والخلل والفساد، وإن اتفقا في التصرف في الكون، فلا داعي للتعدد لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدور من خالقين قادرين على مخلوق واحد، وهذا محال لأنه يجعل وقوع المقدور والمراد للاثنين، لا لواحد منهما، وهذا لا يصح لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين.
وبناء عليه يكون جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل وحدانية الله تعالى، لذا قال:(17/34)
فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله تعالى وتقدس عن الذي يفترون ويقولون: إن له ولدا أو شريكا، وتعالى عما يأفكون علوا كبيرا، فهو رب العرش المحيط بهذا الكون.
ونظير الآية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون 23/ 91] .
وتأكيدا لهذا التنزيه قال تعالى:
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي لا يسأل تعالى عن أفعاله، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم، ما عملوا وما سيعملون، وهذا كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] وقوله سبحانه: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون 23/ 88] .
ثم كرر تعالى الإنكار على المشركين استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة دون الله، ويصفوا الله بأن له شريكا؟ فإن وصفتم الله تعالى بأن له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك، إما من العقل وإما من الوحي، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل إلا وفيه تقرير توحيد الله وتنزيهه عن الشركاء، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين، وأشار فيما يأتي إلى الدليل النقلي فقال:
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي هذا الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، ورد علي، كما ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر(17/35)
أي عظة للذين معي أي أمتي، وعظة للذين من قبلي أي أمم الأنبياء السابقين عليهم السلام. وبذلك اتفق القرآن وجميع الكتب السماوية السابقة على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وهذا تبكيت للمشركين يتضمن نقيض مدّعاهم.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق، ويعرضون عنه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع فيهم الأدلة والبراهين.
فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم هو أصل الشر والفساد كله، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
وتأكيدا لمضمون الكتب والرسالات السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك قال:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.. أي لم نرسل رسولا سابقا من عهد آدم عليه السلام إلى قومه إلا أوحينا إليه ألا معبود إلا الله، فاعبدوه مخلصين له العبادة، وخصوه بالألوهية، فرسالات جميع الأنبياء قائمة على التوحيد، وكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ونظير الآية قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف 43/ 45] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] .
والخلاصة: أنه لا دليل للمشركين على ما زعموا، فلا برهان لهم، وحجتهم داحضة لأن الفطرة تشهد بتوحيد الله، وكذلك العقل السليم، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد.
وبعد التنزيه عن الشريك، نفى تعالى اتخاذ الولد فقال:(17/36)
وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي وقال بعض العرب وهم بطون من خزاعة وجهينة وبني سلمة: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم بقوله:
سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن الولد، فإن الولد يشبه أباه في شيء، ويخالفه في أشياء، فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، وخالفه من وجوه أخرى، فيقع التركيب في ذات الله تعالى، والله سبحانه منزه عن مشابهة الحوادث، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق.
ولما نزه سبحانه نفسه عن الولد، أخبر عن الملائكة بقوله:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي ليس الملائكة بنات الله، بل هم عباد مخلوقون له، مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، إلا أنهم مفضلون على سائر العباد.
ومن خصائصهم أنهم:
1- لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى عالم محيط علمه بهم، فلا يخفى عليه منهم خافية، كما قال:
2- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما تقدم منهم من عمل، وما هم عاملون في المستقبل، أي كما أن قولهم تابع لقول الله، فعملهم أيضا مبني على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجميع ما يأتون ويذرون في علم الله واطلاعه، وهو مجازيهم عليه، فلا يزالون يراقبونه في جميع أحوالهم، ويضبطون أنفسهم عن أي مخالفة لأمره.
3- وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله، وأهّله للشفاعة، فلا تعلقوا الآمال على شفاعتهم بغير رضا الله تعالى.(17/37)
4- وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي إنهم مع هذا كله من خوف الله ورهبته خائفون حذرون مراقبون ربهم.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، ووصفهم بتلك الأفعال السنية، فاجأ من أشرك منهم بالوعيد الشديد، وأنذرهم بعذاب جهنم، فقال:
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ أي ومن يدّعي منهم على سبيل الافتراض أنه إله من دون الله، أي مع الله، كإبليس حيث ادعى الألوهية، ودعا إلى عبادة نفسه، فجزاؤه جهنم على ما ادّعى. وأما الملائكة فلم يقل أحد منهم: إني إله غير الله.
كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من ظلم نفسه، وقال ذلك، وهم المشركون. قال ابن كثير: وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف 43/ 81] . وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر 39/ 65] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة أخرى مع الله، وتوبيخ المشركين على اتخاذهم آلهة ليس لها خواص الألوهية، ومنها الإحياء بعد الإماتة وهو النشر.
2- إن تعدد الآلهة سبب مؤد لفساد نظام العالم والكون من السموات والأرض، وتخريبها وهلاك من فيهما بوقوع التنازع والاختلاف الواقع بين الشركاء عادة، لذا نزّه الله تعالى نفسه، وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.(17/38)
وقد استدل الرازي بأدلة أخرى عقلية ونقلية على وحدانية الله تعالى، وهي اثنان وعشرون دليلا، أربعة عشر منها عقلية، وثمانية نقلية سمعية، وأقوى الأدلة العقلية: أنه لو فرضنا وجود إلهين، لافتقر أحدهما إلى الآخر لأنه يصبح مركبا من ذاته ومما يشاركه به الآخر، وكل مركب هو مفتقر إلى جزئه، وكل مفتقر إلى غيره ممكن، والإله واجب الوجود لذاته غير ممكن لذاته، فإذن ليس واجب الوجود إلا الواحد، وكل ما عداه مفتقر إليه، وكل مفتقر إلى غيره فهو محدث، فكل ما سوى الله تعالى محدث.
ومن الأدلة النقلية هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وهو كقوله: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون 23/ 91] وقد صرح الله تعالى بكلمة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن، وصرح بالوحدانية في موضعين فقط، وهما قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة 2/ 163] وقوله: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1] «1» .
3- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أي لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه، وهو يسأل الخلق عن عملهم لأنهم عبيد. وهذا يدل على أن من يسأل غدا عن أعماله، كالمسيح والملائكة لا يصلح للألوهية، وعلى كون المكلفين مسئولون عن أفعالهم.
روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربّنا قهرا؟ قال- أي الرجل-: أرأيت إن منعني الهدى، ومنحني الردى أأحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله، فهو فضله يؤتيه من يشاء، ثم تلا: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 152- 154(17/39)
وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلّمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا ربّ؟ فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.
4- أعاد الله تعالى في الآيات التعجب من اتخاذ الآلهة من دون الله، مبالغة في التوبيخ، على وصفهم المتقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون أَمِ بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من دون الله؟ فليأتوا بالبرهان على ذلك.
وقيل: إن التعجب الأول: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ احتجاج من حيث المعقول لأنه قال: هُمْ يُنْشِرُونَ أي يحيون الموتى.
والثاني أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من الكتب السماوية، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟! 5- إن الجهل هو المصدر الأصيل في فساد عقائد المشركين: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.
6- جميع الرسل والأنبياء أوحى الله إليهم أنه لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. قال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد. أي إن دعوة الرسل جميعا جاءت لبيان التوحيد.
7- ردّ الله تعالى على بعض العرب الذين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله بتنزيه نفسه عن اتخاذ الولد، قيل: نزلت آية وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً(17/40)
سُبْحانَهُ
في خزاعة، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم.
وبعد التنزيه ذكر الله خمس صفات للملائكة تدل على العبودية ونفي الولادة وهي:
أ- المبالغة في طاعة الله، فهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بأمر الله، وهذه صفات العبيد، لا صفات الأولاد.
ب- إن الله تعالى يعلم أسرارهم، وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة، لا هم.
ج- إنهم لا يشفعون إلا بإذن الله ورضاه، ومن كان إلها لا يحتاج لإذن أحد.
د- إنهم أشد الخلق خوفا من الله، وذلك من صفات العبيد.
هـ- الملائكة وإن أكرموا بالعصمة، فهم كسائر المكلفين مسئولون موجه لهم الوعد والوعيد، فلا يتصور كونهم آلهة. وهذه الآية تدل على كون الملائكة مكلفين، وعلى أنهم معصومون، وعلى أنهم متوعدون.
8- كما يجزي الله تعالى بالنار كل من ادعى الشركة مع الله، ودعا إلى عبادة نفسه كإبليس، فكذلك يجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.(17/41)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبر آيات الكون الدالة على وجود الإله الواحد
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
الإعراب:
رَتْقاً قال ذلك، ولم يقل: رتقين لأنه مصدر، وتقديره: كانتا ذواتي رتق.
سُبُلًا بدل.
يَسْبَحُونَ أتى بالواو والنون، وهي إنما تكون لمن يعقل لأنه أخبر عنها بفعل من يعقل، فأجراها مجرى من يعقل، كقوله تعالى: أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وكُلٌّ: مبتدأ، وجملة: يَسْبَحُونَ: خبره، والجملة منهما حال من الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.
البلاغة:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام معناه التعجب والإنكار.
كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما بين الرتق والفتق طباق.
يَهْتَدُونَ، يَسْبَحُونَ بينهما سجع لطيف.(17/42)
كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ التنكير للتعميم.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ التفات من المتكلم إلى الغائب بعد قوله: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ للفت النظر إلى النعم الجليلة والاعتناء بها.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أولم يعلموا. رَتْقاً الرتق: السد والضم والالتحام، والمراد:
ذات رتق، أي ملتزقتين. والمعنى: كانتا شيئا واحدا، أو حقيقة متحدة. فَفَتَقْناهُما أي فصلناهما بالتنويع والتمييز، فجعلنا السماء سبعا والأرض سبعا. والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ أي وخلقنا من الماء كل حيوان سواء النازل من السماء والنابع من الأرض. كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء، لا يحيا دونه، سواء النبات وغيره، فالماء سبب لحياته. أَفَلا يُؤْمِنُونَ بتوحيدي، مع ظهور الآيات.
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت. أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تتحرك بهم، أو كراهة أن تميل بهم وتضطرب. وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي. فِجاجاً سُبُلًا أي مسالك وطرقا نافذة واسعة. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي ليهتدوا بها إلى مصالحهم ومقاصدهم في الأسفار والزراعة.
سَقْفاً مَحْفُوظاً أي سقفا للأرض، مثل سقف البيت، محفوظا من الوقوع بقدرته، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته. وَهُمْ عَنْ آياتِها أي عن أحوالها الدالة على وجود الله ووحدته وكمال قدرته وروعة حكمته، بما اشتملت عليه من الشمس والقمر والنجوم.
مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيها، فيعلمون أن خالقها لا شريك له.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بيان لبعض تلك الآيات. كُلٌّ فِي فَلَكٍ أي كل واحد منهما له مدار مستدير، والتنوين: بدل من المضاف إليه، أي كل من الشمس والقمر وتابعهما وهو النجوم. والمراد بالفلك: الجنس، وهو مدار الشمس والقمر والنجوم.
يَسْبَحُونَ يسيرون على سطح الفلك بسرعة، كالسابح في الماء، وللتشبيه به، وإنما جمع الفعل باعتبار جنس الطوالع المتكاثرة كل يوم وليلة، وهو سبب جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد. وعوملوا معاملة العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.
المناسبة:
بعد أن وبخ الله تعالى المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، والذين قالوا: اتخذ الله ولدا من الملائكة، وبخهم على عدم تدبر الآيات الكونية الدالة(17/43)
على وجود الله، وعلى التوحيد وتنزيهه من الشرك، وأنه لا يصح لعاقل عبادة الأصنام والأوثان لعجزها وعدم الجدوى من عبادتها.
التفسير والبيان:
أورد الله تعالى في هذه الآيات ستة أدلة تدل على وجود الإله الواحد القادر ذي القدرة التامة والسلطان العظيم في خلق الأشياء وقهر جميع المخلوقات، وهي ما يلي:
1- فتق السموات عن الأرض:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أي أو لم يعلم الجاحدون لألوهية الله، العابدون معه غيره أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه، ألم يعلموا أن السموات والأرض كانتا متصلتين ببعضهما، تلاصقت أجزاؤهما، وتراكم بعضها فوق بعض، ثم فصلناهما، وجعلنا بين السماء الدنيا والأرض طبقة من الهواء؟! وهذه هي نظرية السديم عند علماء الفلك الذين يثبتون أن الشمس والكواكب والأرض كانت قطعة واحدة، وأن الشمس كانت كرة نارية، وفي أثناء سيرها السريع انفصلت عنها أرضنا والكواكب السيارة الأخرى، وهي تسعة مرتبة بحسب قربها من الشمس: عطارد، والزّهرة، والأرض، والمرّيخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتوه. ولكل منها مدار بحسب تأثير الجاذبية، وهي تجري في الفلك، وهي تسعة أفلاك دون السموات المطبقة التي يعيش فيها الملائكة. والفلك: استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء، أو هو مجراها وسرعة سيرها.
وهذا السبق العلمي الذي أعلنه القرآن دليل واضح قاطع على أن القرآن(17/44)
كلام الله ووحيه المنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي يستحيل أن يكون عالما بمثل ذلك لولا الوحي الإلهي.
2- جعل الماء أساس الحياة:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي وخلقنا من الماء كل حيوان، أي فيه حياة، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور 24/ 45] فكل حيوان من النطفة التي هي ماء، ولا ينبت النبات إلا بالماء.
وهذا موافق لما يراه بعض العلماء: أن كل حيوان خلق أولا في البحر، ثم انتقل بعض الحيوان إلى البر، وتطبع بطباع البر مع مرور الزمن.
أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي ألا يتدبرون هذه الأدلة، وهم يشاهدون عيانا حدوث المخلوقات شيئا فشيئا، فيؤمنون بالخالق، ويتركون منهج الشرك؟!
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
3- جعل الجبال رواسي الأرض:
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي وخلقنا في الأرض جبالا لإرساء الأرض بها وتثبيتها، لئلا تضطرب بالناس وتتحرك، فلا يحصل لهم قرار عليها، والرواسي: الجبال، والراسي: هو الداخل في الأرض.
والأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وقد أثبت العلماء أن الأرض كانت نارا ملتهبة، ثم بردت قشرتها، وصارت صوّانية صلبة، وذلك منذ حوالي ثلاث مائة مليون سنة بل حوالي خمسة مليارات سنة كما يرى المعاصرون. ويؤكد ذلك وجود حمم النيران التي تخرجها البراكين. ونسبة الجبال إلى الأرض هي بنسبة مليمتر ونصف من المتر.
وهذا دليل ثالث على أن القرآن وحي من عند الله، لا من عند بشر.(17/45)
4- إيجاد الطرق مسالك بين الجبال:
وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي وخلقنا في الأرض بين الجبال طرقا واسعة نافذة، يسلكها الناس بسهولة من مكان إلى آخر، أو من قطر أو إقليم إلى آخر، ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ومصالحهم المعيشية في البلاد، وقيل: ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال. والفج: الطريق الواسع، والسبيل: الطريق السالك. وقدمت الفجاج وهي صفة على السبل، ولم تؤخر، كما في قوله تعالى: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح 71/ 20] لتجعل حالا، والفرق من جهة المعنى أن قوله: سُبُلًا فِجاجاً إعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة، وأما قوله: فِجاجاً سُبُلًا فهو إعلام بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ معناه: لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.
والضمير في قوله: فِيها عائد إلى الجبال، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجا سبلا، أي طرقا واسعة، وقيل: إنه عائد إلى الأرض، أي وجعلنا في الأرض فجاجا وهي المسالك والطرق.
- جعل السماء سقفا للأرض:
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي وجعلنا السماء كالسقف على الأرض وكالقبة عليها، وذلك السقف محفوظ من الوقوع والاضطراب، ومن الشياطين التي تسترق السمع، كما قال تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج 22/ 65] وقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر 35/ 41] . وحفظها من الشياطين إما بالملائكة وإما بالنجوم.(17/46)
وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أي لا يتفكر المشركون وغيرهم فيما خلق الله في السموات من الأدلة والعبر الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته، من الشمس والقمر وسائر الكواكب الثابتة والسيارة، ليتعاقب الليل والنهار، وتظهر المنافع بالحر والبرد، وللإرشاد إلى الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة. وذلك كقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف 12/ 105] .
6- خلق الليل والنهار والشمس والقمر:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي والله خلق الليل والنهار، نعمة منه، ودليلا على عظمة سلطانه، بواسطة دوران الأرض حول نفسها، لتتحقق الفائدة المرجوة من كليهما بالظلام والسكون، والضياء والأنس، والتفاوت في الطول والقصر أو التساوي بينهما في مدار السنة، وخلق أيضا الشمس والقمر، للإضاءة وإمداد الأحياء بحرارة الشمس، وإفادة بعض المزروعات والثمار بضوء القمر، وكل من الشمس والقمر والنجوم والأرض يدور في فلكه، دوران المغزل في الفلكة، فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك الشمس والقمر والنجوم لا تدور إلا بالفلك، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام 6/ 96] .
وقوله: يَسْبَحُونَ بالجمع يشمل النجوم، فهي وإن لم تكن مذكورة نصا فهي مذكورة ضمنا.
ودوران الشمس والقمر والأرض في الفضاء اللانهائي يثبته أيضا العلم الحديث، مما يدل على أن هذا القرآن معجز للأبد، دال على كونه وحيا صادرا منه، وأنه النعمة الكبرى لبني الإنسان.(17/47)
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات كما لاحظنا تتضمن أدلة كافية على وجود الإله الصانع الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، وهي أدلة تثير الإعجاب، وتوحي باتصاف الموجد الخالق بالقدرة التامة، والسلطان العظيم.
وقد عرفنا أنها أدلة ستة هي:
أولا- فتق السموات عن الأرض، وجعل طبيعة خاصة لكل منهما، فالأرض بهوائها ومائها تتناسب مع وجود الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، ومع ما يتطلبه الاستقرار والثبات عليها، والسموات تتلاءم مع وجود المجرّات والكواكب والنجوم والشمس والقمر، لنشر الحرارة، وإلقاء الضوء، والسموات سبع، وكذا الأرض سبع.
وثانيا- جعل الماء سببا للحياة، فالله تعالى خلق كل شيء من الماء، وحفظ حياة كل شيء بالماء، وأوجد الإنسان من ماء الصلب.
روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي، وقرّت عيني، أنبئني عن كل شيء قال: «كل شيء خلق من الماء» .
وما أروع لفت النظر بعد هذه الآية حين قال تعالى: أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكوّن كوّنه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكوّن محدثا، بل لا بدّ من أن يكون أزليا قديما لأن صفة الألوهية تقتضي عقلا عدم المشابهة للحوادث.
وثالثا- خلق الله الجبال رواسي أي جبالا ثوابت، لتكون مثبتة للأرض، حتى لا تتحرك بمن عليها، وليتم القرار والاطمئنان عليها، أو كراهية أن تميد، والميد: التحرك والدوران.(17/48)
ورابعا- أوجد الله في الأرض وبين هامات الجبال مسالك وطرقا واسعة، لتكون منافذ يسهل على الناس اختراقها وتجاوزها من مكان لآخر، ومن قطر إلى قطر أو إقليم إلى إقليم. والفجاج جمع فجّ: وهو الطريق الواسع بين الجبلين، ثم فسر تلك الفجاج بالسبل، أي الطرق النافذة السالكة لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا، وقد لا يكون، ووجود الطرقات للاهتداء بها إلى السير في الأرض نعمة عظمي، وندرك هذه النعمة إذا لاحظنا ما تنفقه الدولة الحديثة من النفقات الباهظة على تعبيد الطرق وشقها، لربط الأقاليم والأمصار وأجزاء البلاد بشبكة من الطرق، تسهل الانتقال بينها والاتصال معها.
وخامسا- جعل السماء سقفا للأرض، محفوظا من الوقوع والسقوط على الأرض، فلا تمكن الحياة في الأرض بدون هذا السقف، كما لا يمكن العيش في بيت أو دار بدون سقف، ولأن حفظ طبقة الهواء بهذا السقف أمر ضروري محتم لحياة الإنسان، كما أن الحفاظ على هذا السقف من التداعي والسقوط على الأرض أمر أساسي لصون الحياة الإنسانية، ومنع الضرر عن الناس، فإذا سقط على الناس بعض الكتل النارية أو الأجرام السماوية، كان الدمار والهلاك الجزئي، فكيف إذا سقطت السماء كلها؟! ومما يدعو إلى الأسف والعجب أن الكفار معرضون عن آيات السماء من الشمس والقمر والنجوم وغيرها. وقد أضاف الله تعالى الآيات في قوله: وَهُمْ عَنْ آياتِها ... إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وفي مواضع أخرى أضاف تعالى الآيات إلى نفسه لأنه الفاعل لها.
وهذا دليل على أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى إذ لو نظروا واعتبروا، لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا، فيستحيل أن يكون له شريك.(17/49)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
وسادسا- خلق الليل والنهار، وهذا تذكير بنعمة أخرى على الناس، فالله جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه وينطلقوا لمعايشهم، وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، لتعلم الشهور والسنون والحساب، وكل من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة في فلك خاص، كالسابح في الماء.
موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 41]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
الإعراب:
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ حقّ همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف الشرط كما هنا: أن(17/50)
تكون رتبتها قبل جواب الشرط. وفي هذه الآية دليل على أنّ إن إذا دخلت عليها همزة الاستفهام، لا تبطل عملها، كقولك: إن تأتني آتك لدخول الفاء في فهم وفاء فَهُمُ لتعلق الشرط بما قبله، والهمزة لإنكاره، بعد ما تقرر ذلك.
فِتْنَةً مفعول لأجله.
أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فيه محذوف تقديره: قائلين: أهذا الذي يذكر آلهتكم، وهو في موضع الحال، وحذف القول كثير في كلامهم.
وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الجملة في موضع الحال، أي يتخذونك هزوا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية، وهي الكفر بالله تعالى.
البلاغة:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ التنكير للتعميم.
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً يوجد طباق بين الشر والخير.
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مبالغة في وصف الإنسان، جعل لفرط استعجاله، كأنه مخلوق من العجل نفسه، كقول العرب لمن لازم اللعب: هو من لعب.
الْخالِدُونَ كافِرُونَ تَسْتَعْجِلُونِ يُنْصَرُونَ يُنْظَرُونَ يَسْتَهْزِؤُنَ بينها سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
الْخُلْدَ الخلود والبقاء في الدنيا. فَهُمُ الْخالِدُونَ في الدنيا؟ لا، وهذه الجملة محل الاستفهام الإنكاري. ذائِقَةُ الْمَوْتِ في الدنيا، والذوق هنا: الإدراك، والمراد من الموت:
مقدماته من الآلام الشديدة، والمدرك: هي النفس المفارقة للبدن. وجملة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ برهان على ما أنكره من الخلود للنفوس في الدنيا. وَنَبْلُوكُمْ نختبركم أي نعاملكم معاملة المختبر. بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ بالبلايا والنعم، أو المحبوب والمكروه، كفقر وغنى، وسقم وصحة، وذلّ وعزّ. فِتْنَةً أي ابتلاء، وهو مصدر من غير لفظ الفعل المتقدم، أي لننظر: أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم حسبما يوجد منكم من الصبر والشكر. وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء.
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به، مسخورا منه. أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟ أي يقولون: أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي إذا ذكر الإله(17/51)
الرحمن الواحد. هُمْ الثانية تأكيد كفرهم. كافِرُونَ به، إذ قالوا: ما نعرفه، أي لا يصدقون به أصلا، فهم أحق منك بأن يتخذوا هزوا، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل: معنى بذكر الرحمن: قولهم ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة. وقيل: بذكر الرحمن: معناه بما أنزل عليك من القرآن.
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي أنه لكثرة عجله في أحواله، كأنه خلق منه، ومن عجلته:
مبادرته إلى الكفر. سَأُرِيكُمْ آياتِي أي مواعيدي بالعذاب، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عذاب النار. فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فيه أو بالإتيان به.
مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ أي بالقيامة. صادِقِينَ فيه، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.
لا يَكُفُّونَ يدفعون. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون منها في القيامة. وجواب لَوْ: ما قالوا ذلك. بَلْ تَأْتِيهِمْ القيامة أو النار. بَغْتَةً فجأة. فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم، أو تغلبهم.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فَحاقَ نزل أو أحاط.
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب، وهو وعد للنبي صلّى الله عليه وسلم بأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا أي جزاءه.
سبب النزول:
نزول الآية (34) :
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ.. نزلت هذه الآية، لما قال الكفار: إن محمدا سيموت، قائلين: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه، فقال: يا رب، فمن لأمتي؟ فنزلت: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية.
نزول الآية (36) :
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان،(17/52)
وقال: أتنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل، فوقع به، وخوّفه، وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة، فنزلت الآية: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً.
نزول الآية (37) :
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ نزلت هذه الآية في استعجالهم العذاب، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى أدلة ستة على وجود الخالق المتصف بالوحدانية، أبان أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق جميعا إلى الله تعالى للحساب والجزاء، ثم ذكر أن مجيء القيامة أو العذاب بالنار آت بغتة لا محالة، فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
التفسير والبيان:
ينفي الحق تعالى الخلود في الدنيا لأحد من المخلوقات، فيقول:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي قضى الله تعالى ألا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت يا محمد ولا أحد ممن سبقك أو عصاك أو يأتي بعدك إلا عرضة للموت، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك.(17/53)
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ أي هل إذا متّ أنت أيبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا، بل الكل ميتون، فلا يؤملون أن يعيشوا بعدك.
وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا.
ونظير الآية قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 26- 27] .
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد مات، فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية.
واستدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن لأنه بشر، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا.
وتأكيدا لبيان موت جميع البشر، قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت قبل مفارقتها الجسد،
جاء في الحديث: «إن للموت لسكرات» «1»
فلا يفرح أحد بموت أحد، ولا يشمت أو يتشفى لوفاته، فالكل متجرع كأس المنون. والذوق هنا: مجاز عن الإدراك. والمراد بالموت هنا: مقدماته من الآلام العظيمة.
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أي نبتليكم ونختبركم بالبلايا والنعم، أو بالمحبوب والمكروه، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، اختبارا وامتحانا، لنعلم أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وقوله فِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه
__________
(1)
روى ابن ماجه في معناه: «اللهم أعني على سكرات الموت» .(17/54)
والمراد من ذلك: أنا نعاملكم معاملة من يختبركم، لنعرف الصابر في الشدائد، والشاكر في الرخاء.
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلينا، أي إلى حكمنا ومحاسبتنا ومجازاتنا، فنجازيكم بأعمالكم. وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب.
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، والتكليف لا يكون إلا بعد البلوغ والعقل، فالآية دالة على حصول التكليف، والتكليف لا يقتصر بالمكلف على ما أمر به ونهي عنه، بل ابتلاه بأمرين:
أحدهما- ما سماه خيرا: وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور.
والثاني- ما سماه شرا: وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين.
وإنما سمي ذلك ابتلاء، والله عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار.
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي وإذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشباهه، ما كان همهم إلا السخرية منك، وما يتخذونك إلا مهزوءا به، فيستهزءون بك وينتقصونك، وكان جديرا بهم التفكير في سلوكك وأخلاقك، وفيما ينزل عليك من وحي فيه عظة وذكرى للعقلاء، وهم الذين حمى الله نبيهم منهم بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] .
وهم القائلون: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقولون تعجبا واستنكارا:
أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم(17/55)
وأنعم عليهم، وإليه مرجعهم، وهُمْ الثانية توكيد كفرهم أي فهم الكافرون، مبالغة في وصفهم بالكفر. والمراد أنهم كيف يعجبون منك ومن صنيعك بنبذ آلهتهم ووصفها بالسوء، وهم أشد عجبا، إذ يكفرون بالله، ويستهزئون برسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا، أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 41- 42] .
والخلاصة: أنهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت، ولا فعل أقبح من ذلك، فالهزء والذم يعود عليهم من حيث لا يشعرون، وهم أحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه.
وبالرغم من هذا فهم أناس حمقى طائشون متهورون يستعجلون بمجيء العذاب الذي تهددهم به يا محمد، فقال تعالى:
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجولا، أو فطر الإنسان على العجلة، والمراد نوع الإنسان، وقيل: إنه شخص معين، حتى لكأن التعجل جزء من تكوينه وفطرته، وسجيته وطبعه كما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا في الأمور [الإسراء 17/ 11] ، فاستعجل هؤلاء المشركون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، فالمراد بالآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول، أو الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها، ثم حكى الله تعالى قولهم:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنهم يستعجلون أيضا(17/56)
بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا، وكفرا وعنادا، واستبعادا لحدوثه، فيقولون على سبيل الاستهزاء للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين لجهلهم وغفلتهم: متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! فقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يا معشر المؤمنين.
أراد تعالى نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدّم أولا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم عن استبطاء الموعود به بقصد إنكار وقوعه وعدم تصوره أصلا، ثم بيّن مدى حماقتهم بهذا الطلب فقال:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ.. أي لو تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، لما استعجلوا، ولو علموا أحوال عذاب النار التي تحيط بهم من الأمام والخلف وجميع الجهات، وحين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فلا يستطيعون ردّ النار عن وجوههم، ولا دفعها عن ظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينصرهم ويمنعهم من العذاب وينقذهم منه كما قال تعالى: وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد 13/ 34] ، وجواب لَوْ محذوف، أي لو علموا وقت الوعيد، لما أصروا في البقاء على كفرهم، ولما استعجلوا هذا العذاب الشديد.
والعلم في قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ بمعنى المعرفة، فلا يقتضي مفعولا ثانيا، مثل لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال 8/ 60] .
وإنما خص الوجوه والظهور لأن شدة تأثرها بالعذاب أكثر.
ونظير الآية: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] ، وقوله أيضا: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] ، وقوله كذلك: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم 14/ 50] فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.(17/57)
ثم أبان الله تعالى كما هو المعتاد في قرآنه أن وقت مجيء العذاب مجهول فقال:
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي بل إن الساعة تأتيهم فجأة، فتحيرهم وتغلبهم، فلا يجدون حيلة لردها، ولا هم يمهلون ويؤجلون لتوبة أو معذرة، لفوات الوقت. وهذا تذكير بإمهاله إياهم، وإعطائهم فرصة واسعة للتذكر والإيمان، والعدول عن الكفر والضلال، فلا يمهلون بعد طول الإمهال.
والسبب في عدم العلم بمجيء الساعة هو جعل العبد أشد حذرا، وأقرب إلى تدارك الأخطاء، فلا يتكل ولا يتوانى لحين حدوث العذاب.
ورجوع الضمير المؤنث في قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً هو إلى النار، أو إلى الوعد لأنه في معنى النار، أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة (القيامة) .
ثم سلا رسوله صلّى الله عليه وسلم عن استهزائهم به وتكذيبهم له، فقال:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ.. أي إن لك في الأنبياء عليهم السلام أسوة، فقد استهزئ برسل كثيرين من قبلك، فنزل بالساخرين المستهزئين العذاب جزاء ما فعلوا، وسينزل أيضا بمن استهزأ بك العذاب والبلاء جزاء استهزائهم، كما حدث بأسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، ذلك العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا، وَأُوذُوا، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الإنعام 6/ 34] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لا خلود لأحد من المخلوقات في دار الدنيا، وكل من عليها فان، وكل(17/58)
نفس ذائقة الموت، فإن مات النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أفهم الخالدون إن مات؟! 2- الدنيا دار ابتلاء واختبار، والاختبار كما يكون بالشر يكون بالخير، فيختبر الناس بالشدة والرخاء، والحلال والحرام، وينظر كيف شكرهم وصبرهم، ثم يكون المرجع والمآل إلى الله تعالى للجزاء بالأعمال.
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، فتدل الآية على حصول التكليف، ولا يقتصر الابتلاء على المأمور به والمنهي عنه، وإنما يشمل ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، وما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، والعبد يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح والنعم، ويصبر في المحن.
3- العموم في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ من قبيل العموم المخصوص، فإنه تعالى نفس لقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة 5/ 116] مع أن الموت لا يجوز عليه، وكذا الجمادات لها نفوس، وهي لا تموت. والعام المخصوص حجة، فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء.
4- الكفار المستهزئون بالنبي صلّى الله عليه وسلم الذي يعيب اتخاذ الأصنام آلهة أحق وأجدر بالاستهزاء والسخرية لكفرهم بالإله الحق الخالق المنعم المتفضل على الناس بأصناف النعم الكثيرة.
5- ركّب الإنسان على العجلة، فخلق عجولا، وصار طبع الإنسان العجلة، ولكن في العجلة أحيانا حماقة وطيش وجهل وغفلة، كما في حال استعجال المشركين نزول العذاب الموعود.
6- إن مجيء الساعة أو وقت العذاب بالنار محقق، ولكنه يأتي فجأة، فلا يبقى مجال لتوبة واعتذار.(17/59)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
7- إن الاستهزاء بالرسل ديدن الكفار قديما وحديثا، فلا بد من الصبر، وسيلقى المستهزئون جزاء استهزائهم.
حراسة الله وحفظه للإنسان وعدل الحساب
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 47]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
الإعراب:
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ: خبر كانَ الناقصة، واسمها مضمر فيها، وتقديره: وإن كان الظلم مثقال حبة. وقرئ بالرفع على أن تجعل كانَ التامّة، فيكون مرفوعا على أنه فاعل.
البلاغة:
وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ استعارة، استعار الصمّ للكفار، لأنهم كالبهائم لا يسمعون النداء إلى الإيمان سماع تدبر وتفهم.(17/60)
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ كناية عن العمل القليل.
المفردات اللغوية:
يَكْلَؤُكُمْ يحرسكم ويحفظكم، والفعل الماضي: كلأ: حفظ، والمصدر: الكلاءة: الحراسة والحفظ. مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه إن أراده بكم. وفي لفظ الرَّحْمنِ تنبيه على ألا كالئ غير رحمته العامة. ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي القرآن. مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيه. مِنْ دُونِنا من غيرنا ومن عذابنا. يُصْحَبُونَ يجأرون من عذابنا، يقال: صحبك الله أي حفظك.
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ من الله، لا من قبل نفسي. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ إنما سماهم الصم لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار كالصم. نَفْحَةٌ نصيب قليل أو أدنى شيء، وأصل النفح: هبوب رائحة الشيء. يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بالإشراك وتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلم.
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل، توزن بها صحائف الأعمال. لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه أو لجزاء يوم القيامة. فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً من نقص حسنة أو زيادة سيئة.
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة، وحبة الخردل مثل في الصغر.
أَتَيْنا بِها أحضرناها وأتينا بموزونها. حاسِبِينَ محصين كل شيء إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الكفار لا يستطيعون أن يكفوا النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم، أتبعه ببيان أنهم في الدنيا أيضا، فلولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا سالمين.
ثم أردفه ببيان أنهم معرضون لا يتفكرون بالأدلة التي ترشدهم إلى الإيمان وترك عبادة الأصنام، كما أنهم لا يرون آثار قدرة الله في إتيان الأرض من جوانبها، بأخذ الواحد بعد الواحد، وفتح البلاد والقرى حول مكة، وفي ذلك عبرة، فيؤمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم.(17/61)
ثم ذكر وظيفة الرسل التي هي التبليغ والإنذار، لا الإلزام والقبول، لكفاية أدلة القرآن على الإيمان. ثم بيّن سبحانه أن جميع ما يتعرض له الكفار في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة، فموازين الحساب قائمة على العدل والقسط.
التفسير والبيان:
قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ.. أي قل أيها الرسول لأولئك الذين يسخرون منك ويستهزئون: من يحفظكم ويحرسكم ليلا في نومكم ونهارا في عملكم من بأس الله وعذابه إن أتاكم أو أراد إنزاله بكم؟! وفي تعبير الرَّحْمنِ إشارة إلى أن تأخير العذاب عن الكفار والعصاة هو من رحمة الله ونعمته وفضله، كي يعود الإنسان إلى ربه من نفسه.
بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي بل إن هؤلاء المشركين، بالرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمذكورة في القرآن الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ والكلاءة، معرضون عن تلك الأدلة، ولا يتفكرون فيها، ولا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم.
وفي ذكر الرب دلالة على أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم يعيشون في رعايته وتربيته وإمداده بالنعم الوفيرة.
ثم بعد بيان اتصافهم بالإعراض، وبخهم الله تعالى على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع فقال:
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ أي هل لهؤلاء المستهزئين المعرضين عن بيان الله آلهة قادرة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي إن تلك الآلهة(17/62)
المزعومة لا تتمكن من نصر أنفسهم، ولا دفع الضر والبلاء عنهم، ولا هم منا يجأرون أو يمنعون لأنهم في غاية العجز والضعف، فكيف ينصرون غيرهم، ويدفعون الضر عنهم، أو يجلبون النفع لهم؟! ثم أخبر تعالى عن مزيد فضله عليهم فقال:
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي إن الذي غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنّهم متّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا بها، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، والحقيقة أنهم مع طول الزمان في غفلة، حتى اغتروا بنعمتنا، ونسوا شكرها.
والخلاصة: أنه ما حملهم على الإعراض عن آيات الله إلا الاغترار بطول المهلة.
ثم قال تعالى واعظا لهم:
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة، والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين، وفتح البلاد حول مكة، وتناقص رقعة بلاد أهل الشرك؟! وبعبارة أخرى: أفلا يرون أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف جوانبها وأطرافها بتسليط المسلمين عليها، وتغلبهم على أهلها، وضمّها إلى دار الإسلام.
والفائدة في قوله: نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها تصوير ما كان يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تفتح أرض المشركين المعتدين، وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها. ومعنى نقص أطرافها:
دخول المسلمين فيها، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا، وانحسار أرض الكفار،(17/63)
بدليل قوله بعدئذ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أي هل نحن الغالبون أم هم؟ فكيف يتوهمون غلبتهم؟ فهم المغلوبون الأخسرون، وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع.
ويرى بعض علماء العصر أن في الآية دلالة واضحة على نقص أطراف الكرة الأرضية في الشمال والجنوب، وأنها غير كاملة التكوير والاستدارة، وذات تفلطح، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليلجي في القطب الشمالي والجنوبي، مما يدل على قدرة الله تعالى، وقوة سلطانه، وتحكمه في الأرض أثناء دورانها.
وبعد أن كرر تعالى إيراد الأدلة في القرآن على وجود الله وقدرته وتوحيده، وبالغ في التنبيه عليها، أتبعه بقوله:
قُلْ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي قل أيها النبي: إني إنما أنذركم بالقرآن الذي هو كلام ربكم، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي، بل الله آتيكم به، وأمرني بإنذاركم، وعملي هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول، فإن لم تجيبوا دعوتي، فعليكم الوبال والنكال، لا عليّ.
وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ أي لا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، وما مثلهم حين لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، على كثرته وتتابعه، إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا أصلا إذ ليس الغرض من الإنذار مجرد السماع، بل العمل بما يسمع، والتمسك به، بالإقدام على فعل الواجب، والتحرز عن المحرّم، ومعرفة الحق، فإذا لم يتحقق هذا الغرض فلا فائدة في السماع. ثم بيّن تعالى أن حالهم سيتغير، فيصبحون سريعي التأثر بما ينذرون، ويعترفون بما لا ينتفعون، فقال:
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أى ولئن مس أو أصاب هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله يوم القيامة،(17/64)
ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا، ويظهرون الندامة على ما فرط منهم، ويتنادون بالويل والهلاك، ولا فائدة من ذلك. قال الزمخشري في الكشاف: وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات: لفظ المس، وما في النفح من معنى القلة والنزارة، ولفظ المرة.
ثم بيّن الله تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فقال:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي ونضع الموازين العدل التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة، أو لأهل يوم القيامة، فلا يلحق نفسا أي ظلم، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا، فلن يظلموا في الآخرة، وقوله: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً تأكيد عدالة الميزان، وأنه لا ينقص ثواب أي نفس ما تستحقه.
والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. ووصفت الموازين بأنها عادلة، لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه.
والمراد بوضع الموازين: إرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والإنصاف، من غير أن يظلم أحد مثقال ذرة، أي أن المقصود من الوزن العدل بين الخلائق، وقد مثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. وفي قول آخر هو الأرجح: المراد أنه تعالى يضع الموازين الحقيقة، ويزن بها الأعمال. قال الحسن البصري: هو ميزان له كفتان ولسان. فمن رجحت حسناته على سيئاته، كان من الناجين، ومن غلبت سيئاته على حسناته، كان من الهالكين. والقسط: العدل أي ليس في الموازين بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا.
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار(17/65)
زنة حبة الخردل، فنجازي عليه الجزاء الأوفى، حسنا أو سيئا.
وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أي وكفى بنا محصين لأعمال العباد، فلا أحد أعلم بأعمالهم منا، ولا أحد أضبط ولا أعدل في تقويم الأعمال منا. وفي هذا تحذير شديد، ووعيد أكيد للكفار والعصاة على تفريطهم أو تقصيرهم فيما يجب عليهم نحو الله تعالى لأن العالم الذي لا يشتبه عليه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء، جدير بأن يكون الناس في أشد الخوف منه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن من فضل الله ورحمته الكلاءة: الحراسة والحفظ للناس من عذاب الله تعالى بالليل حال النوم، وفي النهار حال التصرف في الأمور، ولكن الناس لاهون غافلون عن موعظة القرآن ومواعظ ربهم ومعرفته حق عليهم.
2- إن الآلهة الذين زعم الكفار أنهم ينصرونهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم؟! وكيف يمنعون ويجأرون من عذاب الله تعالى؟! 3- إن تقلب أهل مكة وأمثالهم في نعيم الدنيا، وظنهم أن النعمة لا تزول عنهم هو سبب اغترارهم وإعراضهم عن تدبر حجج الله عز وجل، وكان عليهم التأمل في متابعة انتصارات النبي صلّى الله عليه وسلم وغلبته عليهم، وتمكين الله له من فتح البلاد بلدا بعد بلد، مما حول مكة.
4- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم إنذار الكفار وتحذير هم بالقرآن الموحى إليه من عند الله، لا من قبله، ولكنهم إذا لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، صاروا كالصم الذين لا يسمعون أصلا، وسيتغير خالهم إذا مسّهم أدنى شيء من عذاب الله،(17/66)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
فعندئذ يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون، أي يعترفون بظلم أنفسهم وبكفرهم حين لا ينفعهم الاعتراف.
5- لا عدل أدق وأضبط وأحكم فوق عدل الله، فموازينه لأهل يوم القيامة أو في يوم القيامة غاية العدل، فلا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة مسيء، وإن كان العمل أو الشيء الذي قدمه المحسن مثقال حبة الخردل، ومثقال الشيء: ميزانه من مثله، وكفى بالله مجازيا على ما قدم الناس من خير أو شر، وكفى به محصيا عادا لأعمال عباده، وألا أحد أسرع حسابا منه، والحساب:
العد، والغرض من ذلك التحذير.
والغرض من قوله: حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ المبالغة في أن الشيء مهما صغر أو كبر غير ضائع عند الله تعالى.
6- الذي وردت به الأخبار وعليه أكثر العلماء هو أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة. قال حذيفة رضي الله عنه: «صاحب الميزان يوم القيامة: جبريل عليه السلام» .
وقيل عن مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل، وليس ثمّ ميزان، وإنما هو العدل.
القصة الأولى- قصة موسى عليه السلام مقارنة بين خصائص التوراة وخصائص القرآن
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)(17/67)
الإعراب:
وَضِياءً فيه محذوف تقديره: ذا ضياء، فحذف المضاف، وأدخل واو العطف على ضِياءً وإن كان في المعنى وصفا دون اللفظ، كما يدخل على الوصف إذا كان لفظا، كقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال 8/ 49] وكقولهم: مررت بزيد وصاحبك أي مررت بزيد صاحبك، فدل هذا وغيره على أن الواو تدخل على الوصف إذا كان لفظا أو كان وصفا في المعنى. وقرئ ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان.
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة لِلْمُتَّقِينَ أو مدح لهم.
بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول.
المفردات اللغوية:
الْفُرْقانَ التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام، وهي أيضا ضياء تنير طرق الهدى، والذكر، أي الموعظة التي يوعظ بها، لما فيها من عبرة. يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي يخافون عذابه. بِالْغَيْبِ في حال الخفاء عن الناس. وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي من أهوالها.
مُشْفِقُونَ خائفون.
وَهذا ذِكْرٌ أي وهذا القرآن أيضا ذكر أي تذكير وعظة. مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أفتنكرونه، وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ والاستفهام فيه للتوبيخ.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أتبعه ببيان أن هذه سنة الله تعالى في أنبيائه، فقد أنزل الوحي عليهم ليكون ما تضمنه من الشريعة والأحكام سببا لهداية البشر.
وبعد أن أبان تعالى أدلة التوحيد والنبوة والمعاد شرع في التذكير بقصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه، وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر عليها، وهذه هي القصة الأولى- قصة موسى وهارون عليهما السلام.(17/68)
التفسير والبيان:
كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الحديث عن موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وبين كتابيهما، ليبين امتداد صلة النبوة وصلة الوحي، وليشير إلى وجود الشبه الكثير بين التوراة في أصلها الصحيح وبين القرآن الكريم في كمال الشريعة الشاملة للدين والدنيا، والعقيدة والعبادة، فقال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي وو الله لقد أعطينا موسى وهارون كتابا شاملا لأحكام الشريعة، وهو التوراة الذي هو كتاب فرق الله فيه بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وهو أيضا منار يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة للتوصل إلى طريق الهداية والنجاة، وهو كذلك عظة وتذكير يتعظ به المتقون ربهم وهم ذوو الأوصاف التالية:
1- خشية الله في السر:
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي الذين يخافون عذاب ربهم، فيأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، في حال الخفاء والسر والخلوات حيث لا يطلع عليهم أحد من الناس، قال الرازي: وهذا هو أقرب المعاني.
وقد تكرر في القرآن الكريم التركيز على هذا المعنى، كما في قوله تعالى:
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق 50/ 33] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك 67/ 12] .
2- الخوف من يوم القيامة:
وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي وهم من القيامة وأهوالها وسائر ما يحدث فيها من الحساب والسؤال خائفون وجلون. وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض.(17/69)
وكما أن هذه خصائص التوراة، فكذلك خصائص القرآن مثلها فقال تعالى:
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي وهذا القرآن العظيم المنزل عليك تذكير وعظة، ومبارك فيه بكثرة منافعه وغزارة خيره.
أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟ أي فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره؟ وكيف تنكرونه وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ وهو أيضا معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البعيدة، والأدلة العقلية، وبيان الشرائع، فكيف تنكرون إنزاله من عند الله، وأنتم خير من يقدّر روعة الكلام وفصاحة اللسان وإحكام البيان؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
اقتصر البيان في قصة موسى وهارون عليهما السلام على كتاب التوراة ليقرن الكلام عنه مع الكلام عن القرآن الكريم.
وقد تبين من الآيات أن التوراة فرقان بين الحق والباطل والحلال والحرام والغي والرشاد، وضياء يستضاء بها لسلوك طريق الهداية والنجاة، مثل قوله عنها في آية أخرى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة 5/ 44] وعظة وتذكير للمتقين.
وهي أيضا أوصاف القرآن في آيات أخرى، فقال تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران 3/ 4] . تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . وقال سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 5/ 15] وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف 7/ 157] . وقال جل جلاله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 16/ 44] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ(17/70)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ
[الزخرف 43/ 44] وقال تعالى هنا: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ...
فإن رأى العرب تمسك اليهود بفرقان موسى، فهم أجدر بالتمسك بكتابهم فرقان محمد صلّى الله عليه وسلم.
أما أوصاف المتقين فهي واحدة قديما وحديثا، ذكر تعالى منها هنا وصفين: خشية الله تعالى في السر أي وفي العلن، والخوف من يوم القيامة وأهوالها، وما يجري فيها من الحساب والسؤال قبل التوبة.
وختمت الآيات ببيان الهدف الجوهري منها: وهو التعجب من إنكار العرب للقرآن، وهو كلام الله تعالى، بدليل أنه معجز لا يقدرون على الإتيان بمثله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام
- 1- إنكار عبادة الأصنام والدعوة إلى توحيد الله تعالى
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)(17/71)
الإعراب:
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِذْ: ظرف في موضع نصب يتعلق بآتينا وتقديره:
آتينا إبراهيم رشده في وقت قال لأبيه.
عَلى ذلِكُمْ متعلق بمحذوف مقدر، يدل عليه مِنَ الشَّاهِدِينَ ويفسره. ولا يجوز تعلقه به لأنه لا يجوز تقديم الصلة ومعمولها على الموصول.
المفردات اللغوية:
رُشْدَهُ الرشد: الاهتداء لوجوه الخير والصلاح في الدين والدنيا، قال الله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 6] وقرئ أيضا رُشْدَهُ.
ومعنى إضافة الرشد لإبراهيم: أنه رشد مثله، وأنه رشد له شأن. مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون عليهما السلام. وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي علمنا منه أنه أهل لما آتيناه، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال. وفيه إشارة إلى أن فعله تعالى باختيار وحكمة، وأنه عالم بالجزئيات.
التَّماثِيلُ الأصنام، جمع تمثال: وهو الصنم، والتمثال: اسم للشيء المصنوع المضاهي خلق الله تعالى، كإنسان أو حيوان أو شجر، سمى الأصنام بالتماثيل تحقيرا لشأنها وتصغيرا لها، مع علم إبراهيم بتعظيمهم وإجلالهم لها. وفرق بعضهم بين الصنم والوثن بأن الصنم: المصنوع من المعدن القابل للتمدد بالنار، والوثن: المصنوع من الخشب أو غيره.
عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها. وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم. كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بعبادتها. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بيّن.
أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالشيء الثابت في الواقع. اللَّاعِبِينَ الهازلين. بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ربكم المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض. فَطَرَهُنَّ خلقهن(17/72)
وأبدعهن على غير مثال سبق. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي قلته. مِنَ الشَّاهِدِينَ به المتحققين صحته، والمبرهنين عليه، فإن الشاهد: من تحقق الشيء وحققه.
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأجتهدن في كسرها. والكيد في الأصل: الاحتيال في الإضرار، والمراد هنا: المبالغة في إلحاق الأذى بها. فَجَعَلَهُمْ بعد ذهابهم إلى مجتمعهم في يوم عيد لهم.
جُذاذاً قطعا أو فتاتا، من الجذ، أي القطع. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ للأصنام، كسر غيره، واستبقاه، وجعل الفأس على عنقه. لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى الكبير. يَرْجِعُونَ فيروا ما فعل بغيره.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية من قصص الأنبياء في هذه السورة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم، ليتأسى بهم في الصبر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الدين الحق ومعاداة المشركين.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ.. أي والله لقد آتينا إبراهيم رشده، أي هديناه إلى ما فيه الخير والصلاح، من قبل موسى وهارون أو من قبل النبوة، ووفقناه إلى توحيد الله، ومعاداة عبادة الأصنام لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، وما هي إلا حجر أو معدن أو خشب صنعها أبوه أمامه بالقدوم، وكنا عالمين بأنه أهل للنبوة، وجامع لمحاسن الأخلاق. والرشد: إما النبوة وإما الأهلية للخير والصلاح في الدين والدنيا.
قال القرطبي: وعلى الأول أكثر أهل التفسير.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ..؟ إِذْ: إما أن يتعلق بآياتنا أو برشده، أو بمحذوف، أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. أي آتيناه الرشد حين أنكر على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال:
ما هذه التماثيل أي الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها وتعظيمها؟(17/73)
وفي هذا القول تنبيه إلى ضرورة التأمل في شأنها، وأنها لا تغني عنهم شيئا، لكنهم لم يفعلوا، وأصروا على تقليد الأسلاف دون برهان، فقالوا:
قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي لا حجة لنا سوى تقليد الآباء واتباع الأسلاف، وكفى بذلك ضعفا وسذاجة، فوبخهم إبراهيم عليه السلام على ما يفعلون:
قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قال إبراهيم لأبيه وقومه: لا فرق بينكم وبين آبائكم، فأنتم وهم في ضلال بيّن واضح، على غير منهج الحق والطريق المستقيم. وهذا تنبيه إلى أن سوء الرأي لا يغيره تقادم الزمن، ومضي الأيام.
فتعجبوا من قوله وسألوه:
قالُوا: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي ما هذا الكلام الصادر عنك، أتقوله لاعبا هازلا مازحا أم محقا جادّا فيه، فإنا لم نسمع به قبلك؟
فأجابهم إبراهيم بعد إنكاره عبادة الأصنام بما يبين الحق، ويرشد إلى الإله المستحق للعبادة:
قالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي قال إبراهيم:
إني أتكلم بالجد والحق، لا بالهزل واللعب، فإن الرب المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض الذي خلقها وكونها وأنشأها من العدم، على غير مثال سابق، وهو الخالق لجميع الأشياء، وهو الرب الذي لا إله غيره.
وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه. والخلاصة: أنه أظهر لهم أنه مجدّ في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولا وهو ما قاله، ثم بالفعل ثانيا. لذا أقسم إبراهيم الخليل قسما أسمعه بعض قومه:(17/74)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي وو الله لأجتهدن في كسر أصنامكم، وفي إلحاق الأذى بها، بعد أن تذهبوا إلى عيدكم، وكان لهم مجمع عيد يخرجون إليه كل سنة، ثم يعودون، فيسجدون للأصنام.
وقوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين ذاهبين. وسمع هذا القول رجل منهم، فحفظه، ثم أخبر عنه، وشاع ذلك في جماعة، وعليه قال تعالى:
قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء 21/ 60] .
ولم يخرج إبراهيم معهم معتذرا بأنه سقيم، وصمم على تنفيذ خطته عمليا، لعلهم يتركون عبادة الأصنام، حينما يتأملون أنها لا تستطيع دفع الأذى عن نفسها، والبرهان العملي أوقع في النفس، وأدعى إلى التأمل، وأشد صدمة للذهن.
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل، فجعلهم قطعا فتاتا وحطاما، كسرها كلها إلا الصنم الكبير عندهم لم يكسره كما قال تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات 37/ 93] لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة، وقد علق إبراهيم الفأس على عنقه، أو في يده، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورون جاهلون.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- لا تأتي النبوة لأحد إلا بعد إعداد وصقل وتوافر مقومات ومؤهلات تؤهل لها، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام وفّقه الله لهدايته وللنظر والاستدلال على توحيد الله بآيات الكون من قبل النبوة على الرأي الراجح، أو من قبل(17/75)
موسى وهارون كما قيل، وكان الله عالما بأنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.
2- كان لإبراهيم موقف جريء رائع من الأصنام وعبدتها، فقال لأبيه آزر وقومه أي النمروذ ومن اتبعه: ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون على عبادتها؟.
فأجابوه بأنهم يعبدونها تقليدا للأسلاف، فيرد عليهم بأنهم وآباءهم في خسران مبين بعبادتها إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم.
وكأنهم لم يصدقوا قوله، فسألوه: هل جئتنا بحق فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟
فكان إبراهيم صارما مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد قولا وفعلا، أما القول فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وأبدعهن. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي إنني شاهد على أنه رب السموات والأرض، والشاهد يبين الحكم، وأنا أبين بالدليل ما أقول.
وأما الفعل: فإنه كسر الأصنام وكان عددها سبعين، فعل واثق بالله تعالى، موطّن نفسه على تحمل المكروه في سبيل رفع لواء الدين الحق، وإعلاء راية التوحيد لله. وترك كبير الأصنام وعظيم الآلهة في الخلق، فإنه لم يكسره.
قال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر، وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتج به عليهم.
وهذا هو معنى قوله: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، كما يرجع إلى العالم أو الزعيم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة، ومالك صحيحا، والفأس على عاتقك؟. وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، ويظهر لهم أنهم في عبادته على جهل عظيم.
وذكر القرطبي والرازي وجها آخر في تفسير ذلك: وهو لعلهم إلى إبراهيم(17/76)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
ودينه يرجعون إذا قامت الحجة عليهم، أو يرجعون إلى توحيد الله عند تحققهم عجز آلهتهم.
- 2- النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثة تكسير الأصنام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 65]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
الإعراب:
مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ مَنْ: مبتدأ، ولَمِنَ الظَّالِمِينَ: خبره.
يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ الفعلان هنا صفتان لفتى، أو أن يَذْكُرُهُمْ: ثاني مفعولي سمع. ويُقالُ: فعل مبني للمجهول، وإِبْراهِيمُ: قيل: هو خبر مبتدأ محذوف (أي هو إبراهيم) أو منادى مفرد (أي يا إبراهيم) قال الزمخشري: والصحيح أنه فاعل (أي نائب فاعل) يقال لأن المراد الاسم، لا المسمى.
عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محل الحال بمعنى معاينا مشاهدا، أي بمرأى منهم ومنظر، أو هو على حذف مضاف، تقديره: على رؤية أعين الناس، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
والاستعلاء في عَلى في الرأي الأول وارد على طريق المثل، أي يثبت إتيانه في الأعين، ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه.(17/77)
كَبِيرُهُمْ هذا مبتدأ وخبر.
البلاغة:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ استعارة، شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة.
المفردات اللغوية:
قالُوا أي بعد رجوعهم من مجتمعهم في يوم العيد، ورؤيتهم ما فعل. قالُوا الثانية:
أي بعضهم لبعض. يَذْكُرُهُمْ أي يعيبهم ويسبهم. عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي معاينا ظاهرا بمرأى منهم، بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بفعله أو قوله، أو يحضرون عقوبتنا له.
قالُوا بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا حين أحضروه. قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أسند الفعل إليه تجوّزا وتعريضا لهم بأن الصنم المعلوم عجزه عن الفعل لا يكون إلها، وإنما هو متسبب لما حصل، والقصد تبكيتهم وإلزامهم الحجة وحملهم على ترك الوثنية، أو للاستهزاء بهم، ولهذا قال: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي اسألوا هذه الأصنام عن الفاعل الذي كسرها إن كانوا يقدرون على النطق.
وما روي في الصحيحين وعند أحمد عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات»
تسمية للمعاريض كذبا، لما شابهت صورتها صورته. وجملة فَسْئَلُوهُمْ ... فيه تقديم جواب الشرط.
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي راجعوا عقولهم، وفكروا وتدبروا فَقالُوا لأنفسهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتكم من لا ينطق. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا، وعادوا إلى جهلهم، وردوا إلى كفرهم، وقالوا لإبراهيم: والله لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقوله: ثُمَّ نُكِسُوا.. شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثاني من قصة إبراهيم، الذي يصور مرحلة الغليان والغيظ والحقد عند عبدة الأصنام بعد تكسيرها وتحطيمها، وهي كارثة بالنسبة إليهم تتطلب معرفة الفاعل للثأر منه، وحكاية ذلك:(17/78)
قالُوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟ أي قال عبدة الأوثان قوم إبراهيم، النمروذ وأتباعه، على سبيل الوعيد والتوبيخ، حين رجعوا وشاهدوا تحطيم آلهتهم: من الذي كسر هذه الآلهة؟ وتعبيرهم بالآلهة تشنيع وتهويل، ومبالغة في التعنيف.
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن هذا الفاعل في صنيعه هذا لمن الذين ظلموا أنفسهم وعرّض نفسه للإهانة والعقاب، إما لجرأته على الآلهة، وإما لإفراطه في كسرها وتماديه في الاستهانة بها.
قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ قال بعضهم الذي سمع قوله المتقدم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ: سمعنا شابا يعيبهم ويتوعدهم يسمى إبراهيم، فهو الذي فعل بهم هذا. قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى ...
وظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فقد كان يناقشهم ويقول: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فغلب على أذهانهم أنه الفاعل.
قالُوا: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي قال نمروذ وأشراف قومه: إذن فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر، بحضرة الناس كلهم، حتى يروه ويشهدوا عليه، فلا يأخذوه بغير بينة، أو حتى يبصروا ما يصنع به فيكون عبرة. وكان هذا هو مقصود إبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم، وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تمنع عن نفسها ضرا ولا تنصر أحدا.
قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ أي فلما أتوا به- وهذا كلام محذوف مفهوم- قالوا له: أأنت الذي كسرت هذه الأصنام؟ فأجابهم:(17/79)
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أي بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر، الذي لم يكسره.
وقد نسب الفعل إلى هذا الصنم الأكبر، لما رأى شدة تعظيمهم له، باعتباره المتسبب أو الباعث على الفعل، أي الاستهانة والتحطيم، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى المتسبب فيه. أو أنه أقرّ بفعله بأسلوب تعريضي لإلزامهم الحجة وتبكيتهم، كما يقول الصانع الحاذق الشهير أو الخطاط المشهور لمن يسأله عن هذه الصنعة الرائعة أو الخط الجميل: بل أنت صنعت ذلك أو بل أنت كتبت ذلك، والقصد بهذا الجواب تقرير السائل على سؤاله مع الاستهزاء به، لا نفيه عن صاحبه وإثباته للسائل.
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي فاسألوا هذه الأصنام عمن كسرها إن كانوا آلهة ينطقون.
وفي ذلك الجواب لفت أنظارهم وتنبيه أذهانهم إلى عقم عبادة الأصنام، فيبادروا من تلقاء أنفسهم للاعتراف بعدم جدواها وأنها أحجار صماء لا تنطق، وجمادات لا تتكلم، فكيف تستحق العبادة؟! وقد أثر الجواب في أفكار هم بدليل قوله الآتي: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي فرجع قوم إبراهيم حينئذ على أنفسهم بالملامة، ونسبوا إلى أنفسهم التقصير في عدم الاحتراز وعدم حراسة آلهتهم، ما داموا لا ينطقون، وقالوا:
فَقالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي قال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها. أو أنتم الظالمون أنفسكم بعبادة ما لا ينطق.
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي ثم أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير، أو عادوا إلى المجادلة بالباطل لإبراهيم وانقلبوا عن حال الاستقامة، واحتجوا على إبراهيم حينما أدركتهم الحيرة بقولهم: إنك تعلم ونحن(17/80)
نعلم أن هؤلاء لا ينطقون، فكيف تطلب منا سؤالهم إن كانوا ينطقون؟! أي أنهم احتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم بسبب الحيرة التي أدركتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
لقد طاشت سهام قوم إبراهيم حينما رأوا أصنامهم مكسّرة، بعد أن رجعوا من عيدهم، فقالوا على جهة البحث والإنكار: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وهذا أمر متوقع، قدّره إبراهيم عليه السلام.
كما أنه قدر أنهم سيعرفون أنه هو المتهم بالتكسير، لحملته السابقة بالقول والنكير، وتسفيه الأحلام والعقول، وانتقاده اللاذع لعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ودعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي يمنح ويمنع، ويضر وينفع.
ولما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، أرادوا إثبات التهمة عليه بالبينة، فقالوا: ائتوا به على مرأى ومسمع من الناس، ليشهدوا عليه بما يقول، ليكون ذلك حجة عليه.
وفي هذا دليل على أنه ما كان يؤخذ أحد بدعوى أحد، وهكذا الأمر في شرعنا، وكل الشرائع.
ولكنهم ما أدركوا أن تلك المواجهة مع إبراهيم عليه السلام أمام الناس في غير صالحهم، فقد كان إبراهيم قوي الحجة، وأراد تنبيه الأفكار إلى عبث عبادتهم، وقلة عقلهم، وكثرة جهلهم، فسألوه عمن فعل تلك الفعلة، فأجابهم بأن الفاعل هو كبيرهم، تعريضا بأن عبادتهم له وتعظيمهم إياه سبب للغيظ والغضب، مما حمله على تكسيرها، وتنبيها لهم بأن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد، وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما(17/81)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين وهو ضعيف: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ. وواحدة في شأن سارة إذ قال:
لسارة أختي، وذلك ليدفع بقوله مكروها» .
ثم قال إبراهيم: سلوهم إن نطقوا، فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. ويتضمن هذا الكلام اعترافا بأنه هو الفاعل.
فقد احتج عليهم بأمرين: الأول: قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وشأن الكبير حماية الأتباع والصغار، أو لأنه غضب أن تعبد معه هذه الصغار، فكسرها.
والثاني: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ليقولوا: إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم: فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم.
ولما ألزمهم بحجته أقروا بأنهم هم الظالمون بعبادة من لا ينطق بكلمة، ولا يملك لنفسه شيئا، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس، ثم عادوا لجهلهم وعنادهم، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ.
- 3- الانتصار الساحق لإبراهيم- نجاته من النار
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 70]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)(17/82)
البلاغة:
يَنْفَعُكُمْ يَضُرُّكُمْ بينهما طباق.
كُونِي بَرْداً مجاز مرسل، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، أي باردة أو ذات برد.
المفردات اللغوية:
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بدله. ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من رزق وغيره. ولا يضركم شيئا إذا لم تعبدوه. أُفٍّ هو صوت المتضجر، ومعناه: نتنا وقبحا، ويستعمل للدلالة على أن القائل متضجر، والمراد هنا أن إبراهيم تضجر على إصرارهم على الباطل البيّن. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنعكم، وأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، ولا تصلح لها، وإنما يستحقها الله تعالى.
قالُوا: حَرِّقُوهُ أخذوا في المضارّة لما عجزوا عن المحاجة، أي حرقوا إبراهيم، فإن النار أهول ما يعاقب به. وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقه والانتقام لها. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا. والقائل منهم: رجل من أكراد فارس، اسمه (هينون) خسف به الأرض، وقيل: نمروذ. فجمعوا له الحطب الكثير، وأضرموا فيه النار، وأوثقوا إبراهيم، ورموه في منجنيق في النار.
قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني ذات برد وسلام، أي ابردي بردا غير ضار، فلم تحرق منه غير وثاقه، وذهبت حرارتها، وبقيت إضاءتها، وسلم من الموت ببردها.
كَيْداً أي تحريقا ومكرا في إضراره، والكيد: المكر الخديعة. الْأَخْسَرِينَ في مرادهم، أي أخسر من كل خاسر، لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجبا لمزيد درجته، واستحقاقهم أشد العذاب.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثالث والخاتمة المدهشة من قصة إبراهيم مع قومه عبدة الأصنام، فإنه لما أقروا على أنفسهم بأن لا جدوى من عبادة آلهتهم، وألزمهم إبراهيم الحجة، اندفع كالسيل الهادر يعلن ضرورة إنها هذه العبادة الخرافية، التي تقوم على الأوهام، والتي يترفع عنها العقلاء، فقال:(17/83)
قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟ أي قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بأن تلك الآلهة لا تنطق: أتعبدون بدلا عن الله أشياء لا تنفعكم شيئا إذا علّقتم الأمل بها، ولا تضركم شيئا إذا عاديتموها أو خفتم منها.
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تبّا لكم وقبحا لآلهتكم، وهذا التأفف والتضجر لكم ولها لعبادتكم إياها غير الله تعالى.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يدين به إلا كل جاهل ظالم فاجر.
ولما تفوق إبراهيم بحجته عليهم، وظهر الحق واندحر الباطل، لم يجدوا مناصا إلا اللجوء للأذى والمضارّة:
قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال بعضهم لبعض، والمشهور أن القائل: نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح، وقيل: إنه رجل من الكرد من أعراب فارس: احرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا، فجمعوا حطبا كثيرا جدا، ورموا إبراهيم من كفة منجنيق.
قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي قال الله تعالى المتكفل بحفظ أنبيائه وعصمتهم من أذى الناس: يا نار كوني بردا، وسلاما على إبراهيم، أي ابردي بردا غير ضار، فكانت وسطا لا حامية ولا باردة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقال أبو العالية: ولو لم يقل بَرْداً وَسَلاماً لكان بردها أشد عليه من حرّها. وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق، مع بقائها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير.(17/84)
روى البخاري عن ابن عباس أن إبراهيم لما ألقوه في النار قال: «حسبي الله ونعم الوكيل، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» [آل عمران 3/ 173] .
وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك» .
وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن إبراهيم حين قيدوه وألقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك» قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم؟ ألك حاجة؟ قال: «أما إليك فلا» فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ «1» .
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين، ونجاه الله من النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، إنها تمثل موقف المجاهد الصابر في سبيل دعوته إلى التوحيد والحق والفضيلة، وموقف المعادي الجاهل المناصر للباطل والشرك والوثنية.
لقد دبّر قوم إبراهيم له طريقا للخلاص منه، وأرادوا إحراقه وتعذيبه بأشد أهوال العذاب، ومعاقبته بالنار لأنها أشد العقوبات، وجمعوا الحطب وأوقدوا
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 303(17/85)
النار، واشتعلت واشتدت، ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. وهذا من أشد وأعتى ما يفعله البشر، ولكن أين الله؟! لقد كانت النتيجة مروعة مذهلة مدعاة للعجب والاستغراب، وفوق حدود التصورات البشرية، فسلخ الله تعالى من النار خاصية الإحراق، ونجا إبراهيم وخرج من النار كأنه يخرج من حمام أمام الجموع الغفيرة المشاهدة، ولم تحرق النار إلا وثاقه في أول ملامستها له، وتلك معجزة تدعو إلى الإيمان بحق، وتستدعي التأمل في تدبير البشر ومكرهم، وفي تدبير الله الأعظم الذي يبدد كل تدبير، ويحبط كل مسعى شرير، فنجاه الله من النار، وجعلهم الأخسرين المغلوبين الأسفلين لأنهم أرادوا به التحريق، فخاب مرادهم.
روى ابن أبي حاتم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ «1» ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم» .
وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة، فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة.
آمنت بالله وحده لا شريك له، فهو صاحب القدرة المطلقة، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.
__________
(1) الوزغ: دويبة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة.(17/86)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
- 4- نعم أخرى على إبراهيم وإنجاؤه مع لوط إلى الأرض المباركة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 73]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
البلاغة:
فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ عطف الصلاة والزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام للتفضيل فإنهما من فعل الخيرات، وخصهما بالذكر لفضلهما ورفعة مرتبتهما.
العالمين الصالحين العابدين سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً ابن أخي إبراهيم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي من العراق إلى أرض فلسطين في الشام، التي بارك الله فيها بكثرة الأنهار والأشجار، أو لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. روي أن إبراهيم نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما مسافة يوم وليلة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم، وكان قد سأل ولدا، كما جاء في سورة الصافات نافِلَةً عطية ومنحة، وهي حال من إسحاق ويعقوب، أو المراد: زيادة على ما سأل وهو إسحاق، فتختص كلمة نافِلَةً بيعقوب، ولا بأس به للقرينة، كما قال البيضاوي.
وَكُلًّا أي الأربعة: هو وولداه ولوط جَعَلْنا صالِحِينَ أنبياء، ووفقناهم للصلاح،(17/87)
فصاروا كاملين وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً رؤساء يقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ الناس إلى ديننا بِأَمْرِنا أي بأمرنا لهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أن يحثوا الناس على فعل الخير، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم.
وأصل الكلام: أن تفعل الخيرات. وحذفت تاء إِقامَ تخفيفا، وهي الإقامة لقيام المضاف إليه مقامها عابِدِينَ موحدين مخلصين في العبادة، ولذلك قدم الصلة وهي لنا ليفيد الإخلاص في العبادة.
المناسبة:
بعد إنجاء إبراهيم من النار، ذكر الله تعالى نعما أخرى عليه وعلى لوط ابن أخيه، وقد قرن مع إبراهيم لما كان بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ومن تلك النعم: إخراجهما من العراق إلى بلاد الشام الأرض المباركة، ومنها: جعلهما أئمة يقتدى بهم، وإنزال الوحي عليهما لفعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن النعم على إبراهيم هبته من الذرية إسحاق ويعقوب.
التفسير والبيان:
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي ومن نعم الله تعالى على إبراهيم: أنه ولوط عليهما السلام نجاهما إلى الأرض المباركة، بالهجرة من العراق إلى بلاد الشام الأرض المقدسة، والتي بارك الله فيها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء، وانتشرت شرائعهم بين العالمين، كما بارك فيها بخصوبة أراضيها وكثرة أشجارها وأنهارها، فاجتمع فيها خير الدنيا والآخرة. ويقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال.
وكانت هجرة إبراهيم من كوثى من بلدة «فدان آرام» بالعراق، ومعه لوط وسارّة، فرارا من الشرك والوثنية، والتماسا لمقر التوحيد وعبادة الله، فنزل حرّان، ثم رحل إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، فنزل بفلسطين، وأقام لوط في قرى المؤتفكة التي تبعد عن فلسطين مسيرة يوم وليلة.(17/88)
ثم ذكر تعالى نعما أخرى على إبراهيم بعد نعمتي النجاة من النار والهجرة إلى الأرض المباركة فقال:
1- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي ومنحنا إبراهيم من الذرية المباركة إسحاق ويعقوب، أو أعطيناه إسحاق إجابة لدعائه، إذ قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات 37/ 100] وزدناه يعقوب نافلة زائدة على ما سأل، كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض. وعلى التفسير الأول:
تكون النافلة (أي العطية والمنحة) إسحاق ويعقوب، وعلى التفسير الثاني:
النافلة يعقوب خاصة.
2- وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أي وكلا من الأربعة: لوط وإبراهيم وولديه، أو: وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا الجميع أهل خير وصلاح، يطيعون ربهم، ويتجنبون محارمه، أو جعلناهم أنبياء مرسلين، والأول أقرب لشموله الكل.
ووصفهم بالصلاح يدل على أن الأنبياء معصومون.
3- وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي وصيرناهم قادة وأئمة يقتدى بهم، يدعون إلى دين الله بإذنه، وإلى الخيرات بأمره. وفيه دلالة على أن من صلح للقدوة في دين الله موفق مهدي للدين الحق وطريق الاستقامة، وليس له أن يخل بمقتضى الهداية ويتثاقل عنها.
4- وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي وأنزلنا عليهم أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل الطاعات وترك المحرّمات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة، وذلك من أعظم النعم على الأب إبراهيم عليه السلام.
5، 6- وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي وأوحينا إليهم أن يقيموا الصلاة(17/89)
ويؤتوا الزكاة المفروضتين، وهذا من عطف الخاص على العام لأن الصلاة والزكاة من الخيرات، وخصهما بالذكر من سائر العبادات لسمو مرتبتهما وخطورتهما لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية، وشرعت لدفع حاجة الفقراء، وفي كلتا العبادتين تعظيم أمر الله تعالى.
وبعد تعداد هذه النعم ووصفهم بالصلاح أولا، ثم بالإمامة، ثم بالنبوة والوحي، أبان اشتغالهم بالعبودية والعبادة لله تعالى، فقال: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أي وكانوا لجناب الله خاشعين خاضعين، طائعين فاعلين ما يأمرون به الناس. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا أوفياء لإحسان الله ونعمه عليهم، فلما أكرمهم الله بالإنعام وتفضل عليهم بالإحسان، كانوا أوفياء له بالعبودية وهو الطاعة والعبادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى بيان ما تفضل الله به من النعم الوفيرة على إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النار، وهي ما يلي:
1- النجاة من أرض الكفر والوثنية إلى أرض الإيمان والتوحيد، وذلك بهجرة إبراهيم الخليل مع ابن أخيه لوط من بلاد العراق إلى أرض الشام المباركة ببعثة أكثر الأنبياء فيها، وبكثرة الخيرات الزراعية، فهي معادن الأنبياء، وكثيرة الخصب والنمو، ووافرة الثمار والأنهار العذبة.
2- هبة الذرية الطيبة له، فقد وهبه الله إسحاق إجابة لدعائه، وزاده يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة، أي زيادة على ما سأل.
3- جعل الله كلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحا عاملا بطاعة الله،(17/90)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
ورأى البيضاوي إضافة رابع وهو لوط. قال القرطبي: وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد، فهو مخلوق لله تعالى.
4- جعلهم رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات، يعملون بأمر الله وبما أنزله عليهم من الوحي والأمر والنهي، ويهدون الناس إلى دين الله الحق بأمر الله لهم، ويدعونهم إلى التوحيد.
5- الإيحاء لهم بأن يفعلوا الطاعات.
6- أمرهم بإقامة الصلاة المفروضة التي هي أشرف العبادات البدنية.
7- الوحي لهم أيضا بإيتاء الزكاة الواجبة التي هي أشرف العبادات المالية.
وكانوا مشتغلين بالعبودية، مطيعين لأوامر الله تعالى، كأنه سبحانه وتعالى لما وفي بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام، فهم أيضا وفّوا بعهد العبودية، وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.
القصة الثالثة- قصة لوط عليه السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
الإعراب:
وَلُوطاً منصوب بفعل مقدر، تقديره: وآتينا لوطا آتيناه، وقيل: تقديره: واذكر لوطا.(17/91)
البلاغة:
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا مجاز مرسل علاقته المحلية، أي أدخلناه في الجنة لأنها مكان تنزل الرحمات.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً هو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، كما عرفنا حُكْماً حكمة، أو نبوة، أو فصلا بين الخصوم وَعِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ هي قرية سدوم التي بعث إليها لوط عليه السلام الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ أي يعمل أهلها، وصفها بصفة أهلها الْخَبائِثَ أي الأعمال الخبيثة من اللواط وغيره كالرمي بالبندق واللعب بالطيور قَوْمَ سَوْءٍ مصدر ساء نقيض سرّ، وقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ كالتعليل لما سبق وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا بأن أنجيناه من قومه، وجعلناه في أهل رحمتنا أو في جنتنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى.
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله تعالى به على إبراهيم عليه السلام، ذكر نعمه على لوط عليه السلام، لما بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ولوط: هو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت 29/ 26] .
التفسير والبيان:
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي آتى الله لوطا النبوة والحكمة (وهي ما يجب فعله) والحكم: وهو حسن الفصل في الخصومات بين الناس، وكذلك آتاه علما بما ينبغي للأنبياء وهو كل ما يتعلق بالعقيدة والعبادة وطاعة الله تعالى، وبعثه إلى «سدوم» وتوابعها وهي سبع قرى، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله، ودمر عليهم، كما أخبر في مواضع من القرآن العزيز. وهاتان نعمتان على لوط، والنعمة الثالثة هي:(17/92)
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ أي ونجاه الله من عذابه الذي عذّب به أهل القرية «سدوم» الذين كانوا يرتكبون خبائث الأعمال، وأخطرها اللواط. وسبب ذلك أنهم كما قال تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أي إنهم كانوا جماعة سوء وقبح، خارجين عن طاعة الله، مرتكبين معاصيه، والفسوق: الخروج.
والنعمة الرابعة هي: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي وجعلناه من أهل رحمتنا أو في جنتنا، كما
جاء في الحديث الصحيح: «قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي»
وقيل: الرحمة: هي النبوة، أو الثواب. والسبب هو كما قال:
إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الذين يعملون الصالحات، ويؤدون الطاعات، بفعل الأوامر، واجتناب النواهي.
فقه الحياة أو الأحكام:
أنعم الله تعالى على لوط عليه السلام بأربع نعم وهي:
1- إيتاؤه الحكم: أي النبوة، والحكمة: وهي ما يجب فعله.
2- تعليمه العلم النافع: وهو المعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم بين الخصوم.
3- إنجاؤه من العذاب الذي حل بالقرى التي أرسل إليها، لارتكاب أهلها خبائث الأعمال، وأهمها اللواط، ولأنهم قوم سوء فاسقين، أي خارجين عن طاعة الله تعالى.
4- إدخاله في جنان الخلد التي هي متنزل الرحمات الإلهية لأنه من القوم الصالحين الذين آمنوا بالله، وأطاعوا ربهم، وائتمروا بأمره، وانتهوا عن نهيه.(17/93)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
القصة الرابعة- قصة نوح عليه السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
المفردات اللغوية:
وَنُوحاً أي واذكر نوحا إِذْ نادى إذ دعا على قومه بالهلاك، بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] وهو بدل مما قبله. مِنْ قَبْلُ من قبل المذكورين: إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ في السفينة مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الطوفان والغرق، وأذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَنَصَرْناهُ جعلناه منتصرا كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على رسالته فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ لاجتماع الأمرين: تكذيب الحق، والانهماك في الشر، ولم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله.
المناسبة:
بعد بيان قصة إبراهيم أبي الأنبياء ولوط قريبه، ذكر الله تعالى قصة نوح أب البشر الثاني لأن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام. وكل من إبراهيم ونوح من الرسل أولي العزم.
التفسير والبيان:
وَنُوحاً.. أي واذكر أيها النبي وقت أن نادى نوح ربه بأن دعا على قومه لما كذبوه: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] وذلك من قبلك وقبل إبراهيم ولوط، فاستجبنا له دعاءه ونجيناه والذين آمنوا به من أهله، كما قال(17/94)
تعالى: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود 11/ 40] نجيناهم من الغرق والشدة والأذى. فقوله مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين. والكرب: الطوفان والغم الشديد والعذاب النازل بالكفار، وتكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى.
وذلك بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل.
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي وجعلناه منتصرا على القوم الذين كذبوا بأدلتنا الدالة على رسالته. وفي لغة هذيل: اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن سبب إهلاكهم أنهم قوم سوء لأجل تكذيبهم لنبيهم، فكان جزاؤهم أن أهلكهم الله جميعا صغارا وكبارا، ولم يبق منهم أحد، كما دعا عليهم نبيهم، بعد أن أصروا على كفرهم، وتصدوا لإيذائه، وتواصوا قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل على مخالفته وعصيان أمره.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن في عذاب الاستئصال للأمة أو القوم جميعا عبرة وعظة بالغة، فهؤلاء قوم نوح الذين عكفوا على عبادة الأوثان، وأصروا على الكفر، وتمردوا على دعوة نوح ورسالته، قد أهلكهم الله عامة بالطوفان الذي عمّ السهول والجبال.
والسبب هو تكذيبهم لنبيهم وإيذاؤهم له، بالرغم من الصبر عليهم قرابة عشرة قرون (950) عاما، وهي مدة طويلة جدا.
وكان النصر حليف نوح عليه السلام، فنجاه الله والمؤمنين الذين آمنوا به، وعددهم قليل.(17/95)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
فلله الأمر والحكمة، وبيده مقاليد السموات والأرض، ولا يصدر عنه إلا الخير والعدل، ولا يظلم أحدا من عباده، فلو علم الله فيهم خيرا لما عذبهم وأهلكهم، وسيلقون أيضا في الآخرة عذاب النار.
وقد أجمع المحققون- كما ذكر الرازي- على أن دعاء نوح على قومه كان بأمر الله تعالى، وإلا كان ذلك مبالغة في الإضرار، وسببا لنقصان حال الأنبياء.
القصة الخامسة- قصة داود وسليمان عليهما السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
الإعراب:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر داود وسليمان.
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ الضمير في لِحُكْمِهِمْ راجع إلى داود وسليمان، على طريقة إقامة الجمع مقام التثنية. أو أن المراد بالضمير الحاكمان والمتحاكمان وهم جماعة.(17/96)
يُسَبِّحْنَ الجملة حال، أو استئناف لبيان وجه التسخير معه متعلق بيسبحن أو بسخرنا.
وَالطَّيْرَ منصوب معطوف على الْجِبالَ، أو لأنه مفعول معه.
لِتُحْصِنَكُمْ أي الصنعة، وقرئ بالياء أي ليحصنكم الله وقرئ بالنون، أي:
لنحصنكم نحن.
المفردات اللغوية:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر قصتهما إِذْ يَحْكُمانِ بدل مما قبله الْحَرْثِ الزرع، وقيل: كرم تدلت عناقيده نَفَشَتْ رعت ليلا بلا راع، بأن انفلتت من حظيرتها، والنفش:
الرعي ليلا. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي حاضرين، وفيه استعمال ضمير الجمع لاثنين أو كنا شاهدين عالمين حكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما. وكان حكم داود: أن يتملك صاحب الزرع الأغنام، وحكم سليمان: تبادل المتحاكمين الشيء المملوك لمدة سنة، فينتفع صاحب الزرع بدرّ الغنم ونسلها وصوفها إلى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحب الغنم، ثم يردها إلى صاحبها.
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ الضمير يعود للفتوى الصادرة. وكان حكم داود وسليمان باجتهاد، ثم رجع داود إلى حكم سليمان وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي آتينا كلا منهما حكما أي نبوة، وعلما بأمور الدين.
يُسَبِّحْنَ يقدسن الله معه، إما بلسان الحال، أو بصوت يتمثل له، أو بخلق الله فيها صوتا بلغة معينة. وَالطَّيْرَ أي وكذلك سخرنا الطير له للتسبيح معه، بأمره به في وقت الراحة وَكُنَّا فاعِلِينَ أي تسخير التسبيح معه، فكنا فاعلين لأمثاله، فليس ببدع منا، وإن كان عجبا عندكم أي مجاوبة الجبال والطير لسيدها داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ المراد هنا الدروع لأنها تلبس، وهو أول من صنعها، وكان قبلها صفائح. واللبوس في الأصل: السلاح بأنواعه لَكُمْ متعلق بقوله وَعَلَّمْناهُ أو متعلق بصفة للبوس. لِتُحْصِنَكُمْ لتحميكم وتمنعكم وتصونكم الصنعة مِنْ بَأْسِكُمْ بدل اشتمال بإعادة الجار، وبأسكم: حربكم مع أعدائكم، البأس: الحرب فَهَلْ أَنْتُمْ يا أهل مكة شاكِرُونَ نعمتي، بتصديق الرسول، فإن شكركم لي يكون بذلك. وقوله فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟ أمر في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.
وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ عاصِفَةً الريح العاصف: هي الشديدة الهبوب.
وكانت رخاء أي لينة خفيفة في نفسها طيبة، كما جاء في آية أخرى، فقد جمعت بين الوصفين، فهي لينة طيبة، وتسرع في جريها كالعاصف إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها هي الشام(17/97)
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي نعلم بكل شيء، فنجزيه على ما تقتضيه الحكمة، وقد علم الله تعالى بأن ما يعطيه سليمان يدعوه للخضوع لربه.
وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر لسليمان، والغوص: النزول إلى أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي سوى الغوص أو غيره، كبناء المدن والقصور واختراع الصائع الغريبة، كقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ 34/ 13] . وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يفسدوا ما عملوا لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره.
المناسبة:
هذه القصة كسابقاتها أيضا فيها تعداد النعم العظمى على داود وسليمان عليهما السلام، فذكر فيها أولا النعمة المشتركة بينهما وهي تزيينهما بالعلم والفهم كما قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً مما يدل على شرف العلم، لتقديم ذكره على سائر النعم الأخرى. ثم ذكر ما اختص به كل منهما من النعم، أما داود فخص بنعمة تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وبصناعة الدروع. وأما سليمان فاختص بنعمة تسخير الريح، وتسخير الشياطين للغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، ولأعمال أخرى كبناء المدن والقصور وصناعة الأشياء الغريبة من قدور ومحاريب وتماثيل.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى قصة الحكم بين المزارع والراعي، ثم ذكر النعم الجليلة المختصة بكل من داود وسليمان.
أما قصة الحكم كما قال أكثر المفسرين وكما ذكر الرازي: فهي أن راعي غنم رعت غنمه زرع فلاح ليلا، فاحتكما إلى داود عليه السلام، فحكم بالغنم لصاحب الحرث (الزرع) فقال سليمان- وهو ابن إحدى عشرة سنة-: غير هذا أرفق بهما، وأمر بتسليم الغنم إلى أهل الحرث، فينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتسليم(17/98)
الحرث إلى أرباب الغنم، يتعهدونه بالمطلوب، حتى يعود إلى ما كان، ثم يترادّان. وكان حكمهما باجتهاد.
والحكم في شرعنا في رأي الإمام الشافعي: وجوب ضمان المتلف بالليل، إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا، وكذلك قضى النبي صلّى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا (بستانا) وأفسدته،
فقال: «على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل» «1» .
وفي رأي الإمام أبي حنيفة: لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ حارس
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار» «2»
أي أن ما تتلفه البهيمة هدر لا ضمان فيه.
أما النص القرآني في هذا الحكم فهو:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ.. أي واذكر أيها الرسول قصة داود وسليمان حينما حكما في زرع رعته ليلا غنم لآخرين، وكان الله عليما شاهدا بما حكم به داود وسليمان، لا تخفى عليه خافية.
ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكومة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب، مع أنه سبحانه آتى كلا من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور، مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة، وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه، وإن كان الصواب واحدا، وهو ما قضى به سليمان، ودل قوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره.
__________
(1) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن حرام بن سعد بن محيّصة.
(2)
نص الحديث «العجماء جرحها جبار» رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(17/99)
قال ابن العربي: لم يرد إذ جمعها في القول اجتماعهما في الحكم، فإن حاكمين على حكم واحد لا يجوز، وإنما حكم كل واحد منهما على انفراد بحكم، وكان سليمان هو الفاهم لها «1» .
أما نعم الله على داود عليه السلام فهي:
1- وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ أي وسخر أي ذلل الله الجبال والطيور مسبحات مقدّسات الله مع داود لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تسبيحا، فيكون ذلك أكثر تأثيرا في مشاعره وعواطفه، فيستديم في التسبيح،
وقد وصف النبي صلّى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري حين استمع لقراءته القرآن فقال فيما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة، والنسائي عن عائشة: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود» .
وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة الإلهية، وأروع في الإعجاز لأنها جماد، والطير حيوان إلا أنه غير ناطق.
ونطق الجبال والطير بأن يخلق الله فيها الكلام، كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى عليه السلام، فإذا ذكر داود ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه، لذا قال تعالى:
وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبا عندكم.
ونظير الآية: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1154(17/100)
2- وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي وعلمنا داود صناعة الدروع لباسا لكم، وكانت الدروع قبله صفائح وهو أول من جعلها حلقا، كما قال تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ 34/ 11] أي لا توسع الحلقة ولا تغلظ المسمار. وذلك لتحميكم وتمنعكم وتحرسكم من شدة الحرب في القتال من جرح وقتل وضرب، فهل أنتم شاكرون نعم الله عليكم بتعليمه داود ذلك من أجلكم؟ وهذا استفهام معناه الأمر للمبالغة والتقريع، أي اشكروا الله على هذه الصنعة. والبأس: الحرب.
وفيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود عليه السلام، ثم تعلم الناس منه، وتوارثوا الصنعة عنه، فعمّت النعمة كل المحاربين إلى آخر الدهر.
وأما نعم الله على سليمان عليه السلام فهي كما قال قتادة: ورّث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته، وزاده أمرين: سخر له الريح والشياطين، فقال.
1- وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً.. أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديد السرعة والهبوب، وجعلناها طائعة منقادة له، مع كونها في نفسها رخاء أيضا أي لطيفة لينة، فهي تجري بأمره، وتخضع لحكمه، وتنقله إلى أجزاء الأرض المقدسة المباركة، وهي أرض الشام، فيخرج مع صحبه في الغداة حيث شاؤوا، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله، أي أن تلك الريح كانت جامعة بين الأمرين: رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد.
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي وكان الله عالما بكل شيء وعالما بتدبيره، فما آتاه الملك والنبوة، وما سخر له الريح بأمره إلا لعلمه بما فيه الحكمة والمصلحة(17/101)
والاستحقاق، فيشكر هو وقومه المنعم عليهم، ويعرفوا هذه المعجزات الظاهرة.
روي أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاجه من أمور المملكة، كالخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه، وتسير به وتظله الطير، لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته، كما قال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص 38/ 36] وقال: غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ 34/ 12] «1» .
2- وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي وسخرنا له فئة من الشياطين تغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها، والغوص:
النزول تحت الماء.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي ويؤدون له عملا غير ذلك كبناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ونحوها، كما قال تعالى:
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص 38/ 38] وقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ [سبأ 34/ 13] وأما الصناعات فهي مثل الطواحين والقوارير والصابون.
وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي حافظين لأعمالهم، نحرسه من أن يناله أحدهم بسوء، وقد جعلنا له سلطة مطلقة عليهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال في الآية السابقة: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ.
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/ 187(17/102)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
1- الحق والصواب واحد لا يتعدد، فإن حكم سليمان كان هو الأصوب، ولكن لا مانع من الخطأ في الاجتهاد، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ولكن لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع، وعلى المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع الحادثة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم، لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»
وفي السنن الصحاح: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار» .
وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده.
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن:
ما رواه الإمام أحمد في مسنده والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقّه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله، هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصغرى» .
وأما حكم مسألة رعي الزرع ليلا في شرعنا، فقال الجصاص: ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ وذلك لأن داود(17/103)
عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم، ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلم «1» .
وأما آراء فقهائنا فهي كما يلي «2» :
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار. وقال الليث: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار.
وأما ما تتلفه المواشي بالليل فللعلماء فيه رأيان مشهوران:
رأي الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : وهو ضمان ما تتلفه البهائم ليلا، عملا بما قضى به النبي صلّى الله عليه وسلم في ناقة البراء، وهو أن حفظ البهائم بالليل على أرباب المواشي، وهذا حديث خاص، وأما
حديث «العجماء جرحها جبار»
أي أن فعل البهائم هدر، فهو عام، ولا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص، أي أنه يقدم الخاص على العام، ولأنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان، ويكون الضمان بالقيمة، وإن زادت على قيمة المواشي.
ورأي أبي حنيفة: ألا ضمان لما تتلفه المواشي، ليلا أو نهارا، للحديث المتقدم: «العجماء جرحها جبار» .
2- قال ابن العربي: من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه، مثل النحل والحمام والإوز والدجاج، وذلك كالماشية. وأما انتفاعه بما
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 223
(2) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1256 وما بعدها، تفسير الرازي: 22/ 199، تفسير القرطبي:
11/ 315.(17/104)
يتخذه بإضراره بأحد، فلا سبيل إليه،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار» «1» .
3- إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضى من السلف لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. فأما من لم يكن محلا للاجتهاد، فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، بدليل الحديث المتقدم:
«القضاة ثلاثة» قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب، لا على الخطأ، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ.
4- أكثر الفقهاء قالوا: إن الحق واحد من أقوال المجتهدين، وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فخص سليمان بالفهم، ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة.
5- هل للأنبياء الاجتهاد؟ اختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون الأكثرون لأنه ليس فيه استحالة عقلية لأنه دليل شرعي، فلا مانع أن يستدل به الأنبياء، والله تعالى قال: فَاعْتَبِرُوا [الحشر 59/ 2] وهو أمر للكل بالاعتبار، وذلك يشمل الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولأنه إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل بمعنى، ثم وجد ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن الفرع كالأصل في الحكم، ثم إنه لو جاز الاجتهاد للعلماء وهو أرفع درجات العلم، لثبت لأحد من أمة النبي صلّى الله عليه وسلم من الفضيلة ما لا يثبت له.
6- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به، إذا تبين له أن
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1258، تفسير القرطبي: 11/ 318(17/105)
الحق في غيره، فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام، وهذا ثابت أيضا في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
7- كان ترتيل داود عليه السلام لكتابه الزبور وتسبيحه تتردد أصداؤه في الجبال والطيور، وكانت هذه تتجاوب معه بالتسبيح، وتذكر الله معه بلغة خاصة بها، قال مقاتل: إذا ذكر داود عليه السلام ربه، ذكرت الجبال والطير ربها معه. وقيل: كان داود إذا وجد فترة أي راحة أمر الجبال، فسبّحت حتى يشتاق، ولهذا قال: وَسَخَّرْنا أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة بدليل قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ 34/ 10] . قال الرازي:
والقول الأول (أي قول مقاتل) أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وتسبيح الجبال والطير فيه دلالة على قدرة الله تعالى، وعلى تنزهه عما لا يجوز.
8- كان داود أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، لحماية الناس وحراستهم من السلاح في أثناء القتال، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر به. والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة.
9- هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا(17/106)
يصنع الخوص، وأخبر نبينا صلّى الله عليه وسلم عن داود عليه السلام أنه كان يأكل من عمل يده، وذلك أفضل الكسب. وكان آدم حراثا، وكان نوح يصنع السفن وكان نجارا، وكان إدريس ولقمان خياطين، وطالوت دباغا، أو سقّاء، وكل ذلك يدل على أن العمل كان منهج الأنبياء والصالحين، وطريق المؤمنين الأقوياء.
والإسلام دين يحب العمل ويوجبه، ويكره البطالة والكسل، ويحارب العاطلين والخاملين إذا كانوا قادرين على العمل،
جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلة، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» .
وبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر والبأس عن نفسه.
جاء في حديث آخر رواه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف» .
10- كان من إكرام الله تعالى لسليمان تسخير الريح التي تجري بأمره إلى حيث شاء، ثم تردّه إلى بلاد الشام المباركة. يروى أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم تردّه إلى الشام.
ومن إنعام الله عليه تسخير الشياطين له يعملون بصفة غواصين لاستخراج الجواهر من البحر، كما يعملون له أعمالا أخرى غير الغوص، من بناء المدن والقصور، ونحت المحاريب والتماثيل، وصناعة القدور الراسيات والجفان الواسعة والطواحين والقوارير والصابون، وغير ذلك مما يسخّرهم فيه، ويحفظ الله له أعمالهم من أن يفسدوها، أو أن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان، أو أن يهربوا أو يمتنعوا من أمره، فقد كانوا رهن إشارته، وطوع إرادته، لا يجرأ أحد منهم على الاقتراب منه.(17/107)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
القصة السادسة- قصة أيوب عليه السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
الإعراب:
رَحْمَةً مفعول لأجله مِنْ عِنْدِنا صفة.
البلاغة:
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألطف في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب.
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَأَيُّوبَ أي واذكر أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ لما ابتلي به من المرض، وهو بدل مما قبله أَنِّي أي بأني الضُّرُّ بالضم: الضرر والشدة في النفس من مرض وهزال. وأما الضّرر بالفتح: فهو الأذى في كل شيء، فالضّر خاص بما في النفس من مرض وهزال، والضرر: شائع في كل ضرر. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وصف ربه بغاية الرحمة، بعد ما ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب، لطفا في السؤال.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أجبنا له نداءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أزلنا ورفعنا ضره بالشفاء من مرضه وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وأعطيناه مثل أهله عددا، وزيادة مثل آخر، بأن ولد له ضعف ما كان عنده من زوجته وزيد في شبابها رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي رحمة على أيوب، وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب.(17/108)
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص خمسة من الأنبياء: إبراهيم، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وما تعرضوا له من الابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاءه له بأنواع المحن في نفسه وأهله، والكل قد صبروا على المحن والبلايا، وشكروا الله على ما أنعم عليهم من رفع البلاء، والنصر على أقوامهم.
أضواء على قصة أيوب عليه السلام:
ورد اسم أيوب عليه السلام في القرآن الكريم اربع مرات في سور النساء والأنعام والأنبياء وص. وهو أيوب بن أنوص، وأمه من ولد لوط عليه السلام، وكان عليه السلام روميا من ولد يعقوب بن إسحاق عليهما السلام. كان موطنه أرض عوص من جبل سعير أو بلاد أدوم، قيل: إنه كان قبل موسى، أو قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء، إلا أن اسم أبيه: أموص.
آتاه الله النبوة، وبسط عليه الدنيا، وكثّر أهله وماله، فكان له سبعة بنين، وسبع بنات، وذلك تعويضا عما ابتلاه الله من محنة في نفسه إذ مرض مدة طويلة هي ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبع سنوات ونيف، على حسب الروايات، ولكنه مرض غير منفر للناس لأن الأنبياء متصفون بالسلامة عن الأمراض المنفرة طبعا. وابتلاه الله أيضا في أهله بذهاب ولده، انهدم عليهم البيت، فهلكوا. وابتلاه كذلك في ماله بذهابه وفنائه، وكان رحيما بالمساكين، ويكفل اليتامى والأرامل، ويكرم الضعيف.
وقد أكرمه الله تعالى بكفارة يمينه، كما ذكر في سورة ص، بأن يأخذ بيده ضغثا، فيضرب به زوجته، حتى لا يكون حانثا. وزوجته: هي رحمة بنت أفرايم بن يوسف، أو ماخر بنت ميشا (منسا) بن يوسف، أو ليا بنت يعقوب، على اختلاف الروايات، ذهبت لحاجة، فأبطأت، أو بلغت أيوب(17/109)
عن الشيطان أن يقول كلمة محظورة فيبرأ، وأشارت عليه بذلك، فقالت له:
إلى متى هذا البلاء؟ فحلف إن برئ ليضربنها مائة ضربة، فحلل الله له يمينه وأمره بأن يأخذ ضغثا (وهو حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان) ويضربها به، وذلك رحمة به وبها، لحسن خدمتها إياه، ورضاه عنها.
وهي رخصة مقررة في عقوبات الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا في حالات الضرورة كالمرض والحمل.
التفسير والبيان:
أيوب عليه السلام مثل أعلى ومشهور في الصبر على المحنة والبلاء، حتى صار يضرب به المثل، فيقال: كصبر أيوب، وها هي قصته:
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ.. أي واذكر أيها الرسول للعبرة والعظة والتأسي خبر أيوب الذي أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، حين دعا ربه، وقد مسّه الضر فقال: رب إني مسني الضر والعناء، وأنت أرحم الرحماء. وصف نفسه بما يقتضي الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بمطلوبه بطريق التلطف في السؤال، وإيمانه بأن ربه عليم به. والنداء: الدعاء.
وكان مرضه طويل الأمد، إلا أنه غير منفر للناس ولا مشوه للجسد لأن الأنبياء معصومون، سالمون عن الأمراض المنفرة طبعا. وقد لازمته زوجته، وظلت تحنو عليه وتقوم بأمره.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه» .
قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات. قال ابن العربي: وهذا ممكن، ولكنه لم يصح في مدة إقامته خبر ولا في هذه القصة.(17/110)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أجبنا دعاءه، ورفعنا عنه ضره، وعافيناه.
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وعوضناه عما فقد في الدنيا، فأعطيناه مثل أهله وزيادة مثل آخر، فقد ولد له من زوجته من الأولاد ضعف ما كان عنده.
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي أعطيناه التعويض عن المال والأهل والولد، وعافينا جسده، رحمة منا به، وتذكيرا للعابدين بالاقتداء به، والصبر كما صبر، ليثابوا كما أثيب، وحتى لا ييأس مؤمن من عفو الله ورحمته وفضله، ولا يطمع مؤمن في أنه لا يصاب بسوء أو مكروه، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان.
وقال الزمخشري: أي لرحمتنا العابدين، وأنا نذكرهم بالإحسان، لا ننساهم، أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر القرطبي سبعة عشر قولا في بيان الضر الذي مس أيوب، والحق الاقتصار على ظاهر النص القرآني، وهو أنه أصيب بضرر في نفسه وبدنه وأهله وماله، فصبر، ثم عافاه الله تعالى، وأعطاه خيرا مما فقد، وأثنى عليه بالصبر:
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص 38/ 44] . والثابت المؤكد أن مرضه لم يكن منفرا. والهدف أن قصته عبرة، وتعريف أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على الإنسان أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى، وألا يضجر من شيء، وألا يتسخط ولا يتبرم، وإنما يصبر على حالتي الضراء والسراء. وقد أجمل الله تعالى هذه العبرة بقوله: رَحْمَةً(17/111)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ
أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا، وتذكيرا للعبّاد لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب، وصبره عليه ومحنته له، وهو أفضل أهل زمانه، صبروا صبر أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. وأما مدة إقامته في البلاء ففيها روايات،
قال القرطبي: الأصح منها- والله أعلم- ثماني عشرة سنة رواه ابن شهاب الزهري عن النبي صلّى الله عليه وسلم، كما ذكر ابن المبارك.
القصة السابعة- قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
البلاغة:
الصَّابِرِينَ الصَّالِحِينَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
وَإِسْماعِيلَ أي واذكر وَذَا الْكِفْلِ يعني إلياس وقيل: يوشع بن نون، وقيل:
زكريا، سمي بذلك لأنه كان ذا حظ من الله، أو تكفل منه، أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم. والكفل في اللغة بمعنى النصيب، والكفالة، والضعف. قيل: لم يكن نبيا، والأكثرون أنه نبي وهو ابن أيوب عليه السلام، وهذا ما صرح به الرازي والزمخشري، خلافا للقرطبي.
قيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح، يونس وذو النون، محمد وأحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(17/112)
كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي كل هؤلاء من الصابرين على مشاق التكاليف وشدائد النوائب، أو على طاعة الله وعن معاصيه وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعني في النبوة، أو في نعمة الآخرة إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى صبر أيوب عليه السلام ودعاءه ربه، أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء، فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة. أما إسماعيل عليه السلام: فلأنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على الإقامة ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت، فأكرمه الله بجعل خاتم النبيين من صلبه.
وأما إدريس فكما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى، فأبوا، فأهلكهم الله تعالى، ورفع إدريس إلى السماء الرابعة» وهو أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة للحرب.
وأما ذو الكفل: فإنه صبر على صلاة الليل حتى يصبح، وعلى صيام النهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، ووفى بذلك وبما ضمن على نفسه.
قيل: إنه كان عبدا صالحا، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة، والأكثرون كما ذكرت أنه من الأنبياء عليهم السلام، بدليل اقترانه مع الأنبياء.
التفسير والبيان:
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي واذكر أيها النبي نبأ إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس بعد شيث وآدم، وذي الكفل أي الحظ الكثير، الذي هو إلياس ومن بني إسرائيل، وقد عاش في بلاد الشام، كل(17/113)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
واحد من هؤلاء من الصابرين المحتسبين الذين صبروا على البلاء والمحن، وعلى طاعة الله وعن معاصيه. وقد عرفنا أحوال صبر كل منهم.
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي وجعلناهم من أهل رحمتنا بالنبوة، ودخول الجنة، والظفر برضانا وثوابنا لأنهم من فئة الكاملي الصلاح لأنهم أنبياء معصومون، وصلاحهم لا يعكره فساد.
فقه الحياة أو الأحكام:
هؤلاء الأنبياء الثلاثة: إسماعيل، وإدريس، وذو الكفل من الذين صبروا على أمر الله تعالى، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه، فكافأهم الله تعالى بنيل رضاه، ودخول جنته لأنهم قوم صالحون، كاملوا الصلاح والتقوى، بعيدون عن الفساد بمظاهره المختلفة.
والمراد هو التأسي والاقتداء بهم، فإنه لم يقصّ الله في قرآنه على الناس نبأ أحد من الأنبياء إلا وكان في ذلك الخير والفائدة، والعبرة والعظة، وضرب الأمثال العملية الواقعية للالتزام بأمر الله، والاستقامة في الدين والحياة.
القصة الثامنة- قصة يونس عليه السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)(17/114)
الإعراب:
وَذَا النُّونِ منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر ذا النون مُغاضِباً منصوب على الحال من ضمير ذَهَبَ وهو العامل في الحال. وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وقرئ: نجي المؤمنين قال أكثر النحويين: إن هذه القراءة محمولة على إخفاء النون من نُنْجِي فتوهمه الراوي إدغاما. وأجازه آخرون على أنه فعل مبني للمجهول، على تقدير المصدر، لدلالة الفعل عليه، وإقامته مقام الفاعل، أي: نجّي النجاء المؤمنين، كقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني: ليجزي قوما أي ليجزي الجزاء قوما.
المفردات اللغوية:
وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، وإِذْ: بدل مما قبله، أي ذهب غضبان من قومه، مما قاسى منهم، لطول دعوتهم، وإصرارهم على الكفر، ذهب قبل أن يؤمر أو يؤذن له في الذهاب. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي فظن أن لن نضيق عليه، كما في قوله تعالى: وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26 وغيرها] أي ويضيق، وقوله:
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق 65/ 7] أي ضيق أو ظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، من التقدير أي القضاء والحكم. أو أن يكون ذلك من باب التمثيل بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. هذه تأويلات. ويجوز أن يكون ذلك مجرد وسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، فسمي ظنا للمبالغة، كما قال تعالى مخاطبا المؤمنين: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب 33/ 10] . والخلاصة: أن الظن هنا ليس حاصلا من يونس عليه السلام لأن من ظن عجز الله تعالى فهو كافر.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة، أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه لا إله إلا أنت سُبْحانَكَ تنزيها لك من أن يعجزك شيء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة من غير إذن.
جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» .
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي أجبنا له دعاءه بتلك الكلمات، بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات مكث فيها في بطنه، وقيل: ثلاثة أيام. مِنَ الْغَمِّ: أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت، وبسبب خطيئته وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذا دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا.(17/115)
المناسبة:
هذه قصة يونس عليه السلام، تبين مدى فضل الله وإنعامه عليه، كما أنعم على الأنبياء المتقدمين الذين ذكر قصصهم، وأجاب دعاءهم بعد الكرب والشدة، ومقاساة الأهوال، والصبر على العناء.
التفسير والبيان:
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي واذكر أيها الرسول قصة يونس بن متى عليه السلام حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى (من أرض الموصل) وكان اسم ملكها «حزقيا» فدعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بينهم مغاضبا لهم، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث.
فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، كما قال تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَمَّا آمَنُوا، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 10/ 98] .
وأما يونس عليه السلام: فإنه ذهب، فركب مع قوم في سفينة، فاضطربت بهم وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم في البحر، للتخفيف، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها، فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا، كما قال تعالى:
فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
[الصافات 37/ 141] أي وقعت عليه القرعة.
فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر،(17/116)
فأرسل الله سبحانه إليه من البحر حوتا يشق البحار، فالتقمه «1» .
وقوله: ذَا النُّونِ أي الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله: مُغاضِباً أي غضبان من قومه، لتكذيبهم إياه، وكراهيته خلف ما أوعدهم به من العذاب بعد ثلاث، لكنه لم يأتهم، لتوبتهم التي لم يعلم بها، لا كراهية لحكم الله، أو مغاضبا ربه، وإلا كان مرتكبا كبيرة لا تليق بالشخص العادي فضلا عن النبي، فهو مغاضب من أجل ربه، بدليل وصف نفسه أنه من الظالمين، وهذا رأي أكثر المفسرين.
أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي نضيق عليه في بطن الحوت، ونقضي عليه بالعقوبة، من القدر والتقدير أي القضاء والحكم، كما في قوله تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر 54/ 12] أي قدّر، وكان خروجه يشبه حالة الآبق.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ أي فدعا ربه في أعماق الظلمات المتكاثفة أو من تحت الظلمات الثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل: تنزيها لك يا رب، أنت الإله وحدك لا شريك لك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء.
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ نفسي بالخروج دون أمر أو إذن منك، وهذا خلاف الأولى للأنبياء، بدليل قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم 68/ 48] .
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي فأجبنا له دعاءه الذي أظهر به الندم والتوبة.
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي وأخرجناه من بطن
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 191(17/117)
الحوت وتلك الظلمات، وكما أنجيناه من الكرب والشدة، ننجي أيضا المؤمنين الصادقين إذا استغاثوا بنا، وطلبوا رحمتنا.
روى البيهقي وغيره عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له»
فهو قد بدأ بالتوحيد، ثم بالتنزيه والتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والإقرار على نفسه بالظلم أي الذنب.
وروى ابن أبي حاتم عن أنس يرفع الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت قال:
اللهم، لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا، يا رب، ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل، ودعوة مجابة، قالوا: يا رب، أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء، فتنجيه من البلاء؟ قال:
بلى، فأمر الحوت، فطرحه في العراء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أحوال الأنبياء عجائب وغرائب ومعجزات خاصة يظهرها الله على أيديهم، لا تقاس عليها إطلاقا أحوال البشر العاديين. وقصة يونس من هذه العجائب الفريدة.
فقد ذهب يونس عليه السلام مغاضبا من أجل الله، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي، وكانت هذه المغاضبة صغيرة في رأي القرطبي، ولم يغضب على الله، ولكن غضب لله، إذ رفع العذاب عنهم.(17/118)
فلا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه لأن ذلك صفة الجاهل كون الله مالكا للأمر والنهي، والجاهل بالله لا يكون مؤمنا، فضلا على أن يكون نبيا، وإنما خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه.
لكن كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في الهجرة عن قومه، لهذا قال تعالى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم 68/ 48] كأن الله تعالى أراد لمحمد صلّى الله عليه وسلم أفضل المنازل وأعلاها.
وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه (أي يونس) وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم فإنه كره رفع العذاب عنهم.
وظن يونس عليه السلام عند ذهابه أن لا يضيق الله عليه بالحبس، أو ألا يقضي عليه بالعقوبة، من القدر الذي هو القضاء والحكم، وورد القدر بمعنى التضييق كما في الآيتين المتقدمتين: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26] أي يضيق، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق 65/ 7] .
وورد بمعنى التقدير وهو الحكم، وليس القدرة والاستطاعة، كما في قوله تعالى:
فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر 54/ 12] .
ثم أدرك يونس وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت أنه ظلم نفسه في الخروج من غير أن يؤذن له، أو في ترك الصبر على قومه، وليس في ذلك من الله عقوبة لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا وتعليما، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، فتضرع إلى الله وجأر إليه بالدعاء المتقدم: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ.. فأكرمه الله تعالى، وحماه من أن يهضم الحوت جسده، وإنما جعله له سجنا فقط، ثم أمر الحوت بإلقائه، فطرحه على ساحل البحر.(17/119)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
جاء في الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه، كما أجابه، وينجّيه كما أنجاه.
ومن فضل الله ورحمته أن هذا الإنجاء لمن استغاث بالله واستعان به ليس خاصا بيونس عليه السلام، وإنما هو شامل لكل المؤمنين إذا استغاثوا بالله، وطلبوا رحمته، فإن الله تعالى يخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات 37/ 144] .
وهذا من حفظ الله لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ له ما أسلف من الطاعة.
والله يجيب دعاء الداعين في أي مكان، لذا
قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإني لم أكن، وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت» «1» .
وهذا دليل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة معينة.
القصة التاسعة والعاشرة- قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 91]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
__________
(1) روى البخارى ومسلم وابو داود عن ابن عباس الحديث بلفظ آخر.(17/120)
الإعراب:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها وَالَّتِي: منصوب بفعل مقدر، أي: واذكر التي أحصنت.
آيَةً منصوب مفعول ثان بجعل. وقال: آيَةً، ولم يقل: آيتين لوجهين:
أحدهما- لأن التقدير: وجعلناها آية، وجعلنا ابنها آية، إلا أنه اكتفى بذكر الثاني عن ذكر الأول. والثاني- أن يكون آيَةً في تقدير التقديم، أي وجعلناها آية للعالمين وابنها، والوجه الأول أوجه.
البلاغة:
رَغَباً وَرَهَباً بينهما طباق.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا نسب الروح إليه تعالى تشريفا وتكريما، مثل ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف 7/ 73 ومواضع أخرى] .
المفردات اللغوية:
وَزَكَرِيَّا أي واذكر زكريا. إِذْ نادى بدل منه، أي دعا ربه بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي لا تتركني وحيدا بلا ولد يرثني. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي. فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي نداءه. وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للولادة، فأتت بالولد بعد عقمها. إِنَّهُمْ أي المذكورين من الأنبياء عليهم السلام. يُسارِعُونَ يبادرون. فِي الْخَيْراتِ أي الطاعات. رَغَباً في رحمتنا.
وَرَهَباً من عذابنا. خاشِعِينَ متواضعين في عبادتهم.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ أي واذكر مريم التي حفظت فرجها من أن ينال بالحلال أو الحرام.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أحيينا عيسى وأوجدناه في جوفها، ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، حيث نفخ في جيب درعها (قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ هم الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير رجل. ولم يقل: آيتين، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء 17/ 12] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل.(17/121)
المناسبة:
بعد بيان النعم الخاصة بكل نبي، أبان الله تعالى ما أنعم به على زكريا عليه السلام بمنحه الولد، في حال الكبر هو وزوجته، وبعد أن مسّه الضر بتفرده، فدعا ربه أن يرزقه الولد، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته.
وكان دعاؤه دعاء مخلص عارف بأن الله تعالى قادر على ذلك، وإن بلغ هو وزوجته سن اليأس من الولد، بحسب العادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان سنّه مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين.
ثم ذكر تعالى قصة مريم وولادتها عيسى، لما بين ولادته وولادة يحيى من الغرابة وتشابه المعجزة. وتقدمت القصتان في سورتي آل عمران ومريم.
التفسير والبيان:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ ... أي واذكر أيها الرسول خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا، يكون من بعده نبيا، فدعا ربه خفية عن قومه قائلا:
ربّ لا تتركني وحيدا، لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في دعوة الناس إليك، وأنت الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنك خير وارث. وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ دعاء وثناء.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي فأجبنا نداءه ومطلبه، ووهبناه ولدا اسمه يحيى، وأصلحنا له امرأته بإزالة موانع الولادة، فولدت بعد العقم وفي حال الكبر.
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي إن المذكورين من الأنبياء عليهم السلام، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى طاعتنا والتقرب إلينا، أو إلى(17/122)
فعل الطاعات، وعمل القربات، والمراد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم في تحصيلها، كما يفعل الراغبون في الأمور الجادة.
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي ويدعوننا رغبة في رحمتنا وفضلنا، وخوفا من عذابنا وعقابنا، وكانوا لنا متواضعين متذللين.
والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين:
أحدهما- الفزع إلى الله تعالى، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.
والثاني- الخشوع: وهو المخافة الثابتة في القلب، أو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدا.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه، ثم قال: «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» .
ثم يذكر الله تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، كما هو المعتاد في كلامه تعالى، فيذكر أولا قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير طاعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر، لم تكن تلد في حال شبابها. أما قصة مريم فهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر.
حدث هذا الاقتران بين القصتين في سورتي آل عمران ومريم، وهاهنا في سورة الأنبياء.(17/123)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي واذكر نبأ مريم التي منعت نفسها من الرجال، سواء في الحلال أو الحرام، كما حكى تعالى عنها: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم 19/ 20] وكما قال في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [12] .
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي نفخنا الروح في عيسى في بطنها، أي أحييناه في جوفها. ويلاحظ أن الضمير هنا عائد إلى مريم، وليس المقصود كما هو الظاهر إحياء مريم، وإنما إحياء عيسى في جوفها. وأما في سورة التحريم فالضمير عائد إلى فرجها، أي فنفخنا في فرجها، وقرئ: فيها أي في مريم أو الحمل. وقوله: مِنْ رُوحِنا في السورتين أي من روح خلقناه بلا توسط أصل. وأضيف إلى الله تعالى تشريفا.
وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي وجعلنا أمر مريم وعيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة، دالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ.
ونظير الآية قوله سبحانه: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم 19/ 21] ولم يقل:
آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين، أو أن الآية واحدة وهي الولادة من غير رجل، وقوله: لِلْعالَمِينَ أي الجن والإنس والملائكة.
وهناك آيات أخرى لكل من مريم وعيسى، مثل إتيان الملائكة لها برزقها:
يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران 3/ 37] . وأما آيات عيسى فمثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله كما جاء في [آل عمران: الآية 49] .(17/124)
فقه الحياة أو الأحكام:
إن في كلّ من قصتي زكريا وابنه يحيى ومريم وابنها عيسى آية خارقة للعادة، ومعجزة غير معتادة دالة على قدرة الله تعالى الفائقة، والشاملة لكل شيء.
أما قصة زكريا فقد أكرمه الله تعالى بولادة يحيى بعد دعاء ومناجاة، وتضرع وإخلاص، وأدب وتفويض لله تعالى، وذلك في سن الكبر هو وامرأته، التي كانت عاقرا لا تلد في وقت الشباب. ووجه الآية الفريدة أن الكبير عادة لا ينجب، وأن العاقر العقيم لا يلد، فأزال الله موانع الولادة، وهيأ القدرة على الإنجاب والإخصاب عند الأب زكريا عليه السلام.
وسبب هذه الإجابة لدعاء زكريا أنه كان كغيره من الأنبياء يبادر إلى فعل الطاعات، وعمل القربات، وأنه كان يدعو في حال الرخاء وحال الشدة، وحال الرجاء والرهبة، وأملا في رحمة الله وفضله، وخوفا من عذابه وعقابه لأن الرغبة والرهبة متلازمتان.
وأما قصة مريم الطاهرة البتول فقد أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا، ولم يقربها رجل، وتمّ نفخ الروح في جوفها، وإيجاد عيسى بواسطة جبريل الروح القدس من غير أصل ذكر.
فقوله: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا معناه أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها أي قميصها، فأحدثنا بذلك النفخ (المسيح) في بطنها، ووصل النفخ إلى جوفها، وسرت الروح إلى فرجها، وكان ذلك آية أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
وآيات مريم كثيرة كما تقدم:(17/125)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
أحدها- ظهور الحمل فيها من غير ذكر.
وثانيها- أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة.
وثالثها ورابعها- قال الحسن البصري: إنها لم تلتقم ثديا يوما قط، وتكلمت هي أيضا في صباها، كما تكلم عيسى عليه السلام «1» .
وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها في سورة آل عمران.
وكل تلك الآيات بإذن الله وأمره، وليس للبشر فيها قدرة مع قدرة الله تعالى وتدبيره وحكمته.
وحدة الرسالات السماوية والسنّة الإلهية
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 218 [.....](17/126)
الإعراب:
أُمَّةً واحِدَةً حال لازمة.
لا يَرْجِعُونَ: إما زائدة، أي وحرام أنهم يرجعون، أي إلى الدنيا، وأن واسمها وخبرها خبر المبتدأ: حَرامٌ. وإما غير زائدة، ويكون حَرامٌ مبتدأ، وخبره مقدر، أي: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون كائن أو محكوم عليه، فحذف الخبر، وحذف الخبر أكثر من زيادة «لا» وهو الأوجه عند أبي علي الفارسي والزجاج.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ.. جواب إِذا إما مقدر، تقديره: قالوا: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، وإما أن يكون الجواب قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ والواو زائدة، وهذا مذهب الكوفيين، وإما أن يكون الجواب قوله: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
البلاغة:
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ التفات من الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين للتقبيح، واستعارة تمثيلية، مثل اختلافهم في الدين وتفرقهم أحزابا بالجماعة التي تتوزع الشيء أنصباء.
فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ استعارة، أستعير الكفران لمنع الثواب، كما أستعير الشكر لإعطائه.
يا وَيْلَنا فيه إيجاز بالحذف، أي: ويقولون: يا ويلنا.
فَاعْبُدُونِ، راجِعُونَ، كاتِبُونَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الأمة لغة: القوم المجتمعون على أمر، ثم شاع استعمالها في الدين أو الملة، أي إن ملة التوحيد أو الإسلام ملتكم ودينكم أيها المخاطبون، التي يجب عليكم أن تكونوا عليها.
أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي أنا الله لا إله غيري، فوحدوني واعبدوني لا غير.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعل بعض المخاطبين أمر دينهم فيما بينهم قطعا، بمعنى أنهم تفرقوا في الدين، وتخالفوا فيه، وجعلوا أمره قطعا موزّعة بقبيح فعلهم، وهم طوائف اليهود والنصارى. كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي كل من الفرق المتجزئة راجعون إلينا فنجازيهم بأعمالهم.
فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا جحود ولا إنكار لعمله، ولا تضييع لثوابه. وَإِنَّا لَهُ(17/127)
كاتِبُونَ
أي وإنا لسعيه مثبتون في صحيفة عمله، لا نضيع شيئا منه بوجه ما، ونأمر الحفظة بكتبه، فنجازيه عليه.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي ممتنع على أهلها، غير متصور منهم. أَهْلَكْناها أي حكمنا بإهلاكها أو قدرنا هلاكها، أو وجدناها هالكة. أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ لا: زائدة، أي ممنوع عليهم رجوعهم إلى التوبة أو إلى الدنيا.
حَتَّى غاية لامتناع رجوعهم، أي يستمر عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج. إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أي إذا فتح سدهما، وذلك قرب يوم القيامة، وهما اسمان أعجميان لقبيلتين. وَهُمْ يعني يأجوج ومأجوج، أو الناس كلهم.
مِنْ كُلِّ حَدَبٍ مرتفع من الأرض. يَنْسِلُونَ يسرعون أو يخرجون مسرعين، مأخوذ من نسلان الذئب، أي إسراعه.
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي قرب يوم القيامة. فَإِذا هِيَ أي القصة، وإذا:
للمفاجاة، كقوله: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم 30/ 36] وهي جواب الشرط السابق وهو حَتَّى إِذا.... شاخِصَةٌ مرتفعة أجفانها لا تكاد تنظر، من شدة الهول. يا وَيْلَنا أي يقولون: يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. قَدْ كُنَّا في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، لم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتكذيبنا الرسل، وإخلال النظر.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أن دين الإنسانية دين واحد، فيقول:
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ... أي إن ملة التوحيد أو ملة الإسلام هي ملة واحدة وشريعة واحدة، متفق عليها بين جميع الأنبياء والشرائع، وهي التي يجب أن تكونوا عليها، فكونوا عليها أمة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء، وأنا الله الذي لا إله غيري فاعبدوني وحدي، ولا تشركوا معي شيئا آخر، من ملك أو بشر أو حجر أو شجر أو صنم.
وقال في آية أخرى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون 23/ 52] .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد:(17/128)
«نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات «1» ديننا واحد»
يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له، بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] فليس الاختلاف في أصول العقيدة والأخلاق والفضيلة والعبادة، وإنما الاختلاف في الفروع والجزئيات والأشكال بحسب الاختلاف في الأزمنة والعصور.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي إن الأمم اختلفت على رسلها، بين مصدق لهم ومكذب، وفرقوا أمر دينهم بينهم فرقا شتى، وهذا بطريق الالتفات إلى الغيبة للتقبيح، والأصل: وتقطعتم، كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبّح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء.
والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه، فيصير لهذا نصيب، ولهذا نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. وهذا التفرق في أمر الدين الواحد معيب شنيع، ولهذا قال تعالى متوعدا على فعلهم:
كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي كل فرقة منهم سيرجعون إلينا يوم القيامة، فنجازي كل واحد بحسب عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وطريق الجزاء ومنهاجه هو:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ من: للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات كلها، فرضها ونفلها، والمعنى: ومن يعمل عملا صالحا موافقا لمنهاج الله تعالى، وهو بقلبه ولسانه مصدق بربه ورسله، أو من يعمل شيئا من الطاعات وهو موحد مسلم، فلا تضييع لسعيه، ولا بطلان لثواب عمله، ولا جحود لعمله،
__________
(1) أولاد العلّات: أولاد الرجل من نسوة شتى.(17/129)
أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطى، بل يشكر أي يثاب عليه، ونوفيه الجزاء الأوفى، ولا يظلم مثقال ذرة، وإنا له مثبتون حافظون جميع عمله في صحيفته، لنجازي عليه، فلا يضيع عليه منه شيء، مهما صغر، كما قال في آيات أخرى منها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف 18/ 30] ومنها: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 19] .
والآية دليل على أن أساس القبول والنجاة الجمع بين أن يكون الشخص مؤمنا، وبين أن يعمل الصالحات، والإيمان: يشمل العلم والتصديق بالله ورسوله، والعمل الصالح هو فعل الواجبات وترك المحظورات. والكفران:
مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه، والمراد من الآية فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ المراد نفي للجنس، وفيه ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي وممتنع على أهل قرية حكمنا بإهلاكها رجوعهم إلى التوبة أو الحياة الدنيا قبل يوم القيامة. وتكون لا زائدة للتأكيد، وهو كقوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس 36/ 50] . وقوله: حَرامٌ مستعار لمنع الوجود بحال، مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [الأعراف 7/ 50] أي منعهما.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي يستمر عدم رجوع القوم المهلكين إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان أو الناس جميعا، وإتيان الناس مسرعين من كل مرتفع من الأرض. ويكون المقصود من الآية الردّ على المشركين الذين ينكرون البعث والجزاء.(17/130)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وقرب يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلايا، وإذا حدث ذلك أو وقع ترى أبصار الكافرين مرتفعة الأجفان، مثبتة الحدق، جامدة لا تتحرك، لا تكاد تنظر من هول وشدة ما يشاهدونه من الأمور العظام.
يا وَيْلَنا، قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي يقولون:
يا هلاكنا، والويل: الهلاك، قد كنا في الدنيا غافلين لاهين، لم نعلم أن هذا هو الحق، وأن البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء ثابت قائم، بل إننا في الواقع ظالمون لأنفسنا بتعريضها للعذاب، وهذا اعتراف صريح بظلمهم لأنفسهم، حيث لا ينفعهم ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على وحدة الرسالات السماوية في أصولها، وعلى تفرق الناس في أمر الدين، وعلى وحدة السنن الإلهية في إثابة المؤمن الصالح العمل، وتعذيب الكافر المسيء، وعلى إثبات البعث والجزاء وما يشتمل عليه من شدائد وأهوال.
أما وحدة الرسالات السماوية: فالأنبياء كلهم متفقون على التوحيد، لذا وجب اتفاق البشر قاطبة على أن الإله واحد لا شريك له، وعلى وجوب إفراده بالعبادة. أما المشركون فقد خالفوا كل الأنبياء.
وأما الاختلاف في الدين بين مصدق ومكذب: فهو ظاهرة شائعة، لذا نعى الله تعالى التفرق في أمر الدين، سواء المسلمين أو اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وذمهم لمخالفتهم الحق، وندد بغير المسلمين اتخاذهم آلهة من دون الله، فيكون المراد بقوله: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ جميع الخلق، بأن جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا، وتقسموه بينهم، فمن موحّد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. والكل من هؤلاء الفرق المختلفة راجع إلى حكم الله فيجازيهم.(17/131)
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، فهلكت سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، فتهلك إحدى وسبعون فرقة، وتخلص فرقة واحدة، قالوا:
يا رسول الله، من تلك الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة، الجماعة، الجماعة»
فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن في قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في الناجية: إنها الجماعة، إشارة إلى أمة الإيمان. ولكن المراد
بقوله: «ستفترق أمتي»
أي في حال ما، وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال، لا يجوز أن يزيد أو ينقص «1» .
والقاعدة الثابتة أن من يعمل شيئا من الطاعات، فرضا أو نفلا، وهو موحد مسلم، مصدق بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فلا جحود ولا كفران لعمله، ولا يضيع جزاؤه، والكفر ضدّ الإيمان، وهو أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر، والله حافظ لعمله، كما قال تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران 3/ 196] أي كل ذلك محفوظ ليجازى به. وفي هذا ترغيب الناس بطاعة الله تعالى.
ومن القواعد والسنن الثابتة الجارية على منهاج واحد أنه ممتنع على أهل قرية أهلكهم الله أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، وهذا على أن لا زائدة. والراجح عند أبي علي الفارسي والزجاج أن لا غير زائدة، إذ لا فائدة في أن المراد: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا، وإنما في الكلام إضمار، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون. وهذا هو الأولى عندي.
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 219،
والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، ولفظه:
«افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .(17/132)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
ويظل المنع من رجوعهم إلى فتح سد يأجوج ومأجوج، وهم الناس جميعا، أو هم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر في رأي القرطبي، وإلى خروج الناس من قبورهم مقبلين من كل حدب (مرتفع من الأرض) ، وذلك يحصل عند قيام الساعة (القيامة) وهذا دليل على إثبات النشر والحشر.
ثم أثبت الله تعالى البعث والجزاء بقوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وما يتعرض له الكفار من أهوال وشدائد تشخص منها أبصارهم، أي ترتفع من هول القيامة لا تكاد تطرف، ويقولون: يا ويلنا ويا هلاكنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا، ووضعنا العبادة في غير موضعها.
أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 106]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)(17/133)
الإعراب:
كَطَيِّ السِّجِلِّ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، أي نطوي السماء طيّا كطي السجل، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه، والمصدر مضاف إلى المفعول إذا كان بمعنى المكتوب فيه وهو الصحيفة، أي كما يطوى السجل. وللكتاب: أي للكتابة، كقوله تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران 3/ 48] .
وَعْداً عَلَيْنا منصوب بوعدنا المقدر قبله، وهو مؤكد لمضمون ما قبله.
البلاغة:
نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي نطوي السماء طيا مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها.
المفردات اللغوية:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنكم أيها الكفار والمشركون وما تعبدونه من الأوثان من غير الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ما يرمى به إليها من حطب ووقود. وارِدُونَ داخلون فيها.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً لو كان هؤلاء الأوثان آلهة كما زعمتم. ما وَرَدُوها دخلوها لأن المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها. وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ كل من العابدين والمعبودين خالدون دائمون في جهنم.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي للعابدين في جهنم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف.
لا يَسْمَعُونَ شيئا لشدة غليانها. الْحُسْنى المنزلة الحسنى أو الكلمة الحسنى التي تبشر بثوابهم الحسن على أعمالهم. حَسِيسَها صوتها الذي يحس من حركتها. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم. خالِدُونَ دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ النفخة الثانية أو الأخيرة لقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل 27/ 87] وقيل: هو الانصراف إلى النار وهو أن يؤمر بالعبد إلى النار، وقيل: حين يطبق على النار، أو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تستقبلهم الملائكة مهنئين عند خروجهم من القبور. هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي ويقولون لهم: هذا اليوم الذي كنتم توعدون به في الدنيا.
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ أي اذكر يوم الطي: وهو ضد النشر. السِّجِلِّ الصحيفة المكتوب فيها. لِلْكُتُبِ للكتابة فيها. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ أي من عدم. نُعِيدُهُ بعد إعدامه. وَعْداً منصوب ب نُعِيدُهُ، أو بفعل مقدر تأكيدا ل نُعِيدُهُ أي وعدناه وعدا. عَلَيْنا أي علينا إنجازه. إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ما وعدنا ذلك لا محالة.(17/134)
الزَّبُورِ كتاب داود. الذِّكْرِ أي التوراة، أو جنس الكتب المنزلة، أو اللوح المحفوظ. أَنَّ الْأَرْضَ أرض الجنة. عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أي عامة المؤمنين أو كل صالح.
إِنَّ فِي هذا القرآن أو ما ذكرناه من الأخبار والمواعظ والمواعيد. لَبَلاغاً كفاية في دخول الجنة. لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي همهم العبادة دون العادة.
سبب النزول: نزول الآية (101) :
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى: أخرج الحاكم عن ابن عباس قال:
لما نزلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قال ابن الزّبعرى: عبد الشمس والقمر والملائكة وعزير، فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ونزلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف 43/ 57- 58] .
المناسبة:
بعد بيان أحوال أهل النار وأهل الجنة، واقتراب الساعة، ذكر الله تعالى حال العابدين والمعبودين من دون الله، وأنهم سيكونون وقود جهنم، باستثناء أهل السعادة أو البشرى بالثواب.
التفسير والبيان:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ.. إنكم أيها المشركون بالله من عبدة الأصنام والأوثان وما تعبدون من غير الله، وقود جهنم، أنتم جميعا داخلون فيها، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة 2/ 24] .
ويشمل ما يعبدون من دون الله الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم(17/135)
لهم، واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ولا تشمل هذه الآية عزيرا والمسيح والملائكة لأن قوله: إِنَّكُمْ خطاب مشافهة مع مشركي قريش، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط، ولأنه تعالى لم يقل: (ومن تعبدون) بل قال: وَما تَعْبُدُونَ وكلمة ما لا تتناول العقلاء، فسقط سؤال ابن الزبعرى، كما أبان الرازي «1» . وأما قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس 91/ 5] وقوله:
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون 109/ 2] فهو محمول على الشيء، ونظيره هاهنا أن يقال: إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم، فلا يرد سؤال ابن الزبعرى.
ويتضح سبب النزول المتقدم ودخول الشياطين في المعبودين بما يأتي:
روى محمد بن إسحاق في سيرته: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد، وصناديد قريش في الحطيم «2» ، وحول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فأقبل عبد الله بن الزّبعرى، فرآهم يتهامسون، فقال فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله، فقال عبد الله: أما والله، لو وجدته لخصمته، فدعوه، فقال ابن الزّبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، يعني عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام.
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 223
(2) الحطيم: جدار حجر الكعبة أي حجر إسماعيل من ناحية الشمال.(17/136)
وأما سبب إدخال المعبودين في النار: فهو كما أبان الزمخشري «1» ليزداد العابدون بهم غمّا وحسرة، وليكونوا أبغض شيء لديهم بعد أن اتخذوهم في الدنيا شفعاء لهم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى دليل كون المعبودين غير آلهة فقال:
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها أي لو كان هؤلاء الأصنام وأشباههم آلهة صحيحة تنفع وتضر كما يظن العابدون ما دخلوا النار، إذ لو كانت تنفع وتضر لأبعدت الضر عن نفسها، فهي جديرة بالهجرة والإهانة.
وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي وكل من هؤلاء الآلهة المعبودين دائمون في عذاب النار، لا مخرج لهم منها.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي ولهم في النار من شدة العذاب وشدة الكرب والغم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف، كما قال تعالى:
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود 10/ 106] وهم لا يسمعون فيها ما يسرهم أو ينفعهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية.
وبعد بيان أحوال أهل النار، ذكر الله تعالى أحوال السعداء من المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أي إن الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، فهم مبعدون عن دخول النار، وهم في الجملة: أهل السعادة أو البشرى بالثواب، أو التوفيق للطاعة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] .
يروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر،
__________
(1) الكشاف: 2/ 338(17/137)
وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة، فقام يجرّ رداءه، وهو يقول: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها.
وأوضاع نعيمهم هي:
1- لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي لا يسمعون صوت النار، وحريقها في الأجساد، ولا يصيبهم شررها.
2- وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ أي وهم ماكثون أبدا فيما يشتهونه من نعيم الجنة ولذائذها. والشهوة: طلب النفس اللذة.
3- لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ لا يخيفهم هول النفخة الثانية أو الأخيرة بعد قيامهم من قبورهم للحساب، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل 27/ 87] . وقيل بغير ذلك كما تقدم في بيان المفردات. والأصح: أنه أهوال يوم القيامة والبعث.
4- وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي وتستقبلهم الملائكة تقول لهم وتبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: هذا يومكم الذي وعدتم به في الدنيا، يوم المسرة والكرامة والمثوبة والحسنى.
وذلك التلقي والاستقبال هو كما قال تعالى:
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء، أو تتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء يوم القيامة كما يطوى السجل، أي الصحيفة للكتابة فيه، وهذا موقف آخر فيه روع وخوف وحيرة، كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 39/ 67] .
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي أن هذا الطي(17/138)
كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق بالبعث خلقا جديدا، كما بدأهم في المرة الأولى، وهو القادر على إعادتهم، وذلك وعد الله الذي لا يخلف، والله تعالى فاعله حتما، فهو واجب الوقوع، ولا بدّ من تحققه لأنه قادر عليه. وقوله:
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل ذلك.
ونظير الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 6/ 94] ، وقوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
[الكهف 18/ 48] .
ثم أخبر الله تعالى عما قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، فقال:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ.. أي ولقد قضينا قضاء محتما في كتاب الزبور بعد التوراة أو القرآن أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون إلا للعباد الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى.
والذّكر: التوراة، وقال ابن عباس: القرآن، وقيل: إنه أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ، فهو اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب.
والأرض: إما أرض الجنة، كما قال تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر 39/ 74] . وإما أرض الدنيا، وأهلها الصالحون لعمارتها، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] ، وقال سبحانه: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] . وإما الأرض المقدسة يرثها الصالحون، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] .(17/139)
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي إن في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة البلاغ أي الكفاية والمنفعة لقوم عابدين: وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبّه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن المشركين بالله والآلهة التي عبدوها من دون الله من الأصنام والأوثان والشياطين وقود جهنم، هم جميعا داخلون فيها، إظهارا لعدم فائدة عبادتها، وزيادة لعابديها في الغم والحسرة، وإيجاد الكراهية الشديدة لها، وإمعانا في السخرية منهم ومن عبادتهم، وإقامة الحجة القاطعة على قدرة الله الشاملة لكل شيء.
وقد استدل الأصوليون بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ على القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة بدليل الاستثناء منها.
2- الدليل على إبطال صفة الألوهية لتلك الآلهة المزعومة أنه لو كانت الأصنام وأمثالها آلهة لما ورد عابدوها النار، ولما خلدوا هم والمعبودون فيها.
3- أحوال المعذبين النفسية في النار غريبة وشديدة، فلهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين زفير: وهو صوت المغموم الذي يخرج من القلب، ولا يسمعون ما يسرهم، بل ما يسوؤهم من أصوات الزبانية الذين يتولون تعذيبهم.
4- إن أهل السعادة والتوفيق للطاعة والبشرى بالثواب مبعدون عن دخول النار.(17/140)
وأحوالهم سارة، فهم لا يسمعون حسّ النار وحركة لهبها وحريقها الأجساد، ويتمتعون بنحو دائم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كما قال تعالى:
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
[فصلت 41/ 31] .
ولا يحزنهم الفزع الأكبر الذي يصيب غيرهم وهو أهوال يوم القيامة والبعث، وتستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فما أجمل هذا الاستقبال والترحاب الحار الصادق، وما أحسنه اطمئنانا وإسعادا للنفس!! 5- الثابت في هذه الآية: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وغيرها على أن السموات والأرض تتبدل يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم 14/ 48] .
6- والثابت أيضا أن الله تعالى سيحشر الناس من قبورهم ويعيدهم خلقا جديدا أحياء، كما خلقهم في المرة الأولى يوم بدئوا بالخلق في البطون.
روى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا- غير مختونين- أوّل الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ثم قرأ:
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» .
وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام» .
7- المقرر في جميع الكتب السماوية المنزلة أن أرض الجنة في الآخرة، وكذا الأرض في الدنيا- كما يفهم من إطلاق الآية- يرثها عباد الله الصالحون.
والصالحون للآخرة هم المؤمنون العاملون بطاعة الله، والصالحون للدنيا: من يصلح لعمارتها والقيام بحقها.(17/141)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
8- إن في هذا القرآن الذي أنزله الله على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم لبلاغا لقوم عابدين أي لمنفعة وكفاية للذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعته على كل شيء.
نبي الرحمة المهداة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 107 الى 112]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
الإعراب:
عَلى سَواءٍ إما منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، وتقديره: آذنتكم إيذانا على سواء، وإما في موضع نصب على الحال من الفاعل والمفعول في آذَنْتُكُمْ وهما التاء والكاف والميم، مثل قول الشاعر:
«فلئن لقيتك خاليين لتعلمن» فنصب خاليين على الحال من ضمير الفاعل والمفعول في «لقيتك» .
البلاغة:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استفهام يراد به الأمر، أي أسلموا كما في الآية المتقدمة: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي فاشكروا [الأنبياء 21/ 80] .(17/142)
المفردات اللغوية:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي وما أرسلناك يا محمد إلا للرحمة بالعالمين: الإنس والجن لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم.
قُلْ: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ما يوحى إلى في أمر الإله إلا وحدانيته، فهو الإله الواحد لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، فكلمة إِنَّما الأولى لقصر الحكم على الشيء، والثانية على العكس. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون خاضعون لما يوحى إلي من وحدانية الإله. والاستفهام بمعنى الأمر، أي أسلموا وأخلصوا العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن ذلك. آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ما أمرت به، وكثر استعماله في الإنذار، كما قال تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة 2/ 279] .
عَلى سَواءٍ أي مستوين في علمه، أي أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في الحرب والمعاداة. وَإِنْ أَدْرِي أي ما أدري. ما تُوعَدُونَ من العذاب أو من غلبة المسلمين عليكم أو من القيامة والحشر، فذلك كائن لا محالة، وإنما يعلمه الله. إِنَّهُ يَعْلَمُ إنه تعالى. الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ومن الفعل، منكم ومن غيركم من الطعن في الإسلام. وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي وما أدري لعل تأخير عذابكم استدراج لكم، وزيادة في الامتحان والاختبار. لَكُمْ ليرى كيف صنعكم. وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي اقض بيني وبين مكذبيّ كأهل مكة بالعدل، أي بتعجيل العذاب لهم أو النصر عليهم، فعذبوا ببدر وأحد وحنين والأحزاب أو الخندق، ونصره الله عليهم. تَصِفُونَ أي أن الله هو كثير الرحمة على خلقه، المطلوب منه المعونة على ما تصفون من الحال بأن الشوكة تكون لهم، وبكذبكم على الله باتخاذه ولدا، وعلي بأني ساحر، وعلى القرآن بأنه شعر.
المناسبة:
بعد بيان قصص الأنبياء المتقدمين عليهم، وبعد الاعلام بأن القرآن بلاغ ومنفعة وكفاية للعابدين، أخبر الله تعالى عن سبب بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم وهو أنه رحمة للعالمين في الدين والدنيا، أما في الدين فبتخليصهم من الجاهلية والضلالة، وأما في الدنيا فبالتخليص من كثير من الذل والقتال والحروب، والنصر والعلو ببركة دينه. وأما مجيئه بالسيف أيضا فهو لتأديب من استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، كما أن الله رحمن رحيم، وهو أيضا منتقم من العصاة.(17/143)
التفسير والبيان:
وَما أَرْسَلْناكَ.. أي وما أرسلناك يا محمد بشريعة القرآن وهديه وأحكامه إلا لرحمة جميع العالم من الإنس والجن في الدنيا والآخرة، فمن قبل هذه الرحمة، وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها وجحدها، خسر الدنيا والآخرة. وقيل: كونه رحمة للكفار: أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال.
قال تعالى مبينا خسارة الجاحدين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم 14/ 28- 29] .
وقال سبحانه في صفة القرآن: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] . وقال صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة» ورواه الحاكم بلفظ: «إنما أنا رحمة مهداة» .
ثم أمر الله رسوله أن يقول للمشركين بما يكون إعذارا وإنذارا في مجاهدتهم:
قُلْ: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي قل يا محمد لمشركي مكة ولكل إنسان: ما يوحى إلي شيء في شأن الإله إلا أنه إله واحد لا شريك له، فاعبدوه وحده، وأسلموا له وانقادوا، وأطيعوني واتبعوني على ذلك.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَقُلْ: آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي فإن أعرضوا وتركوا ما دعوتهم إليه، فقل: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، وأنا بريء منكم، كما أنتم برآء مني، كقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] ، وقوله سبحانه:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال 8/ 58] أي ليكن(17/144)
علمك وعلمهم بنبذ العهد على السواء، وهذا معنى الآية هنا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني، لعلمي بذلك، وقد استوينا في هذا العلم.
وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ أي إن ما توعدون من العذاب وغلبة المسلمين عليكم واقع كائن لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم ما تجهرون به من الطعن في الإسلام، وما تضمرونه من الحقد والكيد على المسلمين، وسيجزيكم على قليل ذلك وكثيره.
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ابتلاء واختبار لكم، وتمتع بلذات الدنيا إلى أجل مسمى، لينظر كيف تعملون.
قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي قال النبي: ربنا افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق والعدل، فقولك الحق، وأنت الحق، ووعدك الحق، وحكمك بالحق، ولا تحب إلا الحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف 7/ 89] وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.
وروى مالك عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ.
وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي والله ربنا هو المطلوب منه العون على ما تصفون من الشرك والكفر، والكذب والباطل، وهو القول: بأن لله ولدا، وأني ساحر شاعر، وأن القرآن شعر، وعلى ما تطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لكم.(17/145)
والاحتكام إلى الله إنذار وإظهار للحق، وتوعد للكفار، وتهديد بالهزيمة والاندحار أمام جند الإيمان وأنصار الحق.
فقه الحياة أو الأحكام:
في اختتام سورة الأنبياء بهذه الآيات دلالات ظاهرة وحجة بينة على الحق الأبلج وهي:
1- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي توج الله برسالته رسالات الأنبياء المتقدمين رحمة لجميع الناس، فمن آمن به، وصدّق بدعوته، سعد، ومن لم يؤمن به سلم في الدنيا مما لحق الأمم من الخسف والمسخ والغرق وعذاب الاستئصال، وخسر الآخرة خسرانا مبينا.
2- جميع رسالات الأنبياء ورسالة خاتمهم أيضا لا يوحى فيها شيء في شأن الإله إلا التوحيد والوحدانية، فلا يجوز الإشراك به، فهل أنتم أيها البشر قاطبة منقادون لتوحيد الله تعالى، أي فأسلموا تسلموا.
3- إن أعرض المشركون والكفار عن رسالة الإسلام فقد تمّ إنذارهم وإعذارهم، وتمّ إعلامهم ألّا لقاء بين الإيمان والكفر، وألّا صلح بين المسلمين والكفار، وأن الحرب والعداوة مستمرة بين الفريقين، ولكن لا يشترط أن تكون حربا مستعرة وقتالا دائرا، وإنما ذلك إعلان قاطع عما يكنّ في أصائل قلوب المؤمنين من إنكار قلبي لمختلف ألوان الكفر، دون مهادنة ولا رضا، ولا إقرار لأي شيء من أوضاع الكفر الفاسدة.
4- إن أجل العذاب ويوم القيامة لا يدريه أحد، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرّب.
5- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، والسر والجهر، والباطن والظاهر(17/146)
يعلم مطاعن الكفار بالإسلام، ومكائدهم وأحقادهم على المسلمين وشركهم وكفرهم، وسيجزيهم على ما يصدر منهم من صغير أو كبير.
وربما كان الإمهال بالعذاب اختبارا ليرى ما يصنعون، والله أعلم بما يفعلون، وربما كان عدلا وفضلا تأخير العذاب ليتمتع الكفار بلذائذ وشهوات الدنيا، ثم يحرموا منها في الآخرة.
6- عقيدة المؤمن الصادق الإيمان لها محوران في أزمات الاحتكاك مع الكفار، المحور الأول- هو تفويض الأمر إلى الله وتوقع الفرج من عنده، وهذا ما أمر به الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله: قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. والمحور الثاني- هو الاستعانة بالله القوي الغالب، وهذا ما ختمت به السورة: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي ما تصفونه من الكفر والتكذيب، والطمع في الغلبة على أهل الإيمان.
7- يقوم شرع الله ودينه على عقيدة التوحيد الخالص من شوائب الشرك، وعلى العدل والقسط، فالله سبحانه يقضي بالحق، وينصر أهل الحق والإيمان بالله، ويخذل الظلمة والكفار، ويدحر الظلم وأهله، ويعين المظلوم، وينصر الضعيف، وينتصف للفقير من الغني، ويسوي بين الخصمين، ولو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، ويدعو إلى الرحمة والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه هي أصول الحضارة الصحيحة، ونواة (الديمقراطية) السديدة، فلا تعصب فيه، ولا ظلم، ولا جهل، ولا فوضى، وإنما العلم والمعرفة والوعي منهاج الحياة الإسلامية، وطريق الدعوة القرآنية، ومصباح العالم كله.(17/147)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحج
مدنية، وهي ثمان وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحج لإعلان فريضة الحج فيها على الناس، على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ بعد بناء البيت العتيق، فأذن، فبلغ صوته أنحاء الأرض، وأسمع النطف في الأصلاب والأجنة في الأرحام، وأجابوا النداء: «لبيك اللهم لبيك» .
صلتها بما قبلها:
هناك تناسب وارتباط بين بداية هذه السورة، وخاتمة السورة السابقة، فقد ختم الله سورة الأنبياء ببيان اقتراب الساعة ووصف أهوالها في قوله:
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وافتتح هذه السورة بقوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ.
وفي السورة المتقدمة بيان قصص أكثر من عشرة من الأنبياء تدور على ما قاموا به من إثبات توحيد الله، ونبذ الشرك، والإيمان بالبعث، وفي هذه السورة استدلال بخلق الإنسان بأطواره المتعددة وبإبداع السموات والأرض على قدرة الله على إحياء البشر للبعث، وعلى وجوده تعالى ووحدانيته، ثم تنبيه الأفكار على الالتفات لأحوال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله، والاتعاظ بها بسبب تكذيبهم الرسل.(17/148)
مشتملاتها:
بالرغم من أن هذه السورة مدنية تضمنت الكلام عن فرضية الحج ومناسكه، وعن مشروعية القتال ومقومات النصر، فإنها تحدثت عن أمور مشابهة لموضوعات السور المكية من الإيمان بالله عزّ وجلّ وتوحيده، والبعث والاستدلال عليه، والجزاء على الأعمال.
افتتحت السورة بما يهز المشاعر، وينشر الرعب والخوف من أهوال الساعة، وشدائد يوم القيامة.
ثم انتقلت إلى بيان أدلة البعث، وإتيان القيامة، وبيان بعض مشاهدها من جعل الأبرار في دار النعيم، وزجّ الكفار في نار الجحيم، وإعلان خسارة المنافقين المضطربين الذين لا يعرف لهم قرار ولا اتجاه. ثم أبانت حرمة المسجد الحرام، وفرضية الحج ومنافعه، وحرماته وشعائره، ومناسكه وذبائحه، وأردفت ذلك بالحديث المقنع عن أسباب فرضية القتال، ومقومات النصر على الأعداء، مع تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما ناله من أذى قومه، وتكذيبهم له، والتعريف بحال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله، وجعل العاقبة للمتقين، وتحديد مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وهي الإنذار مكذبي القرآن بالنار، وتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة والنعيم، وإظهار مدى فضل الله على المهاجرين وإثابتهم.
واقتضت الحكمة بعدئذ الكلام عن أدلة القدرة الإلهية من خلق الليل والنهار، والسماء والأرض، والإحياء والإماتة، والعلم الشامل لجميع مكنونات الكون، وتفرد الله تعالى بالحساب والفصل والحكم بين الناس. ثم بيان مدى تبرم الكفار بآيات الله، وإظهار الغضب على وجوههم، وتحديهم بأن معبوداتهم من الأصنام وغيرها لا تستطيع خلق ذبابة، فضلا عن خلق الإنسان، وأن منشأ(17/149)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
شركهم إقفار قلوبهم من تقدير الله حق قدره، علما بأن الله يرسل رسلا من الملائكة ومن البشر لتبليغ الرسالة الإلهية على أتم وجه.
ثم عاد الكلام إلى بيان أحكام التشريع من أمر المؤمنين بفرائض جوهرية ثلاث: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والجهاد في سبيل الله حق الجهاد، وأردف ذلك بالتذكير بسماحة الإسلام، وأن الدين يسر لا عسر، ثم أمرهم بالاعتصام بدين الله والقرآن والإسلام، وبيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة، وأن أمته تشهد على الأمم المتقدمة بتبليغ أنبيائهم لهم دعوة الله وتشريعه، وتلك مزية سامية لهذه الأمة.
فضلها:
قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، محكما ومتشابها.
الأمر بتقوى الله تعالى
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)(17/150)
الإعراب:
يَوْمَ تَرَوْنَها
يَوْمَ
منصوب بتذهل. عَمَّا أَرْضَعَتْ
ما: موصولة أو مصدرية.
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ في موضع رفع على أنه نائب فاعل، وهاء أَنَّهُ ضمير الشأن.
والحديث. ومَنْ: إما بمعنى الذي، وتَوَلَّاهُ: صلته، وهو وصلته مبتدأ، وقوله:
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ خبره، ودخلت الفاء لأن الموصول يتضمن معنى الشرط والجزاء. ومن وصلته وخبره: خبر «أن» الأولى. وإما أن تكون مَنْ شرطية، وتَوَلَّاهُ: مجزوم بها، وجواب الشرط: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ. ومن الشرطية وجوابها خبر «أن» الأولى. وأما فتح «أن» الثانية فهو على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فشأنه أنه يضله، أي فشأنه الإضلال.
البلاغة:
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
تشبيه بليغ، حذف فيه أداة التشبيه والشبه، أي كالسكارى من شدة الهول.
شَيْطانٍ مَرِيدٍ استعارة، استعار لفظ الشيطان لكل طاغية عات متمرد على الله.
يُضِلُّهُ ويَهْدِيهِ بينهما طباق.
وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أسلوب تهكم.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة وغيركم. اتَّقُوا رَبَّكُمْ احذروا عقابه، بأن تطيعوه.
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ تحريكها للأشياء، على الإسناد المجازي، والزلزلة: الحركة الشديدة للأرض، وقيل: تكون هذه الزلزلة حقيقة، ثم يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها. شَيْءٌ عَظِيمٌ هائل، مزعج للناس، وهو نوع من العقاب. وقد علل أمر الناس بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوروها بعقولهم، ويعلموا أن الأمان منها بالتدرع بلباس التقوى.
يَوْمَ تَرَوْنَها
الضمير للزلزلة. تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي تذهل كل مرضعة (وهي الأنثى حال الإرضاع) عن رضيعها وتنساه، أي تذهلها الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة بسبب ما يطرأ من هم أو وجع أو غيره، والمقصود تصوير هولها والدلالة على ترك التعلق بأحب الأشياء. حَمْلَها
جنينها. سُكارى
كأنهم سكارى من شدة الخوف. وَما هُمْ بِسُكارى
على الحقيقة. وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أي يرهقهم هوله ويذهب عقولهم وتمييزهم، فهم يخافونه.(17/151)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيقولون: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وينكرون البعث وإحياء من صار ترابا. وَيَتَّبِعُ في جداله وعامة أحواله. كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ متمرد عات، متجرد للفساد.
كُتِبَ عَلَيْهِ قضي على الشيطان. أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اتبعه. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أي كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه. وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي يدعوه إلى النار، ويحمله على ما يؤدي إليه.
نزول الآيتين (1- 2) :
روي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق، فقرأهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الناس، فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة، وأصبح الناس بين باك وجالس حزين متفكر.
نزول الآية (3) :
وَمِنَ النَّاسِ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ قال: نزلت في النضر بن الحارث.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده بتقواه، ويخبرهم عما يستقبلون من أهوال القيامة وزلازلها وأحوال الآخرة، فيقول:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ أي يا أيها البشر قاطبة، احذروا عقاب ربكم، بطاعته وعدم عصيانه، فإن زلزلة القيامة أو حركتها الشديدة حين قيامها قبل قيام الناس من قبورهم شيء عظيم الهول، خطير الوقع. وذلك بدليل قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة 99/ 2- 1] وقوله: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة: 69/ 14- 15](17/152)
وقوله: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة 56/ 4- 6] .
وأوصاف ذلك اليوم هي:
1- يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
يوم تذهل الزلزلة كل مرضعة عن وليدها الرضيع. والذهول: الغفلة عن الشيء مع دهشة، والمرضعة:
التي هي في حال الإرضاع، ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: المستعدة للإرضاع أو التي من شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع، في حال وصفها به، وقوله:
عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي إرضاعها أو عن الطفل الذي ترضعه.
2- وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي وتسقط الحامل جنينها من بطنها من شدة الهول والخوف والفزع.
قال الحسن البصري: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام.
3- وَتَرَى النَّاسَ سُكارى..
أي وترى الناس كالسكارى من الخوف، وهم في الحقيقة والواقع غير سكارى من الشراب، ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وتمييزهم.
ومع هذا التحذير الشديد ينكر بعض الناس البعث ويجادل في المغيبات بغير علم، فيقول تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي وبعض الناس من يجادل في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث وغيره بغير علم صحيح، ولا عقل رشيد، ويتبع في جداله بالباطل خطوات كل شيطان متمرد عات، فهو لا يجادل بالحق، وإنما يجادل بالباطل.(17/153)
قيل كما بينا: نزلت في النضر بن الحارث، وكان جدلا، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا.
والآية كما قال في الكشاف عامة في كل من تعاطى الجدال، فيما لا يجوز على الله، وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم، ولا يتّبع حجة ولا برهانا صحيحا، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل. والآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، وهي المجادلة مع العلم، المرادة بقوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] . أما المجادلة الباطلة فهي المراد من قوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف 43/ 58] .
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ.. أي قضي على من اتبع الشيطان، وجعله وليا ناصرا له أن يوقعه في الضلال، وأن ولايته له لم تثمر إلا الإضلال عن طريق الجنة، والهداية إلى النار، وإيصاله إلى جهنم. والمقصود أن اتباع الشيطان يؤدي إلى الضلال في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة، وكأنه تعالى قال: قضي على من يتبع الشيطان أن الشيطان يضله عن الجنة، ويهديه إلى النار، وهذا وعيد لمتبع الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- وجوب التحلي بالتقوى وهي التزام الأوامر الإلهية، واجتناب النواهي، لاتقاء أهوال يوم القيامة ذات الخطر الشديد.
2- إن وقع الساعة وتأثير القيامة على النفس شديد الأثر، حتى لتكون زلزلتها مذهلة (شاغلة) الأم الحنون عن طفلها الرضيع، ومسقطة الجنين من(17/154)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
بطن أمه، وجاعلة الناس كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم في الحقيقة سكارى من الشراب.
3- إن المشرك بالله هو الذي يجادل بالباطل وبغير علم صحيح في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث، والإحياء بعد الإماتة، وهو في جداله يتبع كل شيطان متمرد، ومن يتبع الشياطين ويتولاهم فإنهم يوقعونه في الحيرة والضلال في النار، ويأخذون بيده إلى عذاب جهنم في الآخرة. وهذا يدل على تحريم المجادلة الباطلة القائمة على الجهل، وعلى الزجر من الله تعالى على اتباع خطوات الشيطان.
أما المجادلة بالحق وهي القائمة على العلم، فهي جائزة غير ممنوعة.
الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)(17/155)
الإعراب:
بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً: منصوب بالمصدر قبله، على قول البصريين لأنه الأقرب، وب يَعْلَمَ على قول الكوفيين لأنه الأول.
ذلِكَ بِأَنَّ.. ذا: إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، وإما منصوب على تقدير فعل، تقديره: فعل الله ذلك بأنه الحق. وقال البيضاوي: وهو مبتدأ، وخبره: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.
البلاغة:
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ بينهما طباق السلب.
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ استعارة تبعية، شبه الأرض بنائم، ثم يتحرك بنزول المطر عليه.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة وأمثالكم. رَيْبٍ شك. مِنَ الْبَعْثِ من إمكانه وكونه مقدورا. فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي فانظروا في بدء خلقكم وأصلكم آدم، فإنه يزيح ريبكم.
مِنْ تُرابٍ أي خلق آدم منه، وخلق الأغذية التي يتكون منها المني. نُطْفَةٍ مني: وهو ما يخرج عند اللذة من صلب الرجل، سمي نطفة لقلته، مأخوذ من النّطف: أي الصب أو القطر.
عَلَقَةٍ قطعة من دم جامد. مُضْغَةٍ قطعة من اللحم، قدر ما يمضغ. مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مصوّرة معالم الخلقة أو غير مصوّرة، أو مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب، أي تامة الخلق، وغير مسوّاة. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدرج في الخلقة كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته. وَنُقِرُّ أي نبقي، وهو كلام مستأنف. ما نَشاءُ أن نقرّه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع، وأدناه بعد ستة أشهر، وغالبة تسعة أشهر، وأقصاه في رأي أهل الخبرة سنة. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا عطفا على لِنُبَيِّنَ، أي نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا.
وطِفْلًا: حال أجريت على تأويل كل واحد، أو الدلالة على اسم الجنس فيكون للواحد والجمع. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي ثم نعمركم لتبلغوا الكمال في القوة والعقل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين سنة، والأشد: كمال القوة والعقل والتمييز، وهو جمع شدة، كالأنعام جمع نعمة، وقال الزمخشري: هو من ألفاظ المجموع التي لم يستعمل لها واحد، كالأسدة والقتود والأباطيل وغير ذلك.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يموت قبل بلوغ الأشد. أَرْذَلِ الْعُمُرِ أدناه وأردؤه من الهرم والخرف. لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر من عرفه. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.(17/156)
والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أطواره من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
هامِدَةً يابسة ميتة لا نبات فيها. اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات. وَرَبَتْ ارتفعت وزادت وانتفخت بالماء والنبات. وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي أنبتت من كل صنف حسن رائق. ومِنَ: زائدة ذلِكَ أي المذكور من بدء خلق الإنسان إلى آخر إحياء الأرض.
بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أن الله. هُوَ الْحَقُّ الثابت في نفسه، الدائم الذي يحق ثبوته، أي لأن الله هو الحق. وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي أنه يقدر على إحيائها، وإلا لما أحيى النطفة والأرض الميتة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن قدرته لذاته، فمن قدر على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها. لا رَيْبَ فِيها لا شك. وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن المشركين الجدل بغير علم في قضية البعث والحشر والنشر، وذمّهم على ذلك، أورد تعالى الأدلة على إثبات البعث بخلق الإنسان، وخلق النبات، فقال هنا عن الأول: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الآية، وقال في آيات أخرى: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس 36/ 79] .
فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء 17/ 51] وقال عن الثاني: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ...
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى موقف المنكر للبعث، ذكر الدليل على قدرته على المعاد بما يشاهد من بدئه الخلق، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي يا أيها البشر المنكرون للبعث، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، يوم القيامة، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة بدليل المراحل والأدوار السبعة التي يمر بها الإنسان وهي:(17/157)
1- فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا أصلكم آدم من التراب، وخلقنا الأغذية التي يتكون منها المني من النبات المتولد من الماء والتراب.
2- ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم صار التوالد المعتاد بواسطة المني المتولد من الغذاء الناشئ من التراب.
3- ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي ثم تتحول بإذن الله النطفة بعد أربعين يوما إلى قطعة دم مكثف أو جامد، أو علقة حمراء.
4- ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ثم تصبح العلقة قطعة لحم، وتلك القطعة إما أن تتم منها أحوال الخلق، فتصير تامة الصورة والحواس والتخطيط لمعالم الجسد، وإما ألا تتم، وتسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط أو بعده، أو تبقى ناقصة الصور والحواس والتخطيطات وتتم ولادتها، قال الرازي:
فيجب أن تحمل مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على من سيصير إنسانا لأنه تعالى قال في أول الآية: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ وذلك يبعد حمل قوله: غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على السقط.
والخلاصة: أن المخلقة هي القطعة المسوّاة التي لا نقص فيها ولا عيب أي التامة الخلقة، وغير المخلقة: هي القطعة غير المسوّاة التي فيها عيب.
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها على إمكان البعث، فإن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا- ولا تناسب بين الماء والتراب- وقدر على أن يجعل النطفة علقة- وبينهما تباين ظاهر- ثم يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، قدر على إعادة ما بدأه، بل هذا أهون، كما قال الزمخشري رحمه الله تعالى.(17/158)
5- ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ضعافا في البدن والعقل والحواس، ثم ينمو كل طفل ويعطيه الله القوة شيئا فشيئا.
6- ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثم تتكامل قواكم البدنية والعقلية، حتى تصلوا إلى حد الكمال في عنفوان الشباب.
7- وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ... أي ومنكم من يموت قبل بلوغ الأشد أو في حال الشباب والقوة، ومنكم من يعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم، وضعف القوة والعقل والفهم، والخرف، حتى يعود إلى ما كان عليه حال الطفولة، ضعيفا، سخيف العقل، قليل الفهم، ينسى ما كان يعلمه، كما قال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس 36/ 68] .
والخلاصة: أن تدرج الخلق في مراحله المذكورة، وطروء الموت وعوارض الأحوال على الإنسان دليل قاطع على وجود الخالق القادر المهيمن، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه في القياس والعقل، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم 30/ 54] .
ثم ذكر الله تعالى الدليل الثاني على إمكان البعث بخلق النبات المشابه لخلق الإنسان فقال:
وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ... أي وإذا تأملت أيها الإنسان ترى الأرض «1» ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزلنا عليها ماء المطر أو غيره، تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، وازدادت وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم
__________
(1) خاطب تعالى الناس أولا بصيغة الجمع، فقال: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ثم خاطب بصيغة الواحد، للتنويع فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل، للاحتجاج به على منكري البعث.(17/159)
أنبتت من كل صنف من النبات والزرع، ذي منظر حسن وبهاء ورونق وطيب ريح، لاختلاف ألوان الثمار والزروع، وطعومها، وروائحها، وأشكالها، ومنافعها، فمن قدر على إحياء الأرض الميتة الهامدة التي لا ينبت فيها شيء، قادر على إحياء الموتى. ونتائج ما ذكر هي الأمور الخمسة التالية:
1- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك المذكور الذي بينته لكم من خلق الإنسان والحيوان والنبات، وانتقال كل مخلوق من حال إلى حال، بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه، ولا يحول ولا يزول، الخالق المدبر الفعال لما يشاء. وأما ما عداه من جميع المخلوقات فضعيف عاجز لا يقدر على فعل شيء مما ذكر. وهذا دال على وجود الصانع المتفرد بالخلق.
2- وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي وبأنه الإله القادر على إحياء الموتى، كما أحيى الإنسان والحيوان والنبات، فأنبت من الأرض الميتة ما فيه الحياة، وهذا تنبيه على أن من لم يعجزه إيجاد هذه الأشياء، فكيف يعجزه إعادة الأموات؟! إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت 41/ 39] .
3- وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي وبأنه تعالى القادر على كل شيء، فمن كان قادرا على ما ذكر وعلى جميع الممكنات، فهو قادر على إعادة الأجساد بعد الفناء، وعالم بكل المعلومات: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 79] .
4- وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى أو إعادتهم أحياء قادر على الإتيان بيوم القيامة، فالساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية، كما وعدكم بها. فقوله: وَأَنَّ السَّاعَةَ معطوف على قوله:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، فلا بد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية.(17/160)
5- وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي ولتتيقنوا أن الله سيبعث أهل القبور، أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما، ويوجدهم مرة أخرى أحياء، ليوم المحشر والحساب، والثواب والعقاب.
والخلاصة: أن بيان مراتب خلق الإنسان والحيوان، والنبات، دليل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات، وعالم بكل المعلومات، مما يثبت كون الإعادة ممكنة، وأن المعاد مقدور عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
الغاية من التنزيل القراني إثبات ثلاثة أمور أساسية في العقيدة، وهي توحيد الله، واتصافه بصفات الكمال، وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات البعث والحياة الأخروية، وما فيها من ثواب وعقاب، وإثبات الوحي والنبوة ورسالات الأنبياء بالمعجزة الخارقة للعادة، لذا تكرر في القرآن التركيز على هذه الأصول، وجاءت الآيات هنا للاستدلال على الأمر الثاني.
1- استدل الله سبحانه وتعالى على إمكان حدوث البعث والقيامة وإحياء الموتى بإحياء الإنسان والحيوان والنبات بعد الموت والعدم، فمن خلق أصل الإنسان من تراب، ثم من ماء منشؤه الغذاء الناتج من التراب، ثم رعاه حتى خلقه في أحسن تقويم، ثم أعاده إلى الضعف، قادر على إعادة خلقه وإيجاده وتكوينه كما قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
ولقد أوضحت السنة أطوار الخلق،
جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه(17/161)
وأجله وعمله وشقي أو سعيد»
وفي رواية: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يبعث الملك، فينفخ فيه الروح»
أي إن أطوار الجنين الأولى أربعة أشهر، قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.
ويلاحظ أن الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن النفخ سبب يخلق الله به الروح والحياة، وأن الخلق بقدرة الله واختراعه لقوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف 7/ 11] . وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر 40/ 64] وللآية هنا: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ... وتكون الحياة في المادة المنوية عند التقائها ببويضة المرأة حياة نباتية خلوية.
ولم يختلف العلماء أن نفخ الروح الحركية في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما، أي بعد تمام أربعة أشهر، ودخول الشهر الخامس.
لذا ليست النطفة بشيء يقينا، كما قال القرطبي، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته علقة، فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال وجود الولد، فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدّة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك وأصحابه.
وقال الشافعي: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، أي بإلقاء المضغة المخلقة دون الأربعة أشهر «1» . قال ابن زيد:
المخلّقة: التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 8(17/162)
وقال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرّة «1» . وقال الشافعي رضي الله عنه: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء. وقال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهلّ صارخا ففيه الغرّة. فإذا استهل صارخا فقال هو والشافعي فيه الدية كاملة.
وذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع لأنه حمل، والله تعالى يقول: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 4] . وقال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من الأحكام، إلا أن يكون مخلّقا لقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ «2» .
2- إن في مراحل خلق الإنسان المذكورة لدليلا واضحا وبيانا قاطعا يدل على كمال قدرة الله تعالى.
وفي رعاية الله للإنسان بولادته طفلا، ثم اكتمال جسده وعقله وقوته في سن الشباب نعمة تستحق الشكر والتقدير وعرفان حق الخالق.
ثم في الرد إلى الشيخوخة والهرم دون خرف أو مع الخرف عبرة وعظة تدل على إطلاق تصرف الله في خلقه،
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه النسائي عن سعد- يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» .
3- وهناك دليل أقوى على البعث وهو خلق النبات من الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها الماء، فتخرج منه الزروع والثمار ذات المنظر أو اللون الحسن، وذات الرائحة العبقة، والطعم الشهي.
__________
(1) الغرة: دية الجنين، وهي ما بلغ عوضه نصف عشر الدية، أي خمسين دينارا.
(2) أحكام القرآن: 3/ 1261(17/163)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
4- إن خلق الإنسان والنبات حاصل بالله، وهو السبب في حصوله، ولو لاه لم يتصور وجوده، فإن الله هو الحق، أي الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بد أن يفي بما وعد، وأنه عالم بكل شيء، وقادر على جمع ذرأت الإنسان المتفرقة في أنحاء الأرض أو قيعان البحار أو أجواف الحيوانات، أو في أي مكان.
أحوال الناس الجدال بالباطل والإيمان المضطرب وجزاء المؤمنين الصالحين
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 14]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)(17/164)
الإعراب:
ثانِيَ عِطْفِهِ حال من ضمير. يُجادِلُ عائد على مِنَ والإضافة في تقدير أو نية الانفصال، أي ثانيا عطفه، ولذلك لم يكتسب التعريف بالإضافة.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ من: فيه أربعة أوجه:
الأول- أنه منصوب ب يَدْعُوا واللام في غير موضعها، أي يدعو من لضرّه أقرب من نفعه، فقدمت اللام إلى (من) وضَرُّهُ: مبتدأ، وأَقْرَبُ: خبره. وهذا قول الكوفيين.
والثاني- أن مفعول يَدْعُوا محذوف، واللام في موضعها، أي يدعو إليها أي لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فمن: مبتدأ، وخبره: أَقْرَبُ والجملة صلة (من) . ولَبِئْسَ الْمَوْلى:
خبر ثان ل: (من) . وهو قول المبرّد.
والثالث- أن يَدْعُوا بمعنى يقول، وما بعده: مبتدأ وخبر، أي يقول لمن ضرّه عندكم أقرب من نفعه هو إلهي، فخبر المبتدأ محذوف، أي يقول الكافر: الصنم الذي تعدونه من جملة الضرر: إلهي.
والرابع- أن يَدْعُوا تكرار للأول، لطول الكلام، مثل لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ...
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران 3/ 188] .
البلاغة:
ثانِيَ عِطْفِهِ كناية عن التكبر والخيلاء.
بِما قَدَّمَتْ يَداكَ مجاز مرسل، علاقته السببية لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر.
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ استعارة تمثيلية، شبه المنافقين وما هم فيه من اضطراب في دينهم بمن يقف على طرف هاوية يريد العبادة.
فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ مقابلة بديعة.
يَضُرُّهُ ويَنْفَعُهُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
هُدىً هو النظر الصحيح الموصل إلى المعرفة. كِتابٍ مُنِيرٍ الوحي المظهر للحق.(17/165)
ثانِيَ عِطْفِهِ متكبرا عن الإيمان، معرضا عن القرآن كفرا وتعظما، ولاويا عنقه، والعطف: الجانب عن يمين أو شمال. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه، وليضل: علة للجدال.
لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ عذاب وهوان وذل، فقتل يوم بدر أي أبو جهل المجادل. عَذابَ الْحَرِيقِ أي الإحراق بالنار. بِما قَدَّمَتْ يَداكَ عبر بهما دون غيرهما لأن أكثر الأفعال تزاول بهما، وهو وارد بطريق الالتفات، أو إرادة القول، أي يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ليس بذي ظلم لأحد، فيعذبهم بغير ذنب، وإنما هو مجازيهم على أعمالهم، والمبالغة في (ظلام) لكثرة العبيد.
عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا ثبات له فيه، وهذا تشبيه حال المنافقين بحال من يقف على حرف جبل في عدم ثباته، أو كالذي يكون على طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرّ، وإلا فرّ، فهو على شك وضعف في العبادة. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ صحة وسلامة في نفسه وماله.
فِتْنَةٌ محنة، وسقم في نفسه وماله. انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى الكفر وارتد. خَسِرَ الدُّنْيا ضيعها بفوات ما أمله منها، وبذهاب عصمته لارتداده. وَالْآخِرَةَ بالكفر وحبوط عمله. الْخُسْرانُ الْمُبِينُ البيّن، إذ لا خسران مثله.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أي يقول، واللام زائدة: إن من ضرره بعبادته أقرب من نفعه، إن نفع بتخيله، هو إلهي. والضرر: هو استحقاق القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة، والنفع: هو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. لَبِئْسَ الْمَوْلى الناصر أي لبئس هو الناصر. وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ الصاحب هو والمعاشر.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفروض والنوافل. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحد الصالح، وإكرام من يطيعه، وعقاب المشرك، وإهانة من يعصيه.
سبب النزول:
نزول الآية (8) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نزلت في أبي جهل، أنذره الله بالخزي (الذل والهوان) في الدنيا، فقتل يوم بدر، أو نزلت في النضر بن الحارث الذي قتل أيضا يوم بدر، ومعظم المفسرين على هذا كالآية الأولى.(17/166)
نزول الآية (11) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدم المدينة، فيسلم، فإن ولدت امرأته غلاما، ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولدا ذكرا، ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء، فأنزل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.
وأخرج ابن مردويه من طريق عطية عن ابن مسعود قال: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي، ومات ولدي، فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [3] حال الأتباع الجهال المقلّدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي والشياطين، ذكر هنا حال المتبوعين، الدعاة إلى الكفر والضلال، رؤساء الشر والابتداع.
وبعد بيان حال هؤلاء المجادلين في توحيد الله بلا حجة ولا برهان صحيح، أبان تعالى حال المنافقين مضطربي الإيمان، الذين لم تستقر عقيدتهم، من جماعة الأعراب القادمين إلى المدينة بقصد المنفعة المادية.
وبعد كشف حال عبادة المنافقين وحال معبوديهم من الأصنام والأوثان، أوضح الله تعالى صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم، فعبادة الأولين خطأ غير صواب، ومعبودهم لا يضر ولا ينفع، أما عبادة المؤمنين فهي حق وحقيقة، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة.(17/167)
التفسير والبيان:
تضمنت هذه الآيات أحوال ثلاث فئات من الناس، بعد بيان حال فئة هم الضلّال الجهال المقلدون في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ.
أما الفئة الأولى هنا فهم الدعاة إلى الضلال رؤساء الكفر والبدع، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي وبعض الناس من يجادل في توحيد الله وأفعاله وصفاته، بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الرأي والهوى.
ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أنه يجادل وهو مستكبر عن الحق وقبوله إذا دعي إليه، كما قال تعالى حكاية عن قول لقمان لابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان 31/ 18] أي تميله عنهم استكبارا عليهم، وهدفه أو عاقبته صدّ الناس المؤمنين عن دين الله الذي فيه خيرهم. واللام في قوله: لِيُضِلَّ إما لام العاقبة لأنه لا يقصد ذلك، أي ليصير مآله ممن يضل عن سبيل الله، وإما لام التعليل، قال الزمخشري: تعليل للمجادلة، ولما أدّى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه.
ثم ذكر تعالى عقابه، فقال:
لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي أن عقابه في الدنيا هو الخزي أي الهوان والذل، وقد قتل يوم بدر، وعقابه في الآخرة الزجّ به في عذاب النار المحرقة أو الإحراق في النار.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي والسبب فيما مني به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة هو ما قدّم من الكفر والمعاصي، وقد فعل(17/168)
الله به ذلك عدلا في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين لأن الله لا يظلم عباده.
أو يقال له هذا تقريعا وتوبيخا، كقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان 44/ 47- 50] . ونظير آية العدل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] .
والخلاصة: أن هذا العقاب حق وعدل بسبب جرم الكفر والإثم الفاحش.
وأما الفئة الثانية أهل الضلالة الأشقياء: فهم أهل الشك والنفاق والمصلحة والمنفعة المادية، وهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.. أي وبعض الناس يعبد الله على شك وطرف من الدين لا في القلب، كمن يقف على حافة واد، أو على طرف الجيش ليفر عند الإحساس بالهزيمة، فهو مضطرب الإيمان، غير مطمئن القلب، غير واثق بهذا الدين، ولا صادق النية، ولا مخلص في العبادة، وهم صنف من المنافقين.
فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.. أي فإن أصابه خير مادي من غنيمة ومال، وزيادة نتاج في الولد ونسل الحيوان، رضي عن هذا الدين. واطمأن إليه. وإن أصابه مرض أو لم تلد امرأته، ولا ماشيته، أي أحس بنقص في المال أو الأنفس، أو هلاك أو جدب في الثمرات والغلات، ارتد ورجع كافرا، وهذا هو النفاق بعينه.
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي ضيع الدنيا والآخرة، فلا هو حصل من الدنيا على شيء من عز وكرامة وغنيمة، ولا استفاد من ثواب الآخرة، لأنه كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، وذلك هو الخسران البيّن الذي لا خسران مثله، أو هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.(17/169)
وتأكيدا لعظم تلك الخسارة قال تعالى:
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ أي يعبد من غير الله آلهة من الأصنام والأنداد، يستغيث بها، ويستنصرها، ويسترزقها، وهي لا تضره إن لم يعبدها، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها.
ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي ذلك الارتداد، وعبادة تلك الأصنام، هو الضلال الموغل في الضلالة، البعيد جدا عن طريق الصواب.
ثم زاد الأمر تأكيدا فقال:
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي يدعو (تكرارا للأول) لمن ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن، لبئس الناصر هو، ولبئس الصاحب هو. أو يقول الكافر حينما يتحقق من تضرره بعبادته هذا المعبود الخاسر الذي أدخله النار:
لبئس هذا المولى والناصر، ولبئس هذا العشير والصاحب.
وأما الفئة الثالثة: وهم الأبرار السعداء فهم الذين آمنوا بقلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله تعالى يكافئ المؤمنين الصادقي الإيمان، الذين عملوا الصالحات، أي الطاعات والقربات، وتركوا المنكرات، بإدخالهم روضات الجنات التي تجري من تحت أشجارها الأنهار.
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ بإكرام أهل الطاعة وإثابتهم، وإهانة أهل المعصية وحرمانهم من فضله، يفعل وفق مراده ومشيئته المطلقة، فلا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، يدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار.(17/170)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- تكرر نزول الآيات في النضر بن الحارث، فهو في جداله في الآية المتقدمة [3] يريد إنكار البعث، وفي هذه الآية [8] يريد إنكار النبوة وإنكار نزول القرآن من جهة الله. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. وكان من قوله: إن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى. ووصف هنا بأنه أعرض عن القرآن والحق، ولوى عنقه مرحا وتعظما وتكبرا، وكانت عاقبته أنه يجادل فيضل عن دين الله تعالى.
وعقابه في الدنيا الهوان والذل مما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة، وقتل يوم بدر، ويغشى في الآخرة نار جهنم، جزاء وفاقا للكفر والمعصية، ولا يظلم ربك أحدا. وفيه دليل على أن الله لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم.
ودليل أيضا على أن العقاب بسبب عمل الإنسان وفعله، فإذا عاقبه بغير فعله كان ذلك محض الظلم. وهو على خلاف النص.
2- يجب أن يكون الإيمان في القلب كالجبال الراسيات، لا يتأثر بحدوث ضرر، ولا بزوال نفع، أما المنافقون الماديون الذين ينتظرون حدوث النفع المادي من مال أو غنيمة، ويستاءون بما يتعرضون له من نقص في المال والثمرات، فهم الذين خسروا الدنيا، فلا حظ لهم في غنيمة ولا ثناء، وخسروا الآخرة بأن لا ثواب لهم فيها، بل لهم العقاب الدائم بسبب ردتهم ورجوعهم إلى الكفر.
والراجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر، ويدعو من ضرره أدنى من نفعه في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا. أو(17/171)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
يقول الكافر: لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين: هو معبودي وإلهي، لبئس المولى في التناصر، ولبئس المعاشر والصاحب والخليل.
3- يثيب الله من يشاء، ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبد.
4- ما أروع هذه المقارنة والموازنة في الآيات بين حال المشركين وحال المنافقين، وحال المؤمنين في الآخرة! فالعاقل هو الذي ينحاز آليا لصف الإيمان ليبرأ في عالم الآخرة، والجاهل الغبي أو المعاند أو المتلاعب هو الذي يبقى في عكر العقيدة ومفاسدها وخبائثها، فيتلقى جزاءه عدلا، ولا ظلم في الحساب.
حال اليائس من نصرة الرسول وإنزال الآيات البينات
[سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
الإعراب:
آياتٍ بَيِّناتٍ حال منصوب، وبَيِّناتٍ صفة، أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات واضحات.
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي.. معطوف على هاء: أَنْزَلْناهُ.(17/172)
المفردات اللغوية:
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي فليمدد حبلا إلى سقف بيته يشده فيه وفي عنقه، ثم ليختنق به، بأن يقطع أنفاسه من الأرض، والمراد: فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غضبا أو غيظا، حتى يمد حبلا إلى سماء بيته، فيختنق.
وليس هذا دعوة إلى الانتحار، وإنما كما يقول المثل العامي: اشرب البحر، للدلالة على عدم الفائدة من الفعل.
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ أي فليتصور في نفسه، هل يذهبن كيده في عدم نصرة النبي صلّى الله عليه وسلم غيظه، والمعنى: فليختنق غيظا منها، فلا بد منها.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي مثل إنزالنا الآية السابقة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الباقي آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهرات واضحات وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هداه، أي ولأن الله يهدي به أو يثبّت على الهدى من يريد هدايته أو ثباته، أنزله كذلك مبينا.
المناسبة:
بعد بيان حال المشركين المجادلين بالباطل، والمنافقين، والمؤمنين، بيّن الله تعالى حال أمرين: هما نصرته رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لييأس المجادلون، وإنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب.
التفسير والبيان:
من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فليمدد بحبل إلى سقف بيته، ثم ليختنق به، ثم ليتأمل ويتصور في نفسه: هل يذهب فعله الذي فعله غيظه من نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ كلا.
وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته، وسمي فعله وهو نصب المشنقة كيدا استهزاء لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه، أو لأنه كالكيد، حيث لم يقدر على غيره.(17/173)
وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، ثم ليقطع النصر إن تهيأ له، ثم لينظر هل يذهبن كيده وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلّى الله عليه وسلم؟. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا، لم يصل إلى قطع النصر.
وعلى كلا المعنيين، إن الله ناصر دينه وكتابه ورسوله لا محالة، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أي ومثل ذلك الإنزال للآية المتقدمة أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها، ليتعظ بها المعتبر.
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أي ولأن الله يهدي به ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون، ومستعدون للإيمان بما أنزل، ويريد الله هدايتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على حسم الموقف بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين معاديه، فالله تعالى لا محالة ناصر رسوله، ومؤيد دينه وكتابه ودعوته، ومحبط مكائد الأعادي، وقاطع أطماعهم، ورادّ كيدهم في نحورهم، فلا أمل لهم بعدئذ في إحباط دعوة الإسلام، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف 61/ 9] وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] .
والله تعالى أيضا مؤيد رسوله صلّى الله عليه وسلم بوحيه، وبما أنزله عليه من الآيات البينات الواضحات، ليفهمها الناس، أي القرآن، وكذلك أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ قال القرطبي: علق وجود الهداية بإرادته، فهو الهادي لا هادي سواه.(17/174)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
وقال الزمخشري والبيضاوي: ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم مؤمنون، أو يثبّت الذين آمنوا على الهدى.
الفصل الإلهي بين الأمم وخضوع كل ما في الكون لعزة الله
[سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الخبر: إما محذوف، وإما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ لأنها فيها معنى الجزاء، فحمل الخبر على المعنى.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إما معطوف على مَنْ في قوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ لأن السجود بمعنى الانقياد، وكل مخلوق منقاد تحت قدرة الله تعالى، وإما مبتدأ وخبره:
إما مِنَ النَّاسِ أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون المتقون، وإما محذوف، وهو مثاب، أي وكثير من الناس ثبت له الثواب، دل عليه خبر مقابله وهو قوله:
حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ.
البلاغة:
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بينهما طباق.(17/175)
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالصَّابِئِينَ هم فرقة بين اليهود والنصارى، أو قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور وَالْمَجُوسَ أتباع المتنبئ، قوم يعبدون الشمس والقمر والنار ويقولون: إن هناك إلهين اثنين للخير والشر وهما النور والظلمة. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عبدة الأصنام والأوثان يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم لإظهار المحق من المبطل، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل غيرهم النار عَلى كُلِّ شَيْءٍ من عملهم شَهِيدٌ عالم به علم مشاهدة، مراقب لما يتعلق به.
يَسْجُدُ لَهُ يخضع له بما يراد منه، وهو السجود بالتسخير والانقياد لإرادته تعالى، وهناك سجود بالاختيار خاص بالإنسان. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة، فهو فاعل فعل مضمر، أو هو مبتدأ دل عليه قسيمه المقابل له بعده، وخبره: حق له الثواب، وهم المؤمنون بما هو أكثر من الخضوع في سجود الصلاة وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي وكثير منهم ثبت له العذاب، وهم الكافرون لأنهم أبوا السجود والخضوع لله بشرط الإيمان وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي ومن يجعله شقيا لما علم منه من اكتساب الشقاوة فما له أحد يكرمه ويسعده إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإهانة والإكرام.
المناسبة:
هناك ارتباط عام وارتباط خاص بين هذه الآيات وما قبلها، أما الارتباط العام: فبعد أن ذكر تعالى أحوال المشركين والمنافقين والمؤمنين، أبان هنا أن الله يقضي بينهم جميعا ليبين المحق من المبطل، وأما الارتباط الخاص، فبعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أتبعه في الآية الأولى ببيان من يهديه ومن لا يهديه.
ثم أردفه في الآية الثانية ببيان أنه ما كان ينبغي لأهل الأديان المختلفة أن يختلفوا لأن جميع العوالم خاضعة لسلطانه وقدرته، وساجدة لعظمته طوعا أو كرها.(17/176)
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... إن الله تعالى يقضي بين أهل الأديان المختلفة من المؤمنين بالله ورسله، واليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركين الذين يعبدون مع الله غيره، ويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تكنّ ضمائرهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ... أي ألم تعلم أن الله تعالى يخضع ويسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء بما يختص به، فيسجد له من في السموات: وهو الملائكة، ومن في الأرض وهم الإنس والجن، والشمس والقمر والنجوم من العوالم العلوية، والشجر والدوابّ (الحيوانات كلها) من العالم السفلي، وكثير من الناس حقّ له الثواب أو يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك، أي ثبت وتقرر، وكثير حق عليه العقاب، ممن امتنع وأبى واستكبر.
وقد نص على هذه الأشياء لأنها قد عبدت من دون الله، فأبان تعالى أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة منقادة لله تعالى.
ومن يهنه الله فيشقيه، أو من يهنه بالشقاء والكفر لسوء استعداده للإيمان، لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، ولا يسعده أحد لأن الأمر بيده تعالى، يوفق من يشاء ويخذل من يريد.
إن الله تعالى يفعل في عباده ما يشاء من الإهانة والإكرام، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.
ونظير الآية كثير، مثل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ [النحل 16/ 48] .(17/177)
ومثل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
وأما إطلاق المشيئة لله تعالى فيوضحه
ما رواه ابن أبي حاتم عن علي: أنه قيل لعلي: «إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء، أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟
قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال:
والله، لو قلت غير ذلك، لضربت الذي فيه عيناك بالسيف» «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن الله تعالى يقضي بالعدل بين أهل الأديان المختلفة، وهم المؤمنون بالله وبرسوله صلّى الله عليه وسلم، واليهود: وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام، والصابئون: وهم قوم يعبدون النجوم، والنصارى: وهم المنتسبون إلى ملة عيسى، والمجوس: وهم عبدة النيران القائلون بأن للعالم أصلين: نور وظلمة، والمشركون: وهم العرب ونحوهم عبدة الأوثان. هذه الفرق الست: خمسة منها للشيطان، وواحدة منها للرحمن. وإنه تعالى يقضي ويحكم بينهم، فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة، إن الله تعالى شهيد على أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم.
ودلت الآية الثانية على أن القلب والعقل يرى أن جميع ما في العوالم العلوية والسفلية من الكواكب والجمادات والنباتات والإنسان والحيوان يسجد لله تعالى سجود تذلل وانقياد لتدبير الله عز وجل في جميع الأحوال من ضعف وقوة، وصحة وسقم، وحسن وقبح، وسجود خضوع لعظمته وسلطانه وجبروته.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 211(17/178)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار» .
ومن أهانه الله بالشقاء والكفر لسوء استعداده لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، والذين حق عليهم العذاب، ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم، فيكون مكرما لهم.
وإن الله تعالى هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. والمراد من بيان إطلاق المشيئة لله أن مصير الكافرين إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه.
جزاء الكافرين والمؤمنين
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)(17/179)
الإعراب:
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ: حال من ضمير لَهُمْ أو خبر ثان.
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ: ما: نائب فاعل، وَالْجُلُودُ: معطوف عليه، وهاء بِهِ عائدة على الْحَمِيمُ. والجملة: حال من الْحَمِيمُ أو من ضمير «هم» .
مِنْ غَمٍّ في موضع نصب لأنه بدل من قوله: مِنْها أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها.
وَذُوقُوا عَذابَ على حذف القول، أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهذا كثير في كلام العرب.
مِنْ أَساوِرَ صفة مفعول محذوف.
وَلُؤْلُؤاً إما منصوب بتقدير فعل، أي ويعطون لؤلؤا، لدلالة يُحَلَّوْنَ عليه في أول الكلام. وإما معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله: مِنْ أَساوِرَ كأن يقال: مررت بزيد وعمرا. وعلى قراءة الجر يكون معطوفا على أَساوِرَ أو على الذهب بأن يرصع اللؤلؤ بالذهب.
البلاغة:
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دين ربهم، فهو على حذف مضاف. وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا للمعنى.
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ استعارة عن إحاطة النار بهم كإحاطة الثوب بلابسه.
المفردات اللغوية:
هذانِ خَصْمانِ الخصم: من يعارض غيره في الرأي. وقد وصف به الفريق أو الفوج، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان متنازعان، وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا
للمعنى، والمراد بهما: المؤمنون والكافرون. والخصم: يطلق على الواحد والجماعة.
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه أو في ذاته وصفاته قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي قدّرت لهم ثياب يلبسونها، والمراد: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب الْحَمِيمُ الماء البالغ نهاية الحرارة يُصْهَرُ بِهِ يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فيذاب به(17/180)
أحشاؤهم، كما يذاب أو يشوى به جلودهم مَقامِعُ مضارب أو سياط حديد يجلدون بها، جمع مقمعة.
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ حزن شديد يلحقهم بها أُعِيدُوا فِيها ردوا إليها بالمقامع ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ويقال لهم: ذوقوا العذاب البالغ نهاية الإحراق، أو العذاب المحرق.
مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهي جمع سوار، أي فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف حَرِيرٌ هو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا. وَهُدُوا أرشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أو هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر 39/ 74] أو كلام أهل الجنة مع بعضهم بعضا صِراطِ الْحَمِيدِ أي الطريق المحمود، وهو الإسلام أو طريق الجنة، أو آداب المعاشرة والاجتماع. والأصح أنه طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (19) :
هذانِ خَصْمانِ: أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة. أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة في بداية معركة بدر.
وأخرج الحاكم عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إلى قوله: الْحَرِيقِ.
وأخرج الحاكم من وجه آخر عن علي قال: نزلت في الذين بارزوا يوم بدر:
حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب قالوا(17/181)
للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون:
نحن أحق بالله، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
المناسبة:
بعد بيان أهل الفرق الستة وقضاء الله بينهم بالعدل، ذكر هنا تصنيفهم إلى فريقين: فريق الإيمان، وفريق الكفر، ثم محاورتهم فيما بينهم في الأهدى طريقا، ومآل كل من الفريقين إلى الجحيم أو إلى النعيم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن خصومة فريقين اختصموا في دين الله وذاته وصفاته فيقول: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي إن أهل الأديان المختلفة الستة المتقدم بيانهم هم فريقان متميزان: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين الذين هم أتباع الديانات الخمس المتقدمة، تنازعوا وتجادلوا في شأن ربهم وفي دينه، وكل منهم يعتقد أنه على حق، وأن خصمه على الباطل ويبني على أساس ذلك جهاده وسلوكه وفكره.
والحق أن مصير الفريقين واضح، أما الفريق الأول وهم الكافرون فجزاؤهم: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فالكافرون تحيط بهم النار إحاطة شاملة، وقد مثّل ذلك بأنه فصلت لهم مقطعات من نار تحيط بهم كإحاطة الثوب بلابسه، مما يومئ بشدة عذابهم واحتقار شأنهم، كما قال تعالى:
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] وقال سبحانه:
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم 14/ 50] .
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يصب على رؤوسهم الماء البالغ درجة الغليان الذي يذيب ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم، فيحرق الباطن والظاهر.(17/182)
روى ابن جرير والترمذي وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يبلغ قدميه، وهو الصّهر، ثم يعاد كما كان» .
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي لهم مضارب أو سياط من حديد، يضربون بها على وجوههم ورؤوسهم وأعضائهم وأجسادهم.
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان، ما أقاموه من الأرض» .
وأخرج عن أبي سعيد أيضا قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت، ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» .
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ... أي كلما حاولوا الهرب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم: ذوقوا العذاب المحرق، وعذاب هذه النار المحرقة. قال الفضيل بن عياض:
والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.
وقوله: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ كقوله: وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة 32/ 20] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا.
وبعد بيان سوء حال الكافرين وما هم فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال، ذكر تعالى حسن أهل الجنة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات(17/183)
جنات عالية رفيعة تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها، يوجهونها حيث أرادوا.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي وحليتهم التي يلبسونها أساور الذهب في أيديهم أو تكون مرصعة باللؤلؤ، ويؤتون لؤلؤا يزينون به هاماتهم ورؤوسهم، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»
واللؤلؤ كما تقدم: هو ما يستخرج من البحر من جوف الصّدف.
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي ويرتدون الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، ويؤكدها آية أخرى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر 35/ 33] .
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أي أرشدوا إلى القول الطيب، وهو كلمة التوحيد أو قوله تعالى حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر 39/ 74] . أو إلى تحية الملائكة لهم بالسلام، وهذا في مقابل أهل النار الذين يقرعون ويوبخون ويقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي وأرشدوا إلى الطريق المحمود أو إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على نعمه وأفضاله، أو إلى السلوك الحسن المرضي ربهم في أقوالهم وأفعالهم، والأصح: إلى طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة، أما الكافرون من الفرق الخمس الذين تقدم ذكرهم، فخيطت وسويت لهم ثياب شاملة من نار، أي أنها(17/184)
تحيط بهم إحاطة كاملة، ويصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم، يذيب أحشاء بطونهم وشحومها، ويشوي الجلود أو يحرقها، فإن الجلود لا تذاب، فيضم في كل شيء ما يليق به، ويضربون ويدفعون بمضارب ثقيلة من حديد.
وإذا حاولوا الخروج من النار حين تفور بهم، فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فتعيدهم خزنة النار إليها بالمقامع، ويقولون لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق. والذوق: مماسّة يحصل معها إدراك الطعم، والمراد به إدراكهم الألم.
وأما المؤمنون فلهم ألوان عديدة من النعم، منها أنهم يحلون بأساور الذهب، ويحلون لؤلؤا يزينون به تيجانهم، قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت، أي الذي لا يخالطه غيره.
قال القرطبي: وهو ظاهر القرآن ونصه.
وجميع ما يلبسونه وينتفعون به من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير.
وأرشدوا إلى طيب القول، قال ابن عباس يريد لا إله إلا الله، والحمد لله، كما أرشدوا إلى صراط الله وهو في الدنيا دينه وهو الإسلام، وفي الآخرة الطيب من القول: وهو الحمد لله لأنهم يقولون غدا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف 7/ 43] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر 35/ 34] فليس في الجنة لغو ولا كذب، فما يقولونه فهو طيّب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله وهو الإسلام أو إلى طريق الجنة، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله وقيل: الطيب من القول: ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة.
أما في الدنيا فالحرير والذهب محرم استعمالهما حلية على الرجال، حلال للنساء، أما الانتفاع بآنية الذهب والفضة كالأكل والشرب فهو حرام مطلقا على(17/185)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
الرجال والنساء.
روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة، لم يشرب فيها في الآخرة» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة» .
والحرمان من ذلك: إنما هو في حال عدم وجود التوبة، بدليل
حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» .
فإذا لم تحدث التوبة، فيحرم مما ذكر عملا بظاهر الحديث، وإن دخل الجنة، بدليل
ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو» . وكذلك «من شرب الخمر ولم يتب» و «من استعمل آنية الذهب والفضة»
وليس ذلك بعقوبة لأن الجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه «1» .
المنع من المسجد الحرام
[سورة الحج (22) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 30(17/186)
الإعراب:
وَيَصُدُّونَ الواو: إما واو عطف أو واو حال، فإن كانت للعطف عطف المضارع على الماضي حملا على المعنى، على تقدير: إن الكافرين والصادّين. وإن كانت للحال، كان تقديره: إن الذين كفروا صادّين عن سبيل الله. وخبر إِنَّ مقدّر، أي معذّبون. والأصح هو الأول، قال البيضاوي: لا يريد به حالا ولا استقبالا، وإنما يريد استمرار الصدّ منهم، كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ولذلك حسن عطفه على الماضي. وهذا مثل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد 13/ 28] .
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ الْعاكِفُ: مبتدأ، وَالْبادِ: عطف عليه، وسواء على قراءة الرفع: خبر مقدم. وعلى قراءة النصب: منصوب على المصدر، على تقدير: سوّينا، أو على الحال من هاء جَعَلْناهُ وهو عامل فيه، ورفع الْعاكِفُ به.
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفان، ومفعول يُرِدْ: متروك ليتناول كل متناول كما قال الزمخشري، وهو الأولى كما قال الرازي.
البلاغة:
الْعاكِفُ والْبادِ بينهما طباق، إذ العاكف: المقيم في المدينة، والباد: المقيم في البادية.
المفردات اللغوية:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون عن دين الله وطاعته. والصد: المنع، والفعل يفيد استمرار المنع الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة الَّذِي جَعَلْناهُ منسكا ومعبدا سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي تساوى فيه المقيم الملازم والطارئ من البادية بِإِلْحادٍ عدول عن القصد والاستقامة، والباء زائدة للتأكيد، أي إلحادا مثل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون 23/ 20] بِظُلْمٍ بغير حق، أي بسببه، بأن ارتكب منهيا، ولو شتم الخادم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يتلقى بعض العذاب المؤلم، وهو جواب الشرط لمن يرد، ويفهم خبر إِنَّ من قوله نُذِقْهُ أي نذيقهم من عذاب أليم.
سبب النزول:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب(17/187)
وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس مع رجلين: أحدهما مهاجر، والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، وهرب إلى مكة، فنزلت فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ الآية.
المناسبة:
بعد بيان مآل الكفار والمؤمنين، عظم الله تعالى حرمة البيت الحرام، وعظم كفر المشركين الصادين عن الدخول إليه لأداء المناسك، مع ادعائهم أنهم حماته.
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا بالله ورسوله، وهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في الأمر نفسه، فهم يمنعونهم من الدخول إليه، مع أن الله تعالى جعله للناس جميعا لصلاتهم وعبادتهم، وطوافهم وأداء مناسكهم، يستوي في شأنه المقيم منهم فيه والطارئ عليه النائي عنه، من أهل البوادي وغيرهم.
ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد والاستقامة، ظالما، أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، عامدا قاصدا أنه ظلم غير متأول، وهو التعمد، نذقه يوم القيامة من العذاب المؤلم.
قال مجاهد: بِظُلْمٍ: يعمل فيه عملا سيئا. وقال ابن أبي حاتم: وهذا(17/188)
من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي في الشر إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه.
وروى ابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام بمكة إلحاد» .
وهذا بعض أمثلة الظلم، فإن هذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة، ولم يعملها، لم يحاسب عليها إلا في مكة.
والخلاصة: أن الآية عامة تشمل كل أنواع المعصية، ويختص الحرم بعقوبة من همّ فيه بسيئة وإن لم يعملها، كما أن الله تعالى جعل الحرم مفتوحا ومنسكا لكل الناس، أي الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد، ومقيم وطارئ، ومكي وآفاقي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- حرية العبادة في الحرم المكي لجميع الناس، من أهل مكة وغيرهم، وهذا يومئ إلى أن من يمنع الناس من حج بيت الله الحرام، يكون من الذين كفروا لأن الله تعالى ذكر فريضة الحج عقب هذه الآية.
2- كل من يرتكب معصية في مكة عدوانا وظلما، أو يعزم فيه على الشر، وإن لم يفعله، له يوم القيامة عذاب مؤلم شديد الألم أي فيعاقب الإنسان على ما ينويه من المعاصي بمكة، وإن لم يعمله.
قال الإمام أحمد: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم الله، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت» .
وقد استدل الحنفية بالآية على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها، قائلين بأن المراد بالمسجد الحرام مكة، ومستدلين بما رواه ابن ماجه والدارقطني(17/189)
عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. وقال عبد الله بن عمرو- فيما رواه عنه عبد الرزاق: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها، وقال: «من أكل من أجر بيوت مكة شيئا، فإنما يأكل نارا» . وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر،
لحديث أسامة بن زيد في الصحيحين قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» ؟
وقال فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أسامة: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر»
وثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم.
وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث، ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة.
ومنشأ الخلاف: كيفية فتح مكة، هل كان فتحها عنوة؟ فتكون مغنومة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها، ولمن جاء بعدهم كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض سواد العراق، فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي.
أو هل كان فتحها صلحا؟ وإليه ذهب الشافعي، فتبقى ديارهم بأيديهم، ويتصرفون في أملاكهم كيف شاؤوا، واستدل بقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الحج 22/ 40] فأضافها إليهم.
وقال صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن» .
ويلاحظ أنه لم يؤاخذ الله تعالى أحدا على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ لأنه مكان تطهير النفس والتوبة والنقاء والتخلص من الذنوب بالكلية لله عز وجل.(17/190)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
تعيين مكان البيت الحرام والأمر بالحج إليه
[سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
الإعراب:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ اللام: إما زائدة لأن بَوَّأْنا يتعدى إلى مفعولين، فإبراهيم هو المفعول الأول، ومَكانَ: هو المفعول الثاني، وإما ألا تكون زائدة، ويكون بَوَّأْنا محمولا على معنى (جعلنا) فكأنه قال: جعلنا لإبراهيم مكان البيت: ظرف، والمفعول محذوف، تقديره:
بوأنا لإبراهيم مكان البيت منزلا.
أَنْ لا تُشْرِكْ بِي أن: إما مخففة من الثقيلة في موضع نصب، أي بأنه لا تشرك بي، وإما مفسّرة بمعنى «أي» وإما زائدة.
يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ رِجالًا: حال منصوب من واو يَأْتُوكَ. وعَلى كُلِّ ضامِرٍ: جارّ ومجرور في موضع نصب على الحال، أي يأتوك رجالا وركبانا. ويَأْتِينَ: يعود إلى معنى كُلِّ وفعل غير العقلاء كفعل المؤنث، ودلت كُلِّ على العموم، فأتى الخبر على المعنى.
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ ذلِكَ: إما مجرور صفة للبيت العتيق، وإما مرفوع خبر مبتدأ(17/191)
محذوف، أي الأمر ذلك، مثل قوله تعالى: ذلِكَ، وَمَنْ عاقَبَ [الحج 22/ 60] أي الأمر ذلك.
البلاغة:
عميق عتيق سحيق أي في الآية التالية سجع مستحسن في علم البديع.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ بَوَّأْنا أي واذكر إذ عيناه وبيناه مَكانَ الْبَيْتِ أي الكعبة ليبنيه، وكان قد رفع من زمن الطوفان في عهد نوح وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه وَالْقائِمِينَ المقيمين به وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ المصلين، جمع راكع وساجد.
وَأَذِّنْ ناد بالحج، أي بالدعوة إليه، فنادى على جبل أبي قبيس: يا أيها الناس، إن ربكم بنى بيتا، وأوجب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم. والتفت بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك. يَأْتُوكَ رِجالًا أي راجلين ماشين على الأقدام، جمع راجل، كتاجر وتجار وقائم وقيام، ويَأْتُوكَ:
جواب الأمر وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا على كل بعير مهزول، بأن أتعبه بعد السفر فهزل.
والضامر: يطلق على الذكر والأنثى يَأْتِينَ اي الضوامر، أتى به جمعا حملا على المعنى مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق بعيد.
لِيَشْهَدُوا ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ منافع دينية في الآخرة، ودنيوية بالتجارة فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ هي عشر ذي الحجة، أو يوم عرفة أو يوم النحر إلى آخر أيام التشريق- أيام عيد الأضحى بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا فَكُلُوا مِنْها من لحومها، أباح ذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه، وهذا في المتطوع به، المستحب، دون الواجب الْبائِسَ الْفَقِيرَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، والفقير:
المحتاج، والأمر فيه للوجوب.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي يزيلوا أو ساخهم وشعثهم كطول الظفر والشعر، ونتف الإبط، والمراد هنا: قص الأشعار وتقليم الأظفار. وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما ينذرون به من البر في حجهم، ومن الهدايا والضحايا. والنذر: كل ما لزم الإنسان أو التزمه. وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي يطوفوا طواف الركن الذي به تمام التحلل أي طواف الإفاضة، فإنه قرينة قضاء التفث، وقيل:
طواف الوداع. والعتيق: القديم لأنه أول بيت وضع للناس.(17/192)
سبب النزول: نزول الآية (27) :
وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ: أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فأمرهم بالزاد، ورخص لهم في الركوب والمتجر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى موقف المشركين من الصد عن المسجد الحرام، أراد تعالى بيان مكانة البيت الحرام وتوبيخ أولئك المشركين على فعلهم، فإن أباهم إبراهيم عليه السلام هو الذي بناه، وأمر بتطهيره للطائفين والمصلين، وأن يدعو الناس إلى الحج، للحصول على المنافع الدينية والدنيوية.
التفسير والبيان:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ.. أي واذكر يا محمد للناس وقت أن جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعا يرجع إليه للعبادة، وأرشده إليه وأذن له في بنائه. والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حادث عظيم، ليتذكر المشركون، ويقلعوا عن عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان.
وفي هذا تقريع وتوبيخ لمن أشرك بالله في بقعة أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له.
وفيه دليل على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله بعد رفعه وطمس معالمه في أثناء طوفان نوح عليه السلام، كما
ثبت في الصحيحين عن أبي ذرّ قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال:
«المسجد الحرام» قلت: ثم أي؟ قال: «بيت المقدس» قلت: كم بينهما؟(17/193)
قال: «أربعون سنة» .
وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً الآيتين [آل عمران 3/ 96- 97] وقال تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة 2/ 125] .
أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ.. أي وقلنا له: ابنه على اسمي وحدي، ولا تشرك بي شيئا من خلقي في العبادة، وطهّر بيتي من الشرك والأوثان والأصنام والأقذار أن تطرح حوله، واجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به يخص العبادة بالله تعالى، لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، والقائم في الصلاة أو الدعاء لله، والراكع الساجد لله تعالى فيها.
وقد قرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه، فالقائمون: هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ.. أي ناد في الناس بالحج، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، يأتوك راجلين ماشين، وراكبين على كل بعير ضامر مهزول، من كل طريق بعيد. والأذان والتأذين: الاعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا: النداء في الناس بأن الله قد كتب عليهم الحج ودعاهم إلى أدائه.
روي أنه لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان للحج قال: يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت، ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحجّوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، لبّيك اللهم لبّيك «1» . وهذا معجزة خارقة للعادة، فهو سبحانه قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أنحاء الأرض والسماء.
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 38، وسيأتي تخريج الرواية.(17/194)
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم 14/ 37] . فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
وقد يستدل بقوله: رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ على أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا لأنه قدّمهم في الذّكر، فدل على الاهتمام بهم، وقوة هممهم، وشدة عزمهم. قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني، إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا «1» .
والذي عليه أكثر العلماء أن الحج راكبا أفضل، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه حجّ راكبا، مع كمال قوته صلّى الله عليه وسلم.
وإنما قال: يَأْتُوكَ مع أن الإتيان للبيت الحرام، إشارة إلى أنه الداعي والقدوة لهم بعد، وفيه تشريف إبراهيم.
ثم أبان تعالى سبب النداء إلى الحج وحكمته فقال:
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ.. أي أدعهم إلى الحج ليحضروا منافع لهم دينية بأن يحظوا برضوان الله، ودنيوية بما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات، وما يكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف. وهذا دليل على جواز الاتجار في الحج.
وليذكروا اسم الله أي حمده وشكره والثناء عليه بالتكبير والتسبيح، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وذلك في أيام معلومات هي أيام النحر الثلاثة أو الأربعة وهو قول الصاحبين ومالك، وقيل: عشر ذي
__________
(1) رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة عنه.(17/195)
الحجة وهو رأي أبي حنيفة والشافعي. وإذا كان ذكر اسم الله بمعنى الحمد والشكر فتكون عَلى للتعليل، ورأى الزمخشري أن ذكر اسم الله كناية عن الذبح والنحر لأن أهل الإسلام لا ينفكّون عن ذكر اسمه إذا ذبحوا أو نحروا، وتكون عَلى للاستعلاء. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه. واختير هذا الأسلوب ليشير إلى أن ذكر الله وحده دون شرك هو المقصود الأعظم وتوسيط الرزق للحث على الشكر والتقرب بتلك القربة والتهوين عليهم في الإنفاق.
ثم أمر الله تعالى بالأكل من تلك الذبائح أمر إباحة فقال:
فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ أي فاذكروا اسم الله على الذبائح، وكلوا من لحومها، وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس أي شدة، الفقير المحتاج.
والأمر بالأكل من الذبائح كما ذكر لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ندبا، لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم وإظهار التواضع، ومن هنا استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث.
وثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نحر هديه، أمر من كل بدنة ببضعة (قطعة من اللحم) فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.
ومذهب الشافعي أن الأكل مستحب، والإطعام واجب، فإن أطعمها جميعها جاز وأجزأ. وقوله: فَكُلُوا التفات إليهم بالخطاب ليؤكد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح.
ثم أمر تعالى بالنظافة وإيفاء النذر والطواف، فقال:
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذه أوامر بواجبات ثلاثة على سبيل الإيجاب، أي ليزيلوا الأوساخ من على أجسادهم بقص الأظفار وحلق الأشعار ونحوه من الأغسال، وليوفوا نذورهم التي نذروها(17/196)
تقربا إلى الله تعالى من أعمال البر، والنذر: كل ما لزم الإنسان أو التزمه، وليطوفوا طواف الركن أو الإفاضة، وقيل: طواف الوداع، بالبيت العتيق أي القديم، فهو أقدم بيت للعبادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن بناء الكعبة المشرفة أو البيت الحرام على يد إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر من الله تعالى له هدفان:
الأول- إعلان وحدانية الله تعالى وإظهار التوحيد الخالص من شوائب الشرك.
الثاني- تطهير البيت من جميع الأصنام والأوثان والأقذار وكل مظاهر الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء، كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] .
والأصح أن الخطاب في ذلك وما يأتي لإبراهيم، وليس لمحمد عليهما الصلاة والسلام.
2- قوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ إعلام بفريضة الحج. وهذا يدل على أن الحج كان مفروضا في زمن إبراهيم عليه السلام، فإن كانت الفرضية باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده، كانت الأوامر به في شريعتنا مؤكدة لتلك الفرضية.
وإن نسخت تلك الفرضية، كان وجوب الحج علينا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 3/ 97] . وذلك في عام الوفود في السنة التاسعة.
وأما آية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة 2/ 196] النازلة في السنة(17/197)
السادسة، فليست صريحة في الإيجاب إذ يحتمل أن المراد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، فيكون الشروع فيهما ليس واجبا.
وأما إن النبي صلّى الله عليه وسلم حج حجتين قبل الهجرة فهما نافلتان على ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، ثم حج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة، وهي حجة الإسلام.
وأما إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبادر بالحج سنة تسع عام الفرضية لأن الوقت حينئذ كان زمن النسيء (تأخير أزمان الشهور) ولم يكن الزمن الحقيقي قد استقر حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الصحيح من السنة، وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي في السنة العاشرة، فتأخر إليها كي يقع حجة في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس الحج فيه. وليس على أبي بكر الذي حج في السنة التاسعة ولا على غيره حرج في حجهم ما دام أمر الزمان مختلطا.
ونداء إبراهيم بالحج على جبل أبي قبيس وإسماع صوته إلى الآفاق معجزة، فالله قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أي مكان. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: ربّ قد فرغت، فقال: أذّن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال:
تعال أذّن، وعلي البلاغ، قال: ربّ كيف أقول؟ قال: قل: «يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق» فسمعه أهل السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد، يلبّون.
3- قوله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ وعد بإجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب. وفيه دليل على جواز كل من المشي والركوب إلى الحج، ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل منهما:(17/198)
فرأى بعض المالكية أن المشي أفضل، لما فيه من المشقة على النفس،
ولحديث ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: حجّ النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة
، ولقول ابن عباس المتقدم.
وذهب جمهور الفقهاء منهم الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة، ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وأما مجرد تقديم رِجالًا على الركبان فلا يدل على الأفضلية، لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، ولجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان، للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب.
وترفع الأيدي عند رؤية البيت الحرام في مذهب أحمد وجماعة لما
روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ترفع الأيدي في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصّفا والمروة، والموقفين «1» ، والجمرتين» .
4- دلّ قوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ على جواز التجارة في الحج قال مجاهد: المنافع: التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. ونص الفقهاء على جواز التجارة للحجاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر، بدليل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة 2/ 198] والفضل: التجارة بلا خلاف.
وكلمة مَنافِعَ تدل على حكمة الحج، وأنه شرع لما فيه من منافع عظيمة في الدين والدنيا، فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة، وهي تدل على التجرد من مفاتن الدنيا وزينتها، وتبعث على عدم التعلق بشهواتها وزخارفها. كما أنها بواعث على الرحمة والإحسان، والعدل
__________
(1) موقف عرفات والمشعر الحرام. [.....](17/199)
والمساواة، والتعاون، إذ يتعاون الناس في أسفارهم، ويتراحمون، ويتعارفون في هذا المؤتمر الأكبر، ويكونون متساوين لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين غني وفقير. ثم إنه كان وما يزال الحج محققا لمنافع معيشية لأهل الحجاز.
5- يرى المالكية أن ذبح الهدي لا يجوز ليلا، للآية: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ لأن الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي. والحق أن اليوم يطلق على النهار، وعلى مجموع النهار والليل. وغير المالكية يرون كراهة الذبح ليلا، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.
والأيام المعلومة في رأي الإمام مالك وأبي يوسف ومحمد: هي أيام النحر، وهي العيد واليومان بعده. وفي رأي أبي حنيفة والشافعي: هي عشر ذي الحجة، وهي معلومات لأن شأن المسلمين الحرص على معرفتها.
وأيام النحر عند الحنفية والمالكية ثلاثة أيام: العاشر ويومان بعده، وعند الشافعي: إنها أربعة: العاشر وما بعده. والرأي الأول مروي عن جمع من الصحابة. والثاني بدليل
ما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «وكلّ أيام التشريق ذبح»
وهي ثلاثة بعد يوم النحر، لكن الإمام أحمد ضعّف هذا الحديث.
ووقت الذبح بعد النحر في رأي مالك: بعد صلاة الإمام وذبحه، وعند أبي حنيفة: بعد الفراغ من الصلاة دون ذبح، وفي رأي الشافعي: بعد دخول وقت الصلاة ومقدار خطبتين. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء في أن من ذبح قبل الصلاة، وكان من أهل المصر أنه غير مضحّ،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب: «من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم» .
وأما أهل البوادي ومن لا إمام له: فمشهور مذهب مالك أنه يتحرى ذبح الإمام أو أقرب الأئمة إليه. وقال الحنيفة: يجزيهم من بعد الفجر.(17/200)
6- قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها يراد منه الإباحة، مثل قوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة 5/ 2] وقوله: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة 62/ 10] أو يراد منه الندب والاستحباب، فيستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويز الصدقة بالكل وأكل الكل عند المالكية. وذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا، فأباح النص الأكل منها أو ندب إليه لقصد مواساة الفقراء.
لكن جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي، فإن دم الجزاء لا يجوز لصاحبه الأكل منه اتفاقا، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا.
أما دم التمتع والقران: فقال الشافعية: إنه دم جبر، فلا يجوز لصاحبه الأكل منه. ورأى الحنفية أنه دم شكر، فأباحوا لصاحبه الأكل منه، عملا بظاهر الآية، فإنها رتبت قضاء التفث على الذبح والطواف، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران، فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها، فدل ذلك على أن المراد في الآية دم المتعة والقران.
وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع، وقد كان قارنا على الراجح عندهم.
وإذا كان يجوز إطعام الأغنياء منها، جاز لصاحب الذبيحة أن يأكل منها، ولو كان غنيا.
ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أن صاحب الذبيحة لا يأكل من ثلاث من دماء الكفارات: جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محلّه، واجبا كان أو تطوعا. وإذا أكل مما منع منه، يغرم في قول راجح للمالكية قدر ما أكل لأن التعدي إنما وقع على اللحم، وفي قول آخر: يغرم هديا كاملا.
7- قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ظاهره وجوب إطعام الفقراء(17/201)
من الهدايا، وبه أخذ الشافعي، وقال أبو حنيفة: إنه مندوب لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو مندوب.
ويستحب عند أكثر العلماء أن يتصدق من أضحيته وهديه بالثلث، ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. ولم يثبت هذا التقسيم عند مالك. والمسافر في رأي الجمهور يطالب بالأضحية كما يطالب بها الحاضر، لعموم الخطاب بها.
ولا يطالب بها عند أبي حنيفة. كما لا يطالب عند مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية.
8- لا يجوز بيع شيء من الهدايا، لاقتصار النص على الأكل والطعام، ولما
رواه البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: «أمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، فقال: اقسم جلودها وجلالها، ولا تعط الجازر منها شيئا»
فلا يجوز بيع شيء منها بالأولى.
9- قوله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ دليل على وجوب التحلل الأصغر، وذلك بالحلق أو التقصير.
10- قوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يدل على وجوب الوفاء بالنذر وإخراجه إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر. وكذلك جزاء الصيد، وفدية الأذى لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك، كان عليه هدي كامل.
ولا وفاء بنذر المعصية
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن جابر: «لا وفاء لنذر في معصية الله»
وقوله فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عائشة: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» .
11- قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ يدل على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك.(17/202)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
أما القول بأنه طواف الوداع (الصّدر) فهو بعيد لأن الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة، فلا مناسبة هنا لطواف الوداع.
وللحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
أما طواف القدوم فهو سنة عند الجمهور، واجب على الأصح عند المالكية، وعكسه طواف الوداع: مستحب عند المالكية، واجب عند الجمهور، وأما طواف الإفاضة فهو فرض وركن لا يتم الحج إلا به بالاتفاق، لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
تعظيم حرمات الله وشعائره
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 35]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)(17/203)
الإعراب:
ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر والشأن ذلك المذكور.
مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ: لتبيين الجنس لأنه أعم في النهي.
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حُنَفاءَ: حال من ضمير فَاجْتَنِبُوا وهو عامله، وكذلك غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ القراءة المشهورة جرّ الْقُلُوبِ بالإضافة، وتقرأ برفع الْقُلُوبِ بالمصدر لأن «التقوى» مصدر كالدعوى، فيرتفع به ما بعده.
البلاغة:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تأكيد بإعادة الفصل بالفعل، ويسمى الإطناب، للعناية بشأن كل منهما على حدة.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وكذا قوله: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ تشبيه تمثيلي. والعطف فيه إما على قوله: خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على «تخطفه الطير» .
وَجَبَتْ جُنُوبُها جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ أي الأمر هكذا، ويستعمل للفصل بين كلامين، كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص 38/ 55] وَمَنْ يُعَظِّمْ التعظيم: العلم بوجوب تكاليف الشرع والعمل بموجبه. حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة، والحرمة: الأحكام وسائر ما لا يحل انتهاكه، عن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال المتكلمون: ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي فالتعظيم خير ثوابا في الآخرة، للعلم بأنه يجب القيام بمراعاة الحرمات وحفظها.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أحل أكلها بعد الذبح. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا المتلو عليكم تحريمه في آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة 5/ 3] وهو ما حرّم منها لعارض كالموت وغيره، فلا تحرموا منها غير ما حرّمه الله كالبحيرة والسائبة، والاستثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ للبيان، أي الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها، والتنفير عن عبادتها. والرجس: القذر، أي اجتنبوا عبادة الأوثان.(17/204)
والأوثان جمع وثن، وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيى بها.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الشرك بالله في تلبيتكم، أو شهادة الزور،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك: «عدّت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاث مرات، وتلا هذه الآية.
والزور: الكذب والانحراف. وهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان والافتراء على الله بأنه حكم بذلك.
حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين لله، مسلمين، عادلين عن كل دين سوى دينه، جمع حنيف: وهو المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ تأكيد لما قبله. خَرَّ سقط.
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي تأخذه بسرعة، والخطف: الاختلاس بسرعة. تَهْوِي تسقط.
سَحِيقٍ بعيد، أي فهو لا يرجى خلاصه، فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة. وأو:
للتخيير، كما في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة 2/ 19] أو للتنويع، فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة، ولكن على بعد.
ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك المذكور. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه، أو الهدايا لأنها من معالم الحج، والشعائر: جمع شعيرة أي علامة، ويراد بها الهدايا، وتعظيمها أن تختار من النوع الحسن السمين الغالي الثمن. وسميت شعائر لتعليمها بأنها هدي كالزينة أو الجرح البسيط.
فَإِنَّها أي فإن تعظيم البدن التي تهدى للحرم بأن تستحسن وتستسمن. مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كركوبها والحمل عليها ما لا يضرها. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت نحرها. مَحِلُّها أي مكان حل نحرها. إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي عنده، والمراد: الحرم جميعه.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أي ولكل أهل دين تقدموا مَنْسَكاً المراد هنا متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله تعالى وهو الذبح تقربا إلى الله، فهو اسم مكان، والأصل في النسك والمنسك: العبادة مطلقا، وشاع استعماله في أعمال الحج. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها. فَلَهُ أَسْلِمُوا انقادوا. الْمُخْبِتِينَ المطيعين الخاشعين المتواضعين. وَجِلَتْ خافت.
ما أَصابَهُمْ من البلايا. وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها. يُنْفِقُونَ يتصدقون.(17/205)
المناسبة:
الكلام مرتبط بما قبله بنحو واضح، فبعد أن أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالنداء للحج، أبان ثواب تعظيم أحكام الله وشرعه ومنها مناسك الحج، وإباحة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني تحريمه، ثم أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان، والافتراء على الله، والكذب في أداء الشهادات، وهلاك من يشرك بالله، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي، كما أن لكل أمة أو جماعة مؤمنة ذبائح يتقربون بها إلى الله تعالى.
التفسير والبيان:
ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ ... أي ذلك هو المأمور به من الطاعات في أداء المناسك وثوابها الجزيل، ومن يعظم أحكام الله بالعلم بوجوبها والعمل بموجبها، بأن يجتنب المعاصي والمحارم، ويلتزم بالأوامر، فله على ذلك ثواب جزيل، والثواب يكون على الأمرين معا: فعل الطاعات، واجتناب المحظورات أو ترك المحرّمات.
والحرمات: جمع حرمة وهي بمعنى ما حرم الله من كل منهي عنه في الحج من الجدال والجماع والفسوق والصيد، وتعظيمها يكون باجتنابها. وقيل: الحرمات:
جميع التكاليف الشرعية في الحج وغيره، وقيل: هي مناسك الحج خاصة، وقيل: إنها حرمات خمس: المسجد الحرام (الكعبة) والبيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام. وتعظيمها باجتناب المعاصي، ومنها الاعتداءات فيها.
وضمير فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ راجع إلى التعظيم المفهوم من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء سبب للمثوبة المضمونة عند الله تعالى، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل.(17/206)
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي وأبيح لكم أيها الناس ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني وتلي عليكم في آية المائدة وغيرها، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.. إلخ ولم يحرم عليكم ما حرمه أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. فلا يراد من قوله يُتْلى ما ينزل في المستقبل، كما هو ظاهر الفعل المضارع، بل المراد: ما سبق نزوله، ويكون التعبير بالمضارع للتنبيه على أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه.
والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى: المحرم من خصوص الأنعام، وهو منقطع إن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير وغيرهما، والراجح الأول والجملة معترضة لدفع الإيهام بأن تعظيم الحرمات يقضي باجتناب الأنعام، كما قضي باجتناب الصيد في الحرم وفي أداء المناسك في الحج والعمرة.
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي تجنبوا القذر من الأصنام، وسميت رجسا تقبيحا لها وتنفيرا منها، وابتعدوا عن عبادة الأوثان، فذلك رجس، والمراد من اجتنابها: اجتناب عبادتها وتعظيمها، وتأكيدا للأمر أوقع الاجتناب على ذاتها. والجملة مرتبطة بقوله: وَمَنْ يُعَظِّمْ.. أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير ورضا الله تعالى، وكان من تعظيمها اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي وابتعدوا عن الكذب والباطل وشهادة الزور، فذلك كله يدخل تحت عبارة قَوْلَ الزُّورِ والأحسن التعميم، حتى يشمل شهادة الزور،
أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاثا، وتلا هذه الآية.(17/207)
وتمسكوا بهذه الأمور حنفاء لله، أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، قصدا إلى الحق، دون إشراك بالله أحدا. والحنيف: المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق.
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى بجملة مستأنفة مقررة لوجوب اجتناب الشرك، فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ ... أي ومن أشرك مع الله إلها آخر، وعبد غيره، فقد خسر خسرانا عظيما وهلك هلاكا مبينا، وهو في شركه شبيه بمن سقط من جو السماء، فتخاطفته الطيور، أي قطعته ومزقته في الهواء، وأخذ كل منها بقطعة منه، فتم هلاكه أي هو كمن عصفت به الريح، فهوت به في مكان بعيد مهلك، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة. والغرض من هذين التشبيهين التمثيليين تقبيح حال الشرك والتنفير منه.
ثم ذكر الله تعالى سبب تعظيم الشعائر فقال:
ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي الأمر ذلك المذكور، ومن يعظم الهدايا (المواشي التي تذبح هدية للحرم) لأنها من معالم الحج، بأن يختارها جسيمة سمينة غالية الثمن، أو من يعظم أوامر الله ومناسك الحج، ومنها تعظيم الهدايا والبدن باستسمانها واستحسانها، كما قال ابن عباس، فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، كما ذكر في الكشاف. فقوله: فَإِنَّها عائد إلى حالة المعظم التي يدل عليها فعل وَمَنْ يُعَظِّمْ أو التعظيمة الواحدة. قال ابن العربي عن الشعائر: والصحيح أنها البدن.
روي أنه صلّى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب، أي حلقة من ذهب.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيبا، فأعطي بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:(17/208)
يا رسول الله، إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: «لا، أنحرها إياها» .
وكان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي- ثياب مصرية غالية الثمن- فيتصدق بلحومها وجلالها.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي لكم في البدن منافع دنيوية من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها، إلى أجل مسمى أي إلى أن تنحر، ويتصدق بلحومها، ويؤكل منها.
ويجوز ركوبها، حتى بعد أن تسمى بدنا أو هديا لما
ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال: «اركبها» قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة.
ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي ثم مكان حل نحر الهدي، وانتهاؤه عند البيت العتيق وهو الكعبة، أي الحرم جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام، كما قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة 5/ 95] وقال: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح 48/ 25] . وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين.
وسبب تسميته بالبيت العتيق هو كما
أخرج البخاري في تاريخه، والترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما سماه الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط» .
ثم أخبر الله تعالى عن مشروعية ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله في جميع الملل فقال:
ووَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي جعلنا لأهل كل دين سلف ذبحا(17/209)
يذبحونه تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وإنما هو في كل الملل. والصحيح كما قال ابن العربي أن المنسك: هو ما يرجع إلى العبادة والتقرب.
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي شرعنا لهم سنة ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي عند الشروع فيه، ويشكروه على نعمه التي أنعم بها عليهم.
ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال: قلت يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال:
«سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قال:
فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» .
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَلَهُ أَسْلِمُوا، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أي فإن معبودكم واحد، وإن تنوعت شرائع الأنبياء، ونسخ بعضها بعضا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] . وقوله: فَإِلهُكُمْ..
بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر لأن تفرده تعالى بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه. وإنما قال: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل:
«فإلهكم واحد» لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته وفي ألوهيته.
ومتى كان الإله واحدا فله أسلموا أي فيجب تخصيصه بالعبادة، والاستسلام له والانقياد له في جميع الأحكام. وقوله فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله.
وبشر أيها النبي بالثواب الجزيل المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين لله، من(17/210)
الخبت وهو المطمئن المنخفض من الأرض. وسر تحول الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم هو إظهار عظمة الألوهية وقهرها في مقام الأمر والنهي للعباد، فلما انتهى أمر التكليف، وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم لتبليغه الناس وعد الله للعاملين المخلصين.
وأوصافهم أربعة هي ما يأتي:
1- الخوف والخشوع عند ذكر الله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إذا ذكر الله خافت منه قلوبهم.
2- الصبر على المصائب: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي الذين يصبرون على الآلام والمشقات في طاعة الله تعالى.
3- إقامة الصلاة: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشرائط، مع الخشوع لله تعالى.
4- الإنفاق مما رزقهم الله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق، مع محافظتهم على حدود الله تعالى.
وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات الأحكام التالية:
1- إن تعظيم حرمات الله أي أفعال الحج وغيرها من امتثال الأوامر(17/211)
واجتناب النواهي خير عند الله من التهاون بشيء منها، وسبب للمثوبة والتكريم عند الله تعالى، فإن للأوامر حرمة المبادرة إلى الامتثال، وللنواهي حرمة الانكفاف والانزجار.
2- إباحة الأكل من لحوم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، إلا المذكور في القرآن من المحرّمات، وهي الميتة والموقوذة وأخواتها.
3- يجب اجتناب عبادة الأصنام والأوثان، فإنها رجس أي شيء قذر، وهي نجسة نجاسة حكمية. والوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه، فهو كالتمثال أيضا.
4- ويجب أيضا اجتناب قول الزور، والزور: الباطل والكذب، وهو يشمل خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم وقولهم فيها: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، ويشمل أيضا قولهم في البحائر والسوائب: إنها حرام، وإن تحريمها من الله، وكذلك يشمل شهادة الزور الباطلة.
ففي الآية وعيد على شهادة الزور، ولكن ليس في الآية ما يدل على تعزير شاهد الزور لأنها اقتصرت على تحريم شهادة الزور. وإنما يعزر من قبيل المصلحة والسياسة الشرعية، التي للحاكم أن يسير على نهجها لحفظ الحقوق العامة، وردع أهل الفساد. وهذا رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد،
جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وقول الزور»
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متكئا، فجلس، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت.
5- يلزم الإخلاص في العبادة لله، والاستقامة على أمره، فقوله:
حُنَفاءَ لِلَّهِ معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق، تاركين الدين الباطل.(17/212)
6- المشرك هالك حتما، خاسر الآخرة، فهو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا، فهو بمنزلة من خرّ من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع شيئا عن نفسه، ونهايته الهلاك إما بأن تقطعه الطيور بمخالبها، أو تعصف به الريح، وتسقطه في مكان قفر بعيد لا نجاة له فيه.
7- إن تعظيم شعائر الله (وهي الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، أو هي جميع مناسك الحج، والصحيح أنها البدن كما قال ابن العربي) من علائم التقوى ودعائمها. وتعظيمها يكون باختيارها سمينة حسنة غالية الأثمان. والتقوى: هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي. والإخلاص والتقوى والخشية غاية ما يتمنى المرء أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وفي الآية حث على التقوى، وبعث للهمم على الاهتمام بأمرها.
8- يجوز الانتفاع بالبدن بالركوب والحلب وأخذ الصوف وغيرها، إلى وقت الذبح، فقد فسر الشافعية الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي.
وقالوا: إنما يجوز الانتفاع للحاجة، ولو لم يكن هناك اضطرار. ولا يجوز لغير حاجة، والأولى أن يتصدق بمنافعها، ولكن لا يضمن شيئا من منافع الهدي إلا إذا أدى الركوب إلى الإنقاص البين لقيمتها، ودليلهم
حديث أنس المتقدم المتفق عليه بين أحمد والشيخين: «اركبها ولو كانت بدنة»
وحديث جابر فيما رواه أبو داود: «اركبوا الهدي المعروف حتى تجدوا ظهرا» .
وفسر الحنفية الأجل المسمى في الآية بوقت تعيينها وتسميتها هديا. ولا يجوز الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار، ودليلهم
ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر أنه سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا»
فالجواز خاص بحالة الضرورة، فهو مقيد والمقيد يقضي على المطلق في حديث(17/213)
أنس، فإن لم تكن ضرورة وجب ضمان ما ينتفع به لأنه ضار حقا للفقراء، فعليه أن يعوضهم مقدار قيمته.
والمشهور من مذهب المالكية أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها. وهذا قريب من مذهب الحنفية.
وذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اركبها» .
وقد أخذ أحمد وإسحاق وأهل الظاهر بظاهر هذا الحديث. وهذا يغاير فعل النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يركب هديه ولم يركبه غيره.
9- إن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. وأما ذبح البدن والهدي فلا يصح إلا في الحرم لأنه تعالى جعل محلها إلى البيت العتيق، قال عطاء: ينتهي إلى مكة.
10- الإخبار بجعل نسك الذبح لكل الأمم فيه تحريك النفوس إلى المسارعة إلى هذا البر، والاهتمام بهذه القربة، وفيه إشعار بأن أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، ويخلطون في التسمية على ذبائحهم، إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإن شرائع الله كلها قد اتفقت على أن التقرب إنما يكون لله وحده، وباسمه وحده إذ ليس للناس إلا إله واحد.
11- الإله الواحد هو الرازق والمشرع والمكلّف بالتكاليف الدينية، فتجب إطاعته، والانقياد لحكمه، وأن يكون الذبح له، وأن يذكر اسمه عند الذبح، وأن يخلص الذبح له لا لغيره أو مع غيره لأنه رازق ذلك. وظاهر الآية:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة، ووجوب اعتقاد أن الله واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.(17/214)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
12- للمخبتين المتواضعين الخاشعين من المؤمنين البشارة بالثواب الجزيل.
وأوصافهم في الآية أربعة كما تقدم: وهي الخوف والخشوع عند ذكر الله لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم وكأنهم بين يديه، والصبر على المصائب ومشاق الطاعات، وإقامة الصلاة أهم التكاليف البدنية، والإنفاق مما رزقهم الله من فضله، وهذا يشمل الزكاة المفروضة التي هي أهم التكاليف المالية، وصدقة التطوع.
والخوف عند ذكر الله يحصل عند استحضار وعيد الله وعذابه، وفي حال أخرى يطمئن المؤمن الصادق بوعد الله، كما قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد 13/ 28] فإذا ذكر وعد الله واستحضر رحمته وسعة عفوه، اطمأن قلبه، وسكن روعه، فلا يكون هناك تعارض بين الآيتين.
ويؤخذ من الآية أن التقوى والخشية والصبر على المكاره، والمحافظة على الصلاة، والرحمة بالفقراء والإحسان إليهم من أعظم موجبات نيل رضا الله تعالى.
التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها
[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)(17/215)
الإعراب:
وَالْبُدْنَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وجعلنا البدن، جعلناها لكم فيها خير.
وخَيْرٌ مرفوع بالظرف ارتفاع الفاعل بفعله، تقديره: كائنا لكم فيها خير. وصَوافَّ حال من هاء وألف عَلَيْها وهو ممنوع من الصرف لأنه جمع بعد ألفه حرفان، أي مصطفّة.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها قرئ ينال بالياء والتاء، فمن قرأ بالتذكير أراد معنى الجمع، ومن قرأ بالتاء بالتأنيث أراد معنى الجماعة، والفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول يقوي التذكير ويزيده حسنا.
البلاغة:
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ بينهما طباق لأن القانع: المتعفف، والمعتر: السائل.
الْمُحْسِنِينَ الْمُخْبِتِينَ- في الآية السابقة- سجع مستحسن.
المفردات اللغوية:
وَالْبُدْنَ جمع بدنة، وهي الإبل خاصة، ذكرا أو أنثى، لعظم بدنها، مثل ثمرة وثمر وثمر، ويشاركها البقرة في الحكم لا في الاسم لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الجماعة عن جابر: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» . شَعائِرِ اللَّهِ أعلام دينه. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ نفع في الدنيا، وأجر في العقبى، أي لكم فيها منافع دينية ودنيوية. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عند نحرها أو ذبحها، بأن تقولوا: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك. صَوافَّ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، جمع صافّة وقرئ صوافن من صفن الفرس: إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث وقرئ أيضا صوافيا بالتنوين وصوافي أي خوالص لوجه الله.
وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت على الأرض بعد النحر، وهو وقت الأكل منها، وهو كناية عن الموت. فَكُلُوا مِنْها إن شئتم. وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ أي المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرض، والمعتر: السائل أو المتعرض. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي مثل ما وصفنا من نحرها قياما، سخرناها لكم مع عظمها وقوتها، بأن تنحر وتأخذوها منقادة.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لا يرفعان إليه. وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له، مع الإيمان. هَداكُمْ أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه. الْمُحْسِنِينَ الموحدين المخلصين لله.(17/216)
سبب النزول: نزول الآية (37) :
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم:
فنحن أحق أن نضمخ، فأنزل الله: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها الآية.
المناسبة:
بعد الترغيب والحث على التقرب إلى الله بالأنعام كلها، خص الله تعالى الإبل، لعظمها وكثرة منافعها.
التفسير والبيان:
يمتن الله تعالى على عباده بأن جعل البدن قربة عظيمة تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى إليه، فقال:
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله، وأدلة طاعته، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في الآخرة، ونفع عظيم بلحومها للفقراء في الدنيا، وبالركوب عليها، وأخذ لبنها.
والبدن تطلق في رأي أبي حنيفة وآخرين من التابعين والصحابة على الإبل والبقر، روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلا من البدن. وقال ابن عمر رضي الله عنهما:
لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
ومذهب الشافعية: أنه لا تطلق البدن في الحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر مجاز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبدليل قوله تعالى: صَوافَّ ووَجَبَتْ جُنُوبُها فنحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصة، ويؤيده(17/217)
ما رواه أبو داود وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»
فإن العطف يقتضي المغايرة. وأما قول جابر وابن عمر المتقدم فيحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما. وهذا هو الظاهر والأصح لغة.
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أي فاذكروا اسم الله على البدن عند نحرها وكونها قائمات صافات الأيدي والأرجل، بأن تقولوا: بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك.
فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ أي إذا سقطت على الأرض وزهقت روحها أو ماتت، فيباح لكم الأكل منها، وعليكم الإطعام منها للفقراء، سواء المتعفف عن السؤال، والسائل المتعرض، أي كلوا وأطعموا، وقوله: فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة، وقال مالك: يستحب ذلك، وقال بعض العلماء: يجب، والظاهر أنه لا يجب الأكل منها، فإن السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا، وإنما ذلك لرفع التحرج عن الأكل من الهدايا الذي كان عليه أهل الجاهلية، فالمراد: إباحة الأكل أو الندب.
وأما قوله: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فظاهره كما تقدم وجوب إطعام الفقراء من الهدي، وبه أخذ الشافعي، فأوجب إطعام الفقراء منها، وذهب أبو حنيفة إلى أن الإطعام مندوب لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة منها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب.
كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء أو مثل هذا التسخير، ذللناها لكم، مع عظمتها وقوتها، وجعلناها منقادة لكم، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح، لكي تشكروا الله على نعمه، بالتقرب إليه، والإخلاص في(17/218)
العمل. والخلاصة: أنها نعمة جليلة تستحق الشكر والحمد، فقوله تعالى:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله. وكلمة «لعل» ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب لأنه مستحيل على الله تعالى لأنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور، فتكون للتعليل بمعنى «كي» . ونظير الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس 36/ 71- 73] .
ثم ذكر الله تعالى الهدف من ذبح الأنعام فقال:
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها.. أي إنما شرع الله لكم نحر هذه الهدايا والضحايا، لتذكروه عند ذبحها، ولن يصل إلى الله شيء من لحومها ولا من دمائها، ولكن يصله التقوى والإخلاص، وترفع إليه الأعمال الصالحة. وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوها لآلهتهم، وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها، وأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم، فنزلت الآية: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها..
ثم كرر تعالى ذكر تسخير الأنعام وتذليلها للناس لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة، الذي يبعث على شكرها، والثناء على الله من أجلها، والقيام بما يجب لعظمته وكبريائه، فقال:
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي من أجل هذا سخر لكم البدن وذللها، أو هكذا سخرها، لتعظموا الله وتشكروه على ما أرشدكم إليه لدينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه، ونهاكم عما يكره، ويأبى مما هو ضارّ غير نافع.
ثم وعد المهديين الراشدين بقوله:(17/219)
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي وبشر يا محمد بالجنة المحسنين في عملهم، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شرع لهم، الطائعين أوامره، المصدقين رسوله فيما أبلغهم، وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
1- يدل الاقتصار على البدن مع جواز نحر الهدي من بقية الأنعام على أن البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم، ولقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، وَلَا الْهَدْيَ، وَلَا الْقَلائِدَ، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة 5/ 2] .
وأما إطلاق البدنة على البعير، فمتفق عليه، وأما إطلاقها على البقرة ففيه قولان تقدما: قول لأبي حنيفة أنها تطلق، وقول للشافعي أنها لا تطلق، والأصح أنها لا تطلق عليها لغة، وإنما تطلق عليها شرعا، بدليل
الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي: البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .
2- يندب نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم لقوله تعالى:
صَوافَّ ولا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة.
3- قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أمر، ومقتضاه الوجوب، وقد أخذ بظاهره بعض الأئمة، فأوجبوا التسمية على الذبيحة، والأصح أنها مندوبة، والأمر مؤول على الندب، أو على الشكر والثناء.
ولا يجوز نحر الهدايا والأضاحي قبل الفجر من يوم النحر بالإجماع، فإذا طلع الفجر حلّ النحر بمنى، وليس على الحجاج انتظار نحر إمامهم بخلاف(17/220)
الأضحية في سائر البلاد. والمنحر: منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر، ولو نحر الحاج بمكة، والمعتمر بمنى لم يكن به بأس.
4- فَكُلُوا مِنْها أمر معناه الندب، قال القرطبي: وكل العلماء قالوا:
يستحب أن يأكل الإنسان من هديه، وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، كما تقدم.
وقال الشافعي: الأكل مستحب، والإطعام واجب في دماء التطوع، أما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا، كما تقدم.
وعلى هذا يكون ظاهر الأمر في الأكل إما الندب وإما الإباحة. وأما ظاهر الأمر في الإطعام فهو إما الوجوب كما قال الشافعي، وإما الندب كما قال أبو حنيفة.
5- يجمع عند الذبح أو النحر بين التسمية، لقوله تعالى في الآية المتقدمة:
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها وبين التكبير، لقوله هنا: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه، فيقول:
بسم الله والله أكبر،
وفي الحديث الصحيح عن أنس قال: ضحّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين «1» أقرنين، ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما «2» ، وسمّى وكبّر.
وقد أوجب أبو ثور التسمية، واستحب بقية العلماء ذلك. وكره المالكية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجازها الشافعي عند الذبح.
__________
(1) الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده.
(2) الصفاح: الجوانب، والمراد: الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثني إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما.(17/221)
وذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني، جائز، وكره ذلك أبو حنيفة، ويرد عليه
الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: «ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحّى به.
وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من المالكية والحسن البصري، بدليل
ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: أنه صلّى الله عليه وسلم قال عند الذبح: «اللهم منك ولك عن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر» ثم ذبح.
فلعل الإمام مالك لم يبلغه الخبر.
6- لن يصل إلى الله لحوم الذبائح ولا دماؤها، وإنما يصل التقوى من عباده، فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه. وقد امتن الله علينا بتذليل الإبل، وتمكيننا من تصريفها، وهي أعظم منا أبدانا، وأقوى أعضاء، ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير. وإنما هي بحسب ما يدبرها العزيز القدير، وليعلم الخلق أن الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده.
7- في الآية: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ دلالة على أن التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل لله جل شأنه من أهم المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها.
ويحسن ذكر حكم الأضحية بإيجاز، ذهب أبو حنيفة والثوري، ومالك في قول ضعيف عنه إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا، وكان في رأي أبي حنيفة مقيما غير مسافر لما
رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: «من وجد سعة، فلم يضحّ، فلا يقربنّ مصلّانا» «1»
،
وروى الترمذي عن ابن عمر قال: «أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي» .
وقال الجمهور، وذلك على المشهور عند المالكية لغير الحاج بمنى: لا تجب
__________
(1) لكن فيه غرابة، واستنكره أحمد بن حنبل.(17/222)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
الأضحية، بل هي سنة مستحبة لما
جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «1»
ولأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، فأسقط ذلك وجوبها عنهم،
وقال: «إنها سنة أبيكم إبراهيم»
وقال أبو سريحة: كنت جارا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما.
وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره»
ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب.
وروى أحمد والحاكم والدارقطني عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هنّ علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى» «2» .
وروى الترمذي: «أمرت بالنحر، وهو لكم سنة» .
دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
__________
(1) رواه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس، وهو ضعيف.
(2) سكت عنه الحاكم، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني.(17/223)
الإعراب:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا في موضع جر صفة لقوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين أخرجوا. ويكون قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فصلا بين الصفة والموصوف، مثل: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ، عَظِيمٌ [الواقعة 56/ 76] أي: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، أي لكن لقولهم:
ربنا الله.
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بدل بعض من الناس.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ.. إما في موضع جر، صفة أخرى لقوله: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وإما منصوب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي هم.
وقوله: إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ شرط وجزاء، وهما صلة الموصول.
البلاغة:
خَوَّانٍ كَفُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه حذف لدلالة السياق عليه، أي أذن بالقتال للذين يقاتلون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، أي لا ذنب لهم إلا هذا، على طريقة قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
المفردات اللغوية:
يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، وقرئ: يدفع أي غائلة المشركين خَوَّانٍ في أمانته وأمانة الله أي كثير الخيانة كَفُورٍ لنعمته، وهم المشركون، والمعنى: أنه يعاقبهم، وصيغة المبالغة لبيان واقع المشركين.
أُذِنَ رخّص لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من قبل المشركين وهم المؤمنون، أي للمؤمنين أن يقاتلوا، والمأذون فيه وهو القتال محذوف لدلالته عليه، وقرئ بالبناء للمعلوم يُقاتَلُونَ أي(17/224)
عدوهم المشركين. ذكر جماعة من المفسرين: أن هذه أول آية نزلت في الجهاد بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا بظلم الكافرين إياهم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر كما وعدهم بدفع أذى الكفار عنهم.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني مكة بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير موجب في الإخراج استحقوا به إِلَّا أَنْ يَقُولُوا أي بقولهم رَبُّنَا اللَّهُ وحده، وهذا القول حق، فالإخراج به إخراج بغير حق، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين لَهُدِّمَتْ لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، والقراءة بالتشديد للتكثير، وقرئ بالتخفيف صَوامِعُ للرهبان وهي الأديرة، جمع صومعة وَبِيَعٌ كنائس للنصارى، جمع بيعة وَصَلَواتٌ كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: أصلها: صلوتا بالعبرانية، فعرّبت وَمَساجِدُ معابد للمسلمين، جمع مسجد، والأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلم مسجدا، وتربتها طهورا. يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يذكر في المواضع الأربعة المذكورة، وتنقطع العبادة بخرابها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه، وقد أنجز وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ القوي: القادر على كل شيء، ومنه نصرهم، والعزيز: المنيع في سلطانه وقدرته، لا يغلبه غالب.
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بنصرهم على عدوهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إليه مرجعها في الآخرة.
سبب النزول:
نزول الآية (38) :
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ: روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
نزول الآية (39) :
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية: أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه وابن سعد عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فقال(17/225)
أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنّ، فأنزل الله:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، ثم بيّن مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أردف ذلك ببيان ما يزيل الصدّ، ويؤمن معه التمكن من الحج، وهو دفع الله غائلة المشركين، والإذن بالقتال مع إيضاح الحكمة منه وأسباب مشروعيته، كالدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.
التفسير والبيان:
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، شر الأشرار، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق 65/ 3] وقوله: يُدافِعُ صيغة مفاعلة إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط لأن صيغة المفاعلة تدل على تكرر الفعل.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي إنه تعالى لا يحب خائن العهد والميثاق والأمانة، جاحد النعم الذي لا يعترف بها، والمراد أن المؤمنين هم أحباء الله، وأن الله سيعاقب أعداءهم، فهو تعليل للوعد وللوعيد لأن نفي المحبة كناية عن البغض الموجب للعقاب. وخيانة الأمانة إما جميع الأمانات، وإما أمانة الله وهي أوامره ونواهيه.
وهذه الآية إما وعيد ضمنا، وبيان عاقبة الصادين عن المسجد الحرام الذين(17/226)
ذكرهم الله قبل آيات الحج، فتكون كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... وإما وعد للمؤمنين الذين تعطشوا إلى رؤية الحرم المقدس بعد منع المشركين لهم، فتكون كلاما متصلا بما قبله مباشرة، فإنهم أخرجوا رسول الله من وطنه الذي تعلق قبله به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» .
والظاهر أن الآية وعد من الله عز وجل وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم وتمكينهم من عدوهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي رخّص للمؤمنين المعتدى عليهم بالقتال بسبب ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وإيذاء بعضهم بالضرب والشج، فكانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج في رأسه، ويشتكون إليه، فيأمرهم بالصبر، ويقول لهم: «إني لم أومر بقتالهم» حتى هاجر فنزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.
وهي في رأي كثير من السلف كابن عباس وعائشة ومجاهد والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة والزهري: أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وهو الظاهر، ويؤيده سبب النزول المتقدم ذكره، وذكرت الآية بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت في القتال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. [البقرة 2/ 190] .
وفي الإكليل للحاكم: إن أول آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. [التوبة 9/ 111] .(17/227)
فعلى القول الأول للأكثرين: يكون المقصود بالآية: أُذِنَ.. إباحة القتال ومشروعيته، والمأذون فيه هو القتال حقيقة، وحذف لدلالة السياق عليه، والمراد بهم المهاجرون، بدليل وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق.
وعلى القول الثاني لبعضهم: يكون المراد حكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية.
وعلى قراءة المبني للمجهول يُقاتَلُونَ يكون وصفهم بالقتال الواقع عليهم فعلا على حقيقته، سواء قيل: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا لأن قتال المشركين واضطهادهم لهم، كان حاصلا على كل حال.
وعلى قراءة المبني للمعلوم يقاتلون إذا قيل: إنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون وصفهم بالقتال على حقيقته أيضا، وأما إذا قيل: إنها أول آية نزلت في الجهاد فيكون وصفهم بالقتال إما على معنى أو على تقدير: إرادة القتال، أي يريدون قتال المشركين ويحرصون عليه، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، أي ما سيعدون أنفسهم عليه من لقاء المشركين.
وعلى كل حال يكون المراد بالآية بيان سبب الإذن في القتال وهو دفع الظلم والإيذاء، فإن المشركين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأشد أنواع الإيذاء الأدبية والجسدية، فإنهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ووضعوا التراب على رأسه، وألقوا سلا جزور على كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه، وأغرت ثقيف سفهاءهم حتى رموه بالحجارة وأدموه واختضب نعلاه بالدم. وآذوا أيضا أتباعه وأنصاره فعذبوهم بالضرب والجلد، والقتل، والإلقاء في حر الشمس في بطحاء مكة، ووضعوا الحجارة على صدورهم، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، فلم يزدهم التعذيب إلا إصرارا على التمسك بعقيدتهم، فلا يصدر عنهم إلا القول: أحد أحد.
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي(17/228)
ثم وعد الله تعالى هؤلاء المعذبين المستضعفين بالنصر فقال:
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي إن الله وحده هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، وهو حينئذ معهم يؤيدهم بنصره، وقد فعل، فأعزهم وأهلك أعداءهم. هذا رأي ابن كثير «1» . ويكون المقصود تنبيه المسلمين إلى أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنهم مدعوون للجهاد والكفاح، وإثبات الكفاءة والذات، وأن الجزاء مرتبط بالعمل. وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا وعد بالنصر، وتأكيد للوعد في الآية المتقدمة بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأن الوعد السابق لا يراد منه مجرد تخليصهم من أيدي أعدائهم، بل نصرهم عليهم.
وإنما تأخر تشريع القتال إلى ما بعد الهجرة وإلى الوقت المناسب لأن المؤمنين في مكة كانوا قلة، وكان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم أقل من العشر- بقتال المشركين، لشق عليهم.
ثم وصف الله تعالى حال هؤلاء المؤمنين بقوله:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ أي إن هؤلاء المؤمنين المعتدى عليهم هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق، وهم محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كان لهم من إساءة إلى قومهم، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة 60/ 1] وقال سبحانه في قصة أصحاب الأخدود: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 8] .
هذا أول أسباب المشروعية وهو الطرد من الأوطان بغير حق، ثم ذكر تعالى
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 225(17/229)
سببا آخر وهو الدفاع عن حرية العبادة في الأرض، وحماية الأماكن المقدسة، فقال:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ.. هذه هي سنة التدافع من أجل الحفاظ على التوازن بين البشر، والقتال مشروع لحماية أماكن العبادة، وإقرار مبدأ حرية العبادة. والمعنى: لولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكفّ شرور أناس من غيرهم، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود والحرمات، لهدّمت مواطن العبادة، سواء كانت معابد للرهبان أو للنصارى أو لليهود أو للمسلمين، التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا.
ويلاحظ وجود التنقل في بيان مواضع العبادة من الأقل إلى الأكثر، ومن الأضيق إلى الأوسع، فإن المساجد أكثر ارتيادا، وأصح عبادة وأسلم قصدا.
وكذلك قدمت الصوامع والبيع في الكلام على المساجد لأنها أقدم وجودا. قال بعض العلماء: هذا ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا، وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح «1» .
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي وليؤيّدنّ الله بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ورفع لواء دينه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد 47/ 7- 8] .
وهذا إخبار من الله عز وجل عن مغيبات المستقبل وعما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض، وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 226
(2) الكشاف: 2/ 350(17/230)
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إن الله هو القوي القادر على نصر أهل طاعته المجاهدين في سبيله، وهو المنيع الذي لا يقهر، ولا يغلبه غالب، كقوله تعالى:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 171- 173] . وقوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] .
ثم وصف الله تعالى المهاجرين المؤمنين الجديرين بالنصر فقال:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ.. أي إن هؤلاء المهاجرين الذين بوأهم الله السلطة على الناس، وأعطاهم النفوذ بين العالم إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطة، فإنهم يأتون بالأمور الأربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو ما أمر به شرعا وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو ما حظر شرعا وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله. وهذه الآية كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] .
وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إن مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره في الثواب والعقاب على ما عملوا، كقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] وفيه تأكيد لما وعد تعالى من نصر أوليائه وإعلاء كلمتهم.
فمن تأمل النصر على الأعداء من اليهود وغيرهم، فليعمل بهذه الأوصاف الأربعة التي التزمها المهاجرون والمجاهدون الأولون.
ومجمل الآيات أنه إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب مع الناس إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إذا ظهروا في الأرض أقاموا الصلاة.(17/231)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى غرر الأحكام التالية:
1- وعد الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى بالمدافعة عن المؤمنين، وبحفظهم وصونهم من شر الأشرار وكيد الفجار، وبنصرهم على أعدائهم، ثم نهى نهيا صريحا عن الخيانة والغدر وكفران النعم.
2- أباح الله تعالى القتال لمن يصلح له لدفع أذى الكفار واعتدائهم، ودفاعا عن النفس وحق الحياة العزيزة الكريمة. قال الضحّاك: استأذن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، فلما هاجر نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وهذا- كما يقول العلماء القدامى- ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح، وهي أول آية نزلت في القتال.
وكانت قريش قد اضطهدت المسلمين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم عن بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذّب، وبين هارب في البلاد مغرّب، فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى»
. والخلاصة: لقد أذنوا بالقتال بسبب كونهم مظلومين، وكان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا، فإني لم أومر بقتال، حتى هاجر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية «2» .
وفي هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة لأن قوله: أُذِنَ معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1285
(2) تفسير الرازي: 23/ 39(17/232)
3- إن من مظاهر ظلم المشركين للمؤمنين هو إخراجهم من أوطانهم، لا لشيء، لكن لقولهم: ربنا الله وحده، فإن أهل الأوثان أخرجوهم من ديارهم بتوحيدهم.
وفي هذه الآية دليل على جواز نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، كما في آية: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة 9/ 40] .
4- ومن أسباب مشروعية القتال: الدفاع عن الحرمات وأماكن العبادات، فلولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك على نواصي الأمور، وأشاعوا الفوضى، ودمروا مواضع العبادات، وتغلبوا على الحق في كل أمة.
وهذا يدل على أن الجهاد أمر قديم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، وارتفعت به راية التوحيد، وظهرت بوادر الصلاح، ونواة التقدم والحضارة، وأرسيت معالم حرية الدين، وبرزت معالم الأخلاق القويمة والتهذيب البشري.
5- تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، لكن لا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وجاز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه وقد فعله عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلم.
6- إن الله تعالى القوي القادر، العزيز المنيع الجليل الشريف ينصر في حكمه وشرعه من ينصر دينه ونبيه، والله لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور، وعدوه هو المقهور.
7- إن المسلمين في جهادهم دعاة بناء ومجد وحضارة، وإصلاح وتقويم، فهم(17/233)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
إن كانت السلطة لهم في الدنيا لازموا أوصافا أربعة: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف الذي هو خير، والنهي عن المنكر الذي هو شر محض.
قال سهيل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له، واجب عليه، ولا يأمروا العلماء، فإن الحجة قد وجبت عليهم.
8- في قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة، وأن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة، فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدا.
الاعتبار بهلاك الأمم السابقة
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)(17/234)
الإعراب:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر يفسره الظاهر، وتقديره:
وكأين من قرية أهلكتها، وهذا إذا جعلت أهلكتها خبرا. فإن جعلتها صفة ل قَرْيَةٍ لم يجز أن تكون مفسرة لفعل مقدر لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف.
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ معطوف بالجر على قوله قَرْيَةٍ وتقديره: وكم من بئر معطلة، وقيل: هو معطوف على عُرُوشِها.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ.. تسلية له صلّى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس وحده منفردا في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم باعتبار المعنى. وَعادٌ قوم هود. وَثَمُودُ قوم صالح. وَأَصْحابُ مَدْيَنَ قوم شعيب.
وَكُذِّبَ مُوسى كذبه القبط، لا قومه بنو إسرائيل، لذا غيّر فيه النظم، وبني الفعل للمفعول لأن قومه لم يكذبوه، وإنما كذبه القبط، ولأن تكذيبه كان أشنع. فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أمهلتهم بتأخير العقاب لهم. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب أي أهلكتهم. نَكِيرِ إنكاري عليهم، بتغيير النعمة محنة، والحياة هلاكا، والعمارة خرابا. والاستفهام ب فَكَيْفَ للتقرير، أي هو واقع موقعه، ويراد به التعجب.
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كم من قرية أهلكتها، أي بإهلاك أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها بكفرهم. خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها سقوفها، أي ساقطة حيطانها على سقوفها أو خالية. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر معطلة، أي متروكة بموت أهلها عطفا على قَرْيَةٍ. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع أي مرفوع حال، بموت أهله، أو مجصص مبني بالشّيد أي الجصّ، أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي كفار مكة، وهو حثّ لهم أن يسافروا، ليروا مصارع المهلكين، فيعتبروا. يَعْقِلُونَ بِها أي يدركون ما يجب أن يعقل، وما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال بما نزل بالمكذبين قبلهم. أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحي، والتذكير بحال من يشاهد آثارهم. فَإِنَّها الضمير عائد للقصة أو مبهم يفسره الإبصار، أي أن الضمير ضمير الشأن والقصة، وهو يجيء مذكرا ومؤنثا. وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي تعمى عن الاعتبار، أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما في سوء استعمال عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد. وذكر الصدور للتأكيد.(17/235)
قال ابن عباس ومقاتل: لما نزلت: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ بإنزال العذاب، لامتناع الخلف في خبره، فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين، ولكنه صبور لا يعجل بالعقوبة.
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ من أيام الآخرة بسبب العذاب. كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، وهو بيان لتناهي صبره وتأنيه.
نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، لقوله: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف 7/ 70] وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، لقوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. أَمْلَيْتُ لَها أمهلتها كما أمهلتكم. وَهِيَ ظالِمَةٌ مثلكم. ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب أي أخذت أهلها. الْمَصِيرُ المرجع، أي وإلى حكمي مرجع الجميع.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى أن المشركين الكفار أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم، وضمن للرسول والمؤمنين النصرة عليهم، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من إيذائه وإيذاء المؤمنين بالتكذيب وغيره، ممن خالفه من قومه.
التفسير والبيان:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ.. نَكِيرِ أي إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون، فلست فريدا في هذا ولا بدعا من الرسل، وإنما هي سنة الأمم الغابرة، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم إبراهيم ولوط، وأصحاب مدين قوم شعيب، وكذب القبط الذين أرسل إليهم موسى، مع ما جاءهم به أنبياؤهم من الآيات البينات والدلائل الواضحات، فأنظرت(17/236)
العذاب عن الكافرين وأخرتهم إلى الوقت المعلوم عندي، ثم أخذتهم بالعذاب والعقوبة وأهلكتهم، فانظر كيف كان إنكاري عليهم بتدميرهم ومعاقبتي لهم؟! ويلاحظ أنه لم يقل: وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط، وفرعون وقومه.
وما جرى على المثيل يجري على مثيله، فإني سأفعل بالمكذبين من قومك مثلما فعلت بأمثالهم، وإن أمهلتهم، فإني منجز وعدي فيهم: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج 85/ 12] فلا تتعجل العذاب.
ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى، وبين إهلاك الله أربعون سنة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
هذه هي سنة التكذيب، وأما العقاب فهو كما قال تعالى:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ... قَصْرٍ مَشِيدٍ أي كم من قرية أهلكتها، وهي ظالمة أي مكذبة لرسلها، والمراد أهلها، فأصبحت ديارهم ساقطة حيطانها على سقوفها، أي قد قربت منازلها، وتعطلت حواضرها، أو أصبحت خالية من أهلها مع بقاء عروشها على حالها وسلامتها.
وكم من بئر معطلة أي لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها، وكم من قصر مشيد دمّر أو بقي بعد فناء أهله؟! والمشيد:
المجصص: المبيض بالجص، أو المرفوع البنيان.
والمعنى الإجمالي للآية: كم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك، لدلالة مُعَطَّلَةٍ عليه؟!(17/237)
وذلك كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الأنبياء 21/ 11] .
ثم لفت أنظارهم إلى ضرورة العبرة بما حدث وشاهدوا فقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها هذا حثّ على السفر، والاتعاظ بالفكر، والتأمل بالبصيرة، أي هلا يسافر هؤلاء في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، وينظروا بأعينهم ما وقع، ويشاهدوا آثارهم، ويفكروا بعقولهم في النتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليقفوا على الحقائق ويطلعوا على الأسباب، ويدركوا الأسرار، فيعتبروا بما شاهدوا ورأوا، ويقلعوا عما هم فيه من شرك وتكذيب لرسول الله، وينيبوا إلى ربهم الذي خلقهم، وأقام لهم الأدلة والبراهين في الكون على وجوده ووحدانيته.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ولكنهم لم يفكروا ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا لأنهم قوم عمي البصر، وإنما هم عمي البصائر، فليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت أبصارهم سليمة، فإنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم، فلم يتفحصوا حقائق الأمور، ولم ينفذوا إلى العبر.
ذكر الرازي أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب لأن المقصود من قوله: قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها العلم، وقوله:
يَعْقِلُونَ بِها كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل «1» . وأضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن.
وبعد أن أبان تعالى ما هم عليه من التكذيب، ذكر أنهم قوم طائشون، حمقى، يستهزئون بحلول العذاب، فقال:
__________
(1) تفسير الرازي: 23/ 45(17/238)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي يتعجل وقوع العذاب الذي تنذرهم به هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال تعالى: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] وقال سبحانه:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] .
وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي والعذاب آت حالّ لا بد منه، فإن الله لا يخلف وعده الذي وعدهم به، وهو إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه، وما وعده إياهم ليصيبنهم ولو بعد حين.
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي إن الله تعالى حليم لا يعجل، ومن حلمه واستقصاره المدد الطوال أن يوما واحدا عنده كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب عند ربك، التي تحل بهم في الآخرة يعادل لشدة عذابه ألف سنة من أيام الدنيا، فأين هم من عذاب ربك؟ وإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجّل وأنظر وأملى.
وهذه الآية كقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة 32/ 5] .
والخلاصة: أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، فاقتضت حكمته الإمهال.
وتأكيدا للإنظار والإمهال، وإن طال الأمد، قال تعالى:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وكثيرا من القرى أملى الله لها، وأخّر عنها العذاب وإهلاكها، مع أنها مستمرة في(17/239)