الإعراب:
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، ولا بد فيه من تقدير صفة لتمكن المعنى أي فعجب أي عجب أو فعجب غريب.
أَإِذا عامل «إذا» : فعل مقدر دلّ عليه معنى الكلام، أي: أنبعث إذا كنا ترابا لأن في قوله: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ دليلا عليه، ولا يجوز أن يعمل فيه: كُنَّا لأن «إذا» مضافة إليها، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولأنهم لم ينكروا كونهم ترابا، وإنما أنكروا البعث بعد كونهم ترابا.
وقوله أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم: إما بدل مرفوع من قَوْلُهُمْ وإما منصوب بالقول.
والاستفهامان: أَإِذا وأَ إِنَّا للتأكيد وشدة الحرص على البيان.
عَلى ظُلْمِهِمْ محله النّصب على الحال.
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أَنْتَ: مبتدأ، وخبره: مُنْذِرٌ.
وهادٍ: معطوف على مُنْذِرٌ، فتكون اللام في لِكُلِّ متعلقة بمنذر أو بهاد، وقد فصل بين الواو والمعطوف بالجار والمجرور، وتقديره: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم. ويجوز أن يكون هادٍ مبتدأ، ولِكُلِّ قَوْمٍ: الخبر، واللام متعلقة باستقر.
البلاغة:
بين بِالسَّيِّئَةِ والْحَسَنَةِ وبين مُنْذِرٌ وهادٍ طباق.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من تكذيب الكفار لك وعبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان. فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي فأعجب منه، أو فعجب غريب أو فحقيق بالعجب تكذيبهم(13/110)
بالبعث وإنكارهم له. والعجب: تغير النّفس واندهاشها حين رؤية ما يستبعد في العادة. أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هذا استفهام إنكاري، ينكرون فيه إمكان إعادة الخلق بالبعث، وفاتهم أن القادر على إنشاء الخلق وما تقدم على غير مثال قادر على إعادتهم.
الْأَغْلالُ جمع غل: وهو طوق حديدي تشد به اليدان إلى العنق. بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل السّلامة. الْمَثُلاتُ جمع مثلة بوزن سمرة: وهي العقوبة، أي مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها، فلا يستهزءوا. وسميت مثلة لما بين العقاب والجريمة من المماثلة، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشّورى 42/ 40] ومنه سمي عقاب القاتل قصاصا، لما فيه من المماثلة. مَغْفِرَةٍ الغفر والمغفرة: السّتر، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة. عَلى ظُلْمِهِمْ أي مع ظلمهم، وإلا لم يترك على ظهرها دابة. لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه.
أُنْزِلَ عَلَيْهِ هلا أنزل على محمد. آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ آية حسية كقلب عصا موسى حية، وجعل يده بيضاء مشعة كالشمس، وناقة صالح. مُنْذِرٌ مخوف الكافرين، وليس عليك إتيان الآيات، والإنذار: التخويف. وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ الهادي: الذي يرشد النّاس إلى الخير والحق والصواب كالأنبياء والحكماء والعلماء، أي لكل قوم نبي يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه إياهم من الآيات، لا بما يقترحون، وهو مدعم عادة بمعجزة من جنس ما هو الغالب عليهم.
المناسبة:
أقام الله تعالى في الآيات السّابقة الأدلة السّماوية والأرضية على قدرته، ليثبت للناس أن من كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة، كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى الأكمل، فإنه قادر بالأولى على الأقل الأضعف: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف 46/ 33] .
ثم حكى هنا إنكار المشركين للبعث والقيامة، وأتبعه بحكاية حماقة أخرى وهي استعجالهم العذاب، وأردفه بطلباتهم إنزال آيات حسية للتعجيز.
التفسير والبيان:
وإن تعجب أيها الرّسول من تكذيب هؤلاء المشركين لك، وعبادتهم(13/111)
ما لا يضر وما لا ينفع من الأصنام، مع ما يشاهدونه من آيات الله تعالى ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع اعترافهم من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، إن تعجب من ذلك، فالأعجب منه والأغرب تكذيبهم بالبعث والقيامة، وقولهم: هل تمكن الإعادة بعد الفناء والبلى والصيرورة ترابا؟ وقد تكرر منهم هذا الاستفهام الإنكاري في أحد عشر موضعا، في تسع سور من القرآن: في الرعد، والإسراء، والمؤمنون، والنّحل، والعنكبوت، والسّجدة، والصافات، والواقعة، والنّازعات.
مع أن كل عالم وعاقل يعلم أن خلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] .
ثم حكم الله تعالى حكمه عليهم بأحكام ثلاثة بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي أولئك الكافرون الذين جحدوا بربهم، وكذبوا رسوله، وتمادوا في عنادهم وضلالهم لأن إنكار قدرة الله تعالى إنكار له. وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة، فهو كافر.
وأولئك المقيدون بالسلاسل والأغلال يسحبون بها، قال أبو حيان:
والظاهر أن الأغلال تكون حقيقية في أعناقهم كالأغلال «1» ، كما قال: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر 40/ 71] وهذا حقيقة، وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
وهم أصحاب النّار الخالدون فيها في الآخرة بقوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ..
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 366(13/112)
أي وأولئك أهل النّار الملازمون لها، المستحقون دخولها، الماكثون فيها أبدا لا يحولون عنها ولا يزولون بسبب كفرهم وإنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] والمراد بذلك التهديد بالعذاب المخلد المؤبد. وهذا يدل على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية.
ولم يقتصر تكذيبهم الرسول على إنكار عذاب الآخرة، وإنما أنكروا أيضا عذاب الدّنيا، فقال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ أي ويستعجلك هؤلاء المكذبون بالعقوبة قبل السّلامة منها والعافية من بلائها، كما قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج 70/ 1] وقال: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] وقال:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] أي عجّل لنا عقابنا وحسابنا.
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم، وبعبارة أخرى: ويستعجلونك بالعقاب مستهزئين بإنذارك، والحال أنه قد مضت العقوبات النّازلة على أمثالهم من المكذبين، كالرجفة والخسف والطوفان ونحوها.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ.. أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس على ذنوبهم، مع أنهم يظلمون، ويخطئون باللّيل والنّهار، ولولا حلمه وعفوه لعجل لهم العذاب فور ارتكاب الذنب، كما قال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] وقال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .(13/113)
والخلاصة: إن الله يغفر للنّاس مع ظلمهم أنفسهم باكتساب الذنوب، أي ظالمين أنفسهم، قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ أي وإنه تعالى شديد العقاب للعصاة.
ويلاحظ أنه تعالى قرن حكم المغفرة والرحمة بأنه شديد العقاب، كما هو شأن القرآن كثيرا، ليعتدل الرجاء والخوف، وليكون الإنسان بين الأمل والحذر، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام 6/ 147] وقال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] وقال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف 7/ 167] ونحو ذلك من الآيات التي تجمع بين الرجاء والخوف.
روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه، ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتّكل كل أحد» .
ثم ذكر الله تعالى ما طالب به المشركون النّبي صلّى الله عليه وسلّم من معجزة حسية كالأنبياء السّابقين بقصد التعجيز والإصرار على الكفر والطعن في النّبوة والتشكيك في صحتها فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي يقول المشركون كفرا وعنادا:
لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، مثل عصا موسى، وناقة صالح، ومائدة عيسى، فيجعل لنا الصفا ذهبا، وأن يزيح عنا الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا.
فرد الله عليهم الشّبهة بآية أخرى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء 17/ 59] أي نخشى تطبيق العقاب على المكذبين، فإن(13/114)
سنتنا أن من لم يؤمن بالآيات المنزلة بعد طلبها، أهلكناهم ودمرناهم بذنوبهم.
وهنا أعرض البيان عن الجواب عن قول المشركين، إلى توضيح مهمة الرسول التي أرسل بها وهي الهداية والإنذار، لا تلبية الطلبات، فقال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما أنت رسول عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، وأما الآيات فأمرها إلى الله، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] .
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي ولكل أمة أو قوم داع من الأنبياء، يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى الدّين الحق، وسبيل الخير والرشاد، كما في آية أخرى:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] .
ويصح أن يكون هادٍ معطوفا على مُنْذِرٌ وفصل بينهما بقوله لِكُلِّ قَوْمٍ أي أنت منذر وهاد لكل قوم، وبه قال عكرمة وأبو الضحى.
والخلاصة: إن الآية نزلت في المشركين والكفار الذين لم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشّجر، وانقلاب العصا سيفا، ونبع الماء من بين الأصابع، وأمثال هذه، فاقترحوا عنادا آيات، كالمذكورة في الإسراء والفرقان كتفجير الينبوع والرقي في السّماء والملك والكنز، فقال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم:
إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة، وناصح كغيرك من الرسل، ليس لك الإتيان بما اقترحوا، فالاقتراح إنما هو عناد، ولم ينزل الآيات إلا إذا تحتم العذاب والاستئصال «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إنكار البعث والقيامة مدعاة للعجب الشّديد، والله تعالى لا يتعجب،
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 367(13/115)
ولا يجوز عليه التعجب لأنه تغير في النّفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر تعالى ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون.
2- من أنكر البعث والقيامة، فهو كافر، لإنكاره القدرة الإلهية والعلم والصدق في الخبر، ويساق إلى جهنم بالأغلال والسّلاسل، وهو خالد في النّار.
فهذه أوصاف ثلاثة لمنكري البعث: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
3- العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية: هُمْ فِيها خالِدُونَ أي هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم، أما أهل الكبائر من المسلمين الذين يرتكبون الجرائم العظام، كالقتل وشهادة الزور وعقوق الوالدين، فلا يخلدون في النّار.
4- طلب المشركين إنزال العقوبة لفرط إنكارهم وتكذيبهم نوع من الطيش والحماقة، وكفاهم الاعتبار بعقوبات أمثالهم المكذبين، فالمثلات أي العقوبات كثيرة. وقد تبين من هذه الآية: أن عذاب الاستئصال لا ينزل بهم إلا بالإصرار على الكفر والمعاصي.
5- حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة.
6- إن الله تعالى لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا، وقد يعفو تعالى عن صاحب الكبيرة قبل التوبة في رأي أهل السّنة، لأن قوله تعالى عَلى ظُلْمِهِمْ أي حال اشتغالهم بالظلم، وحال الاشتغال بالظلم لا يكون المرء فيها تائبا.
قال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ.
7- وإن الله أيضا شديد العقاب للكافرين إذا أصروا على الكفر.(13/116)
8- ليست مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تلبية طلبات المشركين واقتراحاتهم، إنما مهمته الإنذار، أي التعليم، فهو منذر لقومه مبين لهم، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع.
9- لكل قوم هاد، أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله أي عليك الإنذار، والله هادي كل قوم إن أراد هدايتهم.
10- اجتمع من المشركين كما تحكي هذه الآية ثلاثة طعون: وهي أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنّشر، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة.
وسبب كل هذه الطعون: أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب. والإتيان بكتاب معين، لا يكون معجزا البتة، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السّلام، كفلق البحر بالعصا، وقلب العصا ثعبانا.
ولا تعني هذه الآية أنه لم تظهر معجزة تصدق النّبي عليه الصلاة والسّلام سوى القرآن، ولعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات، أو أنهم طلبوا منه معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها منه صلّى الله عليه وسلّم كحنين الجذع، وانشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل.
ويظل القرآن هو المعجزة الكبرى للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو المناسب لزمنه، فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السّلام هو السّحر، جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السّلام الطب، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة، وهو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه (الأعمى الذي ولد فاقد البصر) والأبرص، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفصاحة(13/117)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
والبلاغة، جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن.
فإذا لم يؤمن العرب بهذه المعجزة، مع كونها أليق بطباعهم، فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى.
بعض مظاهر علم الله المحيط بكل شيء
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
الإعراب:
اللَّهُ يَعْلَمُ ما ما هنا وفي بقية الآية: اسم موصول، مفعول يَعْلَمُ والجمل الفعلية التي بعدها هي الصلات، والعائد منها كلها محذوف. ويجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بيعلم. ويجوز أن تكون ما مصدرية.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ من: مبتدأ مرفوع، وسَواءٌ: خبر مقدم، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فهو مستو.
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ العامل في إِذا ما دل عليه الجواب.(13/118)
البلاغة:
يوجد طباق في تَغِيضُ وتَزْدادُ وفي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وفي أَسَرَّ وجَهَرَ وفي بِاللَّيْلِ وبِالنَّهارِ وفي مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ أي ظاهر.
المفردات اللغوية
ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي حملها أو ما تحمله من كون الجنين ذكرا أو أنثى، واحدا أو متعددا، وصفات كل، وغير ذلك تَغِيضُ تنقص من زمن أو جسم. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي وما تنقصه وما تزداده من الجثة والمدة والعدد. بِمِقْدارٍ بقدر واحد لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين، وهيأ له أسبابا مسوقة إليه، تقتضي ذلك.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب، وما حضر أو شوهد. والغائب: ما غاب عن الحس، والشّاهد: الحاضر المشاهد. الْكَبِيرُ العظيم الشّأن. الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بالقهر أو بقدرته. سَواءٌ مِنْكُمْ أي في علمه تعالى. مُسْتَخْفٍ مستتر. بِاللَّيْلِ بظلامه.
وَسارِبٌ ظاهر بارز بالنهار، بذهابه في سربه أي طريقه.
لَهُ مُعَقِّباتٌ له ملائكة تعتقب في حفظه ورعايته، أو تتعاقب على كتابة أقو اله وأفعاله، جمع معقّبة، من عقّبه: جاء عقبه، والتاء للمبالغة، لا للتأنيث، والمراد: ملائكة يتعاقبون على الإنسان بالليل والنّهار. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قدامه. وَمِنْ خَلْفِهِ ورائه أي من جوانبه. مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمره وإعانته، أو يحفظونه من بأس الله متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، أو يحفظونه من المضار. لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنّعمة أي لا يسلبهم نعمته. حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة والمعاصي. سَواءٌ عذابا. فَلا مَرَدَّ لَهُ من المعقبات ولا غيرها. وَما لَهُمْ لمن أراد الله بهم سوءا. مِنْ دُونِهِ أي غير الله. مِنْ والٍ ناصر يمنعه عنهم، ومِنْ: زائدة، وهذا دليل على أن خلاف مراده محال.
المناسبة:
بعد أن حكى الله سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له، أورد الأدلة على قدرته على ذلك بعلمه المحيط بكل شيء، فهو يعلم ما في الأجنّة التي في البطون، ويعلم الغائب عنا والمشاهد لنا، ويعلم السّر وأخفى، ويعلم جميع أجزاء الإنسان(13/119)
المتناثرة ومواضعها في البر والبحر وأجواف الحيوان، فيعيدها مرة أخرى.
وبعد أن حكى عن المشركين أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بيّن أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيعلم من حالهم أنهم: هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد، أو لأجل التعنت والعناد؟ وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات، أو يزداد إصرارهم على الكفر واستكبارهم؟.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، فهو يعلم بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، أهو ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، حسن أو قبيح، ذو خصائص وأوصاف، طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان 31/ 34] وقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم 53/ 32] وقال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر 39/ 6] .
وإذا أمكن معرفة نوع الجنين علميا بالتحليل مثلا من كونه ذكرا أو أنثى، فلا يكون ذلك معارضا الآية، لأن علم الله لا ينحصر به، وإنما علمه واسع محيط بكل شيء من الخواص والصفات الأخرى.
وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي والله يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده من الجثة (سقطا أو تماما) والمدة (أقل من تسعة أشهر أو تسعة أو أكثر إلى عشرة) والعدد (واحدا أو متعددا) والدم (إراقة حتى يخسّ الولد، وعدم إراقة حتى يتم الولد ويعظم) .
والإحصاء العلمي دل على أن الجنين لا يزيد بقاؤه في بطن أمه عن 305 أو 308 أيام، وهناك رأي في المذهب المالكي أن عدة المطلقة سنة قمرية (354 يوما) .(13/120)
وأما ما يذكر في المذاهب لأقصى مدة الحمل (أربع سنين عند الشافعية والحنابلة، وخمس سنين عند المالكية، وسنتان عند أبي حنيفة) فمستنده الاستقراء وأخبار الناس، والناس قد يخطئون أو يتوهمون وجود الحمل في فترة زمنية ما، وليس في ذلك أي نص شرعي ثابت.
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي وكل شيء عنده تعالى بأجل معين، أو بقدر واحد، لا يزيد عنه ولا ينقص، كقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] .
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الجماعة عن أسامة بن زيد: أن إحدى بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره، فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب» .
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي يعلم كل شيء غائب عن العباد لا تدركه أبصارهم، ومشاهد لهم مرئي، ولا يخفى عليه منه شيء، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، المتعال على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، أي شمل علمه كل شيء، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب، ودان له العباد طوعا وكرها.
ويلاحظ أن هذه الآية استوفت بيان كمال علم الله تعالى، ففي مطلع الآية الذي هو كلام مستأنف أوضح تعالى أنه عالم بالجزئيات والمفردات، ثم ذكر أنه عالم بمقادير الأشياء وحدودها لا تتجاوزها ولا تقتصر عليها، وخصص كل حادث بوقته بعينه وبحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ثم أضاف أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وهي أشياء جزئية من خفايا علمه، فهو يعلم الباطن والظاهر، والغائب: وهو ما غاب عن الحس، والشاهد: وهو ما حضر للحس، ثم ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء، لا فرق فيه بين الخفي السرّ أو الظاهر المعلن فقال: سَواءٌ مِنْكُمْ.. أي أنه تعالى محيط علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسرّ قوله وأخفاه أو جهر به وأعلنه، فإنه يسمعه لا يخفى عليه(13/121)
شيء، كما قال: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] وقال: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ [النمل 27/ 25] .
وقالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة، تشتكي زوجها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة 58/ 1] .
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي يعلم أيضا ما هو مختف في قعر بيته في ظلام الليل، والتنصيص على هذه الحالة تنبيه على رقابة الله في كل مكان قد يظن صاحبه أنه بتواريه عن أنظار الناس، لا يطلع عليه أحد.
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ظاهر ماش في ضوء النهار، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] .
ثم ذكر الله تعالى وسيلة إثبات المعلومات وخزائن المعارف والوقائع لمواجهة أصحابها بها مع علمه تعالى بكل شيء، وهي: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي للإنسان ملائكة حفظة، ملائكة في الليل تعقب ملائكة النهار، وبالعكس فهم يتعاقبون يتعاقبون على حراسته وحفظه من المضار ومراقبة أحواله، ويتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والتدوين أو الكتابة، سواء خيرا أو شرا. فالضمير عائد إلى مِنْ في قوله: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وقيل: الضمير يعود على اسم الله في عالم الغيب والشهادة.(13/122)
فلهؤلاء الملائكة الحفظة وظائف، منها: حفظ الإنسان في الليل والنهار من المضارّ والحوادث بإذن الله وأمره ورعايته، ويقوم به ملائكة معينون وعددهم اثنان يحرسه أحدهما من ورائه والآخر من قدامه، ومنها حفظ الأعمال من خير أو شر، ويقوم به ملائكة آخرون، وهما اثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، كما قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] فصار مجموع ملائكة كل إنسان أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل، وهم حافظان وكاتبان، كما
جاء في الحديث الصحيح عند البخاري: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون»
وفي الحديث الآخر: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم» .
قال ابن عباس: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.
ومن علم أن الملائكة الحفظة ترصد عليه أعماله وتحصي أقواله وأفعاله، تهيّب من مخالفة أوامر ربه، وكان حذرا من المعاصي، حتى لا تسجل عليه، ويفاجأ بها يوم القيامة، كأنه شريط مسجل من وقت التكليف (البلوغ والعقل) إلى الوفاة.
وقوله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي يحفظونه بأمر الله وبإذنه، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له، وسؤالهم ربه أن يمهله، رجاء أن يتوب وينيب، كقوله: قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء 21/ 42] .
ثم بيّن الله تعالى مزيد فضله وعدله بأنه لا عقاب بدون جريمة، فقال:(13/123)
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ.. أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم وينتقم منهم إلا بتغيير ما بأنفسهم بأن يكون منهم الظلم والمعاصي والفساد وارتكاب الشرور والآثام التي تهدم بنية المجتمع وتدمر كيان الأمم.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب» .
وهذا مؤكد للآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .
وواقع التاريخ الإسلامي في القرون الماضية يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى لم يغيّر ما كان عليه حال الأمة الإسلامية من عزة ومنعة، ورفاه واستقلال، وعلم وتفوق في السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلا بعد أن غيروا ما بأنفسهم، فحكموا بغير القرآن، وأهملوا دينهم، وتركوا سنة نبيهم، وقلدوا غيرهم، وضعفت روابط التعاون بينهم، وساءت أخلاقهم، وانتشرت الموبقات بينهم، وقد وعد الله الأرض من يصلحها بقوله: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] أي الصالحون لعمارتها، وقوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] .
ثم وصف تعالى قدرته المطلقة على العذاب فقال: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً.. أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال ونحوها من أنواع البلاء، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم، ويدفع عنهم، أي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فتلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لعجزها عن فعل شيء نافع أو دفع أذى ضار.(13/124)
وهذا يدل على أن الله قادر في أي وقت على إيقاع العذاب بالناس، فليس من العقل والحكمة في شيء استعجالهم ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن الله تعالى عالم بالجزئيات وبالكليات، وبالماضي والحاضر والمستقبل، وبالباطن والظاهر أو السر المخفي والمعلن المجاهر به، وبالغائب عن مسامعنا وأبصارنا والشاهد الحاضر.
2- استدل مالك والشافعي بآية: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ على أن الحامل تحيض، قال ابن عباس في تأويلها: إنه حيض الحبالى، وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء، الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة. وقال عطاء والشعبي وغيرهما، وأبو حنيفة: لا تحيض، لأنه لو كانت الحامل تحيض، وكان ما تراه من الدم حيضا، لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع، فتماسك الحيض علامة على شغل الرحم، واسترساله علامة على براءة الرحم، فمحال أن يجتمع مع الشغل، لأنه لا يكون دليلا على البراءة لو اجتمعا.
3- وفي هذه الآية دليل أيضا على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وله أمثال كثيرون.
وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة.
واختلف العلماء في أكثر الحمل، فقال مالك في المشهور عنه، خمس سنين، وقال الشافعي وأحمد: أربع سنين، وقال أبو حنيفة: سنتان. ولا أصل لهذه المسألة إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أحوال النساء.(13/125)
قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر «1» .
4- تخصيص الممكنات بخواص وأوصاف معينة دليل على كمال القدرة الإلهية، والدليل: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، فكلمة بمقدار تعني عدم النقصان والزيادة، وقال قتادة: في الرزق والأجل، والمقدار: القدر، ويقال: بِمِقْدارٍ: قدر خروج الولد من بطن أمه، وقدر مكثه في بطنها إلى خروجه. قال القرطبي: وعموم الآية يتناول كل ذلك.
5- الله عالم الغيب والشهادة، أي هو عالم بما غاب عن الخلق وبما شاهدوه، فالغيب: مصدر بمعنى الغائب، والشهادة: مصدر بمعنى الشاهد. وهذا تنبيه على انفراده تعالى بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد.
والله سبحانه الكبير أي الذي كل شيء دونه، المتعال عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره.
والله تعالى يعلم ما أسرّه الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر، ويستوي في علم الله المستخفي بالليل والسارب بالنهار، أي يستوي في علم الله السرّ والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات.
6- للإنسان بتخصيص الله ملائكة أربعة في الليل، وأربعة في النهار، حافظان وكاتبان، وهي تتعاقب عليه ليلا ونهارا، وتتعقب أعماله وتتبعها
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1097(13/126)
بالحفظ والكتابة. قال الحسن البصري: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة.
الفجر.
والمراد من قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمر الله وبإذنه، وتكون مِنْ بمعنى الباء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقال الفرّاء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله، من بين يديه ومن خلفه يحفظونه.
وفائدة جعل الملائكة موكلين علينا بالحفظ: أنها تدعونا إلى الخيرات والطاعات، وليكون الإنسان حذرا من المعاصي.
وفائدة كتابة أعمال العباد: قال المتكلمون: الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة، وإن كان بالضد فبالضد.
7- لا يغير الله ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غيّر الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم.
والمراد بالآية عند المفسرين: أنه تعالى لا يغير ما بالناس من النعم بإنزال الانتقال إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد «1» .
وهذا المعنى موجّه للجماعة، أما الفرد فقد يتعرض للمصائب بذنوب الغير، ولا يشترط أن يتقدم منه ذنب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم، وقد سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟
قال فيما رواه البخاري في المناقب: «نعم إذا كثر الخبث»
أي الفسق والفجور. وقال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 22(13/127)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
8- إذا أراد الله بالناس بلاء من أمراض وأسقام، فلا مرد لبلائه وقيل: إن معنى الآية: إذا أراد الله بقوم سوءا، أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. ولا ملجأ ولا ناصر لأحد من مراد الله وعذابه.
والأولى تفسير الآية بأنه ليس للبشرية من يلي أمورها غير الله، الذي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، أما الآلهة المزعومة من أصنام وأوثان ونحوها فلا تستطيع أو تفعل شيئا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج 22/ 73] .
مظاهر ألوهية الله وربوبيته وقدرته
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)(13/128)
الإعراب:
خَوْفاً وَطَمَعاً مفعولان لأجله بتقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع، أو حال من البرق أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ الَّذِينَ: اسم موصول، ويَدْعُونَ: صلته، وعائده محذوف أي يدعونهم، كما حذف من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف 7/ 194] أي تدعونهم. كَباسِطِ كَفَّيْهِ الكاف: متعلقة بصفة مصدر محذوف، أي الاستجابة كاستجابة باسط كفيه، ويكون على هذا التقدير حرفا فيه ضمير انتقل إليه من: كائنة. ويجوز أن يجعل الكاف اسما، أي الاستجابة مثل استجابة باسط كفّيه، ولا يكون في الكاف ضمير. ويجوز الاستثناء من الفعل المصدر والظرف والحال. ولام لِيَبْلُغَ فاهُ متعلقة بباسط.
البلاغة:
يوجد طباق بين خَوْفاً وَطَمَعاً وبين طَوْعاً وَكَرْهاً.
إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ.. تشبيه تمثيلي، شبه حال الكافرين في دعاء الأصنام بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه بكف مبسوط. أو شبه عدم استجابة الأصنام لمن يدعونها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بعيد.
المفردات اللغوية:
الْبَرْقَ شرارة ضوئية تظهر في السماء بسبب تصادم الأجرام السماوية خَوْفاً وَطَمَعاً أي من أجل الإخافة من الصواعق، والطمع في المطر، وفيها مضاف محذوف، أي إرادة خوف وطمع، أو إخافة وإطماعا، أو حال أي خائفين طامعين، وإطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. ومعنى الخوف والطمع: أن وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث.
السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالمطر، وهو جمع ثقيلة، وإنما وصف به السحاب، لأنه اسم جنس في معنى الجمع الرَّعْدُ الصوت المسموع خلال السحاب بسبب احتكاك الأجرام السماوية، أي أنه ينشأ عن احتراق الهواء بالشرارة ظهور البرق، الذي يحدث من تصادم سحابتين مختلفتي الشحنة الكهربائية، ثم ينشأ عن تفريغ جزء من الهواء الذي يحدثه البرق احتكاك الهواء الذي يطرده البرق وظهور الرعد.
الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهي التي تحدث بسبب الاحتكاك الكهربائي بين كهربة السحب(13/129)
وكهربة الأرض عند تقارب السحب من الأرض، فتنشأ عنه صاعقة تحرق ما تقع عليه وَهُمْ يُجادِلُونَ أي الكفار يخاصمون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله تعالى، والجدل: شدة الخصومة الْمِحالِ القوة أو الأخذ للأعداء.
لَهُ تعالى دَعْوَةُ الْحَقِّ أي كلمته وهي لا إله إلا الله أو الدعاء الحق، فإنه الذي يحق أن يعبد وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون مِنْ دُونِهِ من غيره وهم الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مما يطلبونه إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء على حافة البئر، يطلب منه أن يبلغه، ليبلغ فاه بارتفاعه من البئر إليه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي بالغ فاه أبدا، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أي عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسار وبطلان.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين (الإنس والجن) طوعا حالتي الشدة والرخاء، ويسجد له الكفار كرها حالة الشدة والضرورة. والمنافقون من الكفار، إذ يسجدون كرها. ويحتمل أن يكون المراد: ينقادون لإحداث ما أراده الله فيهم من أفعاله، شاؤوا أو أبوا، لا يقدرون أن يمتنعوا عليه.
وَظِلالُهُمْ جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للشيء المادي القائم أي ويسجد ظلالهم، أو تنقاد أيضا حيث تخضع لمشيئة الله في الامتداد والتقلص والفيء والزوال بِالْغُدُوِّ جمع غداة: وهي أول النهار وَالْآصالِ جمع أصيل: وهو ما بعد العصر إلى المغرب.
سبب النزول: نزول الآية (13) :
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ: ذكر الرواة سببين لنزول هذه الآية، أخرج
الطبراني وغيره عن ابن عباس: أن أربد بن قيس وعامر بن الطّفيل قدما المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: يا محمد: ما تجعل إليّ إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم، قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، فخرجا، فقال عامر: إني أشغل عنك وجه محمد بالحديث، فاضربه بالسيف، فرجعا، فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك، فقام معه، ووقف يكلمه، وسلّ (أربد) السيف، فلما وضع يده على قائم(13/130)
السيف، يبست، والتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا، حتى إذا كانا بالرّقم (موضع) أرسل الله على أربد صاعقة، فقتلته، فأنزل الله:
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله شَدِيدُ الْمِحالِ.
وأما عامر فأرسل الطاعون عليه، فخرجت فيه غدّة كغدة الجمل، ومات في بيت سلولية.
وذكر الواحدي ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والنسائي والبزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رجلا مرّة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال: اذهب فادعه لي، فقال: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك، قال: اذهب فادعه لي، قال: فذهب إليه، فقال: يدعوك رسول الله، قال: وما الله، أمن ذهب هو، أو من فضة أو من نحاس؟ فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، وقال: وقد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، فقال: ارجع إليه الثانية فادعه، فرجع إليه، فعاد عليه مثل الكلام الأول، فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: ارجع إليه، فرجع الثالثة، فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينا هو يكلمني، إذ بعثت إليه سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «1» .
المناسبة:
بعد أن خوّف الله تعالى عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا مردّ له، أتبعه بهذه الآيات المشتملة على أمور ثلاثة، فهي دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته، وتشبه النعم والإحسان حينا، وتشبه العذاب والقهر والنقمة حينا آخر.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 156، تفسير ابن كثير: 2/ 505، تفسير القرطبي: 9/ 296- 298 الكشاف: 2/ 162(13/131)
التفسير والبيان:
الله تعالى هو الذي يسخر البرق: وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلال السحاب، بسبب تقارب سحابتين مختلفتين في الشحنة الكهربائية، ويريكم إياه تخويفا، فيخاف منه المسافر والمزارع الذي جمع حبوبه في البيدر (الجرين) ويحذر عواقبه كل إنسان من خطف البصر، أو مجيء السيول الجارفة، وطمعا، أي يرجو نفع المطر من كان بحاجة إليه لسقي زرعه وشجره وغسل الجو من الأتربة والرمال والدخان والميكروبات. فالناس في الظواهر العامة قسمان: إما فرح طامع بالخير بالنسبة إليه، وإما متشائم متبرم عابس لما يصيبه من شر أو ضر بالنسبة إليه.
وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ أي والله سبحانه هو الذي يوجد السحب المحملة المترعة بالماء، وهي لكثرة مائها ثقلية قريبة إلى الأرض. قال مجاهد:
السحاب الثقال: الذي فيه الماء.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي أن الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال ينزه الخالق عن الشريك والعجز، ويعلن خضوعه له، وانقياده لقدرته وحكمته، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
وتسبح الملائكة ربهم وتنزهه عن الصاحبة والولد، من هيبته وإجلاله.
ويرسل الله الصواعق نقمة، ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان،
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم، فيقول: من صعق قبلكم الغداة، فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان» .(13/132)
وكل من الرعد والبرق إما بشير خير أو نذير شر، لذا أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء حين رؤيتهما،
روى البخاري وأحمد عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .
ويسن عند رؤية البرق والرعد أن يقول: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ روى مالك في موطئه عن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد، ترك الحديث، وقال: «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته» .
وروى أحمد عن أبي هريرة أنه كان إذا سمع الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» .
وروى أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تأخذ الصاعقة ذاكرا الله عز وجل» .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد يقول: «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة، فعليّ ديته» .
وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وبالرغم من هذه الأدلة الدالة على قدرة الله وألوهيته، يجادل الكفار ويشكون في عظمة الله تعالى وأنه لا إله إلا هو، قال مجاهد: جادل يهودي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسأله عن الله تعالى: من أي شيء هو؟
وهو سبحانه شديد المحال أي شديد القوة والأخذ، والمماحلة: وهي شدة المماكرة والمكايدة لأعدائه، فيدبر لهم الحيلة لإنزال العقاب الشديد بهم من حيث لا يشعرون، يقال: تمحل لكذا: إذا تكلف استعمال الحيلة، واجتهد فيه.
وهو القادر على إنزال العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل 27/ 51] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] .(13/133)
وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم لم يقتصروا على إنكار نبوته، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار الألوهية.
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي لله تعالى دعوة الصدق والدعاء والتضرع، لا لغيره من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر الذين اتخذوا آلهة. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: دعوة الحق: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له.
وذكر في الكشاف وجهان للآية: الأول- إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، أي أن دعوة الإسلام دعوة الحق المختصة به. والثاني- إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو الله عز وعلا أي أن الدعاء لله الحق الذي يسمع فيجيب «1» .
وهذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن الوعيد بالعقاب الذي هددهم به. قال أبو حيان عن لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ: والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، كقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ والتقدير: لله الدعوة الحق، بخلاف غيره، فإن دعوتهم باطلة، والمعنى أن الله تعالى، الدعوة له هي الدعوة الحق، وهو رد على الكفار في إثبات آلهة مع الله، فمن يدعو الله فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء، فقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ.. أي إن الذين يدعون من دون الله الأصنام
__________
(1) الكشاف: 2/ 162 قال أبو حيان: وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر لأن مآله إلى تقدير: الله دعوة الله وهذا التركيب لا يصح.
البحر المحيط: 5/ 376 [.....](13/134)
والأوثان والمعبودات الباطلة وهم المشركون، لا يجيبونهم إطلاقا، ولا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء، ولا يحققون لهم نفعا ولا يدفعون عنهم ضرا، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد، طالبا وصوله إلى فمه، وهو عطشان، والماء جماد لا يعقل دعاء، ولا يلبي نداء، ولا يشعر به.
ويلاحظ ما عليه هذا التشبيه من واقعية ومن بسط الكفين كما يبسطها الداعي إلى الله.
فهذا مثل ضربه الله ليأس عبدة غير الله من الإجابة لدعائهم، لتنبيه عقولهم وحواسهم، والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد. قال الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الودّ مثل القابض الماء باليد وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسار وضياع وبطلان، فإن دعاءهم لهم غير مجاب، كما أن دعاءهم الله غير مجاب أيضا.
ثم بين الله تعالى كمال قدرته وعظمته وسلطانه فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. أي ولله يخضع وينقاد كل شيء طوعا من المؤمنين والملائكة في حالي الشدة والرخاء، وكرها من الكافرين في حال الشدة، بل كل شيء من مخلوقات الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد خاضع منقاد للخالق الذي خلقهم وأوجدهم. وكذلك تسجد لله وتخضع ظلال كل من له ظل مما ذكر في الصباح الباكر وفي آخر النهار، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص، أو لإرادة الدوام، كما هو الشأن في استعمالات العرب. والسجود لله دال على الربوبية، فلا يستحق العبادة سوى الله تعالى.(13/135)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يلي:
1- بيان كمال قدرة الله تعالى، وأن تأخير العقوبة عن العصاة ليس عن عجز، وكل ما ذكر في الآية من البرق والسحاب والرعد والصواعق دلائل ملموسة على قدرة الله عز وجل، وأنه شديد القوة والأخذ، والمحال أو المماحلة: وهي المماكرة والمغالبة.
فحدوث البرق مثلا دليل عجيب على قدرة الله تعالى: لأن السحاب مركب من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ونارية، والغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسم بارد رطب، والنار جسم حار يابس، فتغليب النار على الماء المتضادين، لا بد له من صانع مختار، يظهر الضد من الضد.
والأجزاء المائية من السحاب، سواء قيل: إنها حدثت في جو الهواء أو تصاعدت من أبخرة البحار، لا بد أن يكون حدوثها بإحداث حكيم قادر محدث.
وصوت الرعد المرعب بسبب تصادم كتل الهواء نتيجة تفريع جزء منه بالبرق دليل آخر على القدرة الإلهية.
والصواعق المخيفة المدمرة المتولدة من السحاب والتي تحدث بسبب احتكاك كهربة السحب بكهربة الأرض برهان واضح على الألوهية، ووجود موجود متعال عن النقص والإمكان.
2- كل شيء في الوجود من إنسان وحيوان ونبات وجماد وجنّ وملائكة يسبح بحمده، فالرعد يسبح بحمد الله، والملائكة تسبح أيضا بحمد الله من هيبته وإجلاله، والتسبيح: التنزيه عن الشريك والوالد والولد والصاحبة، والتقديس لله تعالى، ولكن الناس لا يفقهون تسبيح من سواهم.(13/136)
3- هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل الدالة على كمال قدرة الله، يجادلون في الله، ويشككون في وجوده وألوهيته، والله شديد القوة والأخذ، والعقاب، ومغالبة هؤلاء المشككين المجادلين بالباطل.
4- لله الدعوة الحق، فمن يدعوه فدعوته هي الحق، أما دعاء الأصنام وأمثالها من الآلهة المزعومة دون الله فهو باطل لا يفيد شيئا.
5- الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يحققون لأحد مطلبا، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لباسط كفيه إلى الماء، والماء جماد لا يشعر بأحد ولا بحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاء داعيه، فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم.
6- دل قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. على أنه يجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله إما طوعا أو كرها، فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول، أو أن كل من السموات والأرض يعترفون بعبودية الله تعالى، على ما قال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ [لقمان 31/ 25] .
وقيل: إن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل.
7- دل قوله: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ على أن كل شخص، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعا، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرها، وهو كاره. وقيل: إن المراد من سجود الظلال أي ظلال الخلق: ميلانها من جانب إلى جانب، وتختلف طولا وقصرا بسبب انحطاط الشمس وارتفاعها، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.(13/137)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
وحدانية الله ومثل المؤمن والمشرك تجاه الوحدانية
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
لبلاغة:
قُلِ: اللَّهُ فيه إيجاز بالحذف، أي الله خالق السموات والأرض.
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ والظُّلُماتُ وَالنُّورُ فيهما طباق.
هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ فيهما استعارتان، استعار لفظ الأعمى للمشرك، والبصير للمؤمن، واستعار لفظ الظلمات والنور للكفر والإيمان.
أَمْ جَعَلُوا الهمزة للإنكار، أي بل جعلوا.
المفردات اللغوية:
قُلْ يا محمد لقومك مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومتولي أمرهما قُلِ: اللَّهُ إن لم يجيبوا فلا جواب غير أن تقول: الله الخالق إذ لا جواب لهم سواه، ولأنه الجواب البين الذي لا يمكن المراء فيه، أو أنه لقنهم الجواب أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي كيف اتخذتم من غيره أصناما تعبدونها؟ والمراد أنه ألزمهم بذلك أن اتخاذهم منكر بعيد على مقتضى العقل، والاستفهام للتوبيخ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا يقدرون على جلب نفع إليها أو دفع ضر عنها، فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه؟ وكيف تركتم مالك السموات والأرض؟ وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء، رجاء أن يشفعوا لهم.(13/138)
هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الكافر الجاهل، والمؤمن العالم العاقل أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الكفر والإيمان؟ لا.
أَمْ جَعَلُوا بل أجعلوا، والهمزة للإنكار خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي خلق الله بخلق الشركاء، أي ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله، حق يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق الله، فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الناس، فضلا عما يقدر عليه الخالق.
وهو استفهام إنكاري، أي ليس الأمر كذلك، ولا يستحق العبادة إلا الخالق قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي لا خالق غيره، فيشاركه في العبادة، فهو لا شريك له في الخلق، فلا شريك له في العبادة، أي أنه جعل الخلق يستوجب العبادة ويلزم منه ذلك، ثم نفاه عما سواه ليتوصل إلى الآتي وهو قوله: وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي هو المتوحد بالألوهية، الغالب على كل شيء.
المناسبة:
بعد أن بيَّن الله تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد له، خاضع لقدرته وعظمته، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام، لإثبات الوحدانية، وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية، حتى لا يجدوا مناصا من الاعتراف بها.
التفسير والبيان:
قل للمشركين أيها الرسول: من خالق السموات والأرض؟ ثم أجب عنهم الجواب المتعين الذي لا مناص منه، وهو الذي يقرون به لأنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] وقل لهم إذن: الله خالقهما وربهما ومدبرهما.
قال الزمخشري: وقوله: قُلِ: اللَّهُ حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا: الله.
ثم قل لهم بعد أن ثبت هذا لديكم: فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات(13/139)
هي جمادات، وإذا كنتم مقرين بوجود الله، فما بالكم اتخذتم من دونه نصراء عاجزين وأولياء تعبدونهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟! وإذا كانت تلك الآلهة لا تملك لنفسها النفع والضر، فهي لا تملك لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا. فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له، فهو على نور من ربه؟ لهذا قال: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ...
أي قل لهم مبينا لهم سوء اعتقادهم: هل يتساوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يدرك الحق ويهدي الأعمى إليه؟ أم هل تتساوى الظلمات والنور؟ جمع الظلمات وأفرد النور لأن طريق الحق واحدة، وطرق الباطل والكفر متعددة.
والمراد: هل يمكن لأحد الحكم بتساوي الكافر والمؤمن، وتساوي الكفر والإيمان، فالكافر كالأعمى، والكفر كالظلمات، والمؤمن كالبصير، والإيمان كالنور؟
أَمْ جَعَلُوا بل جعلوا أي جعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، وحينئذ تشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، فحينما جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله، تشابه ذلك عليهم، فيعبدونهم، مع أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، فكيف يشركون في العبادة، أفمن يخلق كمن لا يخلق؟! وهذا بمعنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج 22/ 73] .
والمراد: ليس الأمر على هذا النحو، فإنه تعالى لا يشابهه شيء، ولا يماثله شيء، ولا ندّ له، ولا وزير له، ولا ولد له ولا صاحبة، وهؤلاء المشركون عبدوا آلهة، وهم معترفون أنها مخلوقة لله، وهم عبيد له، كما صرحوا في تلبيتهم:(13/140)
«لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» وكما أخبر القرآن عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر 39/ 3] . وتضمن هذا الاستفهام التعجب منهم والإنكار عليهم والتهكم بهم.
وبعد أن ناقشهم تعالى في فساد اعتقادهم، وأبان عدم وجود المسوغات لاتخاذ غير الله إلها معه، لعجزه وضعفه، قرر الحكم النهائي بقوله: قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.. أي قل لهم يا محمد مبينا وجه الحق: الله خالق كل شيء، خالقكم وخالق أصنامكم وخالق جميع المخلوقات، فإذا فكرتم تفكيرا سويا وجدتم أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد وهو المتوحد بالألوهية، المستحق للعبادة وحده، الغالب على كل شيء، فكيف تعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- تثبيت الحقيقة الأبدية الخالدة وهي أن الله تعالى وحده هو خالق السموات والأرض وجميع مخلوقات الكون.
ومن له صفة الخلق والإيجاد هو المستحق للعبادة والتقديس.
2- دل قوله: قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ على اعترافهم بأن الله هو الخالق، وهو معنى آية أخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ [العنكبوت 29/ 61] أي فإذا اعترفتم بأن الله هو الخالق فلم تعبدون غيره؟ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح بالحجة القاطعة التي لا مجال لردها أو الطعن فيها.
3- ضرب الله مثلا للمشركين بالأعمى للكافر والبصير للمؤمن، وإذا كان مسلّما لدى كل البشر ألا يستوي الأعمى والبصير، فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق والمشرك الذي لا يبصر الحق.(13/141)
ثم ضرب الله تعالى مثلا للشرك والإيمان بالظلمات والنور.
4- طمس الله على عقول المشركين، فلم يقتنعوا بما سبق، بل جعلوا لله شركاء فاقدة أهم مقومات الألوهية وهو الخلق والإبداع، فهي عاجزة عن خلق أي شيء، فلا يمكن بعدئذ أن تنافس مخلوقات الله، ولو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟! والمشركون حينما اتخذوا آلهة خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله، التبس الأمر عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. وهو تهكم بهم، فإنهم في الحقيقة يرون كل شيء من خلق الله، وأن هذه الآلهة لم تخلق شيئا، ومع هذا فإنهم يعبدونها من دون الله.
5- الله خالق كل شيء، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. والله تعالى هو الواحد قبل كل شيء، والقهار الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد، فكيف يصح بعد هذا القول بشريك لله؟! 6- استدل أهل السنة بهذه الآية على خلق الأفعال، أي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأن العبد لا يخلق فعل نفسه لأن فعله شيء والله خالق كل شيء، وإنما يحصل منه الكسب والتوجيه واختيار ما خلق الله له.
أما المعتزلة فقالوا: إن العبد يفعل ويحدث، ولا نقول: إنه يخلق كخلق الله تعالى، وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك كله، فلا يلزمهم أنهم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه.
وقال المجبرة: عين ما هو خلق الله تعالى هو كسب العبد وفعل له. وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين، وكل شريك له حق في فعل الآخر.(13/142)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
مثل الحق والباطل ومآل السعداء والأشقياء
[سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
الإعراب:
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ جار ومجرور، في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في عَلَيْهِ وتقديره: ومما يوقدون عليه كائنا أو مستقرا في النار.
ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ منصوب على المصدر في موضع الحال من ضمير يُوقِدُونَ. ولا يجوز أن يكون فِي النَّارِ متعلقا بيوقدون لأنهم لا يوقدون في النار، وإنما يوقدون على الذهب، كائنا في النار.
زَبَدٌ مِثْلُهُ مبتدأ، ومِثْلُهُ: صفة له، وخبره إما يُوقِدُونَ أو فِي النَّارِ.
جُفاءً حال من ضمير فَيَذْهَبُ عائد على الزبد لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى مبتدأ مؤخر وخبر مقدم وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مبتدأ، خبره: لَوْ أَنَّ ...(13/143)
البلاغة:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. تشبيه تمثيلي، وجه الشبه منتزع من متعدد، شبّه فيه الحق بالماء المستقر على الأرض، وبالجوهر الصافي من المعادن، وشبّه الباطل برغوة الماء وخبث المعدن الطافي عليه لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أي فسالت مياه الأودية، فهو مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه.
يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فيه إيجاز بالحذف، أي أمثال الحق وأمثال الباطل.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا بينهما طباق السلب.
كَمَنْ هُوَ أَعْمى شبه الكافر الجاهل بالأعمى على سبيل الاستعارة.
المفردات اللغوية:
مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا من السحاب أو من جانب السماء أَوْدِيَةٌ أنهار، جمع واد: وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، ثم استعمل للماء الجاري فيه، وتنكيرها لإتيان المطر على التناوب بين البقاع بِقَدَرِها بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع، أو بمقدار مثلها في الصغر والكبر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه، والزبد: ما يعلو وجه الماء من رغوة وقذر ونحوه رابِياً عاليا عليه مرتفعا فوقه وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ من جواهر الأرض وفلزاتها كالذهب والفضة والنحاس والحديد ومن: للابتداء، أو للتبعيض، والضمير للناس، وإضماره للعلم به ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب زينة أَوْ مَتاعٍ ينتفع به كالأواني إذا أذيبت، وآلات الحرب والحرث، والمقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ أي مثل زبد السيل، وهو خبثه وهو الذي ينفيه الكير كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي المذكور مثل الحق والباطل وأهل كل.
فَأَمَّا الزَّبَدُ من السيل وما أوقد عليه من المعادن فَيَذْهَبُ جُفاءً يزول باطلا مرميا به، فالجفاء: ما يرميه الوادي من الزبد إلى جوانبه وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والمعادن فَيَمْكُثُ يبقى وينتفع به أهلها فِي الْأَرْضِ زمانا، كذلك الباطل يضمحل وينمحق، وإن علا على الحق في بعض الأوقات، والحق ثابت باق، أي أن الحق في إفادته وثباته كالماء النافع الذي يستقر في الأرض، وكالمعدن الذي ينتفع به في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله كزبد الماء أو غثائه ورغوته، وخبث المعدن وشوائبه كَذلِكَ المذكور يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ يبين، لإيضاح المشتبهات.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أطاعوه، أي للمؤمنين الذين استجابوا بالطاعة لله، واللام متعلقة(13/144)
بيضرب الْحُسْنى الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وهم الكفار لَافْتَدَوْا بِهِ من العذاب أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ المؤاخذ بكل ما عملوه، لا يغفر منه شيء، أو المناقشة في الحساب، بأن يحاسب الإنسان بذنبه، لا يغفر منه شيء وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مرجعهم النار وَبِئْسَ الْمِهادُ المستقر والفراش هي، والمخصوص بالذم محذوف.
أَفَمَنْ يَعْلَمُ.. الهمزة للإنكار، أي فيؤمن ويستجيب كالحمزة كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كأبي جهل، والمراد لا يستويان، ولا يتشابهان يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى وجود دعوتين: دعوة الحق، ودعوة الباطل، وأن دعوة الله هي دعوة الحق ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل، ولما شبه تعالى المؤمن والكافر والإيمان والكفر، بالبصير والأعمى، والنور والظلمات، ذكر مثلا آخر للإيمان والكفر، وأبان مثلا للحق وأهله، والباطل وحزبه، فجعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه بالماء النازل من السماء فينفع الأرض والناس، وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه، واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته بزبد السيل الذي يرمي به، وزبد المعدن الذي يطفو فوقه إذا أذيب.
التفسير والبيان:
اشتملت الآية الأولى على مثلين للحق وهو القرآن أو الإيمان في ثباته وبقائه ونفعه، والباطل وهو الكفر في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ...
أي أنزل الله تعالى من السحاب مطرا، فأخذ كل واد بحسبه صغرا وكبرا، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها في استيعاب الإيمان سعة وضيقا، فحمل السيل(13/145)
المتجمع من ذلك المطر زبدا عاليا طافيا فوقه، وهذا هو المثل الأول للحق والباطل أو الإيمان والكفر.
ثم ذكر تعالى المثل الثاني: وَمِمَّا يُوقِدُونَ.. أي ومثل الحق أو الإيمان كالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ونحوها الذي يستخلص من التراب والشوائب، بواسطة السبك في النار، ليجعل حلية أو آنية أو سلاحا أو متاعا ينتفع به، ويعلوه الخبث والشوائب الطافية عند الانصهار، وهو مثل الباطل.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي المذكور مثل الحق والباطل إذا اجتمعا، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقر النافع والمعدن النقي الصافي، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السيل على جوانبه، وخبث المعدن عند انصهاره، فالباطل لا دوام له أمام الحق.
ثم ذكر الله تعالى اضمحلال الباطل وذهابه بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ.. أي أن الزبد الطافي فوق الماء يتبدد ويزول ويذهب في جانبي السيل، ويعلق على حافتيه، فتنسفه الرياح، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرا في الأرض، أما الماء فنشربه ونسقي به الزرع، وأما المعدن فنستفيد منه إما بالحلي أو بصناعة الأواني والأسلحة والأمتعة، كما قال تعالى عن الحديد: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 57/ 25] .
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي أنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال، فكذلك يضربها بيّنات، لإيضاح الفوارق بين أصول الاعتقاد الجوهرية من الإيمان والكفر، والحق والباطل.
والخلاصة: إن القرآن الكريم الذي تجسد فيه الحق ونور الإيمان مثله في إحياء القلوب به مثل الماء الذي يحيي الأرض بعد موتها، ومثل المعدن النقي(13/146)
الصافي الذي يحقق منافع كثيرة للناس. وأما الكفر وضلالات الشرك وباطل اعتقاد المشركين، فهو عديم النفع سريع الزوال، يتبدد فورا، فهو كرغوة الماء وغثاء السيل الذي يضمحل وتعصف به الرياح، وخبث المعدن الذي يستبعد ويلقى جانبا.
وما ضرب هذا المثل الرائع إلا لخير الإنسان، الذي عليه أن يقدر مآل أمره، وما ينتظره من سعادة وشقاوة في المعاد، فإذا كان يوم القيامة وعرض الناس وأعمالهم على ربهم، فيزيغ الباطل ويتلاشى، وينتفع أهل الحق بالحق.
وقد ضرب الله تعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين من النار والماء، فقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ..
[17] ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [19] .
وضرب سبحانه للكافرين في سورة النور مثلين، فقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [39] والسراب يكون في شدة الحر، ثم قال:
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.. [40] .
وجاء في السنة أمثال مشابهة، فشبّه النبي صلّى الله عليه وسلّم أحوال المنتفعين بسنته بأحوال أراض ثلاث سقط عليها الماء،
ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لأتمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»
وهذا مثل مائي يشبه المثل الذي ضربه الله تعالى للمنافقين.(13/147)
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها»
وهذا مثل ناري أبان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم حرصه على إبعاد أمته من النار، وتساقط بعضهم فيها كتساقط الفراش، وهو كالمثل الذي ضربه الله للمنافقين.
ثم أبان الله تعالى مستأنفا الكلام مصير أهل الحق وأهل الباطل، ومآل السعداء والأشقياء، ترغيبا وترهيبا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.. أي الجنة للذين أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة والثواب العظيم، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] وقال: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً [الكهف 18/ 88] .
وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا.. أي والذين لم يطيعوا الله ورسوله، لا ينفعهم في الآخرة الفداء بجميع ما في الدنيا وضعف ما فيها، أي لا يمكنهم في الدار الآخرة أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ومثله معه. ولو كان لهم ذلك لافتدوا به، ولكن لا يتقبل الله منهم لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا، أي فداء وتوبة.
أولئك الذين لم يطيعوا الله لهم سوء العذاب في الدار الآخرة، ويناقشون على كل ما قدموه، لا يغفر منه شيء، ومن نوقش الحساب عذب، ومرجعهم إلى النار وبئس المستقر مستقرهم. وفي هذا تهويل شديد، وتخويف عظيم، لغفلتهم من اتباع أوامر ربهم، وتقربهم إليه، وانغماسهم في شهواتهم.(13/148)
ثم نزل في حمزة رضي الله عنه وأبي جهل، كما ذكر ابن عباس قوله تعالى:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ.. أي لا يستوي من يعلم من الناس أن المنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا لبس فيه، بل هو كله حق، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام 6/ 115] أي صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، لا يستوي من صدّق بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومن لم يصدق به، وكان أعمى لا يستبصر، ولا يهتدي إلى خير، ولا يفهمه، ولو فهمه، ما انقاد له ولا صدقه، ولا اتبعه.
إنما الذي ينتفع بهذه الأمثال ويعتبر بها ويتعظ ويعقل هم أولو العقول السليمة، والأفكار الصحيحة، والآراء الرشيدة.
ونظير الآية: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ، وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات أمورا ثلاثة:
1- تشبيه الحق والإيمان بالماء المستقر والمعدن النقي الصافي، وتشبيه الباطل والكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتنسفه الرياح، أو تشبيهه بالطافي فوق المعدن المذاب فكذلك الكفر وشبهاته وخيالاته تذهب وتضمحل، ويبقى الجوهر الصافي من الماء، والمعدن النقي.
وهذان المثلان اللذان ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، يلفتان النظر إلى عواقب الأمور.
وقيل وهو ما يروى عن ابن عباس: المراد تشبيه القرآن وما يدخل منه(13/149)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
القلوب بالمطر، لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبّه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثلما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها.
2- للطائعين أهل السعادة الذين أجابوا إلى ما دعا الله من التوحيد والنبوات الجزاء الحسن، وهو النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا في الآخرة.
وللعصاة أهل الشقاوة الذين لم يجيبوا إلى الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لا يتمكنون من فداء أنفسهم في الآخرة بملء الأرض ذهبا، ومثله معه، ولهم سوء العذاب، فلا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة، ومسكنهم ومقامهم النار، وبئس الفراش الذي مهدوا لأنفسهم، فهذه أربعة أنواع من العذاب والعقوبة: عدم قبول الفداء، والتعرض لسوء الحساب، ومأواهم جهنم، وبئس المهاد مهادهم أي بئس المستقر هي.
3- مثل آخر للمؤمن والكافر، روي أنه نزل في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل خزاه الله، فالمؤمن بالمنزل من الله على نبيه، المتحقق بصدقه، العامل بما بلغه إليه منه هو المستبصر الواعي العاقل، والكافر هو الجاهل بالدين أعمى القلب، وأولو العقول هم المتعظون المعتبرون بذلك.
أوصاف أولي الألباب السعداء وجزاؤهم
[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)(13/150)
الإعراب:
الَّذِينَ يُوفُونَ إما صفة لأولي الألباب، وإما مبتدأ، خبره: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
وَمَنْ صَلَحَ مرفوع بالعطف على ضمير يَدْخُلُونَها المرفوع، وحسن العطف لوجود الفصل بضمير المفعول. ويجوز نصبه على أنه مفعول معه. ولا يجوز عطفه بالجر على لَهُمْ عُقْبَى لأن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة حرف الجر. وأجاز الكوفيون ذلك من غير إعادة حرف الخفض.
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى الدَّارِ، أو مبتدأ، خبره: يَدْخُلُونَها.
بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم، أو بمحذوف، أي هذا بما صبرتم، ولا يتعلق بسلام فإن الخبر فاصل، والباء: للسببية أو البدلية.
البلاغة:
سِرًّا وعَلانِيَةً وبِالْحَسَنَةِ والسَّيِّئَةَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ المأخوذ عليهم، وهم في عالم الذر أو كل عهد، وهو ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا: بلى، أو ما عهده الله تعالى عليهم في كتبه. وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد، والنقض: الفك بترك الإيمان أو الفرائض، وهو تعميم بعد تخصيص. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام، والرحم وموالاة المؤمنين، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ تمتلئ قلوبهم مهابة منه وجلالا له. والخشية: الخوف مع العلم بمن تخشاه.
وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويخشون خطر الحساب.
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على الطاعة والبلاء وعن المعصية. ابْتِغاءَ طلب. وَجْهِ رَبِّهِمْ أي طلب رضاه، لا غيره من أغراض الدنيا، كالفخر أو السمعة ونحوهما. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَأَنْفَقُوا.. في الطاعة بعض ما رزقهم الله. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعون(13/151)
السيئة بالحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان كالأذى بالصبر، والجهل بالحلم، أو يتبعون السيئة الحسنة، فتمحوها. عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة، وهي جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة يقيمون فيها. وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي ومن صلح، وإن لم يعملوا بعملهم، يكونون في درجاتهم تكرمة لهم، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، والتقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنة أو من أبواب المنازل، أول دخولهم للتهنئة. سَلامٌ قائلين: سلام عليكم، بشارة بدوام السلامة. بِما صَبَرْتُمْ بصبركم في الدنيا. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ عقباكم.
المناسبة:
هذه الآية متعلقة بما قبلها، فهي تذكر الصفات الحميدة لأولي الألباب، أو الصفات المذكورة في قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ومن اتصف بهذه الصفات لهم سعادة الدنيا والآخرة.
التفسير والبيان:
يصف الله تعالى أولي الألباب من المؤمنين الذين تحققوا من نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم واعتقدوا أن ما أنزل إليه هو الحق، يصفهم بالصفات التالية:
1- الوفاء بالعهد:
الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبية الله تعالى، وبالمواثيق بينهم وبين ربهم، وبينهم وبين العباد. وعهد الله: كل ما قام الدليل على صحته من الأدلة العقلية والسمعية، والعهد: اسم للجنس، أي بجميع فروض الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل فيه التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي.
2- عدم نقض الميثاق:
أي لا يخلّون بواجبات العهد والتزاماته، ولا ينقضون عهد الإيمان مع ربهم، ولا بالعقود التي يبرمونها مع الناس من بيع وشراء وسائر المعاملات، حتى لا يكونوا(13/152)
كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان،
روى الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»
وفي رواية أربع ومنها: «وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .
فعدم نقض الميثاق في رأي الأكثرين قريب من الوفاء بالعهد، وهما مفهومان متلازمان، وإن كانا متغايرين، ونص على منع النقض تأكيدا عليه. أو أنه تعميم بعد تخصيص. قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا في القرآن، عناية بأمره، واهتماما بشأنه.
3- صلة الرحم ورعاية جميع الحقوق الواجبة لله وللعباد:
الذين يصلون كل ما أمر الله بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله، ومنها مؤازرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونصرته في الجهاد، وحقوق العباد، ومنها صلة الرحم.
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه»
ومنها الإحسان إلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف. ونص على هذا الوصف مع دخوله في الوصفين السابقين للتأكيد، ولئلا يظن ظان أن الوفاء بالعهد مقصور على ما بين الإنسان وبين الله تعالى.
4- الخوف من الله:
ويخشون ربهم فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك.
والخشية: خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن يخشاه، لذا خص الله العلماء بمزيد الخشية، فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28] .(13/153)
5- الخوف من العذاب:
ويحذرون سوء الحساب في الدار الآخرة، فيخافون المناقشة في الحساب لأن من نوقش الحساب عذّب، ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا لأن الحساب يشمل كل صغير وكبير، ومن خاف الحساب أقبل على الطاعة، وتجنب المعصية.
ويلاحظ أن الوصف الرابع إشارة إلى الخشية من الله، وهذا يقتضي خوف الجلال والمهابة والعظمة، وهذا الوصف إشارة إلى الخوف من سوء الحساب.
6- الصبر:
وهو حبس النفس على ما تكره: والذين صبروا على الطاعة وعن المعصية، وحال البلاء، ففعلوا الطاعات والتكاليف، وامتنعوا من المعاصي والسيئات أو المنكرات، ورضوا بالقضاء والقدر عند التعرض للمصائب، وكان صبرهم بقصد مرضاة الله عز وجل ونيل ثوابه، لا رياء ولا سمعة.
7- إقامة الصلاة:
والذين أقاموا الصلاة أي أدّوها مستكملة أركانها وشروطها التامة، مع خشوع القلب لله تعالى على الوجه المرضي.
8- الإنفاق في وجوه الخير:
وأنفقوا بعض ما رزقناهم في السر والجهر بحسب مقتضى الحال، فيسرّون النفقة بينهم وبين ربهم حتى لا يكون قصدهم الرياء والسمعة، ويعلنونها أحيانا للناس إذا كانت بقصد التشجيع والتعليم والقدوة، سواء كان إنفاقا واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء، أو مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمساكين الأباعد.(13/154)
9- مقابلة السيئة بالإحسان:
ويدفعون الإساءة بالإحسان كالجهل بالحلم، والأذى بالصبر، كما قال تعالى:
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان 25/ 72] ، ويتبعون السيئة بالحسنة لمحوها،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد عن أبي ذر: «إذا عملت سيئة، فاعمل بجنبها حسنة تمحها»
وفي رواية أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» .
والثابت أن المعاملة الكريمة مع المسيء وغيره أفضل وأجدى وأوقع أثرا لأنها تهوّن الأمر، وتستل الأحقاد، وتكون عاقبتها أسلم.
وبعد أن وصف الله المؤمنين العقلاء بتلك الصفات الحميدة، ذكر جزاءهم بقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي أولئك الموصوفون بما ذكر لهم العقبى الحسنة والسعادة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو النصر على الأعداء، وأما في الآخرة فهو الجنة.
ثم أوضح هذه العقبى فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ.. أي تلك العقبى هي الجنات التي يقيمون فيها إقامة دائمة.
يدخلونها هم والصالحون المؤمنون من أزواجهم وأصولهم وفروعهم، وهو دليل على أن سمو الدرجة يكون بالشفاعة، وأن التقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الأنساب لا تنفع، فلا تفيد الأنساب شيئا إذا لم تقرن بالعمل الصالح، وكما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ [المؤمنون 23/ 101] وقال سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء 26/ 88- 89]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة في مرض موته فيما رواه الترمذي: «يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا» .(13/155)
وتأتيهم الملائكة عند دخولهم الجنة من أبواب مختلفة قائلين لهم: سلام عليكم بصبركم، أي أمن دائم عليكم، ورحمة من ربكم، فنعم عقبى الدنيا الجنة. فقوله سَلامٌ مشتمل على محذوف تقديره: ويقولون: سلام عليكم.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- وجوب الوفاء بالعهد: وهو يشمل كل حقوق الله وفرائضه وحقوق العباد.
2- تحريم نقض المواثيق الإلهية والبشرية: فإذا عقد الإنسان عهدا في طاعة الله، أو مع الناس، لم يجز نقضه.
3- وجوب صلة الأرحام ورعاية جميع حقوق الله وحقوق العباد، وذلك يتناول جميع الطاعات والإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم.
4- الخوف من سوء الحساب: وهو الاستقصاء فيه والمناقشة، ومن نوقش الحساب عذّب، كما روى الشيخان عن عائشة.
5- الصبر بإخلاص لله تعالى على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب.
6- إقامة الصلاة: وهو أداؤها بفروضها وخشوعها في مواقيتها.(13/156)
7- الإنفاق من بعض المال سرا وجهرا، بأداء الزكاة المفروضة والتطوع بالصدقات المندوبة في سبيل الله تعالى.
8- درء السيئة بالحسنة، أي الدفع بالعمل الصالح السيء من الأعمال، كالتخلق بالأخلاق الطيبة في مواجهة أذى الناس، كالحلم في وجه الجهل، والصبر في وجه الأذى، ودفع الشر بالخير، والمنكر بالمعروف، واتباع السيئة بالحسنة لمحو أثرها لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» .
9- للسعداء الطائعين عاقبة الآخرة: وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي.
وجنان عدن: وسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن،
جاء في صحيح البخاري «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة» .
10- يدخل الجنة مع المؤمن الصالح آباؤه وأزواجه وأبناؤه إن صدقوا وصلحت أعمالهم، وإن لم يعملوا مثل أعمالهم، واشتراط العمل الصالح كاشتراط الإيمان، ولكن من فضل الله تعالى وإكرام المؤمن وثواب المطيع: سروره واجتماعه مع قراباته في الجنة، وحضور أهله معه فيها، وان دخلها كل إنسان بعمل نفسه من زاوية العدل، وبرحمة الله تعالى من ناحية الفضل.
11- التقييد بالصلاح بقوله: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ.. دليل على أن مجرد الأنساب لا تنفع، فلا تفيد الأنساب شيئا إذا لم تقرن بالعمل الصالح.
12- تدخل أفواج الملائكة من مختلف أبواب الجنة مهنئة المؤمنين، ومبشرة لهم بالسلامة، قائلين لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي قد(13/157)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
سلمتم من الآفات والمحن، أو هو خبر بمعنى الدعاء، أي ندعو لكم بدوام السلامة، سلمكم الله، وهذا يتضمن الاعتراف بالعبودية. والسلام عليكم كان بصبركم على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية، فنعم عاقبة الدار التي كنتم فيها، عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فالعقبى على هذا اسم، وهو قول ابن سلام. أو فنعم عقبى الجنة عن النار أو عن الدنيا، وهو قول أبي عمران الجوني.
13- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال:
إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم، فكانوا به أجل مرتبة من البشر، ولو كانوا أقل مرتبة من البشر، لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم «1» .
صفات الأشقياء وجزاؤهم
[سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ذكر في مقابلة الأولين الذين يوفون بعهد الله. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم والمعاصي وإثارة الفتن. لَهُمُ اللَّعْنَةُ الطرد أو البعد من رحمة الله.
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ العاقبة السيئة في الدار الآخرة، وهي جهنم، أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عقبى الدار للسعداء.
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 45- 46(13/158)
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى صفات السعداء وجزاءهم الذي أعده لهم في دار الكرامة، ذكر حال الأشقياء وما هيأه لهم من عذاب النار، وأتبع الوعد بالوعيد، والثواب بالعقاب، على ما هي عليه عادة القرآن للموازنة والمقابلة، وليكون البيان كاملا فيكون أدعى للامتثال والزجر، فقال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.
التفسير والبيان:
وصف الله تعالى الأشقياء بصفات ثلاث هي:
1- نقض العهد: والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده وأمر به.
سواء ما يتعلق به سبحانه من الإيمان بوحدانيته وقدرته وإرادته، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وما أوحى لهم به، أو ما يتعلق بحقوق الناس.
ونقض العهد: بألا ينظر في الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده أصلا، أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند، فلا يعمل بعلمه، أو بأن ينظر في الشبهة، فيعتقد خلاف الحق.
وقوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد الإقرار بصحته والالتزام به.
2- قطع ما أمر الله به أن يوصل، أي قطع كل ما أوجب الله وصله، من لإيمان به وبرسله، وقطع الرحم والقرابات، وعدم صلة المؤمنين وسائر أصحاب الحقوق وعدم التعاون معهم.
3- الإفساد في الأرض، أي ويفسدون في الأرض بأعمالهم الخبيثة، يظلمون أنفسهم وغيرهم، ويدعون إلى غير دين الله، ويلحقون الظلم بالنفوس(13/159)
والأموال، ويرتكبون كل ما يؤدي إلى تخريب البلاد، وإثارة الفتن، وتأجيج نار الحرب والدمار.
ثم أبان تعالى ما يستحق هؤلاء من عقاب، فقال: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي أولئك الموصوفون بما ذكر يستحقون اللعنة، أي الطرد من رحمة الله والإبعاد من خيري الدنيا والآخرة.
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي ولهم سوء العاقبة والمآل، وهو عذاب جهنم، وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها، كما قال سبحانه سابقا: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [الآية: 18] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى الأحكام التالية:
1- تحريم نقض العهد الإلهي بالإيمان وإيتاء الحقوق، الذي أقام عليه تعالى لأدلة العقلية والسمعية، وأوجب الوفاء به في قرآنه وكتبه المنزلة على أنبيائه.
2- تحريم قطع ما أمر الله بوصله من صلة الأرحام والإيمان بجميع الأنبياء، والتعاون مع المؤمنين.
3- تحريم الإفساد في الأرض بالكفر وارتكاب المعاصي والظلم وإثارة الفتن، وارتكاب كل ما يؤدي إلى دمار البلاد وتخريبها، وإتلاف الأموال والحقوق واغتصابها والاعتداء عليها.
4- المرتكبون لهذه المنكرات والفواحش لهم اللعنة، أي الطرد والإبعاد من لرحمة، ولهم سوء الدار، أي سوء المنقلب، وهو جهنم.(13/160)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
الرزق على الله والآيات بيد الله والهداية من الله لمن آمن بالله
[سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
الإعراب:
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله: مَنْ أَنابَ أو خبر مبتدأ محذوف.
وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا معطوف على وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وفي الآية تقديم وتأخير، وما سبق ذلك اعتراض.
طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ طُوبى مبتدأ، وخبره لَهُمْ، والجملة خبر المبتدأ:
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَحُسْنُ مَآبٍ: معطوف مرفوع على طُوبى. وقرئ:
وَحُسْنُ مَآبٍ بالنصب، على أنه منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، أي يا حسن مآب، ويجوز أن يكون طُوبى منصوبا بفعل مقدر، أي أعطاهم طوبى لهم، وأعطاهم حسن مآب، فهذا معطوف بالنصب على ما سبقه.
البلاغة:
يَبْسُطُ ويَقْدِرُ ويُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق.
إِلَّا مَتاعٌ تشبيه بليغ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه، أي ما الحياة الدنيا إلا مثل الذي يتمتع به الإنسان في منزله كالقصعة ونحوها، في حقارته وسرعة زواله.(13/161)
المفردات اللغوية:
يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه وَيَقْدِرُ يضيقه أو يعطي بقدر الكفاية فقط وَفَرِحُوا أي أهل مكة فرح بطر بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا وما نالوه فيها وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم، وشيء قليل يتمتع به ويذهب، والمعنى: أن الكفار بطروا بما نالوا من الدنيا، ولم يستخدموه فيما يوصلهم إلى نعيم الآخرة، واغتروا بما هو قليل النفع سريع الزوال.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكةهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ كعصا موسى ويده، وناقة صالح يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله، فلا تغني عنه الآيات شيئا لأنه عاند وأعرض عن الحق وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ يرشد إلى دينه من رجع عن العناد وأقبل إلى الحق. والمعنى: هذا جواب فيه تعجب من قولهم، كأنه قال لهم: ما أعظم عنادكم، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائهم، وإن أنزلت كل آية ويهدي إليه من أناب، أي من رجع عن العناد.
وَتَطْمَئِنُّ تسكن بِذِكْرِ اللَّهِ أي بتوحيده ووعده تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قلوب المؤمنين، والمعنى أن قلوب المؤمنين تسكن وتستأنس بتوحيد الله وتذكر وعده، وتعتمد عليه وترجو منه، فتطمئن.
طُوبى مصدر من الطيب، أي لهم العيش الطيب والنعمة والخير والسرور، والحسنى والكرامة. وقيل: هي شجرة في الجنة، يسير الراكب في ظلها مائة عام. مَآبٍ مرجع ومنقلب.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك، بيّن أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا لأنها دار امتحان، فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم، فلا تعلق للرزق بالكفر والإيمان، فربما وسع على الكافر دون المؤمن استدراجا له، وضيق على المؤمن دون الكافر زيادة في أجره وثوابه.
ثم ذكر تعالى مقالة للمشركين، كثر في القرآن حكايتها وهي طلب آية(13/162)
مادية حسية تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لإنكار هم أن القرآن آية دالة على النبوة، فرد الله عليهم أن اقتراح الآيات على الرسل جهل.
ثم ذكر سبحانه حال المؤمنين المتقين وثوابهم عند الله تعالى. والتحدث عن المشركين والمؤمنين هنا مناسب لما ذكر سابقا من بيان عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك.
التفسير والبيان:
لما ذكر الله تعالى أن للمشركين سوء الدار، ناسب ذكر حكم الرزق في الدنيا، وأنه لا تعلق له بالإيمان والكفر، فقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ..
أي أن الله تعالى هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتر على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل، بصرف النظر عن كون الإنسان مؤمنا أو كافرا، فقد يضيق الله الرزق على المؤمن ابتلاء واختبارا، وزيادة في أجره، وقد يوسع الله الرزق على الكافر استدراجا له وحرمانا منه في الآخرة، عدالة، فليست سعة الرزق للكافر دليلا على الكرامة والرضا، وليس التقتير على المؤمن دليلا على الإهانة والسخط. كما قال تعالى في شأن رزق الكافر: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 56] وقال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 182] .
ثم ذكر الله تعالى حال المشركين في حال الغنى فقال: وَفَرِحُوا.. أي وفرح مشركو مكة بالدنيا فرح بطر، ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله. لكن ما نعيم الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاع زائل، وشيء قليل ذاهب، يزول بسرعة.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله(13/163)
صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة.
وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: «نام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها» .
ولما أوضح تعالى أن المشركين اغتروا بمتاع الحياة الدنيا، وطمست المادة على مشاعرهم وقلوبهم، ذكر ما ترتب على الغرور والتأثر بالمادة، فطلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية واحدة مادية تدل على صدق نبوته، لعدم إيمانهم بكون القرآن معجزة مصدقة، وبرهانا قاطعا على ذلك لأنهم قوم ماديون، لا مجال لمخاطبة العقل لديهم، والقائل: عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، فقال تعالى حاكيا اقتراحهم:
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...
أي ويطلب أهل مكة المشركون قائلين: هلا أنزل على محمد آية أو معجزة قاهرة ظاهرة مادية مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، كقولهم:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء 21/ 5] .
والله قادر على إجابة ما سألوا، لكن
جاء في الحديث: «إن الله أوحى إلى رسوله، لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا، وأن يجري لهم ينبوعا، وأن يزيح الجبال من حول مكة، فيصير مكانها مروج وبساتين: إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك، فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال: بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة» .
ورد الله عليهم بأن إنزال الآيات لا يؤثر في هداية ولا ضلال، بل الأمر كله بيد الله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. أي ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم، فلا فائدة لكم في نزول الآيات، إن لم يرد الله هدايتكم، فمن كان على(13/164)
صفتكم من التصميم والعناد في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائكم، وإن أنزلت كل آية، فإن الضلال والهداية بيد الله، والله يضل من يشاء، أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات، وحرمكم الاستدلال بها، يضلكم عند نزول غيرها، ويهدي إليه من أناب، أي رجع عن العناد وأقبل على الحق أو الإسلام أو الله عز وجل، فهاء إِلَيْهِ عائد إلى واحد من المذكورات على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه.
وللآية نظائر كثيرة منها: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام 6/ 111] وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] .
ثم ذكر الله تعالى من يستحقون الهداية: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يهدي الله الذين صدقوا بالله ورسله، وسكنت قلوبهم إلى توحيد الله ووعده، أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه، ألا بتذكر الله، وتأمل آياته، ومعرفة كمال قدرته عن بصيرة، تطمئن قلوب المؤمنين، ويذهب القلق والاضطراب عنهم، بما وقر في تلك القلوب من نور الإيمان، كما قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] والمؤمن إذا تذكر عقاب الله، خاف، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال 8/ 2] وإذا تذكر المؤمن وعده تعالى بالثواب والرحمة، اطمأن قلبه وهدأت نفسه: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] .
ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات العيش الطيب والنعمة والخير وحسن الثواب، وحسن المرجع.(13/165)
والطوبى في رأي ابن عباس: الجنة، وروي عنه أنها شجرة في الجنة، ورجح القرطبي أنها شجرة في الجنة، فقال: والصحيح أنها شجرة «1»
للحديث المرفوع عن عتبة بن عبد السّلمي وهو صحيح على ما ذكره السهيلي: «نعم شجرة تدعى طوبى» .
وللحديث المرفوع أيضا عن أبي سعيد الخدري فيما رواه الإمام أحمد: «طوبى: شجرة في الجنة، مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها»
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها»
ولا حرج على فضل الله ولا على قدرته، ففي الجنة كما ثبت في الحديث الذي أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الآتي:
1- الله تعالى مصدر الرزق، يوسع فيه على من يشاء، ويقتره على من يشاء، على وفق حكمته وعدله.
2- الكفار وكل أصحاب النزعات المادية يفرحون في الدنيا، ولا يعرفون غيرها، ويجهلون ما عند الله من أفضال ونعم وخيرات كثيرة.
3- ليست الدنيا في جانب الآخرة إلا متاع من الأمتعة، وشيء قليل سريع الزوال.
4- اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تغني عن كل آية، هي القرآن، تدل على الصدق، وصحة النبوة والوحي، وكونه كلام الله.
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 317، تفسير ابن كثير: 2/ 512(13/166)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
5- لا تعلق للرزق بالإيمان والكفر، فقد يرزق الله الكافر، ويحرم المؤمن، استدراجا للأول، وابتلاء واختبارا للثاني.
6- الإضلال والهداية من الله، وللإنسان دور فيهما، فالكافر هو الذي عاند وعارض ولم يؤمن، فلم يهده الله، والمؤمن هو الذي آمن وعمل الصالحات، فزاده الله هدى.
7- للمؤمنين الذين يعملون الصالحات الجنة والخير والنعمة والفرح وحسن المرجع، وفي هذا ترغيب في الطاعة، وتحذير من المعصية، ومن سوء العقاب والمصير.
محمد صاحب الرسالة والرسول وبيان عظمة القرآن وقدرة الله الشاملة
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)(13/167)
الإعراب:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً: جواب لَوْ محذوف، أي لكان هذا القرآن. وما بعده جمل فعلية في موضع نصب لأنها صفة قرآن. وجاء سُيِّرَتْ وقُطِّعَتْ بلفظ التأنيث لتأنيث الجبال والأرض، وجاء كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى على التذكير، لوجود الفصل الذي يتنزل منزلة إلحاق التأنيث.
أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ تَحُلُّ: إما للتأنيث، أي قارعة تحل قريبا من دارهم، وهي جملة فعلية في موضع رفع صفة: قارعة، وتقديره: قارعة حالة، وإما للخطاب، أي أو تحل أنت قريبا من دارهم، وهو معطوف على خبر وَلا يَزالُ أي: ولا يزال الكافرون تصيبهم بصنيعهم قارعة، أو حالا أنت قريبا من دارهم.
البلاغة:
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ: تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
كَذلِكَ أي مثل ذلك وهو إرسال الرسل، أي كما أرسلنا الأنبياء قبلك أرسلناك قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها مضت وتقدمتها أمم لِتَتْلُوَا تقرأ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي القرآن وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ حيث قالوا لما أمروا بالسجود له: وما الرحمن؟ أي وهم يجحدون ببليغ الرحمة، فلم يشكروا نعمه قُلْ لهم يا محمد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة سواه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ مرجعي ومرجعكم.
سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي نقلت عن أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ شققت فجعلت عيونا وأنهارا، أو تصدعت من خشية الله عند قراءته أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يحيوا لما آمنوا بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ(13/168)
جَمِيعاً
أي لله القدرة على كل شيء، لا لغيره، فلا يؤمن إلا من شاء إيمانه دون غيره، إن أوتوا ما اقترحوا، وهو إضراب عما تضمنته لَوْ من معنى النفي، أي بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأن قلوبهم لا تلين له.
يَيْأَسِ المراد يعلم، وهو لغة هوازن، وهو رأي الأكثر، وقيل: هو يأس على الحقيقة، أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم، مع ما رأوا من أحوالهم، علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا.
أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَنَّ: مخففة من الثقيلة، أي أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعا إلى الإيمان من غير آية، ومعناه: نفي هدى بعض الناس، لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة بِما صَنَعُوا بصنعهم أي كفرهم قارِعَةٌ داهية تقرعهم بصنوف البلاء من القتل والأسر والحرب والجدب، وتفزعهم وتقلقهم أَوْ تَحُلُّ أي القارعة، ويجوز أن يكون الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية، أو إنه حل مكة حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بالنصر عليهم، أو الموت أو القيامة أو فتح مكة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لامتناع الكذب في كلامه، وقد حل بالحديبية حتى أتى فتح مكة.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ.. أي كما استهزئ بك، وهذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَمْلَيْتُ أمهلت مدة طويلة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة، أي هو واقع موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك. وهذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب وحافظ عليها بِما كَسَبَتْ بما عملت من خير وشر، وهو الله، كمن ليس كذلك من الأصنام، لا قُلْ: سَمُّوهُمْ له من هم، أي صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بل تخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بشريك، والاستفهام إنكار، أي لا شريك له، إذ لو كان لعلمه أَمْ بل تسمونهم شركاء بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بظن باطل لا حقيقة له في الواقع مَكْرُهُمْ كفرهم عَنِ السَّبِيلِ طريق الهدى لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والأسر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أشد وأنكى منه وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
من عذابه مِنْ واقٍ
مانع أو حافظ.
سبب النزول: نزول الآية (31) :
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً: أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس، قال: قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن كان كما تقول، فأرنا أشياخنا الأول، نكلمهم من الموتى، وافسح لنا هذه الجبال- جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ(13/169)
الآية. ورواية ابن جرير وأبي الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس أنهم قالوا:
سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
لو سيرت لنا جبال مكة، حتى تتسع، فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض، كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى، كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيا كما تزعم، فباعد جبلي مكة أخشبيها (جبلين فيها) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة، حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى، حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجيء في ليلة، كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن قص الله علينا ما طلبه المشركون من آيات تثبت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أوضح أن محمدا كغيره من الرسل مع أقوامهم، طلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابهم الله إلى مطلبهم، ولكنهم لم يؤمنوا، فعذبوا بعذاب الاستئصال.
ولو أرادوا آية، فقد أعطيناك هذا الكتاب، وأنت تتلوه، والله قادر على كل شيء من الإتيان بما اقترحوه، ولكنه لا يحقق المقصود. ثم هددهم الله بداهية تحل بهم، ثم أتبع ذلك بتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم على استهزائهم به.
التفسير والبيان:
مثلما أرسلنا رسلا في الأمم الماضية، أرسلناك يا محمد في هذه الأمة لتبلغهم(13/170)
رسالة الله إليهم، وما أوحيناه إليك، وقد كذّب الرسل من قبلك، فلك بهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، قال تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل 16/ 63] وقال سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام 6/ 34] .
والخلاصة: إننا أرسلناك بكتاب تبلّغه للناس وتقرؤه عليهم، كما أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، ولما كذّب الرسل، انظر كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة.
وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي والحال أن هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يقرون به، ولا يشكرون نعمه وفضله، وقالوا: إن له شريكا.
قُلْ: هُوَ رَبِّي، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي قل لهم: إن الرحمن الذي تكفرون به، أنا مؤمن به معترف، مقرّ له بالربوبية والألوهية، فهو متولي أمري وخالقي، وهو ربي لا إله إلا هو، لا رب غيره ولا معبود سواه.
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي توكلت عليه في جميع أموري، وفوضتها إليه، ووثقت به.
وَإِلَيْهِ مَتابِ أي إليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه، أو إليه توبتي، بمعنى قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر 40/ 55] .
ثم بيّن الله تعالى عظمة القرآن وشأنه وتفضيله على سائر الكتب المنزلة قبله، فقال: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً.. أي لو كان هناك في الكتب الماضية كتاب تسيّر بتلاوته الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتشقق وتجعل أنهارا(13/171)
وعيونا، أو تكلم به الموتى في قبورها بإحيائهم بقراءته، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، بل هو الأولى لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ولأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا لاشتماله على الأدلة الكونية الدالة على وجود الصانع، والأحكام والأنظمة التي تصلح البشر وتسعدهم في الدارين. والآية مثل قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر 59/ 21] .
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً بل مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهد الله فما له من مضل، فهو سبحانه صاحب الإرادة والأمر في إنزال الآيات، وهو القادر على كل شيء، فلو كان تحقيق طلب ما اقترحوه مناسبا مشتملا على الحكمة والمصلحة، لأنجزه تعالى، ولكن كفى بالقرآن آية لأولي الألباب، والإرادة الإلهية لم تتعلق بغير ذلك لعلمه تعالى ألا فائدة في مجاراتهم، وأن قلوبهم لا تلين، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فكان الإضلال والهداية مرتبطا بنظام السببية، أي أن الله أنزل في القرآن آيات كافية للهداية، فمن أعرض عنها ضل، فكان ترك الآيات سببا في ضلاله.
أَفَلَمْ يَيْأَسِ.. أي ألم يعلم المؤمنون أن الله قادر لو شاء على هداية الناس أجمعين إلى الإيمان بالقرآن.
أو ألم ييأس الذين آمنوا من إيمان جميع الخلق، ويعلموا أو يتبينوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى دينه، فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ، ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن.
ثبت في الصحيح الذي رواه البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله(13/172)
البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
والمراد: أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار، قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي لا تزال القوارع والبلايا من القتل والأسر، والسلب تصيب الكافرين في الدنيا بسبب تكذيبهم لك وتماديهم في الكفر، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف 46/ 27] .
حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ حتى ينجز الله وعده لك فيهم، بنصرك عليهم، وهو فتح مكة كما قال ابن عباس وآخرون، أو حتى ينتهي هذا العالم بالنسبة لكفار آخرين.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ إن الله ينجز وعده الذي وعدك به، من النصر عليهم، ولا ينقض وعده لرسله بالنصر لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ [إبراهيم 14/ 47] .
ثم أنزل الله تسلية لنبيه عن استهزائهم بطلب هذه الآيات، وتخفيفا عما كان يشق عليه من ذلك، وعن تكذيب بعض قومه، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ.. أي إن كذّبك بعض قومك واستهزأ بك المشركون منهم، وطلبوا آيات منك عنادا ومكابرة، فاصبر على أذاهم، فلك في الرسل المتقدمين أسوة، ثم بين تعالى شأنه معهم فقال: فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي أنظرتهم وأجّلتهم مدة من الزمان، ثم أوقعت بهم العذاب، فانظر كيف عقابي لهم حين عاقبتهم، كما قال(13/173)
تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها، وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج 22/ 48]
وجاء في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . والمراد بالآية أني سأنتقم من هؤلاء الكفار، كما انتقمت من أولئك المتقدمين.
ثم ذكر الله تعالى ما يكون توبيخا لهم على موقفهم وعقلهم، وما يدعو إلى التعجب منهم فقال: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ.. أي إن الله مطلع على كل نفس، عالم بما يكسبونه من أعمال الخير أو الشر، ولا يخفى عليه خافية، قادر على كل شيء كما قال: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس 10/ 61] وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام 6/ 59] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] .
وبما أن الله قادر على كل شيء وعالم بكل شيء، فكيف يجعلون القادر العالم كمن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، وكيف يتخذونه ربا يطلبون منه النفع ودفع الضر؟! والمراد نفي المماثلة.
ثم أكد تعالى ما سبق بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي واتخذوا شركاء لله، عبدوها معه، من أصنام وأوثان وأنداد.
ثم وبخهم مرة أخرى بقوله: قُلْ: سَمُّوهُمْ أي صفوهم لنا، وأعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، وليسوا أهلا للعبادة لعدم نفعهم وضرهم.
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بل أتخبرونه بشركاء معبودين لا وجود لهم لأنه لو كان لها وجود في الأرض، لعلمها لأنه لا تخفى عليه(13/174)
خافية. وهذا نفي لوجودها. والاستفهام: استفهام توبيخ.
أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظن من القول أنهم ينفعون ويضرون، أم بباطل من القول، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر، وسميتموها آلهة كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم 53/ 23] .
والخلاصة: إن آية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ.. حجاج للمشركين وتوبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، ويقصد منه نفي الدليل العقلي والدليل النقلي على استحقاق تلك الشركاء للعبادة بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي لا فائدة من هذا النقاش أو الحجاج معهم، فإنهم قوم زيّن لهم كفرهم وكيدهم: وهو ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ [فصلت 41/ 25] .
وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي وصرفوا عن سبيل الحق وسبيل الله والدين القويم، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ.. أي ومن يخذله الله لكفره وعصيانه، فما له من أحد يوفقه إلى الهداية وسلوك طريق النجاة والسعادة، مثل قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة 5/ 41] وقوله سبحانه: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [النحل 16/ 37] .
ثم ذكر الله تعالى جزاءهم فقال: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
أي لهم(13/175)
عقاب شديد في الدنيا بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر والذلة والحرب، أو البلايا في أجسامهم ونحو ذلك من المصائب.
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أي والعذاب المدخر في الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمتلاعنين فيما رواه مسلم عن ابن عمر: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة»
لأن عذاب الدنيا مؤقت، وذاك دائم أبدا في نار، هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا.
وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
أي وما لهم ساتر يقيهم ويحفظهم من العذاب ويحميهم، ولا شفاعة لأحد عند الله إلا بإذنه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إرسال الرسل قبل إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم كان ظاهرة عامة، قد يؤمن بهم بعض أقوامهم، وقد يكذبهم الأكثرون، ويكفرون بالرحمن.
2- كما أرسل الله رسلا إلى أمم وأعطاهم كتبا تتلى عليهم، كذلك أعطى الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم هذا الكتاب (القرآن) وهو يتلوه عليهم، فلماذا اقترحوا غيره.
3- الله هو الإله بحق الذي لا إله غيره، ولا معبود سواه، وهو واحد بذاته، وإن اختلفت صفاته، عليه يتوكل العبد ويعتمد ويثق، وإليه مرجع العباد غدا، وعليه يتوكل المؤمن اليوم وفي كل وقت، رضى بقضائه، وتسليما لأمره.
4- لو كان هناك كتاب سماوي يقوم بنقل الجبال من أماكنها، وتفجير الأنهار والعيون وشق الأرض، وتكليم الموتى لإحيائها، لكان هذا القرآن، ولو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم.(13/176)
5- ليعلم البشر أن الله لو يشاء لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات، ويروا المعجزات، وينظروا في دلائل الكون. ولكن ما شاء تعالى هداية جميع الناس.
6- لا يزال الكافرون في كل زمان تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة، أو أسر أو جدب أو زلزال أو بركان، أو غيرها من العذاب والبلاء كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء قريش.
وقد تصيب من حولهم ممن هو قريب منهم، فيتأثرون بالعذاب.
7- دلت آية وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ على تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم والتبصير له على سفاهة قومه، فإن أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم، كما أن قومك يستهزئون بك. ودلت أيضا على تهديدهم، فإنه تعالى يمهلهم مدة ليؤمن من علم الله أنه يؤمن منهم، ثم لما حق القضاء أخذهم بالعقوبة، وكما صنع بمن قبلهم يصنع بمشركي مكة، وبكل الكفار في كل زمان.
8- لا مماثلة إطلاقا بين الله تعالى النافع والضارّ بسبب فعل العبد وبين الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، فالله تعالى هو القادر على كل شيء، وهو العالم بكل شيء، وتقدير الآية: أفمن هو قائم على كل نفس بالرقابة والحفظ بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع؟! 9- ليس للأصنام حقيقة تذكر، فلا وجود للشركاء مع الله، وما يعتمد عليه المشركون إن هو إلا مجرد ظن لا يغني من الحق شيئا، وباطل من القول لا يفيد شيئا، وكل ما في الأمر أن الشيطان زين لهم سوء اعتقادهم وصدهم عن سبيل الله ودينه الحق، أو زين لهم ضلالهم وكفرهم.
10- من يخذله الله ويعلم أنه لا يهتدي، فماله من هاد يقدر على هدايته وتوفيقه والأخذ بيده إلى طريق النجاة والسعادة.(13/177)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
11- للمشركين الصادّين عن الحق ودين التوحيد العذاب في الدنيا بالقتل والسبي والأسر والذم والإهانة، وغير ذلك من الأسقام والأمراض والمصائب، والعذاب الأشد في الآخرة، وليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله، ولا دافع يدفعه عنهم.
ففي الآية إخبار بأنه تعالى جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
صفة الجنّة وموقف أهل الكتاب من نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وشبهات المشركين حولها
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
الإعراب:
مَثَلُ الْجَنَّةِ مبتدأ مرفوع، وخبره إما محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الجنّة، وهو قول سيبويه، وإما قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهو قول الفرّاء.(13/178)
حُكْماً عَرَبِيًّا منصوب على الحال.
البلاغة:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ تشبيه مرسل مجمل.
أُكُلُها دائِمٌ، وَظِلُّها فيه إيجاز بالحذف، أي وظلّها دائم، حذف منه الخبر بدليل السابق.
تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ فيه من المحسنات البديعية ما يسمّى المقابلة.
أَرْسَلْنا رُسُلًا فيهما جناس اشتقاق.
يَمْحُوا.. وَيُثْبِتُ بينهما طباق.
قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ فيه قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة، أي ليس لك إلا الأمر بعبادة الله.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التّهييج والإلهاب والبعث للسّامعين على الثّبات في الدّين والتّصلّب فيه، وعدم التأثّر بالشّبهة بعد التّمسّك بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شدّة الشّكيمة بمكان.
المفردات اللغوية:
مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفتها التي هي مثل في الغرابة. أُكُلُها ما يؤكل فيها. دائِمٌ لا ينقطع ثمرها ولا يفنى. وَظِلُّها واحد الظّلال، فيه خبر محذوف، أي دائم لا تنسخه شمس لعدمها فيها. تِلْكَ عُقْبَى أي الجنة عاقبة الَّذِينَ اتَّقَوْا الشّرك ومآلهم ومنتهى أمرهم.
وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير، وفي ترتيب النّظمين إطماع للمتّقين وإقناط للكافرين.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني المسلمين من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني اليهود، ومن آمن من النّصارى، وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة، أو عامّتهم، فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم.
الْأَحْزابِ جمع حزب: وهو الطّائفة المتحزّبة، أي المجتمعة لشأن من الشؤون كحرب أو مكيدة ونحوهما، وهم الذين تحزّبوا عليك من المشركين واليهود، مثل كعب بن الأشرف اليهودي وأصحابه. مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرّفوه منها، وكذكر الرّحمن وما عدا القصص. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ جواب للمنكرين، أي قل لهم: إنّي أمرت فيما(13/179)
أنزل إليّ بأن أعبد الله وأوحّده، ولا سبيل إلى إنكاره وأما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم فليس ببدع اختلاف الشّرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام. إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره. وَإِلَيْهِ مَآبِ وإليه مرجعي للجزاء، لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتّفق عليه بين الأنبياء، وأما ما عدا ذلك من التّفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم، فلا معنى لإنكارهم الاختلاف فيه.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي مثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها. أَنْزَلْناهُ حُكْماً أي أنزلنا القرآن يحكم بين الناس في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة. عَرَبِيًّا بلغة العرب، ليسهل لهم حفظه وفهمه. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الكفار فيما يدعونك إليه من ملّتهم على سبيل الافتراض، كالصّلاة إلى قبلتهم بعد ما حوّلت عنها. بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ينسخ ذلك. وَلِيٍّ ناصر. واقٍ حافظ أو مانع من عذابه، أي مالك من أحد ينصرك، ويمنع العقاب عنك، وهو حسم لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثّبات على دينهم.
أَزْواجاً نساء. وَذُرِّيَّةً أولادا، كما هي لك. وَما كانَ لِرَسُولٍ وما صحّ له ولم يكن في وسعه. أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تقترح عليه، وحكم يلتمس منه. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته وإرادته، فإنهم عبيد مربوبون لله تعالى. أَجَلٍ مدة أو وقت. كِتابٌ مكتوب فيه تحديده، أي لكل وقت وأمد تحديد أو حكم معين يكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه. وَيُثْبِتُ يبقي ما يشاء من الأحكام حسبما تقتضي حكمته، وقيل: يمحو سيئات التائب، ويثبت الحسنات مكانها. وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتب، وهو اللوح المحفوظ، وهو الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل، فما من كائن إلا وهو مكتوب فيه، أو العلم الإلهي.
سبب النّزول: نزول الآية (38) :
قال الكلبي: عيّرت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت: ما نرى لهذا الرّجل مهمّة إلا النّساء والنّكاح، ولو كان نبيّا كما زعم، لشغله أمر النّبوة عن النّساء، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «1» .
__________
(1) أسباب النّزول للواحدي 158(13/180)
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: ما نراك يا محمد تملك من شيء، لقد فرغ من الأمر، فأنزل الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ «1» .
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عذاب الكفار في الدّنيا والآخرة، أتبعه بذكر ثواب المتّقين وما أعدّه للمؤمنين من جنّات النّعيم، وذلك هو شأن القرآن الكريم، إذا وصف النّار وعذابها، ذكر الجنّة ونعيمها، مثل المذكور في سورة الفرقان: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً. قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا [11- 16] .
ثم ذكر تعالى فرح مؤمني أهل الكتاب بتوافق القرآن مع المنزل إليهم من ربّهم، وإنكار فئة آخرين لذلك.
ثم أورد الله تعالى شبهات المشركين لإبطال نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كالطّعن بتعدّد الزّوجات، وعجزه عن الإتيان بالمعجزات، فردّ الله عليهم بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كسائر الأنبياء له أزواج وأولاد، وأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله تعالى، لا إلى أحد سواه، وأن إنزال العذاب محدد بأجل معيّن، ولكلّ أجل كتاب، أي لكل حادث وقت معيّن.
__________
(1) لباب النّقول في أسباب النّزول بهامش تفسير الجلالين للسيوطي 334(13/181)
التّفسير والبيان:
فيما نقصّه عليك، أو فيما يتلى عليك صفة الجنّة ونعتها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنّة التي وعدها الله للمتّقين، ذات أنهار تجري في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمّد 47/ 15] .
أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها أي ما يؤكل فيها من الفواكه والمطاعم والمشارب لا ينقطع، ولا يفنى، وكذلك ظلّها دائم لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الدّهر 76/ 13] . وفي الصّحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه: قالوا:
يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: «إنّي رأيت الجنّة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا» .
وبعد وصف الجنّة بهذه الصّفات الثلاث، قال تعالى: تِلْكَ عُقْبَى..
أي تلك الجنّة هي عاقبة ومصير أهل التّقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنوبهم، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] .
والمراد أن ثواب المتّقين منافع خالصة عن الشّوائب موصوفة بصفة الدّوام.
والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين.
ثم ذكر الله تعالى انقسام أهل الكتاب فئتين من القرآن، فقال: وَالَّذِينَ(13/182)
آتَيْناهُمُ
أي والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنّصارى قسمان: فالقائمون بمقتضاه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن الكريم لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، والبشارة به، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة 2/ 121] ، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وجماعة من النّصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
ومن الأحزاب، أي ومن جماعة أهل الكتاب الذين تحزّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي، والسيد والعاقب أسقفيّ نجران وأتباعهم، من ينكر بعض ما جاءك من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.
وأمام هذا الانقسام في الرأي بين اليهود والنّصارى بالنّسبة للقرآن الكريم ذكر تعالى طريق النّجاة والسّعادة، فقال: قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ.. أي قل يا محمد: إنّما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، فإلى سبيله وطاعته وعبادته أدعو الناس، وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء والحساب.
وذلك كقوله تعالى: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران 3/ 64] .
والآية تشير إلى مبدأ التّوحيد ورفض الشّرك، كما تشير إلى مبدأ البعث والحساب والجزاء يوم القيامة.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك أنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا(13/183)
بلسان قومك، ليسهل عليهم فهمه وحفظه. وهذا دليل على أن كلّ رسول أرسل بلغة قومه، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 14/ 4] .
وأراد بالحكم: أنه يفصل بين الحقّ والباطل، ويحكم في الأمور، مبيّنا الحلال والحرام، والشّرائع والأنظمة المؤدية إلى سعادتي الدّنيا والآخرة.
ثم قال تعالى على سبيل الافتراض: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.. أي ولئن اتّبعت آراءهم وجاملتهم، كالتّوجّه إلى قبلتهم في بيت المقدس بعد تحويلها إلى البيت الحرام، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا تعريض بهم على طريقة: (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهو وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدّين الحقّ، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع الكفار، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. والخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد: الأمة.
ثمّ ردّ الله تعالى على طعن المشركين على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بتعدّد الزّوجات، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا.. أي وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا، يأكلون الطّعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزّوجات، ولهم ذريّة وأولاد، قال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف 18/ 110] ،
وفي الصّحيحين عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»
،
وروى الإمام أحمد والتّرمذي عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من سنن المرسلين: التّعطّر، والنّكاح، والسّواك، والحناء» .
أما تعدّد زوجات النبي بعد سنّ الأربع والخمسين- وهي سنّ تضعف فيه عادة(13/184)
الرغبة إلى النّساء- فكان من أجل نشر الدّعوة الإسلامية، وما تقتضيه المصلحة في التّأليف بين القبائل العربية، وضرب المثل في الأخلاق والعدل بين الزّوجات والرّأفة ببعض النّساء تعويضا عن زوجها الذي فقدته في الجهاد أو غيره.
ثمّ ردّ الله على طعنهم بعجزه عن تلبية ما اقترحوه من آيات فقال:
وَما كانَ لِرَسُولٍ ...
أي وما صحّ لرسول ولم يكن في وسعه أن يأتي قومه بمعجزة أو خارق للعادة، إلا إذا أذن له فيه، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عزّ وجلّ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وقد جاءكم القرآن الكريم معجزة خالدة على ممر الزّمان، فيه تحدّ وإفحام يثبت كونه من عند الله تعالى.
لِكُلِّ أَجَلٍ.. لكلّ حادث وقت معيّن وزمن محدد، فالآيات تأتي في وقتها لحكمة وفي زمن يعلمه الله، وكلّ شيء عنده بمقدار: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] ، فقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكلّ مدّة كتاب مكتوب، مثل قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام 6/ 67] . وقال الزّمخشري: لكل وقت حكم يكتب على العباد، أي يفرض عليهم ما يقتضيه صلاحهم، والشّرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات. فشرائع الأنبياء السّابقين كموسى وعيسى عليهما السّلام، ثمّ شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم جاءت فيما يناسب عصورها، وأعمار النّاس وآجالهم وأرزاقهم وحدوث أعمالهم لها أوقات محددة لا تتقدّم ولا تتأخّر كما قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف 7/ 34] .
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.. أي ينسخ الله ما شاء وما يستصوب نسخه من الشّرائع، ويثبت بدله ما أراد إثباته وما رأى المصلحة في إثباته، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أو يتركه غير منسوخ.
أو يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به.(13/185)
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل كلّ كتاب، وهو اللوح المحفوظ لأن كلّ كائن مكتوب فيه، أو عنده الذي لا يتغيّر منه شيء، أو علم الله وجميع ما يقع في صحف الملائكة لا يكون إلا موافقا لما يثبت فيه، فهو الأمّ لذلك.
قال ابن عمر: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السّعادة والشّقاوة والموت» .
وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء: الخلق والخلق والأجل والرّزق والسّعادة والشّقاوة.
قال ابن كثير: ومعنى الآية أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء «1» ، وقد يستأنس لهذا القول
بما رواه الإمام أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرّجل ليحرم الرّزق بالذّنب يصيبه، ولا يردّ القضاء إلا الدّعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ»
وفي رواية الحاكم «الدعاء يرد القضاء، وإن البر يزيد في الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» .
وثبت في الصّحيح أن صلة الرّحم تزيد في العمر،
وفي حديث آخر: «إنّ الدّعاء والقضاء ليعتلجان بين السّماء والأرض» .
والخلاصة: إن الآية عامة في جميع الأشياء، والمحو والإثبات وارد فيها، وأصل الكتاب لا يتغيّر، واستثناء السّعادة والشّقاء والخلق والخلق والرّزق لأنها أمور لا تتغيّر، وهي مما لا يدرك بالرّأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن صحّ فالقول به يجب «2» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 519
(2) تفسير القرطبي: 9/ 329(13/186)
1- الجنّة مخلوقة أعدّها الله للمتّقين، وقال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 133] .
2- ثمر الجنّة لا ينقطع، وظلّها لا يزول، وهذا ردّ على الجهميّة في زعمهم أن نعيم الجنّة يزول ويفنى.
3- النّار أيضا مخلوقة أعدّها الله للكافرين المكذّبين، قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة 2/ 24] .
4- بعض اليهود والنّصارى كابن سلام وسلمان الفارسي، والذين جاؤوا من الحبشة يفرح بالقرآن الكريم، لتصديقه كتبهم. ويفرح بذكر الرّحمن لكثرة ذكره في التّوراة.
قال أكثر العلماء: كان ذكر الرّحمن في القرآن قليلا في أول ما نزل، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه، ساءهم قلّة ذكر الرّحمن في القرآن، مع كثرة ذكره في التّوراة فسألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فأنزل الله تعالى: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد، فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرّحمن! والله ما نعرف الرّحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذّاب فنزلت: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرّحمن، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
5- ومن الأحزاب يعني مشركي مكّة، ومن لم يؤمن من اليهود والنّصارى والمجوس، أو هم العرب المتحزّبون على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، من ينكر بعض ما في القرآن الكريم لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السّموات والأرض.
6- دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم الناس مقصورة على الدّعوة إلى عبادة الله وحده(13/187)
لا شريك له، وإلى الإيمان بالبعث والحساب والجزاء لقوله تعالى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ أي إلى عبادته أدعو النّاس، وأرجع في أموري كلّها.
7- كما أنزل الله تعالى الكتب على الرّسل بلغاتهم، كذلك أنزل القرآن الكريم إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عربيّا، أي بلسان العرب. والمراد بالحكم: ما فيه من الأحكام.
وقيل: أراد بالحكم العربي: القرآن كلّه لأنه يفصل بين الحقّ والباطل ويحكم.
8- من اتّبع أهواء المشركين في عبادة ما دون الله تعالى، وفي الاتّجاه إلى غير الكعبة، بعد أن قام الدّليل العلمي القاطع على صدق رسالة القرآن الكريم والنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ليس له ناصر ينصره، ولا واق يمنع من عذابه.
9- الأنبياء قاطبة بشر، يقضون ما أحلّ الله من شهوات الدّنيا، ولهم زوجات وأولاد، وإنما التّخصيص بالوحي.
10- آية وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً تدلّ على التّرغيب في النّكاح والحضّ عليه، وتنهى عن التّبتّل، وهو ترك النّكاح، وهذه سنّة المرسلين، كما نصّت عليه هذه الآية، والسّنّة واردة بمعناها،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي وهو ضعيف: «تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم»
وقال فيما رواه الطبراني عن أنس، وهو ضعيف: «من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان، فليتّق الله في النّصف الباقي»
، ومعنى ذلك أنّ النّكاح يعفّ عن الزّنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهما الجنّة،
فقال فيما رواه الموطأ وغيره: «من وقاه الله شرّ اثنتين، ولج الجنّة: ما بين لحييه، وما بين رجليه»
، وتقدم
حديث وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .
11- ليس للرّسول بإرادته أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة، وإنّما ذلك بإذن الله ومشيئته.
12- لكلّ أجل كتاب، أي لكلّ أمر قضاه الله كتاب عند الله تعالى. يمحو(13/188)
الله من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به، ويثبت ما يشاء، أي يؤخّره إلى وقته. وعنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر منه شيء، فنزول العذاب على الكفار، ونصر المؤمنين لهما وقت معيّن مخصوص.
والمحو يشمل الأقدار، والدّعاء يفيد في ردّ القدر، وقد يحرم الإنسان الرّزق بسبب ذنب يرتكبه، وقد يزداد عمره بصلة الرّحم وبرّ الأقارب. وقد تقدّم
في الصّحيحين عن أبي هريرة حديث: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» .
وأصول الأشياء لا تتغيّر: وهي الخلق والخلق، والأجل والرّزق، والسّعادة والشّقاوة. والذي في علم الله ثابت لا يتبدّل، مثل قيام السّاعة، وأجل بقاء النّاس في القبور وكلّ ما كتب من الآجال وغيرها.
سئل ابن عباس عن أمّ الكتاب، فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله تعالى.
وقال عكرمة: يمحو ما يشاء بالتّوبة جميع الذّنوب، ويثبت الذّنوب حسنات، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 70] .
والخلاصة: عقيدتنا هي أنه لا تبديل لقضاء الله تعالى، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء. والقضاء منه ما يكون واقعا محتوما، وهو الثّابت، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو. ويكون المحوّ إما بالدّعاء أو بصلة الرّحم وبرّ الأقارب، أو بالذّنب المقترف. ويشمل المحو نسخ الشّرائع، فقد تنسخ شريعة بأخرى، كالنّسخ بالقرآن لما عداه، لمصلحة وحكمة تقتضيها، ونسخ التّوجّه إلى بيت المقدس وتحويل القبلة إلى الكعبة، ونحو ذلك.
والكلّ بقضاء الله وقدره، والأمور مرهونة بأوقاتها.(13/189)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
مهمة الرّسول تبليغ الشّريعة والله شاهد له ومحاسب وحاكم بين العباد ومحبط مكر الكفار
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
الإعراب:
وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مَنْ: إما اسم موصول، وعِنْدَهُ: صلته، وإما نكرة موصوفة، وعِنْدَهُ الصفة. ومحله: إما الجرّ عطفا على لفظ المجرور في قوله تعالى:
كَفى بِاللَّهِ، وإما الرّفع عطفا على موضعه لأن موضعه الرّفع لأن تقديره: كفى الله.
وذلك مثل: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر 35/ 3] إما بالجرّ حملا على اللفظ، أو بالرّفع حملا على الموضع. وعِلْمُ الْكِتابِ مرفوع بالظّرف عِنْدَهُ لأن الظّرف إذا وقع صلة أو صفة فإنه يرفع كما يرفع الفعل. لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ محل ذلك النّصب على الحال، أي يحكم نافذا حكمه.
البلاغة:
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة، أي ليس لك إلا صفة التّبليغ.(13/190)
المفردات اللغوية:
وَإِنْ ما فيه إدغام نون. «إن» الشّرطية في «ما» المزيدة. نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك، وهو فعل الشّرط، وجوابه محذوف، أي فذاك. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم. فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما عليك إلا البلاغ. وَعَلَيْنَا الْحِسابُ إذا صاروا إلينا، فنجازيهم.
أَوَلَمْ يَرَوْا أي أهل مكة. أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الحياة التي يعيشون فيها.
أَطْرافِها جوانبها، والنقص منها بما نفتحه على المسلمين منها. وَاللَّهُ يَحْكُمُ في خلقه بما يشاء. لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا رادّ ولا مبطل له، والمعقّب: الذي يتعقّب الشيء فيبطله بالنّقد، ويقال لصاحب الحقّ: معقّب لأنه يتابع غريمه المدين بالطّلب، والمعنى: أنه حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم عما قريب في الآخرة بعد ما عذّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم بأنبيائهم، كما مكروا بك. والمكر: إرادة الشيء في خفية. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي لا يؤبه بتدبير دون تدبيره، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فيعدّ جزاءها، وهذا هو المكر «التّدبير» كلّه لأنه يأتيهم به من حيث لا يشعرون. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ المراد به كلّ كافر. لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدّار الآخرة، ألهم، أم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي. وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي المطّلع على حقيقة الكتاب الإلهي من مؤمني اليهود والنّصارى. ومن هاهنا: لابتداء الغاية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى اقتراح المشركين إنزال آيات واستعجال العذاب، ذكر هنا احتمال وقوع ما توعّدوا به، وبيان أن وظيفة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم التّبليغ، وأن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت، بفتح المسلمين جوانب الأرض، وأن الله يحكم في خلقه ما يريد.
ثم أبان أنّ مكر هؤلاء المشركين ومن تقدّمهم لا يضرّ المسلمين شيئا، فالنّصر سيكون لهم، والهزيمة والعذاب لغيرهم.(13/191)
ثمّ ردّ الله على اليهود الذين أنكروا رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه شاهد له بالصّدق، وحسبه شهادة الله ومن آمن من أهل الكتاب.
التفسير والبيان:
إن أريناك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد أعداءك المشركين وغيرهم من الخزي والنّكال في الدّنيا، أو نتوفينّك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك، وإنما أرسلناك لتبلّغهم رسالة الله، وقد فعلت ما أمرت به، وليس عليك التّوصل إلى صلاحهم، فإنما علينا حسابهم وجزاؤهم على الخير والشّرّ، كقوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية 88/ 21- 26] .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ.. أي أنسي هؤلاء المشركون في مكة أو شكّوا أنّا نأتي الأرض، فنفتحها لك أرضا بعد أرض، وتنتصر عليهم، وتمتد رقعة الإسلام، وتتقلّص رقعة الكفر، ويدخل النّاس في دين الله أفواجا، كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء 21/ 44] .
وتدلّ الآية في نطاق العلم الحديث على كون الأرض مفلطحة بيضاوية، ليست كرة تامّة التّدوير، بل هي ناقصة الأطراف.
وأما في الماضي فيراد بالآية كما أوضحت ظهور الإسلام على الشّرك قرية بعد قرية، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الأحقاف 46/ 27] .
وقال ابن عباس: المراد موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصّلحاء والأخيار. ولكن اللائق الرّأي الأول، كما قال الواحدي.
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أي والله يقضي القضاء المبرم، ولا يرد حكمه(13/192)
النّافذ، فلا رادّ لقضائه، ولا يستطيع أحد أن يطعن فيه أو يبطله أو ينقضه، ومن حكم الله تعالى أن الأرض يرثها عباده الصّالحون بالعدل والإصلاح والعمران.
وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي والله محاسب عباده قريبا في الآخرة، وعقابه آت لا محالة، فلا تستعجل عقابهم، فإن الله معذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدّنيا بالقتل والأسر والخزي والذّل والنّكال.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على مكائد قومه، وتصبير له على أذاهم، فإن النّصر له في النّهاية حتما، أي لقد مكر الكفار السابقون برسلهم، وأرادوا إخراجهم من بلادهم، وعذّبوهم، كما فعل النّمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط، فمكر الله بهم، وجعل العاقبة للمتّقين، أي دبّر لهم ما أوقعهم في الهلاك بسبب ظلمهم وفسادهم.
فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي لا يؤبه بتدبير دون تدبيره، ولا يضرّ مكر الماكرين إلا بإذنه تعالى، ولا يؤثر إلا بمشيئته وتقديره، فلا خوف إلا منه.
وهذا كقوله تعالى في مكر المشركين بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال 8/ 30] ، وقوله سبحانه: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النّمل 27/ 50- 52] .
يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ أي أنه تعالى عالم بجميع السّرائر والضّمائر، وسيجزي كلّ عامل بعمله، فينصر أولياءه، ويعاقب الماكرين.(13/193)
وهذا وعيد شديد وتهديد لكلّ كافر ماكر، وتسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمان له من مكرهم.
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ.. أي وسيتحقق الكفار يوم القيامة لمن العاقبة المحمودة من الفريقين: المؤمنين والكافرين، حيث تكون العاقبة لأتباع الرّسل في الدّنيا والآخرة، ففي الدّنيا النّصر، وفي الآخرة الجنّة.
ثمّ ردّ الله على منكري نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي يقول الكافرون الجاحدون نبوّتك: لست رسولا مرسلا من عند الله، تدعو النّاس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتنقذهم من الظّلمات إلى النّور، ومن عبادة الأصنام والأوثان، إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومن الظّلم والفساد إلى العدل والصّلاح.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسقف من اليمن، فقال له عليه الصّلاة والسّلام: «هل تجدون في الإنجيل رسولا؟» ، قال: لا، فأنزل الله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا الآية.
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ.. قل يا محمد لهم: حسبي وكفايتي أن الله شاهد لي بصدق رسالتي، ومؤيّد دعوتي، بما أنزله عليّ من القرآن المعجز، ومن الآيات البيّنات الدّالّة على صدقي، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح 48/ 28] .
وكفاني أيضا بعد شهادة الله شهادة علماء أهل الكتاب الذين آمنوا من اليهود والنّصارى، بما وجدوه لديهم في التّوراة والإنجيل من بشارة برسالتي، وعلامات لا تنطبق على من سواي، وهم عبد الله بن سلام- اليهودي الأصل- وأصحابه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: كان من أهل الكتاب قوم(13/194)
يشهدون بالحقّ ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام، والجارود، وتميم الدّاري، وسلمان الفارسي رضي الله عنهم.
وذلك كما دلّت آية أخرى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إنّ مهمّة الرّسول مقصورة على إبلاغ الرّسالة للأمّة، وليس عليه هداهم وصلاحهم.
2- الله تعالى هو الذي يحقّق الأحداث والوقائع، فينجز الوعد والوعيد، وينزل العقاب الشّديد متى شاء، وقد يكون ذلك في حال حياة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو بعد وفاته.
3- الله تعالى هو المتكفّل القائم بحساب العباد على ما قدّموا من خير أو شرّ.
4- إن امتداد رقعة الإسلام واتّساع الفتوحات الإسلامية، وانحسار الكفر وتضييق رقعة بلاد الكافرين بيد الله تعالى وحده.
5- إن الأرض ليست تامّة الكروية، وإنما هي مفلطحة بيضاوية ناقصة الأطراف والتّكوير.
6- لا رادّ لقضاء الله تعالى ولا معقّب لحكمه، ولا يستطيع أحد تعقيب حكمه بنقص أو نقض أو إبطال أو تغيير.
7- الله تعالى سريع الحساب من العباد، أي الانتقام من الكافرين، سريع الثّواب للمؤمن.
8- تخيب أو تفشل كلّ مخططات الأعداء الكافرين ومكائدهم أمام تدبير الله(13/195)
تعالى، ولا يضرّ مكرهم إلا بإذنه تعالى، وفي هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وشدّ من عزيمته، وبيان أن النّصر في النّهاية له، وأنّ الدّائرة ستدور على الكفار.
9- يعلم الله ما تعمل به كلّ نفس من خير وشرّ، فيجازي عليه.
10- سيتحقق الكفار لمن العاقبة المحمودة، أي عاقبة دار الدّنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثّواب والعقاب في الدّار الآخرة، وهذا تهديد ووعيد.
11- إن إنكار مشركي العرب واليهود رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وقولهم له: لست بنبيّ ولا رسول، وإنما أنت متقوّل، لما لم يأتهم بما اقترحوا من الآيات، إن إنكارهم لا يغض من الحقيقة شيئا، ولا يغيّر من الواقع، وكفى بالله شهيدا على صدقه، وحسبه شهادة مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الدّاري، والنّجاشي وأصحابه.
لكن قال ابن جبير: السّورة مكيّة، وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السّورة، فلا يجوز أن تحمل الآية على ابن سلام، فمن عنده علم الكتاب جبريل، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضّحّاك: هو الله تعالى.
وأما من قال: إنهم جميع المؤمنين فصدق لأن كلّ مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقه. والكتاب على هذا هو القرآن الكريم «1» .
ويجوز أن يكون المراد به: الذي حصل عنده علم التّوراة والإنجيل، يعني:
أن كلّ من كان عالما بهذين الكتابين، علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب، كان شاهدا على أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول حقّ من عند الله تعالى «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 336- 337
(2) تفسير الرّازي: 19/ 70(13/196)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة إبراهيم عليه السلام
مكية وهي اثنتان وخمسون آية.
تسميتها:
سمّيت سورة إبراهيم لاشتمالها على جزء من قصّة إبراهيم أبي الأنبياء عليه السّلام، يتعلّق بحياته في مكّة، وصلته بالعرب وإسماعيل، وأنّ إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت الحرام، وأنهما كانا يدعو ان الله تعالى بالهداية، وأن إبراهيم دعا أن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأن يرزق زوجته وابنه إسماعيل اللذين أسكنهما في مكّة من الثّمرات، وأن يجعله هو وذريّته مقيمي الصّلاة، وذلك في الآيات [35- 41] .
مناسبتها لما قبلها:
هذه السّورة امتداد لما ذكر في سورة الرّعد، وتوضيح لما أجمل فيها، فكلّ منهما تحدّث عن القرآن، ففي سورة الرّعد ذكر تعالى أنه أنزل القرآن حكما عربيا [الآية 37] ، وهنا ذكر حكمة ذلك والغاية من تنزيل القرآن، وهي إخراج الناس من الظّلمات إلى النّور بإذن الله [الآية: 1] .
وكلّ منهما ذكر فيه تفويض إنزال الآيات الكونية إلى الله وبإذنه، فقال تعالى في سورة الرّعد: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [38] ، وهنا ذكر ذلك على لسان الرسل: ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [11] .(13/197)
وفي كليهما ذكرت الآيات الكونية من رفع السّماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشّمس والقمر، وجعل الرّواسي في الأرض، وخلق الثّمرات المختلفة الطّعوم والألوان.
وتعرّضت السّورتان لإثبات البعث، وضرب الأمثال للحقّ والباطل، والكلام على مكر الكفار وكيدهم وعاقبته، والأمر بالتّوكّل على الله تعالى.
ما اشتملت عليه هذه السّورة:
اشتملت سورة إبراهيم على ما يأتي:
1- إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله وبالرّسل وبالبعث والجزاء، وإقرار التّوحيد، والتّعريف بالإله الحقّ خالق السّموات والأرض، وبيان الهدف من إنزال القرآن الكريم، وهو إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور، واتّحاد مهمّة الرّسل ودعوتهم في أصول الاعتقاد والفضائل وعبادة الله والإنقاذ من الضّلال.
2- الوعد والوعيد: ذمّ الكافرين ووعيدهم على كفرهم وتهديدهم بالعذاب الشّديد، ووعد المؤمنين على أعمالهم الطّيّبة بالجنان [الآية 2، والآية 23، والآيات 28- 31] .
3- الحديث عن إرسال الرّسل بلغات أقوامهم، لتسهيل البيان والتّفاهم [الآية 4] .
4- تسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ببيان ما حدث للرّسل السّابقين مع أقوامهم: قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، والتّذكير بعقابهم، كما في الآيات [9- 12] ، والآيات [13- 18] .(13/198)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
5- ابتدأ من بين قصص بعض الأنبياء المتقدّمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيّاهم لعبادة الله تعالى [الآيات 5- 8] .
6- دعوات إبراهيم عليه السّلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلّق القلوب بالبيت الحرام، وتجنيبه وذريّته عبادة الأصنام، وشكره ربّه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصّلاة، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين [الآيات 35- 41] .
7- بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النّار في عالم الآخرة [الآيات 19- 23] .
8- ضرب الأمثال لكلمة الحقّ والإيمان وكلمة الباطل والضّلال بالشّجرة الطّيّبة والشّجرة الخبيثة [الآيات 24- 27] .
9- التّذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم [الآيات:
42- 52] .
10- بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة، وهو ما ختمت به السّورة [الآيتان: 51- 52] .
الغاية من إنزال القرآن وذم الكافرين وكون الرسول بلسان قومه
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)(13/199)
الإعراب:
الر إما خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وإما في موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر، وتكون جملة: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مفسّرة.
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ كِتابٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا كتاب. وأَنْزَلْناهُ:
جملة فعلية في موضع رفع صفة كِتابٌ. إِلى صِراطِ بدل من قوله إِلَى النُّورِ.
اللَّهِ الَّذِي بالجر بدل من قوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ويقرأ بالرفع، فيكون مبتدأ، وما بعده خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو الله الذي له ما في السموات.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ نعت للكافرين.
عِوَجاً منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل: إنه مفعول «يبغون» واللام محذوفة من المفعول الأول، تقديره: ويبغون لها عوجا.
فَيُضِلُّ اللَّهُ مرفوع على الاستئناف والاقتطاع من الأول.
البلاغة:
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان. أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق.
فَيُضِلُّ.. وَيَهْدِي بينهما طباق.
الحميد.. شديد.. بعيد فيها سجع.
المفردات اللغوية:
الر الابتداء بالحروف الهجائية في بعض السور لبيان طبيعة تكوين القرآن وأنه من جنس الحروف التي ينطق بها العرب، فهي للتحدي وبيان إعجاز القرآن، وأنه من كلام الله، بدليل العجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، بالرغم من تكوينه من حروف اللغة العربية.(13/200)
كِتابٌ أي هو كتاب. لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى ما تضمنه. مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الضلال والكفر. إِلَى النُّورِ إلى الهدى والإيمان. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره وتيسيره وتسهيله وتوفيقه. إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى طريق الغالب، المحمود المثنى عليه من نفسه ومن عباده. وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له. والتخصيص بالوصفين المذكورين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سابله.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. وَيْلٌ هلاك وعذاب.
يَسْتَحِبُّونَ يختارون. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويق الناس عن الإيمان، واعتناق دين الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون السبيل معوجة، أو يطلبون لها زيغا واعوجاجا وانحرافا عن الحق ليقدحوا فيه. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي الكافرون ضلوا عن الحق وانحرفوا عنه.
بِلِسانِ بلغة. لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ليفهمهم ما أتى به، ويوضح لهم ما آمروا به، فيفقهوه عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوه لغيرهم، فإنهم أولى الناس بالدعوة، وأحق بالإنذار.
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فيخذله عن الإيمان. وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق له. وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه، فلا يغلب على مشيئته. الْحَكِيمُ في صنعه، فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة.
التفسير والبيان:
هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن العظيم، لتخرج الناس به مما هم فيه من ظلمات الكفر والضلال والغي والجهل، إلى نور الإيمان والهدى والرشد، بما اشتمل عليه من أصول الحكم السديد، والدعوة إلى الحياة الكريمة والمدنية والحضارة السامقة، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة 2/ 257] وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الحديد 57/ 9] .
وقد دلت الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلا من عند الله تعالى.
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتوفيقه وتيسيره، فهو الهادي بإرسال نور الهداية إلى قلوبهم. لكن أسند الفعل لِتُخْرِجَ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الداعي والمبلّغ.(13/201)
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى الطريق المستقيم، طريق الله العزيز الذي لا يغالب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه، وأمره ونهيه، والصادق في خبره.
اللَّهِ الَّذِي.. أي الإله الذي له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصريفا وتدبيرا. وتكرار هذه الصفة كثيرا في القرآن للتنبيه على عظمة الخالق، ولإعمال النظر في المخلوقات، والإفادة منها.
وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ.. أي هلاك وعذاب شديد يوم القيامة لمن كفر برسالتك وجحد بوحدانية الله. وهذا وعيد شديد لهم.
ثم وصفهم الله تعالى بصفات ثلاث بقوله:
1- الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ.. أي الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، ويقدمونها ويؤثرونها عليها، ويعملون للدنيا، ونسوا الآخرة وتركوها.
2- وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون من اتباع الرسل، ويعوقون عن الإيمان بالله، ويصرفون عن الإسلام كل من أراده.
3- وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة، منحرفة عن الحق، لتوافق أهواءهم وأغراضهم، وهي في واقعها مستقيمة في نفسها لا تقبل الانحراف عن الحق. والسبيل: تذكر وتؤنث.
قال في الكشاف: الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجا، فحذف الجار وأوصل الفعل.
ومن أمثلة ذلك في العصر الحديث الانصراف عن تطبيق الحدود الشرعية والقصاص، بحجة قسوتها، وعدم ملاءمتها لروح العصر، ومنافاتها للإنسانية:
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف 18/ 5] . وقد(13/202)
أدى هذا الاتجاه إلى كثرة الجرائم، حتى إنه في كل ثانية يقع في بريطانيا مثلا خمس عشرة ألف جريمة، وأما في أمريكا فأكثر من ذلك.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أولئك الكفار الموصوفون بتلك الصفات السابقة في ضلال بعيد كل البعد عن الحق، وفي جهل سحيق، لا يرجى لهم- والحالة هذه- صلاح ولا فلاح.
وبعد أن بين تعالى مقاصد القرآن وأثره في الهداية، بيّن أنه سبيل ميسر للاهتداء به، لكونه بلغة قوم الرسول، فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ..
هذا من لطفه تعالى أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم، ليفهموا عنهم ما يريدون، وما أرسلوا به إليهم، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت 41/ 44]
وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم يبعث الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه» .
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ.. أي أنه بعد البيان وإقامة الحجة على الناس يكون الناس فريقين: فريق يضله الله عن وجه الهدى، لإيغاله في الكفر واجتراحه السيئات والآثام، وعناده، وفريق يهديه الله إلى الحق، ويشرح صدره للإسلام، فيتبع سبيل الرشاد. وهذا كلام مستأنف وليس بمعطوف على لِيُبَيِّنَ لأن الإرسال إنما وقع للتبيين، لا للإضلال.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والله سبحانه القوي الذي لا يغلب، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والحكيم في صنعه وأفعاله، فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك، فلا يفعل شيئا إلا على وفق الحكمة والعلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ دليل على أن القرآن منزل من عند الله(13/203)
تعالى، وأن مهمته إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والهدى والعلم، وذلك بتوفيق الله إياهم ولطفه بهم. وفيه إنعام على الرسول بتفويضه هذا المنصب العظيم، وعلى الناس لإرساله لهم من خلصهم من ظلمات الكفر، وأرشدهم إلى نور الإيمان.
2- قال المعتزلة: في هذه الآية دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات ثلاث:
أحدها- إخراج الكفر من الكافر بالكتاب.
وثانيها- أنه أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وثالثها- الإخراج من الكفر بالكتاب بتلاوته عليهم ليتدبروه وينظروا فيه، فيتوصلوا إلى كونه تعالى عالما قادرا حكيما، وإلى أن القرآن معجزة صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع، باختيارهم.
قال أهل السنة: إن المؤثر الأول في صدور الفعل من العبد وترجيح جانب الوجود على جانب العدم هو الله تعالى.
وفعل العبد مخلوق لله تعالى لقوله سبحانه: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بمشيئته وتخليقه.
3- طرق الكفر والجهل والبدعة كثيرة، وطريق الخير واحد لأنه تعالى قال: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهو جمع، وعبر عن الإيمان والهداية بالنور، وهو لفظ مفرد.
4- قدم ذكر العزيز على الحميد لأن الواجب أولا في العلم بالله: العلم بكونه تعالى قادرا، ثم العلم بكونه عالما، ثم العلم بكونه غنيا عن الحاجات، والعزيز: هو القادر، والحميد: هو العالم الغني.(13/204)
5- لله ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا، وهذا يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو البتة لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، وبما أن كل ما في السموات فهو ملكه، فهو منزه عن الحصول في جهة فوقية. وأما قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك 67/ 16] فالمراد به سلطانه وقدرته.
وتدل الآية أيضا على الحصر، أي كل ما في السموات والأرض له، لا لغيره، وهو يدل على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله عز وجل.
ولهذا عطف عليه وعيد الكفار بقوله: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ لأنهم تركوا عبادة الله تعالى الذي هو مالك السموات والأرض وما فيهما، إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا، ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل.
6- استحقاق الكافرين الهلاك والعذاب في نار جهنم لصفات ثلاث: هي تفضيلهم أو إيثارهم الدنيا على الآخرة، ومنعهم الناس من الوصول إلى سبيل الله ودينه، وهو المنهج القويم والطريق المستقيم، وطلبهم لسبيل الله زيغا وميلا واعوجاجا، لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، فهم في ضلال بعيد عن الحق.
7- من فضل الله وتيسيره الاهتداء بهدايته إرسال كل رسول إلى قومه بلغتهم، ليبين لهم أمر دينهم، وليفهموا منه شرائع الله، ويفقهوها عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوها لغيرهم.
وإرسال جميع الرسل بلغة قومهم يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وهو يدل على أن اللغات حاصلة بالاصطلاح، وليست توقيفية، كما ذكر الرازي.
8- قوله: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ رد على القدرية في(13/205)
نفوذ المشيئة، وإخبار بأن الضلال والهداية من الله تعالى، فهو تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته حسبما يعلم من استعداد العبد واختياره، وليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين، ولم يكلف أن يهدي، بل الهدى بيد الله على ما سبق قضاؤه.
وقال الزمخشري على طريقة الاعتزال: والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية: التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان «1» .
ويؤكد الرأي الأول لأهل السنة
ما روي: أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا؟» فقال بعضهم:
يا رسول الله، يقول أبو بكر: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا، ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وبعضهم عمر، فتعرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قاله أبو بكر، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه، ثم أقبل على عمر، فتعرف ما قاله، وعرف البشر في وجهه. ثم قال: «أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر، فقضاء إسرافيل: أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى، وهذا قضائي بينكما» «2» .
ثم ذكر الرازي تأويلات ثلاثة للآية، بعد أن قال: لا يمكن حمل الآية على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد «3» :
الأول- أن المراد بالإضلال: هو الحكم بكونه كافرا ضالا، كما يقال: فلان يكفّر فلانا ويضلله، أي يحكم بكونه كافرا ضالا.
__________
(1) الكشاف: 2/ 171
(2) تفسير الرازي: 19/ 80
(3) المرجع السابق 81(13/206)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
والثاني- أن يكون الإضلال: عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية: عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة.
والثالث- أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله، ولم يتعرض له، صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف، صار كأنه هو الذي هداه.
والخلاصة: إنه لا إجبار على الإيمان والكفر، ولا يخلق العبد كافرا أو لا يخلق الكفر في العبد، وإنما المراد بالإضلال والهداية بيان طريقي الشر والخير، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] .
مهمة الرسول موسى عليه السلام ونصائحه لقومه
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
الإعراب:
أَنْ أَخْرِجْ أَنْ: إما أن يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، وتقديره:
بأن أخرج قومك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، وإما ألا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مفسّرة بمعنى أي، مثل أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص 38/ 6] .
وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ أتى بالواو هنا، ليدل على أن الثاني غير الأول، وحذفت في غير هذا الموضع في سورة البقرة، ليدل على البدل، وأن الثاني بعض الأول، أي أنه في سورة البقرة تفسير لما سبق، وهنا غير تفسير، وإنما التذبيح نوع آخر من العذاب غير الأول.
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ حذفت الفاء من جواب الشرط للشهرة.
البلاغة:
شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ بينهما طباق.
صَبَّارٍ شَكُورٍ صيغة مبالغة فيهما.
شديد.. حميد فيهما سجع.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا الجمهور على أنها الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، يعني اليد والعصا وسائر معجزاته. وقيل: هي الجراد والقمل والضفادع ونحوها. أَنْ أَخْرِجْ أي بأن أخرج، أو بمعنى أي كأن في الإرسال معنى القول. قَوْمَكَ بني إسرائيل. مِنَ الظُّلُماتِ الكفر والجهالات. إِلَى النُّورِ الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به وَذَكِّرْهُمْ عظهم، بِأَيَّامِ اللَّهِ وقائعه التي وقعت على الأمم السابقة، وأيام العرب: حروبها. وقيل: بنعمائه وبلائه. صَبَّارٍ كثير الصبر على البلاء والطاعة. شَكُورٍ أي كثير الشكر للنعم.
وَإِذْ قالَ واذكر حين قال موسى. يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم العذاب السيء الشديد.
وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ المولودين. وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهم أحياء للذل والعار لقول بعض الكهنة: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملك فرعون. وَفِي ذلِكُمْ الإنجاء أو العذاب. بَلاءٌ إنعام أو ابتلاء واختبار.
وَإِذْ تَأَذَّنَ واذكر حين أعلم وآذن. لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي بالتوحيد والطاعة. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ جحدتم النعمة بالكفر والمعصية، لأعذبنكم، دل عليه إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
لَغَنِيٌّ عن خلقه. حَمِيدٌ مستحق للحمد في ذاته، محمود في صنعه بهم، تحمده(13/207)
الملائكة وتنطق بنعمه المخلوقات، فما ضررتم بالكفران إلا أنفسكم، حيث حرمتموها مزيد الإنعام، وعرضتموها للعذاب الشديد.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن إرساله نعمة له ولقومه، أتبع ذلك بذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بقصص أنبياء آخرين مع أقوامهم، تنبيها على أن المقصود من بعثة الرسل واحد: وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتصبيرا للرسول على أذى قومه، وإرشادا له إلى كيفية معاملتهم ومكالمتهم.
التفسير والبيان:(13/208)
كما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بالآيات التسع، وأمرناه قائلين له: أخرج قومك من الظلمات إلى النور، أي أدعهم إلى الخير، ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.
وعظهم بأيام الله، أي بوقائعه التي مرت على أمم الأنبياء السابقين، وكيف نجا المؤمنون، وهلك الكافرون!! أو ذكّرهم بنعم الله عليهم في إخراجهم من أسر فرعون وقهره، وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، وغير ذلك من النعم.
روى الإمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قال: بنعم الله تعالى.
وأيام الله في عهد موسى: إما محنة وبلاء: وهي الأيام التي كان فيها(13/209)
بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، وإما نعمة كإنجائهم من عدوهم، وفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. أي إن في ذلك التذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته، وإن فيما صنعنا ببني إسرائيل حين أنقذناهم من بطش فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة، لكل كثير الصبر على الطاعة والبلاء أو الضراء، شكور في حال النعمة والرفاه والسرور. قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.
وجاء في صحيح البخاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء، شكر، فكان خيرا له» .
فعلى المسلم أن يكون صابرا شكورا، يصبر عند البلاء والمحنة، ويشكر عند الرخاء والنعمة.
وَإِذْ قالَ مُوسى ... واذكر حين قال موسى لقومه: يا قوم، تذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون، وما كانوا يذيقونكم من العذاب والإذلال، ويكلفونكم من الأعمال ما لا تطيقون، وكانوا يذبحون أبناءكم المولودين الصغار، خوفا من ظهور ولد يكون سببا في تدمير ملك فرعون، كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر، وكانوا يتركون الإناث أحياء ذليلات مستضعفات، وذلك من أعظم البلاء، فأنقذكم الله من عذابهم، وهذه نعمة عظيمة.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي وفيما ذكرت لكم اختبار عظيم من ربكم، سواء في حال النقمة، أو في حال النعمة، ليعرف الإنسان أيشكر أم يكفر؟! كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ
الأنبياء 21/ 35] وقال سبحانه: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] .(13/210)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ.. واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده لكم، وهو قوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها.
أخرج البخاري عن أنس حديثا فيه: «ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة» .
ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الأعراف 7/ 167] .
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ.. أي ولئن جحدتم النعم وسترتموها، فلم تؤدوا حقها من الشكر. إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ أي إن عقابي أليم وقعة، شديد تأثيره وألمه، في الدنيا بزوال تلك النعم، وسلبها عنهم، وفي الآخرة بالعقاب على كفرانهم، والمراد بالكفر هما: الكفران. جاء في الحديث الثابت الذي رواه الحاكم عن ثوبان: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» .
وَقالَ مُوسى.. أي وأعلن موسى مبدأ أساسيا في الدين، حينما لا حظ منهم أمارات الكفر والعناد، وهو أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الإنسان، أما الله فهو غني عن عباده، فقال: إن تجحدوا نعمة الله عليكم أنتم وجميع من في الأرض من الثقلين: الإنس والجن، فإن الله غني عن شكر عباده.
وهو المحمود، وإن كفر به من كفر، كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر 39/ 7] وقال تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن 64/ 6] وقال سبحانه: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر 39/ 7] .
جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه عن ربه عز وجل- أنه قال: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على(13/211)
أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- إن المقصود من بعثة الأنبياء واحد، وهو أن يسعوا في إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالات إلى أنوار الإيمان والهدايات.
2- على الناس الاعتبار والاتعاظ بأيام الله تعالى، أي الوقائع العظيمة التي وقعت فيها، وتذكر نعم الله عليهم.
وذلك جمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد: أن يذكرهم النبي موسى أو غيره ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل، في سائر ما سلف من الأيام. والترهيب والوعيد: أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل، ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا، ويحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب.
3- إن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا. ففي حال المحنة والبلية يصبر، وفي حال المنحة والعطية يشكر، وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب ألا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين: الصبر أو الشكر.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان:(13/212)
فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» ثم تلا هذه الآية: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
4- لقد تعرض بنو إسرائيل في زمن فرعون للحالتين: المحنة والنعمة، ولكنهم لم يقدروا النعمة ولم يشكروها، ولم يصبروا عند المحنة، وذلك ملحوظ من نصح موسى عليه السلام لهم حينما رأى أمارات الكفر والعناد فيهم.
5- إن شكر النعمة سبب لزيادتها، وكفرانها سبب لزوالها، فالآية نص واضح في أن الشكر سبب المزيد، وأن جحود النعمة سبب النقص والزوال، فمن اشتغل بشكر نعم الله، زاده الله من نعمه، ومن كفر بنعمة الله فهو جاهل، والجهل بالله سبب لأعظم أنواع العقاب والعذاب، فالمراد بقوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ الكفران، لا الكفر.
والشكر: هو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم، مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة.
والخلاصة: الاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بشكر النعمة يستوجب زيادتها.
6- إن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود الا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران. أما المعبود المشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران.
والمراد من قول موسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ.. بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات، لمنافع عائدة إلى العابد، لا لمنافع عائدة إلى المعبود، بدليل قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني، وهو المحمود في جميع الأحوال.(13/213)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
بعض أخبار الرسل السابقين مع أممهم
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
الإعراب:
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ ما: استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وخبره لَنا وأن في أَلَّا في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، تقديره: وما لنا في ألا نتوكل على الله، وهو في موضع نصب على الحال، والتقدير: أيّ شيء ثبت لنا غير متوكلين.(13/214)
البلاغة:
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا استفهام تقرير، وهذا من كلام موسى عليه السلام، أو كلام مستأنف أو مبتدأ من الله. نَبَؤُا خبر. وَثَمُودَ قوم صالح. لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة اعتراضية، والمعنى: أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله، لذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: كذب النسابون.
بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحة على صدقهم. فَرَدُّوا أي الأمم. أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم السلام، كقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي في زعمكم. مُرِيبٍ موقع في الريبة، أي الاضطراب والقلق أَفِي اللَّهِ شَكٌّ استفهام إنكاري، أي لا شك في توحيده، للدلائل الظاهرة عليه. فاطِرِ خالق ومبدع على أكمل نظام. يَدْعُوكُمْ إلى طاعته. مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ: صلة زائدة، أو تبعيضية، والمراد على الأول: أن الإيمان أو الإسلام يغفر به ما قبله، وعلى الثاني يكون القصد هو إخراج حقوق العباد.
وَيُؤَخِّرَكُمْ بلا عذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أجل الموت. قالُوا: إِنْ أي ما. عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي برهان أو حجة ظاهرة قوية على صدقكم.
إِنْ نَحْنُ أي ما نحن. يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ بالنبوة. وَما كانَ لَنا وما ينبغي. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره لأنا عبيد مربوبون لله تعالى، فليس في قدرتنا الإتيان بالآيات. وفيه دليل على أن النبوة عطائية، وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يثقوا به، في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل، وقصدوا به أنفسهم أولا.
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ أي لا مانع لنا من ذلك، ولا عذر لنا في ألا نتوكل عليه. وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا على أذاكم، وهو جواب قسم محذوف، أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم الناشئ عن إيمانهم.
المناسبة:
هذا تذكير بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل، بعد تذكير موسى لقومه بما أنعم الله عليهم من نعم، ودفع عنهم من نقم، وبما وعد به تعالى(13/215)
الشاكرين بالزيادة، والجاحدين بالعذاب، وبأن الكفران لا يضرّ إلا أهله.
ويحتمل أن يكون المذكور هنا من تتمة كلام موسى وخطابا منه لقومه، ليخوفهم بمثل هلاك من تقدم، وهذا رأي ابن جرير، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا جديدا مستأنفا من الله لقوم موسى وغيرهم، لتذكيرهم أمر القرون الأولى.
والمقصود إنما هو العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا حاصل على التقديرين.
إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول الرازي، وقال ابن كثير: والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه، وقصصه عليهم، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة «1» .
التفسير والبيان:
ألم يأتكم خبر أقوام من قبلكم: وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل. وضمير الخطاب في يَأْتِكُمْ لأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمائر: جاءتهم رسلهم، فردوا أيديهم في أفواههم للكفار.
جاءت هؤلاء رسلهم بالمعجزات والحجج والدلائل الواضحة الباهرة القاطعة، التي تثبت صدقهم ودعواهم الرسالة عن الله، لإخراجهم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان والهداية.
فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي إلا أن هؤلاء القوم عضوا أناملهم من شدة الغيظ، لما جاءهم به الرسل، أي اغتاظوا منهم وعادوهم ونفروا منهم، كما فعل العرب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله سبحانه: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ،
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 88، تفسير ابن كثير: 2/ 524(13/216)
قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران 3/ 119] . والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا ولم يؤمنوا. فهو- كما قال أبو عبيدة والأخفش- مثل.
وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا.. أي وقالوا للرسل: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات، أي كفرنا بدلالتها على صدق رسالتكم.
وإنا لفي شك موقع في الريبة والقلق والاضطراب مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده، وترك ما سواه.
وتساءل الرازي بقوله: فإن قيل: كيف تنازلوا إلى الشك في صحة قولهم بعد تصريحهم بالكفر برسالتهم؟ ثم أجاب بأنهم أرادوا أنهم كافرون في الواقع وبنحو جازم متيقن بدعوتهم، فإن لم نكن جازمين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أفي وجود الله شك؟! فإن الفطرة تقرّ بوجوده، ومجبولة على الإقرار به. وهل في تفرده بالألوهية ووجوب عبادته شك وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؟! فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى.
وأما دليل الفطرة فثابت كما
أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله فيما رواه ابن عدي والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، أو يمجّسانه» .
وأما دليل الخلق فهو أمر حسي مشاهد، وهو ما نبّه إليه بقوله مباشرة:
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كيف تشكون في الله، وهو خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق، وعلى هذا النظام المحكم البديع؟! وهو تعالى عدا كونه خالقا وهو دليل وجوده، هو كامل الرحمة لقوله:(13/217)
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يدعوكم إلى الإيمان الكامل به، من أجل أن يغفر لكم في الدار الآخرة ذنوبكم- على أن من صلة زائدة- أو بعض ذنوبكم- على أن من تبعيضية- فهو يغفر الذنوب المتعلقة به، لا الذنوب التي لها صلة بحقوق العباد. وهذا هو الغرض الأول من الدعوة إلى الإيمان.
ويلاحظ أنه تعالى في كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب الكفار، جاء بلفظ (من) وفي كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب المؤمنين، جاء بغير لفظ (من) .
مثال الحالة الأولى: قوله تعالى: وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح 71/ 3- 4] وقوله سبحانه: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف 46/ 31] لأنه يدعوهم إلى الإيمان الذي هو أصل الدين.
ومثال الحالة الثانية: قوله عز وجل: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران 3/ 31] وقوله عزت أسماؤه: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف 61/ 11- 12] لأنه بعد توافر الإيمان لا تكون المغفرة إلا إلى المعاصي.
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هذا هو الغرض الثاني من الدعوة إلى الإيمان، وهو الإمهال والتأخير إلى وقت محدد معين في علم الله تعالى، وهو منتهى العمر، إن حدث الإيمان، وإلا عاجلكم الهلاك والعذاب بسبب الكفر.
فالإيمان يتحقق به رحمتان أو نعمتان وهما مغفرة الذنوب والإمهال إلى نهاية الأعمار.
ثم ذكر الله تعالى ردّ تلك الأمم على رسلها من نواح ثلاث هي:
1- قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم، ولما نر منكم معجزة، فما أنتم إلا مثلنا في البشرية، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصصون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا، لبعث من جنس أفضل.(13/218)
2- تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي وأنتم تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، بهذه الدعوى التي لا دليل على صحتها.
3- فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي فأتونا بأمر خارق نقترحه عليكم، أو بحجة ظاهرة تدلّ على صحة ادعائكم النبوة، فنحن لا نؤمن إلا بالحسيّات، أما خلق السموات والأرض وما فيهما من عجائب، فلا نعقلهما، ولا يصلح دليلا على صحة ما تقولون.
ثم ذكر الله ما ردّ به الأنبياء على شبهاتهم الثلاث، وهو المصادقة والتسليم للشبهتين الأولى والثانية، وإسناد الأمر إلى الله في الثالثة، فقال: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ.. أي قالت الرسل للأمم: ما نحن إلا بشر مثلكم كما ذكرتم، نأكل ونشرب وننام ونمشي في الأسواق ونبحث عن الرزق، ولكن الله سبحانه يتفضل على من يشاء من عباده بالرسالة والنبوة: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] وقد منّ الله علينا بالرسالة.
وأما تقليدكم الآباء لمجرد كونهم آباء فهذا شيء لا يقبله العقل.
وأما طلبكم الحجة والبرهان على صدق رسالتنا، والإتيان بسلطان على وفق ما سألتم، بالرغم من المعجزات التي ظهرت لنا، فأمره إلى الله، ولا نتمكن من الإتيان بسلطان إلا بمشيئة الله وإرادته، ولا نقدر عليه.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي على جميع المؤمنين أن يتكلوا على الله في جميع أمورهم، لدفع شرّ عدوهم، والصبر على معاداتهم.
ثم أكدوا اعتمادهم على الله فقالوا: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ.. أي وكيف لا نتوكل على الله الذي هدانا إلى سبيل المعرفة، وأرشدنا إلى طريق النجاة؟! وما يمنعنا من التوكل عليه، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها.(13/219)
وَلَنَصْبِرَنَّ.. أي ولنصبرن على إيذائكم لنا بالكلام السيء والأفعال السخيفة.
ثم مدحوا التوكل فقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي فليستمر وليثبت المتوكلون من المؤمنين على توكلهم على الله، وليثقوا به، وليتحملوا كل أذى في سبيله، ولا يبالوا بشيء صعب مهما كان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- على الناس الاعتبار بأحوال المتقدمين الذين كذبوا رسلهم، وسخروا منهم، واستهزءوا بهم، فكان عاقبتهم الدمار والهلاك.
2- كانت مواقف الكفار من أنبيائهم على مراتب ثلاث:
المرتبة الأولى- أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام، وحاولوا إسكات الأنبياء عن تلك الدعوى.
والمرتبة الثانية- أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة.
والمرتبة الثالثة- أنهم أخيرا وعلى الأقل صاروا شاكين مرتابين في صحة النبوة.
وكل ذلك دليل منهم على عدم الاعتراف بالنبوة.
3- أقام الأنبياء الأدلة على وجود الله ووحدانيته بأن الفطرة السليمة شاهدة على ذلك، وبأن خلق السموات والأرض على غير مثال سبق الدال على معنى الحدوث والإبداع والتسخير للمخلوقات دليل قاطع على وجود الخالق وألوهيته وتفرده بوجوب العبادة له، فلا يبقى شك لدى عاقل بوحدانية الله تعالى، بعد(13/220)
أن تبين وأقرت الأمم بأنه الخالق لجميع الموجودات، وبأنه يستحيل وجود شيء كدار مثلا يتميز بالإبداع والترتيب والنظام والنقش الجميل من دون موجد عالم حكيم، وإذا كان الله هو الخالق، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له.
4- الله تعالى فاطر السموات والأرض متصف أيضا بكمال الرحمة والكرم والجود، بدليل أن الغرض من دعوة الناس إلى الإيمان به وبتوحيده أمران:
الأول- مغفرة الذنوب والخطايا والآثام، وفيها تطهير للنفس يبوئها لدخول الجنان التي لا يستحقها إلا الأطهار. والثاني- تأخير الناس إلى نهاية أعمارهم وهو الموت، فلا يعذبهم في الدنيا.
5- كانت أجوبة الكفار واهية مشتملة على شبهات ثلاث:
الأولى- التساوي في الإنسانية يمنع وجود التفاضل بينهم، بأن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله، مطلعا على الغيب، مخالطا لزمرة الملائكة، والباقون غافلون عن كل هذه الأحوال، وهذا معنى قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.
والثانية- التمسك بطريق التقليد: وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم متفقين على عبادة الأوثان، ويعبد أنهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين، وهذا معنى قولهم: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا.
والثالثة- المعجز لا يدل على الصدق أصلا، وإن سلّم أنه يدل على الصدق، فإن ما جاء به الرسل أمور معتادة، وليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وهذا معنى قولهم: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
6- كان ردّ الأنبياء على تلك الشبهات الثلاث ما يأتي:
أما الشبهة الأولى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فجوابها أن التماثل في البشرية(13/221)
والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأنه منصب يمنّ الله به على من يشاء من عباده.
وأما الشبهة الثانية: وهي توافق السلف على ذلك الدين، مما يدل على كونه حقا، فجوابها: أن التمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية، وأن يحرم الجمع العظيم منها.
وأما الشبهة الثالثة: وهي أنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية، فالجواب عنها أن الأشياء التي طلبتموها أمور زائدة، والحكم فيها لله تعالى، فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يخلقها فله العدل، ولا يطلب منه شيء بعد توافر قدر الكفاية.
7- لا سبيل أمام الأنبياء إلا الصبر على الأذى والاعتصام بالله وتفويض الأمر إليه والتوكل التام عليه، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والتوكل على الله والاعتماد على فضله محقق للنصر والفتوح.
وفائدة تكرار الأمر بالتوكل: أمر أنفسهم به أولا ثم أمر أتباعهم به، فبعد أن أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أمروا أتباعهم بذلك وقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وهو يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولا.(13/222)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة والوحي بأن العاقبة للأنبياء
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
الإعراب:
وَمِنْ وَرائِهِ الهاء: إما عائدة على الكافر، ويكون معنى مِنْ وَرائِهِ أي قدّامه، كقوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف 18/ 79] أي قدّامهم وإما عائدة على العذاب، ويكون المعنى: إن وراء هذا العذاب عذاب غليظ.
مَثَلُ الَّذِينَ.. في إعرابه أربعة أوجه:
الأول- أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا.
الثاني- أنه مبتدأ على تقدير حذف مضاف، والخبر: كَرَمادٍ، تقديره: مثل أعمال الذين كفروا مثل رماد.(13/223)
الثالث- أنه مبتدأ أول، وأَعْمالُهُمْ: مبتدأ ثان، وكَرَمادٍ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول.
الرابع- أنه مبتدأ، وأَعْمالُهُمْ: بدل منه، وكَرَمادٍ: خبره.
فِي يَوْمٍ عاصِفٍ عاصِفٍ في تقديره وجهان: إما في يوم ذي عصوف، كقولهم:
رجل نابل ورامح أي ذو نبل ورمح، وإما في يوم عاصف ريحه، كقولك: مررت برجل حسن وجهه، ثم يحذف الوجه إذا علم المعنى.
البلاغة:
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ استعارة لما يغشاه من كروب وشدة، فقد يوصف المغموم بأنه في حالة موت.
لَنُخْرِجَنَّكُمْ.. أَوْ لَتَعُودُنَّ بينهما طباق.
وَعِيدِ وعَنِيدٍ وصَدِيدٍ والْبَعِيدُ فيها سجع أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ تشبيه تمثيلي، وجه الشبه فيه: منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ حلفوا على أن يكون أحد الأمرين: إما إخراجهم للرسل أو عودتهم إلى ملتهم أَوْ لَتَعُودُنَّ لتصيرن، وتستعمل عاد بمعنى صار، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه، فغلبوا الجماعة على الواحد. فِي مِلَّتِنا الملة: الشريعة والدين فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أوحى إلى الرسل لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين، على إضمار القول، أو على إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه.
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، كقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف 7/ 137] . ذلِكَ إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي وقيامي للحساب أو مقامه بين يدي وَخافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار وَاسْتَفْتَحُوا أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء أي استنصر الرسل بالله على قومهم، وقيل: واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق. وَخابَ خسر وهلك كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ كل متعاظم متكبر عن طاعة الله، معاند للحق المخالف له، مجانب له.
مِنْ وَرائِهِ أي أمامه، ومن بين يديه، وبعد ذلك ينتظره جَهَنَّمُ يدخلها(13/224)
وَيُسْقى فيها مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ هو ما يسيل من جلود أو جوف أهل النار، مختلطا بالقيح والدم يَتَجَرَّعُهُ سقيته جرعة بعد جرعة، بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يستطيبه أو يزدرده، لقبحه وكراهته وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جانب، وتغشاه أنواع الكروب والعذاب وَمِنْ وَرائِهِ بعد ذلك العذاب عَذابٌ غَلِيظٌ قوي متصل، وشديد غير منقطع.
مَثَلُ صفة أَعْمالُهُمْ الصالحات كصلة الرحم والصدقة على الفقراء في عدم الانتفاع بها كَرَمادٍ أثر النار بعد احتراقها عاصِفٍ شديد الريح، أي أعمالهم كالرماد الذي عصفت به الرياح العاتية، فجعلته هباء منثورا، لا يقدر عليه لا يَقْدِرُونَ أي الكفار مِمَّا كَسَبُوا عملوا في الدنيا عَلى شَيْءٍ لا يجدون له ثوابا، لعدم توافر شرطه: وهو الإيمان. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الهلاك الْبَعِيدُ الغاية في البعد عن الحق.
المناسبة:
بعد أن أرشد الله تعالى الأنبياء إلى التوكل عليه والاعتماد على حفظه وصيانته، في دفع شرور أعدائهم، ذكر موقف الكفار العصبي المبالغ في السفاهة، وهو التهديد بأحد أمرين: الإخراج والطرد من البلاد، أو العودة إلى الملة الوثنية القديمة المتوارثة، وهذا هو الشأن في كل زمان، يعتمد فيه أهل الباطل والفسق والظلم على القوة والبطش لقوتهم، ويستغلون ضعف أهل الحق لقلتهم.
ولكن قدرة الله فوق كل شيء، والله غالب على أمره، فجعل العاقبة والنصر في النهاية للمتقين وأن الهزيمة للكافرين، وأعلمهم بالعذاب في الآخرة، وتلك سنة الله في خلقه مع كل الأمم والرسل.
ثم ضرب الله مثلا لأعمال الكافرين، بالرماد الذي عصفت به الرياح الهوج، فجعلته هباء منثورا، لعدم توافر شرطه وهو الإيمان.
التفسير والبيان:
هذا تطور طبيعي للحوار والصراع بين الرسل والأمم الكافرة، فبعد أن(13/225)
أفلست الأمم في مناقشتها، وهزمت حجتها أمام حجة الرسل وبيانهم، لم يجدوا سبيلا إلا تأزم الوضع والدخول في صدام وعمل عدواني، فتوعدوا رسلهم بأحد أمرين:
إما الطرد والإخراج والنفي من البلاد، وإما العودة إلى ملتهم وشرعهم الموروث عن الآباء والأجداد، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف 7/ 88] وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 16/ 76] وقال سبحانه في إلجاء النبي إلى الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.. [الأنفال 8/ 30] .
والسبب في هذا التهديد والوعيد: اغترار الكفار بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المؤمنين وضعف عددهم. وأما قولهم لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فلا يعني أن الرسل كانوا وثنيين، وإنما كانوا في ظاهر الأمر معهم، من غير إظهار مخالفة، فظن القوم أنهم كانوا على دينهم.
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ.. أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم: لنهلكن الظالمين المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، عقوبة لهم على تهديدهم وإنذارهم بالطرد والإبعاد.
وهذا تهديد ووعد من الله للمشركين في مقابل تهديدهم الرسل، وشتان بين التهديدين، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 170- 173] وقال تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] وآيات كثيرة أخرى في المعنى.(13/226)
ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي.. أي ذلك الموحى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم، أي ذلك الأمر حق، لمن خاف موقفي للحساب أو مقامه بين يدي، وخاف وعيدي بالعذاب والعقاب، فخشي لقائي، واتقاني بطاعتي، وتجنب سخطي وغضبي. وهذا هو سبب النصر والوحي المذكور.
وَاسْتَفْتَحُوا.. أي واستنصرت الرسل بالله على أممهم أو أقوامهم، أي على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال 8/ 19] والمراد أنهم سألوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم، كما قال تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف 7/ 89] والضمير يعود للرسل أو الأنبياء عليهم السلام.
وقيل: يعود الضمير على الكفار، أي واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق، والرسل على الباطل. وقيل: للفريقين، فإنهم كلهم سألوه أن ينصر المحق، ويهلك المبطل، كما قال تعالى في شأن استفتاح الأمم على أنفسها: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
ولكن كانت النتيجة أن النصر للمتقين والخيبة والخسارة والهلاك للمشركين، فقال سبحانه: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي وخسر وهلك كل متكبر متعاظم عن طاعة الله، معاند للحق، منحرف عنه، كقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ [ق 50/ 24- 26] .
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي أمام هذا الجبار العنيد جهنم له بالمرصاد تنتظره، كما قال تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف 18/ 79] أي أمامهم.(13/227)
وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ أي ليس له في النار شراب إلا ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من ماء مختلط بالقيح والدم، كما قال تعالى: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 57- 58] وهذا أي الحميم حار في غاية الحرارة، وهذا أي الغساق بارد في غاية البرد والنتن.
يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي يتحساه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يزدرده، لكراهته، وسوء طعمه ولونه وريحه، مما يدل على التألم حين ابتلاعه، كما قال تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد 47/ 15] وقال:
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف 18/ 29] .
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ.. أي وتأتيه أسباب الموت من الشدائد وألوان العذاب من كل جهة، ولكنه لا يموت، كما قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36] .
وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ، أي مؤلم صعب شديد، أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر، وهو دائم غير منقطع، كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات 38/ 64- 68] وقال عز وجل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان 44/ 43- 50] وقال: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة 56/ 41- 44] . وقال تعالى: هذا وَإِنَّ(13/228)
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ، هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ
[ص 38/ 55- 58] .
وبالرغم مما سيلاقيه الكفار من العذاب في نار جهنم، فإنهم يأسفون على أعمالهم الصالحة في الدنيا التي ضاعت هدرا، ولم تنفعهم في الآخرة، فضرب الله المثل لأعمالهم فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ...
أي مثل أعمالهم الصالحة كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين، يوم القيامة، إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى، كمثل الرماد الذي اشتدت به الريح العاصفة، في يوم عاصف أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد، في هذا اليوم، ذلك هو الضلال البعيد، أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة، فهو مغرق في البعد عن الحق، حتى فقدوا ثوابه، لفقدهم شرط قبوله وهو الإيمان.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] وقوله: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَهْلَكَتْهُ، وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[آل عمران 3/ 117] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلتنا الآيات على الفوائد التالية:
1- لا قيمة لتهديد الكفار رسلهم بالطرد من البلاد أو الإكراه على العودة إلى الملة القديمة، أمام تهديد الله، فالأول يتبدد، والثاني يتحقق، وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده.
2- استحقاق النصر على الأعداء منوط بالخوف من جلال الله وهيبته(13/229)
وموقفه للحساب في الآخرة، وخشيته من عذابه وبأسه ونقمته.
3- سواء استفتح الرسل أو الكفار أو الفريقان، أي طلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم، فإن النصر في النهاية للمتقين والرسل لأنهم المؤمنون حق الإيمان بالله ربهم الذي يطلبون منه النصر، وتكون الخيبة والخسارة والهلاك للكافرين المتجبرين المتعاظمين عن طاعة الله، المعاندين للحق، والمجانبين له لأنهم كفروا بالله، وتنكروا لطاعة الله، وانحازوا عن منهج الحق وسبيله.
4- وكما يكون الهلاك للكافرين في الدنيا، يكون أمامهم العذاب في نار جهنم تنتظرهم، فمن بعد الهلاك في الدنيا، يأتي أيضا العذاب في الآخرة.
5- ماء أهل جهنم هو صديد أهل النار الذي يسيل من أجسامهم من القيح والدم، والكافر يتحساه جرعة بعد جرعة، لا مرة واحدة، لمرارته وحرارته، ويؤلم إساغته، فهو لا يكاد يسيغه، ولكن تحصل الإساغة بصعوبة، لقوله تعالى: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج 22/ 20- 21] .
وتأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدّامه وخلفه، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] .
ومن أمامه عذاب شديد متواصل الآلام من غير فتور.
هذه أوصاف عذاب الكفار، في الظاهر والباطن، أولها- مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ثانيها- وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وثالثها- وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ورابعها- وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ.(13/230)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
6- لا جدوى ولا فائدة في الآخرة لأعمال الكفار الطيبة التي عملوها في الدنيا، مثل إطعام الطعام، وإغاثة الملهوف، وفعل المعروف، والصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، ولا ثواب على عمل البر في الدنيا لإحباطه بالكفر، وذلك هو الخسران الكبير.
فقد ضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار، في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف: شدة الريح، وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى، فلم يتوافر فيها أساس القبول وهو الإيمان بالله وحده لا شريك له.
دليل وحدانية الله ووجوده وقدرته على معاد الأبدان
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
البلاغة:
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر أي تعلم يا مخاطب، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته، وهو استفهام تقرير، والرؤية هنا: رؤية القلب لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؟ بِالْحَقِّ متعلق بخلق، أي بالحكمة والوجه الذي يحق أن يخلق عليه يُذْهِبْكُمْ يعدمكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بدلكم أي يخلق خلقا آخر مكانكم، وهو مرتب على كونه خالقا للسموات والأرض، استدلالا به عليه، فإن من خلق أصولهم، ثم كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع، قادر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع ذلك(13/231)
عليه، كما قال: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بممتنع أو متعسر، فإنه قادر لذاته، لا اختصاص ل بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد، رجاء لثوابه، وخوفا من عقابه يوم الجزاء.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن أعمال الكفار تصير باطلة ضائعة، بيّن أن الإبطال والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية، فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك، وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لحكمة وصواب؟!
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات، في ارتفاعها واتساعها وعظمتها، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد، وصحارى وقفار، وبحار وأشجار، ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها.
أَلَمْ تَرَ.. ألم تعلم أيها المخاطب أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ومن قدر على خلقهما على هذا النحو البديع، فهو قادر على إفنائكم إذا خالفتم أوامره، والإتيان بخلق جديد سواكم على غير صفتكم، وما ذلك بممتنع أو متعذر عليه، بل هو سهل عليه.
ونظير الآية كثير في القرآن منها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] .(13/232)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
ومنها: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس 36/ 77- 83] .
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية للاستدلال بها على قدرته تعالى، فمن خلق السموات والأرض على ما يوافق الحكمة والصواب، قادر على إعادة الخلق بعد الموت، فالله هو القادر على الإفناء، كما هو قادر على إيجاد الأشياء، فلا تعصوه، فإنكم إن عصيتموه يعدمكم، ويأت بخلق جديد أفضل وأطوع منكم، إذ لو كانوا مثل الأولين، فلا فائدة في الإبدال، وما ذلك على الله بمنيع متعذر.
والمقصود أن الكفار أغرقوا في الكفر بالله، مع قيام الأدلة على قدرته وحكمته تعالى، وأنه الحقيق بالطاعة، الذي يرجى ثوابه ويخاف عقابه في دار الجزاء.
الحوار بين الأشقياء يوم العذاب والمناظرة بين الشيطان وأتباعه وظفر السعداء بالجنة
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 23]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)(13/233)
الإعراب:
بِمُصْرِخِيَّ فتحت الياء لإدغام ياء الجمع في ياء الإضافة، بعد حذف نون الإضافة، على لغة من يفتحها، وبقيت الفتحة على حالها، أو أن فتحها لالتقاء الساكنين على لغة من أسكنها، فياء الإضافة فيها لغتان: الفتح والإسكان. وعلى قراءة كسر الياء فهو عدول إلى الأصل، وهو الكسر، ليكون مطابقا لكسر همزة: إِنِّي كَفَرْتُ ...
أَنْ دَعَوْتُكُمْ أن وصلتها: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. بِما أَشْرَكْتُمُونِ ما: مصدرية أي بإشراككم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا جملة فعلية في موضع نصب صفة جنات. خالِدِينَ حال من الَّذِينَ.
وتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ وهي حال بقدرة، أو حال من الضمير في خالِدِينَ فلا تكون حالا مقدرة. أو في موضع نصب على لوصف لجنات.(13/234)
والهاء والميم في تَحِيَّتُهُمْ إما تأويل فاعل، أضيف المصدر إليه، أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، وإما في موضع مفعول لم يسم فاعله (نائب فاعل) أي يحيّون بالسلام، على معنى:
تحيّيهم الملائكة بالسلام.
البلاغة:
فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ طباق السلب.
جَزِعْنا وصَبَرْنا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَبَرَزُوا أي الخلائق، أي ظهروا بالبراز: وهي الأرض المتسعة، أي مجتمع الناس في ذلك اليوم، ومنه امرأة برزة أي تظهر للرجال، والتعبير فيه وفيما بعده بالماضي لتحقق وقوعه.
الضُّعَفاءُ الأتباع، أي ضعاف الرأي والفكر. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا المتبوعين، وهم الرؤساء الأقوياء الذين استنفروهم. تَبَعاً جمع تابع. مُغْنُونَ دافعون. مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: للتبعيض. لَهَدَيْناكُمْ لدعوناكم إلى الهدى. ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ من: زائدة، ومحيص: ملجأ ومنجى ومهرب.
الشَّيْطانُ إبليس. لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لما أحكم وفرغ منه، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وعدا من حقه أن ينجز، أو وعدا أنجزه، وهو الوعد بالبعث والجزاء، فصدقكم الوعد. وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل وهو ألا بعث ولا حساب.
فَأَخْلَفْتُكُمْ قدر إبليس تبين خلف وعده كالإخلاف منه. مِنْ سُلْطانٍ من: زائدة، والسلطان: القوة والقدرة والتسلط، فألجئكم على الكفر والمعاصي، واقهركم على متابعتي. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ لكن. فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أسرعتم إجابتي. وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ على إجابتي وإطاعتي، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم.
بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم، والمستصرخ: المستغيث. بِما أَشْرَكْتُمُونِ بإشراككم إياي مع الله.
مِنْ قَبْلُ في الدنيا. إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين، وهو قول الله تعالى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. تَحِيَّتُهُمْ فِيها من الله ومن الملائكة وفيما بينهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ألوان عذاب الكفار في الآخرة، ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة، ذكر هنا مدى خجلهم أمام أتباعهم وافتضاحهم(13/235)
عندهم، وأبان هذا بصورة محاورة بين السادة والأتباع، ومناظرة بين الشيطان وأتباعه الإنس، ثم ذكر جزاء المؤمنين السعداء وظفرهم بجنان الخلد.
التفسير والبيان:
وبرزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار في موقف الحساب، واجتمعوا له في مكان متسع لا ساتر فيه، خلافا لحال الدنيا حيث يظن الكفار والعصاة أن الله لا يراهم.
فقال الضعفاء، أي الأتباع للقادة والسادة والكبراء في العقل والتفكير، أولئك القادة الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع الرسل: إنا كنا تابعين لكم، مقلدين في الأعمال، نأتمر بأمركم ونفعل فعلكم، فكفرنا بالله، وكذبنا الرسل متابعة لكم، فهل أنتم تدفعون عنا اليوم بعض عذاب الله، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا.
فأجابهم القادة المتبوعون متنصلين من الدفاع عنهم: لو هدانا الله لدينه الحق، ووفقنا لاتّباعه، وأرشدنا إلى الخير، لهديناكم وأرشدناكم إلى سلوك الطريق الأقوم، ولكنه لم يهدنا، فحقت كلمة العذاب على الكافرين.
ثم أعلنوا يأسهم من النجاة فقالوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا.. أي ليس لنا خلاص ولا منجى مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه، أي أن الجزع والصبر سيّان، فلا نجاة لنا من عذاب الله تعالى.
قال ابن كثير: والظاهر أن هذه المراجعة (أي الحوار) في النار، بعد دخولهم فيها «1» ، كما قال تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 528(13/236)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [غافر 40/ 47- 48] وقال تعالى: قالَ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً، قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
[الأعراف 7/ 38- 39] وقال تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 67- 68] .
ثم ذكر الله تعالى محاورة أخرى بين الشيطان وأتباعه من الإنس، فقال:
وَقالَ الشَّيْطانُ.. أي وقال إبليس لأتباعه الإنس، بعد ما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات: إن الله وعدكم بالبعث والجزاء وعد الحق على ألسنة رسله، وكان وعدا حقا وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم ألا بعث ولا جزاء، ولا جنة ولا نار، فأخلفتكم موعدي، إذ لم أقل إلا باطلا من القول وزورا، كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء 4/ 120] وقد اتبعتموني وتركتم وعد ربكم.
وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي وما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة، ولا قوة ولا تسلط فيما وعدتكم به.
إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ.. أي ولكن حينما دعوتكم استجبتم لي، بمجرد ذلك.
فَلا تَلُومُونِي.. أي فلا توجهوا اللوم إلي اليوم، ولوموا أنفسكم لأنكم أسرعتم إلى إجابتي باختياركم، فإن الذنب ذنبكم لكونكم لم تستمعوا إلى دعاء ربكم، وقد دعاكم دعوة الحق بالحجج والبينات، فخالفتم البراهين الداعية لكم إلى الصواب.(13/237)
ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ.. ما أنا بمغيثكم ولا نافعكم ولا منقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي ولا نافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ [البقرة 2/ 166] .
إِنِّي كَفَرْتُ.. إني أنكرت أو جحدت اليوم بإشراككم إياي من قبل أي في الدنيا مع الله تعالى في الطاعة، كما قال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر 35/ 14] والمراد بذلك تبرؤه من الشرك وإنكاره له، كما قال تعالى: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة 60/ 4] وقال سبحانه. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 82] .
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذا في الأظهر من قول الله عز وجل، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس المحكي في القرآن قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة، والمعنى: إن الكافرين في إعراضهم عن الحق، واتباعهم الباطل، لهم عذاب مؤلم.
والمقصود تنبيه الناس إلى تبرؤ الشيطان من وساوسه في الدنيا، وحضهم على الاستعداد ليوم الحساب، وتذكر أهوال الموقف.
وبعد أن أبان الله تعالى أحوال الأشقياء، أوضح أحوال السعداء، وكلا الفريقين كانوا قد برزوا للحساب والجزاء بين يدي الله، فقال: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ...
أي ويدخل الملائكة الذين صدقوا بالله ورسوله، وأقروا بوحدانيته، واتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، جنات (بساتين) فيها الأنهار الجارية في كل(13/238)
مكان، وهم ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون منها، وذلك بإذن ربهم، أي بتوفيقه وفضله وأمره.
تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، ويحيون بعضهم بعضا بالسلام، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر 39/ 73] وقال سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد 13/ 23- 24] وقال عز وجل: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان 25/ 75] ويحييهم ربهم بالسلام: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس 36/ 58] وتحية بعضهم كما قال تعالى: دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس 10/ 10] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- العتاب والنزاع والخصام قائم بين أهل النار، فهذه محاورة بين القادة والأتباع تدل على عجز السادة عن تحقيق أي شيء لأتباعهم الذين اتبعوهم في الدنيا، فهم لا يستطيعون تخليص أنفسهم من عذاب الله، ولا تحقيق أي نفع لذواتهم، فبالأولى لا يتمكنون من نفع غيرهم، والكل لا يجدون مهربا ولا ملجأ من عذاب الله وعقابه على الكفر والعصيان، وذلك سواء صبروا على العذاب أو جزعوا وضجروا.
2- إقرار السادة بالضلال، فدعوا أتباعهم إلى الضلال، ولو هدوا وأرشدوا لأرشدوا غيرهم، وهذا كذب منهم، كما قال تعالى حكاية عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة 58/ 18] .
3- أعقب الله المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس، بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس، وموضوع المناظرتين(13/239)
واحد: وهو تبرؤ المتبوع من التابع، ولكن الشيطان كان أصدق في هذه المحاورة من الإنسان لأنه أعلن أن الله وعد الناس وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال، فوفى لهم بما وعدهم، وأما هو فوعد الناس بخلاف ذلك وأنه لا بعث ولا جزاء، فأخلف الوعد.
4- قال الرازي عن آية إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي: هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس لأن الشيطان بيّن أنه ما أتى إلا بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال، لم يكن لوسوسته تأثير البتة، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس «1» .
ومن المعلوم أن الملائكة والشياطين هي أجسام لطيفة، والله تعالى ركبها تركيبا عجيبا، ولا يستبعد أن تنفذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة أي في بنية الإنسان.
5- للظالمين عذاب أليم، لا مرد له، جزاء ظلمهم، أي كفرهم، فالعصيان والكفر باختيارهم وكسبهم.
6- للمؤمنين المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار، بأمر ربهم، ومشيئته وتيسيره، يحيون فيها بالسلام من الله تعالى، ومن الملائكة، وتكون تحية بعضهم بعضا هي السلام.
7- كانت مواعيد الشيطان باطلة، ووعد الله هو الحق، واتبع الناس قول الشيطان بلا حجة ولا برهان، وتبرأ الشيطان منهم ومن عملهم، فليس لهم لوم عليه، إنما عليهم اللوم، وأيأسهم بأنه لا نصر عنده ولا عون ولا إغاثة، بل هو محتاج إلى من ينصره، وكفر بشركهم له في الدنيا، وهذا تنبيه لهم مما سيلقونه من العذاب.
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 111 [.....](13/240)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
مثال الكلمة الطيبة من السعداء ومثال الكلمة الخبيثة من الأشقياء
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
الإعراب:
كَلِمَةً طَيِّبَةً بدل من مَثَلًا أو تفسير له، وكَشَجَرَةٍ صفة للكلمة أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي كشجرة.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا تعجيب من حال الفريقين: السعداء والأشقياء.
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ في كل تشبيه مرسل مجمل.
أَصْلُها.. وَفَرْعُها طَيِّبَةً وخَبِيثَةٍ في كل طباق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي ألم تنظر كيف اعتمده ووضعه، والمثل: قول يشبّه بقول(13/241)
بينهما مشابهة في شيء محسوس، للتوضيح والبيان كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، والكلمة الطيبة: هي لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن، والشجرة الطيبة هي النخلة ثابِتٌ في الأرض بالعروق وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي أعلاها في جهة العلو تُؤْتِي تعطي أُكُلَها ثمرها كُلَّ حِينٍ كل وقت أقّته الله تعالى لإثمارها، أي أن كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعمله يصعد إلى السماء، ويناله ثوابه كل وقت.
بِإِذْنِ رَبِّها بإرادته وَيَضْرِبُ ويبين لأن في هذا التشبيه زيادة إفهام وتذكير لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يتعظون فيؤمنوا كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ هي كلمة الكفر كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظل اجْتُثَّتْ استوصلت ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزلّون إذا افتتنوا في دينهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام وَفِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في موقف الحساب وعند رؤيتهم أهوال الحشر، وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر، فحينما يسألهم الملكان عن ربهم ودينهم ونبيهم، يجيبون بالصواب، كما في حديث الشيخين. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الكفار الذين ظلموا أنفسهم، فلا يهتدون للحق والجواب الصواب، بل يقولون: لا ندري، كما جاء في الحديث.
وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال الأشقياء وما آل إليهم أمرهم من العذاب في نار جهنم، وأحوال السعداء وإدراكهم الفوز عند ربهم، ذكر مثلا يبين حال الفريقين، وسبب التفرقة بينهما، بتشبيه المعنويات بالحسيات، لترسيخ المعاني في الأذهان، كما هو الشأن في القرآن.
التفسير والبيان:
ألم تعلم أيها المخاطب كيف اعتمد الله مثلا ووضعه في موضعه المناسب له وهو تشبيه الكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد والإسلام ودعوة القرآن، بالشجرة الطيبة وهي النخلة الموصوفة بصفات أربع هي:
1- كون تلك الشجرة طيبة المنظر والشكل، وطيبة الرائحة، وطيبة الثمرة، وطيبة المنفعة أي يستلذ بأكلها ويعظم الانتفاع بها.(13/242)
2- أصلها ثابت، أي راسخ باق متمكّن في الأرض لا ينقلع.
3- وفرعها في السماء، أي كاملة الحال لارتفاع أغصانها إلى الأعلى، وبعدها عن عفونات الأرض، فكانت ثمراتها نقية طيبة خالية من جميع الشوائب.
4- تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي تثمر كل وقت وقّته الله لإثمارها بإرادة ربها وإيجاده وتيسيره. ولما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة، كان ذلك في حكم الحين.
روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول: «لا إله إلا الله»
وأن الشجرة الطيبة هي النخلة، وكذلك
روي عن ابن مسعود أنها النخلة، وهو مروي عن أنس وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وحديث ابن عمر رواه البخاري، قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم- أو كالرجل المسلم- لا يتحاتّ ورقها صيفا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي النخلة» .
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.. أي وهكذا يضرب الله الأمثال للناس فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وعظة وتصوير للمعاني لأن تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة يرسّخ المعاني، ويزيل الخفاء والشك فيها، ويجعلها كالأشياء الملموسة. وفي هذا لفت نظر يدعو الإنسان إلى التأمل في عظم هذا المثل، والتدبر فيه، وفهم المقصود منه.
ثم ذكر الله تعالى مثال حال كلمة الكفر، فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ..
أي وصفة الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر أو الشرك كصفة الشجرة الخبيثة وهي شجرة الحنظل ونحوه، كما قال أنس موقوفا فيما روى أبو بكر البزار،
ومرفوعا(13/243)
فيما روى ابن أبي حاتم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ: هي الحنظلة
، ووصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلاث هي:
1- أنها خبيثة الطعم أو لما فيها من المضار، أو الرائحة وهي الحنظلة، وقيل: الثوم، وقيل: الشوك.
2- اجتثت من فوق الأرض، أي اقتلعت واستؤصلت، وليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
3- ما لها من قرار، أي ليس لها استقرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية.
وهذه صفات في غاية الكمال، فالخبث وصف للمضار، والاجتثاث وعدم القرار وصف للخلو عن المنافع.
وبالموازنة يتبين الفرق بين كلمتي الحق والباطل، فكلمة الحق وهي كلمة التوحيد والإيمان قوية ثابتة نافعة للناس، وكلمة الباطل وهي كلمة الشرك أو الكفر ضعيفة ضارة ليس فيها استقرار ولا ثبات.
وأصحاب الكلمة الأولى هم المؤمنون، وأولو الكلمة الثانية هم الكافرون والعصاة.
ثم أخبر الله تعالى عن فوز أهل الكلمة الأولى بمرادهم في الدنيا والآخرة، فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ.. أي إن كرامة الله وثوابه ثابتان للمؤمنين في الآخرة بالقول الذي كان يصدر عنهم في الدنيا، وهو الإيمان المستقر بالحجة والبرهان في قلوبهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى.
أو أن المراد أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا بعدم تعرضهم للفتنة في دينهم(13/244)
بالرغم من التعذيب كبلال وغيره من الصحابة، فتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم، لم يزلّوا، كما ثبّت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد.
وتثبيتهم في الآخرة: أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم في موقف الحساب، لم يتلعثموا، ولم تحيرهم أهوال الحشر.
وقيل وهو القول المشهور: معناه الثبات عند سؤال القبر، والمراد بالحياة الدنيا: مدة الحياة، والآخرة: يوم القيامة والحساب،
روى البخاري ومسلم وأحمد وبقية الجماعة كلهم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وهذا مروي أيضا عن أبي هريرة.
وروى ابن أبي شيبة الحديث المتقدم نفسه عن البراء أنه قال في الآية:
التثبيت في الدنيا: إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟
قال: ربي الله، وقالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وقالا: وما نبيك؟
قال: نبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» .
قال الرازي: القول المشهور: أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 122(13/245)
ثم ذكر الله تعالى مصير الكافرين بقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي ويمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه، أو يتركهم وضلالهم لعدم توافر استعدادهم للإيمان، وانزلاقهم في الأهواء والشهوات.
أو يجعلهم يترددون في الجواب ويتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم عن دينهم ومعتقدهم روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الكافر إذا حضره الموت، تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره، أقعد، فقيل له: من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا، وأنساه الله تعالى ذكر ربه، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليك؟
لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا، فذلك قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ.
ثم أبان الله تعالى مشيئته المطلقة في الفريقين فقال: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي إن شاء هدى، وإن شاء أضل. وإضلالهم في الدنيا: أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزلّ أقدامهم أول شيء، وهم في الآخرة أضل وأزلّ.
والضلال لسوء الاستعداد، والميل مع أهواء النفس.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الكلمة الطيبة وهي الإيمان أو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أو المؤمن نفسه: هي الثابتة الخالدة، الطيبة النافعة.
روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة: الإيمان عروقها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، التأذي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكفّ عن محارم الله ثمرتها» .
والشجرة الطيبة في الأصح: هي النخلة،
ذكر الغزنوي والطبراني فيما رواه ابن عمر عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن كالنخلة، كل شيء منها ينتفع به» .(13/246)
2- الأمثال والتشبيهات، وبخاصة تشبيه المعقول بالمحسوس، فيها ذكرى وعظة وعبرة، وإفهام وإيقاظ للمشاعر والضمائر، ولفت الأنظار، وشد الانتباه إليها.
3- الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر لا قرار لها ولا ثبات، ولا جدوى ولا نفع، ولا تعتمد على حجة مقبولة أو برهان صحيح. والشجرة الخبيثة في الأصح: شجرة الحنظل، كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وكذلك الكافر لا حجة له، ولا ثبات، ولا خير فيه، وليس له أصل يعمل عليه.
4- المقصود من الآية الدعوة إلى الإيمان، ورفض الشرك.
5- يثبّت الله المؤمنين على الحق والإيمان في الدنيا، فلا يتراجعون عنه، ويثبّت نفوسهم، فيلهمها الصواب والنطق بالإيمان في القبر لأن الموتى ما يزالون في الدنيا إلى أن يبعثوا، وكذلك يلهمها الصواب في الآخرة عند الحساب.
6- يضلّ الله الظالمين عن حجتهم في قبورهم، كما ضلّوا في الدنيا بكفرهم، فلا يلقّنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري فيقول الملك:
لا دريت ولا تليت، وعند ذلك يضرب بالمقامع (سياط من حديد، رؤوسها معوجة) على ما ثبت في الأخبار.
7- يفعل الله ما يشاء من عذاب قوم وإضلال قوم، وقيل: إن سبب نزول هذه الآية
ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت، قال عمر: يا رسول الله، أيكون معي عقلي؟ قال: نعم، قال:
كفيت إذن فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..(13/247)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
كفران النعمة واتخاذ الأنداد وتهديد الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا وأمر المؤمنين بإقامة الصلاة والإنفاق
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
الإعراب:
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قَوْمَهُمْ: مفعول أول، ودارَ الْبَوارِ: مفعول ثان.
جَهَنَّمَ: بدل من دارَ الْبَوارِ وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والتأنيث.
يَصْلَوْنَها: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من قَوْمَهُمْ أو من جَهَنَّمَ أو منهما.
يُقِيمُوا الصَّلاةَ جواب الأمر وهو أقيموا وتقديره: قل لهم: أقيموا يقيموا. ويجوز جزمه بلام مقدرة، تقديره: ليقيموا، ثم حذف الأمر لتقدم لفظ الأمر. ويجوز كونه مجزوما على أنه جواب قُلْ وهذا ضعيف لأن الأمر للنبي بالقول ليس فيه أمر لهم بإقامة الصلاة.
سِرًّا وَعَلانِيَةً منصوبان على المصدر، أي إنفاق سر وعلانية، أو على الحال، أي ذوي سر وعلانية، أو على الظرف، أي وقتي سر وعلانية.
البلاغة:
سِرًّا، وَعَلانِيَةً بينهما طباق.(13/248)
الْبَوارِ.. الْقَرارُ.. النَّارِ سجع مرصّع.
قُلْ: تَمَتَّعُوا تهديد ووعيد.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمته كفرا، بأن وضعوه مكانه، وهم كفار قريش وَأَحَلُّوا أنزلوا قَوْمَهُمْ الذين شايعوهم في الكفر، بإضلالهم إياهم دارَ الْبَوارِ دار الهلاك بحملهم على الكفر، والقوم البور: هم الهالكون كقوله تعالى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح 48/ 12] يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرها وَبِئْسَ الْقَرارُ أي وبئس المقر جهنم أَنْداداً شركاء، جمع ندّ: وهو المثل والشريك والشبيه لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وهو التوحيد أو دين الإسلام، وليس الضلال والإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد، لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض تَمَتَّعُوا بدنياكم قليلا. مَصِيرَكُمْ مرجعكم.
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. ومقول قُلْ محذوف، دل عليه جوابه، أي قل لعبادي الذي آمنوا: أقيموا يقيموا الصلاة سِرًّا وَعَلانِيَةً أي وقت السر والعلانية أو ذوي سر وعلانية، أو إنفاق سر وعلانية لا بَيْعٌ فِيهِ لا فداء، بأن يبيع ما يفدي به نفسه وَلا خِلالٌ مخالة، أي صداقة تنفع، وذلك اليوم هو يوم القيامة.
سبب النزول: نزول الآية (28) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا.. قال ابن عباس: هؤلاء هم كفار مكة.
وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا في المبدّلين: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر- أو فكفيتموهم
- وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا.. وهم أهل مكة، حيث أسكنهم الله تعالى حرمة الآمن، وجعل عيشهم في السعة، وبعث فيهم محمدا(13/249)
صلّى الله عليه وسلّم، فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وأبان أسباب وقوعهم في سوء المصير في جهنم، ثم أمرهم على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع في نعيم الدنيا، ثم أمر المؤمنين بمجاهدة النفس والهوى بالصلاة والإنفاق.
التفسير والبيان:
يدعو الله تعالى إلى التعجب من أمر كفار مكة وأمثالهم الذين وصفهم الله بصفتين هما السبب الأول في دخولهم نار جهنم وهي:
1- بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمة الله كفرا، فإن شكر النعمة واجب عقلا وشرعا، لكنهم خرجوا عن هذا الواجب، وجعلوا بدل الشكر كفرا وجحودا. وهم كفار أهل مكة، وهو المشهور الصحيح عن ابن عباس في هذه الآية، قال ابن كثير: وإن كان المعنى يعم جميع الكفار، فإن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها، دخل الجنة، ومن ردّها وكفرها دخل النار.
2- وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي وأنزلوا قومهم الذين شايعوهم في الكفر، واتبعوهم في الضلال، دار الهلاك الذي لا هلاك بعده.
ودار البوار هي جهنم مقر العذاب التي يدخلونها ويقاسون حرها، وبئس المقر جهنم.
والسبب الثاني: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي واتخذوا لله شركاء عبدوهم معه، ودعوا الناس إلى ذلك، فقالوا في الحج مثلا: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
والسبب الثالث: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي اتخذوا الأنداد أو الشركاء لتكون عاقبة أمرهم إضلال من شايعهم واتبعهم، وصرفهم عن دين الله، وإبقاءهم(13/250)
في مرتع الكفر. فاللام في لِيُضِلُّوا لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ولأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم، أي أن المقصود لا يحصل إلا في آخر المراتب.
ثم قال تعالى مهددا ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: تَمَتَّعُوا..
أي تمتعوا بما قدرتم عليه من نعيم الدنيا، فإن جزاءكم ومرجعكم وموئلكم إلى النار، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] وقال سبحانه: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس 10/ 70] . وسمي ذلك تمتعا لأنهم تلذذوا به، ولأنه بالنسبة إلى عقاب الآخرة تمتع ونعيم.
ونظير الآية في أمر التهديد: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقوله:
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا، إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر 39/ 8] .
وبعد تهديد الكفار على تمتعهم في الدنيا، أمر الله نبيه بأن يبلّغ الناس ويأمرهم بإقامة الصلاة التي هي عبادة بدنية، والإنفاق في سبيله وهو عبادة مالية، فقال: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يأمر الله تعالى عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله، بأداء الزكوات، والنفقة على القرابات، والإحسان إلى الأباعد.
وإقامة الصلاة: أداؤها مستكملة أركانها وشروطها، مع المحافظة على وقتها، والخشوع لله في جميع أجزائها.
ويكون الإنفاق مما رزق في السرّ (أي في الخفية) والعلانية وهي الجهر، قال البيضاوي: والأحب إعلان الواجب (أي في النفقة) وإخفاء المتطوع به (أي المتبرع أو المتصدق به) .(13/251)
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ.. أي وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم، من قبل أن يأتي يوم القيامة، الذي لا بيع فيه، أي لا يقبل من أحد فيه فدية، بأن تباع نفسه، ولا تفيد فيه صداقة، للصفح والعفو والتخلص من العقاب، بل هناك العدل والقسط، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد 57/ 15] وقال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة 2/ 123] وقال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ، وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآية بيان الفرق بين فريقي الكفار والمؤمنين، أما الكافرون فاستحقوا دخول دار البوار: جهنم لأسباب ثلاثة: هي تبديلهم شكر نعمة الله عليهم كفرانا وجحودا، واتخاذ الأنداد أي الشركاء وهي الأصنام التي عبدوها، وإضلالهم الناس عن دين الله القويم، بمعنى أن عاقبتهم إلى الإضلال والضلال، ومردهم ومرجعهم إلى عذاب جهنم.
وأما المؤمنون فلهم الجنة بسبب إقامة الصلوات الخمس المفروضة، والإنفاق في سبيل الله، بأداء الزكاة الواجبة، والتطوع بالصدقات المستحبة، بإعلان الواجب، وإخفاء التطوع، كما قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة 2/ 271] .
ودلت الآية على أنه لا ينفع يوم القيامة فداء ولا صداقة، وأن الطاعات الأساسية ثلاث: الإيمان بالله تعالى، وشغل النفس بخدمة المعبود في الصلاة،(13/252)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
وصرف المال وبذله في طاعة الله تعالى، ليجد الإنسان ثواب ذلك الإنفاق في يوم لا مبايعة فيه ولا مخالّة، إلا المخالة التي يشترك فيها الأخلاء في عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] .
أدلة وجود الله والتوحيد في الكون والأنفس
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
الإعراب:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مبتدأ وخبر. رِزْقاً منصوب على المصدرية أو مفعول:
فَأَخْرَجَ ومِنَ الثَّمَراتِ بيان له، وحال منه.
دائِبَيْنِ حال من الشمس والقمر، وذكّر تغليبا للقمر على الشمس لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث، غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث، لأن التذكير هو الأصل.
مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بالإضافة، على تقدير مفعول محذوف، أي وآتاكم سؤلكم من كل ما سألتموه، مثل قوله تعالى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 27/ 16] أي أوتينا من كل شيء شيئا. ومن قرأ بالتنوين مِنْ كُلِّ كان المفعول ملفوظا به، أي وآتاكم ما سألتموه من كل شيء.
وما هاهنا: نكرة موصوفة، وسَأَلْتُمُوهُ: جملة فعلية صفة لها.(13/253)
البلاغة:
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعّال.
المفردات اللغوية:
السَّماواتِ جمع سماء، ولا نعرف حقيقتها، ولكن كل ما علا الإنسان وأظله فهو سماء.
رِزْقاً لَكُمْ الرزق: كل ما ينتفع به، ويشمل المطعوم والملبوس. وَسَخَّرَ ذلل أو أعد ويسّر. الْفُلْكَ السفن. بِأَمْرِهِ بإذنه أو بمشيئته إلى حيث توجهتم. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ جعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم. دائِبَيْنِ دائمين في الحركة أو السير، والإنارة والإصلاح، لا يفتران. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان، فالليل للنوم والسكن فيه والنهار للمعاش وابتغاء الفضل. وَآتاكُمْ أعطاكم. ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الحال، على حسب مصالحكم.
نِعْمَتَ اللَّهِ إنعامه، وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. لا تُحْصُوها لا تطيقوا حصرها. إِنَّ الْإِنْسانَ الكافر. لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي كثير الظلم لنفسه بالمعصية وإغفال شكرها، وكثير الكفر أو الجحود لنعمة ربه.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أوصاف أحوال السعداء والأشقياء، أتبعه بالأدلة الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته ووحدانيته، ليدل على وجوب شكر الصانع الموجد لها، ويقرّع الكافرين الذين أعرضوا عن التفكر في تلك النعم.
التفسير والبيان:
يعدد الله تعالى في هذه الآيات نعمه على خلقه، ويشير إلى دلائل وجوده وقدرته، وهي عشرة أدلة:
1- خَلَقَ السَّماواتِ: الله هو الذي خلق السموات سقفا محفوظا، وزيّنها بزينة الكواكب.
2- وخلق الأرض فراشا وما فيها من المنافع الكثيرة لكم أيها الناس.(13/254)
3- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ: أي السحاب مطرا أحيا به الأرض بعد موتها، وأنبت به الشجر والزرع، وأخرج به ما يحتاجه الإنسان من الأرزاق للأكل والعيش، بواسطة الثمار والزروع المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، كقوله تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه 20/ 53] .
4- وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ: أي وذلل لكم السفن، بأن ألهمكم صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجري في البحر من بلد لآخر للركوب والحمل، بإذن الله ومشيئته.
5- وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ: أي فجر لكم ينابيع الأنهار، وشقّ الأرض من مسافة إلى مسافة، للشرب وسقي الزروع والأشجار والبهائم وغيرها من المنافع.
6، 7- وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ: أي ذللهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة، لا يفتران ليلا ولا نهارا لإصلاح حياة الإنسان والنبات وغيرهما كما قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 40] .
8، 9- وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ: أي جعلهما يتعاقبان، ويتعارضان، فمرة يطول الليل كما في الشتاء، ومرة يطول النهار كما في الصيف، ويقصر الآخر، وبالعكس، والنهار للسعي والكسب والمعاش وشؤون الدنيا، والليل للنوم والسبات والسكن فيه كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ(13/255)
اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[لقمان 31/ 29] وقال سبحانه: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص 28/ 73] .
10- وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي أعطاكم أيها البشر سؤلكم من كل ما شأنه أن يسأل، ويحتاج إليه، وينتفع به، سواء سألتموه أو لم تسألوه، أو أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا، والخطاب لجنس البشر لأن الله خلق لكم ما في الأرض جميعا، وترك استخراجها واختراع ما يكتشف منها لعقولكم بمقتضى تطور العقل البشري، وتقدم الحياة المدنية، وبالتدريج، وقد وصل الإنسان في القرن العشرين إلى قمة الاكتشاف والابتكار في مختلف المجالات، معتمدا على طاقات البخار والهواء والنفط والكهرباء والذرة وغيرها.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إن أردتم تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تطيقوا حصرها لكثرتها. والنعمة هنا قائمة مقام المصدر، بمعنى الإنعام، كالنفقة والإنفاق، ويدل ذلك على العموم لأن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.
والمقصود من الجملتين الأخيرتين: وَآتاكُمْ.. وَإِنْ تَعُدُّوا الإخبار عن عجز العباد عن تعداد النعم، فضلا عن القيام بشكرها.
فبعد أن ذكر الله تعالى تلك النعم العظيمة، أبان أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع ما لا يتأتى معه الإحصاء، بقوله: وَآتاكُمْ.. ثم ختم الكلام بقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا ليبين أنه آتى العباد من كل ما احتاجوا إليه، مما لا تصلح الأحوال والمعيشة إلا به. قال طلق بن حبيب رحمه الله تعالى: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفّي، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربنا»
وقال(13/256)
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها» .
إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي إن الإنسان يظلم النعمة بإغفال شكرها، شديد الكفران لها، والمراد بالإنسان هنا الجنس، فلا يراد به الواحد، بل يراد به الجمع، أي توجد فيه هذه الخلال، وهي الظلم والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها.
ويلاحظ أنه تعالى قال هنا: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل [18] : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ والفرق بين الخاتمتين: أن الكلام هنا مناسب لتعداد قبائح الإنسان من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، وأما في سورة النحل فيناسب ما ذكر في الآية من تعداد فضائل الله على الإنسان، ومنها اتصافه بالمغفرة والرحمة، تحريضا على الرجوع إليه «1» .
وقال الرازي عن الفرق بين الآيتين: كأنه تعالى يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة، فأنت الذي أخذتها، وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها، وهما كوني غفورا رحيما. والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم، أعلم عجزك وقصورك، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء «2» .
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 428- 429
(2) تفسير الرازي: 19/ 130- 131(13/257)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي:
1- لقد أقام الله تعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته وعلمه ووحدانيته، منها هذه الأدلة العشرة التي ذكرها في الآية من خلق السموات والأرض، وإنزال المطر من السحاب.. إلخ.
2- إن نعم الله تعالى على البشر لا تعد ولا تحصى لكثرتها، ولدقة إدراكها وخفائها أحيانا، كخزائن السموات والأرض، وعجائب تكوين الإنسان، وبخاصة دماغه وحواسه من سمع وبصر وملاحظة الصور، وغير ذلك من نعمة العافية، والإمداد بالرزق منذ كونه جنينا في بطن أمه، إلى حين ولادته وطفولته، إلى شبابه وكهولته وشيخوخته، وتقلّبه في أنحاء الأرض، إلى موته فلقاء ربه.
3- إن النعم على الإنسان من الله، فلم يبدل نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعان بها على الطاعة؟! إن من شأن الإنسان ظلم النعمة بإغفال شكرها، وكفرانها وجحودها. والإنسان: جنس، أراد به العموم، وقال بعض المفسرين: وأراد به الخصوص كأبي جهل وجميع الكفار.
دعاء إبراهيم عليه السلام مستقبل البيت الحرام
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)(13/258)
الإعراب:
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي المفعول محذوف، تقديره: أسكنت ناسا من ذريتي بواد.
لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ متعلق بأسكنت، وفصل بينهما بقوله: رَبَّنا لأن الفصل بالندا كثير في كلامهم.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي مقيمي الصلاة، فحذف الفعل لدلالة ما قبله عليه.
البلاغة:
تَبِعَنِي وعَصانِي نُخْفِي ونُعْلِنُ الْأَرْضِ والسَّماءِ بين كلّ طباق.
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تهوي: فيه استعارة لأن حقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض، كالهبوط، والمراد: تسرع إليهم شوقا وحبا من مكان بعيد، بعكس «تحنّ» فهو قد يكون من المقيم بالمكان.
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ عرّف البلد هنا، ونكّر في سورة البقرة اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً لأنه في البقرة كان دعاؤه قبل بنائها، فطلب أن تجعل بلدا وآمنا، وهنا كان بعد بنائها، فطلب أن تكون بلد أمن واستقرار.(13/259)
المفردات اللغوية:
هَذَا الْبَلَدَ بلد مكة آمِناً ذا أمن لمن فيها وَاجْنُبْنِي أبعدني. أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ عن أن نعبد. رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بعبادتهم لها، فلذلك سألت منك العصمة، واستعذت بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية.
فَمَنْ تَبِعَنِي على التوحيد فَإِنَّهُ مِنِّي من أهل ديني. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن عصاني دون الشرك، فإنك تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وقوله:
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه حين يؤمنوا لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر بعد إيمانه ما كان منه سابقا، لكنه عليه السلام استعمل هذه العبارة التي ظاهرها أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك، بسبب ما كان يأخذ به نفسه من القول الجميل، والنطق الحسن، وجميل الأدب.
مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعضها، وهو إسماعيل مع أمه هاجر. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي مكة، فإنها حجرية لا تنبت. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرمت التعرض له والتهاون به، أو لم يزل معظما تهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان، فلم يستول عليه، ولذلك سمي عتيقا، أي أعتق منه. أَفْئِدَةً قلوبا. مِنَ النَّاسِ بعضهم. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا وحبا، قال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس، لحنّت إليه فارس والروم والناس كلهم. والمقصود من الدعاء لإقامة الصلاة: توفيقهم لها، أو الدعاء لهم بإقامة الصلاة. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي بالإنبات في الوادي مع سكناهم. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة، فأجاب الله تعالى دعوته، فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية والشتوية في يوم واحد.
نُخْفِي نسرّ. مِنْ شَيْءٍ من: زائدة أو للاستغراق، وقول وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. يحتمل أن يكون من كلامه تعالى أو كلام إبراهيم. والمقصود من قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى، والرغبة في الإجابة. وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه.
وَهَبَ لِي أعطاني. عَلَى الْكِبَرِ مع الكبر، ولد إسماعيل ولأبيه تسع وتسعون سنة، وولد إسحاق ولأبيه مائة واثنتا عشرة سنة. اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مواظبا عليها. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيمها، وأتى بمن لإعلام الله تعالى له أن منهم كفارا.
وَلِوالِدَيَّ هذا قبل أن يتبين له عداوتهما لله عز وجل، وقيل: أسلمت أمه. وقيل:
أراد بهما آدم وحواء. يَقُومُ الْحِسابُ يثبت ويتحقق ويوجد.(13/260)
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى بالأدلة المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى أصلا، وطلب من رسوله أن يعجب من حال قومه الذين عبدوا الأصنام، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه دعا أن يجعل مكة بلد أمان واستقرار، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكن بعض ذريته عند البيت الحرام ليعبدوه وحده بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وأنه شكر الله تعالى على منحه بعد الكبر واليأس من الولد ولدين هما إسماعيل وإسحاق، وأنه طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يوجد الحساب.
والخلاصة: إن إبراهيم عليه السلام هو القدوة والنموذج لعبادة الله عز وجل، فليقتد به من ينتمون إليه.
التفسير والبيان:
هذا تذكير من الله تعالى واحتجاج على مشركي العرب بأن مكة البلد الحرام إنما وضعت منذ القدم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم عليه السلام تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن والاستقرار في ظلّ التوحيد، فقال: رَبِّ اجْعَلْ.. أي واذكر يا محمد لقومك حين دعا إبراهيم بقوله: ربي اجعل مكة بلدا آمنا أي ذا أمن واستقرار، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، وقد أجاب الله دعاءه، فجعله آمنا للإنسان والطير والنبات، فلا يقتل فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يعضد شجره، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [العنكبوت 29/ 67] وقال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] .
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.. أي وباعدني يا رب وبني من عبادة الأصنام، واجعل عبادتنا خالصة لك على منهج التوحيد. وهذا دليل على أنه ينبغي لكل(13/261)
داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. وقد استجاب الله دعاه في بعض ذريته دون بعض. وكان هذا الدعاء حين ترك هاجر وابنه إسماعيل، وهو رضيع، في مكة، قبل بناء البيت الحرام.
ثم ذكر أنه افتتن بعبادة الأصنام كثير من الناس فقال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ.. أي يا رب إن الأصنام كانت سببا في ضلال كثير من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن. وقد أضيف الإضلال إلى الأصنام لأنها كانت سببا في الضلال عند عبادتها، وذلك بطريق المجاز، فإن الأصنام جمادات لا تفعل.
فَمَنْ تَبِعَنِي.. أي فمن صدقني في ديني واعتقادي، وسار على منهجي في الإيمان بك وبتوحيدك الخالص، فإنه مني، أي على سنتي وطريقتي، مثل «من غشنا فليس منا» أي ليس على سنتنا، ومن عصاني فلم يقبل ما دعوته إليه من التوحيد لك وعدم الشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة.
وهذا صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة غير الكفار لأنه عليه السلام تبرأ في مقدمة هذه الآية عن الكفار بقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، ولأنه أيضا بقوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه، فإنه ليس منه، ولا يهتم بإصلاح شؤونه، ولأن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، فكان قوله: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ شفاعة في العصاة غير الكفار.
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم عليه السلام:
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ.. الآية، وقول عيسى عليه السلام:
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله تعالى: اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك(13/262)
أعلم، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله تعالى: اذهب إلى محمد، فقال له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك.
ثم دعا إبراهيم بدعاء ثان بعد بناء البيت الحرام لقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. وبعد الدعاء الأول الذي كان قبل بناء البيت، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ.. أي يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه، بواد لا زرع فيه وهو وادي مكة، عند بيتك المحرم أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إليه شوقا ومحبة، وتحن وتميل إلى رؤيته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختص به المسلمون.
وارزق ذريتي من أنواع الثمار الموجودة في سائر الأقطار، ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع، فاجعل لهم ثمارا يأكلونها.
وقد استجاب الله دعاءه، كما قال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص 28/ 57] وتحقق فضل الله ورحمته وكرمه، فبالرغم من أنه ليس في البلد الحرام: «مكة» شجرة مثمرة، فإنه تجبى إليها ثمرات ما حولها من البلاد، من أنواع ثمار الفصول الأربعة، استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي وارزقهم من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نعمتك، أو رجاء أن يشكروك بإقامة الصلاة وكثرة العبادة. وفيه إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو للاستعانة بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.(13/263)
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ.. أي أنت تعلم قصدي في دعائي، وهو التوصل إلى رضاك والإخلاص لك، وأنت أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وتعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، فلا حاجة لنا إلى الطلب، وإنما ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك.
وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. أي ولا يغيب عن الله شيء في الأرض أو في السماء، فكله مخلوق له، وهو عالم به. وهذا من كلام الله عز وجل، تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل 27/ 34] أو من كلام إبراهيم، يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة من شيء في كل مكان. ومِنْ للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم حمد إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. أي الحمد والشكر كله لله الذي أعطاني ومنحني الولد بعد الكبر والإياس من الولد، أعطاني ولدين هما إسماعيل وأمه هاجر وإسحاق وأمه سارّة. وقدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. وقيل: لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.
وقوله: عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذه السن أعظم إذ الظفر بالحاجة وقت اليأس من أعظم النعم، ولان الولادة في تلك السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم.
إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي إن الله ربي سامع دعائي وقولي، ومجيب من دعاه، وعالم بالمقصود، سواء صرحت به أو لم أصرح. وقال هذا لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض، لا على وجه الإيضاح والتصريح.(13/264)
ومناسبة قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي.. لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. هو لمراعاة الأدب الجم مع الله تعالى، فهو عليه السلام كان يريد أن يطلب من الله إعانة زوجه هاجر وابنه إسماعيل بعد موته، ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل ذكر أنك يا رب تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم نوّه بحال ذريته بعد موته، فكان هذا دعاء لزوجه وابنه بالخير والمعونة بعد موته، على سبيل الرمز والتعريض.
وذلك- كما قال الرازي- يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة أفضل من الدعاء،
قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه أنه قال فيما رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطيت السائلين» .
ثم دعا بما يكون دليلا على شكر الله فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ.. أي رب اجعلني مؤديا صلاتي على أتم وجه، محافظا عليها، مقيما لحدودها.
واجعل بعض ذريتي كذلك مقيمي الصّلاة لأن مِنْ للتبعيض.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عنوان الإيمان، ووسيلة تطهير النفوس من الفحشاء والمنكر.
رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي اقبل يا رب دعائي، أو عبادتي في رأي ابن عباس بدليل قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم 19/ 48] .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة وغيرهم عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي.. أي ربنا استرني وتجاوز عن ذنوبي وذنوب والدي وذنوب المؤمنين كلهم يوم يثبت ويوجد الحساب فتحاسب عبادك على أعمالهم(13/265)
الخيرة والشريرة. قال الحسن: إن أمه كانت مؤمنة، وأما استغفاره لأبيه فكان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين أنه عدو لله، تبرأ منه، كما قال عز وجل:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة 9/ 114] .
ودعاء إبراهيم لنفسه لا يلزم منه صدور ذنب منه، وإنما المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتماد على فضله وكرمه ورحمته.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- تعليمنا طلب نعمة الأمان من الله، فابتداء إبراهيم عليه السلام بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به.
2- مشروعية الدعاء للنفس والذرية والبلاد، بل ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.
3- كان دعاء إبراهيم مركّزا حول إخلاص التوحيد لله عز وجل، وتجنب عبادة الأصنام والأوثان، التي كانت سببا في إضلال كثير من الناس، فدعاؤه جمع بين طلب أن يرزق التوحيد، وبين طلب صونه عن الشرك، وتضمن أيضا طلب توفيقه لصالح الأعمال، وتخصيصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة.
4- الالتفاف حول النبي أو المصلح واجب لقول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.
5- طلب المغفرة للعصاة غير الكفار لأن الشرك أو الكفر لا يجوز(13/266)
بالإجماع طلب إسقاطه ومغفرته لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
6- إسكان إبراهيم زوجه وابنه إسماعيل عند البيت الحرام كان لإقامة الصلاة.
وقد روى البخاري عن ابن عباس ما مفاده أن إبراهيم ترك هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثّنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ.
وبعد أن نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، فجعلت تسعى سعي المجهود بين الصفا والمروة، سبع مرات،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» ثم سمعت وهي على المروة صوتا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو بجناحه، حتى ظهر الماء.
روى الدارقطني عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تشتفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه، وهي هزمة «1» جبريل، وسقيا الله إسماعيل» .
__________
(1) هزمة جبريل: أي ضربها برجله فنبع الماء.(13/267)
7- لا يجوز لأحد أن يفعل فعل إبراهيم في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة، اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله تعالى،
لقوله في الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى.
8- تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها لأن معنى رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه.
9- كان من بركة دعاء إبراهيم عليه السلام واستجابة الله له أن التعلق بالبيت الحرام وحبه والشوق إليه والحنين إلى زيارته متمكن في قلب كل مؤمن.
وقال ابن عباس في الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً: سأل أن يجعل الله الناس يهوون السّكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان، والحمد لله، وأول من سكنه جرهم.
وأن مكة أصبحت ملتقى الأثمار والفواكه الآتية من كل الأنحاء والأمصار، وأنبت الله لهم بالطائف سائر الأشجار.
10- احتج أهل السنة بآية وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ على أن أفعال العبد مخلوقة الله تعالى، وهذا يشمل ترك المنهيات المنصوص عليه في هذه الآية: وَاجْنُبْنِي وفعل المأمورات المنصوص عليه في آية: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرا على أن الكل من خلق الله تعالى.
11- دلّ القرآن على أنه تعالى أعطى إبراهيم عليه السلام ولدين هما إسماعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة، ولم يتعرض القرآن لسن إبراهيم في ذلك الوقت، وإنما يؤخذ من روايات التاريخ.(13/268)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
ما يدل على وجود القيامة وأوصافها أو تأخير عذاب القيامة وأحوال المعذبين وتبدل السموات والأرض
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
الإعراب:
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ حال من ضمير يُؤَخِّرُهُمْ وتقديره: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار في هاتين الحالتين.(13/269)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ.. يَوْمَ: مفعول أَنْذِرِ الثاني ولا يجوز أن يكون ظرفا لأنذر لأنه يؤدي إلى أن يكون الإنذار يوم القيامة، ولا إنذار يوم القيامة.
وَتَبَيَّنَ لَكُمْ فعل ماض فاعله مقدر، أي تبين لكم فعلنا بهم، ولا يجوز أن يكون كَيْفَ فاعل تَبَيَّنَ لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله، ولأن كَيْفَ لا يقع مخبرا عنه، والفاعل يخبر عنه، وإنما كَيْفَ هنا منصوبة بقوله: فَعَلْنا.
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ اللام لام الجحود، والفعل منصوب بتقدير «أن» . و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، على التصغير والتحقير لمكرهم. ومن قرأ بفتح اللام وضم آخر الفعل «لتزول» كانت اللام للتأكيد، ودخلت للفرق بين «إن» المخففة من الثقيلة وبين «إن» بمعنى «ما» أي وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكان هنا تامة بمعنى وقع، والجبال: عبارة عن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لعظم شأنه.
مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ أي مخلف رسله وعده.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. يوم منصوب على الظرف بالمصدر قبله، وهو انتِقامٍ. وما بعد وَالسَّماواتُ محذوف أي غير السموات، لدلالة غَيْرَ الْأَرْضِ عليه.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ.. اللام تتعلق بفعل وَتَغْشى أو بفعل وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أو بمحذوف دل عليه قوله: ذُو انتِقامٍ.
وَلِيُنْذَرُوا فيه تقدير، أي هذا بلاغ للناس وللإنذار لأن «أن» المقدّرة بعد اللام مع «ينذروا» في تأويل المصدر، وهو الإنذار. أو تقديره: هذا بلاغ للناس وأنزل لينذروا به، كقوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف 7/ 2] .
البلاغة:
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ فيه جناس الاشتقاق.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ حذف منه: «والسموات تبدل غير السموات» لدلالة غَيْرَ الْأَرْضِ.
وَبَرَزُوا عبر بالماضي محل المضارع «يبرزون» للدلالة على تحقق الوقوع، مثل أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل 16/ 1] أي فكأنه حدث ووقع، فأخبر عنه بصيغة الماضي.
المفردات اللغوية:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ.. خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد تثبيته على ما هو عليه من أنه مطلع(13/270)
على أحوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه خافية، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة، أو هو خطاب لكل من توهم غفلته جهلا بصفات الله واغترارا بإمهاله. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يؤخر عذابهم.
أماكنها، لهول ما ترى، يقال: شخص بصر فلان، أي فتحه فلم يغمضه. مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي ومقبلين، وأصله الإقبال على الشيء. مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعيها إلى السماء ناظرة أمامها. لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم بصرهم، بل تبقى عيونهم شاخصة لا تطرف.
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قلوبهم خالية من العقل والفهم لفزعهم، وفرط الحيرة والدهشة.
وَأَنْذِرِ النَّاسَ خوف يا محمد الكفار. يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هو يوم القيامة، أو يوم الموت، فإنه أول أيام عذابهم. الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر أو الشرك والتكذيب. رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ أخر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك، ونجيب دعوتك بالتوحيد. وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ الذين أرسلتهم، وهذا وما قبله جواب الأمر، ونظيره: أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين 63/ 10] .
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ يقال لهم توبيخا، أي حلفتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت.
مِنْ قَبْلُ في الدنيا. مِنْ زَوالٍ مِنْ: زائدة، أي زوال عن الدنيا إلى الآخرة.
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي كعاد وثمود. كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من العقوبة وما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم، فلم تنزجروا. وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ بينا لكم الأمثال في القرآن فلم تعتبروا، وأنكم مثلهم في الكفر والعذاب. وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أرادوا قتله أو تقييده أو إخراجه، وبذلوا فيه غاية جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي علمه أو جزاؤه. وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وما كان مكرهم، وإن عظم، معدّا لإزالة الجبال، أي لا يعبأ به ولا يضر إلا أنفسهم، فهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا، والمراد بالجبال هنا: حقيقتها، وقيل: شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. ومن قرأ بفتح لام لِتَزُولَ ورفع الفعل، فتكون «إن» مخففة، والمراد تعظيم مكرهم، مثل قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم 19/ 90] .
مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء ذُو انتِقامٍ قادر من الانتقام لأوليائه من أعدائه وكل من عصاه. يَوْمَ تُبَدَّلُ اذكر ذلك وهو يوم القيامة، فيحشر الناس على أرض بيضاء نقية، كما في حديث الصحيحين. وَبَرَزُوا خرجوا من القبور.
وَتَرَى تبصر يا محمد. الْمُجْرِمِينَ الكافرين. مُقَرَّنِينَ أي مشدودين مع بعض أو مع(13/271)
شياطينهم. فِي الْأَصْفادِ في القيود أو الأغلال، جمع صفد. سَرابِيلُهُمْ قمصهم، جمع سربال وهو القميص. مِنْ قَطِرانٍ لأنه أبلغ لاشتعال النار، والقطران: أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران، ووحشة لونه، ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. والقطران: دهن يتحلب من شجر العرعر والتوت، كالزفت، تدهن به الإبل حال الجرب، ويقال له: الهناء، تهنأ به الإبل الجربي، أي تطلي. وَتَغْشى تعلو وتحيط بها.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ متعلق بقوله: وَبَرَزُوا، فتجازى كل نفس مجرمة أو مطيعة بما فعلت في الدنيا من خير أو شر. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب جميع الخلق، في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث ورد بذلك. هذا القرآن. بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي أنزل لتبليغهم، وهو كفاية في العظة والتذكير. وَلِيَعْلَمُوا بما فيه من الحجج. أَنَّما هُوَ أن الله إله واحد.
وَلِيَذَّكَّرَ وليتعظ. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وبعد أن حكى عن إبراهيم أنه طلب من الله أن يصونه من الشرك وأن يوفقه لصالح الأعمال، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة، ذكر ما يدل على وجود يوم القيامة بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ وما يدل على صفة يوم القيامة بقوله:
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ.. إلخ.
التفسير والبيان:
ولا تحسبن يا محمد أن الله إذا أنظر الناس وأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم، ويعده عليهم عدا. والمقصود من الآية إثبات وجود يوم القيامة بطريق التنبيه على أنه تعالى سينتقم للمظلوم من الظالم.
وهو وإن كان خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم صورة، فالمراد به أمته، بأسلوب «إياك أعني واسمعي يا جارة» . وفيه تسلية للمؤمنين، وتهديد للظالمين بأن الله يحصي(13/272)
عليهم أعمالهم ويعلم بها، وسيجزيهم على ظلمهم في الوقت المناسب، فعقابهم آت لا محالة لأن العلم بالظلم الصادر منهم موجب لعقابهم.
ثم بيّن الله تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بالصفات التالية:
1- أنه تشخص فيه الأبصار، أي أنه يمهلهم ويؤخرهم ليوم شديد الهول، ومن شدة أهواله تظل الأبصار فيه مفتوحة لا تطرف ولا تغمض، من شدة الفزع والحيرة والدهشة. ثم وصف كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال:
2- مُهْطِعِينَ أي أنهم يأتون من قبورهم إلى المحشر مسرعين بالذل والمهانة، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر 54/ 8] وقال سبحانه:
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً إلى قوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.. [طه 20/ 108- 111] وقال عز وجل: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً.. [المعارج 70/ 43] .
3- مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم، ينظرون في ذل وخشوع، ولا يلتفتون إلى شيء.
4- لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم، بل تظل أبصارهم شاخصة مفتوحة تديم النظر، لا يطرفون ولا يغمضون، لكثرة ما هم فيه من شدة الهول والفزع، والمراد من هذه الصفة دوام الشخوص.
5- وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي وقلوبهم خاوية خالية لا شيء فيها من القوة، مضطربة، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار خالية من الخواطر لعظم الحيرة، ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب، وخالية من كل سرور لكثرة الحزن.(13/273)
ووقت حصول هذه الأوصاف عند المحاسبة لأنه تعالى ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب.
ثم ذكر تعالى مقالة هؤلاء المعذبين حين رؤية الهول، فقال: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ...
أي وخوّف أيها النبي الناس جميعا من أهوال عذاب يوم القيامة، حين يقول الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب هلعا وجزعا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي ردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى وقت آخر قريب العودة إليك، نتدارك فيه ما فرطنا في الدنيا، من إجابة دعوتك إلى التوحيد وإخلاص العبادة لك، واتباع رسلك فيما أرسلتهم به، مثل قوله تعالى: أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون 63/ 10] وكقوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ..
[المؤمنون 23/ 99- 100] .
فرد الله تعالى عليهم موبخا لهم بقوله: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.. أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة حينما كنتم في الدنيا: أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، أي كنتم تنكرون البعث والحساب، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى، كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل 16/ 38] فذوقوا هذا العذاب بذلك الإنكار.
وَسَكَنْتُمْ.. أي والحال أنكم أقمتم في الظلم والفساد، وصاحبتم الظالمين لأنفسهم، وسرتم سيرتهم، بالرغم من أنه تبين لكم، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق، وعاينتم آثار عذابهم، وظهر لكم أن عاقبتهم آلت إلى الوبال والخزي والنكال، وضربنا لكم الأمثال، وهو ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة، كما قدر على الابتداء،(13/274)
وقادر على التعذيب المؤجل، كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فلم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر، فكيف تطلبون العودة والتأخير للتوبة؟! وقد فات الأوان.
ثم بيّن الله تعالى تشابه أحوالهم مع أحوال السابقين، فقال: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي إن هؤلاء الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم لم تتغير حالهم عن حال من سبقهم، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي وعند الله العلم بمكرهم، أو جزاؤهم، فكل شيء معلوم منهم، ومكتوب ومسجل عليهم، وسيجازيهم عليه الجزاء العادل، ويحاسبهم الحساب الشديد.
ثم ذكر الله تعالى وقت انتقامه فقال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح 71/ 22] فمحال أن تزول الجبال بمكرهم، والمراد بالجبال آيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما ضر أنفسهم، وعاد وبال ذلك عليهم. والمقصود تصغير مكرهم وتحقيره وتهوينه، فليس من شأنه إزالة الآيات وإبطال النبوات الثابتة ثبوت الجبال، والجبال لا تزول، ولكن العبارة مجاز عن تعظيم الشيء ووصفه كيف يكون.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده، بل هو منجز لهم ما وعدهم به، والمراد تثبيت أمته على الثقة بوعد ربه بنصرهم وتعذيب الظالمين، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ(13/275)
عَزِيزٌ
[المجادلة 58/ 21] وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] وآية فَلا تَحْسَبَنَّ هنا هي تقرير وتأكيد لهاتين الآيتين، أي من نصرتكم في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ أي إن الله ذو عزة وقدرة لا يعجزه ولا يمتنع عليه شيء أراده، وشاء عقوبته، وهو ذو انتقام ممن كفر به وجحده، أو أشرك معه إلها آخر. وهذه خاتمة مناسبة للآية، تؤكد الحرص على إنجاز الوعد للرسل.
ثم ذكر تعالى وقت انتقامه فقال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر، وأما السموات فتتبدد كواكبها وشمسها وقمرها.
جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ، ليس فيها معلم لأحد» .
وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ:
أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط» .
واختلف العلماء في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسيّر عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت «1» ،
__________
(1) الأمت: المكان المرتفع والتلال الصغار، والانخفاض والارتفاع.(13/276)
قال ابن عباس: هي تلك الأرض، وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها.
وقيل: يخلق بدلها أرضا وسموات أخر، عن ابن مسعود وأنس: «يحشر الناس على أرض بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئته» «1» .
والعلماء يقررون أن الأرض والكواكب كانت كتلة ملتهبة في الفضاء، ثم انفصلت عنها الشمس والكواكب السيارة، ثم الأرض، ثم الأقمار. وستنحل هذه المجموعة، وتكون سموات غير هذه السموات، وأرض غير هذه الأرض.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي وخرجت الخلائق جميعها من قبورهم انتظارا لحكم الله الوحد، الذي قهر كل شيء وغلبه، كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] وفي هذا تهويل وتخويف.
ولما وصف الله تعالى نفسه بكونه قهارا، أبان عجز الناس وذلتهم أمامه، وذكر من صفاتهم:
1- كون المجرمين مقرنين في الأصفاد، أي ترى يا محمد المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود، فيجمع بين النظراء أو الأشكال، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] وقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير 81/ 7] أي تقرن نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين وقال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ [الشعراء 26/ 94] .
2- سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ أي قمصهم من القطران، والمراد أن جلود أهل النار تطلي بالقطران، حتى تصبح كالسرابيل، ليحصل بسببها أربعة أنواع
__________
(1) الكشاف: 2/ 185(13/277)
من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.
3- وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحيط النار بأجسامهم، وإنما ذكرت الوجوه لأنها أشرف الأعضاء وأعزها، مثل قوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيها كالِحُونَ [المؤمنون 23/ 104] وقوله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر 39/ 24] وقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر 54/ 48] .
ثم بين الله تعالى سبب الجزاء فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي أنه تعالى فعل كل ذلك ليجزي يوم القيامة كل شخص بما يليق بعمله وكسبه، من خير أو شر، فيعاقب المجرمين أو الكفار على كفرهم ومعصيتهم، ويثيب المؤمنين على إيمانهم وطاعتهم، كما قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] .
ثم قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إنه تعالى يحاسب جميع العباد بسرعة وهي في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما جاء في الحديث، ولا يظلم الناس ولا يزيد في عقابهم الذي يستحقونه، وهو سريع الإنجاز لأنه يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] ، وهو سريع الإحصاء.
ثم قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ وكفاية في الموعظة، كما قال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن.(13/278)
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أي ليكون منذرا لهم بالعقاب ومحذرا من العذاب، وهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا ولينذروا بهذا البلاغ.
وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي وليستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو.
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتذكر ويتعظ به ذوو العقول أي أن لهذا البلاغ ثلاث فوائد: وهي التخويف من عذاب الله، والاستدلال به على وجود الخالق ووحدانيته، والاتعاظ به وإصلاح شؤون الإنسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجود يوم القيامة بنحو مؤكد مقطوع به، أما تأخير العذاب الشديد ليوم القيامة فلحكمة إلهية يعود نفعها إلى مصلحة العباد، كيلا يعجل بعقابهم وتترك الفرصة لهم لإصلاح أحوالهم، فليس تأخير العذاب للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما ساءه من إعراض المشركين عن الإيمان بدعوته، قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالمين، وتعزية للمظلوم.
2- يسيطر على يوم الحساب الحيرة والدهشة، والخوف والفزع، والاضطراب والقلق، فترى المجرمين حيارى لا تغمض أعينهم من هول ما يرونه في ذلك اليوم، ويسرعون في الخروج من القبور إلى مكان دعاء الداعي لهم بالتجمع في موقف الحساب، ناظرين من غير أن يطرفوا، ورافعي رؤوسهم ينظرون في ذل واستكانة، لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة النظر، وأفئدتهم خاوية خربة ليس فيها خير ولا عقل، ولا وعي ولا فهم من شدة(13/279)
3- لا مناص من العذاب يوم القيامة ولا مفر منه، ولا أمل ولا رجاء في العودة إلى الدنيا لإصلاح الاعتقاد والأقوال والأفعال.
4- ما أكثر المواعظ والعبر وأقل الاتعاظ والاعتبار!! فقد سكن الناس في مساكن الظالمين، في بلاد ثمود ونحوها، ولم يعتبروا بمساكنهم، بعد ما تبين ما فعل الله بهم، وبعد أن ضرب الله لهم الأمثال في القرآن للعظة والعبرة.
5- لا جدوى من مكر الكافرين الشديد بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة، فعند الله العلم التام بمكرهم، وهو مجازيهم عليه. ومكرهم حقير مهين لا يؤدي إلى شيء، من إزالة جبال الأرض، وإزاحة الإسلام والقرآن الثابتين ثبوت الجبال الراسيات، وقد حفظ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ألوان مكرهم.
6- الله تعالى منجز وعده لرسله وأوليائه لا محالة، ولن يخلف الله وعده بنصر أهل الحق وعقاب المبطلين، والله تعالى قوي غالب منتقم من أعدائه، ومن أسمائه: المنتقم الجبار.
7- تتبدل الأرض والسموات يوم القيامة، وتبدل الأرض في رأي الأكثرين: عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومدّ أرضها. وتبدل السموات: انتثار كواكبها وتصدعها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
8- للمجرمين في النار صفات كئيبة، فهم مقيدون بالأغلال والقيود، وتطلي جلودهم بالقطران، وتضرب الناس وجوههم فتغشّيها وتحيط بها وبجميع أجسادهم.
9- إن حشر الناس يوم المعاد لإنصاف الخلائق وإقامة صرح العدل المطلق بينهم، ومجازاة كل امرئ بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.(13/280)
10- القرآن وما فيه من عظات تبليغ للناس وعظة، وإنذار وتخويف من عقاب الله عز وجل، ومصدر للعلم بوحدانية الله بما تضمنه من الحجج والبراهين، وموعظة يتعظ به أصحاب العقول. روى يمان بن رئاب أن هذه الآية هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ.. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم، هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم قيل: وأين هو؟ قال: قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ إلى آخرها.
11- هذه الآية الأخيرة من السورة دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله لأنه تعالى بيّن أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل لتذكير أولي الألباب.
12- أول هذه السورة مقرون بآخرها ومطابق له في المعنى، فأولها:
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية، وآخر السورة:
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أنه تعالى ذكر هذه المواعظ والنصائح لينتفع الخلق بها، فيصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية.(13/281)
[الجزء الرابع عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحجر
مكية، وهي تسع وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهم ثمود، والحجر:
واد بين المدينة والشام.
مناسبتها لما قبلها:
هناك تناسب بين هذه السورة وسورة إبراهيم في البدء والختام والمضمون، أما البداية: فكلتا السورتين افتتحتا بوصف الكتاب المبين، وأما المضمون: ففي كليهما وصف السموات والأرض، وإيراد جزء من قصة إبراهيم عليه السلام وبعض قصص الرسل السابقين، تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما تعرض له من أذى قومه بتذكيره بما تعرض له الأنبياء من قبله، ونصرة الله لهم، مع نقاش الكفار والمشركين.
وأما الخاتمة: ففي سورة إبراهيم وصف تعالى أحوال الكفار يوم القيامة بقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ثم قال هنا في هذه السورة:
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين والموحدين قد أخرجوا منها، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين. هذا مع اختتام آخر سورة إبراهيم بوصف الكتاب:(14/5)
هذا بَلاغٌ.. وافتتاح هذه به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وهذا تشابه في الأطراف بداية ونهاية «1» .
ما اشتملت عليه السورة:
تتفق هذه السورة مع بيان أهداف التنزيل المكي وهي إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والجزاء، والتذكير بمصارع الطغاة ومكذبي رسل الله الكرام، لذا ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد، والتهويل والتوبيخ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وتضمنت السورة ما يأتي:
1- مناقشة الكفار والمشركين الذين كذبوا بالرسل وبما أتوا به من آيات، بدءا من أبي البشر الثاني: نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [10- 11] .
2- إيراد الأدلة والبراهين على وجود الله تعالى من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان، ومشاهد الرياح اللواقح، والحياة والموت، والحشر والنشر:
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ.. [16] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها.. [19] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [26] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ.. [22] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [23] وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [25] وبيان حكمة خلق الموجودات: وهي عبادة الله وإقامة العدل وإرساء دعائم النظام في الحياة.
__________
(1) تناسق الدرر في تناسق السور للسيوطي، طبع دمشق: 62(14/6)
3- إثبات صدق الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ.. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [8- 9] .
4- الإشارة لنظرية ظلمة السماء: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [14- 15] .
5- قصة آدم وإبليس المعبّرة عن الطاعة والرفض، بامتثال الملائكة أمر الله بالسجود لآدم وتعظيمه، وأمر إبليس بالسجود له وعصيانه الأمر: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [29- 31] .
6- وصف حال أهل الشقاوة والنار، وأهل السعادة والتقوى والجنة [42- 48] .
7- تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم منعا لليأس والقنوط بتذكيره بقصة لوط وشعيب وصالح عليهم السلام مع أقوامهم الذين دمرهم الله [قصة آل لوط: 58- 77] [أصحاب الأيكة: قوم شعيب: 78- 79] [أصحاب الحجر: ثمود: 80- 84] .
8- بيان ما أنعم الله به على نبيه من إنزال القرآن [87] وإهلاك أعدائه المستهزئين [95] وأمره بعدم الافتتان بتمتيع الآخرين بالدنيا، وأمره بالتواضع للمؤمنين [88] والجهر بالدعوة [94] والصبر والتسبيح والعبادة حتى الموت عند مضايقته باستهزاء المشركين [97- 99] .
والخلاصة: تضمنت السورة دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، وبعض قصص الأنبياء، وأفضال الله على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.(14/7)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
الإعراب:
رُبَما قرئ بالتخفيف والتشديد، فالتشديد على الأصل، والتخفيف لكثرة الاستعمال.
ورُبَما فيها كافة عن العمل، وخرجت بها عن مذهب الحرف لأن «رب» حرف جر، وحرف الجر يلزم للأسماء، فلما دخلت رُبَما عليها، جاز أن يقع بعدها الفعل، وصارت بمنزلة «طالما وقلّما» . ولا يدخل بعد رُبَما إلا الماضي، وإنما جاء هاهنا المضارع بعدها، على سبيل الحكاية، ولما كان إخبار الحق تعالى متحققا، لا شك في وجوده لتحققه، نزّل المستقبل منزلة الماضي الذي وقع ووجد.
ورُبَما معناها التقليل كرب، وقد يراد بها الكثرة، على خلاف الأصل.
لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مفعول في موضع نصب، لأنه مفعول يَوَدُّ.
يَأْكُلُوا جواب الأمر أو الطلب.
وَلَها كِتابٌ كِتابٌ مبتدا مرفوع وَلَها خبره، والجملة: في موضع جرّ لأنها صفة. قَرْيَةٍ ويجوز حذف واو وَلَها نحويا لمكان الضمير، والأصل ألا تدخلها الواو مثل إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء 26/ 208] ولكن لما شابهت صورتها صورة الحال، أدخلت عليها، تأكيدا للصوقها بالموصوف.
البلاغة:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ المراد أهلها، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ.(14/8)
المفردات اللغوية:
الر إشارة لتحدي العرب بإعجاز القرآن البياني، أي هذا الكتاب كلام الله المنظوم من حروف لغتكم العربية الهجائية: ألف، ولام، وميم. تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات الْكِتابِ هو السورة، وكذا القرآن، أي هذه آيات الكتاب العظيم المتميز بالفصاحة الكاملة والبيان التام وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي وقرآن واضح تام البيان، لا خلل فيه، مظهر للحق من الباطل. والكتاب والقرآن المبين: الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وتنكير وَقُرْآنٍ للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الجامع لكونه كتابا وقرآنا، فهو كامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان.
رُبَما تدل على أن ما بعدها قليل الحصول، وقد تستعمل في الكثير، كما هنا، فإنه يكثر منهم تمني الإسلام، وقيل: للتقليل، فإن الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وما: كفّت دخول «رب» عن الجر، فجاز دخوله على الفعل، و «ما» : نكرة موصوفة، أي رب شيء يَوَدُّ يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ذَرْهُمْ دعهم واتركهم يا محمد وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الْأَمَلُ بطول العمر وغيره عن الإيمان فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم، وسوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه.
والغرض إقناط الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان، وأن نصحهم يعدّ اشتغالا بما لا طائل تحته. وفيه إلزام للحجة، وتحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل.
مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ زائدة للتمكين قَرْيَةٍ المراد أهلها كِتابٌ أجل مَعْلُومٌ محدود لإهلاكها، أي لها أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي ما يتقدم زمان أجلها، ومِنْ زائدة. وَما يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه، وتذكير هذا الفعل العائد على أُمَّةٍ للحمل على المعنى.
التفسير والبيان:
الر هذه الحروف المقطعة قصد بها التنبيه وإشعار العرب بإعجاز القرآن البياني، وتحديهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، لأنه نزل بلغتهم، وتكوّن من حروفها التي تتركب منها الكلمات تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي تلك الآيات من هذه السورة هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات القرآن المبين التام الوضوح والبيان لهذه السورة وغيرها. وتنكير كلمة(14/9)
قُرْآنٍ للتفخيم، وقد جمع بين الوصفين: الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ للدلالة على أنه الكتاب الجامع للكمال، والغرابة في البيان، كما ذكر الزمخشري.
رُبَما يَوَدُّ.. أي ولكن الكفار سيندمون يوم القيامة على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين. وكلمة رُبَما وإن كانت للتقليل، فهي أبلغ في التهديد. ذكر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن كفار قريش لما عرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين. قال الزجاج: الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب، ورأى حالا من أحوال المسلم، ودّ لو كان مسلما.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام 6/ 27] .
روى الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام، وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب، فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة، فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، فنخرج كما خرجوا» قال: ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
ثم هددهم الله وأوعدهم بتهديد شديد ووعيد أكيد، فقال:
ذَرْهُمْ.. أي دع يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتعهم بلذات دنياهم، يأكلون كما تأكل الأنعام، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة أو عن الآخرة والأجل، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم. كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا،(14/10)
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
[إبراهيم 14/ 30] وقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات 77/ 46] ويلاحظ أن الآيات الثلاث عللت سبب إهمالهم في الدنيا، إذ لا حظّ لهم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى سبب تأخير عذاب الكفار إلى يوم القيامة فقال:
وَما أَهْلَكْنا أي إن سنة الله تعالى في الأمم واحدة، وهي أنه لا يهلك أهل قرية إلا بعد قيام الحجة عليهم، وإبلاغهم طريق الرشد والحق، وانتهاء أجلهم المقرر والمقدر لهم في اللوح المحفوظ، وأنه لا يؤخر عذاب أمة حان هلاكهم عن وقته المحدد، ولا يتقدمون عن مدتهم: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف 7/ 34] .
والمقصود بالآيات: أنه لو شاء الله لعجل العذاب للكفار، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا، فإن لكل أمة أجلا معينا، لا تأخير فيه ولا تقديم، والله تعالى يمهل ولا يهمل.
وهذا تنبيه لأهل مكة وأمثالهم وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك، كما قال ابن كثير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- القرآن الكريم جامع بين صفة الكمال في كل شيء، والوضوح والبيان، فلا نقص فيه ولا خلل، ولا غموض ولا لبس، وإنما يظهر الحق من الباطل لكل إنسان.
2- سيندم الكفار يوم القيامة على كفرهم، ويتمنون أن لو كانوا مسلمين في(14/11)
أوقات كثيرة لأن رُبَما وإن كانت تستعمل في الأصل للقليل، إلا أنها قد تستعمل في الكثير، ومن عادة العرب أنهم إذا ذكروا التكثير، ذكروا لفظا وضع للتقليل، ثم إن هذا التقليل أبلغ في التهديد.
3- يهتم الكفار عادة بالماديات، فتراهم منغمسين في الشهوات والأهواء واللذات، معتمدين على الآمال المعسولة، مغتّرين بالأماني الزائفة، منشغلين بالدنيا عن الطاعة والعمل للآخرة. وقد هددهم الله بتركهم في مآكلهم ومتعهم، وحذرهم من عاقبة صنيعهم.
والآية تدل على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من شأن أخلاق المؤمنين.
وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الأمل مطلقا، منها
ما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل»
وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا» .
وروى أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» .
4- لا ظلم في إهلاك الأمم الكافرة المكذّبة للرسل، وإنما هلاكها بسبب جحودها وكفرها وتكذيبها بآيات الله ورسله.
5- إن هلاك الأمم ليس عشوائيا ولا كيفيا حسب رغبات الناس، وإنما هو مقدر بتاريخ معين، ومقرر في أجل محدد، لا تأخير فيه ولا تقديم.(14/12)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
بعض مقالات المشركين في النبي صلّى الله عليه وسلّم والرد القاطع عليها
[سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
الإعراب:
لَوْ ما بمعنى هلا، وهي مركبة من «لو» التي معناها امتناع الشيء لامتناع غيره، و «ما» التي تسمى المغيّرة لأنها غيرت معنى «لو» من معنى امتناع الشيء لامتناع غيره، إلى معنى «هلا» . مثل تركيب «لولا» صارت بمعنى «هلا» في أحد وجهيها، وبمعنى امتناع الشيء لوجود غيره.
إِذاً أصلها: إذ أن ومعناه: حينئذ، فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة، فحذفوها.
إِنَّا نَحْنُ.. نَحْنُ في موضع نصب لأنه تأكيد للضمير الذي هو اسم «إن» في إِنَّا. ويجوز أن يكون في موضع رفع مبتدأ، ونَزَّلْنَا خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر «إن» .
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ محله النصب على الحال.
ولا يجوز أن يكون نَحْنُ هنا ضمير فصل لا موضع له من الإعراب لأنه ليس بعده(14/13)
معرفة، ولا ما يقارب المعرفة لأن ما بعده جملة، وهي نكرة، فتكون صفة للنكرة، وشرط الفصل أن يكون بين معرفتين أو بين معرفة وما يقارب المعرفة. وَما يَأْتِيهِمْ وَما للحال، وهذا على حكاية الحال الماضية.
البلاغة:
الْمُجْرِمِينَ الْأَوَّلِينَ مُنْظَرِينَ بينها سجع، وكذلك بين يَعْرُجُونَ ومَسْحُورُونَ.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ.. نادوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم على التهكم الذِّكْرُ القرآن إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي إنك لتقول قول المجانين، حتى تدّعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر أي القرآن لَوْ ما أي هلا، للتحضيض على فعل ما يقع بعدها مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك أو قولك:
إنك نبي، وإن هذا القرآن من عند الله إِلَّا بِالْحَقِّ إلا تنزيلا ملتبسا بالحق وملازما له، أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته، ولا حكمة في أن تأتيكم بصورة تشاهدونها، فإنه لا يزيدكم إلا لبسا وخلطا، ولا في معاجلتكم بالعقوبة، فإن بعضكم وبعض ذريتكم سيؤمن، وقيل: بِالْحَقِّ أي الوحي أو العذاب إِذاً أي حين نزول الملائكة بالعذاب مُنْظَرِينَ مؤخرين.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ القرآن، وهو رد لإنكارهم واستهزائهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التبديل والتحريف، والزيادة والنقص، بأن جعلناه معجزا مباينا لكلام البشر، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل العربية، أو المراد نفي تطرق الخلل إليه أثناء بقائه بضمان الحفظ له. مِنْ قَبْلِكَ أي أرسلنا رسلا فِي شِيَعِ فرق، وهي جمع شيعة: وهي الفرقة أو الجماعة المتفقة على رأي واحد، في العقيدة أو في المذهب، أو في الرأي. إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كاستهزاء قومك بك، وهذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم. نَسْلُكُهُ ندخله، أي مثل إدخالنا التكذيب في قلوب أولئك ندخله فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي مضت سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم، وهؤلاء مثلهم.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ على هؤلاء المقترحين فَظَلُّوا فِيهِ في الباب يَعْرُجُونَ يصعدون سُكِّرَتْ أَبْصارُنا سدّت ومنعت عن الإبصار مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد بذلك، يخيل إلينا أننا مسحورون، والإضراب ببل دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.(14/14)
سبب النزول:
قال قتادة: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.
المناسبة:
بعد أن بالغ تعالى في تهديد الكفار، ذكر شبهتهم في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإساءتهم الأدب بوصفه بالسفاهة والجنون، ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء على هذا النحو، فلك يا محمد أسوة بالأنبياء في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن بعض مقالات المشركين وشبهاتهم الصادرة عن كفرهم وعنادهم، فقالوا استهزاء وتهكما: يا أيها الذي تدعي نزول القرآن عليك، إنك متصف بالجنون، حينما تدعونا إلى اتباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا، فلا نقبل دعوتك.
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ.. لو كنت ما تدعيه حقا وصدقا، فهلا تأتينا بالملائكة يشهدون لك بصدقك وصحة ما جئت به، ويؤيدونك في إنذارك، كما قال تعالى: أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان 25/ 7] وقال:
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان 25/ 21] وحكى تعالى قول فرعون في شأن موسى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف 43/ 53] .
فأجابهم تعالى عن المقالة الثانية بقوله: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي(14/15)
لا ننزل الملائكة إلا بحق وحكمة ومصلحة نعلمها، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، وهم من غير جنسكم ولا على صورتكم فيلتبس الأمر عليكم إذ لكل جنس هاد من جنسه، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً، لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام 6/ 9] .
وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي ولو نزلنا الملائكة لكان ذلك إنزالا للهلاك والعذاب، وما أخر عنهم العذاب ساعة لأن سنتنا أننا إذا أنزلنا آية كما يقترح الناس ولم يؤمنوا بها، أتبعنا ذلك بعذاب الاستئصال، فكان في إنزال الملائكة ضررا محققا لهم، لا نفعا.
ثم أجابهم الله تعالى عن المقالة الأولى بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ.. أي أنه تعالى هو الذي أنزل عليه الذّكر وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل، فقولوا: إنه مجنون، ونقول: نحن منزلوا القرآن وحافظوه. وتلك خصوصية للقرآن، فإنه تعالى تكفل وحده بحفظه وصونه، على مدى الدهر، بخلاف الكتب السابقة التي أمر بحفظها الأحبار والرهبان، فعبثوا بها وغيروها وبدلوها، بل إن أصلها قد فقد وضاع، فلم يعرف لها أثر قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [المائدة 5/ 44] .
ثم قال الله تعالى مسليا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب بعض كفار قريش:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ.. أي إنا أرسلنا قبلك رسلا للأمم الماضية وشيعها وطوائفها وفرقها، ولكن ما أتاهم من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به وكفروا برسالته، فقوله: وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية لأن(14/16)
ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.
ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا، واستكبروا عن اتباع الهدى، فإن مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين، ندخله في قلوب المجرمين الجدد، فضمير نَسْلُكُهُ عائد إلى الشرك.
ويصح عوده إلى الذكر (القرآن) أي مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن ونلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزءا به غير مقبول، حالة كونهم غير مؤمنين به أبدا.
وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي مضت السنة المتبعة في الماضين، وهو أنه تعالى يهلك ويدمر كل من كذّب رسله، ويعلم بهم، وينجي الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فلك يا محمد أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة.
وبعبارة أخرى: سنفعل بالمجرمين اللاحقين كما فعلنا بالسابقين، وسننصر الرسل والمؤمنين.
ثم يخبر الله تعالى عن شدة عنادهم وتمكن كفرهم في نفوسهم ومكابرتهم للحق، فقال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً.. أي لو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه أو تصعد فيه الملائكة، لما صدقوا بذلك، بل قالوا: إنما منعت وسدت أبصارنا من الإبصار، وقد شبّه علينا، واختلطت الأمور في أذهاننا، وأصبحنا لا نرى إلا أخيلة، كالقوم المسحورين سحرنا محمد بآياته، نحو قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] .
والمعنى: بلغ من عناد المشركين أنهم لو صعدوا في السماء حقيقة، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هذه أوهام وأخيلة، وقد سحرنا محمد، كما يفعل عالم السيمياء، أو المنوم المغناطيسي. وفي الآية دليل على وجود الظلام في الفضاء الخارجي.(14/17)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الشريفة على ما يلي:
1- لقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، إلى يوم القيامة، وهو رد على اتهام المشركين زورا وبهتانا بأن محمدا الذي أنزل عليه هذا القرآن مجنون.
2- لا فائدة من إنزال الملائكة تشهد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقه في دعواه النبوة، لما فيه من اللبس عليهم، بل إلحاق الضرر بهم، وهو الهلاك أو العذاب إذا كفروا بعدئذ، ولم يمهلوا بنزوله.
3- إن تكذيب الأنبياء والاستهزاء بهم عادة قديمة وظاهرة شائعة في الأمم، فكما يفعل المشركون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكذلك فعل من قبلهم بالرسل.
4- كما أدخل أو سلك الله الضلال والكفر والاستهزاء والشرك في قلوب المجرمين من طوائف الأقدمين، كذلك يسلكه في قلوب مشركي العرب، حتى لا يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم.
وقيل: نسلك القرآن في قلوبهم، فيكذبون به، ذكر جماعة أنه قول أكثر المفسرين.
5- مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء المشركين من الهلاك.
6- المشركون معاندون، فلو كشف لهم أن يعاينوا أبوابا من السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل، لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له.(14/18)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
بعض مظاهر قدرة الله تعالى من خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتة والعلم الشامل والحشر
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
الإعراب:
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ مَنِ مستثنى منصوب، ولا يجوز أن يكون بدلا من كُلِّ شَيْطانٍ لأنه استثناء من موجب.
وَمَنْ لَسْتُمْ.. مَنْ إما منصوب عطفا على قوله مَعايِشَ أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد، أو بتقدير فعل، أي وأعشنا من لستم له برازقين، أو عطفا على موضع لَكُمْ المنصوب بجعلنا، وإما موضعه الرفع مبتدأ، وخبره محذوف. ولا يجوز في رأي البصريين خلافا(14/19)
للكوفيين عطفه على الكاف واللام في لَكُمْ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إن بمعنى «ما» ومِنْ زائدة، وشَيْءٍ في موضع رفع مبتدأ، وعِنْدَنا خبر المبتدأ، وخَزائِنُهُ مرفوع بالظرف وهو عِنْدَنا لوقوعه خبرا للمبتدأ، وتقديره: وما شيء إلا عندنا خزائنه. ودخول إِلَّا أبطل عمل إِنْ على لغة من يعملها.
لَواقِحَ إما جمع لاقحة، أي حوامل بالسحاب لأنها تسوقه، وإما أصله ملاقح، لكن أتى به على حذف الزوائد.
البلاغة:
عِنْدَنا خَزائِنُهُ استعارة تخييلية وتمثيل لكمال قدرته، شبه قدرته تعالى على كل شيء بالخزائن المودع فيها الأشياء، ويخرج منها كل شيء على وفق حكمته.
نُحْيِي وَنُمِيتُ الْمُسْتَقْدِمِينَ والْمُسْتَأْخِرِينَ بين كل طباق.
خَزائِنُهُ وبِخازِنِينَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
بُرُوجاً البروج: القصور والمنازل، وأصل البروج: الظهور، يقال: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها، والمراد هنا النجوم العظام ونجوم البروج الاثني عشر المعروفة أي منازل الشمس والقمر والكواكب السيّارة الأخرى، وهي اثنا عشر برجا مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة، مع بساطة السماء، وأسماء هذه البروج: الحمل، الثور، الجوزاء، والسّرطان، والأسد، والسّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدّلو، والحوت. والعرب تعدّ معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجلّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب.
وبرج المريخ: الحمل والعقرب، والزّهرة: لها الثور والميزان، وعطارد: له الجوزاء والسّنبلة، والقمر: له السرطان، والشمس لها: الأسد، والمشتري له: القوس والحوت، وزحل له: الجدي والدلو.
وَزَيَّنَّاها أي السماء بالكواكب لِلنَّاظِرِينَ المفكرين المعتبرين، المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها وَحَفِظْناها منعناها بالشهب رَجِيمٍ مرجوم بالحجارة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ لكن من أخذ الشيء خفية أو خطفة، شبه خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى بالسرقة.
واسترق السمع: تسمّعه بخفة وحذر فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ كوكب يضيء ويحرقه، أو شعلة ساطعة(14/20)
من النار. وأتبعه: لحقه. مَدَدْناها بسطناها بحسب مستوى الناظر وبالنسبة للناس القاطنين فيها رَواسِيَ جبالا ثوابت لئلا تتحرك بأهلها مَوْزُونٍ أي مقدّر بمقدار معين على وفق الحكمة والمصلحة.
مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس، جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أو على محل لَكُمْ والمراد به العيال والخدم والمماليك. والقصد من الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، مشتملة على أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، على كمال قدرته، وتناهي حكمته، وتفرده بالألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحتاج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. والخزائن جمع خزانة، وهي ما تحفظ فيه الأشياء النفيسة أو المهمة.
وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما نسمح بإنزاله إلا بقدر معلوم حدّه، لحكمة وعلى حسب المصالح لَواقِحَ حوامل للسحاب، أو التراب، أو للقاح الشجر، كما في قوله: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الأعراف 7/ 57] وفي قولهم: ناقة لاقح أي حامل، شبه الريح التي جاءت بخير تحمل السحاب الماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. مِنَ السَّماءِ السحاب السَّماءِ مطرا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم، يقال للماء المعد لشرب الأرض أو الماشية وسقايتها به: أسقيته، وإذا سقاه ماء أو لبنا: سقيته وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي ليست خزائنه بأيديكم الْوارِثُونَ الباقون، نرث جميع الخلق الْمُسْتَقْدِمِينَ من ماتوا من ذرية آدم الْمُسْتَأْخِرِينَ الأحياء الذين تأخروا إلى يوم القيامة، أي بقوا أحياء يَحْشُرُهُمْ يجمعهم لا محالة للجزاء وتوسيط الضمير هُوَ للدلالة على أنه القادر المتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على صحة الحكم حَكِيمٌ باهر الحكمة في صنعه متقن الأفعال عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى كفر الكافرين وعجز أصنامهم، ذكر كمال قدرته، وأدلة وحدانيته السماوية والأرضية، ففي السماء: البروج، والكواكب الساطعة، وفي الأرض الممدودة: الجبال الراسيات، والنباتات المقدرة بمقادير معلومة موزونة بميزان الحكمة والعلم، المشتملة على معايش الإنسان والحيوان، كما(14/21)
قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات 51/ 20- 23] .
والدلائل الأرضية سبعة: بسط الأرض، الجبال الثوابت، إنبات النباتات، الإمداد بالأرزاق من الخزائن، إرسال الرياح لواقح، الإحياء والإماتة للحيوانات، خلق الإنسان.
التفسير والبيان:
ووالله لقد أوجدنا في السماء نجوما عظاما من الكواكب الثوابت والسيارات، وزيناها لمن تأمل النظر فيها وكرره، فيما يرى من العجائب الظاهرة، والآيات الباهرة، التي يحار الناظر فيها، كقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات 37/ 6] وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان 25/ 61] .
وقال جماعة: البروج: هي منازل الشمس والقمر.
وَحَفِظْناها.. أي ومنعنا الاقتراب من السماء كل شيطان رجيم، كما قال في آية أخرى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات 37/ 7] والرجيم:
المرجوم، أي المقذوف بالشهب، أو المرمي بالقول القبيح، أو الملعون المطرود.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ.. استثناء منقطع، أي لكن من استرق السمع، أو أراد استراق شيء من علم الغيب الذي يتحدث به الملائكة، لحقه وأتبعه بشهاب مبين، أي بجزء منفصل من الكوكب، وهو نار مشتعلة، فأحرقه. والشهاب:
شعلة نار ساطع، ويسمى الكوكب شهابا، كما قال في آية أخرى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ(14/22)
مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً
[الجن 72/ 9] وقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 67/ 5] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها، ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة، فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع، رمي بشهاب «1» .
والصحيح أن الشهاب يقتل الشياطين قبل إلقائهم الخبر، فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا بواسطة الأنبياء وملائكة الوحي. ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أردف الله تعالى بيان الدلائل الأرضية بعد الدلائل السماوية على وحدانيته فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ... أي وجعلنا الأرض ممدودة الطول والعرض، ممهدة للانتفاع بها، في مرأى العين، وبالنسبة للإنسان الذي يعيش على سطحها، كما قال تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذاريات 51/ 48] فلا يعني ذلك نفي كروية الأرض لأن أجزاء الكرة العظيمة تظهر كالسطح المستوي لمن يقف على جزء منها. وهذا دليل واضح على كمال قدرة الله تعالى وعظمته لأن الإنسان المنتفع بها يراها منبسطة رغم تكويرها، ثابتة رغم تحركها.
وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت كيلا تضطرب بالإنسان، كما قال تعالى في آية أخرى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل 16/ 15]
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 169، الكشاف: 2/ 188(14/23)
فدلت الآيات على خلق الله الأرض وبسطها وتوسيعها وجعل الجبال الراسيات والأودية والرمال فيها.
وَأَنْبَتْنا فِيها.. أي وأنبتنا في الأرض من الزرع والثمار المتناسبة، المقدرة بميزان معلوم، وحكمة ومصلحة، ومقدار معين، فكل نبات وزنت عناصره، وقدرت بما يحتاجه. فقوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بقدر معلوم، موزون بميزان الحكمة أي على وفق الحكمة والمصلحة، كما قال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد 13/ 8] .
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ.. أي وأعددنا لكم في الأرض أسباب المعيشة والحياة الملائمة من غذاء ودواء، ولباس وماء، ونحوها. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي وجعلنا لكم فيها أيضا الخدم والمماليك والدواب والأنعام التي لستم أنتم لها رازقون، وهذا يعني أن الله يرزقكم وإياهم.
والمقصود من الآيات أنه تعالى يمتن على الناس بما يسّر لهم في الأرض من أسباب المكاسب والمعيشة، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والخدم الذين يستخدمونهم، وقد تكفل الله الخالق برزقهم، فرزقهم على خالقهم، لا عليهم، فلهم المنفعة، وعلى الله التسخير والرزق.
ثم أخبر الله تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل يسير عليه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الأصناف، من نبات ومعادن ومخلوقات لا حصر لها، فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.. أي وما من شيء في هذا الكون ينتفع به الناس إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم، نعلم أنه مصلحة له، فذكر الخزائن أراد به التمثيل لا الحقيقة وهو اقتداره على كل مقدور.
ثم أوضح تعالى أسباب حصول النعم، فقال: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ..(14/24)
أي وأرسلنا الرياح الخيرة تحمل السحب المشبعة بالرطوبة لإنزال الأمطار، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف 7/ 57] .
وكذلك جعلنا الرياح واسطة لتلقيح الأشجار، بنقل طلع الذكور ولقاحها إلى الإناث، ليتكون الثمر.
كما أننا جعلنا الرياح وسائل إزالة الغبار عن الأشجار، لينفذ الغذاء إلى مسامّها. قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب.
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي فأنزلنا من السحاب مطرا، فأسقيناكموه أي يمكنكم أن تشربوا منه، وأسقينا به زرعكم ومواشيكم، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة 56/ 68- 70] وقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل 16/ 10] .
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي لستم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله ينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أبقاه لكم في طول السنة، لشرب الناس والزروع والثمار والحيوان، فالتخزين يكون في السحاب وفي جوف الأرض.
ثم أخبر الله تعالى عن قدرته على بدء الخلق وإعادته فقال: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.. أي ونحن نحيي الخلق من العدم، ثم نميتهم، ثم نبعثهم كلهم ليوم الجمع، ونحن نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] .(14/25)
ثم أنبأنا الله تعالى عن تمام علمه بالمخلوقات أولهم وآخرهم، فقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ.. أي والله لقد علمنا كل من تقدم وهلك من لدن آدم عليه السلام، ومن هو حي، ومن سيأتي إلى يوم القيامة.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ.. أي وإن ربك هو الذي يجمعهم جميعا، الأولين والآخرين، من أطاع ومن عصى، ويجازي كل نفس بما كسبت، إنه تعالى حكيم باهر الحكمة في صنعه، متقن الأفعال، واسع العلم، وسع علمه كل شيء، فهو يفعل بمقتضى الحكمة والعلم الشامل.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآيات دلائل التوحيد السماوية منها والأرضية، وبدأ بذكر الأدلة السماوية، وأردفها بالأدلة الأرضية، وهي ما يأتي:
1- خلق النجوم العظام والكواكب الثابتة والسيارة، وخلق بروج ومنازل لها، وهي اثنا عشر برجا، معروفة في علم الفلك، قدمت ذكرها في بيان المفردات.
2- حفظ السماء من مقاربة الشيطان الرجيم أي المرجوم، والرجم: الرمي بالحجارة أو باللسان سبا وشتما، وهو أيضا: اللعن والطرد. قال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم.
ومن حاول اختطاف شيء من علم الغيب، قذف بجزء منفصل من الكوكب، مشتعل النار، فأحرقه وقتله، قبل إلقاء ما استرقه من السمع إلى غيره.
3- الأرض مخلوقة ممهدة منبسطة تتناسب مع إمكان الحياة البشرية عليها، وهي مثبّتة بالجبال الرواسي لئلا تتحرك بأهلها، وفيها من النباتات المختلفة ذات المقادير المعلومة، على وفق الحكمة والمصلحة، وفيها أيضا أصناف المعايش من(14/26)
مطاعم ومشارب يعيش الناس وغيرهم بها، وفيها كذلك الدواب والأنعام ذات المنافع المتعددة، والله هو الذي يرزقها.
4- الله مالك كل شيء، يوجده ويكوّنه وينعم به على حسب مشيئته بمقدار معلوم بحسب حاجة الخلق إليه، فما من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا وعند الله خزائنه، كالمطر المنزل من السماء، والذي به نبات كل شيء، ولكن لا ينزله إلا بمقتضى مشيئته وعلى قدر الحاجة، كما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [الشورى 42/ 27] .
5- هيأ الله في الكون أسبابا للرزق والإيجاد، منها أنه جعل الرياح لواقح للسحاب والأشجار، فأنزل بها الأمطار لشرب الناس وسقاية الزروع والثمار والأشجار والدواب، وهو تعالى يخزنها في السحاب وجوف الأرض، وهو سبحانه المحيي والمميت ووارث الكون، فلا يبقى فيه أحد.
6- الله تعالى عالم بجميع المخلوقات المتقدمة والمتأخرة إلى يوم القيامة، وإنه تعالى سيحشر الناس جميعا للحساب والجزاء.
واستنبط الفقهاء من آية وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ حكمين فقهيين:
الأول- فضل أول الوقت في الصلاة، وفضل الصف الأول في صلاة الجماعة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا» .
وفي الصف الأول مجاورة الإمام، لكن مجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي لكبار العقول، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن الأربع عن أبي مسعود: «ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى»
وهذا حق ثابت لهم بأمر صاحب الشرع.
الثاني- فضل الصف الأول في القتال، لأن المتقدم باع نفسه لله تعالى، ولم(14/27)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
يكن أحد يتقدم الحرب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم.
بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليس وعداؤه البشر
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)(14/28)
الإعراب:
وَالْجَانَّ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وخلقنا الجانّ خلقناه، وقدّر الفعل الناصب ليعطف جملة فعلية على جملة فعلية، هي قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد للمعرفة بعد توكيد، وذهب بعض النحويين إلى أن أَجْمَعِينَ أفاد معنى الاجتماع، أي سجدوا كلهم مجتمعين، لا متفرقين، إلا أنه يلزمه على هذا أن ينصبه على الحال.
ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ما مبتدأ، ولَكَ خبره، وتقديره: أي شيء كائن لك ألا تكون، أي في ألا تكون، فحذفت (في) وهي متعلقة بالخبر، فانتصب موضع (أن) .
لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْهُمْ متعلق بالظرف الذي هو لِكُلِّ، مثل قولهم: كلّ يوم لك درهم، فإن كل يوم منصوب ب (لك) . وجُزْءٌ مَقْسُومٌ مرفوع بالظرف الذي هو لِكُلِّ بابٍ لأن قوله لِكُلِّ بابٍ وصف لقوله: أَبْوابٍ أي لها سبعة أبواب، كائن لكل باب منها جزء مقسوم منهم، أي من الداخلين، فحذف منها العائد إلى أَبْوابٍ التي هي الموصوف، وحذف العائد من الصفة إلى الموصوف جائز في كلامهم، كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ.. [البقرة 2/ 48، 123] أي ما تجزي فيه.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدم أو الجنس مِنْ صَلْصالٍ طين يابس، يسمع له صلصلة، أي صوت، إذا نقر. فإذا طبخ فهو فخّار حَمَإٍ طين أسود، أي تغيّر واسود من مجاورة الماء له مَسْنُونٍ متغير الرائحة، والتقدير: أي كائن من حمأ مسنون وَالْجَانَّ أبا الجن وهو إبليس، أو هذا الجنس مِنْ قَبْلُ من قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ هي نار شديدة الحرارة، لا دخان لها، تنفذ من المسام وتقتل.
وَإِذْ قالَ.. واذكر حين قال بَشَراً إنسانا، وسمي بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده سَوَّيْتُهُ أتممت خلقه وهيأته لنفخ الروح فيه وَنَفَخْتُ أجريت من الفم أو غيره، والمراد: إضافة عنصر الحياة في المادة القابلة لها. مِنْ رُوحِي أي فصار حيا، وإضافة الروح إلى(14/29)
الله تشريف لآدم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فاسقطوا له ساجدين سجود تحية بالانحناء. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فيه تأكيدان للمبالغة في التعميم إِلَّا إِبْلِيسَ هو أبو الجن، الذي كان بين الملائكة أَبى امتنع من أن يسجد له، والاستثناء إما منقطع متصل بقوله: أَبى أي لكن إبليس أبى، وإما متصل على أنه استئناف، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد.
قالَ تعالى يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ.. أي ما منعك، أو أي غرض لك في ألا تكون مع الساجدين قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لا ينبغي لي أن أسجد، واللام لتأكيد النفي، أي لا يصح مني، وينافي حالي لِبَشَرٍ جسماني كثيف، وأنا ملك روحاني خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي وهو أخسّ العناصر، وأنا خلقتني من نار، وهي أشرف العناصر.
فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السموات أو من زمرة الملائكة رَجِيمٌ مطرود من الخير والكرامة، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته اللَّعْنَةَ الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء فَأَنْظِرْنِي أمهلني وأخرني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم بعث الناس إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمى فيه أجلك عند الله، أو وقت انقراض الناس كلهم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق، كما روي عن ابن عباس. ويجوز أن يراد بالأيام الثلاثة: يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات كما قال البيضاوي، فهو يوم الجزاء، ويوم البعث، واليوم المعلوم وقوعه عند الله، والمؤكد حدوثه في علم الناس.
بِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإضلال، والباء للقسم، وما: مصدرية، وجواب القسم: لَأُزَيِّنَنَّ والمعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين استخلصهم الله لطاعته وطهرهم من الشوائب، وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك العبادة من الرياء أو الفساد.
هذا صِراطٌ عَلَيَّ.. أي هذا حق علي أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ أي لا انحراف فيه، ولا عدول عنه إلى غيره. والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء: وهو تخلص المخلصين من إغوائه، أو الإخلاص.
إِنَّ عِبادِي المؤمنين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. تصديق لإبليس فيما استثناه، والمراد بيان نجاتهم من تأثير الشيطان عليهم. والسلطان: التسلط بالإغواء الْغاوِينَ الكافرين لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي لموعد الغاوين أو المتبعين، وأَجْمَعِينَ تأكيد للضمير، أو حال، والعامل فيها: الموعد إن جعل مصدرا على تقدير مضاف، أما إن جعل اسم مكان فإنه لا يعمل سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم، أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. ولعل تخصيص العدد(14/30)
ليشمل جميع المهلكات، أو لأن أهلها سبع فرق لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ نصيب أو فريق معين مفرز له.
المناسبة:
هذا هو النوع السابع من دلائل وجود الله وقدرته وتوحيده، فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة، أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب نفسه.
والدليل هو أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، فيجب انتهاء الحوادث إلى حادث أول، فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى.
وبعد أن ذكر الله تعالى خلق الإنسان الأول، ذكر مقاله للملائكة والجن بشأنه.
التفسير والبيان:
ولقد خلق الله الإنسان الأول آدم أبا البشر من طين أو تراب يابس، فالحمأ: هو الطين، والمسنون: الأملس، والصلصال: التراب اليابس، وقيل:
إنه المنتن المتغير الرائحة في الأصل. وقد بدأ الخلق أولا من تراب، ثم من طين، ثم من صلصال، ليكون أدل على القدرة الإلهية.
وخلقنا جنس الجن من نار السموم، أي نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته. قال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجانّ، ثم قرأ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ
وورد عن عائشة في صحيح مسلم، وأحمد: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» .(14/31)
ونظير الآية قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن 55/ 14- 15] .
وفي هذا إشارة إلى برودة طبع الإنسان، وحرارة طبيعة الجن. وفي الآية تنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة محتده، وذلك كله دليل على قدرة الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى تشريفه لآدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حسدا وكفرا، وعنادا واستكبارا، وافتخارا بالباطل، فقال: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...
أي واذكر أيها الرسول لقومك حين أمرت الملائكة قبل خلق أبيكم آدم بالسجود له بعد اكتمال خلقه، وإباء إبليس عدوه من بين سائر الملائكة السجود له، قائلا: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر 15/ 33] متذرعا بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 38/ 76] وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء 17/ 62] .
وقد تضمن دفاع إبليس وسبب امتناعه عن السجود لآدم: بأنه خير منه، فإنه خلق من النار، وآدم من الطين، وفي النار عنصر الارتفاع والسمو، وفي التراب عنصر الخمود والركود، فهي أشرف من الطين، والأعلى لا يعظم الأدنى.
وذلك قياس فاسد لأن خيرية المادة لا تعني خيرية العنصر، بدليل أن الملائكة من نور، والنور خير من النار. ثم إنه عصيان أمر الخالق، وجهل بأن آدم امتاز باستعداد علمي وعملي لتلقي التكاليف وتقدم الكون.
لذا عاقبة الله بقوله: قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ... أي فاخرج(14/32)
من المنزلة التي كنت فيها من الملأ الأعلى، فإنك مرجوم، أي لعين مطرود، لعنة دائمة ملازمة له إلى يوم القيامة.
وإمعانا في الكيد لآدم وحسدا له ولذريته طلب الإمهال إلى يوم البعث من القبور، وحشر الخلق لموقف الحساب، فأرجأه الله إلى يوم الوقت المعلوم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق.
فلما تحقق إبليس الانتظار لذلك اليوم قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي قال إبليس عاتيا متمردا: رب بسبب إغوائك وإضلالك إياي، لأزينن في الأرض أي الدنيا لذرية آدم عليه السلام الأهواء، وأحبّب إليهم المعاصي، وأرغّبهم فيها، إلا المخلصين الذين أخلصوا لك في الطاعة والعبادة. واستثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه.
فهدده تعالى وتوعده بقوله: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية أو الإخلاص طريق مستقيم، مرجعه إلي، فأجازي كل واحد بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر 89/ 14] . فقوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الإخلاص طريق علي وإلي، يؤدي إلى كرامتي وثوابي، أو هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم، أو هذا طريق عليّ تقريره وتأكيده، وهو مستقيم: حق وصدق. ومؤدى الكلام: ألا مهرب لأحد مني، كما يقال لمن يتوعده ويتهدده: طريقك علي. وقوله: مستقيم أي لا عوج فيه ولا انحراف.
وهو رد لما جاء في كلام إبليس: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف 7/ 16- 17] .
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. أي إن عبادي المؤمنين(14/33)
المخلصين أو غير المخلصين، أو الذين قدرت لهم الهداية، لا سلطان لك على أحد منهم، ولا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ..
استثناء منقطع، أي لكن الذين اتبعوك من الضالين المشركين باختيارهم، فلك عليهم سلطان، بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي، والدليل قوله تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل 16/ 100] .
ونظير الآية: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل 16/ 99- 100] .
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] .
ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ.. أي لجهنم سبعة أبواب، قد خصص لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم من أتباع إبليس، يدخلونه، لا محيد لهم عنه، وكلّ يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله.
وفي تفسير الأبواب السبعة قولان:
قول: إنها سبع طبقات: بعضها فوق بعض، وتسمى تلك الطبقات بالدركات، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145] والسبب: أن مراتب الكفر مختلفة بالشدة والخفة، فاختلفت مراتب العذاب.
وقول آخر: إنها سبعة أقسام، ولكل قسم باب، أولها كما ذكر ابن جريج:
جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. الأولى(14/34)
كما ذكر الضحاك: للعصاة الموحدين، والثانية: لليهود، والثالثة: للنصارى، والرابعة: للصابئين، والخامسة: للمجوس، والسادسة: للمشركين، والسابعة:
للمنافقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات ما يأتي:
1- خلق الله آدم عليه السلام الإنسان الأول من طين يابس، مما يدل على القدرة الإلهية.
وخلق الجانّ من قبل خلق آدم من نار جهنم أو من الريح الحارة التي تقتل، أو من نار لا دخان لها.
ورد في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما صوّر الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، وينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» «1» .
2- كرم الله الأصل الإنساني، فأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، ولله أن يفضل من يريد، ففضل الأنبياء على الملائكة، وامتحنهم الله بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل.
3- سجد الملائكة له كلهم أجمعون إلا إبليس رفض وأبى، وإبليس ليس من جملة الملائكة: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف 18/ 50] .
وهذا الاستثناء دليل للشافعي في جواز استثناء غير الجنس من الجنس، مثل: لفلان علي دينار إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا رطل حنطة، سواء المكيلات والموزونات والقيميات. وأجاز مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما استثناء المكيل
__________
(1) أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه.(14/35)
من الموزون، والموزون من المكيل، كاستثناء الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم، ولم يجيزا استثناء القيميات من المكيلات أو الموزونات، كالمثالين المذكورين في بيان مذهب الشافعي، ويلزم المقرّ جميع المبلغ.
4- سئل إبليس عن سبب امتناعه من السجود، فأجاب بأنه مخلوق من عنصر وهو النار أشرف من التراب.
5- كان عقاب إبليس الطرد من السموات أو من جنة عدن أو من جملة الملائكة، وملازمة اللعنة له إلى يوم القيامة.
6- سأل إبليس تأخير عذابه، زيادة في بلائه، كالآيس من السلامة، وأراد الإنظار إلى يوم يبعثون: ألا يموت لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده، فأجله الله تعالى إلى الوقت المعلوم: وهو النفخة الأولى، حين تموت الخلائق.
7- صمم إبليس على مدى الحياة إغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق الهدى، إلا المؤمنين سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، فلا سلطان له عليهم في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفو الله، وهم الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.
8- قول الله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ على سبيل الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك علي، ومصيرك إلي، ومعنى الكلام: هذا أي طريق العبودية طريق مرجعه إلي، فأجازي كلا بعمله.
9- استثناء إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وإِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ دليل على جواز استثناء القليل من الكثير، والكثير من القليل، مثل: علي عشرة إلا درهما، أو عشرة إلا تسعة. وقال ابن حنبل: لا يجوز أن يستثني إلا قدر النصف فما دونه، وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح.(14/36)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
10- إن جهنم موعد إبليس ومن اتبعه. ولجهنم سبعة أطباق، طبق فوق طبق، لكل طبقة حظ معلوم. وجهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
جزاء المتقين يوم القيامة
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
الإعراب:
إِخْواناً حال من الْمُتَّقِينَ أو من واو ادْخُلُوها أو من الضمير في آمِنِينَ.
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ حال أيضا.
البلاغة:
ادْخُلُوها بِسَلامٍ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال لهم: ادخلوها.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ هم الذين اتقوا الكفر والفواحش جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ أنهار جارية بِسَلامٍ أي سالمين من المخاوف والآفات آمِنِينَ من كل فزع غِلٍّ حقد وحسد دفين في القلب سُرُرٍ جمع سرير، وهو المجلس العالي عن الأرض مُتَقابِلِينَ لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم نَصَبٌ تعب وإعياء وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أبدا.(14/37)
سبب النزول:
نزول الآية (45) :
إِنَّ الْمُتَّقِينَ: أخرج الثعلبي عن سلمان الفارسي أنه لما سمع قوله تعالى:
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فرّ ثلاثة أيام هاربا من الخوف، لا يعقل، فجيء به للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فو الذي بعثك بالحق، لقد قطّعت قلبي، فأنزل الله:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
نزول الآية (47) :
وَنَزَعْنا..: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قيل: وأي غل؟
قال: غل الجاهلية، إن بني تميم، وبني عدي، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابّوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده، فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم، أتبعه ببيان حال السعداء من أهل النعيم المقيم الذين لا سلطان لإبليس عليهم، وهم المتقون.
التفسير والبيان:
إن المتقين الذين اتقوا عذاب الله ومعاصيه، وأطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، فلم يتأثروا بسلطان إبليس ووساوسه، هم في جنات أي بساتين ذات ثمار دائمة وظلال وارفة، وتتفجر من حولهم عيون هي أنهار أربعة: من ماء، ولبن، وخمر غير مسكرة، وعسل مصفى، خاصة بهم أو عامة، دون تنافس أو نزاع(14/38)
عليها، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ.. [محمد 47/ 15] .
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يقال لهم: ادخلوها سالمين من الآفات، مسلّما عليكم، آمنين من كل خوف وفزع. ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.. ونزع الله كل ما في صدورهم في الدنيا من حقد وعداوة، وضغينة وحسد، حالة كونهم إخوانا متحابين متصافين، جالسين على سرر متقابلين، لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه، ولا ينظر إلى ظهره، فهم في رفعة وكرامة.
والمراد: أن الله طهر قلوبهم من معكّرات الدنيا، فلا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر، ولا غيبة ولا نميمة، ولا تنازع، وألقي فيها التوادّ والتحابّ والتصافي لأن خصائص المادة زالت بالموت في الدنيا.
جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقّوا، أذن لهم في دخول الجنة» .
وروى ابن جرير وابن المنذر عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه، بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحّب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فقال رجلان إلى ناحية البساط:
الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا؟! فقال علي رضي الله عنه: قوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هم إذن، إن لم أكن أنا وطلحة؟.(14/39)
لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ... أي لا يصيبهم في تلك الجنات تعب ولا مشقة ولا أذى، إذ لا حاجة لهم إلى السعي والكدح، لتيسير كل ما يشتهون أمامهم دون جهد.
جاء في الصحيحين: «إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب» .
وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي وهم ماكثون فيها، خالدون فيها أبدا، لا يخرجون منها ولا يحوّلون عنها.
جاء في الحديث الثابت: «يقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحّوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تطغوا أبدا» .
وقال الله تعالى: خالِدِينَ فِيها، لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف 18/ 108] .
والخلاصة: إن مقومات النعيم والثواب والمنافع ثلاثة: الاقتران بالاطمئنان والاحترام، وهو قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ والصفاء من شوائب الضرر والمعكرات الروحية كالحقد والحسد، والجسمية كالإعياء والمشقة، وهو قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ والدوام والخلود بلا زوال، وهو قوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- إن جزاء المتقين الذين اتقوا الفواحش والشرك جنات أي بساتين وعيون هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. ويقال لهم: ادخلوها بسلامة من كل داء وآفة، آمنين من الموت والعذاب، والعزل والزوال، فهم في احترام
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 193(14/40)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
وتعظيم. والقول الحق الصحيح وهو قول جمهور الصحابة والتابعين أن المراد بالمتقين: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به. وقال المعتزلة: هم الذين اتقوا جميع المعاصي.
2- لا يتعرض أهل الجنة لشيء من الأضرار والمؤذيات، فهم في خلوص من شوائبها الروحانية كالحقد وغيره، والجسمانية كالتعب والمرض، وهم في نعمة وكرامة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، تواصلا وتحاببا.
3- إن نعيم الجنة دائم لا يزول، وإن أهلها باقون: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرعد 13/ 35] إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ [ص 38/ 54] .
4- الجنات أربع والعيون أربع، أما عدد الجنات فلقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن 55/ 46] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن 55/ 62] . وأما العيون فهي أربعة أيضا وهي المذكورة في الآية المتقدمة:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ...
المغفرة والعذاب
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
البلاغة:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ يوجد مقابلة بين العذاب والمغفرة، وبين الرحمة والعذاب.(14/41)
المفردات اللغوية:
نَبِّئْ أخبر يا محمد. الْغَفُورُ للمؤمنين. الرَّحِيمُ بهم. وَأَنَّ عَذابِي للعصاة. الْأَلِيمُ المؤلم.
قال البيضاوي: وفي ذكره المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالمغفرة والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: «أتضحكون، وذكر الجنة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: اطلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال:
«لا أراكم تضحكون، ثم أدبر ثم رجع القهقرى، فقال: إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر، جاء جبريل، فقال: يا محمد، إن الله يقول: لم تقنط عبادي:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله: نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه» .
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية، فقال: نَبِّئْ عِبادِي وهو إخبار عن سنة الله في عباده(14/42)
أنه غفار لذنوب التائبين المنيبين إلى ربهم، ومعذّب بعذاب مؤلم من أصروا على المعاصي ولم يتوبوا منها.
التفسير والبيان:
أخبر يا محمد عبادي أني ذو مغفرة ورحمة، وذو عذاب أليم. وهذا دال على مقامي الرجاء والخوف. فالله تعالى يستر ذنوب من تاب وأناب، فلا يفضحهم ولا يعاقبهم، ويرحمهم فلا يعذبهم بعد توبتهم. وهذا يشمل المؤمن الطائع والعاصي.
وأخبرهم أيضا بأن عذابي لمن أصرّ على الكفر والمعاصي ولم يتب منها هو العذاب المؤلم الشديد الوجع. وهذا تهديد وتحذير من اقتراف المعاصي.
ففي الآية كغيرها من الآيات الكثيرة جمع بين التبشير والتحذير، والترغيب والترهيب، ليكون الناس بين حالي الرجاء والخوف.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله تعالى:
نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله، لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله، لبخع نفسه» .
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» .
ورواية مسلم هي: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد» .(14/43)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية دليل على آخر على وسطية الإسلام، فينبغي للإنسان أن يذكّر نفسه وغيره، فيخوّف ويرجّي، ويكون الخوف في حال الصحة أغلب عليه منه في حال المرض، فهو في حال دائمة بين الخوف والرجاء لأن القنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوسطها.
فالله تعالى وسعت رحمته كل شيء، وهو كثير المغفرة لمن تاب وأناب، ولكنه أيضا لتحقيق التوازن وقمع الفاحشة والمنكر والشرك شديد العذاب لمن أصرّ على معصيته، ومات قبل التوبة والإنابة، وذلك هو العدل المطلق.
وكل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كون الله غفورا رحيما، ومن أنكر ذلك، كان مستوجبا للعقاب الأليم لأنه كما يقول الأصوليون: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم أو «تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق» . فقد وصفهم بكونهم عبادا له، ثم ذكر عقيب هذا الوصف: الحكم بكونه غفورا رحيما.
قال الرازي: وفي الآية لطائف:
إحداها- أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: عِبادِي وهذا تشريف عظيم.
وثانيها- لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة هي:
أَنِّي وأَنَا وإدخال الألف واللام على قوله: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ولما ذكر العذاب لم يقل: إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وثالثها- أنه أمر رسوله بأن يبلغهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.(14/44)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
ورابعها- أنه لما قال: نَبِّئْ عِبادِي كان معناه: نبئ كل من كان معترفا بعبوديتي، وهذا يدخل فيه المؤمن المطيع والمؤمن العاصي. وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى «1» .
قصة ضيف إبراهيم وإخبارهم بإهلاك قوم لوط
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 77]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 19/ 194- 195(14/45)
الإعراب:
فَبِمَ هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب، أي فبأي أعجوبة تبشروني؟
تُبَشِّرُونَ فتحت النون لأنها نون الجمع، قياسا على فتحها في جمع الاسم، نحو الزيدون، كما كسرت النون بعد ضمير الفاعل إذا كان مثنى في نحو تفعلان قياسا على كسرها في تثنية الاسم، نحو «الزيدان» حملا للفرع على الأصل. وتُبَشِّرُونَ هنا فعل متعد، والمفعول محذوف.
وقرئ: تُبَشِّرُونَ بنون خفيفة مكسورة، وأصله: تبشرونني، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، وهما نون الوقاية ونون الإعراب، فحذف إحداهما تخفيفا، وحذفت ياء الإضافة وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها.
وقرئ تُبَشِّرُونَ بنون مشددة مكسورة، ولما استثقل اجتماع النونين المتحركتين، سكّن النون الأولى، وأدغمها في الثانية، قياسا على كل حرفين متحركين من جنس واحد في كلمة واحدة.
ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها.
إِلَّا آلَ لُوطٍ منصوب لأنه استثناء منقطع لأن (أتباع لوط) ليسوا من القوم المجرمين. وامْرَأَتَهُ منصوب على الاستثناء من آل لوط. وهذا الاستثناء يدل على أن الاستثناء من الإيجاب نفي ومن النفي إيجاب لأنه استثنى آل لوط من المجرمين، فلم يدخلوا في الإهلاك، ثم استثنى من آل لوط امْرَأَتَهُ فدخلت في الهلاك.
إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ لما دخلت اللام علقت الفعل عن العمل، مثل: قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون 63/ 1] .(14/46)
أَنَّ دابِرَ.. منصوب على البدل من موضع ذلِكَ إن جعل الأمر عطف بيان، أو بدل من الْأَمْرَ إن كان الْأَمْرَ بدلا من ذلِكَ. ومُصْبِحِينَ حال من هؤُلاءِ. وعامل الحال معنى الإضافة: دابِرَ هؤُلاءِ من المضامّة والممازجة.
عَنِ الْعالَمِينَ أي عن ضيافة العالمين، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ مبتدأ، والخبر محذوف، أي لعمرك قسمي.
البلاغة:
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أسند فعل التقدير إلى الملائكة مجازا وهو لله وحده، لما لهم من القرب.
أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ كناية عن عذاب الاستئصال.
عالِيَها سافِلَها بينهما طباق.
الْقانِطِينَ الْغابِرِينَ أَجْمَعِينَ مُصْبِحِينَ مُشْرِقِينَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فيها سجع، وكذا في الضَّالُّونَ الْمُرْسَلُونَ لَصادِقُونَ.
المفردات اللغوية:
وَنَبِّئْهُمْ أخبرهم وهو معطوف على ما سبق وهو: نَبِّئْ عِبادِي وفي العطف تحقيق لهما ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة، منهم جبريل، بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط. وكلمة ضيف تستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمؤنث والمذكر.
فَقالُوا: سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، أو سلمنا سلاما. وَجِلُونَ خائفون فزعون.
لا تَوْجَلْ لا تخف. إِنَّا رسل ربك. نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل. بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي علم كثير إذا بلغ، هو إسحاق، لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود 11/ 71] .
أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد. عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ حال، أي مع مسّه إياي. فَبِمَ فبأي شيء. تُبَشِّرُونَ استفهام تعجب. بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق الذي لا شك فيه، أي بالصدق أو باليقين. الْقانِطِينَ الآيسين من الولد للكبر. وَمَنْ يَقْنَطُ أي لا يقنط. الضَّالُّونَ الكافرون الذي لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته، أو البعيدون عن الحق. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم؟ والخطب: الأمر الخطير. مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط، وأرسلنا لإهلاكهم. لَمُنَجُّوهُمْ لمخلّصوهم مما هم فيه لإيمانهم. قَدَّرْنا قضينا وكتبنا، والتقدير:(14/47)
جعل الشيء على مقدار معين، وأسند الملائكة التقدير لأنفسهم مع أنه هو فعل الله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص به.
الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أي بقيت امرأته في العذاب لكفرها. فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ أي لوطا. قالَ لوط لهم. مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم. بِما كانُوا فِيهِ أي قومك. يَمْتَرُونَ يشكّون، وهو العذاب. لَصادِقُونَ في قولنا.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ اذهب بهم ليلا. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بجزء أو طائفة من الليل.
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ امش خلفهم أو على إثرهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم، أو يطلع على أحوالهم، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم. حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، ففيه تعدية الفعل: وَامْضُوا إلى حيث، وتعدية: تُؤْمَرُونَ إلى ضميره المحذوف. وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط. أَنَّ دابِرَ آخر. مَقْطُوعٌ مهلك مستأصل. مُصْبِحِينَ حال، أي يتم استئصالهم في الصباح، أي عند طلوع الصبح.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مدينة سدوم، وهي مدينة قوم لوط، أي جاء قوم لوط لما أخبروا أن في بيت لوط مردا حسانا وهم الملائكة. يَسْتَبْشِرُونَ حال، طمعا في فعل الفاحشة بهم، والاستبشار: إظهار السرور. فَلا تَفْضَحُونِ في ضيفي، والفضيحة: إظهار ما يوجب العار، فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في اقتراف الفاحشة. وَلا تُخْزُونِ ولا تذلون بسببهم، والخزي: الذل والهوان أي لا تلحقوا بي ذلا بقصدكم إياهم، بفعل الفاحشة بهم، أو لا تخجلوني فيهم، من الخزاية وهو الحياء.
أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إضافتهم أو إجارة أحد منهم، أو لم تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل غريب، وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه. هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم، فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، أو هؤلاء بناتي فتزوجوهن. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قضاء الوطر. لَعَمْرُكَ يكون بفتح العين حال القسم، وهو قسم من الله تعالى بحياة المخاطب وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي وحياتك، والعمر: بفتح العين وضمها: الحياة. سَكْرَتِهِمْ غوايتهم.
يَعْمَهُونَ يترددون. الصَّيْحَةُ صيحة جبريل، وهي الصاعقة، قال ابن جرير: وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة. مُشْرِقِينَ وقت شروق الشمس، أي داخلين في وقت الشروق.
عالِيَها أي قراهم. سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، فصارت منقلبة بهم. سِجِّيلٍ طين متحجر، طبخ بالنار، وهو لفظ معرّب. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله. لِلْمُتَوَسِّمِينَ للناظرين المتفكرين(14/48)
المعتبرين. وَإِنَّها قرى قوم لوط. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك قريش إلى الشام، بنحو واضح لم تندرس آثارها، يمر بها الناس ويرون آثارها، أفلا يعتبرون بها. لَآيَةً لعبرة.
لِلْمُؤْمِنِينَ بالله ورسله.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذرا عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء. وكان ذكر هذه القصص تفصيلا للوعد والوعيد، فبدأ أولا بقصة إبراهيم عليه السلام للبشارة بغلام عليم، ثم ذكر إهلاك قوم لوط، لاقترافهم جريمة فاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين.
التفسير والبيان:
وأخبرهم يا محمد عن ضيوف إبراهيم المكرّمين، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، فقالوا حين دخلوا عليه: سلاما، أي سلاما من الآفات والآلام والمخاوف. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى: أبا الضيفان.
فقال إبراهيم للضيوف: إنا خائفون منكم لدخولهم عليه بلا إذن، أو لما رأى أيديهم لا تمتد إلى ما قربه إليهم من الضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ (المشوي بالحجارة المحماة) . وهذا يعني أنهم يبيتون شرا، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ، نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود 11/ 70] .
فأجابوه بقولهم: لا تَوْجَلْ لا تخف، وفي سورة هود: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [70] فهذا تعليل النهي عن الوجل في تلك السورة، وأما هنا فعللوا ذلك بقولهم: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي أتينا لبشارتك بميلاد غلام ذي علم وفطنة وفهم لدين الله لأنه سيكون نبيا، وهو إسحاق عليه(14/49)
السلام، كما تقدم في سورة هود [71] وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [112] .
قالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي.. أجاب إبراهيم متعجبا من مجيء ولد حال كبره وكبر زوجته، ومتحققا من الوعد، أبشرتموني بذلك بعد أن أصابني الكبر، فبأي أعجوبة تبشروني، أو إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء.
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به: قالُوا: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ.. أي قال ضيوف إبراهيم له: بشرناك بما هو حق ثابت إذ هو صنع الله ووعده الذي لا يتخلف، فلا تكن من القانطين اليائسين، فالذي أوجد الإنسان من التراب من غير أب وأم قادر على إيجاده من أي شيء، كأبوين عجوزين، أي أن إبراهيم استعظم نعمة الله عليه في وقت غير مألوف عادة، لا أنه استبعد ما هو داخل في نطاق القدرة الإلهية.
فأجابهم قالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ.. أي أجاب إبراهيم الضيوف بأنه ليس يقنط، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك، ولا ييأس من رحمة الله إلا الضالون: أي المخطئون طريق الصواب، كما قال يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] .
ثم بعد تأكد إبراهيم الخليل عليه السلام من هذه البشرى وعلمه أنهم ملائكة، وذهاب الروع عنه، سألهم عن أمرهم بسبب مجيئهم مختفين: قالَ: فَما خَطْبُكُمْ.. أي قال لهم: فما شأنكم وما الأمر الذي أرسلتم به غير البشرى أيها الملائكة المرسلون؟ كأنه فهم من قرائن الأحوال أن لهم مهمة أصلية غير البشرى لأن البشرى كما حدث لزكريا ومريم يكفيها واحد.(14/50)
فأجابوه: قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا.. أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين مشركين هم قوم لوط، الذين يتعاطون المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء، لنهلكهم.
ثم أخبروه أنهم سينجّون آل لوط جميعهم من بينهم إلا امرأته التي كانت متواطئة مع قومها، فإنها من الغابرين، أي الباقين مع الكفرة الهالكين، فإنا مخلصوهم أجمعين من ذلك العذاب: عذاب الاستئصال، إلا امرأة لوط، قضى الله عليها أن تكون مع المهلكين، لإعانتهم على مقاصدهم الخبيثة.
وقد أضاف الملائكة التقدير في قولهم: قَدَّرْنا إلى أنفسهم، مع أنه لله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى، كما يقول خاصة الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا، والآمر هو الملك، وليس هم.
ثم بدأت قصة الدمار والعذاب ومجيئهم إلى لوط عليه السلام فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ.. أي لما انتهت مهمة الملائكة مع إبراهيم فبشروه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين، ذهبوا بعدئذ إلى لوط وآله في صورة شباب حسان الوجوه، في بلدهم (سدوم) ولم يعرف لوط وقومه أنهم ملائكة الله، كما لم يعرفهم إبراهيم بادئ ذي بدء، فقال لهم لوط: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي إنكم قوم غير معروفين لدي، تنكركم نفسي، وأخاف أن تباغتوني بشر، فمن أي الأقوام أنتم؟! كما جاء في آية أخرى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً، سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود 11/ 77] . وقيل: أنكر حالتهم، وخاف عليهم من إساءة قومه، لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه.
فأجابوه بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي قالت الملائكة له: جئناك بما يسرّك، وهو عذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم، ويكذبونك فيه قبل مجيئه.(14/51)
ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق واليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه، وهو عذاب قوم لوط، وهذا مثل قوله تعالى:
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر 15/ 8] .
وَإِنَّا لَصادِقُونَ وهذا تأكيد آخر، أي وإنا لصادقون فيما أخبرناك به، من هلاكهم ونجاتك مع أتباعك المؤمنين.
وإنما وصفوا مهمتهم بهذا الوصف، ولم يصرحوا بعذابهم، لإفادة تحقق عذابهم، وإثبات صدقه عليه السلام فيما دعاهم إليه.
ثم جاءت مرحلة التنفيذ وبيان خطة النجاة للوط وأتباعه، فقالوا له:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فسر بأهلك بعد مضي جزء من الليل، وأهله: ابنتاه فقط وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي وامش وراء أهلك ليكون أحفظ لهم.
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم، فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما أصابهم من العذاب والنكال، حتى لا يرق قلبه لهم.
وأكدوا النهي بقوله: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي سيروا بأمر ربكم غير ملتفتين إلى ما وراءكم، إلى الشام، كما قال ابن عباس، أو حيث يوجهكم جبريل الذي أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة، لم يعمل أهلها مثل عمل قوم لوط.
وأوحى الله إليه أن التنفيذ سريع الحصول فقال: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي وأوحينا إليه أو تقدمنا إليه أن أمر هلاكهم مقضي قضاء مبرما، وأن آخر هؤلاء وأولهم مستأصل وقت الصباح، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود 11/ 81] . فقوله: دابِرَ هؤُلاءِ يعني آخرهم، أي يستأصلون عن آخرهم، حتى لا يبقى منهم أحد.
ثم ذكر الله تعالى في ثنايا القصة ما عزم عليه قوم لوط من الإساءة لهؤلاء(14/52)
الضيوف، فقال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ أي جاء قوم لوط أهل سدوم، حين علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، مستبشرين بهم فرحين، أملا في ارتكاب الفاحشة معهم. وهذا جرم فظيع، وأمر مستهجن، ينافي الأعراف والأذواق السليمة من إكرام الغريب والإحسان إليه.
قيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن، اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: إن امرأة لوط أخبرتهم بذلك. وعلى أي حال قال القوم: نزل بلوط ثلاثة من المرد، ما رأينا قط أصبح وجها، ولا أحسن شكلا منهم، فذهبوا إلى دار لوط.
فقال لهم لوط جملتين مؤثّرتين، الأولى: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي هؤلاء ضيوف، فلا تفضحوني فيهم، أي بارتكاب ما يؤدي إلى العار معهم، والضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموهم بالسوء، كان ذلك إهانة لي.
والثانية مؤكدة للأولى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي وخافوا عذاب الله، ولا تخزون أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي، ولا توقعوني في الخزي (أي الهوان) والعار، بالإساءة لهم.
فأجابوه: وقالُوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، ونهيناك أن تضيف أحدا.
فأجابهم قالَ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال لوط لقومه مرشدا لهم: تزوجوا النساء اللاتي أباحهن الله لكم، وتجنبوا إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمري. والمراد ببناته: نساء قومه لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم، كما قال تعالى في حق نبينا النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب 33/ 6] وفي قراءة أبيّ: وهو أب لهم.
وقيل: المراد بناته من صلبه، أي التزوج بهن.(14/53)
وهذا كله، وهم غافلون عما يراد بهم، ويحيط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر، لهذا قال تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو قالت الملائكة للوط:
لَعَمْرُكَ، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي أقسم بحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا أيها الرسول- وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع- إنهم في غوايتهم يتحيرون، فلا يلتفتون إلى نصيحتك، ولا يميزون بين الخطأ والصواب.
وسَكْرَتِهِمْ ضلالتهم، ويَعْمَهُونَ يترددون أو يلعبون.
قال ابن عباس: ما خلق الله وما ذرأ، وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره.
ثم أخبر الله تعالى عن نوع عذابهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي فنزل فيهم صيحة جبريل عليه السلام: وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها، فقوله مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق، لذا قال أولا مُصْبِحِينَ ثم قال هنا مُشْرِقِينَ.
وأخذ الصيحة: قهرها لهم وتمكنها منهم، وقد أدت بهم إلى رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم.
والصيحة: صوت شديد مهلك من السماء.
وهذا ما تضمنه قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي جعلنا عالي المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها أي في أعماقها، فانقلبت عليهم، وأنزل تعالى عليهم حجارة من طين متحجر طبخ بالنار.
يظهر مما سبق أن الآية ذكرت أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب هي:(14/54)
1- الصيحة الهائلة المنكرة.
2- أنه جعل عاليها سافلها.
3- أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل.
ثم ذكر تعالى العبرة من تلك القصة، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي إن في ذلك العذاب الواقع بقوم لوط لدلالات للمتأملين المتفرّسين، الذين يتعظون بالأحداث، ويتفهمون ما يكون لأهل الكفر والفواحش من عقاب أليم.
وبالمناسبة:
روى البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
ثم وجّه تعالى أنظار أهل مكة وأمثالهم إلى الاعتبار بما حدث فقال:
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي وإن مدينة سدوم التي أصابها هذا العذاب لبطريق واضح، لا تخفى على المسافرين المارّين بها، فآثارها ما تزال باقية إلى اليوم، في الطريق من الحجاز إلى الشام، كما قال تعالى في آية أخرى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات 37/ 137- 138] . فقوله:
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي بطريق واضح.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجاءنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله، أي إن المنتفعين حقا من مغزى القصة هم المؤمنون الذين يدركون أن العذاب انتقام من الله لأنبيائه. أما غير المؤمنين بالله، فينسبون الدمار للطبيعة والشؤون الأرضية.(14/55)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت القصة إلى ما يأتي:
1- تعليم أدب الضيف بالتحية والسلام حين القدوم على الآخرين.
2- وصف أحاسيس المضيف ومخاوفه حين تقديم الطعام لضيفه وامتناعهم عن الأكل.
3- كانت بشارة الملائكة لإبراهيم بولادة إسحاق سببا في طرد مخاوفه وإشعاره بالأمن والسلامة.
4- كان استفهام إبراهيم الخليل استفهام تعجب من مخالفة العادة، وحصول الولد حال الشيخوخة التامة من الأبوين معا، ولم يكن استفهامه استبعاد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر لأن إنكار قدرة الله تعالى حينئذ كفر.
5- أكد الملائكة البشارة، وأنها حق ثابت لا خلف فيه، وأن الولد لا بد منه، ثم نهوه عن القنوط واليأس. ويلاحظ أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهي عنه، كما في قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب 33/ 48] .
وقد نفى إبراهيم القنوط عن نفسه قائلا وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. وهذا يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه، لا أنه قنط من رحمة الله تعالى.
6- لا خلاف في اللغة العربية في أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فقوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ استثنى آل لوط من القوم المجرمين، فهم ناجون، ثم استثنى امرأته من آل لوط، فهي هالكة.(14/56)
7- لم يعرف لوط وآله أن الضيوف ملائكة، كما لم يكن إبراهيم قد عرفهم.
وقيل: كانوا شبابا، ورأى جمالا، فخاف عليهم من فتنة قومه، فهذا هو الإنكار في قوله قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
8- ليس محمودا إطالة المكث أو النظر إلى آثار القوم الذين دمرهم الله، ويسن الإسراع حين المرور في تلك الديار لأنها أماكن غضب ولعنة.
9- نهى الله تعالى لوطا وأتباعه عن الالتفات أثناء نزول العذاب بقوم لوط، حتى لا تأخذهم الشفقة عليهم، وليجدّوا في السير، ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح.
10- كان تصميم قوم لوط على ارتكاب الفاحشة مع هؤلاء الضيوف دليلا ماديا آخر على فحشهم وكفرهم وضلالهم.
11- قول لوط عليه السلام: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ سواء كنّ بناته الصلبيات أو نساء قومه: إرشاد إلى الشيء المباح غير الحرام، أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. ويكفر من فهم غير ذلك لأن الزنى حرام في كل الملل والأديان، ولا يقره نبي قط ولو للضرورة.
12- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ: قال القاضي عياض وابن العربي فيه:
أجمع أهل التفسير في هذا: أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم، تشريفا له، وأن قومه من قريش في سكرتهم أي في ضلالتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.
ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوط، أنهم كانوا في سكرتهم يعمهون، وأن الملائكة قالت له لَعَمْرُكَ ...
ويكره لدى كثير من العلماء أن يقول الإنسان: لعمري لأن معناه:(14/57)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
وحياتي، فهو حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. وقال الإمام أحمد: من أقسم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لزمته الكفارة.
13- كان عقاب قوم لوط بالصيحة وقلب بلدهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل أي طين متحجر مطبوخ بالنار عليهم.
14- إن في هذه القصة لعبرة وعظة للمؤمنين الصادقين. والآثار المادية لديار قوم لوط في طريق الشام خير شاهد وأصدق دليل للمتعظين. هذا.. ولم يجز المالكية القضاء بالتوسم والتفرس، فذلك دليل غير متيقن، فلا يترتب عليه حكم.
قصة أصحاب الأيكة (قوم شعيب) وأصحاب الحجر (ثمود)
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 86]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
الإعراب:
وَإِنْ كانَ إِنْ هنا: مخففة من الثقيلة، ومعنى إن ولام لَظالِمِينَ للتوكيد.(14/58)
البلاغة:
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم قوم شعيب عليه السلام، والأيكة: الغيضة: وهي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض، وهي بقرب مدين. لَظالِمِينَ بتكذيبهم شعيبا. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بأن أهلكناهم بشدة الحر. وَإِنَّهُما قرى قوم لوط والأيكة. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح. والإمام: ما يؤتم به، سمي به الطريق لأنه يؤتم ويتّبع.
أَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام، كانوا يسكنونه، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرا، ومنه حجر الكعبة. الْمُرْسَلِينَ أي كذب أصحاب الحجر صالحا، وعبر بالجمع عن المفرد لأنه تكذيب لباقي الرسل، لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد.
آياتِنا هي الناقة التي فيها آيات كثيرة، كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها، أو المراد آيات الكتاب المنزل على نبيهم. مُعْرِضِينَ لا يتفكرون فيها. مُصْبِحِينَ وقت الصباح. أَغْنى دفع. عَنْهُمْ العذاب. ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة والحصون وجمع الأموال. إِلَّا بِالْحَقِّ أي خلقا ملتبسا بالحق، ملازما له، لا يلائم استمرار الفساد، ودوام الشرور لَآتِيَةٌ لا محالة، فيجازي كل أحد بعمله. فَاصْفَحِ يا محمد عن قومك. الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه، أو لا تعجل بالانتقام منهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. الْخَلَّاقُ لكل شيء، خلقك وخلقهم، وبيده أمرك وأمرهم. الْعَلِيمُ بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل إليه الأمر.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة والرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، فأولها: قصة آدم وإبليس، وثانيها: قصة إبراهيم ولوط، وثالثها: هذه القصة- قصة أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب غياض (أشجار متشابكة كثيرة) فكذبوا شعيبا، فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة، أي الصيحة وقت الصباح، لشركهم بالله، ونقصهم المكاييل والموازين.(14/59)
ورابعها: قصة صالح مع قومه، كان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها، وظهور نتاجها عند خروجها، وكثرة لبنها.
والهدف من إيراد هذه القصص كما بينا الترغيب في الطاعة الموجبة للفوز بالجنان، والتحذير من المعصية المؤدية لعذاب النيران، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بها عن تكذيب قومه له.
وأما مناسبة قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ.. فهو أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار، فكأنه قيل: الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم؟ فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة، فاذا تركوها وأعرضوا عنها، وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم. أو أن المراد من هذه الآية تصبير الله تعالى محمدا عليه السلام على سفاهة قومه، فإنه إذا عرف أن الأنبياء السابقين عاملتهم أممهم بمثل هذه المعاملات الفاسدة، سهل عليه تحمل السفاهات من قومه.
التفسير والبيان:
أي إن أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب ظالمون، بسبب شركهم بالله، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبي الزمان من قوم لوط بعدهم، ومجاورين لهم في المكان، لذا لما أنذر شعيب قومه قال: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود 11/ 89] .
والأيكة: الشجر الملتف.
روى ابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مدين وأصحاب الأيكة أمّتان بعث الله إليهما شعيبا» .(14/60)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ.. أي فعاقبناهم جزاء كفرهم ومعاصيهم، عاقبنا أهل الأيكة بيوم الظلة: وهو إصابتهم بحر شديد سبعة أيام، لا ظل فيه، ثم أرسلت عليهم سحابة، فجلسوا تحتها، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. وعاقبنا أهل مدين بالصيحة.
وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي وإن كلا من قرى قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة لبطريق واضح يسلكه الناس في سفرهم من الحجاز إلى الشام. والإمام:
ما يؤتم به، وجعل الطريق إماما لأنه يؤمّ ويتّبع حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.
ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحجر وهم ثمود، فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ.. أي ولقد كذبت ثمود صالحا نبيهم عليه السلام، ومن كذب رسولا فقد كذب بجميع المرسلين، لاتفاق أصول دعوتهم في التوحيد وعبادة الله وأمهات الفضائل، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا.. أي وآتيناهم وأعطيناهم من الآيات والدلائل ما يدلهم على صدق نبوة صالح عليه السلام، كالناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء بدعاء صالح، فأعرضوا عنها وعقروها ولم يعتبروا بها، فكانت تسرح في بلادهم، لها شرب يوم من نهر صغير ولهم شرب يوم آخر، ولبنها كثير كان يكفي القبيلة.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ.. أي وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبال وأصبحوا بها آمنين من الأعداء، من غير خوف، لقوة إحكامها، وهي ما تزال مشاهدة بوادي الحجر الذي مرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ذاهب إلى تبوك، فقنّع رأسه، وأسرع دابته،
وقال لأصحابه- فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر-: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا، خشية أن يصيبكم ما أصابهم» .(14/61)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي لما عتوا وبغوا وعقروا الناقة، أخذتهم صيحة الهلاك في وقت الصباح من اليوم الرابع من موعد العذاب، كما قال تعالى:
فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] .
فَما أَغْنى عَنْهُمْ.. أي فما نفعتهم تلك الأموال لما جاء أمر ربك، وما دفعت عنهم ذلك العذاب، ولم يستفيدوا من مكاسبهم وهي ما كانوا ينحتونه من البيوت في الجبال، وما كانوا يستغلونه من الزروع والثمار، التي ضنوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها، لئلا تضيق عليهم في المياه، بل أصبحوا هلكى جاثمين.
ولما أخبر الله تعالى عن إهلاك الكفار، فكأن شخصا تساءل، كيف يليق التعذيب والإهلاك بالرحيم الكريم؟ فأجاب تعالى عنه بقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أي وما خلقنا هذه المخلوقات في السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق، أي بالعدل والحكمة، لا ظلما، ولا باطلا ولا عبثا، ليكون الخلق مشتغلين بالعبادة والطاعة، فإذا تركوها وأعرضوا عنها، وجب في مقتضى العدل والحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم. وفي هذا إشارة إلى أن تعذيب المكذبين للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة هو حق وعدل وحكمة ومصلحة للبشر أنفسهم.
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي وإن يوم القيامة آت لا ريب فيه، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وفي هذا تهديد للعصاة، وترغيب للطائعين.
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض يا محمد عن المشركين، واحتمل ما تلقى منهم من أذى إعراضا جميلا بحلم وإغضاء، وهذا مخالقة للناس بخلق حسن، فهو غير منسوخ. والشائع أن هذا الصفح قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ.
قال الرازي: كون الصفح منسوخا بآية السيف بعيد لأن المقصود من ذلك(14/62)
أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح، فكيف يصير منسوخا «1» ؟! إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي إن ربك كثير الخلق، خلق كل شيء، واسع العلم، عليم بكل شيء، وهذا تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تبدد من الأجساد، وتفرق في سائر أنحاء الأرض، فالجميع صائرون إليه، محاسبون بين يديه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان قصتان من قصص الأمم البائدة الظالمة المكذّبة لرسلها، تهزّ أعماق البشر، وتحرّك مشاعرهم، وتوقظ ضرورة الصحوة والمبادرة إلى ساحة الإيمان وصلاح الأعمال.
فلقد كذب أصحاب الأيكة (قوم شعيب) رسولهم شعيبا، مع أنهم كانوا يرفلون بالنعم والخيرات الكثيرة المغدقة، فكانوا أصحاب غياض «2» ورياض وشجر مثمر.
وظلت بحكمة الله تعالى آثار مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة ماثلة مشاهدة قائمة، ليعتبر بهما من يمرّ عليهما.
وكذلك كذّب أصحاب الحجر (ديار ثمود بين المدينة وتبوك) نبيهم صالحا، فلم يؤمنوا برسالته، ومن كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم لأنهم على دين واحد في الأصول، فلا يجوز التفريق بينهم.
وكان عقاب هؤلاء المكذبين وهو التدمير والإبادة والهلاك التام عبرة للمعتبرين، ومثار تفكير وعظة للمتفكرين، فما أغنت عنهم الأموال والحصون في
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 206
(2) الأيكة: الغيضة، وهي جماعة الشجر، والجمع: الأيك.(14/63)
الجبال وقوة الأجسام. والله الخالق للسموات والأرض قادر على البعث والمعاد والقيامة لإقامة العدل بين الخلائق وحساب الناس أجمعين.
وقد استنبط العلماء من الآيات في ضوء السنة ما يأتي:
1- كراهة دخول مواطن العذاب، ومثلها دخول مقابر الكفار، فإن دخل الإنسان إلى تلك المواضع والمقابر، فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم مما ذكر سابقا من الاعتبار والخوف والإسراع،
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تدخلوا أرض بابل، فإنها ملعونة.
وهناك روايات أخرى
لحديث ابن عمر عند البخاري وهي: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنّا واستقينا، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا ذلك العجين.
وفي لفظ آخر:
أن الناس نزلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحجر- أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة.
2- عدم جواز الانتفاع بماء السخط، فرارا من سخط الله
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإهراق ماء بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به، وتقديمه علفا للإبل.
وهذا ينطبق على الماء النجس وما يعجن به.
3- قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم إذ لا تكليف عليها. وكذلك قال في العسل النجس: إنه يعلفه النحل.
4-
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل
، ولم يأمر بطرحه،(14/64)
كما أمر في لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر، فدل على أن لحم الحمير أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس.
5- يجوز للرجل حمل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها لأمره صلّى الله عليه وسلّم بعلف الإبل العجين.
6- جواز التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم لأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يستقوا من بئر الناقة.
7- منع بعض العلماء الصلاة في موضع العذاب، وقال: لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط، وبقعة غضب. فلا يجوز التيمم بترابها، ولا الوضوء من مائها، ولا الصلاة فيها.
وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله» .
وزاد المالكية: الدار المغصوبة، والكنيسة والبيعة، والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة، أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه إنسان، أو جدارا عليه نجاسة.
لكن أجمع العلماء على جواز التيمم في الموضع الطاهر من مقبرة المشركين، وجواز الصلاة في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر. وقال مالك: لا يصلى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة.
والممنوع مما ذكر مستثنى من
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .
8- لا يصلى في البستان (الحائط) الذي يلقى فيه النتن والعذرة لإصلاحه، حتى يسقى ثلاث مرات،
لما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن النبي(14/65)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
صلّى الله عليه وسلّم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن، قال: «إذا سقي ثلاث مرات فصلّ فيه» .
أفضال الله تعالى على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
الإعراب:
كَما أَنْزَلْنا.. الكاف متعلقة بقوله: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، أو متعلقة بقوله: أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، أي أنذركم من العذاب كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الذين اقتسموا طرق مكة وعقابها، يمنعون الناس عن استماع كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم.
عِضِينَ أي جعلوه أعضاء، حين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وعِضِينَ جمع عضة.
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي، وتُؤْمَرُ صلته، وعائده محذوف(14/66)
تقديره: فاصدع بالذي تؤمر به، كما حذف من قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه الله، ومثل: أمرتك الخير أي أمرتك بالخير، وإما أن تكون «ما» مصدرية، أي فاصدع بالأمر. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ: صفة، وقيل: مبتدأ، ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو فَسَوْفَ.
البلاغة:
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عطف عام وهو القرآن على خاص وهو الفاتحة.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه استعارة تبعية، شبّه خفض الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كل، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه.
المفردات اللغوية:
الْمَثانِي جمع مثنى، من التثنية وهو التكرير والإعادة، والسبع المثاني: هي الفاتحة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه الشيخان لأنها تثنى في كل ركعة، وآياتها سبع لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا. أَزْواجاً أصنافا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا وَاخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك، والمراد به: التواضع واللين، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه: إذا غطاه وضمه إليه. النَّذِيرُ من عذاب الله أن ينزل عليكم والنَّذِيرُ المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به. الْمُبِينُ البيّن الإنذار، أي أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.
كَما أَنْزَلْنا العذاب. عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ هم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر. وقيل: هم أهل الكتاب (اليهود والنصارى) .
الْقُرْآنَ حيث قال المشركون عنادا: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين. وإذا كان المراد أهل الكتاب فالقرآن: كتبهم المنزلة عليهم، آمنوا ببعض كتبهم، وكفروا ببعض، فيكون ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
عِضِينَ أجزاء، جمع عضة بمعنى الكذب، أي جعلوه مفترى، أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ سؤال توبيخ عن التقسيم أو النسبة إلى السحر، فيجازيهم عليه، أو هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي. فليس المقصود بالسؤال سؤال استخبار واستعلام لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لم عصيتم(14/67)
القرآن، وما حجتكم فيه؟ هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة: إن القيامة مواطن، فمرة يكون هناك سؤال وكلام كما في هذه الآية، ومرة لا يكون هناك سؤال وكلام، كما في قوله تعالى:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] .
فَاصْدَعْ يا محمد. بِما تُؤْمَرُ به أي اجهر وأمضه، من صدع بالحجة: إذا تكلم بها جهارا. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك، بإهلاكنا كلا منهم بآفة، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين. وَلَقَدْ للتحقيق. يَضِيقُ صَدْرُكَ أي ينقبض حسرة وحزنا. بِما يَقُولُونَ من الاستهزاء والتكذيب. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل: سبحانه وبحمده، أي التسبيح مقترنا بالحمد. السَّاجِدِينَ المصلين. الْيَقِينُ الموت. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
سبب النزول: نزول الآية (95) :
إِنَّا كَفَيْناكَ: أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحا حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
المناسبة:
لما صبّر الله تعالى محمدا على أذى قومه، وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بها لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز.
التفسير والبيان:
وتالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السبع المثاني والقرآن العظيم،(14/68)
والسبع المثاني: هي سورة الفاتحة، ذات الآيات السبع، التي تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة، والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. روى البخاري حديثين في تفسير السبع المثاني، الأول عن أبي سعيد بن المعلى، والثاني عن أبي هريرة.
أما حديث أبي سعيد فقال: «مرّ بي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أصلّي، فدعاني، فلم آته حتى صليت، فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الأنفال 8/ 24] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟
فذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخرج، فذكّرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
وأما حديث أبي هريرة فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أم القرآن: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم» .
وقيل: السبع المثاني: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة لتكرار القصص والأحكام والحدود وتثنيتها فيها.
وقيل: المراد بالسبع المثاني: جميع القرآن، ويكون العطف من باب الترادف، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر 39/ 23] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه.
والراجح أن تفسير البخاري نص في أن الفاتحة: السبع المثاني. ولا مانع- كما قال ابن كثير- من وصف غيرها بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا، والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن(14/69)
ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة «1» .
ثم رتب تعالى على هذا العطاء العظيم قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.. أي لا تطمح أيها الرسول- والخطاب لأمته- إلى ما متعنا به الأغنياء من زينة الحياة الدنيا، فمن وراء ذلك عقاب شديد، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية. والمقصود: فاخر بما أوحي إليك، وقدّر عظمة نعمته عليك، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية، لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تتحسر عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك، وإذا كنت في نعمة عظمي، هانت أمامها بقية النعم وكانت حقيرة. وهذا دليل على أن القرآن ثروة كبري وخير وفلاح. ونظير الآية: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه 20/ 131] .
قال أبو بكر رضي الله عنه: من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغّر عظيما، وعظّم صغيرا.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي ولا تتأسف على المشركين إذا لم يؤمنوا، ليتقوى بهم الإسلام، ويعتز بهم المسلمون. وقيل: المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا، فلك في الآخرة أفضل منه.
وبعد النهي عن الالتفات لأغنياء الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك وتواضع للمؤمنين، ولا تجافهم ولا تقس عليهم، كما قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 557 [.....](14/70)
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.. [آل عمران 3/ 159] .
ثم وجهه تعالى لوظيفته، وهي الإنذار فقال: وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ.. أي وقل يا محمد للناس: إني منذر ومخوف من عذاب أليم، بسبب التكذيب والتمادي في الغي، كما حل بالأمم المتقدمة المكذبة لرسلها، وما أحاط بهم من انتقام وعذاب.
جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنّجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذّبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق» .
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ هناك رأيان في تعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا «1» .
أحدهما- أن يتعلق بقوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا التوراة والإنجيل على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من قبلك، وهم المقتسمون الذين اقتسموا القرآن إلى أجزاء، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل، وكفروا ببعضه المخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل. وهذا مروي عند البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس.
والثاني- أن يتعلق بقوله: وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي وأنذر
__________
(1) الكشاف: 2/ 195(14/71)
قريشا بالعذاب مثل ما أنزلنا من العذاب على المتسمين- يعني اليهود- وهو ما جرى على قريظة والنضير، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان.
فكل من هذين الرأيين جعل المقتسمين من أهل الكتاب، والمقتسم هو القرآن. ويجوز أن يراد بالقرآن كتبهم التي يقرءونها، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال قومه عن القرآن إنه سحر، أو شعر، أو كهانة.
وهناك وجه ثالث مروي أيضا عن ابن عباس، جعله الرازي هو القول الأول، حيث قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة، يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان:
كانوا ستة عشر رجلا، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها: لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي للنبوة، فإنه مجنون، وكانوا ينفرون الناس عنه، بأنه ساحر، أو كاهن. أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا، فماتوا شر ميتة، والمعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين «1» .
فالمقتسمون: هم القرشيون.
وبعد هذا الإنذار أقسم الله تعالى بذاته العلية على وقوع الحساب على الأعمال، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.. أي فو الله لنسألن جميع الكفار سؤال توبيخ وتأنيب لهم عن أقوالهم وأعمالهم، وسنجازيهم عليها الجزاء الأوفى.
فسر أبو العالية الآية فقال: يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما ذا أجابوا المرسلين.
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 211 وما بعدها.(14/72)
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ، إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، فلا ألفينّك يوم القيامة، وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» .
وإذا كانت هذه مهمتك أيها النبي وهو الإنذار وأن الحساب محقق، فما عليك إلا الجهر بدعوتك، فقد انتهت مرحلة الإسرار في الدعوة، فقال: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ.. أي فاجهر بتبليغ دعوتك للجميع، وواجه بها المشركين، ولا تأبه بهم، فإن الله عاصمك وحافظك منهم، وأعرض عن المشركين، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ هذا تأمين رباني وعصمة وصون، أي إنا كفيناك شر المستهزئين بك، المجاهدين في عداوتك، الساخرين منك ومن القرآن، وهم جماعة ذو وقوة وشوكة من المشركين، وهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث.
قال جبريل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقب الوليد، فتعلق بثوبه سهم، فأبى تعظما نزعه، فأصاب عرقا في عقبه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل، فمات بشوكة دخلت فيه، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فأصيب بداء، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 215، تفسير القرطبي: 10/ 62، تفسير ابن كثير: 2/ 559(14/73)
وكان هؤلاء المستهزئون مشركين، لذا وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي الذين يتخذون إلها آخر مع الله، فيشركون به من لا يضر ولا ينفع.
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم ومآل شركهم ونتيجة كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير، لعلهم يرتدعون ويؤمنون.
ثم سلّى الله نبيه عما يصيبه من أذى المشركين فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ.. أي وإنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض، فلا يثنينك ذلك عن إبلاغ رسالة الله، وتوكل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، والجأ إليه لإزالة الانقباض والجزع. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
أي فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة، وداوم على ذلك حتى يأتيك اليقين، أي الموت، وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن، والدليل لهذا التأويل: قوله تعالى حكاية عن أهل النار: قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ [المدثر 74/ 43- 47] أي الموت.
وهذا دليل على أن علاج ضيق الصدر هو التسبيح والتقديس والتحميد والإكثار من الصلاة، وأن العبادة كالصلاة واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما
ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
وهو دليل أيضا على تخطئة بعض الملاحدة القائلين بأن المراد باليقين:
المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم، وهذا- كما(14/74)
قال ابن كثير- كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس، وأكثرهم عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر، واشتد عليه خطب، فزع إلى الصلاة.
روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- القرآن العظيم هو النعمة العظمى على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين لا يقاس بها أي شيء آخر من مال أو ثروة أو غير ذلك.
2- الفاتحة سورة من القرآن خصصت بالذكر لفضلها ومزيتها، لاشتمالها على أصول الإسلام، بل هي أفضل سور القرآن لسببين:
الأول- إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من القرآن، مما يدل على مزيد الشرف والفضيلة.
الثاني- أنه تعالى لما أنزلها مرتين، دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها.
وإنها نزلت مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة.
3- لا يطمح بصر المؤمن إلى زخارف الدنيا، وعنده معارف المولى عز وجل،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن»
أي من لم يستغن به.
4- قال بعضهم: هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوّف إلى متاع الدنيا على(14/75)
الدوام، وإقبال العبد على مولاه. والحق أنه ليس في دين محمد الرهبانية، والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية، كما كان في دين عيسى، وإنما الإسلام دين الحنيفية السمحة ودين الفطرة ودين الوسطية الذي يجمع بين الروح والمادة، والاشتغال للحياتين معا الدنيا والآخرة، واستيفاء حظوظ الجسد المباحة مع الرجوع إلى الله بقلب سليم.
5- على المؤمن أن يكون بعيدا من المشركين، ولا يحزن إن لم يؤمنوا، قريبا من المؤمنين، متواضعا لهم، محبا لهم، ولو كانوا فقراء.
6- مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مؤمن عالم بعده التبليغ لرسالة الله لجميع الخلق، والإنذار بالعذاب من الكفر والعصيان. وقد كانت دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بادئ الأمر سرّية، ثم صارت جهرية بهذه الآية: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
7- العذاب مقرر على المقتسمين لكتاب الله، بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بالبعض الآخر، سواء أكانوا من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من مشركي قريش.
8- الآية: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ بعمومها تدل على سؤال الجميع من الناس، كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب. والظاهر أن الكافر يسأل، لقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصّافّات 37/ 24] وقوله:
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية 88/ 25- 26] .
وأما قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص 28/ 78] وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] وقوله:
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 174] وقوله: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين 83/ 15] فذلك في أحوال خاصة بيوم القيامة لأن للقيامة مواطن،(14/76)
فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة:
القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها.
وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام، هل عملتم كذا وكذا لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ «1» .
9- تكفلت عناية الله ورعايته بصون النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمايته من أذى المشركين بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون.
قال بعضهم: هذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي: وهو ضعيف لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم، فلا يكون منسوخا «2» .
ثم قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.. أي اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله فان الله كافيك من آذاك، كما كفاك المستهزئين. وصفة المستهزئين:
الشرك، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
10- التسبيح والتحميد والصلاة علاج الهموم والأحزان، وطريق الخروج من الأزمات والمآزق والكروب. وغاية القرب من الله تعالى حال السجود، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأخلصوا الدعاء»
لذا خص السجود هنا بالذكر بقوله: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
11- المسلم مطالب على سبيل الفرضية بالعبادة التي هي الصلاة على الدوام حتى يأتيه الموت، ما لم يغلب الغشيان أو فقد الذاكرة على عقله، والإسلام سمح
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 61
(2) تفسير الرازي: 19/ 215(14/77)
سهل، فعليه أداء الصلاة بأي كيفية يستطيعها، ولا تسقط عنه أصلا إلا في حال لغيبوبة، ويحاسب على كل فريضة تركها أو أهملها عمدا، كما قال العبد الصالح عيسى عليه السلام: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم 19/ 31] .(14/78)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النحل
مكية، وهي مائة وثمان وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة النحل، لاشتمالها في الآيتين [68- 69] : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ على قصة النحل التي ألهمها الله امتصاص الأزهار والثمار، وتكوين العسل الذي فيه شفاء للناس، وتلك قصة عجيبة مثيرة للتفكير والتأمل في عجيب صنع الله تعالى، والاستدلال بهذا الصنع على وجود الله سبحانه.
وسميت أيضا سورة «النّعم» لتعداد نعم الله الكثيرة فيها على العباد «1» .
ارتباطها بالسورة التي قبلها:
إن آخر سورة الحجر شديد الارتباط بأول هذه السورة، فإن قوله تعالى في آخر السورة السابقة: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يدل على إثبات الحشر يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا، وكذلك قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يدل على ذكر الموت، وكل من هاتين الآيتين ظاهر المناسبة لقوله هنا في أول السورة: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إلا أنه في الحجر أتى بقوله:
يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع، وهنا أَتى بلفظ الماضي لأن المراد بالماضي هنا: أنه بمنزلة الآتي الواقع، وإن كان منتظرا، لقرب وقوعه وتحقق مجيئه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 65(14/79)
وكذلك ترتبط هذه السورة بسورة إبراهيم لأنه تعالى ذكر هناك فتنة الميت، وما يحصل عندها من الثبات أو الإضلال، وذكر هنا الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [28، 32] وما يحصل عقب ذلك من النعيم أو العذاب. وذكر أيضا النعيم في سورة إبراهيم، وقال بعده: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [34] وكررت الآية نفسها هنا [18] وذكر هنا أنواع النّعم المختلفة.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة الكلام على أصول العقيدة وهي الألوهية والوحدانية، والبعث والحشر والنشور، فبدأت بإثبات الحشر والبعث واقتراب الساعة ودنوها، معبرا تعالى بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع قطعا، مثل قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] وقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وكل ذلك يدل على أن إخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء لأنه آت لا محالة.
ثم أثبتت الوحي الذي كان ينكره المشركون كما أنكروا البعث، وأنهم كانوا يستعجلون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم العذاب الذي هددهم به.
ثم تحدثت السورة عن أدلة القدرة الإلهية في هذا الكون الدالة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض، وما فيهما من كواكب ونجوم، وجبال وبحار، وسهول ووديان، ومياه وأنهار، ونباتات وحيوانات، وأسماك ولآلئ بحرية وبواخر تجري في البحر، ورياح لواقح ومسيرة للفلك، ودعت إلى التأمل في منافع المطر والأنعام وثمرات النخيل والأعناب، ومهمة النحل، وخلق الإنسان ثم إماتته، والمفاضلة بين الناس في الرزق، وطيران الطيور، وتهيئة المساكن، وغير ذلك.
وأوضحت السورة نعم الله تعالى الكثيرة المتتابعة، وذكّرت الناس بنتيجة(14/80)
الكفر بها، وعدم القيام بشكرها، وإعداد أبواب جهنم للكفار خالدين فيها، وإعداد جنات عدن للمتقين الذين أحسنوا العمل في الدنيا. وأبانت فضل الله سبحانه بإرسال الرسل في كل الأمم، وحصرت مهمتهم الموحدة بالأمر بعبادة الله واجتناب الطاغوت.
وأبانت السورة مهمة خطيرة للأنبياء في عالم القيامة وهي الشهادة على الأمم بإبلاغهم الدعوة الحقة إلى دين الله، وعدم الإذن للكافرين في الكلام، ورفض قبول أعذارهم.
ثم ذكر تعالى أجمع آية في القرآن وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.. [90] وأعقبها بالأمر بالوفاء بالعهود والوعود، وتحريم نقضها، وتعظيم شروطها وبنودها، وعدم اتخاذ الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق وسيلة للخداع والمكر.
ثم أمر الله تعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن، والتصريح بانعدام سلطانه وتأثيره على المؤمنين المتقين المتوكلين على ربهم، وبيان أن سلطانه على المشركين.
وأوضح سبحانه أن هذا القرآن نزل به روح القدس على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو كلام الله، لا كلام بشر عربي أو أعجمي.
وفي السورة ضرب الأمثال لإثبات التوحيد ودحض الشرك والأنداد من دون الله والكفر بأنعم الله، ورفع الحرج عمن نطق بالكفر كرها، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإعطاء كل نفس حق الدفاع عن نفسها يوم القيامة، وجزاء كل إنسان بما عمل.
وفي أواخر السورة عقب الحديث عن الأنعام بيان ما حرمه الله منها، وزجر(14/81)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
العلماء عن الإفتاء بالتحريم أو بالتحليل دون دليل، ومقارنة ذلك بما حرمه تعالى على اليهود بسبب ظلمهم.
ثم ختمت السورة بمدح إبراهيم بسبب ثباته على التوحيد الخالص، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملته، ثم أمره بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقصره العقاب على المثل دون تجاوز ذلك، والأمر بالصبر على المصائب والأحزان، والاعتماد على عون الله للمتقين المحسنين.
إثبات البعث والوحي
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
الإعراب:
أَتى بمعنى يأتي، أقام الماضي مقام المستقبل، لتحقيق إثبات الأمر وصدقه. وقد يقام المستقبل مقام الماضي، مثل قول الشاعر:
وإذا مررت بقبره فانحر له ... كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح
أي فلقد كان. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ الضمير إما أن يعود على الله وإما أن يعود على العذاب، وكلاهما متلازم.
أَنْ أَنْذِرُوا إما بدل من قوله بِالرُّوحِ وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن أنذروا، فحذف الباء، فاتصل الفعل به.(14/82)
البلاغة:
فَاتَّقُونِ فيه التفات عن الغيبة إلى خطاب المستعجلين.
المفردات اللغوية:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ قرب ودنا، أي أن الأمر الموعود به بمنزلة الأتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه وإنه واقع لا محالة. ويقال في العادة لما يجب وقوعه: قد أتى، وقد وقع. وأَمْرُ اللَّهِ تعذيبه الكافرين وعقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله سُبْحانَهُ تنزيها له عن الشريك. الْمَلائِكَةَ أي جبريل بِالرُّوحِ الوحي أو القرآن، فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد مِنْ أَمْرِهِ بأمره وإرادته أَنْ مفسرة أَنْذِرُوا خوّفوا بالعذاب فَاتَّقُونِ خافوا عقابي، لمخالفة أمري وعبادة غيري.
سبب النزول:
كان المشركون يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قيام الساعة، أو إهلاك الله تعالى إياهم، كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا، ويقولون: إن صح ما يقوله فالأصنام نشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلت: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوايد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص قال لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قاموا، فنزلت:
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
فموضوع الآية الأولى إعلان أن الأمر الموعود به وهو قيام الساعة متحقق حادث لا محالة، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد. وموضوع الآية الثانية الإخبار بأن نزول الوحي بواسطة الملائكة، والتنبيه على التوحيد الذي هو(14/83)
منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية، وأن النبوة عطائية. والمراد من قوله: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا معرفة الحق لذاته، وأما المراد من قوله: فَاتَّقُونِ فهو معرفة الخير لأجل العمل به.
التفسير والبيان:
كان الكفار يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد، فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ.
فلما أكثر صلّى الله عليه وسلّم من تهديد الكفار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئا، نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي قد حصل أمر الله وحكمه ووجد من الأزل إلى الأبد، وتحقق بنزول العذاب، إلا أن المأمور به والمحكوم به إنما لم يحصل ولم ينفّذ لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين، فلا تستعجلوه، ولا تطلبوا حصوله قبل مجيء ذلك الوقت، أي أن الحكم صدر مع وقف التنفيذ في أمد معين.
وكذلك لما أكثر صلّى الله عليه وسلّم من تهديدهم بقيام الساعة أجيبوا بأنه قد اقتربت الساعة ودنت، معبرا عن المستقبل بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وقوله سبحانه:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] أي أن أمر الله بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا، فلا تستعجلوه قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى، أي قرب ما تباعد، فلا تتعجلوا وقوعه.
وهذا تهديد للكفار وإعلام لهم بقرب عذابهم وهلاكهم.
سُبْحانَهُ وَتَعالى.. تبرأ الله تعالى وتنزه وتقدس عما ينسبون له من الشريك والولد وعبادتهم ما سواه من الأوثان والأنداد. وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام.(14/84)
ولما كان استعجال العذاب وقيام القيامة تكذيبا للنبي واستهزاء به وبوعده، وهو كفر، قرن تعالى النهي عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والشركاء، وهو رأس الكفر.
ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة تتعلق بتكذيب النبوة والنبي، فقال:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي ينزل تعالى الملائكة بالوحي على من يريد من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة. وعبر عن الوحي بالروح لأنه يحيي موات القلوب كما تحيي الروح موات الأبدان، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ، لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام 6/ 122] . واستعمال الروح بمعنى الوحي شائع في القرآن، كما في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى 42/ 52] .
وقوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هم الأنبياء، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] وقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج 22/ 75] وقال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر 40/ 15] . وهذا رد لقولهم: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] .
وقوله: مِنْ أَمْرِهِ يعني أن التنزيل والنزول للوحي لا يكونان إلا بأمره تعالى، كما حكى عن الملائكة: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] فلا يستطيع الملائكة فعل شيء إلا بأمر الله تعالى وإذنه.
ودلت الآية على أن الوحي من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة.(14/85)
ثم بيّن تعالى مهمة الرسل فقال: أَنْ أَنْذِرُوا.. أي لينذروا الناس الكفرة ويعلموهم أنه لا إله إلا الله، فاتقوا عقابي لمن خالف أمري وعبد غيري.
فقه الحياة أو الأحكام:
أجابت الآيات عن شبهات ثلاث للمشركين: قيام الساعة ونزول العذاب، والشرك والشركاء، والنبوة والوحي.
أما الموضوع الأول: فقد أعلن تعالى أن قيام الساعة ونزول العذاب والهلاك متحقق كائن لا محالة، ولكنه مرتبط بوقت معين مقدر في علم الله تعالى، وهو أمر قريب، فلا داعي للاستعجال بوقوعه، والتعجيل بحدوثه.
وأما الموضوع الثاني: فقد نزه الله تعالى نفسه عن الشرك والإشراك، وعن الشريك والولد وعن الأوثان والأنداد، وعما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، لقولهم: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق. والتنزيه يتضمن إثبات القدرة المطلقة لله، والوحدانية التامة، واستحقاق العبادة المستقلة به المخلصة له، وإبطال ما زعموه من شفاعة الأصنام.
وأما الموضوع الثالث: فقد أبان تعالى أنه الذي ينزل بالروح، أي بالوحي وهو النبوة، على من اختارهم الله للنبوة، من طريق الملائكة، ولا يحدث شيء من تنزل الوحي إلا بأمره وإذنه تعالى، وختمت الآية بالتحذير من عبادة الأوثان، والإنذار بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فليتقوا عقاب الله إذا خالفوا أمره وعبدوا غيره.
وأفادت الآية كما لا حظنا أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بالملائكة، كما قال تعالى في آخر سورة البقرة: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ(14/86)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
[285] فبدأ بذكر الله سبحانه، ثم أتبعه بذكر الملائكة لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، والملائكة يوصلون الوحي إلى الأنبياء والرسل، فكان الترتيب متناسبا متدرجا موضحا رتبة الملائكة والأنبياء «1» .
أدلة وجود الله ووحدانيته
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 9]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
الإعراب:
بالِغِيهِ الهاء في موضع جر بالإضافة.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ هذه الأسماء كلها معطوفة بالنصب على قوله: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ وتقديره: وخلق الخيل والبغال والحمير.
وَزِينَةً إما منصوب بفعل مقدر، أي وجعلها زينة، وإما منصوب على أنه مفعول لأجله، أي لزينة.
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 220(14/87)
البلاغة:
خَصِيمٌ مُبِينٌ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة.
وَمِنْها تَأْكُلُونَ قدم الظرف مراعاة للفاصلة آخر الآيات.
تُرِيحُونَ تَسْرَحُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
بِالْحَقِّ أي أوجد السموات والأرض محقا على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة، وقدّرها وخصصها بحكمته تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تعاظم عما يشركون به من الأصنام، وهذا يدل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام المادية مِنْ نُطْفَةٍ المراد مادة التلقيح التي تكون سببا للحمل خَصِيمٌ مناظر مجادل شديد الخصومة مُبِينٌ مظهر للحجة قائل: من يحيي العظام وهي رميم؟ روي أن أبيّ بن خلف أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم، وقال: يا محمد، أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فنزلت. دِفْءٌ ما تستدفئون به من الكساء والرداء من أشعارها وأصوافها وَمَنافِعُ من النسل والدر والركوب.
جَمالٌ زينة في أعين الناس، والمراد جمال الصورة وتركيب الخلقة تُرِيحُونَ تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها (حظيرتها) تَسْرَحُونَ تخرجونها بالغداة (صباحا) إلى المرعى أَثْقالَكُمْ أحمالكم لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ لم تكونوا واصلين إليه على غير الإبل إلا بجهد الأنفس أو بالمشقة الزائدة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم حيث خلقها لكم. وَزِينَةً أي لتتزينوا بها زينة وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من الأشياء العجيبة الغريبة.
قَصْدُ السَّبِيلِ أي بيان الطريق المستقيم جائِرٌ حائد أو مائل عن الاستقامة وَلَوْ شاءَ هدايتكم لَهَداكُمْ إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء أَجْمَعِينَ فتهتدون إليه باختيار منكم.
سبب النزول: نزول الآية (4) :
خَلَقَ الْإِنْسانَ: نزلت الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ ونظير(14/88)
الآية قوله تعالى في سورة يس: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إلى آخر السورة.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه منزّه عن الشريك والولد، وأنه الإله الواحد، وأمر بإخلاص العبادة له، ذكر أدلة وجود الإله الصانع الواحد وكمال قدرته وحكمته، وهي خمسة: خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وخلق الأنعام، وخلق النبات، وخلق العناصر الأربعة. والأخيران هما موضوع الآيات التالية.
التفسير والبيان:
خلق الله تعالى وأبدع العالم العلوي وهو السموات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وذلك مخلوق بالحق، أي على أساس من الحكمة والتقدير المحكم، لا عبثا، وانفرد بخلقه ذلك، فتنزه الله عن المعين والشريك، لعجز ما سواه عن خلق شيء، فلا يستحق العبادة إلا هو، فقوله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه نفسه عن شرك من عبد معه غيره، فهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فيستحق أن يعبد وحده لا شريك له.
ثم ذكر الله تعالى خلق جنس الإنسان من نطفة، أي مهينة ضعيفة، فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ.. أي خلق الإنسان من ماء مهين ضعيف، فلما استقل وكبر، إذا هو يخاصم ربه تعالى، ويكذبه وهو إنما خلق ليكون عبدا، لا ضدا، وخلق من شيء ضعيف، فتراه يجادل ويقول: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس 36/ 78] . ونظير الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الفرقان 25/ 54- 55] .
روي أن المراد بالآية أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم..(14/89)
رميم، فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفي هذا أيضا نزل أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس 36/ 77] .
ثم امتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، فقال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ.. أي وخلق الله لكم الأنعام ذات المصالح والمنافع المختلفة لكم، من أصواف وأوبار وأشعار للبس والأثاث (أو الفراش) ومن ألبان للشرب، ونسل للأكل.
ولكم في هذه الأنعام جمال، أي زينة حين الرواح: وهو وقت رجوعها عشاء من المراعي، ووقت السّروح: وهو وقت الغدوة والذهاب من مراحها إلى مسارحها أو المرعى. وخص تعالى هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب، وفي ذلك مفاخرة بالقطيع، وقدم الرّواح على السّروح لأن الفائدة فيه أتم، لمجيئها شبعانة، فتدر الحليب، وتملأ النفس سرورا، والعين متعة، فهي عنصر للغذاء وأداة إنتاج في الاقتصاد.
وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة والتركيب والصورة.
وكذلك هي أداة عمل وركوب وحمل أمتعة، فقال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.. أي وهي أيضا تحمل أمتعتكم الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها من بلد إلى آخر لا تبلغونه إلا بمشقة شديدة، مثل الحج والعمرة والجهاد والتجارة ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ركوبا وتحميلا، كما قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون 23/ 21- 22] وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر 40/ 79- 80] .
وتظل الأنعام ثروة اقتصادية في كل زمان ومكان، ونعمة كبري، لذا ختم(14/90)
تعالى الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده، فقد جعلها لهم مصدر رزق وخير كبير، وأداة منافع وجلب مصالح، كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس 36/ 71- 72] .
وامتن الله تعالى على الناس بثروة حيوانية أخرى هي: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ.. وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا، وجعلها للركوب والزينة بها أي تتزينون بها، مع منافع أخرى.
ثم جاء دور الامتنان بوسائل النقل والمواصلات الحديثة: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي ويخلق لكم غير هذه الحيوانات من وسائل النقل كالقطارات والسيارات والسفن والطائرات وغيرها.
ثم في هذا العالم السماوي والأرضي والحيواني، يرشد تعالى إلى الطريق السوي من الطرق المعنوية الدينية والحياتية فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.. أي وعلى الله فضلا وتكرما بيان الطريق الواضح الموصل إلى الحق والخير، بإقامة الأدلة وإنزال الكتب وإرسال الرسل، كما قال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام 6/ 153] وقال سبحانه: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر 15/ 41] .
وكثيرا- كما قال ابن كثير- ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كقوله تعالى في الحج: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة 2/ 197] وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف 7/ 26] .
ثم قال سبحانه محذرا من متاهات الطرق: وَمِنْها جائِرٌ أي ومن(14/91)
الطرق أو السبل طريق جائر حائد عن الاستقامة، مؤد إلى الضلال والزيغ عن الحق. وسبيل الاستقامة هو الإسلام، والجائر منها غيره من الأديان، لنسخها بالإسلام، ولأن الإسلام دين التوحيد والفطرة الذي ارتضاه لعباده، كما قال:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم 30/ 30] .
ثم أخبر الله تعالى أن الهداية بقدرته ومشيئته تعالى فقال: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قال المعتزلة: ولو شاء لهداكم جميعا جبرا وقسرا وإلجاء. وقال أهل السنة: الله قادر على هداية جميع الناس، ما في ذلك أدنى شك، وإنما المراد بالآية: أنه تعالى بيّن السبيل القاصد المستقيم والجائر، وهدى قوما يستحقون الهداية، وقد اختاروا الهدى، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. والهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] وهداية توفيق ورعاية كما في قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] وقوله هنا: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] وقوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 118- 119] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجوده ووحدانيته(14/92)
لكن تعدى الإنسان طوره، وتجاوز حدوده، فناكد وجادل، وكذب ربه وخاصمه في قدرته.
2- وكذلك خلق الأنعام بما فيها من منافع امتن الله بها على الإنسان دليل آخر على قدرة الله وتوحيده.
ودل قوله فِيها دِفْءٌ على مشروعية لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء قبله، كموسى وغيره.
ومنافع الأنعام كثيرة لا نكاد نجد لها شبيها، ففيها منفعة الأجسام ذاتها بأكل لحومها، ومنفعة نتاجها بالدر واللبن والنسل، ومنفعة ما تستر به من أوبار وأصواف وأشعار، ومنفعة ظهورها للركوب وحمل الأثقال والنقل من بلد إلى آخر، ومنفعة قواها بالحرث، فالبقرة لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل واللبن، فحق على الإنسان شكر هذه النعمة، ومقابلتها بالعبادة لله تعالى الذي خلقها وسخرها للناس.
ودلت هذه الآية على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها، ولكن بقدر المعتاد وقدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل، مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها «1» » .
وهذا دليل الرفق بالحيوان.
3- كذلك الدواب الأخرى التي خلقها الله وهي الخيل والبغال والحمير دليل
__________
(1) السنة: القحط ويبس نبات الأرض، والنّقي: المخ، والمعنى: أسرعوا في السير بالإبل، لتصلوا إلى المقصد، وفيها بقية من قوتها، لعدم وجود ما يقويها على السير في الأرض الجدبة(14/93)
آخر على القدرة الإلهية، ومزيد فضل الله تعالى، قال العلماء: ملّكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها، رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم.
واختلف العلماء فيمن اكترى دابة بأجر معلوم إلى موضع معين، فتعدي وتجاوز ذلك المكان، ثم رجع إلى المكان المأذون له فيه، فقال أبو حنيفة:
لصاحبها الأجرة المسماة، ولا أجر له فيما لم يسمّ لأنه خالف فهو ضامن إذا هلكت الدابة.
وقال الشافعي وفقهاء المدينة السبعة: على المستأجر الكراء المسمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمته قيمتها.
وقال أحمد: عليه الكراء والضمان.
وقال ابن القاسم تلميذ مالك: إذا عطبت الدابة في حال التجاوز، فلصاحبها كراؤه الأول، وله الخيار في أخذ كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي.
واستدل بالآية مالك وأبو حنيفة وغيرهما على تحريم لحوم الخيل لأنه تعالى قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل، ولا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة، دل على أن ما عداه بخلافه. أما في الأنعام فقال: وَمِنْها تَأْكُلُونَ فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها.
ويؤيده
حديث أحمد وأبي داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير.
وهو لفظ الدارقطني ...(14/94)
قال القرطبي المالكي: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل إذ لو دلت عليه لدلّت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر، وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرّحا به، وقد تركب ويحرث بها.
وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، وثبت ذلك في السنة،
روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النّسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر «1» .
واستدل جمهور العلماء بالآية أيضا على أن الخيل لا زكاة فيها لأن الله سبحانه منّ علينا بما أباحه منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل.
وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها، أو ذكورا وإناثا، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قوّمها، فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم.
واحتج بأثر
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في الخيل السائمة في كل فرس دينار»
لكنه كما قال الدارقطني: تفرد به ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء.
4- لم ينقطع فضل الله وكرمه، فقد خلق لنا غير الأنعام والدواب فقال:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وهذا يشمل كل وسائل النقل والركوب الحديثة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 76- 77(14/95)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
5- على الله تفضلا وكرما بيان السبيل المستقيم وهو الإسلام، وحذر من اتباع السبل الجائرة الحائدة عن الحق من الملل والأهواء الأخرى. والهداية بمشيئة الله تعالى، والتوفيق للهداية مقرون باختيار الإنسان لها.
أدلة أخرى لإثبات الألوهية والوحدانية
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
الإعراب:
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بالنصب عطفا على ما قبله، ومن قرأ بالرفع فهو مبتدأ، ومُسَخَّراتٌ خبره.(14/96)
وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ مبتدأ وخبر، ومن قرأ بالنصب فهو حال.
وَما ذَرَأَ لَكُمْ معطوف بالجر على ذلِكَ في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ أي إن في ذلك وما ذرأ لكم، أو معطوف على اللَّيْلَ أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات.
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ مُخْتَلِفاً حال.
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، أي كراهة أن تميد بكم، أو لئلا تميد بكم، والوجه الأول أوجه لأن حذف المضاف أكثر من حذف «لا» .
وَعَلاماتٍ منصوب بالعطف على قوله سَخَّرَ أي سخر الليل والنهار وعلامات، أو منصوب بتقدير: خلق، أي وخلق لكم علامات.
المفردات اللغوية:
تُسِيمُونَ أي ترعون دوابكم، والسوم: الرعي، ومنه الإبل السائمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي إن في ذلك المذكور لعلامة دالة على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنعه، فيؤمنون، ويستدلون على وجود الصانع وحكمته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض، ثم يخرج منها الزرع أو الشجر، ثم ينمو منها الأوراق والأزهار والثمار ذات الأجسام والأشكال المختلفة، مع اتحاد المواد، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدّس عن منازعة الأضداد والأنداد والشركاء.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. بأن هيأها لمنافعكم بِأَمْرِهِ بإرادته يَعْقِلُونَ يتدبرون ذَرَأَ خلق فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبات وغير ذلك أَلْوانُهُ أشكاله وأصنافه يَذَّكَّرُونَ يتعظون سَخَّرَ الْبَحْرَ ذلّله للركوب والاصطياد والغوص فيه لَحْماً طَرِيًّا هو السمك حِلْيَةً تَلْبَسُونَها هي اللؤلؤ والمرجان وَتَرَى تبصر الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ تمخر الماء، أي تشقه بجريها فيه، مقبلة مدبرة بريح واحدة وَلِتَبْتَغُوا تطلبوا، معطوف على لِتَأْكُلُوا مِنْ فَضْلِهِ تعالى بالتجارة تَشْكُرُونَ تعرفون نعم الله، فتقومون بحقها.
رَواسِيَ جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تتحرك بكم، أو خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم، والميد: الحركة والاضطراب يمينا وشمالا وَسُبُلًا طرقا تَهْتَدُونَ إلى مقاصدكم.
وَعَلاماتٍ أمارات ومعالم تستدلون بها على الطرق نهارا، كالجبال والسهول.
وَبِالنَّجْمِ أي النجوم هُمْ يَهْتَدُونَ إلى الطرق والقبلة ليلا.
المناسبة:
هذه الآيات تتمة لأدلة إثبات وجود الله وتوحيده، ذكر منها هنا خلق النبات وأحواله، وأحوال العناصر الأربعة (الماء والتراب والنار والهواء) أما الماء(14/97)
فيشمل المطر والبحر والأنهار، وأما التراب فيفهم من كلمة الأرض، وأما الحرارة فمن الشمس، وأما الهواء فهو أساس حياة الإنسان والحيوان والنبات، وكان واسطة تسيير الفلك في البحار.
التفسير والبيان:
تتابع الآيات التنبيه إلى أدلة أخرى لإثبات الذات الإلهية من حركة الكون وعالم النبات، والبحار، والجبال، وبدأ بعالم النبات الذي يتسبب بإنزال المطر من السماء، فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ.. أي إن الذي خلق السموات والأرض والإنسان والأنعام والدواب، هو الذي هيّأ ظروف الحياة للإنسان بإنزال المطر من السماء، فجعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه، ولم يجعله ملحا أجاجا، وأخرج به شجرا ترعون فيه أنعامكم، وأنبت به لكم زرعا وزيتونا ونخيلا وأعنابا، ومن كل الثمرات على اختلاف أصنافها وألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها، رزقا لكم تستطيعون به تحقيق قوام الحياة، والمراد بالشجر هنا: النبات مطلقا، سواء كان له ساق أم لا، كما نقل عن الزجاج، وهو حقيقة في الأول ويستعمل في الثاني بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.. أي في ذلك المذكور كله من إنزال الماء والإنبات لدلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، لقوم يتعظون ويتفكرون في تلك الأدلة لأنه لا مبدع ولا موجد لها غير الله الخالق الأحد، المستحق للتمجيد والعبادة، كما قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل 27/ 60] .
ثم نبّه الله تعالى على آياته الكونية العظام، ممتنا بنعمه عليكم، فقال: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. أي وصير لكم ما ينفعكم من تعاقب الليل والنهار للنوم والاستراحة والسعي وكسب المنافع وقضاء المصالح، ودوران الشمس والقمر للإنارة وانتفاع الإنسان والحيوان والنبات بالحرارة والضوء ومعرفة عدد السنين(14/98)
والشهور، وتزيين السماء بالنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات، نورا وضياء، ليهتدى بها في الظلمات، وكل منها يسير في فلكه بنظام دقيق وحركة مقدرة، لا زيادة فيها ولا نقص، وكل ذلك خاضع لسلطان الله وقهره، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. إن في المذكور كله دلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم، لقوم يعقلون عن الله كلامه، ويفهمون حججه.
والسبب في ختم الآية السابقة بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وختم هذه الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأن دلالة الأدلة السماوية العلوية على قدرة الله ووحدانيته ظاهرة لا تحتاج إلا لمجرّد العقل دون تأمل، وأما الأدلة الأرضية من الزرع والنخيل وغيرها فتحتاج في دلالتها على إثبات وجود الله إلى تفكر وتأمل وتدبر.
وبعد أن نبّه الله تعالى على معالم السماء، نبّه على ما خلق في الأرض من عجائب فقال: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ.. أي وما خلق لكم في الأرض من أشياء مختلفة الألوان والأشكال والمنافع والخواص من نباتات ومعادن وجمادات وحيوانات.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.. أي إن في المذكور جميعه لدلالات على قدرة الله، لقوم يذكّرون آلاء الله ونعمه، فيشكرونه عليها، وختمت هذه الآية الثالثة بالتذكر بعد ختم الأولى بالتفكر والثانية بالتعقل للتنبيه على أن المؤثر فيما وجد في الأرض هو الفاعل المختار الحكيم وهو الله سبحانه وتعالى.
وبعد أن احتجّ تعالى على إثبات الإله أولا بأجرام السموات، وثانيا ببدن الإنسان ونفسه، وثالثا بعجائب خلقة الحيوانات، ورابعا بعجائب طبائع(14/99)
النباتات، ذكر خامسا الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر، مبتدئا بعنصر الماء، فقال:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ.. أي والله تعالى يمتن على عباده أيضا بتذليله البحر لهم، وتيسيره للركوب فيه، وإباحته السّمك حيّا وميتا، في الحلّ والإحرام، وخلقه اللآلئ والجواهر النفيسة فيه، وتيسير استخراج العباد له من قراره، حلية يلبسونها، وكذا الاستفادة من المرجان الذي ينبت في قيعانه:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 22] ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره، أي تشقه وتجتازه في بلد إلى آخر، ولتبتغوا من فضله، أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بالتجارة فيه، ولتشكروا نعمه وإحسانه عليكم بما يسّره لكم في البحار.
وفي وصف اللحم بالطراوة بيان قدرة الله في إخراج العذب من المالح، ويدل أيضا على أنه يطلب أكله بسرعة لأنه يتسارع إليه الفساد.
ثم ذكر الله تعالى بعض النعم التي خلقها في الأرض فقال: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ.. وهي نعم ثلاث:
الأولى- تثبيت الأرض بالجبال الرواسي، أي الثوابت لتقرّ ولا تضطرب أثناء دورانها بما عليها من كائنات حيّة، كما قال تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات 79/ 32] .
الثانية- إجراء الأنهار على وجه الأرض، ففيها حياة الأنفس والنبات والحيوان. وذكرها بعد الجبال لأن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها من الجبال.
وتلك الأنهار كثيرة في العالم، منها القصير والغزير والطويل ومنها غير ذلك، وتتجه يمينا أو يسارا، أو جنوبا أو شمالا، أو شرقا أو غربا. والأودية التي تحدث أحيانا ترفد تلك الأنهار.(14/100)
الثالثة- إيجاد السبل وهي الطرق والمسالك التي تسهل العبور والانتقال من أرض إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد غيره، بل ومن جبل إلى سهل، كما قال تعالى في صفة الجبال: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء 21/ 31] .
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لتهتدوا بتلك السّبل إلى مآربكم ومقاصدكم.
وَعَلاماتٍ أي وأظهر في الأرض علامات مخصوصة ومعالم معينة تؤدي إلى المقصود، فالعلامات: هي معالم الطرق، وهي الأشياء التي بها يهتدى، وهي الجبال والرياح ونحوها يستدل بها المسافرون برّا وبحرا، ومن كثرت أسفاره لطلب المال أو غيره مثل قريش، كان علمه بمنافع الاهتداء بالنجوم أوفى وأتمّ.
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أي والناس يهتدون في ظلام الليل بالنّجوم. وهذا يومئ إلى علم النّجوم أو الفلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادتنا الآيات فوائد عديدة هي:
1- الله تعالى هو منزل المطر بقدرته وحكمته، والمطر: ماء عذب صالح للشرب، ينبت الله به أشجارا وعروشا وكروما ونباتا ومراعي للأنعام، والماء سبب الحياة البشرية: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] . وفي ذلك الإنزال والإنبات دلالة على قدرة الله ووجوده ووحدانيته لقوم يتأملون ويتفكرون.
2- والله سبحانه سخّر لعباده الليل والنهار للسكون والأعمال، كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ(14/101)
[القصص 28/ 73] ، وسخّر أيضا الشمس والقمر والنّجوم مذللات لمعرفة الأوقات، ونضج الثمار والزروع، والاهتداء بالنجوم في الظلمات.
3- والله عزّ وجلّ سخّر ما ذرأ (خلق) في الأرض لكم، فما ذرأه الله سبحانه مسخّر مذلّل كالدّواب والأنعام والأشجار وغيرها. هذا مع العلم بأن بعض المخلوقات غير مذلل لنا، بدليل ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال:
لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا، فقيل له: وما هنّ؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلّها ما علمت منها وما لم أعلم، من شرّ ما خلق وبرأ وذرأ.
4- إن في اختلاف ألوان المخلوقات لعبرة لقوم يذكّرون أي يتّعظون ويعلمون أن في تسخير هذه الكائنات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره.
5- والله سبحانه أنعم علينا بتسخير البحر لتناول اللحوم (الأسماك) واستخراج اللؤلؤ والمرجان، وللركوب، والتجارة، وللدفاع عن البلاد من أذى محتل وعدوان مستعمر. وتسخير البحر: هو تمكين البشر من التّصرف فيه وتذليله بالرّكوب والتّجارة وغير ذلك.
ويلاحظ أن الحنفية لا يجيزون أكل السمك الطافي على سطح ما البحر أو النهر، لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة 5/ 3] ، ولحديث ضعيف
أخرجه أبو داود وابن ماجه عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا» .
وأباح الجمهور أكل الطافي، لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة 5/ 96] ،
ولحديث أبي هريرة عند أحمد ومالك(14/102)
وأصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن البحر «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته» .
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو حلف لا يأكل اللحم، فأكل لحم السّمك، لا يحنث لأنه ليس بلحم عرفا. وقال الجمهور: إنه يحنث لأنه تعالى نصّ على كونه لحما في هذه الآية، وليس فوق بيان الله بيان.
وبما أن الله تعالى امتنّ على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرّم الله تعالى على الرّجال الذهب والحرير،
روي في صحيح الشيخين عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدّنيا، لم يلبسه في الآخرة» .
وجمهور العلماء على تحريم اتّخاذ الرجال خاتم الذهب، ويجوز لهم التّختم بخاتم الفضة لأنه صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضة، فاتّخذ الناس خواتيم الفضة،
وقال: «إني اتّخذت خاتما من ورق، ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقشن أحد على نقشه» .
وهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه.
ومن حلف ألا يلبس حليّا، فلبس لؤلؤا لم يحنث عند أبي حنيفة، عملا بالعرف والعادة، والأيمان تختص بالعرف.
6- والله تعالى جعل في الأرض نعما ثلاثا تستحق الشكر هي إلقاء الجبال الرواسي فيها لئلا تميد وتضطرب، وإجراء الأنهار، وجعل السّبل والطّرق منافذ عبور وانتقال بأمان. قال القرطبي: وفي هذه الآية: أدل دليل على استعمال الأسباب، وقد كان الله قادرا على تسكينها دون الجبال.
وجعل تعالى في الأرض علامات، أي معالم الطرق بالنهار، وجعل النّجوم وسائل اهتداء إلى المقاصد.(14/103)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
خواص الألوهية الخلق وعلم السّر والعلن والحياة الأبديّة
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
الإعراب:
وَهُمْ يُخْلَقُونَ مبتدأ وخبر. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ خبر ثان، أي هم مخلوقون أموات.
ويجوز أن ترفع أَمْواتٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات. أَيَّانَ يُبْعَثُونَ استفهام عن الزمان بمعنى (متى) ، وأَيَّانَ: مبني لتضمنه معنى الحرف، وهو همزة الاستفهام، وبني على حركة لالتقاء الساكنين، وهي الفتحة لأنها أخف الحركات.
البلاغة:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ بينهما طباق السلب. لَغَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة.
تُسِرُّونَ وتُعْلِنُونَ بينهما طباق.
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ولا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فيهما إطناب تأكيدا لسفاهة من عبد الأصنام.(14/104)
لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ هو الله سبحانه وتعالى. كَمَنْ لا يَخْلُقُ كلّ ما عبد من دون الله تعالى من الملائكة وعيسى والأصنام. وغلّب فيه أولو العلم منهم، وأجريت الأصنام مجرى أولي العلم لأنهم سمّوها آلهة، ومن حقّ الإله أن يعلم. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعرفوا فساد ذلك، فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يستحضره بأدنى تذكّر والتفات. والمراد بالآية إنكار التسوية بين الخالق والمخلوق، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرة الله تعالى وتناهي حكمته وتفرده بالخلق.
لا تُحْصُوها لا تضبطوها، فضلا عن أن تطيقوا شكرها. إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ حيث ينعم عليكم مع تقصيركم وعصيانكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهم الأصنام. وَهُمْ يُخْلَقُونَ ينحتون ويصورون من الحجارة وغيرها، فهي مفتقرة الوجود إلى التخليق، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود.
أَمْواتٌ لا روح فيهم. غَيْرُ أَحْياءٍ تأكيد. وَما يَشْعُرُونَ لا يعلمون، أي الأصنام.
أَيَّانَ وقت. يُبْعَثُونَ أي لا يشعرون بزمان بعثهم أو بعث عبدتهم الخلق، فكيف يعبدون؟ إذ لا يكون إلها إلا الخالق الحيّ العالم بالغيب، المقدّر للثواب والعقاب، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
إِلهُكُمْ المستحقّ للعبادة منكم إِلهٌ واحِدٌ لا نظير له في ذاته ولا في صفاته، وهو الله.
تعالى، وهذا تكرير للمدّعى بعد إقامة الحجج. قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للوحدانية.
مُسْتَكْبِرُونَ متكبّرون عن الإيمان بها. لا جَرَمَ حقّا. أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فيجازيهم بذلك. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي يعاقبهم.
المناسبة:
بعد ذكر الدلائل الدّالة على وجود الإله القادر الحكيم، مع بيان أنواع نعم الله تعالى، ذكر الله تعالى خواص الألوهية: وهي الخلق والإبداع، وعلم السّرّ والعلن، والحياة الدائمة، مما يدلّ على أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، ويدلّ على إبطال عبادة غير الله تعالى، ثم ذكر تعالى أسباب الإشراك: وهي تحجر القلوب وإنكار التوحيد، فبقي أصحابه على الجهل والضّلال، علما بأن أشدّ(14/105)
القبح عبادة تلك الأصنام الجمادات المحضة، التي ليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار.
التفسير والبيان:
نبّه الله تعالى في هذه الآيات على عظمته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له، دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة، فقال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. أي أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها، كمن لا يخلق، بل لا يقدر على شيء من الخلق أصلا، أفلا تذكّرون أي تعتبرون وتتعظون؟! فإن معرفة ذلك لا تحتاج إلى تدبّر وتفكّر ونظر. والاستفهام إنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير. ونظير الآية: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان 31/ 11] .
ثم نبههم تعالى على كثرة نعمه وإحسانه إليهم ليرشدهم إلى أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ.. أي وإن أردتم حساب نعم الله وضبطها، لا تستطيعوا إحصاءها وضبط عددها، فنعم الله كثيرة دائمة، والعقل عاجز عن الإحاطة بها.
إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ.. أي إنه تعالى كثير المغفرة يتجاوز عنكم وعن تقصيركم في الشّكر، رحيم بكم فينعم عليكم مع استحقاقكم للحرمان بسبب الإشراك والكفر، فلو طالبكم بشكر جميع نعمه، لعجزتم عن القيام بذلك، ولو عذّبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير، ومهما عمل الإنسان من الطاعات فلن يقابل نعمة واحدة من نعم الله تعالى.
والخلاصة: إنه تعالى بعد أن بيّن بالآية المتقدّمة: أَفَمَنْ يَخْلُقُ.. أن(14/106)
الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ، بيّن بهذه الآية: وَإِنْ تَعُدُّوا أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله وشكر نعمه على وجه أتم.
وبعد أن أبطل عبادة الأصنام لعجزها عن الخلق والإنعام، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو كونها جمادات لا تعلم شيئا، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ..
أي والله يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، فهو عالم الغيب والشّهادة، والظّاهر والباطن.
ثم وصف تعالى الأصنام بما يجردها عن أهلية العبادة، ليدلّ على غباء المشركين صراحة، فقال ذاكرا ثلاثة أوصاف:
1- وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ.. أي إن الأوثان والأصنام لا يخلقون شيئا، بل هي مخلوقة، كما قال تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ [الصافات 37/ 95- 96] .
2- أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي هي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فلا تفيدكم شيئا.
فقوله تعالى: غَيْرُ أَحْياءٍ لبيان أنه لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها، فهي ليست كبعض المواد التي يمكن طروء الحياة عليها، كالنّطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها.
أما الإله فهو الحيّ الذي لا يطرأ عليه موت أصلا، فبان الفرق بينهما وهو أن الإله دائم الحياة، والأصنام دائمة الموت.
3- وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وتلك الأصنام لا يدرون متى يبعث عبدتها ومتى تقوم الساعة؟ فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما(14/107)
يرجى ذلك من الذي يعلم كلّ شيء، وهو خالق كلّ شيء. وعبّر عن الأصنام كما يعبّر عن الآدميين لزعمهم أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على حسب زعمهم.
وهذا إيماء إلى أن البعث من لوازم التكليف، للجزاء على العمل من خير أو شرّ، وتصريح بأن من لوازم الألوهية معرفة يوم القيامة، وهو تهكّم بالمشركين الذين لا يحسنون الفهم والتّقدير.
وبعد هدم عبادة الأصنام، صرّح تعالى بالمطلوب فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي إن إلهكم أيها الناس إله واحد، لا إله إلا هو، ومعبودكم الذي يستحقّ العبادة والطاعة بحقّ هو الإله المعبود الواحد. ثم ذكر سبب شركهم وإنكارهم التوحيد، فقال تعالى:
فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.. أي فالذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ولا يصدّقون بها، ولا يؤمنون بالوحدانية قلوبهم منكرة للتّوحيد، وهم مستكبرون عن الإقرار بالوحدانية وعن عبادة الله، فلا يرغبون في حصول الثواب، ولا يرهبون من الوقوع في العقاب.
والمعنى أن الكافرين تنكر قلوبهم الوحدانية، كما قال تعالى واصفا تعجبهم منها: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص 38/ 5] . وقال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر 39/ 45] .
ثم هددهم تعالى وأوعدهم على أعمالهم، فقال: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ.. أي حقّا، إنّ ربّك يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون، ويعلم إصرارهم على كفرهم، وسيجزيهم على ذلك أتمّ الجزاء، إنه لا يحبّ المستكبرين عن التوحيد وهم(14/108)
المشركون، بل وكلّ مستكبر، أي يعاقبهم ويجازيهم. وهذا الوعيد يتناول كلّ المتكبّرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات مناقشة حادّة مع المشركين، فيها إنكار لعبادتهم الأصنام، وتهكّم بهم، وبيان فساد تفكيرهم وسوء تقديرهم، وسوء صنيعهم، وصدودهم عن الحقّ، وإعلان تصميمهم على الكفر والشّرك.
وأول فساد في تفكيرهم أن الأصنام مخلوقة وعاجزة عن خلق غيرها، فهي لا تضرّ ولا تنفع، فكيف تتخذ آلهة؟! ومن كان قادرا على خلق الأشياء، كان بالعبادة أحقّ ممن هو مخلوق لا يضرّ ولا ينفع.
والفساد الثاني أنهم ينكرون نعم الله وإحسانه لهم، وأبسط مبادئ التدين والأخلاق مقابلة النعمة وشكرها، وهم لم يشكروها.
والفساد الثالث أن الأصنام جمادات لا تعلم شيئا، فكيف توصف بالألوهية؟ والإله ينبغي أن يكون عالما بالسّرائر والظواهر، محيطا بأحوال العابدين، حتى يلبي مطلبهم، ويجازي مقصرهم ومسيئهم.
ثم صرّح تعالى بأوصاف الأصنام الثلاثة المناقضة تماما لمن يستحقّ وصفه بالألوهية والعبادة والطاعة، وهي العجز عن خلق شيء، وكونهم أمواتا غير أحياء، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة، وكونهم- أي الأصنام- يجهلون وقت البعث وقيام الساعة للحساب والجزاء على الأعمال.
والألوهية الحقّة بعد بيان استحالة الإشراك بالله تعالى هي ألوهية الله الواحد(14/109)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الأحد الفرد الصّمد، المعبود الواحد الذي لا ربّ غيره، ولا معبود سواه.
أما المشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة فلا يقبلون الوعظ ولا التّذكير، ولو آمنوا بالآخرة حقّا لآمنوا بوحدانية الله، ولكنهم قوم متكبّرون متعظمون عن قبول الحقّ.
والله حقّا يعلم ما يسرّون من القول والعمل وما يعلنون، فيجازيهم على أفعالهم، إنه لا يحبّ المستكبرين أبدا، أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم.
صفات المستكبرين إنكار المشركين الوحي المنزّل والنّبوة وجزاؤهم
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)(14/110)
الإعراب:
ماذا أَنْزَلَ.. ما اسم استفهام مبتدأ، وإِذا خبره، وأَنْزَلَ رَبُّكُمْ:
صلته، والعائد محذوف تقديره: أنزله، فحذف تخفيفا. ولما كان السؤال مرفوعا رفع أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ على تقدير مبتدأ محذوف، أي هو أساطير الأولين. وأما قوله الآتي: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا: خَيْراً فالجواب منصوب لأن السؤال منصوب، لأن ماذا بمنزلة كلمة واحدة، أي أيّ شيء أنزل ربّكم، وهي في موضع نصب ب أَنْزَلَ. بِغَيْرِ عِلْمٍ حال. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ حال أيضا.
البلاغة:
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ استعارة تمثيلية، شبّه حال الماكرين بحال قوم بنوا بنيانا ثم انهدم عليهم وأهلكهم، ووجه الشّبه أنّ ما ظنّوه سببا لحمايتهم، كان سببا في فنائهم.
المفردات اللغوية:
أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمد. أَساطِيرُ أكاذيب وأباطيل وترّهات. الْأَوَّلِينَ الغابرين القدماء، قالوا ذلك إضلالا للناس، وقد نزلت الآية في النّضر بن الحارث، لِيَحْمِلُوا في عاقبة أمرهم. أَوْزارَهُمْ ذنوبهم. كامِلَةً لم يكفّر منها شيء. وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. أي وبعض أوزار من يضلونهم لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتّبعوهم، فاشتركوا في الإثم لتسببهم في إضلالهم، والأصح أن مِنْ للجنس لا للتبعيض، أي فعليهم مثل أوزار تابعيهم.
ساءَ بئس. ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم هذا.
بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول، أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال، أو حال من الفاعل أي وهم جاهلون. لِيَحْمِلُوا اللام لام الصيرورة لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، لأجل أن يحملوا الأوزار، ولكن لمّا كان عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو نمروذ بن كنعان، بنى صرحا طويلا ببابل، سمكه خمسة آلاف ذراع، ليصعد منه إلى السماء، ليقاتل أهلها. والمكر: صرف غيرك عما يريده بحيلة، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات. والمقصود بالآية: المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار. فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أهلكه وأفناه، فأرسل عليه الريح والزلزلة، فهدمته من الأساس، كما يقال: أتى عليه الدهر، وفَأَتَى: قصد، والْقَواعِدِ: الدعائم، جمع قاعدة.
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي وهم تحته، وفَخَرَّ: سقط. وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من جهة لا تخطر ببالهم، أي من جهة لا يحتسبون ولا يتوقّعون. وقيل: هذا تمثيل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرّسل.(14/111)
يُخْزِيهِمْ يذلّهم أو يعذّبهم بالنار لقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران 3/ 192] . وَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ أي ويقول الله لهم على لسان الملائكة توبيخا: أين شركائي بزعمكم؟ تُشَاقُّونَ تعادون المؤمنين وتنازعون الأنبياء في شأنهم. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويقول الأنبياء والمؤمنون العلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاقونهم ويتكبرون عليهم، أو يقول الملائكة: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ الذلّة والعذاب على الكافرين، وفائدة قولهم: إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة، وإيراده بقصد وعظ من سمعه.
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر. فَأَلْقَوُا السَّلَمَ: السَّلَمَ: الاستسلام والخضوع، والمعنى: انقادوا واستسلموا عند الموت، وأقرّوا لله بالرّبوبية، أو سالموا حين عاينوا الموت. ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي قائلين: ما كنّا نعمل من كفران أو شرك، وعدوان. بَلى نعم، أي فتجيبهم الملائكة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ليدخل كلّ صنف بابه المعدّ له. وقيل: أَبْوابَ جَهَنَّمَ أصناف عذابها. مَثْوَى مأوى، والمثوى: مكان الإقامة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أدلّة التوحيد وأدلة بطلان عبادة الأصنام، أعقب ذلك ببيان شبهات منكري النّبوة، وأولها الطعن في القرآن الذي احتج النّبي صلّى الله عليه وسلّم على صحة نبوّته بأنه معجزة، فقالوا: أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات، فأهلكهم الله في الدّنيا، وسيعاقبهم في الآخرة بما فعلوا، فيقولون مستسلمين حين رؤية العذاب: ما كنّا نعمل من سوء، أي كفر وشرك وعدوان.
التفسير والبيان:
تذكر هذه الآيات شبهات منكري النّبوة التي هي صفات المكذّبين المستكبرين.
الشّبهة الأولى «1» - طعنهم في القرآن بأنه أساطير الأولين: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ..
__________
(1) الشبهة الثانية ستأتي في الآية (33) ، والشبهة الثالثة في الآية (35) ، والشبهة الرابعة في الآية (38) .(14/112)
لما احتجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صحّة نبوّته بكون القرآن معجزة، طعنوا في القرآن، وقالوا: إنه أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات.
ومعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء المستكبرين المكذّبين الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين: أي شيء أنزل ربّكم؟ قالوا معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئا، إنما هذا الكلام الذي يتلى علينا أساطير أي أكاذيب وخرافات مأخوذة من كتب المتقدمين، كما حكى تعالى عنهم في آية أخرى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] أي يفترون على الرّسول بأقوال متضادّة مختلفة باطلة.
والسائل: إما واحد من المسلمين أو من كلام بعضهم لبعض أو النّضر بن الحارث أو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة، ينفّرون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحجيج عما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم.
هذا عن القرآن، أما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يقولون: ساحر وشاعر وكاهن ومجنون، ثم استقرّ أمرهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي، الذي حكى عنه القرآن قراره: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر 74/ 18- 24] ، أي ينقل ويحكى، فتفرقوا متفقين على قوله.
ثم أبان تعالى مصير قولهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً.. هذه لام العاقبة أو الصيرورة، مثل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] .
والمعنى: إنما قالوا ذلك ليتحملوا أوزارهم وآثامهم كاملة يوم القيامة وأوزار الذين يتبعونهم جهلا بغير علم فلا يعلمون أنهم ضلّال، واقتداء بهم في الضّلال، أي(14/113)
ليصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم، واقتدائهم بهم.
والمراد بقوله تعالى: كامِلَةً أنه لا ينقص منها شيء. وقوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ على رأي الزّمخشري: حال من المفعول، أي يضلّون من لا يعلم أنهم ضلال، وعلى رأي الرّازي: حال من الفاعل، أي إن هؤلاء الرؤساء يضلّون غيرهم جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال.
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس شيئا يحملونه من الذنب ذلك الذي يفعلون.
ونظير الآية: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت 29/ 13] .
وأوضحت السّنة سبب تحملهم آثام من قلّدوهم،
فقال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السّنن الأربعة عن أبي هريرة-: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .
ثم أبان الله تعالى وجود الشّبه بين الكفار القدامى والجدد في الجرم والعقاب فقال: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. أي قد كاد لدين الله ورسله من تقدّمهم من الأمم، واحتالوا بمختلف الوسائل لإطفاء نور الله فأهلكهم الله تعالى في الدّنيا، بأن دمّر مبانيهم من قواعدها، وسقط عليهم السّقف من فوقهم، وأبطل كيدهم، وأحبط أعمالهم، وأطبق عليهم العذاب من كلّ جانب، ومن حيث لا يحسّون بمجيئه ولا يتوقّعون، فاعتبروا يا أهل مكة وأمثالكم. وهذا كله تمثيل لصورة العذاب، ومضمونه إهلاكهم من الله تعالى.
وسبب قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ مع أن السّقف لا يكون إلا من فوق هو(14/114)
تأكيد سقوط السقف، وشدّة إطباق العذاب وسقوطه عليهم وهم تحته.
ومعنى إتيان الله: إتيان أمره. وقوله تعالى: مِنَ الْقَواعِدِ أي من جهة القواعد أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم، وهذا مقابل لقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ ليفيد إحاطة العذاب من أعلى ومن أسفل. وقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من حيث لا يحتسبون ولا يتوقّعون.
وأكثر المفسّرين على أن المراد بقوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ.. هو نمروذ بن كنعان، بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع.
هذا عذابهم في الدّنيا، وأما في الآخرة فهو ما قاله تعالى:
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ.. أي وفي يوم القيامة يخزيهم، أي يظهر فضائحهم وما تخبئه نفوسهم فيجعله علانية، ويذلّهم بعذاب الخزي، كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران 3/ 192] .
ويقول لهم الرّبّ تبارك وتعالى بواسطة الملائكة تقريعا لهم وتوبيخا: أين شركائي في زعمكم واعتقادكم؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني؟ أين تلك الآلهة التي كنتم تشاقون أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم؟ أحضروهم ليدفعوا عنكم العذاب: هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشّعراء 26/ 93] ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطارق 86/ 10] .
فلا يجيب أحد، ويسكتون عن الاعتذار، وتظهر عليهم الحجة الدامغة، ويتبين أنه لا شركاء ولا وجود لهم.
ثم ذكر الله تعالى مقال الذين أوتوا العلم من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وهم سادة الدّنيا والآخرة، والمخبرون عن الحقّ: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..
أي قال العلماء المقرّون بالتوحيد: إن الذّلّ والفضيحة والعذاب والهوان محيط(14/115)
اليوم بالكافرين الذين كفروا بالله، وأشركوا به ما لا يضرّهم ولا ينفعهم.
وهؤلاء هم الذين بقوا على كفرهم حتى الموت، فتتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم، حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي والتعريض للعذاب.
وكانت حالهم أيضا: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ.. أي فلما حضرهم الموت وعاينوا العذاب، أظهروا السمع والطاعة والانقياد، قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي ما كنّا مشركين بربّنا أحدا، كما حكى تعالى عنهم يوم المعاد: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] .
فكذّبهم الله في قولهم: بَلى، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ.. أي لقد عملتم السّوء كله وأعظمه وأقبحه، والله عليم بأعمالكم، فلا فائدة في إنكاركم والله يجازيكم على أفعالكم.
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ.. أي فادخلوا في جهنم، وذوقوا عذاب إشراككم بربّكم وعقاب معاصيكم، وأنتم خالدون ماكثون فيها إلى الأبد، وبئس المقرّ والمقام دار الهوان، لمن كان متكبّرا عن آيات الله تعالى واتّباع رسله.
وهم في عذاب دائم دون موت كما قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36] ، وفي ديمومة من العذاب في جميع الوقت، كما قال سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر 40/ 46] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تتضمن الآيات جوابا عن شبهة المشركين حول القرآن ووصفه بأنه أساطير الأولين، وليس معجزة، وليس هو من تنزيل ربّنا. ولم يكن جوابهم هنا كما تبين سابقا بالحجة الدامغة، وإنما جوابهم هو استحقاقهم العذاب الشديد، فاقتصر على(14/116)
محض الوعيد ولم يجب عن شبهتهم لأنه تعالى بيّن كون القرآن الكريم معجزا بطريقين:
الأول- أنه صلّى الله عليه وسلّم تحدّاهم بكل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، أو بحديث واحد، وعجزوا عن المعارضة، وذلك يدلّ على كونه معجزا.
الثاني- أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي: اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وأبطلها بقوله تعالى: قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات، وهذا لا يكون إلا من العالم بأسرار السموات والأرض «1» .
فهم يتحملون نتيجة آثامهم وذنوبهم تحمّلا كاملا، لا ينقص منه شيء لنكبة أصابتهم في الدّنيا بكفرهم، كما أنهم يتحمّلون مثل أوزار تابعيهم، وذلك بسبب كفرهم وإضلالهم غيرهم، جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام، إذ لو علموا لما أضلّوا، فبئس الوزر الذي يحملونه.
وعقابهم في الدّنيا يشبه عقاب عمالقة الكفر الذين تقدموهم مثل النّمروذ بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السّماء وقتال أهله، فبنوا الصرح ليصعدوا منه، فخرّ عليهم، إما بزلزلة أو ريح، فخرّبته. وكان عقابهم إبطال مكرهم وتدبيرهم وإهلاكهم عن بكرة أبيهم.
وعقابهم أيضا في الآخرة هو الذّلّ والهوان والفضيحة بالعذاب الأليم بسبب كفرهم، مع التقريع والتوبيخ والاستهزاء بهم، وبيان عدم وجود الشركاء لله تعالى أصلا.
وكل من العقابين لاستمرارهم على الكفر إلى حين الموت، فإذا أقرّوا حينئذ
__________
(1) تفسير الرّازي: 20/ 19(14/117)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
بالرّبوبية لله، وانقادوا عند الموت، فلا ينفعهم ذلك، والله عليم بأعمال الكفار.
وهذه الآية دليل على أنه لا يخرج كافر ولا منافق من الدّنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذلّ. ولكن لا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان، كما قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 85] .
ويقال لهم عند الموت: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها.. الآية، يدخل كلّ طائفة من باب، ويستقرّ في طبقة أو درك من طبقات ودركات جهنم، فبئس مقام المتكبرين الذين تكبروا في الدّنيا دار التكليف عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، كما وصفهم ربّنا سبحانه وتعالى بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات 37/ 35] .
صفات المتقين إيمان المتقين بالوحي المنزل وجزاؤهم
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)(14/118)
الإعراب:
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل، أو مبتدأ، وخبره: يَدْخُلُونَها أو خبر مبتدأ محذوف، أو هو المخصوص بالمدح اسم: نعم.
طَيِّبِينَ حال منصوب من الهاء والميم في تَتَوَفَّاهُمُ وهو العامل فيها. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ نعت لقوله الْمُتَّقِينَ.
البلاغة:
قالُوا: خَيْراً فيه إيجاز بالحذف، أي قالوا: أنزل خيرا. والسبب في نصب خَيْراً هنا، مع أنه رفع أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في جواب المشركين: هو كما قال الزمخشري بيان الفرق بين جواب المؤمن المقر وجواب الجاحد، يعني لما سئل المؤمنون لم يتلعثموا وأجابوا على السؤال جوابا بينا مفعولا للإنزال فقالوا: خيرا، والمشركون عدلوا عن السؤال وأعرضوا عن الجواب فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء.
المفردات اللغوية:
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، يعني المؤمنين. أَحْسَنُوا بالإيمان. حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا أو حياة طيبة. وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي الجنة. خَيْرٌ من الدنيا وما فيها، أو لثوابهم في الآخرة خير منها، وهو وعد للمتقين جزاء قولهم وإيمانهم. وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات. وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة. كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل هذا الجزاء يجزيهم.
طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
يَقُولُونَ يقول الملائكة لهم عند الموت: سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت، جاءه ملك، فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.
ويقال لهم في الآخرة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أحوال المكذبين بالقرآن المنزل وبالوحي من قولهم:
أساطير الأولين، وتحمل أوزارهم وأوزار أتباعهم، وتوفي الملائكة لهم ظالمي أنفسهم، وإلقائهم السّلم في الآخرة والإقرار بربوبية الله، أتبعه ببيان أوصاف(14/119)
المؤمنين الذين يؤمنون بالمنزّل، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات في جنات عدن، حتى تتم المقارنة بين وعد هؤلاء، ووعيد أولئك.
روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا جاء الوافد المقتسمين طرق مكة للحيلولة بين القادمين وبين الإيمان بالنبي، قالوا له ما قالوا سابقا، وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك.
روى ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: اجتمعت قريش، فقالوا: إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه، فخرج ناس في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد، ووصل إليهم، قال أحدهم: أنا فلان بن فلان، فيعرّفه نسبه، ويقول له: أنا أخبرك عن محمد: إنه رجل كذاب، لم يتّبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد، ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم، فمفارقون له، فيرجع الوافد، فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك، قال: بئس الوافد لقومي، إن كنت جئت، حتى إذا بلغت مسيرة يوم، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ما يقول، وآتي قومي ببيان أمره، فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين، فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون: خيرا.
التفسير والبيان:
تتميز الأشياء بأضدادها، فأخبر الله تعالى عن السعداء المؤمنين إثر الإخبار عن الأشقياء المشركين، ليتضح الفرق، وتتجلى أسس العدل. فسئل الذين اتقوا(14/120)
الكفر والمعاصي وخافوا الله: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به وبرسوله.
والسائل: هم الوافدون على المسلمين في أيام المواسم والأسواق، فكان الرجل يأتي مكة، فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه، فيقولون: أنزل خيرا.
ثم أخبر تعالى عما وعد هؤلاء المؤمنين في مقابل وعيد المشركين السابق، فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا.. أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه، وأحسنوا العمل في الدنيا، أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة.
فلهم في الدنيا مثوبة حسنة من عند الله بالنصر والفتح والعزة، وفي الآخرة بنعيم الجنة وما فيها من خير.
ثم أعلمنا الله تعالى بأن دار الآخرة خير من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا.
ونظير صدر الآية: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل 16/ 97] .
ونظير آخر الآية: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [القصص 28/ 80] وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران 3/ 197] وقوله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى 93/ 4] وقوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 17] .
ثم وصف الدار الآخرة بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي(14/121)
أي لنعم دار المتقين دار الآخرة، وهي جنات عدن أي إقامة تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار، ونعيمها دائم ميسر غير ممنوع: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي للمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات، كما قال تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف 43/ 71] وقال سبحانه: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة 56/ 32- 33] .
وهذا جزاء التقوى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل ذلك الجزاء الطيب، يجزي الله كل من آمن به واتقاه، وتجنب الكفر والمعاصي، وأحسن عمله. وهذا حث على ملازمة التقوى.
ثم أخبر الله تعالى عن حال المتقين عند الاحتضار في موازاة أو مقابلة حال المشركين: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ أي الذين تقبض أرواحهم الملائكة طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء. وكلمة طَيِّبِينَ كما قال الرازي: كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم كل ما نهوا عنه، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، والتبرؤ عن الأخلاق المذمومة، والتوجه إلى حضرة القدس، وعدم الانهماك في الشهوات واللذات الجسدية، فيطيب للملائكة قبض أرواحهم. وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح.
وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح، كقوله سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت 41/ 30- 32] .
ومضمون تحية الملائكة هو: يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، ادْخُلُوا.. أي(14/122)
تقول الملائكة لهم: سلام عليكم من الله، وأمان لا خوف، وراحة لا مكروه، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم. والمراد من هذه التحية: البشارة بدخول الجنة بعد البعث. ولما بشرتهم الملائكة بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها، فقولهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي هي خاصة لكم، كأنكم فيها.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات مثل واضح لأسلوب القرآن في بيان المتقابلات المتعاكسة، فبعد أن أبان تعالى حال المشركين وجزاءهم في الدنيا والآخرة، أعقبه ببيان حال المؤمنين الأتقياء.
فهم يؤمنون ويصدقون تصديقا جازما بصدق النبوة، وصحة ما أنزل الله من القرآن على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
فيكون جزاؤهم أحسن من عملهم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن 55/ 60] فلهم في الدنيا الجزاء الأفضل من النصر والفتح والغنيمة والعزة، ولهم في الآخرة الحسنة أي الجنة، فمن أطاع الله فله الجنة غدا، وما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا، لفنائها وبقاء الآخرة، ولنعم دار المتقين: الآخرة، وهي جنات عدن التي يدخلونها، وتجري في رياضها الأنهار، ولهم فيها ما يشاءون مما تمنوه وأرادوه، ومثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين، وهكذا يكون جزاء التقوى.
ويطيب للملائكة قبض أرواح هؤلاء الأتقياء، ويسلمون عليهم، مبشرين لهم بالجنة لأن السلام أمان. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده، لتقرّ عينه.
وتقول لهم أيضا: أبشروا بدخول الجنة بما عملتم في الدنيا من الصالحات.(14/123)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
والخلاصة: إنه يصدر من الملائكة سلام، وبشارة بالجنة، وبدأ بالسلام لأنه أمان واطمئنان عام، وأتبعه بأمر خاص وهو البشارة.
تهديد المشركين على تماديهم في الباطل
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
المفردات اللغوية:
ْ يَنْظُرُونَ؟
أي ما ينتظر الكفار المارّ ذكرهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم. وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
هو عذاب الاستئصال، أو يوم القيامة المشتمل على العذاب.
لِكَ
مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب فعل الذين من قبلهم من الأمم، كذبوا رسلهم، فأهلكوا. ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم بغير ذنب. ظْلِمُونَ
بالكفر.
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي جزاؤها على حذف المضاف، أو تسمية الجزاء باسم سيئات الأعمال. وَحاقَ نزل أو أحاط بهم، وخص في الاستعمال بإحاطة الشر. يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحاط بهم جزاء استهزائهم.
المناسبة:
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم:
أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به ووصفه بالخيرية، أردف ذلك ببيان أن أولئك الكفار لا يرتدعون عن(14/124)
حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد بقبض أرواحهم، أو أمر الله بعذاب الاستئصال «1» . ثم نبّه تعالى إلى تشابه الكفار قديما وحديثا في الشرك والتكذيب، وتعرضهم للهلاك جزاء فعلهم والخلاصة: إن هذه الآية: لْ يَنْظُرُونَ
هي الشبهة الثانية لمنكري النبوة، فإنهم طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل الله تعالى ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة، فقال تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك؟ «2» .
التفسير والبيان:
يهدد الله تعالى المشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا، فيقول:
ْ يَنْظُرُونَ..
أي ما ينتظر كفار مكة وأمثالهم في التصديق بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك، أو هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم؟
ْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي أو أن يأتيهم أمر ربك بعذاب الاستئصال في الدنيا كإرسال الصواعق أو الخسف، أو أن يأتي أمر ربك بيوم القيامة، وما يعاينونه من الأهوال، فهم لا ينزجرون عن الكفر إلا بمثل هذه الأمور.
والمقصود: حثهم على الإيمان بالله ورسوله قبل أن ينزل بهم أمر لا مرد لهم فيه.
لِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أي هكذا تمادى الذين من قبلهم من المشركين في شركهم، حتى ذاقوا بأس الله، وحل بهم العذاب والنكال.
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 489
(2) تفسير الرازي: 20/ 26(14/125)
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ..
أي إن ما وقع بهم من العذاب لم يكن بظلم من الله لأنه تعالى أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم، بإرسال رسله وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاؤوا به، فعقبوا، وجوزوا بسوء عملهم، وأحاط بهم من العذاب الأليم ما كانوا به يستهزئون، أي يسخرون من الرسل حين توعدوهم بعقاب الله.
فيقال لهم يوم القيامة: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور 52/ 14] .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات جواب عن الشبهة الثانية لمنكري النبوة الذين طلبوا إنزال ملك من السماء يشهد على صدق محمد في ادعاء النبوة.
والجواب يدل على إصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل وعزوفهم عن الحق، فهم ما ينتظرون إلا أحد مرين: أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم، أو يأتي أمر الله بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة.
والواقع أن القوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، فاستحقوا العقاب، وكانت عاقبتهم العذاب.
ولما أصروا على الكفر، أتاهم أمر الله فهلكوا، وما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، كما فعل بأسلافهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.
لقد فعل الذين من قبلهم مثلما فعلوا، فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم، وجزاء خبيث أعمالهم، وعقاب استهزائهم.(14/126)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
احتجاج الكفار بالقدر وإنكارهم البعث وتشابه مهمة الرسل
[سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 40]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
الإعراب:
الْبَلاغُ مرتفع بالظرف، لاعتماد الظرف على حرف الاستفهام.
يَهْدِي فيه ضمير يعود إلى اسم إِنْ ومَنْ منصوب بيهدي وتقديره: إن الله لا يهدي هو من يضلّ. ومن قرأ يَهْدِي كان مَنْ في موضع رفع لأنه نائب فاعل. وفي يُضِلُّ ضمير يعود على اسم إِنْ ومفعول يُضِلُّ محذوف، أي إن الله لا يهدي من يضله الله.
إِنَّما قَوْلُنا.. أَنْ نَقُولَ مبتدأ وخبر.(14/127)
البلاغة:
ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.. وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فيهما إطناب.
مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ بين كل من الجملتين طباق.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من أهل مكة لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قال البيضاوي: إنما قالوا ذلك استهزاء ومنعا للبعثة والتكليف، متمسكين بأن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع. وهذا نظير آية أخرى: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام 6/ 148] وهذا احتجاج بالقدر، وهي حجة باطلة داحضة، باتفاق العقلاء والعلماء، كما قال ابن تيمية، لهذا رد الله عليهم هنا بقوله: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وفي سورة الأنعام [148] بقوله: قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ والراجح أنهم لم يقولوا ذلك استهزاء، وإنما اعتراضا على الله تعالى. والرد عليهم أن الله تعالى يفعل في ملكه ما يشاء ولا يجوز الاعتراض عليه، ولبعثة الرسل فائدة: وهي الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة الطاغوت، وأما علم الله بالشيء فلا اطلاع لنا عليه.
وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من البحائر والسوائب، أي فإشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله، فهو راض به ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فأشركوا بالله وكذبوا رسله فيما جاؤوا به، وحرموا حلاله، وهو جواب عن الشبهتين المتقدمتين. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فما على الرسل إلا الإبلاغ البيّن، وليس عليهم الهداية، ولكنه يؤدي إلى الهدى على سبيل التوسط، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقا، بل بأسباب قدّرها له.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا كما بعثناك في هؤلاء المشركين، أي إن البعثة- كما قال البيضاوي- أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها، سببا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغداء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه، ويضر المنحرف ويفنيه. وهو دليل على أن الله تعالى آمر أبدا في جميع الأمم بالإيمان وناه عن الكفر.
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي بأن اعبدوا الله، أي وحّدوه وَاجْتَنِبُوا أي اتركوا الأوثان أن تعبدوها، وهو أمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت. والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، والمراد: اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع، ويشمل الطاغوت الشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى ضلال.(14/128)
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ فآمن، بأن وفقهم للإيمان بإرشادهم وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي وجبت عليه الضلالة في علم الله فلم يؤمن، بأن لم يوفقهم ولم يرد هداهم. ووجبت أي ثبتت بالقضاء الأزلي السابق لإصراره على الكفر والعناد.
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي يا معشر قريش كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ رسلهم من الهلاك، مثل عاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ وقد أضلهم الله، لا تقدر على ذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ هذا معنى من حقت عليه الضلالة، أي من يريد ضلاله، ولكنه لم يأمره به، وإنما على العكس أمره وأمر العالم كله بالإيمان وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما نعين من عذاب الله، بأن ينصرهم بدفع العذاب عنهم.
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ غاية اجتهادهم فيها بَلى يبعثهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران مؤكدان لنفسهما منصوبان بفعلهما المقدر، أي وعد ذلك وحقه حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ ذلك أي أنهم مبعوثون، إما لعدم علمهم بمقتضى الحكمة التي يراعيها الله عادة، وإما لقصر نظرهم على المألوف، فيتوهمون امتناعه.
لِيُبَيِّنَ متعلق بقوله: يبعثهم المقدر، أي يبعثهم ليبين لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مع المؤمنين، من أمر الدين الحق، بتعذيبهم وإثابة المؤمنين أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في إنكار البعث المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب إِذا أَرَدْناهُ أردنا إيجاده فَيَكُونُ فهو يكون. وهذه الآية: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ.. لتقرير القدرة على البعث وبيان إمكانه لأن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته، ولا يتوقف على سبق المواد والمدد، وإلا لزم التسلسل، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة، يمكن له تكوينها مرة أخرى.
سبب النزول: نزول الآية (38) :
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ.. قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.(14/129)
المناسبة:
في هذه الآيات شبهتان، أما آيات وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.. فهي الشبهة الثالثة لمنكري النبوة بعد إيراد الشبهتين المتقدمتين، وتقريرها: أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة، فقالوا: لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان، سواء جئت أو لم تجئ، ولو شاء الله الكفر، فإنه يحصل الكفر، سواء جئت أو لم تجئ، وإذا كان الأمر كذلك، فالكل من الله، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك، فكان القول بالنبوة باطلا.
وأما آيات: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. فهي الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، ومفادها أنهم قالوا: الاعتقاد بالبعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا من وجهين:
الأول- أن محمدا كان داعيا إلى التصديق بالمعاد، فإذا بطل ذلك، ثبت أنه كان داعيا إلى القول الباطل، فهو ليس رسولا صادقا.
الثاني- أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته، بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته.
ورد الله عليهم مقالهم كله بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم القديمة، وما على الرسل إلا التبليغ، وليس عليهم الهداية، والله تعالى لا يجبر أحدا على الهداية أو الضلالة، وإنما يختار الإنسان لنفسه ما يريد، والله سبحانه خلق للناس قدرة الاختيار بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلا يصح الاحتجاج بمشيئته تعالى، بعد أن خلق لهم من الاختيار ما يكفي.(14/130)
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى في هذه الآيات عن شبهتين للكفار منكري النبوة، الأولى منهما هي الشبهة الثالثة لهم المتضمنة اغترارهم بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم الواهي محتجين بالقدر: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.. أي وقال المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان، معتذرين عن شركهم، محتجين بالقدر بقولهم: ما نعبد هذه الأصنام إلا بمشيئة الله، فلو شاء الله ما عبدناهم، ولا حرّمنا هذه المحرّمات من البحائر والسوائب والوصائل «1» ونحو ذلك مما ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، ما لم ينزّل به سلطانا، ما حرمناها إلا برضا الله، ولو كان تعالى كارها لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه.
وهذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [148] .
وقصدهم من ذلك- كما ذكر الشوكاني في فتح القدير- الطعن في الرسالة، أي لو كان ما قاله الرسول حقا آتيا من الله من منع عبادة غير الله، ومنع تحريم ما لم يحرمه الله، لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله منا، فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، فلما عبدنا غيره وحرمنا ما لم يحرمه، دل على أن فعلنا مطابق لمراده وموافق لمشيئته، وهم في الحقيقة لا يقرون بذلك، ولكنهم قصدوا الطعن على الرسل.
ورد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي أن ذلك ليس جديدا في الاعتقاد الفاسد، فمثل قولهم حدث ممن قبلهم من الأمم
__________
(1) سبق تفسيرها في آية: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [المائدة 5/ 103] . [.....](14/131)
حين كذبوا الرسل، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فهؤلاء سلكوا سبيل أسلافهم في تكذيب الرسل واتباع الضلال.
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فهم مخطئون فيما يقولون، وليس الأمر كما يزعمون أنه تعالى لم ينكره عليهم، بل قد أنكره عليهم أشد الإنكار، ونهاهم عنه أشد النهي، وأرسل في كل أمة أو قرن أو طائفة من الناس رسولا يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن عبادة ما سواه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] .
فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل، ومنهم من أعرض وتنكر، فحقت عليه الضلالة وكلمة العذاب لإصراره على الكفر والعصيان.
وما على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم إلا إبلاغ الرسالة والوحي وإيضاح طريق الحق، ومنه أن مشيئته تعالى تتوجه بالهداية لمن تعلق بها، كما قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 8- 10] وقال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت 29/ 69] .
وليس من وظيفة هؤلاء الرسل إلجاء الناس إلى الإيمان، فذلك ليس من شأنهم، ولا هو من الحكمة.
أي إن الثواب والعقاب مرتبطان بأمرين: مشيئة الله تعالى، واتجاه العبد إلى تحصيل الأسباب المؤدية إلى النجاة أو الهلاك. وهداية الله نوعان: هداية إرشاد ودلالة، وهذا ما يقوم به الرسل والكتب المنزلة عليهم، وهداية توفيق وعون، وهذا متعلق بسلوك العبد أصل طريق الهداية والإيمان، فمن آمن زاده الله توفيقا إلى الخير، ومن ضل وكفر وأعرض أضله الله وأبعده عن جادة الحق والخير. ثم إن أمر الله جميع الناس بالإيمان غير إرادته ومشيئته.(14/132)
ثم أبان الله تعالى عموم بعثة الرسل لكل الأمم فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا.. أي إن سنته تعالى في خلقه إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله، ونهيهم عن عبادة الطاغوت: وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام والكواكب والشيطان وغيرها، فلقد أرسل في كل أمة رسولا منذ حدث الشرك في قوم نوح، وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانت دعوته عامة للإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كان يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف 43/ 45] .
فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.
والخلاصة: إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية غير مرادة لأنه تعالى نهى الناس عن الكفر على ألسنة رسله. وأما المشيئة الكونية وهي تمكين بعض الناس من الكفر وتقديره لهم على وفق اختيارهم، فلا حجة لهم فيها لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حكمة بالغة «1» .
ثم إنه تعالى أنكر على الكفرة المكذبين بإنزال العقوبة عليهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ.. أي فبعض الناس هداهم الله ووفقهم لتصديق الرسل، ففازوا ونجوا، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله، فعاقبهم الله تعالى.
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل،
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 569(14/133)
وكذب الحق، كعاد وثمود، كيف أهلكهم الله بذنوبهم: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمد 47/ 10] فانظروا كيف كان مصير المكذبين رسلهم، لتعتبروا بعاقبتهم.
ثم خصص الله الخطاب برسوله مسليا له عما يقابله قومه من جحود فقال:
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ.. أي إن تحرص يا محمد على هداية قومك، فلا ينفعهم حرصك إذا كان الله قد أراد إضلالهم بسوء اختيارهم، كما قال سبحانه: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة 5/ 41] وقال تعالى حكاية لقول نوح لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ [هود 11/ 34] وقال عزّ وجلّ لرسوله صلّى الله عليه وسلّم:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] .
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر الاختيار، لا الإكراه والإلجاء.
ثم ذكر تعالى الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، فقالوا: اعتقاد البعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا، وذلك في قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. أي حلف المشركون، واجتهدوا في الحلف، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي أنهم استبعدوا البعث، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به لأن الميت يفنى ويزول.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: بلى سيكون ذلك، ووعد به وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل ووقعوا في الكفر.
وحكمة الله في المعاد هي لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي ليبين للناس الحق فيما يختلفون فيه من كل شيء، ويقيم العدل المطلق فيميز الخبيث من(14/134)
الطيب، والطائع من العاصي، والظالم من المظلوم، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي وليعلم الكافرون علم اليقين الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم: لا يبعث الله من يموت، وتقول لهم زبانية النار: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور 52/ 14- 16] .
وناسب الكلام في البعث أنه تعالى أخبر عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فقال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ..
أي إنا إذا أردنا شيئا من الخلق والإعادة والبعث للأموات والمعاد، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء الله، دون عناء ولا تردد، ولا بطء ولا تكلف، كما قال سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 53/ 50] وقال:
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] وقال:
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] وقال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن بعثة الرسل في كل الأمم عامة شاملة، وهدفها واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الطاغوت أي ترك كل معبود دون الله، كالشيطان والكاهن والصنم، وكذا كل من دعا إلى الضلال.
2- الناس أمام دعوة الرسل فريقان: فريق أرشده الله إلى دينه وعبادته،(14/135)
وفريق أضله الله في قضائه السابق حتى مات على الكفر، وكل من الفريقين اختار لنفسه ما يحلو، وعلم الله واسع محيط بكل شيء، علم الله من كل فريق ما سيختار، فكان قضاؤه السابق مطابقا لما سيحدث، وعلم الله لا يتغير. وسنة الله قديمة مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان، وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض، والكفر في البعض، حسبما علم من توجه العبد إلى منحاه.
3- العاقل من يعتبر ويتعظ بما حل بفريق الضالين المكذبين، كيف آل أمرهم إلى الدمار والخراب والعذاب والهلاك.
4- لا جدوى ولا فائدة من حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره على هداية أحد بجهده وتصميمه إن سبق في علم الله الضلالة له، فإنه تعالى لا يرشد من أضله، بعد أن ضل سواء السبيل.
وليس للضالين من ناصرين ولا من شافعين ولا من رفاق ينقذونهم من العذاب الذي استحقوه على ضلالهم وكفرهم.
5- الكل يعجب من حماقة المشركين وجهلهم حينما يغلظون الأيمان ويؤكدون القسم بأن الله لا يبعث من يموت. لذا رد الله عليهم بأن البعث حق مؤكد لا شك فيه، ولا بد من وقوعه، وإن كان أكثر الناس يجهلون أنهم مبعوثون.
6- الحكمة من البعث والمعاد واضحة وهي إظهار الله الحق فيما يختلف فيه الناس من أمر البعث وكل شيء، وإعلام الكافرين بالبعث الذين أقسموا على إنكاره أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقسامهم: لا يبعث الله من يموت.
7- لله القدرة المطلقة الهائلة، فإذا أراد أن يبعث من يموت فلا تعب عليه ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما يحدثه في الكون لأنه إنما يقول له:
كن فيكون.(14/136)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
جزاء المهاجرين وبشرية الرسل ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيان القرآن، وتهديد الكافرين
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
الإعراب:
حَسَنَةً صفة للمصدر، أي لنبوئنهم تبوئة حسنة.
الَّذِينَ صَبَرُوا.. الذين: إما بدل مرفوع من الَّذِينَ هاجَرُوا وإما بدل منصوب من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أو منصوب بتقدير: أعني.(14/137)
عَلى تَخَوُّفٍ حال من الفاعل أو المفعول. سُجَّداً لِلَّهِ حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من ضمير ظِلالُهُ الذي هو في معنى الجمع يَخافُونَ رَبَّهُمْ حال.
مِنْ فَوْقِهِمْ حال من: هم.
البلاغة:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا استفهام بمعنى الإنكار.
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. وَالْمَلائِكَةُ عطف خاص على عام لتعظيم الملائكة وتكريمهم.
يَتَفَكَّرُونَ تَعْلَمُونَ يَشْعُرُونَ داخِرُونَ يَسْتَكْبِرُونَ يُؤْمَرُونَ بأسلوب السجع اللطيف.
الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ هم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في صدر الإسلام فرضا، ثم
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»
أي أن الهجرة أصبحت هي ترك سيئات الأعمال: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» والهجرة:
ترك الوطن في سبيل الله لإقامة دينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بالأذى من أهل مكة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أن الجنة أعظم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفار، أي لو علموا أن الله يمنح المهاجرين خير الدارين لوافقوهم، أو للمهاجرين، أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، أو للمتخلفين عن الهجرة، أي لو علموا ما للمهاجرين من الكرامة لبادروا إلى الهجرة. وفي هذا ترغيب في الهجرة وفي طاعة الله تعالى لأنه بالهجرة قوي الإسلام.
الَّذِينَ صَبَرُوا هم الصابرون على الشدائد من أذى المشركين، والهجرة لإظهار الدين.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي منقطعين إلى الله تعالى مفوضين إليه الأمر كله. إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، وهو رد لقول قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وفي هذا دلالة واضحة أن النبوة لا تكون إلا في الرجال، وليس في النساء نبية. أَهْلَ الذِّكْرِ العلماء بالتوراة والإنجيل، أي أهل الكتاب العالمين إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، فإنهم يعلمونه، وأنتم أقرب إلى تصديقهم من تصديق المؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بِالْبَيِّناتِ متعلق بمحذوف، أي أرسلناهم بالبينات أي الحجج الواضحة، والبينة: هي المعجزة الدالة على صدق الرسول الزُّبُرِ الكتب، أي كتب الشرائع وتكاليف العباد، جمع زبور الذِّكْرَ القرآن، وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه لِتُبَيِّنَ(14/138)
لِلنَّاسِ
لتوضح أسرار التشريع ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في القرآن من الحلال والحرام، والتبيين: أعم من أن ينص على المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وإرادة أن يتأملوا فيه، فيتنبهوا للحقائق، ويعتبروا.
مَكَرُوا المكرات السيئات، والمكر: السعي بالفساد خفية السَّيِّئاتِ أي الأعمال التي تسوء عاقبتها، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه، كما ذكر في سورة الأنفال [30] وراموا صد أصحابه عن الإيمان يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ مثلما فعل بقارون، أي بأن يذهبهم ويغوّر بهم في أعماق الأرض.
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من جهة لا تخطر ببالهم، بأن يأتيهم العذاب بغتة من جانب السماء، كما فعل بقوم لوط، وكما أهلك المشركين في بدر، ولم يكونوا يقدرون على النجاة.
فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم في البلاد للتجارة، مثل قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران 3/ 196] . فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار من العذاب تَخَوُّفٍ مع تخوف وتوقع للبلايا أو تنقص شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال:
هذه لغتنا، التخوف: التنقص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعر أبو كبير يصف ناقته:
تخوّف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السّفن «1»
فقال عمر: عليكم بديوانكم، لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة مِنْ شَيْءٍ له ظل كشجرة وجبل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يميل من جانب إلى جانب، وقرئ تتفيؤا وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع، والظلال: جمع ظل: وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس وَالشَّمائِلِ جمع شمال، والمراد باليمين والشمائل: أي عن جانبي الشيء أول النهار وآخره. سُجَّداً لِلَّهِ أي خاضعين له بما يراد منهم، والسجود: الانقياد والخضوع وَهُمْ الظلال، نزلوا منزلة العقلاء داخِرُونَ صاغرون منقادون. مِنْ دابَّةٍ نسمة تدب على السماء والأرض، أي تخضع له بما يراد منها، وغلب في الإتيان بما: ما لا يعقل لكثرته لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبرون عن عبادته يَخافُونَ أي
__________
(1) التامك القرد: اللحم المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسيّ.(14/139)
الملائكة، حال من ضمير لا يَسْتَكْبِرُونَ. مِنْ فَوْقِهِمْ حال، أي عاليا عليهم بالقهر والغلبة، كما قال تعالى: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الأعراف 7/ 127] .
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى موقف الكفار في إنكار البعث والقيامة، الدال على التمادي في الغي والجهل والضلال، أبان حكم الهجرة عن تلك الديار ورغب فيها، تخلصا مما يقدم عليه أولئك الكفار من إيذاء المسلمين وإضرارهم وعقوبتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة: صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، وعابس، وجبير، موليين لقريش، فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، أما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت لكم، لم أنفعكم، وإن كنت عليكم، لم أضركم، فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر قال:
ربح البيع يا صهيب، وقال عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله، لم يعصه، وهو ثناء عظيم، يريد به: لو لم يخلق الله النار لأطاعه، فكيف ظنك به، وقد خلقها؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام، فتركوا عذابهم، ثم هاجروا، فنزلت هذه الآية «1» .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية:
هؤلاء أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، بوّأهم الله المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.
ثم ذكر الله تعالى الشبهة الخامسة لمنكري النبوة الذين قالوا: الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا، لكان
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 34(14/140)
يبعث ملكا، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله تعالى وعادته أن يبعث رسولا من البشر.
ثم هددهم بخسف الأرض بهم، أو بعذاب من السماء بغتة لأن لله قدرة كاملة في السماء والأرض، والمخلوقات كلها تنقاد له وتخضع لأمره.
التفسير والبيان:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ.. هذه الآية تحدد جزاء المهاجرين في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان، رجاء ثواب الله وجزائه، والمعنى: والذين فارقوا ديارهم وأوطانهم، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله، وحبا في إرضائه، وذهبوا إلى ديار أخرى، بعد أن ظلموا، وأوذوا من الأعداء، لننزلنهم في الدنيا دارا أو بلدة حسنة، ومنزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب. فالحسنة: هي المنزلة الطيبة والمسكن المرضي والموطن الأصلح وهو المدينة، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد: هي الرزق الطيب، قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا لله، عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد.
فالحسنة: هي المنزلة الرفيعة المادية والمعنوية.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ.. أي وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطيناهم في الدّنيا لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ: الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدّنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى(14/141)
المهاجرين، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. أو لو علم المتخلفون عن الهجرة معهم ما ادّخر الله لمن أطاعه واتّبع رسوله.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربّك في الدّنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر.
ثم وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ صَبَرُوا.. أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا على الأذى من قومهم والعذاب، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وهو حرم الله، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله، وعناء السفر ومتاعب الغربة، وتوكّلوا على ربّهم، أي فوّضوا أمورهم إليه، فأحسن عاقبتهم في الدّنيا والآخرة.
قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون سبب نزول الآية في مهاجرة الحبشة الذين اشتدّ أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكّنوا من عبادة ربّهم. ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعفر بن أبي طالب ابن عمّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأبو سلمة بن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدّنيا والآخرة «1» ، وهذا هو الصحيح في سبب نزول هذه الآية، كما ذكر ابن عطية.
ثم أجاب الله تعالى عن الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوة المذكورة في هذه السورة وهي بشريّة الرّسل، فقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا للناس رسولا من أهل السماء أي ملائكة، وإنما أرسلنا رجالا من أهل الأرض نوحي إليهم أوامرنا ونواهينا، فلم نرسل إلى قومك يا محمد إلا كما أرسلنا إلى
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 570(14/142)
من قبلهم من الأمم، أي رسلا من جنسهم وطبيعتهم: قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 93] ، قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف 18/ 110] .
قال ابن عباس: لما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا، أنكرت العرب ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ.. الآية.
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.. أي فاسألوا أهل العلم وأهل الكتب الماضية:
أبشرا كانت الرّسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.. أي أرسلناهم بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوّتهم، وبالكتب المشتملة على التّشريع الرّبّاني. والزّبر: جمع زبور أي كتاب، تقول العرب: زبرت الكتاب: إذا كتبته، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] ، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر 54/ 52] . وفي الآية: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزّبر إلا رجالا، أي غير رجال، فكلمة إِلَّا بمعنى غير، كقوله: لا إله إلا الله.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ.. أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد، أنزلنا إليك القرآن، لتبيّن للناس ما أنزل إليهم من ربّهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأمم الماضية التي أبيدت وأهلكت لتكذيبها الأنبياء، لعلمك بمعاني ما أنزل الله عليك.
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ومن أجل أن يتفكّروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ، فيهتدون، ويفوزون بالنّجاة في الدّارين.(14/143)
وبعد فتح باب الأمل أمامهم، حذّرهم تعالى سوء ما هم عليه من الكفر والعصيان، فقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ.. أي إنه تعالى يخبر عن حلمه وإمهاله العصاة الذين يعملون السّيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم لما هم عليه من الضلال. والمكر في اللغة: عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء.
والمعنى: أفأمن الذين مكروا السيئات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أهل مكة، وحاولوا صدّ الناس عن الإيمان بدعوته، أحد أمور أربعة:
الأول- أن يخسف بهم الأرض، كما فعل بقارون.
الثاني- أو يأتيهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به، كما صنع بقوم لوط.
الثالث- أو يأخذهم في تقلّبهم في الليل والنهار أو في أسفارهم ومتاجرهم واشتغالهم في المعايش والأشغال الملهية، فلا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
الرابع- أو يأخذهم على تخوّف أي في حال خوفهم بأن يهلك الله قوما، فيتخوّفوا، فيأخذهم بالعذاب، وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فإن العذاب المتوقّع مع الخوف الشديد أبلغ وأشدّ من حال المفاجأة لأن العقاب في حال الإرهاب، وإنهاك الأعصاب، وإخافة النفوس أشدّ من العقاب المفاجئ. وقيل: التّخوّف: التّنقص من الأموال والأرزاق، والأنفس، على لغة هذيل كما بيّنّا.
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله تعالى لم يعجل بعذابهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة لأنه رؤف رحيم بعباده، فترك لهم وقتا يتمكنون من تلافي التّقصير، واستدراك الأخطاء، والعدول عن الضّلال.(14/144)
ثبت في الصحيحين: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم»
وثبت فيهما أيضا: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] » .
ونظير الآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج 22/ 48] .
والتّخويف والإنذار يناسبه التّذكير بالقدرة الإلهية الهائلة، والعظمة والجلال والكبرياء الذي خضع له كلّ شيء، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ.. أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من المخلوقات ذات الظلال كالجبال والأشجار والمباني والأجسام القائمة، تتميل ظلاله من جانب إلى جانب، ذات اليمين وهو المشرق، وذات الشمال وهو المغرب، وذلك بكرة وعشيّا أي في الغداة أول النهار، وفي المساء آخر النّهار، قال الأزهري: تفيؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعد ما انصرفت عنه الشمس، والظّل: ما يكون بالغداة: وهو ما لم تنله الشمس.
والخطاب في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا لجميع الناس.
وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ أراد: من شيء له ظلّ من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، بدليل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ وهو الشيء الكثيف الذي يقع له ظلّ على الأرض.
وقوله تعالى: ظِلالُهُ أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه: الإضافة إلى ذوي الضلال، وإنما حسن هذا لأن الذي عاد إليه الضمير، وإن كان واحدا في اللفظ وهو قوله تعالى: إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ إلا أنه كثير في المعنى. ونظيره قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف 43/ 13] ، فأضاف الظهور- وهو(14/145)
جمع- إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة، وهو قوله تعالى:
ما تَرْكَبُونَ.
سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ أي أن الظلال ساجدة لأمر الله وحده، والسّجود: الانقياد والاستسلام، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله، والدّخور: الصّغار والذّل، لأن الظلال تتحوّل من جهة المشرق إلى جهة المغرب، فهي في أول النهار من جهة المشرق، ثم تتقلّص، وتنتقل من حال إلى حال في آخر النهار، مائلة إلى جهة المغرب، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية.
وقوله تعالى: داخِرُونَ جمع بالواو لأن الدّخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل، فغلب العقلاء.
ومجمل معنى الآية: أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كلّ واحد منها وشقّيه- استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء- ترجع الظلال من جانب إلى جانب، منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التّفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله لا تمتنع «1» .
وهذا في الجمادات، ثم ذكر سجود الأحياء فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. أي ولله يخضع كلّ ما في السّموات والأرض من دابة تدبّ عليها، وكذلك الملائكة، والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن عبادته وعن أي شيء كلفوا به، أو عن مراد الله فيما أراد، فهم في تذلل وخضوع لله تعالى.
يَخافُونَ رَبَّهُمْ.. يخاف هؤلاء الملائكة والدّواب الأرضية الذي خلقهم،
__________
(1) الكشاف: 2/ 205(14/146)
وهو دائما من فوقهم بالقهر والغلبة، ويفعلون أي الملائكة كلّ ما يؤمرون به، فهم مثابرون على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره. فالمراد بالفوقية:
الفوقية بالرّتبة والشّرف والقدرة والقوة.
ونظير الآية كثير مثل: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرّعد 13/ 15] .
والخلاصة: إن على أهل مكة الماكرين بالنّبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كلّ شيء له في السّموات والأرض، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
1- جزاء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وصبروا على الأذى، وتوكّلوا على ربّهم هو الموطن الأفضل، والمنزلة الحسنة، والعيشة الرّضية، والرّزق الطّيّب الوفير، والنّصر على الأعداء، والسّيادة على البلاد والعباد، وقد اجتمع لهم بفضل الله كل ذلك، ولأجر دار الآخرة أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده.
2- في الآية تنويه بفضيلة الصّبر والتّوكل، أما الصّبر فلما فيه من قهر النّفس، وأما التّوكل فللعزوف عن الخلق والاتّجاه إلى الحقّ، الأول هو مبدأ السّلوك إلى الله تعالى، والثاني هو نهاية هذا الطريق.
3- دلّت آية وَما أَرْسَلْنا.. على أنه تعالى ما أرسل أحدا من النّساء، ودلّت أيضا على أنه ما أرسل ملكا إلى الناس، ولكن الله يرسل الملائكة رسلا إلى(14/147)
سائر الملائكة، ويرسل بعضهم بالوحي إلى الأنبياء، كما قال تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر 35/ 1] . ورسل البشر هم دائما من الرّجال.
4- على العوام سؤال أهل الذّكر فيما لم يكونوا يعلمون به، وأهل الذّكر: هم أهل العلم مطلقا، سواء بأخبار الماضين، إذ العالم بالشيء يكون ذاكرا له، أو بالكتب السماوية السابقة، أو بالقرآن. وبما أن أهل مكة كانوا مقرّين بأن اليهود والنّصارى أصحاب العلوم والكتب، فأمرهم الله بأن يرجعوا في مسألة بشرية الرّسل إليهم، ليبيّنوا لهم ضعف هذه الشّبهة وسقوطها، فهم الذين يخبرونهم بأن جميع الأنبياء كانوا بشرا.
5- احتجّ بآية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ من أجاز للمجتهد تقليد مجتهد آخر، فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما، وجب عليه الرّجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالما، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فإن لم يجب فلا أقل من الجواز.
6- احتجّ نفاة القياس بهذه الآية أيضا: فَسْئَلُوا.. فقالوا: المكلّف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم، لتمكّنه من استنباط الحكم بواسطة القياس.
وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من هذا الدّليل.
7- أرسل الأنبياء السابقون بالبيّنات والزّبر، أي بالدّلائل والحجج الشاهدة بصدقهم، وبالكتب المتضمنة تشريع الإله. وأنزل الذّكر أي القرآن على النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليبيّن للناس فيه ما أنزل إليهم من الأحكام والوعد والوعيد قولا وفعلا، فالرّسول مبيّن عن الله عزّ وجلّ مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزّكاة وغيرها من أنظمة الحياة مما لم يفصّله القرآن.(14/148)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
8- اشتملت آية أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي بالسّيئات على وعيد للمشركين الذين احتالوا على تقويض أركان الإسلام بخسف الأرض كما خسفها بقارون، أو بمفاجأتهم بالعذاب كما فعل بقوم لوط وغيرهم، أو بأخذهم في تقلبهم أي في أثناء أسفارهم وتصرفاتهم، وما هم بمعجزين الله، أي سابقين الله ولا فائتيه، أو بأخذهم في حال تخوّف وإرهاب، أو على تنقّص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم، أي تنقص من الأموال والأنفس والثّمرات، حتى أهلكهم كلّهم.
9- من أدلّة عظمة الله وكبريائه وقدرته سجود كلّ ما يدبّ على الأرض له، وكذا الملائكة الذين في الأرض، وخصّهم بالذّكر لشرف منزلتهم، فكلّ جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة يخضعون لله وينقادون لأمره، ولا يستكبرون عن عبادة ربّهم، ويخافون عقاب ربّهم وعذابه من فوقهم، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء، ويمتثلون كل ما يؤمرون به، وهؤلاء هم الملائكة.
10- استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من البشر لتخصيصهم بالذّكر، ولأنهم لا يستكبرون عن عبادة ربّهم، فليس في قلوبهم تكبّر وترفّع، ولأنهم يفعلون ما يؤمرون، مما يدلّ على أن أعمالهم خالية من الذّنب والمعصية، ولأنهم خلقوا قبل البشر بأزمان مديدة وهم طائعون لله طوال هذه المدة، ولا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى.
مناقشة عقائد المشركين وأعمالهم القبيحة
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 62]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)(14/149)
الإعراب:
واصِباً حال من الدِّينُ، وعامله لَهُ الجار والمجرور الذي فيه معنى الظرف.
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ما: شرطية، أو موصولة متضمّنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله تعالى.
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ما: مبتدأ وخبره لَهُمْ مقدم عليه، أو معطوف بالنصب على الْبَناتِ.
سُبْحانَهُ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ألسنة: جمع لسان، واللسان يذكّر ويؤنث، فمن ذكّر جمعه(14/150)
على ألسنة، ومن أنّث جمعه على ألسن، والقرآن أتى بالتّذكير. والْكَذِبَ: مفعول تَصِفُ. ومن قرأ الْكَذِبَ بثلاث ضمّات، كان مرفوعا على أنه صفة الألسنة.
البلاغة:
فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فيه إفادة القصر، أي لا تخافوا غيري، وفيه التفات عن الغيبة إلى التّكلم، مبالغة في التّرهيب والمهابة، وتصريحا بالمقصود، فكأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غيري. ويلاحظ وجود السّجع في أواخر الآيات فَارْهَبُونِ تَتَّقُونَ تَجْئَرُونَ يُشْرِكُونَ تَفْتَرُونَ ...
فَتَمَتَّعُوا.. تهديد ووعيد.
يَسْتَأْخِرُونَ يَسْتَقْدِمُونَ بينهما طباق.
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صيغة مبالغة.
سُبْحانَهُ اعتراض لتعجيب الخلق من هذا الجهل الفاضح القبيح.
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ كلام بليغ بديع، أي ألسنتهم كاذبة، كقولهم: «عينها تصف السحر» أي ساحرة.
المفردات اللغوية:
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ تأكيد. إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فيه إثبات الألوهية والوحدانية.
فَارْهَبُونِ خافون دون غيري، وفيه التفات عن الغيبة. والرّهبة: الخوف. وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. وَلَهُ الدِّينُ الطاعة والإخلاص. واصِباً دائما لازما، كما قال تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصافات 37/ 9] . أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي مع أنه الإله الحق ولا إله غيره، والاستفهام للإنكار والتّوبيخ. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي وأي شيء اتّصل بكم من نعمة، فهو من الله، فلا نافع غيره، ولا ضارّ سواه.
مَسَّكُمُ أصابكم. الضُّرُّ كالفقر والمرض. تَجْئَرُونَ تتضرّعون لكشفه أو ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدّعاء، ولا تدعون غيره. والجؤار: رفع الصوت في الدّعاء والاستغاثة. إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ وهم كفاركم. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النّعمة، أي كأنهم قصدوا بشركهم كفران النّعمة، وإنكار كونها من الله تعالى. فَتَمَتَّعُوا باجتماعكم على عبادة الأصنام، وهو أمر تهديد.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ذلك وأغلظ وعيده.
وَيَجْعَلُونَ أي المشركون. لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد، أو لما(14/151)
لا يعلمون أنها تضرّ ولا تنفع، وهي الأصنام. نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الزروع والأنعام، بقولهم:
هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الأنعام 6/ 136] تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ، وفيه التفات عن الغيبة. تَفْتَرُونَ تكذبون على الله من أنه أمركم بذلك، وأنها آلهة حقيقة بالتّقرب إليها، وهو وعيد لهم عليه.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ بقولهم: الملائكة بنات الله، كانت خزاعة وكنانة يقولون: إن الملائكة بنات الله. سُبْحانَهُ تنزيها له عن النقائص، أو تنزيها له من قولهم أو تعجّبا منه ومما زعموا. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي يشتهونه، وهم البنون، والمعنى: يجعلون له البنات التي يكرهونها، وهو منزّه عن الولد، ويجعلون لهم الأبناء الذين يختارونهم، فيختصون بالأسنى الأرفع، كقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ، وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ [الصافات 37/ 149] .
وَإِذا بُشِّرَ البشارة: إلقاء الخبر المؤثر في تغير الوجه، ويكون في السّرور والحزن، وجاءت الآية في الثاني (الحزن) ثم خصّ عرفا بالخبر السّارّ. ظَلَّ صار مُسْوَدًّا متغيّرا، وهو كناية عن الاغتمام من الكآبة والحياء من الناس. كَظِيمٌ ممتلئ غمّا وغيظا وحزنا.
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي منهم أي من قومه. مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من سوء المبشر به عرفا، خوفا من التغيير، مترددا فيما يفعل به. أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أيتركه بلا قتل، بهوان وذلّ، والإمساك هنا: الحبس. أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي يواريه في التّرب أو يئده، وذكر ضمير يمسكه ويدسّه لأنه عائد على ما في قوله تعالى: ما بُشِّرَ بِهِ. ساءَ بئس.
ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا، حيث نسبوا لخالقهم البنات اللاتي هنّ عندهم بهذا التقدير.
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي الكفار. مَثَلُ السَّوْءِ أي الصفة السوء بمعنى القبيحة، وهي اشتهاء الذكور استظهارا بهم، وكراهة الإناث ووأدهنّ خشية الإملاق أو الفقر والعار، مع احتياجهم إليهن للزواج. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا هو، واتّصافه بجميع صفات الجلال والكمال، فله الوجوب الذاتي، والغنى المطلق، والجود الفائق، والنزاهة عن صفات المخلوقين. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي في ملكه، المتفرد بكمال القدرة. الْحَكِيمُ المتّصف بكمال الحكمة في صنعه وخلقه.
بِظُلْمِهِمْ بالمعاصي. ما تَرَكَ عَلَيْها على الأرض. مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدبّ عليها.
لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، بل هلكوا وعذبوا حينئذ لا محالة، وإضافة الظلم للناس الدّال على العموم: لا يلزم أن يكونوا كلهم ظالمين، حتى الأنبياء عليهم السّلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم، وصدر عن أكثرهم. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي ينسبون لله ما هو قبيح لأنفسهم من البنات، والشريك في الرّياسة، وإهانة الرّسل، وخبائث الأموال.
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك، أي يكذبون، كما يقال: عينها تصف السحر، أي هي(14/152)
ساحرة، وقدّها يصف الهيف، أي هي هيفاء. وكذبهم هو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى عند الله، أي الجنة، لقوله تعالى حكاية عنهم: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت 41/ 50] . لا جَرَمَ حقّا. مُفْرَطُونَ متركون فيها أو مقدّمون إليها، معجّلون بهم إليها. وعلى قراءة كسر الراء: أي متجاوزون الحدّ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنّ كل ما سوى الله منقاد خاضع لجلاله وكبريائه وسلطانه، أتبع ذلك بأمور ثلاثة:
أولها- النّهي عن الشّرك، وأن كلّ ما سواه فهو ملكه، وأنه غني عن الكلّ، وأن الناس مذبذبون، فإذا أصابهم الضّرّ تضرّعوا إلى الله تعالى، وإذا كشفه عنهم، عادوا إلى الكفر والشرك.
ثانيها- بيان قبائح أفعال المشركين، بعد إيراد سخف أقوالهم وفسادها.
ثالثها- إمهال هؤلاء الكفار، وحلم الله عليهم، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، بالرّغم من عظيم كفرهم، وقبيح أفعالهم، إظهارا للفضل والرّحمة والكرم.
التفسير والبيان:
بما أنه ثبت في الآيات السالفة خضوع كل ما في الكون لله تعالى، فذلك دليل قاطع على وحدانية الله، لذا أخبر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كلّ شيء وخالقه وربّه، فقال تعالى:
وَقالَ اللَّهُ: لا تَتَّخِذُوا.. أي وقال الله تعالى للناس: لا تتخذوا إلهين اثنين، أي لا تتخذوا لي شريكا، ولا تعبدوا سواي، فمن عبد مع الله غيره فقد أشرك به، إنما هو الله إله واحد، ومعبود واحد، فاتّقوني وخافوا عقابي بالإشراك وعبادة سواي.(14/153)
وإنما ذكر اثْنَيْنِ بعد قوله إِلهَيْنِ لتأكيد التنفير عن التعدد، والدّلالة على أن المنهي عنه هي الاثنينية. وكان ذكر واحِدٌ بعد قوله إِلهٌ للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية، أما الألوهية فلا خلاف ولا نزاع فيها. وجاء بهذه العبارة إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بعد ثبوت الإله ونفي التعدّد للدلالة على أنه لما ثبت وجود الإله وأنه لا بدّ للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصّمد.
والخلاصة مما ذكر: أن لا إله إلا الله وحده، وأن العبادة لا يستحقها سواه.
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ.. أي لما كان الإله واحدا، والواجب لذاته واحدا، كان كل ما سواه حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده، فلله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهو خالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وهم عبيده ومملوكوه، وله الدّين واصبا، أي له الطاعة والانقياد والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار، فالدّين هنا: الطاعة، والواصب: الدائم. وقيل:
الواصب: الواجب اللازم أبدا.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي إنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كلّ ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه، فكيف يعقل الرغبة في غير الله أو رهبة غير الله تعالى؟ وهذا مقول على سبيل التّعجب.
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ.. وإذا كان الواجب ألا يتقى غير الله، فالواجب ألا يشكر غير الله إذ ما من نعمة بكم من إيمان وسلامة جسد وعافية، ورزق ونصر ونحو ذلك إلا وهي من الله عزّ وجلّ ومن فضله وإحسانه.
فدلّت الآية على أن العاقل يجب عليه ألا يخاف وألا يتقي أحدا إلا الله، وألا يشكر أحدا إلا الله تعالى، فجميع النّعم من الله تعالى.(14/154)
وكذلك لا يدفع الضّرّ إلا الله بقوله: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ.. أي إذا تعرّضتم لسوء أو ضرر في أنفسكم من مرض أو خوف أو مشقة، ونحوها من الضرورات، فإليه تلجؤون وتسألون وتدعون، وتلحون في الرّغبة إليه والاستغاثة به لكشف ذلك عنكم، لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو.
وهذا كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] .
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ.. أي ثم إذا كشف الضّرّ عنكم، وأزال المخاوف، ووهبكم النعمة والسلامة والعافية، وفرج البلاء عنكم، إذا أنتم تفترقون فريقين، ففريق منكم يبقى على ما كان عليه من الإيمان، فلا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منكم عند ذلك يتغيرون، فيشركون بالله غيره في العبادة، وهذا مثار عجب من فعل هؤلاء، حيث يقابلون النعمة بالنقمة، والشكر بالشرك بالله تعالى. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذه اللام إما لام التعليل، أي قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم، والمعنى: أنهم أشركوا بالله غيره في كشف الضّر عنهم، وغرضهم من الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى.
وإما لام العاقبة (الصيرورة) أي أن عاقبة تلك التضرّعات ما كانت إلا هذا الكفر، كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] .
ثم توعّدهم وهدّدهم قائلا: فَتَمَتَّعُوا.. أي اعملوا ما شئتم، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدّنيا، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم، وما ينزل بكم من العذاب، وتدركون سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر التهديدي مثل قوله تعالى:(14/155)
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] ، وقوله تعالى: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا [الإسراء 17/ 107] .
ثم أخبر الله تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام بغير علم، وجعلوا للأنداد نصيبا مما رزقهم الله، فقال تعالى:
1- وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ.. أي ويجعل هؤلاء المشركون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها أنها جماد لا يضرّ ولا ينفع، فهم إذن جاهلون بها، يجعلون لها نصيبا مع الله تعالى، مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرها يتقرّبون به إلى الله تعالى، ونصيبا يتقرّبون به إليها، كما قال تعالى عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام 6/ 136] .
ثم توعّدهم الله على أفعالهم مقسما بنفسه الكريمة فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي أقسم لأسألنكم عن ذلك الذي افتريتموه من الباطل، ولأجازينكم عليه أوفر الجزاء في نار جهنم، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] . وهذا سؤال توبيخ وتأنيب وتقريع لهم على إثمهم وجرمهم.
2- وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ.. أي ومن جهل المشركين وإفكهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرّحمن بنات الله، فعبدوها مع الله تعالى، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله، كما قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزّخرف 43/ 19] ، فأخطؤوا خطأ كبيرا، إذ نسبوا إليه تعالى الولد، ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، وإنما يرضون الذّكور، كما قال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ(14/156)
الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى
أي جائرة [النّجم 53/ 21- 22] ، وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات 37/ 151- 154] ، نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى، فكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات.
وهنا قال تعالى: وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين، أي أنهم يختارون لأنفسهم الذّكور، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. وهو كقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور 52/ 39] .
ثم عاب الله تعالى على العرب تبرمهم بالبنات فقال: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى.. أي وإذا بشّر أحد هؤلاء العرب الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى، ظلّ وجهه مسودّا أي كئيبا من الهمّ، وهو كظيم، أي ساكت من شدّة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من القوم، أي يكره أن يراه الناس، من مساءة ما بشّر به، هل يمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وفقر، أم يدفنها في التراب وهي حيّة، وذلك هو الوأد المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير 81/ 8- 9] .
أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إلى الله تعالى، وهو كقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف 43/ 17] .
والتبشير عرفا: مختصّ بالخبر الذي يفيد السّرور، إلا أنه بحسب الأصل في اللغة: عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، وكلّ من السّرور والحزن يوجب تغيّر البشرة.
وذكر ضمير أَيُمْسِكُهُ لأنه عائد على ما.(14/157)
ثم أجمل الله تعالى موقف المشركين حول هذا الأمر، فقال:
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.. أي للذين لا يصدّقون بالحياة الآخرة وما فيها صفة السّوء التي هي كالمثل في القبح، أي لهم صفة النّقص بما ينسب إليهم، وهي الحاجة إلى الأولاد الذّكور، وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق، والإقرار على أنفسهم بالشّح البالغ.
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي وله تعالى الصفة العليا، والكمال المطلق، فهو الواحد المنزّه عن الولد والوالد والشريك، وهو الغني عن العالمين، والمنزّه عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم، أي فله الكمال المطلق من كل وجه.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وهو القوي الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا بما تقتضيه الحكمة السديدة.
وبعد أن حكى الله تعالى عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح قولهم، بيّن أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة، فضلا منه ورحمة وكرما، فقال:
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ.. هذا إخبار عن حلمه تعالى بخلقه، مع ظلمهم، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم فورا، ما ترك على ظهرها من دابة، أي لأهلك جميع دواب الأرض، تبعا لإهلاك بني آدم، ولكنه جلّ جلاله حليم ستّار غفور رحيم، يؤخرهم إلى أجل مسمى، فلا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا.
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.(14/158)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل «1» يهلك في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ الآية: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ.. وهذا مروي أيضا عن أبي الأحوص.
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... أي ولكن بحلمه تعالى يؤخر هؤلاء الظلمة والعصاة، فلا يعاجلهم بالعقوبة، إلى أجل سمّاه الله لعذابهم، فإذا حان وقت هلاكهم، لا يستأخرون عن الهلاك ساعة، ولا يتقدّمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذريّة الصالحة، يرزقها الله العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر» .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي وينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدّنيا وفي الآخرة وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث، فلنا الجنة بما نحن عليه، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله:
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي حقّا أن لهم النار، وأنهم متروكون فيها أو معجل بها إليهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات الأحكام التالية:
__________
(1) الجعل مفرد جعلان: دابة سوداء من دوابّ الأرض.(14/159)
1- النّهي عن تعدّد الآلهة أو الشّرك، والأمر بالوحدانية والتّوحيد لأن الإله الحقّ لا يتعدّد، وأن كل من يتعدّد فليس بإله، والله تعالى واحد في ذاته المقدّسة، فقد قام الدّليل العقلي والشّرعي على وحدانيته تعالى.
2- ترتب على وحدانية الله أنه المستحق للعبادة، فلا يعبد سواه، ولا يخاف غيره.
3- وترتب على الوحدانية أن كلّ ما سوى الله في السموات والأرض فهو مملوك له، لأنه مخلوق منه، متكون موجود به، فلا يكون الدين، أي الطاعة والإخلاص لله دائما، ولا يتقى غير الله تعالى.
4- جميع النعم من الله تعالى، سواء المادية كالرّزق والسّلامة والصّحة، أو المعنوية كالأمان والجاه والمنصب ونحوها.
5- لا يجد الإنسان ملجأ لكشف الضّرّ عنه في وقت الشدائد والكروب إلا الله تعالى، فيضجّ بالدّعاء إليه، لعلمه أنه لا يقدر أحد على إزالة الكرب سواه.
6- التعجيب من حال الإنسان بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار (رفع الصوت والتضرع بالدّعاء إلى الله) فهو يعود إلى الإشراك بعد النجاة من الهلاك. وهذا المعنى مكرر في القرآن الكريم. وقد أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي، وقيل:
لام العاقبة.
7- تهديد هؤلاء الكفار بالتمتع بمتاع الحياة الدّنيا، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم.
8- هناك نوع آخر من جهالات المشركين، وهو أنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه جماد يضرّ وينفع، وهي الأصنام، شيئا من أموالهم يتقرّبون به إليه. فيكون ضمير يَعْلَمُونَ عائدا للمشركين، وقيل: إنه عائد للأوثان، أي ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا.(14/160)
ولكن الله عزّ وجلّ يسألهم سؤال توبيخ عن افترائهم واختلاقهم الكذب على الله أنه أمرهم بهذا.
9- ومن جهالاتهم نسبة البنات إلى الله تعالى، ونسبة البنين لأنفسهم وأنفتهم من البنات.
10- ومن جهالاتهم تغيّر وجوههم حزنا وغمّا بالبنت، واختفاء الواحد منهم وتغيبه عن مواجهة القوم من شدّة الحزن وسوء الخزي والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. وكان بعض العرب يدفنون بناتهم أحياء في التراب، مثل خزاعة وكنانة، قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدّهم في هذا تميم. زعموا خوف الفقر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهنّ.
وقد حرم الإسلام الوأد، وأوجب الإحسان إلى البنات،
روى مسلم في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهنّ، كنّ له سترا من النّار»
ففي الصّبر عليهنّ والإحسان إليهنّ ما يقي من النّار.
وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو»
وضمّ أصابعه.
وروى أبو يعلى الحافظ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له بنت فأدّبها، فأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، كانت له سترا أو حجابا من النّار» .
11- بئس ما حكم به أهل الجاهلية من إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم، وقد استاؤوا من البنات أشدّ الاستياء لأن الواحد منهم يسودّ وجهه بولادة البنت، ويختفي عن القوم من شدّة نفوره من البنت، ويقدم على قتلها.(14/161)
12- لهؤلاء الواصفين لله البنات مثل السّوء، أي صفة السّوء من الجهل والكفر، ولله المثل الأعلى أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد، ووصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جلّ الله تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.
13- من فضل الله ورحمته وكرمه أنه يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة، ليترك الفرصة لهم للإيمان والتوبة. قال ابن مسعود وقرأ هذه الآية:
لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين، لأصاب العذاب جميع الخلق، حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء، والنبات من الأرض، فمات الدّواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة 5/ 15] ، وقال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .
14- إن أجل موت الإنسان ومنتهى عمره لا يتقدّم ولا يتأخّر ساعة واحدة أو لحظة واحدة.
وتعميم الهلاك مع أن في الناس مؤمنين ليسوا بظلمة، بجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوّضا بثواب الآخرة.
جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذابا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نيّاتهم» أو «على أعمالهم» .
15- ينسب المشركون لله البنات، وتقول ألسنتهم الكذب أن لهم الجزاء الحسن، والحق أن لهم النار، وأنهم متركون منسيّون في النّار، أو معجّلون إلى النار، مقدّمون إليها.(14/162)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
عادة الأمم في تكذيب الرسل ومهمة النبي في تبيان القرآن وجعله هدى ورحمة
[سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
الإعراب:
وَهُدىً وَرَحْمَةً منصوبان على المفعول لأجله.
المفردات اللغوية:
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ رسلا. فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ السيئة، فرأوها حسنة، فأصروا على قبائحها، وكفروا بالمرسلين. فَهُوَ وَلِيُّهُمُ متولي أمورهم، وناصرهم ومساعدهم، والضمير يعود إلى الأمم. الْيَوْمَ أي في الدنيا، وقيل: يوم القيامة، على حكاية الحال الآتية، أي لا ولي لهم غيره، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصرهم؟! وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة. الْكِتابَ القرآن. إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ للناس. الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمر الدين كالتوحيد، والقدر، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال. وَهُدىً وَرَحْمَةً معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ.
المناسبة:
بعد أن فنّد الله تعالى فساد عقائد المشركين وأقوالهم، وأمهلهم العذاب، سلّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يناله من أذى قومه، ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، بإخباره بإرسال الرسل إلى الأمم المتقدمة، مقسما على ذلك، ومؤكدا بالقسم، وب «قد» التي تقتضي تحقيق الأمم، فزين لهم الشيطان أعمالهم، من تماديهم على(14/163)
الكفر، فهو وليهم اليوم، حكاية حال ماضية، أي لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو حكاية حال آتية، وهي يوم القيامة، فلا تحزن لتكذيبهم، فلست بدعا من الرسل، وليس قومك منفردين بالعتو والاستكبار.
وناسب ذلك بيان مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبيان أحكام القرآن للمختلفين وهم أهل الملل والأهواء، وتوضيح ما اختلفوا فيه وهو الدين، مثل التوحيد والشرك، والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، وأحكام الدين مثل تحريمهم أشياء حلال كالبحيرة والسائبة، وتحليل أشياء حرام كالميتة.
التفسير والبيان:
هذه الآية تسلية من الله لرسوله عما يناله من الحزن بسبب جهالة قومه وإعراضهم عن رسالته، فقال: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا.. أي والله لقد أرسلنا رسلا إلى الأمم الخالية من قبلك، فكذبت الأمم رسلها، وحسّن لهم الشيطان أعمالهم من الكفر وعبادة الأوثان، فهو وليهم اليوم، أي هم رازحون تحت العذاب والنكال.
ووليهم اليوم، أي ناصرهم في الدنيا، على زعمهم، حكاية للحال القائمة ولكن لهم عذاب مؤلم في الآخرة، فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. وقيل:
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي قرينهم في النار يوم القيامة، حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أي فهو ناصرهم اليوم، لا ناصر لهم غيره، نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه، وأطلق على يوم القيامة اسم الْيَوْمَ لشهرته.
وبئس الناصر المعين الذي لا يملك لهم خلاصا، ولا يستطيع إنقاذا لهم، ولهم في الآخرة عذاب شديد الألم إذ لا تنفعهم ولاية الشيطان.
فلا تحزن يا محمد على تكذيب قومك لك، فلك أسوة بالمرسلين قبلك، ودع(14/164)
المشركين الذين كذبوا الرسل فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه.
ثم أبان الله تعالى أن الهلاك لا يكون إلا بعد بيان الحجة. فقال:
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ.. أي إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات، فيعرفوا الحق من الباطل، والقرآن فاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو هدى للقلوب الحائرة أو الضالة، ورحمة لقوم يصدقون به، ويتمسكون به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن سنة الله في عباده منذ القديم إرسال الرسل بالحجة الواضحة والبيان الشافي، وما محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا كغيره من الرسل.
وشأن الأمم تكذيب المرسلين، لتأثرهم بتزيين الشيطان أعمالهم، وإغوائهم، وصرفهم عن إجابة أنبيائهم.
وهكذا كان موقف كفار مكة، أغواهم الشيطان، كما فعل بكفار الأمم قبلهم.
ولكن سيتلقى هؤلاء الكفار جميعا جزاء أوفى وعذابا أليما في نار جهنم، ولن يكون لهم ولي ولا ناصر ولا معين ينقذهم مما هم فيه.
ودلت الآية الثانية على أن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي تبيان ما جاء في القرآن، وبيان ما اختلف فيه أهل الملل والأهواء من الدين والأحكام، فتقوم الحجة عليهم ببيانه. أما الدين المختلف فيه فهو مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه. وأما الأحكام فهي مثل تحريم أشياء تحل شرعا كالبحيرة والسائبة وغيرهما، وتحليل أشياء تحرم كالميتة.
والقرآن تبيان للناس وهدى أي رشد، ورحمة للمؤمنين به.(14/165)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
من دلائل القدرة الإلهية والتوحيد ومظاهر النعم على الناس
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الإعراب:
مِمَّا فِي بُطُونِهِ الهاء تعود على الْأَنْعامِ، على لغة من ذكّره، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث، كما جاء في سورة المؤمنون: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها [23/ 21] فقد ذكّر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه هنا مفردا، وأما في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع.
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الهاء تعود على موصوف محذوف، وتقديره: ما تتخذون منه. وما:
مبتدأ، وتتخذون جملة فعلية صفة ل «ما» . وحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله تعالى:
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات 37/ 164] أي إلا من له مقام معلوم، وتقديره: إلا ملك له مقام.(14/166)
ذلِكَ حال من السبل.
فِيهِ شِفاءٌ الهاء تعود إلى الشراب، أو إلى القرآن. وشِفاءٌ يرتفع بالظرف على كلا المذهبين، إذا جعل وصفا لشراب، كما ارتفع ألوانه بمختلف لأنه وصف للشراب.
البلاغة:
كُلِي مِنْ كُلِّ فيهما جناس ناقص.
يَسْمَعُونَ يَعْقِلُونَ يَعْرِشُونَ يَتَفَكَّرُونَ فيها سجع.
المفردات اللغوية:
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ أي أحياها بإنبات الزرع والشجر وإخراج الثمر. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآيَةً دالة على البعث. يَسْمَعُونَ سماع تدبر وفهم.
الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم. لَعِبْرَةً اعتبارا وعظة، وأصل العبرة: تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة والمشابهة. نُسْقِيكُمْ بيان للعبرة. مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي الأنعام. مِنْ بَيْنِ من للابتداء متعلقة ب نُسْقِيكُمْ. فَرْثٍ خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء. خالِصاً مصفى من الشوائب، لا يشوبه شيء من الفرث والدم من طعم أو ريح أو لون، وهو بينهما. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في الحلق، لا يغص به. تَتَّخِذُونَ أي ثمر تتخذون منه سَكَراً خمرا يسكر، سميت بالمصدر، وهذا قبل تحريمها وفي أول مراحل التحريم، لأنه وصف الرزق بالحسن، ولم يوصف السكر بذلك. وَرِزْقاً حَسَناً جميع ما يؤكل طازجا أو غير متخمر من هاتين الشجرتين كالعنب والزبيب والتمر والخل والدبس. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً دالة على قدرته تعالى. يَعْقِلُونَ يتدبرون.
وَأَوْحى ألهم وعلم، كالطبيعة والغريزة في الحيوان. أَنِ اتَّخِذِي أن مفسرة أو مصدرية. بُيُوتاً تأوين إليها، أي أوكارا. وَمِنَ الشَّجَرِ بيوتا. وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي مما يبنيه الناس لك من الأماكن، أي يصنعونه من الخلايا من طين أو خشب أو غيرهما.
فَاسْلُكِي ادخلي. سُبُلَ رَبِّكِ طرقه ومسالكه لامتصاص الأزهار والثمار وغيرها وتحويلها بقدرة الله عسلا طيبا. ذُلُلًا جمع ذلول أي مسخرة لك، منقادة طائعة لا تتوعر عليك ولا تلتبس، وهو حال من السبل، أي لا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضل عن العود منها وإن بعدت. شَرابٌ هو العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ من أبيض وأصفر وأحمر وأسود، بحسب نوع المرعى فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ من الأوجاع، إما بعضها بدليل تنكير كلمة شِفاءٌ كالأمراض البلغمية، وإما كلها مع ضميمة غيره إليه، كسائر الأمراض، إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه.(14/167)
وقيل: الضمير يعود للقرآن.
يَتَفَكَّرُونَ يتأملون في صنعه تعالى، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر، علم قطعا أنه لا بد من وجود قادر حكيم يلهمها ذلك، ويحملها عليه.
المناسبة:
بعد بيان وعد المؤمنين بالجنان، والكافرين بالنيران، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما ناله من أذى قومه، ونسبة الشرك إلى الله، وحصر مهمته في بيان أحكام القرآن، عاد تعالى إلى إثبات قدرته ووجوده ووحدانيته بدلائل حسية مشاهدة لكل راء أمامه صباح مساء، من إنبات الزرع والشجر بالمطر، وإخراج اللبن من الأنعام، واتخاذ أصناف المآكل من الأعناب والنخيل، وإخراج العسل من بطون النحل، الذي فيه شفاء للناس.
قال الإمام أبو عبد الله محمد فخر الدين بن عمر الرازي: إن المقصود الأعظم من القرآن العظيم تقرير أصول أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة: الإلهيات، فابتدأ تعالى في أول هذه السورة بذكر دلائل الإلهيات، وهي الأجرام الفلكية، ثم أردف ذلك بالإنسان، ثم الحيوان، ثم النبات، ثم أحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات، فبدأ بذكر الفلكيات، فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... «1» .
التفسير والبيان:
بعد أن جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك أخبر أنه يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء، فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 63(14/168)
أي أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء، الذي يكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت الأرض ميتة لا حياة فيها ولا ثمر ولا نفع.
إن في ذلك لآية واضحة ودليلا قاطعا على وحدانية الله تعالى وعلمه وقدرته لمن يفهمون الكلام ويدركون معناه، بسماع التدبر والإمعان، لا بمجرد سماع الآذان. فهذا دليل حسي على توحيد الإله، وتخصيصه بالعبادة، وإفراده بالألوهية.
وهناك دليل آخر على قدرة الله الباهرة، وهو إخراج اللبن من الضرع، فقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ.. أي وإن لكم أيها الناس لعظة وعبرة دالة على قدرتنا ورحمتنا ولطفنا في الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، فإننا نسقيكم مما يخرج من بطونها من اللبن الخالص من الشوائب، السائغ شربه في الحلق، فلا يغص به أحد، اللذيذ طعمه، السهل هضمه، الذي يخلقه الله لبنا خالصا وسيطا بين الفرث (وهو الزبل الذي ينزل إلى الكرش) والدم المحيطين به، أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته في باطن الحيوان من بين خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء، والدم في العروق، فإذا هضم الغذاء في المعدة صرف من عصارته دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير أو يتأثر به. وذلك دليل القدرة الإلهية والحكمة البالغة.
وذكّر ضمير بُطُونِهِ مراعاة للفظ الْأَنْعامِ فهو لفظ مفرد وضع لإفادة الجمع، كالرهط والقوم والبقر والغنم، فقد يراعى اللفظ فيكون ضميره التذكير، وقد يراعى المعنى فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث.
وهناك دليل آخر وهو ما يتخذ من أشربة من ثمرات النخيل والأعناب وهي(14/169)
بعض منافع النبات المذكورة عقب بيان بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة، فقال سبحانه: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ.. أي ولكم أيضا عبرة وعظة فيما تشربونه من أشربة متنوعة من ثمرات النخيل والأعناب كالخل والدبس والخمر أو النبيذ المسكر قبل تحريمه، وما تأكلونه من ثمار طازجة على طبيعتها. وهذا دليل على إباحة المسكر قبل تحريمه.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.. أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات. وذكر العقل هنا أمر مناسب لأنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرمت المسكرات صيانة للعقول.
والتفاوت في الوصف بين «السكر والرزق الحسن» بوصف الرزق بالحسن في حال أكل الثمرة غير متخمرة دون السكر يؤذن بالتفرقة بينهما وبتقبيح المسكر، ويمهد لتحريم المسكرات، وهي أول آية نزلت تعرّض بالخمر أو المسكر،
وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عند نزول هذه الآية: «إن ربكم ليقدم في تحريم الخمر» .
وهو دليل للجمهور غير أبي حنيفة على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب، ومثله حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما أوضحت السنة.
قال ابن عباس: السّكر: ما حرّم من ثمرتيهما (النخيل والعنب) والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرتيهما، كالخل والرّب (المربّة) والتمر والزبيب ونحو ذلك «1» . وفي رواية عن ابن عباس: السّكر: حرامه، والرزق الحسن: حلاله.
وهذا دليل آخر على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا بعد بيان أدلة إخراج
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 575(14/170)
الألبان من الأنعام، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، وهو إخراج العسل من النحل، فقال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ.
أي وألهم «1» ربك النحل وجعل في غريزتها وطبعها، وقرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها عقلاء البشر، فهي تعيش جماعات في الخلية، ويرأس كل خلية أكبرها جثة وهي الملكة أو اليعسوب، ومعها جماعة الذكور، وجماعة الإناث وهي الشغّالات أو العاملات، وتعيش عيشة تعاونية في أدق نظام، وتقوم بامتصاص رحيق الأزهار، وإفرازه عسلا وشمعا.
وتقوم بما يلي:
1- أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً.. أي ألهمها الله وأرشدها أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها، ومن الشجر، ومن عرائش الناس التي يصنعونها لها في البيوت والكروم، فتبني بيوتا محكمة الإتقان، سداسية الأشكال، من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض، ولا يوجد فيها خلل، تحزن في بعضها العسل، وفي بعضها الآخر الشمع لتربية صغار النحل.
وجعلها سداسية لمنع الفرج الخالية الضائعة فيما بينها. وإذا نفرت نحلة من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها ردوها إلى وكرها على ألحان الموسيقى والطبول. وكل ذلك دليل على مزيد الذكاء والكياسة.
2- ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ثم امتصي من رحيق جميع الثمار
__________
(1) الإلهام: ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، مثل كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.(14/171)
ما تشاءين، حلوة كانت أو مرّة أو بين ذلك. وهذا إذن أمر قدري تسخيري أن تأكل من كلّ الثمرات.
3- فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا أي إذا أكلت من الثمار، فاسلكي الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها في عمل العسل، أو في طلب تلك الثمرات، والعودة بسلام إلى الخلايا.
وهي في أثناء بحثها عن الغذاء تنقل على أجنحتها من حيث لا تشعر لقاحات الأزهار من الذكر إلى الأنثى. وتلك مهام أودعها الله في غرائز النحل، ليست مجرد مصادفة أو طبيعة أو غريزة، وإنما هي جزء من رسالة الكائنات الحية التي تؤدي أدوارا في الكون، يعود نفعها في النهاية على الإنسان، فسبحان الله الخالق المالك القادر القاهر الميسر لكل شيء سببا.
4- يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ.. أي يخرج من بطون النحل عسل مختلف الألوان، أبيض أو أصفر أو أحمر، فيه شفاء ونفع لكثير من أمراض الناس، ويدخل في تركيب العقاقير والأدوية. وقد وصفه الله بهذه الصفات الثلاث:
الأولى- كونه شرابا، إما أن يشرب وحده، أو تتخذ منه الأشربة.
الثانية- كونه مختلف الألوان من أحمر وأبيض وأصفر وغيرها.
الثالثة- كونه سببا للشفاء في الجملة لكثير من الأمراض.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: «اسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا، فما زاده إلا استطلاقا، قال: «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا، ثم(14/172)
جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«صدق الله، وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا» فذهب، فسقاه عسلا، فبرئ.
أوضح بعض الأطباء القدامى هذه الواقعة فقال: كان لدى هذا الرجل فضلات في المعدة، فلما سقاه عسلا، وهو حار، تحللت فأسرعت في الاندفاع والخروج، فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره، مع أنه كان مفيدا لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، ثم سقاه حتى ذهبت الفضلات الفاسدة كلها المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده وإشارته عليه الصلاة والسلام «1» .
وروى البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وأنهى أمّتي عن الكيّ» .
وروى ابن ماجه القزويني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن» .
وذكر الأطباء المحدثون التركيب الكيماوي للعسل وهو 25- 40 غلوكوز، و30- 45 ليفيلوز، و15- 25 ماء. ويعطى مقويا ومغذيا، وضدّ التسمم من المواد السامة كالزرنيخ والزئبق والذهب والمورفين، وضدّ تسمم الأمراض كالتسمم البولي بسبب أمراض الكبد، والاضطرابات المعدية والمعوية، وتسمم الحميات كالتيفوئيد والتهاب الرئة والسحايا والحصبة، والذّبحة الصدرية، وحالات ضعف القلب واحتقان المخ والتهابات الكلى الحادة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ إن في كل ما ذكر عن النحل لدلالة
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 575(14/173)
واضحة على وجود الله وقدرته لقوم يتفكرون في عجيب صنع الله وخلقه ورعايته الحكمة والمصلحة في ترتيب العالم.
فالنحل يختص بتلك العلوم والمعارف الدقيقة كبناء البيوت المسدسة، ويهتدي إلى أجزاء العسل من الأزهار وأطراف الشجر والأوراق، كما أنه يهتدي إلى جمع الأجزاء النافعة في جوّ الهواء الملقاة على أطراف الأشجار والأوراق.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي من بيان كمال القدرة وتعداد النعم الإلهية:
1- أنزل الله من السحاب مطرا يكون سببا لإحياء الأرض بالنبات المختلف الأنواع بعد اليبس والجمود، وفي ذلك دلالة على البعث وعلى وحدانية الله تعالى لأن معبود المشركين كما علموا لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة مفيدة لقوم يسمعون عن الله تعالى سماع تدبر وإصغاء بالقلوب، لا بالآذان.
2- إن في الأنعام وهي أصناف أربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز لدلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته، فهو يسقي الناس من ألبانها، وحدوث اللبن يدل على أمرين: وجود الصانع المختار سبحانه، وإمكان الحشر والنشر، لمرور الطعام بعدة مراحل من التحول والقلب من نبات وعشب، إلى دم، إلى لبن، فدهن وجبن، وذلك يدل على أنه تعالى قادر على قلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك.
ويخرج اللبن ويتولد مع ثلاثة أشياء في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسط، وهذا دليل القدرة العظيمة والصنع الإلهي الدقيق.
واستنبط بعض العلماء من عود الضمير مذكّرا، في قوله: مِمَّا فِي بُطُونِهِ(14/174)
إلى الأنعام أن لبن الفحل يفيد التحريم لأنه جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم، واللبن محسوب للذكر.
3- في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به لأنه مائع طاهر في وعاء نجس لأن ضرع الميتة نجس، واللبن طاهر، فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. وأما لبن المرأة الميتة فهو طاهر لأن الإنسان طاهر حيا وميتا، وقيل: إنه نجس لتنجسه بالموت.
4- وفي هذه الآية أيضا دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، ولكن إذا أخذ من غير سرف ولا إكثار.
5- اللبن غذاء كامل يغذي الطفل مدة من الزمن وينمي الجسد،
روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقي لبنا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن» .
6- ومن منافع النبات ما يدل أيضا على القدرة الإلهية، فقد أخرج الله لنا من ثمرات النخيل والأعناب الرزق الحسن: وهو ما أحله من ثمرتيهما على الطبيعة، والسّكر هو النبيذ، وهذا قبل التحريم النهائي البات له، في رأي الجمهور، فالنبيذ (وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد) حرام عندهم، لإسكاره،
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه العقيلي عن علي، والنسائي عن ابن عباس: «حرّم الله الخمر بعينها والسّكر من غيرها»
والصواب أنه موقوف على ابن عباس.
وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يصل إلى حد السّكر، محتجا بهذه(14/175)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
الآية الدالة على أن السّكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة، ولأن الحديث السابق دلّ على أن الخمر حرام:
«الخمر حرام لعينها»
وهذا يقتضي أن يكون السّكر شيئا غير الخمر، والمغايرة تقتضي أنه النبيذ المطبوخ. والحق أن الآية ليس فيها ما يدل على الحل إذ الكلام في الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الإنسان، ولم تنحصر المنافع في حل التناول.
وختم الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دليل على قدرة الله تعالى لأن من كان عاقلا، علم بالضرورة أو البداهة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، مما يدل على وجود الإله القادر الحكيم.
7- كما أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاطعة على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا حكيما، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع على إثبات هذا المقصود.
وفي النحل منافع كثيرة للأشجار والنباتات نفسها، وللإنسان أيضا، وكذلك في العسل والشمع منافع للإنسان، فالعسل شفاء من كثير من الأمراض، والشمع للإضاءة وصناعات أخرى.
وذلك كله دليل على وجود الإله الصانع الملهم في اعتقاد كل من أعمل فكره، وتأمل ونظر في أعمال النحل وآثاره العجيبة.
بعض عجائب أحوال الناس الدالة على قدرة الله وتوحيده
[سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 74]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)(14/176)
الإعراب:
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً منصوب ب عِلْمٍ على مذهب البصريين على إعمال الثاني لأنه أقرب. وب يَعْلَمَ على مذهب الكوفيين، على إعمال الأول.
فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ جملة اسمية، في موضع نصب لأنها وقعت جوابا للنفي، وقامت هذه الجملة الاسمية مقام جملة فعلية، وتقديره: فما الذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم، فيستووا.
رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً شَيْئاً إما بدل منصوب من رِزْقاً كأنه قال: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئا، وإما منصوب برزق، أي أن يرزق شيئا، والوجه الأول أوجه لأن الرزق اسم، والاسم لا يعمل إلا شاذا، ولأن البدل أبلغ في المعنى.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ الواو عائد إلى ضمير «ما» حملا على المعنى.
البلاغة:
عَلِيمٌ قَدِيرٌ صيغة مبالغة.(14/177)
المفردات اللغوية:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ولم تكونوا شيئا. ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم. أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردؤه وأخسه، بسبب الهرم والخرف، قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة. عَلِيمٌ بتدبير خلقه. قَدِيرٌ على ما يريده.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي فاوت بين أرزاقكم، فمنكم غني وفقير ومالك ومملوك. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا الأغنياء والأسياد بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي بمعطي رزقهم من الأموال وغيرها لمماليكهم، وجاعليها شركة بينهم وبين مماليكهم. فَهُمْ أي المماليك والأسياد (الموالي) فِيهِ سَواءٌ شركاء. والمعنى: ليس لهم شركاء من مماليكهم في أموالهم، فكيف يجعلون بعض مماليك الله شركاء له. يَجْحَدُونَ يكفرون حيث يجعلون له شركاء. وقرئ تجحدون.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي جعلها لكم من جنسكم لتأنسوا بها، ولتكون أولادكم مثلكم. وَحَفَدَةً أي أولاد الأولاد جمع حفيد. مِنَ الطَّيِّباتِ من أنواع الثمار والحبوب والحيوان ونحوها من اللذائذ أو من الحلالات. ومن للتبعيض، فإن المرزوق في الدنيا أنموذج من الطيبات. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي بالأصنام. وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ حيث أضافوا نعمه إلى الأصنام، بإشراكهم، أو حرموا ما أحلّ الله لهم. وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام بها، أو للتخصيص مبالغة، أو للمحافظة على فواصل الآيات بالسجع.
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ بالمطر. وَالْأَرْضِ بالنبات.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون على شيء، وهم الأصنام. فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تجعلوا لله أشباها أو أمثالا تشركونهم به، أو تقيسونهم عليه، فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ألا مثل له، وفساد القياس الذي تقيسونه. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، ولو علمتم لما جرأتم عليه. وهو تعليل للنهي. أو أنه يعلم كنه الأشياء، وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم دون نصه.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عجائب أحوال الحيوانات، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس، فذكر مراتب عمر الإنسان وهي أربعة: سن النشوء والنماء (الطفولة) وسن الشباب، وسن الكهولة، وسن الشيخوخة، وذلك دليل على كمال قدرة الله ووحدانيته.(14/178)
ثم ذكر تفاوت الناس في أرزاقهم، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف 43/ 32] وهي من قسمة الخلاق. ثم ذكر نعمة ثالثة ورابعة وهي جعل الأزواج من جنس الذكور، والرزق من الطيبات من نبات كالثمار والحبوب والأشربة، ومن حيوان مختلف الأنواع.
التفسير والبيان:
تستمر الآيات في تعداد مظاهر قدرة الله وعظمته وألوهيته ونعمه، وهي متعلقة هنا بالإنسان، فيذكر تعالى مراحل نشوء الإنسان، وأنه هو سبحانه الذي أنشأ الناس من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم، وهو الضعف في الخلقة، فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ...
أي والله أوجدكم يا بني آدم، ولم تكونوا شيئا، ثم حدد لأعماركم آجالا معينة، فمنكم من يتوفاه عند انقضاء آجالكم، ومنكم من يهرم ويصير في أرذل العمر وأسوئه وهو حال ضعف القوى والحواس والخرف، أو فقدها، وقلة الحفظ والعلم، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم 30/ 54] وقال سبحانه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس 36/ 68] وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين 95/ 4- 5] .
وروى البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات»
وفي حديث سعد بن أبي وقاص: «وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر» .
وروي عن علي رضي الله عنه: أرذل العمر: خمس وسبعون سنة.
وهذا أمر غير مطرد، وربما كان هذا هو الغالب في الماضي.(14/179)
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً.. أي نرده إلى أرذل العمر، ليصبح غير عالم بشيء، وجاهلا كما كان وقت الطفولة، ونسّاء لضعف ذاكرته.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي إن الله عليم بكل شيء، فيجعل الإنسان في حال من القوة والضعف على وفق الحكمة، وقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء أبدا.
هذا شأن تفاوت الناس في الأعمار، أردفه ببيان تفاوتهم في الأرزاق فقال:
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ.. أي أن الله تعالى جعلكم متفاوتين في الأرزاق، فهناك الغني والفقير والمتوسط لحكمة اقتضتها ظروف المعيشة، والمصلحة للإنسان نفسه، وليتخذ بعضكم بعضا سخريا.
فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا.. أي فما الذين فضّلوا بالرزق وهم السادة الملاك أو الموالي بجاعلي أرزاقهم شركة على قدم المساواة بينهم وبين مماليكهم.
وهذا مثل ضربه الله للعبرة، مفاده أنه إذا كنتم لم ترضوا بهذه المساواة بينكم وبين خدمكم، وهم أمثالكم في الإنسانية، فكيف تسوون بين الخالق والمخلوق، وبينه وبين هذه الأصنام، وتشركون به ما لا يليق به من عبيدي ومخلوقاتي؟
ويوضح المثل آية أخرى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ، تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الروم 30/ 28] .
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ؟ أي أتشركون بالله بعبادتكم الأصنام، فتجحدون بنعمة الله عليكم؟ لأن من أثبت شريكا لله، فقد نسب إليه بعض النعم والخيرات، فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى. أو أتجحدون بنعمة الله عليكم بعد تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه الدلالات على وحدانية الله، والتي يفهمها كل عاقل؟! فهذا إنكار على المشركين جحودهم نعم الله عليهم.(14/180)
ومن جليل نعمه تعالى على عباده أمور أخرى منها: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي والله جعل لكم أيها العبيد المخلوقون لله أزواجا من جنسكم وشكلكم لتحقيق الأنس والانسجام والائتلاف وقضاء المصالح، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، فمن رحمته جعل الذكور والإناث من جنس واحد.
ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة، أي أولاد البنين.
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي ورزقكم من طيبات الرزق التي تستطيبونها في الدنيا، من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب.
أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ؟ أي أيصدقون بالباطل وهو أن الأصنام شركاء لله في النفع والضرر، وأنها تشفع عنده، وأن الطيبات التي أحلها الله لهم كالبحيرة والسائبة والوصيلة هي حرام عليهم، وأن المحرمات التي حرمها الله عليهم كالميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النّصب هي حلال لهم؟
وهذا توبيخ وتأنيب لهم على تلك الأحكام الباطلة، وعلى إنعام الله في تحليل الطيبات، وتحريم الخبيثات.
وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أي ويجحدون بهذه النعم الجليلة، فينسبونها إلى غير الخالق من صنم أو وثن؟! ويسترون نعم الله عليهم.
جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟» .
ثم أخبر الله تعالى عن المشركين الذين عبدوا معه غيره، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا، فقال:(14/181)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله ما لا يستطيع تقديم الأرزاق لهم من السماء والأرض، فلا يقدر على إنزال المطر، ولا إنبات الزرع والشجر، بل ولا يملكون ذلك لأنفسهم، فليس لهم الإمداد بالرزق لأنفسهم ولغيرهم، ولا يقدرون عليه، لو أرادوه.
وفائدة قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ نفي الملك وتحصيل الملك، فمن لا يملك شيئا قد يكون مستطيعا أن يتملكه بطريق ما، فأبان تعالى أن هذه الأصنام لا تملك، وليس في استطاعتها أيضا تحصيل الملك «1» . وجمع يَسْتَطِيعُونَ بالواو والنون المختص بأولي العلم اعتبارا لما يعتقدون فيها أنها آلهة.
ونتيجة ما ذكر: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا، ولا تشبهوه بخلقه، قال ابن عباس- فيما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم في هذه الآية-: أي لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره. وإن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب الشديد، بسبب عبادة هذه الأصنام، فاتركوا عبادتها، وأنتم لا تعلمون ذلك، ولو علمتموه لتركتم عبادتها. وهذا تهديد شديد على عظم جرمهم وكفرهم ومعاصيهم، وردّ على عبدة الأصنام.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
1- إن الله تعالى هو المتصرف في شؤون الإنسان من حياة أو موت، فهو
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 82(14/182)
خلقه وهو يتوفاه في أجل معين، وهو الذي يحميه من الأمراض، أو يرده إلى أرذل العمر حال الكبر يعني أردأه وأوضعه، وهو الخرف ونقص القوة والعقل وسوء الحفظ وقلة العلم، فيصبح كالصبي الذي لا عقل له، ولا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. ودلت الآية أيضا على تفاوت الناس في الأعمار.
وهذا دليل على وجود إله عالم فاعل مختار، وعلى صحة البعث والقيامة لأن الانتقال من العدم إلى الوجود كالعودة إلى الوجود مرة أخرى.
2- لله تعالى الحكمة البالغة في قسمة الأرزاق بين العباد، فجعل منهم الغني والفقير والمتوسط، ليتكامل الكون، ويتعايش الناس، ويخدم بعضهم بعضا، ويحجب عن الإنسان انزلاقه في المعاصي، كما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] فالآية دليل على أن التفاوت في الأرزاق كالتفاوت في الأعمار.
ورتّب الله على هذا التفاوت في الأرزاق نتيجة منطقية تمس الاعتقاد في مثل ضربه الله لعبدة الأصنام وهو: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ فلما لم يجيزوا لأنفسهم أن يشركهم عبيدهم في أموالهم، لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان وغيرها مما عبد، كالملائكة والأنبياء، وهم عبيده وخلقه.
والتفاوت ليس مختصا بالمال، بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والقبيح.
3- من نعم الله على عباده جعل الزوجات من جنس الأزواج وشكلهم، وفي هذا ردّ على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوّج الجن وتباضعها.
ومن نعمه سبحانه إنجاب الذرية من بنين وبنات وحفدة (أولاد البنين) .
ومن نعمه رزق الطيبات من الثمار والحبوب والحيوان وغير ذلك.(14/183)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
والآية تومئ إلى ضرورة التعاون بين الأزواج والبنين والحفدة لأنهم أسرة واحدة. ومن السنة النبوية أن الرجل يعين زوجته
روت عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج.
ومن أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان يخصف النعل، ويقمّ البيت، ويخيط الثوب.
ومن قدر على نفقة خادمة واحدة أو أكثر فعل، على قدر الثروة والمنزلة.
وهذا أمر متروك للعرف، فنساء الريف والأعراب والبادية يخدمن أزواجهن، ونساء المدن يعينهن الزوج، أو يستأجر لهن الخادمة إذا كان من أهل الثروة.
4- من حماقة المشركين وجهالتهم أنهم يعبدون أصناما لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، فلا تملك إمداد غيرها ولا أنفسها بالرزق من إنزال المطر وإنبات النبات، ولا يقدرون أي الأصنام على شيء، فلا تشبهوا بالله هذه الجمادات لأنه واحد قادر لا مثل له.
مثلان للأصنام والأوثان
[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 76]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
الإعراب:
عَبْداً بدل من مَثَلًا. مَمْلُوكاً صفة قيد بها العبد للتمييز من الحر، فإنه أيضا عبد لله.(14/184)
وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً: رزق: فعل يتعدى إلى مفعولين، الأول منهما الهاء في رَزَقْناهُ والثاني: رِزْقاً وهذا ليس مصدرا لأنه قال: فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً والإنفاق إنما يكون من الأعيان لا الأحداث.
هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير في الفعل ولم يقل: يستويان، لمكان مَنْ لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ولأنه للجنسين، فإن المعنى: هل يستوي الأحرار والعبيد؟
رَجُلَيْنِ بدل من مَثَلًا.
البلاغة:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ.. فيها استعارة تمثيلية، مثّل فيها الوثن بالأبكم الذي لا ينتفع به بشيء، كما مثله في الآية المتقدمة بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا.
سِرًّا وَجَهْراً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
مَمْلُوكاً صفة تميزه من الحر، فإنه أيضا عبد لله. لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرف مطلقا لعدم ملكه. وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ نكرة موصوفة أي حرا، لتطابق كلمة عَبْداً.
فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً أي يتصرف به كيف يشاء، والاول: مثل الأصنام، والثاني: مثله تعالى، والمعنى: مثّل ما يشرك به: بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا، ومثّل نفسه: بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فالأول مقيد والثاني حر طليق. هَلْ يَسْتَوُونَ أي الجنسان وهما العبيد والأحرار، أي هل يستوي الأحرار والعبيد؟ لا الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له لا يستحقه غيره، فضلا عن العبادة لأنه مصدر النعم كلها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ أهل مكة. لا يَعْلَمُونَ ما يصيرون إليه من العذاب، فيشركون.
أَبْكَمُ الأبكم: الذي ولد أخرس. لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع أو التدابير لأنه لا يفهم ولا يفهم. كَلٌّ ثقيل على وليه وقرابته. مَوْلاهُ ولي أمره. أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يصرفه. لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح وكفاية مهم، وهذا مثل الكافر أو الأصنام. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ الأبكم المذكور. وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي ومن هو ناطق نافع للناس حيث يأمر به ويحث عليه.
صِراطٍ طريق، وهذا هو المؤمن، أو الله تعالى، أي أن هذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام، لإبطال المشاركة بينه وبينها، أو هو مثل للمؤمن والكافر.(14/185)
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً قال: نزلت في رجل من قريش وعبده، وفي قوله: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قال: نزلت في عثمان ومولى له كان يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما.
وفي عبارة أخرى: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد بن أبي العاص، كان يكره الإسلام، وكان عثمان ينفق عليه، ويكفله، ويكفيه المؤونة، وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف.
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى عن ضرب الأمثال له لأن الله يعلم كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون، علّمهم كيف تضرب الأمثال، فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
ومثلكم أيضا في الإشراك مثل من سوّى بين رجلين: أحدهما أبكم عاجز، لا يقدر على تحصيل خير، وهو عبء ثقيل على سيده، والآخر ذو فهم ومنطق وكفاية وقدرة ورشد ينفع الناس بالحث على العدل.
هل من المعقول التسوية بين الاثنين؟!
أي كيف يسوى الجماد بالله تعالى في الألوهية والعبادة؟! أو كيف يسوى الكافر المخذول والمؤمن الموفق؟! هذان مثلان موضحان بطلان عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تجيب.(14/186)
التفسير والبيان:
بعد أن نهى الله تعالى عن الإشراك، أبان بالأمثال الواقعية فساد عبادة الأصنام، فذكر مثلين:
أولهما- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً.. هذا مثل ضربه الله لحالة الأصنام بالمقارنة مع ذاته تعالى، فما مثلكم أيها المشركون في إشراككم بالله الأوثان والأصنام المعبودة التي لا تنفع ولا تضر، إلا كمثل من سوّى بين عبد مملوك لمالكه، عاجز عن التصرف، لا يقدر على شيء، وبين مالك حر التصرف في ملكه، ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كيف يريد، سرا وجهرا، فالأول- مثل الصنم العاجز، والثاني- مثل الإله القادر. وبما أنه لا يعقل بداهة التسوية بين الشخصين: العبد والحر، ولا يجهل الفرق بينهما إلا كل غبي، فكيف يسوى بين الإله القادر على الرزق والإنفاق، وبين هذه الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟ وكيف يسوى بين الضار والنافع؟
لذا قال تعالى نتيجة لهذه المقارنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي الحمد التام الكامل لله، والثناء الشامل لله، والشكر الجزيل لله المنعم بمختلف النعم، فهو وحده المستحق للحمد، لا تلك الأوثان، بل أكثر أولئك الكفار التي يعبدونها لا يعلمون الحق فيتبعوه، ولا يعرفون المنعم الحقيقي بالنعم الجليلة فيخصوه بالتقديس والتنزيه، والعبادة، والحمد والشكر.
وثانيهما- هو أيضا مثل الحق تعالى، ومثل الوثن. وهذا المثل يؤكد ما دل عليه المثل السابق على نحو أوضح، فقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ ...
أي وضرب الله مثلا لنفسه وللوثن أو الآلهة المعبودة من دونه، مثل رجلين: أحدهما- أبكم لا ينطق ولا يتكلم بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء(14/187)
يتعلق بنفسه أو بغيره، وهو مع هذا كلّ أي عيال وكلفة على مولاه الذي يعوله، حيثما أرسله أو بعثه، لا يحقق مطلبا، ولا ينجح في مسعاه، ولا يأتي بخير قط لأنه لا يفهم ما يقال له، ولا مقال لديه، فلا يفهم عنه.
والثاني- رجل كامل المواهب والحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالعدل أي بالقسط، ويسير على منهج الحق والعدل، ويحكم بالعدل، فمقاله حق، وأفعاله وسيرته مستقيمة، وطريقه مستقيم ودينه قويم.
هل يستوي هذان الرجلان؟ الأول عديم النفع، والثاني كامل النفع، والأول كالصنم لا يسمع ولا ينطق. والثاني وهو المتصف بصفات الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، ويأمرهم بالعدل، ويلتزم العدل في نفسه قضاء وحكما.
وإذا كان هذان الرجلان لا يتساويان بداهة، فلا تساوي أصلا بين الحق تعالى، وبين ما يزعمون أنه شريك له.
فقه الحياة أو الأحكام:
دل هذان المثلان على ضلالة المشركين وبطلان عبادة الأصنام لأن شأن الإله المعبود أن يكون مالكا قادرا على التصرف في الأشياء، وعلى نفع غيره ممن يعبدونه، وعلى الأمر بالخير والعدل، والتزام منهج الاستقامة والقسط في سيرته وسلوكه.
والأصنام في المثل الأول فاقدة الملك، عاجزة عن التصرف هي مثل العبيد المملوكين للسادة الموالي. أما الأحرار الملاك الأغنياء كثير والإنفاق سرا وجهرا، فهم القادرون على التصرف. وبما أن العقل لا يجوّز التسوية بين الحر والعبد في التعظيم والإجلال، مع تساويهما في الخلقة والصورة والبشرية، فكيف يجوز(14/188)
للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟! وهناك قول آخر: وهو أن هذا مثل للمؤمن والكافر، فالمراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، فهو باعتبار حرمانه من عبودية الله وطاعته كالعبد الذليل الفقير العاجز. والمراد بقوله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً هو المؤمن، فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فأبان تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى.
قال الرازي: والقول الأول أقرب لأن الآية في إثبات التوحيد، وفي الرد على المشركين.
وهذا المثل منتظم مع ما ذكر قبله من بيان نعم الله على أولئك المشركين، وعدم توافر تلك النعم من آلهتهم.
وقد احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا.
والأصنام في المثل الثاني لا تقدر على شيء، وأما الله فهو القادر على كل شيء، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، وهل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل، وهو على الصراط المستقيم؟! والآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق، وإلا لم يكن آمرا. ويجب أن يكون قادرا لأن الأمر مشعر بعلو الرتبة، وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادرا.
ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور، فدل وصفه بالعدل على وصفه بكونه قادرا عالما.
أما الرجل الأول فوصفه بأربع صفات: الأبكم (الأخرس العيي) ، ولا يقدر على شيء، وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، وكلّ على مولاه (أي(14/189)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
غليظ وثقيل على سيده) ، وأينما يوجهه، أي يرسله، لا يأت بخير لأنه عاجز لا يحسن التعبير ولا يفهم الكلام، فهل الموصوف بهذه الصفات الأربع يتساوى مع الموصوف بأضدادها، وهو الآمر غير الأبكم، والقادر غير العاجز الذي لا يقدر على شيء وأنه كلّ على مولاه، والعالم غير الذي لا يأتي بخير.
علم الله الغيب وخلقه الإنسان والطير
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 79]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
لإعراب:
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرئ بضم الهمزة على الأصل، وبكسرها على الاتباع لكسرة نون بُطُونِ.
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً إما منصوب على المصدر، أي لا تعلمون علما، أو منصوب لأنه مفعول تَعْلَمُونَ الذي هو بمعنى (تعرفون) للاقتصار على مفعول واحد، والجملة حال.
البلاغة:
كَلَمْحِ الْبَصَرِ تشبيه مرسل مجمل.(14/190)
المفردات اللغوية:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم ما غاب فيهما، وهو يختص بعلم الغيب، لا يعلمه غيره، وهو ما غاب فيهما عن العباد، بأن لم يكن محسوسا ولم يدل عليه محسوس، وقيل: يوم القيامة، فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض. السَّاعَةِ وقت القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما، فيموت الخلق بصيحة واحدة. كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللمح: النظر بسرعة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أو أمرها أقرب منه لأنه بلفظ كُنْ فَيَكُونُ. والمعنى: ما أمر قيام القيامة في سرعته وسهولته إلا كلمح البصر السَّمْعَ أي الأسماع. وَالْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد وهي القلوب. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور، فتشكروا وتؤمنوا.
مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران. فِي جَوِّ السَّماءِ الفضاء بين السماء والأرض.
ما يُمْسِكُهُنَّ عند قبض أجنحتهن أو بسطها أن يقعن. إِلَّا اللَّهُ بقدرته. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي إن في تسخير الطير للطيران وتمكنها منه، وإمساكها في الهواء وخلق الجو لدلالات على الإله الواحد الخالق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بها.
المناسبة:
بعد أن مثّل تعالى الأصنام أو الكفار بالأبكم العاجز، ومثّل نفسه بالآمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة، أردف ذلك ببيان كمال علمه وقدرته. أما كمال العلم فهو قوله تعالى:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وأما كمال القدرة فهو قوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ. ومن مظاهر كمال قدرته وحكمته: خلق الإنسان في أطواره المختلفة، وتمكين الطير من الطيران في الجو، وهذا وما يأتي بعده من دلائل التوحيد.
التفسير والبيان:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم الله وحده غيب السموات والأرض، والتعبير يفيد الحصر، معناه: أن العلم بالمغيبات ليس إلا لله، وهو(14/191)
مختص بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك. إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء. وهذا إخبار عن كمال علم الله تعالى. ثم أخبر عن كمال قدرته وأنه إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، فقال: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي وما شأن الساعة (وهي الوقت الذي تقوم فيه القيامة) في سرعة المجيء إلا كطرف العين أو رجع البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع لأن أمره فوري الحدوث والتنفيذ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة 2/ 117 ومواضع أخرى] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] . فالله تعالى قادر على إقامة القيامة في أسرع لحظة، ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر، ذكره تقريبا للأذهان.
ونظير الآية: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [54/ 50] أي فيكون ما يريد كطرف العين.
وخص قيام الساعة من بين المغيبات، لكثرة الجدل حوله، وإنكاره من كثير من الناس، فهي محط الأنظار، ومحل البحث والجدل بين المنكرين والموحّدين.
والمقصود من الآية: أن شرع التحليل والتحريم إنما يحسن بمن يحيط بالعواقب والمصالح، وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بذلك، فلم تتحكمون؟! ثم ذكر تعالى دليل ذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن الله قادر على كل شيء، ومن مشتملات قدرته: إقامة الساعة في أسرع من لمح البصر أو غمضة العين.
ثم ذكر بعض مظاهر قدرته تعالى ومنته على عباده، فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.. أي والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، فالإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، ثم زوده الله(14/192)
بالمعارف والعلوم، فرزقه عقلا يفهم به الأشياء، ويميز به بين الخير والشر، وبين النفع والضرر، وهيأ له مفاتيح المعرفة من السمع الذي يسمع به الأصوات ويدركها، والبصر الذي يبصر به الأشخاص والأشياء والفؤاد الذي يعي به الأمور، كقوله تعالى في آية أخرى: قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. قُلْ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك 67/ 23- 24] .
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا نعم الله عليكم، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله، ولتتمكنوا من عبادة ربكم، وتطيعوه فيما أمركم.
وذلك كما
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من عادى لي وليا، فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها «1» ، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن دعاني لأجيبنّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه» .
أي إن العبد إذا أخلص الطاعة لله، صارت أفعاله كلها لله عز وجل، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله، أي لما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل، مستعينا بالله في ذلك كله «2» .
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته فقال: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ..
__________
(1) هذا من قبيل المجاز عن عون الله وتوفيقه ورضاه.
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 579(14/193)
أي ألم ينظروا إلى الطير المذلل المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحيه في جو السماء، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عز وجل، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة يمكنه معها الطيران، وخلق الهواء أو الجو خلقة يمكن معها الطيران فيه، لما أمكن ذلك، فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة، كما يفعل السباح في الماء، وأوجد له الذيل ليساعده في الهبوط، وخلق الهواء، وجعل ثقله حاملا الطير، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا.
وقوله: ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ معناه أن جسم الطائر ثقيل، والجسم الثقيل لا يمكنه التحليق في الجو من غير دعامة تحته، فكان الممسك له في الجو هو الله تعالى، بواسطة الهواء.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي إن في خلق جناحي الطير، وتسخير الهواء لحملة، لدلالات على قدرة الله ووحدانيته، لا للأصنام والأوثان، لمن يؤمن بالله. وخص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بتلك الآيات، وإن كانت دلائل لكل العقلاء.
ونظير الآية: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ، وَيَقْبِضْنَ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك 67/ 19] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن علم الغيب في السموات والأرض مختص بالله تعالى، لا يعلم به أحد، إلا من أطلعه الله عليه. وإذا كان الله هو المحيط بالغيب فهو الذي يشرع الحلال والحرام، لا المشركون الجاهلون، الذين لا يدركون عواقب الأمور، ولا يقدرون المصالح.(14/194)
2- إن قيام الساعة (أي حدوث وقت القيامة) في أسرع من لمح البصر دليل واضح على قدرة الله التامة، فهو سبحانه القدير على كل شيء، وهو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ. قال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ.
3- إن من نعمه تعالى ومن مظاهر قدرته خلق الناس من بطون أمهاتهم، لا علم لهم بشيء، ثم تزويدهم بوسائل المعرفة والعلم، وهي السمع والأبصار والأفئدة، فبها يعلمون ويدركون. فالسمع لسماع الأوامر والنواهي، والأبصار لرؤية آثار صنع الله، والأفئدة للوصول بها إلى معرفة الله. وذلك كله لشكر نعم الله وإبصار آثار صنعته. والآية دليل على أن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، ثم تأتي المعارف والعلوم بالتعلم بواسطة الحواس التي هي السمع والبصر.
4- ومن مظاهر قدرة الله ووحدانيته جعل الطير قادرة على التحليق والطيران في الجو (وهو ما بين السماء والأرض) وهي مذللة لأمر الله تعالى، وما يمسكها في حال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله تعالى، وتلك علامات وعبر ودلالات على القدرة الإلهية، لقوم يؤمنون بالله وبما جاءت به رسله، فإنه لولا خلق الطير على وضع يمكنه الطيران، وخلق الجو على حالة يمكن الطيران فيه، لما أمكن ذلك.(14/195)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
بعض دلائل التوحيد وأنواع النعم والفضل الإلهي
[سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
البلاغة:
ظَعْنِكُمْ إِقامَتِكُمْ يَعْرِفُونَ يُنْكِرُونَها بين كل اثنين طباق.
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ فيه إيجاز بالحذف، أي والبرد، حذف الثاني استغناء بالأول.
المفردات اللغوية:
سَكَناً أي مسكنا تسكنون فيه. بُيُوتاً كالخيام. تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفيفة للحمل والنقل. ظَعْنِكُمْ سفركم، والظعن بسكون العين أو فتحها: سير أهل البادية لطلب الماء والمرعى. وَمِنْ أَصْوافِها الغنم. وَأَوْبارِها الإبل. وَأَشْعارِها المعز. أَثاثاً متاع البيوت، كالفرش والثياب وغيرها. وليس للأثاث واحد من لفظه وَمَتاعاً ما يتمتع وينتفع به، وهو ما يتّجر به. إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من البيوت والشجر والغمام. ظِلالًا جمع ظل: وهو ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها، للوقاية من حر الشمس. أَكْناناً جمع كنّ:
وهو ما يستكن فيه وهو الغار في الجبل والسرب أو النفق. سَرابِيلَ جمع سربال: وهو القميص(14/196)
من القطن والكتّان والصوف وغيرها، وسرابيل الحرب: الدروع، والسربال يعم كل ما يلبس تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي والبرد. بَأْسَكُمْ المراد هنا حربكم، أي تقيكم الطعن والضرب وهي الدروع.
والبأس في الأصل: الشدة. كَذلِكَ كإتمام هذه النعم التي تقدمت. يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدنيا، بخلق ما تحتاجون إليه. لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم. تُسْلِمُونَ توحدون الله، أي لعلكم تنظرون في نعم الله، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه.
سبب النزول: نزول الآية (83) :
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقرأ عليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ قال: نعم: ثم قرأ عليه كل ذلك، وهو يقول: نعم، حتى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي، فأنزل الله:
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ.
المناسبة:
هذه باقة أخرى من فضائل الله ونعمه على بني آدم، ومن دلائل التوحيد، فبعد أن ذكر الله تعالى ما منّ به على الناس من خلقهم وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم، من أمور أخرى غير دوابهم، من بيوت السكن المبنية من الحجارة وغيرها، والخيام أو بيوت الشعر المصنوعة من جلود الأنعام، والأصواف والأوبار والأشعار التي تصنع منها الملابس والأثاث (المفروشات) والأمتعة التي يتجر بها ويعاش من أرباحها، والحصون والقلاع والمعاقل في الجبال، والثياب الواقية من الحر والبرد، والدروع والجواشن «1» الحامية من السلاح في الحرب.
__________
(1) الجواشن: جمع جوشن وهو الدرع. [.....](14/197)
التفسير والبيان:
هذا امتنان آخر بما أنعم الله على عبيده بالإيواء في المساكن فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ.. أي والله جعل لكم بيوتا هي سكن لكم، تأوون إليها، وتسترون بها، وتنتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ.. أي وجعل لكم أيضا من جلود الأنعام المعروفة بيوتا أي من الأدم، في السفر والحضر، تستخفون حملها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم، وهي الخيام والقباب، يخف حملها عليكم في الأسفار.
وجعل من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز ما تتخذونه أثاثا لبيوتكم، تكتسون به، وتنتفعون به في الغطاء والفراش، وجعل لكم منها متاعا تتمتعون به من جملة الأموال والتجارات، إلى أجل مسمى وزمن معين في علم الله، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتّخذ مالا وتجارة، وهذا كله بحسب عرف العرب في الماضي، وإن تغير الحال اليوم. فالأثاث: متاع البيت من الفرش والأكسية.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي ومن نعمه تعالى أن جعل لكم من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس، وشدة عصف الرياح.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها، تأمنون فيها من العدو أو حر الشمس أو البرد.
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ.. أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتّان والصوف ونحوها، تقيكم شدة الحر، أي والبرد، لكن ذكر الحر لحاجة العرب في بلادهم الحارة إلى اتقاء الحر، وما يقي الحر يقي البرد.(14/198)
وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي وجعل لكم دروعا من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك، تقيكم البأس والشدة في الحرب والطعن والضرب ورمي النبال، واليوم تقي شظايا القنابل.
كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.. أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وحوائجكم، ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته، أو مثل ذلك الإتمام بهذه النعم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ونعمة الدنيا والآخرة.
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يا أهل مكة، أي لتدخلوا في حظيرة الإسلام، وتؤمنوا بالله وحده، وتتركوا الشرك وعبادة الأوثان، فتدخلوا جنة ربكم، وتأمنوا عذابه وعقابه.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما.. أي فإن أعرضوا بعد هذا البيان، وتعداد النعم، فليس عليك شيء، إنما عليك فقط البلاغ لرسالتك، الموضح لمهمتك، المفسر لأصول الاعتقاد ومقاصد الدين، وأسرار التشريع، وقد أديت ذلك، أي إن أعرضوا فلست بقادر على إيجاد الإيمان في نفوسهم، إن عليك إلا البلاغ فحسب.
وسبب هذا الإعراض هو ما قاله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ.. أي يعرفون أن الله تعالى هو المنعم عليهم بهذه النعم، المتفضل بها عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم، ويعبدون معه غيره، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره، إذ يقولون:
إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام، فلم يخصوه تعالى بالشكر والعبادة، بل شكروا غير الله تعالى.
وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي وأكثرهم الجاحدون المعاندون، وأقلهم المؤمنون الصادقون. وإنما قال أَكْثَرُهُمُ لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا، بل جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله.(14/199)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على طائفة من النعم التي أنعم الله بها على الناس وهي ما يأتي:
1- الآية الأولى فيها تعداد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر بيوت المدن أولا، وهي للإقامة الطويلة، ثم ذكر بيوت البدو والأعراب والرعاة، وهي بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف.
2- وفي الآية الأولى أيضا أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، وفي آية أخرى أذن في الأعظم من ذلك وهو ذبحها وأكل لحومها.
ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدّد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا بما عرفوا وألفوا.
والآية بعمومها دلت على جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، حتى إن المالكية والحنفية قالوا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ. ويؤيدهم
حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ، وصوفها وشعرها إذا غسل» .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» .
وزاد أبو حنيفة فقال: القرن والسّن والعظم مثل الشعر لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها، فلا تنجس بموت الحيوان. وقال باقي الأئمة: إن ذلك نجس كاللحم.
وأجاز الزهري والليث بن سعد الانتفاع بجلود ميتة الأنعام، وإن لم تدبغ لأن قوله تعالى: مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ عام في جلد الحي والميت. وخالفهما جمهور العلماء في ذلك.(14/200)
والظاهر من مذهب مالك: أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلّى عليه، ولا يؤكل فيه. وأكثر المدنيين وأكثر أهل الحجاز والعراق على إباحة ذلك وإجازته،
للحديث المتقدم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» .
وذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء، وإن دبغت لأنها كلحم الميتة، واحتج
بحديث عبد الله بن عكيم عند أبي داود: «ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» .
وخالفه بقية الأئمة
لحديث شاة ميمونة:
الذي رواه عنها أبو داود والنسائي «لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال:
يطهرها الماء والقرظ» .
والمشهور عند المالكية أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث، ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي والأوزاعي وأبي ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. أما جلد الكلب وما لا يؤكل لحمه فغير معهود الانتفاع به، فلا يطهر.
3- دلت الآية الثانية على نعمة الظل والظلال: وهو كل ما يستظل به من البيوت والشجر، وعلى نعمة الأكنان جمع كنّ: وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهي المغاور والكهوف في الجبال، يأوي إليها الناس في البراري، ويتحصنون بها من الأمطار والسيول والأعاصير وغير ذلك.
ودلت أيضا على نعمة السرابيل أي القمص، والدروع التي تقي الناس في الحرب.
وفي قوله تعالى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ دليل على اتخاذ العباد عدّة الجهاد، ليستعينوا بها على قتال الأعداء.
ودل آخر الآية: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ على إكمال نعم الله وأفضاله بإتمام نعمة الدين والدنيا والآخرة.(14/201)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وكل هاتيك النعم لتكون سببا للانقياد والطاعة لله عزّ وجلّ، شكرا على نعمه.
4- تشير الآية الثالثة إلى أن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي التبليغ، وأما الهداية فإلى الله، فإن أعرض الناس عن النظر والاستدلال والإيمان، فعليهم تبعة إعراضهم.
5- الآية الرابعة صريحة في أن الكفار يعرفون أن النعم من عند الله، ولكنهم ينكرونها بقولهم: إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، أو بواسطة شفاعة الأصنام. ويعرفون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم يكذبونه، ويعرفون نعم الله بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم، ولا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى.
وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة بعث الشاهد عليهم وعلى المؤمنين وعدم تخفيف العذاب ومضاعفته عليهم وتكذيب المعبودات لهم
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)(14/202)
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ واذكر مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جيل من الناس شَهِيداً عَلَيْهِمْ هو نبيهم يشهد لها وعليها بالإيمان والكفر يوم القيامة ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار إذ لا عذر لهم، أي إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا الْعَذابَ النار فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون ويؤخرون إذا رأوه.
شُرَكاءَهُمْ من الشياطين وغيرها الذين شاركوهم في الكفر بالحث عليه، أو أوثانهم التي دعوها نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ نعبدهم أو نطيعهم، وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك، أو التماس بأن يشطر عذابهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي قالوا لهم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي أجابوهم بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم، كقوله تعالى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم 19/ 82] ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام به.
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلموا لحكمه، بعد الاستكبار في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب وضاع عنهم وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم ينصرونهم ويشفعون لهم، حين كذبوهم وتبرؤوا منهم.
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ومنعوا الناس عن دين الله وهو الإسلام، والحمل على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً لصدهم فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم يُفْسِدُونَ بصدهم الناس عن الإيمان.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ واذكر شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ هو نبيهم، فإن نبي كل أمة بعث منهم وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ قومك أو أمتك الْكِتابَ القرآن تِبْياناً بيانا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الناس من أمر الشريعة وَهُدىً من الضلالة وَبُشْرى بالجنة لِلْمُسْلِمِينَ خاصة، وهم الموحدون الخاضعون لله.(14/203)
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى حال المشركين الذين عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأبان أن أكثرهم الكافرون، أتبعه بالوعيد، فذكر حالهم يوم القيامة وبعض مشاهدهم من شهادة نبيهم لهم أو عليهم، وعدم تخفيف العذاب عنهم ومضاعفته عليهم، وتكذيب المعبودات لهم أنهم شركاء لله، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم.
ثم ذكر تعالى نوعا آخر من التهديدات المانعة من المعاصي: وهو إحضار شاهد على كل أمة، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شاهد على أمته، وأن من مزاياه بيان أحكام القرآن الذي هو هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين بالجنان.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن شأن المشركين وأحوالهم يوم القيامة، فيقول: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً.
أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليهم، وهو نبيهم يشهد عليهم بما أجابوه عما بلّغهم عن الله تعالى، إما بالإيمان وإما بالكفر والعصيان، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] .
ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثم لا يسمح للكفار بالاعتذار والدفاع عن أنفسهم، إذ لا حجة لهم، ولأنهم يعلمون كذبهم في الاعتذار، كقوله تعالى:
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات 77/ 35] .
وإيراد ثُمَّ يدل على أن منعهم من الكلام والاعتذار أشد عليهم من شهادة نبيهم عليهم.(14/204)
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم العتاب إذ لا فائدة في العتاب مع سخط الله وغضبه، فإن الرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان جازما أنه إذا عاتبه، رجع إلى صالح العمل، والآخرة دار جزاء لا دار تكليف وعمل، ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.. أي وإذا عاين الذين أشركوا وجحدوا نبوة الأنبياء العذاب، فلا ينجو منهم أحد، ولا يخفف عنهم من شدته ساعة واحدة، ولا يمهل عقابهم ولا يؤخر عنهم، بل يؤخذون بسرعة من الموقف بلا حساب لأنه فات وقت التوبة والإنابة، وحان وقت الجزاء على الأعمال.
ونظير الآية قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «1» ، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان 25/ 12- 14] وقوله سبحانه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 53] .
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهة المشركين منهم في وقت أحوج ما يكونون إليها، وهذا من بقية وعيد المشركين، فقال: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ ...
أي إذا شاهد المشركون بالله يوم القيامة شركاءهم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله في الدنيا، ألقوا تبعة شركهم عليها، وقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنا نعبدهم وندعوهم من دونك، قاصدين بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء، وهو شأن المتخبط في عمله، كالغريق الذي يتمسك بما تقع يده عليه.
فرد الشركاء قائلين: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ.. أي قالت لهم الآلهة:
__________
(1) الثبور: الهلاك.(14/205)
كذبتم، ما نحن أمرناكم بعبادتنا، كقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقوله:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] .
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلم العابد والمعبود، وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد، وذلوا واستسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة 32/ 12] . وقال: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم 19/ 38] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ. وقال: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه 20/ 111] أي خضعت وذلت واستسلمت.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وذهب عنهم افتراؤهم بنسبة الشركاء لله، وأنها نصراء وشفعاء لهم، كما حكى تعالى عنهم: وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] وذلك حين كذبوهم وتبرؤوا منهم.
وبعد ذكر وعيد الذين كفروا الضالين، أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد غيره عن سبيل الله، من الضالين المضلين، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا..
أي الذين جحدوا النبوة وأشركوا بالله وكفروا بأنفسهم وحملوا غيرهم على الكفر، وصدوا عن سبيل الله، وهو الإيمان بالله ورسوله، يضاعف الله عقابهم، كما ضاعفوا كفرهم، فهم في الحقيقة ازدادوا كفرا على كفر، فاستحقوا عذابين:
عذاب الكفر، وعذاب الإضلال والإفساد، والصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق والإسلام، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام 6/ 26] أي ينهون الناس عن اتباع محمد، ويبتعدون هم منه أيضا.(14/206)
بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي هذه الزيادة من العذاب بسبب الإفساد والصد.
وهذا دليل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال، فقد عظم عذابه، فكذلك إذا دعا إلى الدين الحق واليقين، فقد عظم قدره عند الله تعالى.
والآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى: قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] .
ثم خصص الله تعالى بالذكر شهادة محمد صلّى الله عليه وسلّم على أمته، وهو نوع آخر من التهديد المانع من المعاصي، فقال مخاطبا رسوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ..
أي واذكر أيها الرسول يوم نبعث في كل أمة (أي قرن وجماعة) نبيها يشهد عليها، قطعا للحجة والمعذرة، وجئنا بك شاهدا على هؤلاء أي أمتك، بما أجابوك به عن رسالتك، فيظهر لك الشرف الرفيع والمقام العظيم.
وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41]
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك»
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفتّ، فإذا عيناه تذرفان.
ثم أبان الله تعالى بمناسبة بيان شهادة النبي على أمته أنه أزاح علتهم فيما كلفوا، فلم يبق لهم حجة ولا معذرة، فقال:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً.. أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانا لكل شيء من العلوم والمعارف الدينية، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم، وهدى للضالين، ورحمة لمن صدّق به، وبشرى لمن أسلم لله وجهه، فأطاعه وأناب إليه، بجنان الخلد والثواب العظيم.(14/207)
وبيان القرآن لأحكام التشريع حلاله وحرامه إما بالوحي نصا ومعنى مباشرة، وإما بالوحي معنى وهو السنة التي فيها بيان آخر لمجمل القرآن، كما قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 15/ 44]
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معديكرب: «إني أوتيت القرآن ومثله معه»
ثم يأتي دور الاجتهاد في نطاق النصوص الشرعية، وفي ضوء مبادئ التشريع، وروح الشريعة العامة، وضمن مقاصدها وأهدافها العامة. والاجتهاد يشمل كل مصادر التشريع الأخرى غير النصية من إجماع وقياس واستصلاح واستحسان وعرف وسد ذريعة واستصحاب وغير ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- كل نبي شاهد على أمته بما أجابوه عن دعوته، وليس في الآخرة مجال للاعتذار عن التقصير والدفاع عن النفس، ولا يكلف الكفار أن يرضوا ربهم يوم القيامة لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون فيرجعوا إلى الدنيا فيتوبوا.
2- لا تخفيف لعذاب جهنم عن المشركين الظالمين، فيدخلون فيها، ولا يؤخرون ولا يمهلون، وإنما يؤخذون بسرعة من الموقف بلا نقاش في الحساب، إذ لا توبة لهم حينئذ.
3- تتبرأ الآلهة المزعومة من عبادة عابديها، وتكذبهم بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فينطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار.
ويستسلم العابد والمعبود لحكم الله فيهم، ويبعث الله المعبودين من أصنام وأوثان وغيرها، فيتّبعهم العابدون حتى يوردوهم النار.
ورد في صحيح مسلم من حديث أنس: «من كان يعبد شيئا فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس(14/208)
الشمس، ويتّبع من كان يعبد القمر القمر، ويتّبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت»
ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه: «فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتّبعون ما كانوا يعبدون» .
4- للكفار الذين يصدون عن سبيل الله وهو سبيل الحق والإسلام عذاب مضاعف بسبب إفسادهم في الدنيا بالكفر والمعصية. ونوع زيادة العذاب موضح في الحديث التالي،
روى الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل النار إذا جزعوا من حرّها، استغاثوا بضحضاح في النار، فإذا أتوه، تلقّاهم عقارب كأنهم البغال الدّهم، وأفاع كأنهن البخاتيّ «1» تضربهم، فذلك الزيادة» .
5- الأنبياء- كما ذكرنا- شهود على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوهم الرسالة، ودعوهم إلى الإيمان، وفي كل زمان شهيد، وإن لم يكن نبيا، وهم أئمة الهدى خلفاء الأنبياء والعلماء حفظة شرائع الأنبياء.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم شاهد على أمته والأمم الأخرى، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] وقال: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج 22/ 78] .
قال القرطبي: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحّد الله، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي
قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يبعث أمة وحده»
وسطيح «2» ، وورقة بن نوفل الذي
قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأيته ينغمس
__________
(1) البخاتي: جمال ضخام طوال الأعناق.
(2) سطيح: هو كاهن بني ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه ربيع بن ربيعة.(14/209)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
في أنهار الجنة» .
فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم، وشهيد عليهم «1» .
6- القرآن الكريم تبيان لكل شيء من أصول التشريع والحلال والحرام، والشرائع والأحكام، ومبادئ الحياة الإنسانية، قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] .
وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن، أي إما جملة وتفصيلا، وإما جملة فقط. أما الأدلة الأخرى كالإجماع وخبر الواحد والقياس، فقد دل القرآن الكريم ذاته على حجيتها، كما هو معروف في علم أصول الفقه. وكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء، كما قال الزمخشري.
أجمع آية في القرآن للخير والشر والوفاء بالعهد والهداية والإضلال
[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 96]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 164(14/210)
الإعراب:
تَوْكِيدِها مضاف إليه، وهو مصدر وكّد، ويقال: أكّد في وكّد، والواو هي الأصل، والهمزة بدل منها كما كانت في «أحد» وأصلها «وحد» .
أَنْكاثاً منصوب على المصدر، وعامله نَقَضَتْ لأنه بمعنى: نكثت نكثا، أو حال.
تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ حال من ضمير تَكُونُوا.
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ في موضع نصب على تقدير: كراهة أن تكون أمة، أو لئلا تكون أمة.
وتَكُونَ تامة، وأُمَّةٌ فاعلها. وهِيَ أَرْبى.. مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع، صفة أُمَّةٌ. وهاء بِهِ تعود على العهد، وقيل: التكاثر.
البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. مقابلة حيث جمع بين الأمر بثلاثة، ونهى عن ثلاثة. وإيتاء ذي القربى خاص بعد عام للاهتمام به. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها تشبيه تمثيلي، شبّه تعالى من يعاهد ثم ينقض عهده بالمرأة التي تغزل غزلا ثم تنقضه.(14/211)
فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فيه استعارة القدم للرسوخ في الدين والتمكن فيه، لكون الثبات يكون عادة بالقدم، ثم شبه الانحراف عن الحق بزلل القدم، وهو تشبيه المعنوي بالانزلاق الحسي بطريق الاستعارة.
يُضِلُّ وَيَهْدِي بينهما طباق، وكذا بين يَنْفَدُ وباقٍ.
المفردات اللغوية:
بِالْعَدْلِ قال ابن عطية: العدل: فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق. والإحسان: فعل كل مندوب إليه «1» .
وذكر البيضاوي أن العدل: التوسط في الأمور اعتقادا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملا كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب، وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير. والإحسان: إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن عمر: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .
والخلاصة: إن العدل: الإنصاف، والإحسان: إتقان الأعمال والتطوع بالزائد عن الفرائض، ومقابلة الخير بأفضل منه، والشر بأقل منه.
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إعطاء القرابة حقهم من الصلة والبر، وخص ذلك بالذكر اهتماما به والْفَحْشاءِ كل قبيح قولا أو فعلا، ويشمل الزنى والسرقة وشرب المسكرات والطمع ونحو ذلك من المذموم وَالْمُنْكَرِ ما أنكره الشرع واستقبحه العقل السليم، كالكفر والمعاصي من الضرب الشديد والقتل وغمط حقوق الناس، ونحو ذلك وَالْبَغْيِ ظلم الناس، والاستعلاء عليهم وتجاوز الحد، وخصه بالذكر اهتماما، كما بدأ بالفحشاء اهتماما بها لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون.
جاء في المستدرك عن ابن مسعود: وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر. وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين.
بِعَهْدِ اللَّهِ العهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد والبيع والأيمان وغيرها وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ نقض اليمين: الحنث فيها، والأيمان هنا: مطلق الأيمان أو أيمان
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 529(14/212)
العهد تَوْكِيدِها توثيقها كَفِيلًا شاهدا ورقيبا بالوفاء، حيث حلفتم به، والجملة حال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ في نقض الأيمان أو العهود، وهو تهديد لهم.
نَقَضَتْ أفسدت أو فكت غزلها من بعد إبرام وإحكام غَزْلَها ما غزلته من صوف ونحوه، وهو مصدر بمعنى المفعول مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت، أي من بعد إحكام له وإبرام أَنْكاثاً جمع نكث: وهو ما ينكث بمعنى منكوث وهو المنقوص، أي يحل فتله وينقض بعد غزله. وهي امرأة حمقاء من مكة، كانت تغزل طول يومها، ثم تنقضه. تَتَّخِذُونَ أي لا تكونوا مثلها في اتخاذكم أيمانكم مكرا وخديعة دَخَلًا أي فسادا ومكرا وخديعة، وأصل الدّخل: ما يدخل في الشيء، وليس منه، والمراد أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض.
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أي لأن تكون جماعة هِيَ أَرْبى أكثر وأوفر عددا. والمناسبة: أنهم كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز، نقضوا حلف أولئك، وحالفوهم.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يختبركم الله بما أمر به من الوفاء بالعهد، لينظر المطيع منكم والعاصي، أو يختبركم بكون أمة أربى، لينظر: أتفون بالعهود أم لا؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا من أمر العهد وغيره، بأن يعذب الناكث ويثيب الوافي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة أُمَّةً واحِدَةً أهل دين واحد، متفقين على الإسلام وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي أنه تعالى جعل ناسا للشقاوة أو الضلال وهم من لم يأخذوا بأسباب الهدى، وكان في سابق علم الله أنهم لو تركوا وأنفسهم لما فعلوا إلا الضلال والفساد والبهتان، وجعل ناسا آخرين للسعادة وهم من اهتدوا بآيات الله، وعلى هذا النحو خلق الضلال والهدى، أما الإضلال فبالخذلان لمن اختار الكفر، عدلا، وأما الهداية فبالتوفيق لاختيار الإيمان والدوام عليه، فضلا.
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا سؤال توبيخ وتبكيت يوم القيامة، لا سؤال تفهم، فهذا منفي في آيات أخرى، مثل: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] .
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ كرره تأكيدا، وهو تصريح بالنهي عنه بعد التضمين، تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ أي أقدامكم عن محجة الإسلام، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟! بَعْدَ ثُبُوتِها استقامتها عليه السُّوءَ العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بصدودكم عن الوفاء بالعهد، أو بصدكم غيركم عنه لأنه يستن بكم وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا يسيرا من الدنيا، بأن تنقضوه لأجله. والمناسبة: أن قريشا كانوا يعدون بوسائل الإغراء ضعاف المسلمين(14/213)
ويشترطون لهم على الارتداد أن يكافئوهم إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي إن ما عند الله من النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب في الآخرة هو خير لكم مما يعدونكم من عطاء في الدنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم والتمييز، وتعلمون ذلك، فلا تنقضوا. والخلاصة: إن هذه الآية تحذير من نقض أيمان مخصوصة، وهي نقض عهد رسول الله على الإيمان به، واتباع شرائعه، طمعا في خيرات الدنيا ومغرياتها.
ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا وأمتعتها يَنْفَدُ يفنى أو ينقضي وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ دائم لا ينفد وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهود وأذى الكفار ومشاق التكاليف أَجْرَهُمْ ثوابهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بجزاء أحسن من أعمالهم، وقال السيوطي: أحسن بمعنى حسن هنا.
سبب النزول:
نزول الآية (91) :
وَأَوْفُوا: أخرج ابن جرير عن بريدة قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر أن الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ..
الآية، فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة.
نزول الآية (92) :
وَلا تَكُونُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص: كانت سعيدة الأسدية حمقاء، تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها.
المناسبة:
بعد أن أفاض الله تعالى في وعد المتقين ووعيد الكافرين، وأكد الترغيب والترهيب، أتبعه بأوامر جامعة لأمهات الفضائل، وأصول الأخلاق الاجتماعية،(14/214)
وأنواع التكاليف المفروضة والنوافل، وهي العدل والإحسان والوفاء بالعهود.
أما آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فهي- كما قال ابن مسعود- أجمع آية في القرآن للخير والشر، وسأذكر الحديث كله. وقال عنها قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به، ويستحسنوه، إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. ولهذا
جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وأبو نعيم والحاكم والبيهقي عن سهل بن سعد: «إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» .
وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه، قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه، وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخفّ إليه، قال: فليأته من يبلّغه عني ويبلّغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالا له: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت، وما أنت؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله.
قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية.
قالوا: ردّد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم، فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر- أي شريفا- وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها- مساوئها-، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذنابا «1» .
وقد ورد في نزولها حديث حسن طويل رواه الإمام أحمد، مفاده أنها كانت سببا في إسلام عثمان بن مظعون، وموجزه: أن عثمان بن مظعون كان جليس
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 582 وما بعدها.(14/215)
النبي صلّى الله عليه وسلّم وقتا، فقال له عثمان: ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة، قال:
وما رأيتني فعلت؟ قال: شخص بصرك إلى السماء، ثم وضعته على يمينك، فتحرفت عني إليه، وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك، قال: أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفا، وأنت جالس، قال: فماذا قال لك؟ قال لي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. الآية قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدا صلّى الله عليه وسلّم. ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا.
وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. وأكثر آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] . وأشد آية في كتاب الله رجاء: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر 39/ 53] .
وعن عكرمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية، فقال له:
يا ابن أخي، أعد عليّ، فأعادها عليه، فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن رضي الله عنه: أنه قرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية، ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله، والشر كله في آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله تعالى إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.(14/216)
التفسير والبيان:
هذه الآيات دعائم الحياة الإسلامية وركائز المجتمع الإسلامي، فالآية الأولى يأمر الله فيها عباده بالعدل والإنصاف بصفة مطلقة في كلّ شيء، في التّعامل، والقضاء والحكم، وشؤون الدّين والدّنيا، وسلوك الإنسان مع نفسه ومع غيره، بل وفي الاعتقاد، فلا يعبد بحقّ وعدل غير الله الخالق الرّازق النافع، والآلهة المزعومة من أصنام وأوثان وكواكب وملائكة وأنبياء وأولياء وزعماء لا تستحق شيئا من العبادة والتقديس، قال ابن عباس في آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ:
شهادة أن لا إله إلا الله.
روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل، فقلت: بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير النّاس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا، فتكون من العادين.
ويندب الله تعالى إلى الإحسان، والإحسان في العبادة: هو كما في
حديث عمر في الصحيحين: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
والإحسان في الجزاء العقاب بالمثل واستيفاء الحق في القتل والجرح عن طريق القصاص (المعاملة بالمثل) . والإحسان في وفاء الحقّ أو الدين: أداؤه من غير مماطلة، أو مع الزيادة غير المشروطة المتبرع بها.
وأفضل الإحسان وأعلاه الإحسان إلى المسيء،
فقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم به: «وأحسن إلى من أساء إليك تكن مسلما» .
وقال عيسى بن مريم عليه السّلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
وروى البخاري في تاريخه أن علي بن أبي طالب مرّ بقوم يتحدّثون،(14/217)
فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك في كتابه إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التّفضل، فما بقي بعد هذا؟
وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
ويأمر الله في هذه الآية بإيتاء ذي القربى أي بصلة الأرحام والأقارب، بالزيارة والمودة والعطاء والتّصدق عليهم، كما قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء 17/ 26] ، وقد خصّه بالذّكر مع أنه داخل في الإحسان للاهتمام به والعناية بشأنه.
وبعد أن أمر تعالى بثلاثة نهى عن ثلاثة فقال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، والفحشاء: الشيء المحرم كالزّنى والسّرقة وشرب المسكر وأخذ أموال النّاس بالباطل.
والمنكر: ما قبّحه الشّرع والعقل، وظهر من الفواحش من فاعلها، كالقتل والضرب بغير حق، وازدراء الناس وغمطهم حقوقهم، قال تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف 7/ 33] .
والبغي: ظلم النّاس والاعتداء عليهم
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي بكرة: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدّنيا، مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرّحم» .
والخلاصة: العدل: أداء الواجب، والإحسان: الزيادة فيه، والفحشاء والمنكر والبغي: تجاوز حدود الشّرع والعقل.(14/218)
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشّر، لتتعظوا وتتذكروا وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى، فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ليس المراد منه التّرجي والتّمني، فإن ذلك محال على الله تعالى، فوجب أن يكون معناه: أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكّروا طاعته، وهو يدلّ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكلّ.
وبعد أن ذكر الله تعالى كلّ المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، خصص بعضها بالذّكر، فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، فقال تعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. أي ووفوا بالعهود والمواثيق، وحافظوا على الأيمان المؤكدة، وعهد الله: كلّ ما يجب الوفاء به، من تطبيق أحكام الإسلام، وكلّ عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، كما قال ابن عباس.
ثم أكّد الله تعالى ضرورة الوفاء بالعهد بقوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها.. أي واحذروا نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله. وأكّد ووكّد لغتان فصيحتان. والمراد بالأيمان هنا: هي الدّاخلة في العهود والمواثيق، أي أيمان العهد أو الأحلاف المعقودة، لا الأيمان التي هي واردة على حثّ أو منع.
روى أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدّة»
يعني في نصرة الحق والقيام به، والمعنى: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التّمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وهذا مثل حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق فقال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى تردّ عليه مظلمته. فسمّت(14/219)
قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شهيدا.
ثمّ جعل الله تعالى نفسه رقيبا على العهود لتأكيد احترامها: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي إنه مطّلع ومراقب كلّ ما تفعلونه في العهود، من البرّ بها أو النّقض لها، ومحص ذلك عليكم، ومجازيكم على أفعالكم، ثوابا ورضا في حال البرّ والوفاء، وعقابا وسخطا في حال النّقض والعبث والإخلال بأحكام المعاهدة.
وهذا وعد للطائع، ووعيد وتهديد للمخالف الذي ينقض عهده بعد توكيده.
ثم أكّد الله تعالى حرمة العهد مرّة ثالثة فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ ... أي ولا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالتي نقضت غزلها بعد إبرامه. قال عبد الله بن كثير والسّدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكّة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. واسمها: ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة.
أو هو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده كما قال مجاهد وغيره، فمن نقض العهد كان كمن نقض الغزل بعد فتله وإبرامه، فهو ليس من فعل العقلاء، وإنما في زمرة الحمقى. والأنكاث: الأنقاض.
تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. أي تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر، من أجل أن تكون جماعة أقوى وأكثر عددا وعدّة من جماعة أخرى، بل عليكم الوفاء بالعهود والحفاظ عليها.
فقوله تعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ معناه أنكم تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم، ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم، فنهى الله عن ذلك، لينبّه بالأدنى على الأعلى، أي إذا نهاكم عن الغدر في هذه الحالة، فلأن ينهى عنه مع التّمكن والقدرة بطريق الأولى. وأربى: أكثر.(14/220)
والمقصود: النّهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم.
ومن أمثلة الوفاء بالعهد: أن معاوية كان بينه وبين ملك الروم أمد، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى، وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم، وهم غارّون- غافلون- لا يشعرون، فقال له عمرو بن عنبسة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان بينه وبين قوم أجل، فلا يحلنّ عقدة حتى يمضي أمدها»
فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي إنما يعاملكم معاملة المختبر، بأمره إياكم بالوفاء بالعهد، لينظر أتغترون بالكثرة والقلّة أم تراعون العهد؟! وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ.. أي وليبينن لكم ربّكم يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه، من أمر الإيمان والكفر، والوفاء بالعهد والنّقض، فيجازي كلّ عامل بعمله من خير أو شرّ، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملّة الإسلام، التي من أهمّ أحكامها وجوب الوفاء بالعهد.
والله قادر على جمعهم على الإيمان وعلى الوفاء بالعهد، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. أي ولو شاء الله لجعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد، بمقتضى الفطرة والغريزة، فتصبحون كالملائكة مخلوقين على منهج الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى، فلا اختلاف ولا تباغض ولا شحناء، وإنما وفاق بينكم.
ولكن حكمة الله اقتضت خلقكم متفاوتين في الكسب، كسب الإيمان والتزام الأحكام، مختارين الاعتقاد والعمل، فيضلّ من يشاء ممن سبق في علمه أنه سيختار الضّلال، ويهدي من يشاء ممن علم في الأزل أنه سيفعل الخير ويختار الإيمان.(14/221)
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ثم يسألكم يوم القيامة سؤال حساب وجزاء، لا سؤال استفهام، عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها خيرا أو شرّا.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] ، ومثل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود 11/ 118- 119] .
وبعد أن حذّر الله تعالى في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان على الإطلاق، حذّر في قوله: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، وهي أيمان البيعة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام.
والمعنى: يحذر الله تعالى عباده وينهاهم عن اتّخاذ الأيمان دخلا، أي خديعة ومكرا، تغرون بها الناس، لئلا تزل قدم في الضّلال بعد ثبوتها على الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى، بأيمان حانثة مشتملة على الصّدّ عن سبيل الله لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به، لم يعد يثق بالدّين، فانصدّ بسبب الغدر عن الدّخول في الإسلام.
وَتَذُوقُوا السُّوءَ.. أي وتذوقوا العذاب السّيء الشديد وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب صدّكم عن سبيل الله لأن الدخول في الدّين، ثم الخروج منه، مشجع للآخرين بالبعد عن الإسلام.
وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولكم عقاب شديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانضمام لفئة الأشقياء الضّالين.
أي إنكم إن نقضتم العهد وقعتم في مفاسد ثلاثة:(14/222)
1- البعد عن منهج الاستقامة والنّأي عن طريق الهدى، بعد الثّبات فيهما.
2- تحمّل سوء العذاب في الدّنيا بالقتل والأسر وسلب الأموال وهجر الأوطان.
3- العقاب في الآخرة جزاء الإعراض عن جادّة الحقّ والإعراض عن أهله.
ثم حذّر الله تعالى عن نقض العهد بالمعاوضات فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الحياة الدّنيا وزينتها، فإنها قليلة.
إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لو خيرت للإنسان الدّنيا بحذافيرها، لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وهو خير أيضا من ذلك العرض القليل في الدّنيا.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون التّفاوت بين خيرات الدّنيا وبين خيرات الآخرة.
ووجه الخيرية: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ أي إن متاع الدّنيا أو نعيمها ينقضي ويفرغ ويزول، وإن طال الأمد، وما عند الله من ثواب في الجنّة باق خالد لا انقطاع ولا نفاد له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول.
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا.. أي والله لنجازي ونثيب الصابرين الذين صبروا على أذى المشركين وأحكام الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود، بأحسن أعمالهم ونتجاوز عن سيئها، وهو ثواب عظيم، ووعد حسن بمغفرة السّيئات.
فقه الحياة أو الأحكام:
حدّدت هذه الآيات دعائم المجتمع المسلم في الحياة الخاصة والعامة، للفرد والجماعة والدولة.(14/223)
فأمرت الآية بأوامر ثلاثة، ونهت عن نواه ثلاثة، تعتبر محاسن الأخلاق.
أما الأوامر: فهي التزام العدل، والإنصاف بأداء الواجبات والفرائض، وفعل الإحسان وهو الزيادة والتّفضل، أو النافلة المستحبة فوق الفرض والواجب، وإيتاء ذي القربى أي صلة الأقارب والأرحام. وإنما خصّ ذا القربى لأن حقوقهم أوكد، وصلتهم أوجب.
قال ابن عطية: العدل: هو كلّ مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحقّ. والإحسان: هو فعل كلّ مندوب إليه فمن الأشياء ما هو كلّه مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أنّ حدّ الإجزاء منه داخل في العدل، والتّكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان.
وقسم ابن العربي العدل ثلاثة أقسام: عدل مع الله، وعدل مع النفس، وعدل مع الناس، فقال:
العدل بين العبد وبين ربّه: إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزّواجر والامتثال للأوامر.
وأما العدل بينه وبين نفسه: فمنعها مما فيه هلاكها قال الله تعالى:
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى وعزوب الأطماع عن الاتّباع، ولزوم القناعة في كلّ حال ومعنى.
وأما العدل بينه وبين الخلق: فبذل التّضحية، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكلّ وجه ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل، لا في سرّ ولا في علن، والصّبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.(14/224)
وأما النّواهي الثلاثة: فهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. والفحشاء:
الفحش، وهو كلّ قبيح من قول أو فعل كالزّنى والغيبة. والمنكر: ما أنكره الشّرع بالنّهي عنه، وهو يعمّ جميع المعاصي والرّذائل والدّناءات على اختلاف أنواعها، وأخطرها الشّرك. والبغي: هو تجاوز الحدّ، كالكبر والظّلم والحقد والتّعدّي. وخصّ بالذّكر، بالرّغم من دخوله تحت المنكر، اهتماما به لشدّة ضرره. ومن معاني
الحديث: «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي»
«الباغي مصروع» ، وقد وعد الله من بغي عليه بالنّصر، وفي بعض الكتب المنزلة:
لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكّا.
وتضمّنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
والآية الثانية خصصت بالذّكر الأمر بالوفاء بالعهد، لخطورة العهود والمواثيق. وعهد الله: لفظ عام يشمل جميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة.
وأكّدت الآية حرمة العهود والمواثيق بعدّة مؤكّدات: أولها النّهي عن نقضها حتى تنتهي مدّتها، بعد تشديدها وتغليظها، وإشهاد الله عليها. وإنما قال تعالى: بَعْدَ تَوْكِيدِها للتّفرقة بين اليمين المؤكّدة بالعزم وبين لغو اليمين.
ثمّ مثّل لنقضها بصورة المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها إنقاضا بعد إبرامه وفتله، ثمّ شنّع على النّاقضين باتّخاذ الأيمان خديعة ومكرا وغشّا وتغريرا، ثمّ قبّح البواعث والأهداف من الغدر ونقض العهد تأييدا لقوّة قبيلة كثيرة قوية، وتحلّلا من عهد القبيلة الضّعيفة القليلة العدد، والعدد، فقال تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالا، فتنقضون أيمانكم، إذا رأيتم الكثرة والسّعة في الدّنيا لأعدائكم المشركين.(14/225)
ثم نبّه الله تعالى أن العهود ابتلاء واختبار، وأن الله تعالى سيبيّن الحقائق يوم القيامة في الاختلاف من البعث وغيره.
ثم ذكر تعالى أنه قادر على جعل الناس على ملّة واحدة هي ملّة الإيمان، والاجتماع على الوفاء بالعهود.
ولكنه تعالى يوفق بهدايته من يشاء فضلا منه عليهم، ويضلّ من يشاء بخذلانه إياهم لاختيارهم سبيل الضّلال، عدلا منه فيهم، وسيسأل الجميع عن أفعالهم.
ثم بالغ تعالى في النّهي عن عقد الأيمان والعهود المنطوية على الخديعة والفساد، فتزلّ قدم بعد ثبوتها، أي عن الإيمان بعد المعرفة بالله، وهذا استعارة لمستقيم الحال، الذي لا يوفي بالعهد، فيقع في شرّ عظيم.
ثمّ توعّد تعالى المخادعين في الأيمان والعهود بعذاب في الدّنيا، وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد الشديد فيمن نقض عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن من عاهده، ثمّ نقض عهده، خرج عن الإيمان، وذاق السّوء في الدّنيا: وهو ما يحلّ بهم من المكروه.
ثم حذّر الله تعالى من المتاجرة بالأيمان والعهود، فنهى عن الرّشاوى وأخذ الأموال على نقض العهد، فقال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدّنيا، وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو إذن قليل.
ثم بيّن تعالى الفرق بين حال الدّنيا وحال الآخرة، بأن كلّ ما في الدّنيا ينفد ويتحوّل، وما في الآخرة وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته لا يزول، لمن وفّى بالعهد، وثبت على العقد.(14/226)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
وختم ما ذكر بأن الله سبحانه يجزي الصابرين على الإسلام والطاعات ومنها الوفاء بالعهد، وعن المعاصي، أجرهم على الطاعات، ويتجاوز عن السّيئات، وهذا هو المراد من الجزاء على أحسن أعمالهم.
كلّ هذه الأوامر والنّواهي والمؤكّدات والوعود والمواعيد والتّهديدات والجزاءات من أجل الحفاظ على المعاهدات والعهود والمواثيق، وعدم الإخلال بأحكامها وشروطها ومشتملاتها.
أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح
[سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
الإعراب:
قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ ثم قال: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ لأن مَنْ يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى.
المفردات اللغوية:
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّن النوعين دفعا للتخصيص. وَهُوَ مُؤْمِنٌ قيد في قبول العمل إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما يتوقع عليها تخفيف العقاب. حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا: يعيش عيشا طيبا لا قلق فيه ولا ضجر، فهو إن كان موسرا لم يصرفه الحرص والطمع عن واجبات الدين، وإن كان معسرا طيّب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة والرزق الحلال.
وقيل: ذلك في الآخرة وهي حياة الجنة. ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعة.
المناسبة:
هذه الآية ترغيب للرجل والمرأة في أداء الطاعات والفرائض الدينية، فبعد(14/227)
أن رغب الله تعالى المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه من شرائع الإسلام بقوله: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا بأن يجزيهم على أحسن أعمالهم التي تشمل المباحات والمندوبات والواجبات، ويثيبهم على ما عدا المباحات، رغّب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام.
التفسير والبيان:
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا، فمن عمل صالح الأعمال، من ذكر أو أنثى، وهي الأعمال المطابقة لكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فأدى الفرائض، وكان قلبه مؤمنا بالله ورسوله، فله حياة طيبة في الدنيا، وجزاء بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.
والحياة الطيبة: تشمل وجوه الراحة المختلفة، وفسرها ابن عباس وجماعة بالرزق الحلال الطيب، أو السعادة، أو العمل بالطاعة والانشراح بها، أو القناعة، والصحيح- كما قال ابن كثير-: أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما
جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه» ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري.
وروى الترمذي والنسائي عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قد أفلح من هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع به» .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.
وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» .(14/228)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيقول: «اللهم قنّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية بوضوح أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان.
أما إفادته تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.
والحياة الطيبة ذكر فيها خمسة أقوال أصحها أنها تشمل كل مناحي السعادة في الدنيا من الصحة والرزق الحلال الطيب، والطمأنينة النفسية وراحة البال، والتوفيق إلى الطاعات، فإنها تؤدي إلى رضوان الله تعالى.
ما يتعلق بالقرآن الاستعاذة والنسخ وعربية القرآن
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 105]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)(14/229)
الإعراب:
إِنَّما سُلْطانُهُ.. هُمْ بِهِ هاء (سلطانه) تعود على الشيطان، وهاء بِهِ لله تعالى، وهو مما جاء في التنزيل من ضميرين مختلفين، مثل الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلى لَهُمْ [محمد 47/ 25] أي سول الشيطان، وأملى الله تعالى، كقوله: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران 3/ 178] وقيل: هاء بِهِ تعود على الشيطان أيضا.
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ معطوفان على محل لِيُثَبِّتَ أي تثبيتا وهداية وبشارة، فهما مفعولان لأجله.
البلاغة:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ مجاز مرسل من إطلاق المسبّب على السبب، أي إذا أردت قراءة القرآن.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة اعتراضية لبيان حكمة النسخ، وفيه التفات من المتكلم إلى الغائب، وذكر اسم الله للمهابة.
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ استعار اللسان للغة والكلام، والعرب تستعمل اللسان بمعنى اللغة مثل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 14/ 4] .
أَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي أردت قراءته فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي ألجأ إلى الله لحمايتي من وساوس الشيطان في القراءة، وذلك في كل ركعة للمصلي لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا. سُلْطانٌ تسلط وقوة واستيلاء.
يَتَوَلَّوْنَهُ بطاعته، يقال: توليته: أطعته، وتوليت عنه: أعرضت. هُمْ بِهِ بالله.
بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بنسخها أو رفعها وإنزال غيرها، لمصلحة العباد. قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي قال الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما أنت كذاب، تقوله من عندك. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن وحكمة النسخ وتمييز الخطأ من الصواب. قُلْ: نَزَّلَهُ قل لهم يا محمد: نَزَّلَهُ(14/230)
رُوحُ الْقُدُسِ
جبريل، وسمي بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس. بِالْحَقِّ متعلق ينزل، أي نزله ملتبسا بالحكمة المقتضية له. لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأنه كلامه، وإنهم إذا سمعوا الناسخ، وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم.
وَلَقَدْ للتحقيق. يُعَلِّمُهُ القرآن. بَشَرٌ هو جبر الرومي، غلام عامر بن الحضرمي النصراني، كان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان حدادا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه، ويجلس إليه إذا آذاه أهل مكة. لِسانُ لغة وكلام. الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يميلون إليه، ويشيرون أنه يعلمه. أَعْجَمِيٌّ في لسانه عجمة، سواء من العجم أو من العرب، وهو الذي لا يفصح عن مراده. وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلمه أعجمي. والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم. لا يَهْدِيهِمُ لا يخلق الإيمان في قلوبهم، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى.
أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة. يَفْتَرِي يختلق. الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ القرآن بقولهم: هذا من قول البشر لأنهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه. وَأُولئِكَ إشارة إلى الذين كفروا، أو إلى قريش. هُمُ الْكاذِبُونَ أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه المزاعم أعظم الكذب، أو الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر، إنما يعلمه بشر، والتأكيد بالتكرار ردّ لقولهم المذكور.
سبب النزول:
نزول الآية (101) :
وَإِذا بَدَّلْنا.. نزلت حين قال المشركون: إن محمدا عليه الصلاة والسلام سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدا، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتري يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.
نزول الآية (103) :
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ.. الآية: أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له:(14/231)
يسار، والآخر جبر، وكانا صقلبيّين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمرّ بهما، فيستمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه يجزي المؤمنين بأحسن أعمالهم، أرشد إلى العمل الذي تخلص به أعمالهم من وساوس الشيطان. ثم ذكر بعض وساوسه إلى منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بإلقاء الشبهات ومنها شبهتان:
الأولى- شبهة النسخ: وهو التبديل، أي رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية: رفعها بآية أخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها.
والثانية- شبهة كون القرآن من تعليم نصراني لا من الله، وكان الردّ مفحما موضحا بطلان هذه الشبهة: وهو أن القرآن كلام عربي مبين، وهذا المعلم المزعوم أعجمي، فكيف يعلّم كلاما عربيا فصيحا؟!
التفسير والبيان:
يأمر الله عباده على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، فيقول: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ.. أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم الملعون المطرود من رحمة الله، حتى لا تلتبس عليك القراءة، ولتتدبر معاني القرآن.
والآية متصلة بما سبق: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.
وخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته، بل هي أولى لأنه معصوم من وساوس الشيطان وإغوائه.
وظاهر الآية جعل الاستعاذة عقب القراءة، ولكنها قبل القراءة، كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة 5/ 6] وقوله:(14/232)
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
[الأنعام 6/ 152] وقوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب 33/ 53] وقوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة 58/ 12] أي إذا أردتم ذلك. ثم إن سبب الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضي تقديم الاستعاذة قبل القراءة.
والاستعاذة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والأمر بها أمر ندب بإجماع العلماء، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة.
وعن الثوري وعطاء: أنها واجبة في الصلاة أو غيرها، عملا بظاهر الآية إذ الأمر للوجوب، لكن الوجوب في رأي الجمهور مصروف عنه إلى الندب لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعلمها الأعرابي، ولأنه كان يتركها أحيانا.
والاستعاذة في رأي الحنفية وجماعة مطلوبة فقط في أول الصلاة لأنها عمل واحد، مفتتح بقراءة، فتكون في ابتدائها. وفي رأي الشافعية وجماعة: تتكرر في كل ركعة لأنها قد رتّبت على القراءة، وكل ركعة فيها قراءة، فتبدأ الركعة بالاستعاذة.
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ.. أي إن الشيطان أي جنسه ليس له قوة ولا تسلط على المصدقين بلقاء الله، ويفوضون أمورهم إليه. إِنَّما سُلْطانُهُ..
أي إنما تسلطه بالغواية والإضلال على الذين أطاعوه واتخذوه وليا ناصرا لهم من دون الله، والذين أشركوه في عبادة الله، ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان وإغوائه لهم مشركين بربهم.
ثم ذكر تعالى شبهتين من شبهات منكري النبوة بتأثير وسوسة الشيطان.
الشبهة الأولى:
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً.. أي إذا رفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى لحكمة(14/233)
وهدف، والله أعلم بما ينزله من القرآن، ورأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها، عيّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا له: إنما أنت مفتر، أي كذاب، متقول على الله، تأمر بشيء ثم تنهى عنه، بل أكثرهم لا يعلمون ما في التغيير من حكمة ومصلحة للناس، ومراعاة لظروف التغير والتطور، وأخذ بمبدإ التدرج في تنزيل الأحكام، فليس محمد بمفتر، وإنما يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، كما قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة 2/ 106] .
فردّ الله عليهم شبهتهم الواهية آمرا رسوله: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ.. أي قل لهم يا محمد: نزّله، أي القرآن المتلو عليكم جبريل عليه السلام، وقد أضيف أي جبريل إلى القدس وهو الطهر من المآثم، نزّله من ربك بالحق، أي مقترنا بالصدق والعدل والحكمة، وأن النسخ من جملة الحق.
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليبلوهم بالنسخ، فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا، وتطمئن له قلوبهم، فإذا قالوا: هو الحق من ربنا، حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.
واستعمال كلمة نَزَّلَهُ الدالة على أن التنزيل شيئا فشيئا على حسب الحوادث والمصالح، فيه إشارة- كما قال الزمخشري- إلى أن التبديل من باب المصالح، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة.
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ معطوف على محل لِيُثَبِّتَ أي إن القرآن بما فيه من نسخ نزل تثبيتا لهم، وإرشادا وهاديا، وبشارة بالجنة للمسلمين الذين أسلموا وجوههم لله، وأطاعوه، وانقادوا لحكمه وأمره، وآمنوا بالله ورسله.
وهذا يدل على أن المسلمين إذا رأوا النسخ، رسخت عقائدهم واطمأنت(14/234)
قلوبهم، وثبت الدين في نفوسهم، وتيقنوا من حكمة الله، وهدوا إلى الحق من الضلال والزيغ، وبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار. وأما المشركون فهم على الضد من هذه الصفات.
والشبهة الثانية:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ.. أي ونحن نعلم تمام العلم ما يقوله المشركون من الكذب والافتراء على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهم يقولون جهلا: إنما يعلمه هذا القرآن بشر آدمي، وليس وحيا من الله، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، غلام لبعض القرشيين، وكان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليه، ويكلمه بعض الشيء.
واسمه جبر، وقيل: بلعام، وقيل: يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان غلاما للفاكه بن المغيرة أو لعامر بن الحضرمي أو لعتبة بن ربيعة «1» ، وكان نصرانيا فأسلم، فإذا سمع المشركون بعض القصص القرآني، قالوا: إنما يعلمه جبر، وهو أعجمي.
فردّ الله عليهم افتراءهم وكذبهم بنحو يدعو إلى العجب، فقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ.. أي لسان الذي يميلون ويشيرون إليه أعجمي لا عربي، والقرآن كلام عربي واضح مبين لكل شيء فصيح يدرك بسرعة، بل أفصح ما يكون من العربية، فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته، وبلاغته، ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي لا يحسن التعبير العربي؟! لا يعقل أن يتعلم هذا النبي كلاما من هذا النوع من مثل هذا الرجل الأعجمي.
__________
(1) قال القرطبي: والكل محتمل، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة.(14/235)
ثم كشف الله زيفهم وتوعدهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ... أي إن الذين لا يصدّقون بالآيات المنزلة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن لهم قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، لا يهديهم ولا يوفقهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله، لفقد استعدادهم لذلك واقترافهم السيئات، ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع. وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي وأولئك المشركون من قريش هم الكاذبون المفترون، لا أنت يا محمد.
وهذا تصريح بوصفهم بالكذب الذين عرفوا به عند الناس، أما الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا ويقينا، معروفا بالصدق في قومه، حتى لقبوه بالأمين محمد.
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات الرسول صلّى الله عليه وسلّم أجابه بأنه صدوق، وكان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
1- الاستعاذة من الشيطان الرجيم مطلوبة على سبيل الندب عند الشروع في قراءة القرآن، في الصلاة وغيرها، حتى لا يعرض الشيطان بوسوسته للقارئ، فيصده عن تدبر القرآن والعمل بما فيه.
وللشيطان وسوسة في القلب، حتى في حق الأنبياء، بدليل قوله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج 22/ 52] .(14/236)
2- ليس للشيطان بحال سلطان وقوة بالإغواء والكفر على المؤمنين المصدقين بالله ورسوله لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال إبليس:
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر 15/ 39- 40] قال الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر 15/ 42] .
لكن قال القرطبي: إن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك «1» ؟.
3- النسخ واقع في القرآن لحكمة هي مراعاة المصالح والحوادث وتطور الأوضاع البشرية. والنسخ: رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ أو متأخر عنه.
وقد نزل جبريل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه، من كلام ربه لتثبيت المؤمنين بما فيه من الحجج والآيات، ولجعله هاديا ومرشدا ومبشرا للمسلمين بجنات النعيم، فلا يصح للمشركين الاعتراض على النسخ.
وقد ذكرت في تفسير سورة البقرة أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني: أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة. وقال عن هذه الآية: إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة، مثل أنه حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون: أنت مفتر في هذا التبديل، فالآية هي الرسالة أو بعضها.
وقال سائر المفسرين: النسخ واقع في هذه الشريعة، بأدلة واقعية في القرآن والسنة، سبق إيرادها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 176(14/237)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
وقال الشافعي رحمه الله: القرآن لا ينسخ بالسنة لقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى.
وردّ عليه بأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى، ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية، وأيضا فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة، كما ينزل بالآية، وأيضا فالسنة قد تكون مثبتة للآية.
4- القرآن بلسان عربي مبين، فكيف يصح للمشركين الزعم بأن محمدا الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتعلمه من حداد أعجمي مقيم في مكة؟ مع أن الإنس والجن عجزوا أن يعارضوا منه سورة واحدة فأكثر.
5- لا يوفق الله للإيمان هؤلاء المشركين الذين لا يؤمنون بالقرآن، لإصرارهم على الكفر وعنادهم، وإعراضهم عن هدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع.
6- قد صرحت الآية: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ.. بوصف المشركين بالكذب والافتراء جوابا لوصفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالافتراء. وقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مبالغة في وصفهم بالكذب، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم.
المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعد ما فتنوا
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)(14/238)
الإعراب:
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ.. مَنْ بدل مرفوع من الْكاذِبُونَ في قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أو مبتدأ أو شرطية، والخبر أو الجواب: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وأحسن الوجوه أن مَنْ مبتدأ محذوف الخبر. إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثناء متصل لأن الكفر يعم القول والنية كالإيمان.
مَنْ شَرَحَ: من: مبتدا مرفوع، وخبره: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
صَدْراً مفعول شَرَحَ أي ولكن من شرح بالكفر صدره وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره، فهو نكرة يراد بها المعرفة.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ.. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ.. خبر إِنَّ الأولى دل عليه خبر إِنَّ الثانية.
المفردات اللغوية:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الافتراء، أو على النطق بكلمة الكفر فتلفظ به وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغير عقيدته، وثبت على ما كان عليه، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب.
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً له، أي فتحه ووسعه، والمعنى: اعتقده وطابت له نفسه فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.. هذا وعيد شديد إذ لا أعظم من جرمه، والغضب: أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة الله ذلِكَ الوعيد لهم بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا اختاروها أو آثروها وقدّموها.(14/239)
لا جَرَمَ حقا الْخاسِرُونَ إذ ضيعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد، وصاروا إلى النار المؤبدة عليهم.
هاجَرُوا من مكة إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا عذّبوا أو اختبروا بالعذاب، وتلفظوا بالكفر، كعمار رضي الله عنه. ومن قرأ: فُتِنُوا معناه كفروا، أو فتنوا الناس عن الإيمان، كالحضرمي أكره مولاه جبرا، حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الجهاد وما أصابهم من المشاق إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر لَغَفُورٌ لهم لما فعلوا قبل رَحِيمٌ بهم، منعم عليهم، مجازاة على ما صنعوا بعد.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ اذكر، وهو يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تحاج وتجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها، فتقول: نفسي نفسي. والنفس الأولى: الجثة والبدن، والنفس الثانية: عينها وذاتها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ تعطى جزاء ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقصون أجورهم شيئا
سبب النزول:
نزول الآية (106) :
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يهاجر إلى المدينة، أخذ المشركون بلالا، وخبّابا، وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيّة، فلما رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حدّثه فقال: كيف كان قلبك حين قلت: أكان منشرحا بالذي قلت؟ قال: لا، فأنزل الله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم، فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية.(14/240)
روايات أخرى:
في آية إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ:
أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل: «أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول الله، قال له: ما وراءك؟ قال شر ما تركت، نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.
وروي: «أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين، ووجئت بحربة في موضع عفتها، وقالوا: إنما أسلمت من أجل الرجال، فقتلوها وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل: يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يبكي، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه، وقال: مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت» .
نزول الآية (110) :
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ: أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحكم قال:
كان عمار بن ياسر يعذّب، حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي الله عنه (وكان أخا أبي جهل(14/241)
من الرضاعة) وأبا جندل بن سهيل، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون، وعذبوهم، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا، وجاهدوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن عظّم الله تعالى تهديد الكافرين الذين تقولوا الأقاويل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوصفوه بأنه مفتر، وأن ما جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله، أردف ذلك ببيان من يكفر بلسانه لا بقلبه بسبب الخوف والإكراه، ومن يكفر بلسانه وقلبه معا. ثم ذكر بعده حال من هاجر بعد ما فتن، وهم المستضعفون في مكة.
التفسير والبيان:
من كفر بوجود الله وتوحيده بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به، فعليه غضب من الله ولعنته، وله عذاب شديد في الآخرة، لعلمه بالإيمان، ثم عدوله عنه، ولأنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدم على الردة، ولم يهد الله قلبه، ولم يثبته على الدين الحق، فطبع على قلبه، فهو من الغافلين عما يراد، ومن الذين لا يعقلون شيئا ينفعهم، وقد ختم على سمعه وبصره، فهو لا ينتفع بها، ولا أغنت عنه شيئا.
ثم استثنى الله تعالى ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه من أكره فقال:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي إلا إذا أكره بسبب الضرب والأذى، وقلبه يأبى ما ينطق به في الظاهر، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإكراه، كما فعل عمار بن ياسر حينما عذبه مشركو مكة. وأصل الاطمئنان: سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على الإيمان، ومعنى قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً.. أي فتحه ووسعه لقبول الكفر.(14/242)
ثم ذكر الله تعالى سبب سخطه على المرتد، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا.. أي ذلك الجزاء والغضب من الله والعذاب العظيم من أجل أنهم آثروا الدنيا على الآخرة.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي.. أي وأن الله لا يوفق المصرّين على الكفر، الذين أمعنوا في إنكار توحيد الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ.. أولئك الذين ارتدوا أو كفروا بعد إيمانهم هم الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فلا يؤمنون ولا يسمعون كلام الله ولا يبصرون البراهين والأدلة إبصار تبصر، وأولئك هم الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ.. أي حقا أو لا بد أنهم هم الهالكون في الآخرة، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
هؤلاء المرتدون الخاسرون حكم الله عليهم بستة أحكام هي:
1- أنهم استوجبوا غضب الله.
2- أنهم استحقوا العذاب الأليم.
3- أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
4- أنه تعالى حرمهم من الهداية للطريق القويم.
5- أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
6- أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة.
ثم ذكر الله تعالى حكم المستضعفين في مكة، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا.. أي ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم في مكة بعد ما حاول المشركون فتنهم عن دينهم، وجاهدوا المشركين بعدئذ في المعارك، وصبروا(14/243)
على جهادهم، بالعون والنصر والتأييد والمغفرة والستر لذنوبهم، والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد توبتهم وصدق إسلامهم.
فهؤلاء صنف آخر من المؤمنين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، فوافقوهم على الفتنة والنطق بالكفر ظاهرا، ثم إنه أمكنهم الخلاص بالهجرة إلى المدينة، تاركين بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا على الأذى، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة، لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ.. يَوْمَ منصوب برحيم أو بإضمار فعل:
اذكر، أي إنه غفور رحيم بهم يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي، كقوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 37] .
ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها، كقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف 7/ 38] ، ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] ونحو ذلك.
وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ.. أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب الخير، ولا يزاد على جزاء الشر، ولا يظلمون نقيرا، أي شيئا حقيرا أو صغيرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على الأحكام التالية:
1- جزاء المرتدين يوم القيامة هو ستة أوصاف ذكرناها. وأما جزاؤهم في(14/244)
الدنيا فهو القتل،
لحديث ابن عباس عند الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) : «من بدل دينه فاقتلوه» .
2- الترخيص للمستكره بالنطق بالكفر ظاهرا مع اطمئنان القلب بالإيمان، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمارا أن يعود إلى مجاراة المشركين في القول إن عادوا إلى إكراهه، لكن عدم المجاراة أفضل.
أ- قال العلماء: إن الأمر في الحديث للإباحة، والصارف له عن الوجوب إليها: ما روي عن خبيب بن عدي لما أراد أهل مكة أن يقتلوه أنه لم يعطهم التقية، بل صبر حتى قتل، فكان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم خيرا من عمار في إعطائه التقية. ثم إن في الصبر على المكروه إعزازا للدين والإسلام وغيظا للمشركين، فهو بمنزلة من قاتل المشركين حتى قتل، فتأثير الإكراه حينئذ إنما هو إسقاط المأثم فقط، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني عن ثوبان، وهو صحيح: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
فألحق المكره بالمخطئ والناسي،
وفي رواية أخرى لابن ماجه عن أبي ذر: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان..» إلخ.
وكذلك بلال الحبشي أبى على المشركين المجاراة في القول، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم، وهو يقول: أحد، أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول:
لا أسمع، فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.
ورواية القصة هي: «أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضا، فخلّاه، وقال(14/245)
للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له» «1» .
والخلاصة: أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل، أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة.
ب- لما سمح الله عز وجل بالكفر به- وهو أصل الشريعة- عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا أكره الإنسان عليها لم يؤاخذ بما قال أو فعل، ولم يترتب عليه حكم.
ج- قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل: أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن، فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، فإنه مخالف لهذه الآية:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ.
د- اختلف الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه، فذهب الحنفية إلى أن الطلاق ونحوه يلزمه لأن الطلاق يعتمد الاختيار، والإكراه ينفي الرضا ويحقق الاختيار.
وغير الحنفية ذهبوا إلى عدم لزومه، استدلالا
بالحديث المتقدم: «رفع عن أمتي»
وحمله الحنفية على رفع الحكم الأخروي وهو الإثم.
__________
(1) الكشاف: 2/ 219، تفسير ابن كثير: 2/ 588، تفسير القرطبي: 10/ 188 وما بعدها.(14/246)
هـ- وأما بيع المكره والمضطر فله حالتان:
الأولى- أن يبيع ماله في حق وجب عليه: فذلك نافذ لازم لا رجوع فيه لأنه يلزمه أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك، كان بيعه اختيارا منه، فلزمه.
الثانية- بيع المكره ظلما أو قهرا: فهو بيع غير لازم، وهو أولى بمتاعه، يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم فإن تلف المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك، على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه.
وللإكراه مراتب:
الأولى- أن يجب الفعل المكره عليه، مثل الإكراه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة، هنا يجب الأكل لأن صون الروح عن الهلاك واجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] .
الثانية- أن يصير ذلك الفعل مباحا لا واجبا، كالإكراه على التلفظ بكلمة الكفر، يباح ولا يجب.
الثالثة- ألا يجب ولا يباح بل يحرم، كالإكراه على قتل إنسان أو قطع عضو آخر، يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. أما القصاص فيسقط في رأي، ويجب في رأي آخر «1» .
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة «2» .
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 122
(2) تفسير القرطبي: 10/ 183(14/247)
والخلاصة: ثلاثة أمور لا تباح بحال هي الكفر والقتل والزنى. ويرخص في إجراء كلمة الكفر على اللسان فقط دون استباحة ذلك.
ز- هل يحد الزاني مكرها؟ فيه رأيان: قال بعضهم: عليه الحد لأنه إنما يفعل ذلك باختياره، وقال الأكثرون: لا حد عليه، وهو الصحيح. وإذا استكرهت المرأة على الزنى، فلا حد عليها لقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولقول الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 33] يريد الفتيات. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة.
ح- هل يجب الصداق (المهر) للمستكرهة؟ قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لها صداق مثلها. وقال الحنفية والثوري وأصحاب مالك:
إذا أقيم الحد على الذي زنى بها، بطل الصداق. قال ابن المنذر: القول الأول صحيح.
ط- إذا أكره إنسان على إسلام (تسليم) أهله (زوجته) لما لم يحلّ، أسلمها فيما ذكر القرطبي، ولم يقتل نفسه دونها، ولا احتمل أذية في تخليصها.
وإن أمكنه الدفاع عن عرضه وجب ذلك.
ي- يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء لأن نيته مخالفة لقوله. وقال الحنفية: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث لأن المكره له أن يورّي في يمينه كلها، فلما لم يورّ، فقد قصد إلى اليمين.
ك- إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال، كأصحاب المكس (الجمارك) وظلمة السعاة وأهل الاعتداء، فقال مالك: لا تقيّة له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه، لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث، وإن درأ عن ماله، ولم يخف على بدنه.(14/248)
ل- قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر، فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك، كان كافرا لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها، مثل أن يقول: أكفر باللاهي، بزيادة الياء، وكافر بالنبيّ بالتشديد، أي المكان المرتفع من الأرض، أو بالنبيء أي المخبر.
م- حد الإكراه: عند مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء هو الوعيد المخوف، والسجن، والضرب، والإخافة، والإيثاق، والقيد ونحو ذلك.
ونقل عن الحنفية أنهم لم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر وأكل الميتة لأنه لا يخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراها في إقرار الشخص: لفلان عندي ألف درهم.
3- المرتدون استوجبوا غضب الله وعذابه لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وحرموا من هداية الله، وطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وجعلوا من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة.
4- كتب الله المغفرة والرحمة للذين هاجروا من بعد ما فتنوا أي قبلوا فتنة مشركي مكة، ثم جاهدوا مع المؤمنين، وصبروا على الجهاد، وهؤلاء هم المستضعفون، مثل عمار بن ياسر، وجبر مولى الحضرمي الذي أكرهه سيده، فكفر، ثم أسلم مولاه، وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا، ومثل المذكورين في سبب النزول: عياش وأبي جندل وسلمة بن هشام وعبد الله بن سلمة، ومثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد ولحق بالمشركين، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان، فأجاره النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم صار واليا على مصر.
وقد ذكرت قصة عمّار، وأشير للمعذبين المستضعفين بإيجاز.
قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وخبّاب، وصهيب، وبلال، وعمار، وسمية.(14/249)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الشمس والحديد، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم، ويشتم سمية، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة.
عاقبة كفران النّعم في الدنيا
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
الإعراب:
قَرْيَةً بدل من مَثَلًا.
وَهُمْ ظالِمُونَ الجملة حال.
البلاغة:
قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً المراد أهلها على سبيل المجاز المرسل، لأجل أنها مكان الأمن وظرف له، والظروف توصف بما حل فيها.
فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ استعارة مكنية في أذاقها، حذف منها المشبه به، شبه ذلك اللباس لكراهته بالطعام المرّ، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإذاقة، على طريق الاستعارة المكنية، أي أنه استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه، نظرا إلى المستعار له.
المفردات اللغوية:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي وجعلها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا، فأنزل الله بهم النقمة، أو لمكة قَرْيَةً هي مكة، والمراد أهلها، وقال الرازي: والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة، وهو غير مكة. آمِنَةً من الغارات، لا تهاج. مُطْمَئِنَّةً(14/250)
لا يحتاج إلى الانتقال عنها لضيق أو خوف. رِزْقُها قوتها. رَغَداً واسعا. مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها. فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي بنعمه، جمع نعمة، كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس، وكفرانها بتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم. فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ فقحطوا سبع سنين.
وَالْخَوْفِ بتهديدهم بسرايا النبي صلّى الله عليه وسلّم. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بصنعهم.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ محمد صلّى الله عليه وسلّم. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الجوع والخوف. وَهُمْ ظالِمُونَ حال التباسهم بالظلم.
المناسبة:
بعد أن هدد الله تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، هددهم أيضا بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف.
التفسير والبيان:
ذكر الله صفة قرية للعبرة، كانت بأهلها آمنة من العدو، مطمئنة لا يزعجها خوف، يأتيها رزقها الوافر رغدا أي هنيئا سهلا واسعا من سائر البلاد، فكفر أهلها بنعم الله، أي جحدوا بها، فعمّهم الله بالجوع والخوف، وبدلوا بأمنهم خوفا، وبغناهم جوعا وفقرا، وبسرورهم ألما وحزنا، وذاقوا مرارة العيش بعد سعته، بسبب أفعالهم المنكرة.
وجاءهم رسول من جنسهم، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم، مبلّغ عن ربه بأن يعبدوه ويطيعوه ويشكروه على النعمة، وتمادوا في كفرهم وعنادهم، فعذبوا بعذاب الاستئصال الشامل، حال كونهم ظالمين أنفسهم بالكفر وتكذيب الرسل، متلبسين بالظلم: وهو الكفر والمعاصي، وما ظلمهم الله أبدا.
والمثل: قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن موجودا، وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية يحتمل أن تكون شيئا مفروضا، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وهذه القرية إما مكة(14/251)
أو غيرها، وأكثر المفسرين على أنها مكة وأهلها، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف، فجحدت بآلاء الله، وأعظمها بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأذاقها الله شدة الجوع والخوف، بعد الرفاه والأمن، وأبوا إلا معاندة الرسول صلّى الله عليه وسلّم،
فدعا عليهم بقوله: «اللهم اشدد ووطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف»
فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء وابتلوا بالقحط، فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة، والعلهز: وهو وبر البعير المخلوط بدمه إذا نحروه. ثم قتل رؤساؤهم في بدر.
وقال الرازي: والأقرب أنها غير مكة، لأنها ضربت مثلا لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة. أي أن هذا المثل عبرة لكل قرية، وعلى التخصيص مكة إنذارا من مثل عاقبتها، وهي مثل لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته.
وقوله: آمِنَةً إشارة إلى الأمن، وقوله: مُطْمَئِنَّةً إشارة إلى الصحة بسبب طيب الهواء والمناخ، وقوله: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ إشارة إلى الكفاية «1» . وبعد أن وصفت القرية بهذه الصفات الثلاثة قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ والأنعام جمع نعمة، وهو جمع قلة، أي أنها كفرت بأنواع قليلة من النعم، فعذبها الله. والمقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا العذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
وهذه الصفات، وإن وصفت بها القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها،
__________
(1) قال بعضهم مبينا أهمية هذه العناصر الثلاثة للحياة:
ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية(14/252)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
لذا قال في آخر الآية: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وسماه الله لباس الجوع والخوف لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى وجوب الإيمان بالله وبالرسل، وإلى عبادة الله وحده، وشكره على نعمه وآلائه الكثيرة، وإلى أن العذاب الإلهي لا حق بكل من كفر بالله وعصاه، وجحد نعمة الله عليه.
وهذا إنذار ووعيد لأهل كل قرية اتصفوا بالظلم أي بالكفر والمعاصي إذ لا ظلم أشد من ظلم الكفر والمعصية، في حق الله تعالى.
والعذاب أو العقاب من جنس العمل، فإن أهل هذه القرية لما بطروا بالنعمة، بدلوا بنقيضها، وهو محقها وسلبها، ووقعوا في شدة الجوع بعد الشبع، وفي الخوف والهلع بعد الأمن والاطمئنان، وفي انعدام موارد العيش بعد الكفاية.
الحلال الطيب والحرام الخبيث من المأكولات
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)(14/253)
الإعراب:
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: ما مع الفعل بعدها: في تأويل المصدر.
الْكَذِبَ مفعول تَصِفُ. ومن قرأه بالجر كان بدلا مجرورا من لِما أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم.
البلاغة:
حَلالٌ حَرامٌ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَكُلُوا أيها المؤمنون، أمرهم تعالى بأكل ما أحل الله لهم، وشكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه.
لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ أي لوصف ألسنتكم، والمراد: لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول من غير دليل، فمن قال: له وجه يصف الجمال، وعين تصف السحر، أراد أنه جميل، وأن عينه فتانة، وهنا جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة، وكذبهم يشرح تلك الحقيقة.. هذا حَلالٌ، وَهذا حَرامٌ لما لم يحله الله ولم يحرمه. مَتاعٌ قَلِيلٌ أي لهم متاع في الدنيا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا أي اليهود. ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ في آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية [الأنعام 6/ 146] . وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب المعاصي الموجبة لذلك. السُّوءَ الشرك. ثُمَّ تابُوا رجعوا. وَأَصْلَحُوا عملهم. مِنْ بَعْدِها الجهالة أو التوبة. لَغَفُورٌ لهم. رَحِيمٌ بهم.
المناسبة:
بعد أن هدد الله تعالى الكفار على كفران النعم، وزجرهم عن الكفر بضرب المثل، أمر المؤمنين بأكل ما أحل الله لهم، وشكر ما أنعم عليهم، والمعنى: أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم ونحوهما، ثم أوضح لهم أن التحليل والتحريم ليسا بالهوى والشهوة(14/254)
ومحض العقل، وإنما لا بد من دليل أو نص شرعي، وأن ما حرّم على اليهود هو ما ذكر سابقا في سورة الأنعام، وأن من يعمل السوء (وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي) بجهالة أي بطيش وعدم تدبر العواقب (وكل من عمل السوء، فإنما يفعله بالجهالة) ثم يتوب بعدئذ، فإن الله يغفر له معصيته ويرحمه.
التفسير والبيان:
هذا انتقال من الإنذار والتخويف إلى الاطمئنان، وتهدئة الخواطر، وتطييب النفوس المؤمنة، والإذن بمتاع الحياة الحلال، لا الخبيثة الحرام كالميتة والدم، فكلوا أيها المؤمنون من رزق الله الحلال الطيب، واشكروه على ذلك، فإنه المنعم المتفضل الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، إن كنتم تعبدونه حقا، فتطيعونه فيما أمر، وتنتهون عما نهى، والمراد بالجملة الأخيرة التحريض على العبادة والاستمرار عليها.
والحلال أكثر بكثير من الحرام، ولكنه على وفق ما أذن الله به، لا على النحو الذي كان عليه عرب الجاهلية من تحريم ما أحل الله، لذا ناسب ذلك بيان المحرّمات القليلة أمام الحلال الكثير الواسع، فقال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ.. أي إنما حرّم عليكم ربكم محرّمات أربعة فقط لأن لفظة إِنَّما تفيد الحصر، وهي أكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما ذبح على النصب للأصنام، وهو داخل تحت قوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على غير اسم الله، جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس: «ملعون من ذبح لغير الله» فلا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم.
وقد ذكرت هذه الأنواع الأربعة في سور ثلاث سابقة هي سورة البقرة المدنية: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ.. [الآية: 173] وسورة المائدة المدنية أيضا:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.. [الآية: 3] وسورة الأنعام المكية كهذه السورة:(14/255)
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.. [الآية: 145] . وأما المذكور في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي (ذبح حيا) فهو داخل في الميتة.
ثم استثنى تعالى حالة الضرورة فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ.. أي فمن دعته الضرورة وألجأته، واحتاج من غير بغي ولا عدوان إلى تناول شيء من هذه المحرّمات، لمجاعة غلب على ظنه الهلاك فيها، غير باغ على مضطر آخر، بأن ينفرد بتناوله، فيهلك الآخر، ولا عاد أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع أي قدر الضرورة، مما يدل على تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين، فإن الله غفور ستار لذنبه أو هفوته، لا يؤاخذه على ذلك، رحيم به أن يعاقبه على مثل ذلك. وفي هذا تيسير وتوسعة على هذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر.
ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين بالتحليل والتحريم بآرائهم، وما ابتدعوه شرعا في جاهليتهم من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك، وتحليل الميتة والدم وغيرهما، فقال: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.. أي ولا تحللوا وتحرموا بالرأي والهوى والجهالة، دون اتباع شرع الله، ولمجرد وصف ألسنتكم الكذب دون دليل. وهذه مبالغة في تأكيد حصر المحرمات في الأربع السابقة.
لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي لتصير عاقبة أمركم إسناد التحليل والتحريم إلى الله كذبا، من غير إنزال شيء فيه، فإن من حلل أو حرم شيئا برأيه دون دليل أو وحي من الله، كان من الكاذبين على الله تعالى.
فيدخل في هذا النهي كل من حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وهواه، وكل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي.
ثم توعد على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ...(14/256)
أي إن الذين يختلقون الكذب على الله، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فلهم متاع قليل زائل وعرض زائل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم جدا، كما قال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] .
والآية في الأصل خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب، وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة.
وبعد بيان الحلال والحرام والمباح للضرورة لهذه الأمة، ذكر تعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل نسخها، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا.. أي وقد حرمنا على اليهود ما أخبرناك به أيها الرسول في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما، إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام 6/ 146] فلا يصح لكم أيها العرب التحريم والتحليل من عند أنفسكم، ولا تقليد اليهود فيما حرمنا عليهم، فلم نحرم عليهم إلا ما ذكر.
وسبب التحريم هو: وَما ظَلَمْناهُمْ.. أي وما كان التحريم بظلم منا، ولكن كان بسبب ظلم ارتكبوه، فإنهم ظلموا أنفسهم بعصيان ربهم ومعاندة رسلهم، وتجاوز حدودهم، فاستحقوا ذلك، وعوقبوا بما حرمناه عليهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ..
[النساء 4/ 160] . وهو صريح في أن التحريم كان بسبب الظلم والبغي، عقوبة وتشديدا.
ثم أبان الله تعالى إمكان قبول التوبة تكرما وامتنانا على العصاة والمفترين على الله، والمنتهكين حرماته، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي إن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، فإن(14/257)
ربك غفور ستار رحيم بالذين افتروا عليه بالتحليل والتحريم، وعملوا السوء:
وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي، بسبب الجهالة لأن كل من عمل السوء، فإنما يفعله بالجهالة، فلا يرضى أحد بالكفر مع العلم بكونه كفرا، ولا تصدر المعصية عنه إلا إذا غلبت الشهوة على العقل والعلم.
لكن المغفرة والرحمة مرتبطان بالتوبة والإنابة، والندم على ما فعلوا، وإصلاح الأعمال على وفق مراد الله ورسوله، فمن تاب من بعد ذلك، أي من بعد تلك السيئة أو الجهلة، وأصلح عمله، فآمن بالله ورسوله وأطاع الله ورسوله، فإن الله يغفر ذنبه، ويرحمه في الآخرة والدنيا.
وقد أعاد قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها على سبيل التأكيد، ثم قال لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة.
وهذا يدل على أن ارتكاب الذنب يكون غالبا بسبب غلبة الشهوة على ميزان العقل والعلم، أو بسبب جهالة الشاب وطيشه. ويدل أيضا على أن من أقدم على الكفر والمعاصي ولو دهرا طويلا، ثم تاب وآمن وعمل صالحا، فإن الله يقبل توبته، ويخلصه من العذاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
1- إباحة الحلال الطيب الذي لا ضرر فيه، وتحريم الخبيث الضار الذي يؤدي إلى الأذى والشر، وذلك بحق يقتضي شكر النّعمة.
2- المحرمات الأساسية في الشريعة أربعة: هي الميتة والدم ولحم الخنزير، والمذبوح لغير الله من الأصنام وغيرها.(14/258)
3- يباح للضرورة التي يترتب على مخالفتها غلبة الظن بالوقوع في الهلاك تناول شيء من الأطعمة المحرمة المذكورة آنفا.
4- تحذير المؤمنين من التشبه بالكفار في تحليل الحرام وتحريم الحلال، دون دليل أو برهان من المشرع الحقيقي وهو الله، فذلك افتراء على الله الكذب، والمفترون لا يفلحون في الدنيا والآخرة. فمتاعهم في الدنيا متاع قليل، ونعيمها يزول عن قريب، ولهم استمتاع بمتاع قليل، ثم يردون إلى عذاب أليم.
5- التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يخبر الله تعالى بذلك عنه. وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول المجتهد فيه: إني أكره كذا، وهكذا كان يفعل مالك وأحمد وغيرهما من أهل الفتوى من السلف الصالح. فإذا قوي دليل التحريم فلا بأس بالقول بأنه حرام، كتحريم الربا في غير الأصناف الستة الواردة في تحريم الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة.
6- الأنعام والحرث (الزروع والثمار) حلال لهذه الأمة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء، وما ظلمهم الله بتحريم ما حرم عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم، فحرم عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم.
7- اقتضت رحمة الله وفضله وكرمه أن يقبل توبة عباده الذين يعملون السوء من الكفر والمعاصي، ثم يتوبون بعد فعلها، ويصلحون أعمالهم، فيغفر الله لهم.(14/259)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
إبراهيم عليه السلام واتباع ملته وتعظيم اليهود السبت
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
الإعراب:
حَنِيفاً حال من الضمير المرفوع في اتَّبِعْ ولا يحسن أن يكون حالا من إِبْراهِيمَ لأنه مضاف إليه.
البلاغة:
كانَ أُمَّةً أي كان رجلا جامعا للخير، كالأمة والجماعة لا تصافه بأوصاف كثيرة.
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً التفات عن الغيبة إلى التكلم، زيادة في تعظيم أمره.
المفردات اللغوية:
أُمَّةً إماما قدوة جامعا لخصال الخير، والأصل في الأمة: الجماعة الكثيرة، وسمي إبراهيم بذلك لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرقة في أشخاص كثيرة، كما قال أبو نواس مادحا الرشيد:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ولأنه عليه السلام كان وحده مؤمنا، وكان سائر الناس كفارا.
قانِتاً مطيعا لله قائما بأمره. حَنِيفاً مائلا عن الدين الباطل إلى الدين الحق القيم.
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما زعموا، فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة؟ اجْتَباهُ اصطفاه للنبوة. وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في الدعوة(14/260)
إلى الله. وَآتَيْناهُ فيه التفات عن الغيبة. حَسَنَةً هي الثناء الحسن ومحبة أهل الأديان جميعا له. لَمِنَ الصَّالِحِينَ الذين لهم الدرجات العلى، من أهل الجنة، كما سأله بقوله:
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد، وثُمَّ: إما لتعظيمه والتنبيه على أن أجل ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملته، أو لتراخي أيامه. أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أن اتبع دين إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه بالرفق، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى، والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة الموحدين. وكرر ردا على زعم اليهود والنصارى أنهم كانوا على دينه.
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ فرض تعظيمه، والتخلي فيه للعبادة، وترك الصيد فيه. عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي على نبيهم، وهم اليهود، أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة، فقالوا: لا نريده، وإنما نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فشدّد الله عليهم، وألزمهم السبت. وقيل: معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، فأحلوا الصيد فيه تارة، وحرموه أخرى، واحتالوا له الحيل. وذكر ذلك هنا لتهديد المشركين كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمجازاة على الاختلاف، أو بمجازاة كل فريق من الآبين السبت والمعظمين له بما يستحقه، من إثابة الطائع، وتعذيب العاصي بانتهاك حرمته.
المناسبة:
بعد أن أبطل الله تعالى مذاهب المشركين من إثبات الشركاء لله، والطعن في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتحليل أشياء حرمها الله وتحريم أشياء أباحها الله، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام، مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به، بعد إبطال ذلك كله، ختم تعالى هذه السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين، وقدرة الأصوليين، ليتأسوا به إن كانوا صادقين في اتباع ملته، ولحمل المشركين على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، والاقتداء به لاتصافه بصفات تسع.
وبعد وصف إبراهيم بهذه الصفات العالية، أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم- ملة التوحيد.(14/261)
وبما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم اختار يوم الجمعة، فذلك يدل على أن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وهذا يستدعي السؤال: لم اختار اليهود يوم السبت؟ فأجاب الله تعالى بأن تعظيم السبت واتخاذه للعبادة لم يكن من شرع إبراهيم ولا دينه، وإنما كان مفروضا على اليهود الذين اختلفوا على نبيهم موسى عليه السلام في شأن تعظيمه، حيث أمرهم بالجمعة، فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم، وليس اختلافهم في أن منهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك، وهذا هو ما صححه الرازي «1» .
التفسير والبيان:
يمدح الله تعالى إبراهيم إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية، فيقول: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ ...
أي إنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بتسع صفات هي:
1- إنه كان أمة، أي كان وحده أمة من الأمم، لكماله في صفات الخير.
والمعنى: أنه الإمام الذي يقتدى به.
2- كونه قانتا لله، أي خاشعا مطيعا لله قائما بأمره.
3- كونه حنيفا، أي مائلا عن الشرك والباطل قصدا إلى التوحيد.
4- إنه ما كان من المشركين، بل كان من الموحدين في الصغر والكبر، فهو الذي قال لملك زمانه: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة 2/ 258] وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام 6/ 76] ثم كسر الأصنام حتى ألقوه في النار.
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 137(14/262)
ونظير الآية قوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 3/ 67] .
5- شاكرا لأنعم الله عليه، والأنعام وإن كان جمع قلة إلا أن المراد به أنه كان شاكرا لجميع نعم الله إن كانت قليلة، فبالأولى الكثيرة، وهذا كما قال تعالى:
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم 53/ 37] أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
وهذا تعريض بكل من جحد بأنعم الله مثل قريش وغيرهم.
6- إنه اجتباه ربه، أي اختاره واصطفاه للنبوة، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ [الأنبياء 21/ 51] .
7- إنه هداه إلى صراط مستقيم، أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق، والتنفير عن الدين الباطل، كما قال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام 6/ 153] .
8- وآتاه الله في الدنيا حسنة، أي إن الله حببه إلى جميع الخلق، فكل أهل الأديان يقرّون به، سواء المسلمون واليهود والنصارى، أما كفار قريش وسائر العرب، فلا فخر لهم إلا به، وهذا إجابة لدعائه إذ قال: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] .
9- وإنه في الآخرة لمن الصالحين أي في زمرتهم، تحقيقا لدعائه رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء 26/ 83] وكونه مع الصالحين لا ينفي أن يكون من أعلى مقامات الصالحين لقوله سبحانه: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الأنعام 6/ 83] .
وبعد تعداد هذه الصفات العالية لإبراهيم عليه السلام، أمر الله نبيه باتباعه، فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.. وبناء على كماله وصحة توحيده(14/263)
وطريقته، أوحينا إليك أيها الرسول أن اتبع ملة إبراهيم الحنيف المائل عن كل الأديان والشرك والباطل إلى دين التوحيد، وما كان مشركا، وذكر ذلك لزيادة التأكيد، وهو يدل على أن اتباع ملة إبراهيم إنما هو في الأصول أي الدعوة إلى التوحيد وفضائل الأخلاق والأعمال. أما الفروع فقد تختلف لقوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] وذلك حسب تطور الأزمنة واكتمال العقل والنضج الإنساني، ومراعاة أحوال الأمم والشعوب. وذكر ثُمَّ في قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يدل على تعظيم منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدلالة على أن أشرف كرامة وأجل نعمة لإبراهيم الخليل اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملته.
ومتابعة إبراهيم تقتضي كونه اختار يوم الجمعة للعبادة، كما اختاره النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة وتمت النعمة فيه على عباده، أما تعظيم السبت عند اليهود فأجاب تعالى عنه بقوله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وقد اختاروه لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات التي كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة.
أي إنما جعل تعظيم السبت مفروضا على اليهود الذين اختلفوا على نبيهم موسى في شأن تعظيمه، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فكان اختلافهم في السبت اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله، وليس اختلافهم فيه في أن منهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك، كما صحح الرازي «1» .
وقال الزمخشري: المعنى إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على اليهود المختلفين فيه، وهو أنهم أحلوا الصيد فيه تارة، وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، بعد أن حتم الله عليهم الصبر عن
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 137 [.....](14/264)
الصيد فيه وتعظيمه. والمقصود هو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره، والخالعين ربقة طاعته، فالله يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلّين تارة، ومحرّمين أخرى «1» .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. أي وإن الله ليفصل بين الفريقين فيما اختلفوا فيه، ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.
والظاهر لدي هو التأويل الأول، قال مجاهد في قوله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ..: اتبعوه وتركوا الجمعة. والمراد بقوله: اخْتَلَفُوا فِيهِ يوم الجمعة، اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى.
وظل اليهود متمسكين بتعظيم السبت حتى بعث الله عيسى ابن مريم فيقال:
إنه حوّلهم إلى يوم الأحد. ويقال: إنه ظل معظما السبت، ولكن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد، مخالفة لليهود، كما تحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- إن وصف إبراهيم عليه السلام بتسع صفات عالية وشريفة، يقتضي الاقتداء به، والقصد من ذلك دعوة مشركي العرب إلى ملة إبراهيم الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع الإلهية إذ كان إبراهيم أباهم الذي يفتخرون به، ويعترفون بحسن طريقته، ويقرون بوجوب الاقتداء به، وهو باني البيت الذي به عزهم.
2- أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم في عقائد الشرع وأصوله من الدعوة إلى
__________
(1) تفسير الكشاف: 2/ 221(14/265)
توحيد الله والتحلي بفضائل الأخلاق، لا اتباعه في الفروع لقوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] .
3- الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم، فقال: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 90] وقال هنا: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ.
4- لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه تعظيم السبت، وإنما كان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال، وترك التبسط في المعاش، بسبب اختلافهم فيه.
5- إن الله تعالى لم يعين يوما للتفرغ فيه للعبادة، وإنما أمر بتعظيم يوم في الأسبوع، فعينت اليهود السبت لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق، فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعيّن الله لهذه الأمة يوم الجمعة، من غير تفويض إلى اجتهادهم، فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثبت في الصحيحين، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد» .
ولفظ مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضي بينهم يوم القيامة» .(14/266)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
6- إن المقصود من آية السبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف فيه، فيشدّد عليهم كما شدّد على اليهود.
أسس الدعوة إلى الدين وجعل العقاب بالمثل والصبر على المصاب
[سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
الإعراب:
فِي ضَيْقٍ قرئ بفتح الضاد وكسرها، والضّيق بالفتح: المصدر، والضّيق بالكسر:
الاسم.
المفردات اللغوية:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ادع يا محمد الناس إلى دين الله بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المواعظ والعبر النافعة والقول الرقيق. قال البيضاوي: والأولى- أي الحكمة- لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق، والثانية- أي الموعظة- لدعوة عوامهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار أيسر الوجوه وأقوم الأدلة وأشهر المقدمات، فإن ذلك أنفع في تسكين ثورتهم وتبيين شغبهم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. أي إنما عليك البلاغ والدعوة، وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما، فليس إليك، بل الله عالم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي لهم.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ فيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني، وليس له أن يجاوزه، وفيه أيضا الحث على العفو تعريضا بقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ وتصريحا على الوجه الآكد بقوله: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لهو، أي الصبر خير كله من الانتقام.
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي واصبر يا محمد وما صبرك إلا بتوفيق الله، وتثبيته، وهذا(14/267)
تصريح بالأمر به لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه أولى الناس به، لزيادة علمه بالله، ووثوقه عليه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين إن لم يؤمنوا، لحرصك على إيمانهم، أو على المؤمنين وما فعل بهم يوم أحد وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ لا تك في ضيق صدر من مكرهم، أي لا تهتم بمكرهم، فأنا ناصرك عليهم مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم من طاعة وصبر، بالعون والنصر، والولاية والفضل.
سبب النزول: نزول الآية (126) :
وَإِنْ عاقَبْتُمْ:
أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والبزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة، حين استشهد، وقد مثّل به فقال: لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف، بخواتيم سورة النحل:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة، فكفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمسك عما أراد.
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي بن كعب قال: لما كان أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، ومنهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم، فما كان فتح مكة، أنزل الله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ الآية. قال السيوطي: وظاهر هذا تأخير نزولها- أي السورة- إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد، وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولا بمكة، ثم ثانيا بأحد، وثالثا يوم الفتح، تذكيرا من الله لعباده.
والخلاصة: إن هذه الآية مدنية في رأي جمهور المفسرين، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السّير.(14/268)
فضيلة هذه الآيات:
قيل لهرم بن حبّان حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية من المال، ولا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ...
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع إبراهيم عليه السلام، بيّن الشيء الذي أمره بمتابعته، وهو دعوة الناس إلى الدين بأحد طرق ثلاث: وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن. والدعوة إلى دين الله وشرعه تكون بتلطف، وهو أن يسمع المدعو الحكمة: وهو الكلام الصواب القريب، الواقع من النفس أجمل موقع.
فالآية متصلة بما قبلها اتصالا حسنا، لتدرج الآيات من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله.
ثم أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف، وجعل القصاص بالمثل، ثم صرح تعالى بالأمر بالصبر على المشاق والمصائب، والصبر بتوفيق الله ومعونته، هو مفتاح الفرج.
التفسير والبيان:
الدعوة إلى دين الله وتوحيده أو الاعلام بها أمر ضروري للعلم بها، لذا كانت هي المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام، فأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الناس إلى الله بالحكمة قائلا: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ.. أي ادع أيها الرسول الناس إلى شريعة ربك، وهي الإسلام بالحكمة، أي بالقول المحكم، والموعظة الحسنة، أي بالعبر والزواجر التي تؤثر بها في قلوبهم، ذكّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى.
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من(14/269)
غيرها، ومن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، واصفح عمن أساء في القول، وترفّق بهم في الخطاب، وقابل السوء بالحسنى، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت، وسب الخصم أو الأذى، كما قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية [العنكبوت 29/ 46] .
فهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بلين الجانب ولطف الخطاب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] فعلى كل داعية امتثال هذا الأمر الإلهي في دعوته.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي قد علم الله الشقيّ منهم والسعيد، ومن حاد عن منهج الحق، ومن اهتدى إليه، وهو مجازيهم على ضلالهم واهتدائهم حين لقاء ربهم، فله الجزاء، لا إليك يا محمد ولا إلى غيرك، وليس عليك هداهم، إنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب، كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] وقال:
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] . والآية مشتملة على وعد ووعيد.
ومن رفق النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة
ما رواه أبو أمامة: أن غلاما شابا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قربوه إذن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أتحبه لأمك؟
قال: لا، جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبّه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبّه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبّونه لأخواتهم.(14/270)
فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه.
وبعد أن أمر سبحانه وتعالى بالرفق في الدعوة والخطاب، أمر بالعدل والإنصاف في العقاب، والمماثلة في استيفاء الحق إذ قد تكون الدعوة سببا في إغاظة الآخرين، وإقدامهم على القتل أو الضرب أو الشتم، فقال سبحانه:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ...
أي وإن عاقبتم المسيء أيها المؤمنون، فعاقبوه بمثل جرمه، بلا زيادة ولا تجاوز للحدود. وإن أخذ رجل منكم شيئا، فخذوا مثله، فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به.
وقوله: عُوقِبْتُمْ بِهِ إنما سماه الله عقابا على سبيل المشاكلة لأن أصل العقاب المجازاة على الفعل، فالفعل في ابتداء الأمر ليس عقابا.
ثم دعا تعالى إلى الترفع عن العقاب والتسامي عن المقابلة والجزاء بالمثل، فقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
أي ولئن صبرتم عن المقابلة بالمثل، وتجاوزتم عن الإساءة، وصفحتم، واحتسبتم الثواب والأجر على ما نالكم من ظلم، فالله يتولى عقابه، والصبر خير للصابرين من الانتقام لأن انتقام الله أشد. فقوله لَهُوَ يعود الضمير إلى المصدر في قوله: صَبَرْتُمْ. والمراد بالمصدر: إما الجنس أي جنس الصبر خير، وإما صبركم، أي لصبركم خير لكم، فوضع لِلصَّابِرِينَ موضع لكم ثناء عليهم.
ثم أمر الله نبيه صراحة بالصبر بصفة عامة بعد أن ذكر حسن عاقبته، فقال: وَاصْبِرْ، وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي واصبر على ما أصابك من أذى في(14/271)
سبيل الدعوة، وما صبرك إلا بعون الله وحسن توفيقه ومشيئته، أي لما كان الصبر شاقا، ذكر ما يعين عليه، فالجأ إلى الله في طلب الصبر، والتثبيت في الأمر.
وقوله: وَاصْبِرْ.. تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته. وهو تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما ناله من أذى قومه، وتثبيت له.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي ولا تجزع على إعراض المشركين وكل من خالفك، فإن الله قدّر ذلك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فترك الحزن مما يستعان به على الصبر.
وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي لا تكن في غم وضيق صدر من مكرهم وتدبيرهم الكيد لك، وإجهاد أنفسهم في عداوتك، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك، كما قال تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف 7/ 2] وقال: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ، أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود 11/ 12] .
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا.. أي إن الله مع المتقين الذين تركوا محارمه، المجتنبين معاصيه بالنصر والمعونة والتأييد، ومع المحسنين أعمالهم برعاية الفرائض، والتزام الطاعة، وأداء الحقوق. والصبر: من التقوى والإحسان.
فقوله: الَّذِينَ اتَّقَوْا أي تركوا محارمه، وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي فعلوا الطاعات.
وهذه معيّة خاصة، يراد بها الإعانة والتأييد والهداية، كقوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال 8/ 12] وقوله لموسى وهرون: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى
[طه 20/ 46] وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للصديق، وهما في الغار: لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة 9/ 40] .(14/272)
وهناك معيّة عامة بالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد 57/ 4] وقوله: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة 58/ 7] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
1- على من يدعو الناس إلى دين الله اتباع أحد هذه الطرق الثلاث: وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن.
وعلى الداعية أيضا أن يكون شجاعا في الحق، فلا يهن، صارما في الصدق، فلا يضعف، مخلصا متفانيا في مبدئه، فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الناس. وأن يصبر في دعوته جاءت قريش إلى أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما شاء من مال، ويترك ما يدعو إليه، فذكر أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك،
فبكى وقال:
«يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه» .
2- لا يتعلق حصول الهداية بالداعية، فهو تعالى أعلم بالضالين، وأعلم بالمهتدين.
3- العقاب يكون بالمثل دون زيادة، فالمظلوم منهي عن استيفاء الزيادة من الظالم.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في أخذ مال، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، محتجين بهذه الآية وعموم لفظها: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.(14/273)
وقال مالك وجماعة معه: لا يجوز له ذلك
لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الدارقطني- «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكّن الآخر من زوجة الثاني، بأن تركها عنده وسافر فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأمر، فقال له: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .
4- دلت آية: بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب.
5- سمّى الله تعالى الأذى في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك من طريق المشاكلة، ليستوي اللفظان، وتتجانس ديباجة القول، فالأول مجاز والثاني حقيقة.
هذا بعكس قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران 3/ 54] وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة 2/ 15] فإن الفعل الثاني أي من الله هو المجاز هنا، والأول هو الحقيقة، كما قال ابن عطية.
6- التحلي بالصبر فضيلة أمر الله بها. قال ابن زيد عن آية: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ: هي منسوخة بآية القتال. ولكن جمهور الناس على أنها محكمة، أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عوقبوا به من المثلة.
7- إن الله نصير المتقين الذين تركوا الفواحش والمعاصي ومؤيدهم ومعينهم، وهو أيضا نصير المحسنين الذين فعلوا الطاعات.
تم هذا الجزء ولله الحمد(14/274)
[الجزء الخامس عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الإسراء
مكية، وهي مائة وإحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الإسراء لافتتاحها بمعجزة الإسراء للنبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليلا، كما سميت أيضا سورة بني إسرائيل، لإيرادها قصة تشردهم في الأرض مرتين بسبب فسادهم: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [4- 8] .
فضلها:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزّمر» .
وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود «أنه قال في بني إسرائيل- أي هذه السورة- والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن من العتاق الأوّل، وهن من تلادي»
أي فهي مشتركة في قدم النزول، وكونها مكيات، واشتمالها على القصص.
مناسبتها لما قبلها:
يظهر وجه ارتباطها بسورة النحل من عدة نواح:
1- إنه تعالى بعد أن قال في آخر سورة النحل: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى(15/5)
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم، وذكر جميع ما شرعه لهم في التوراة،
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل» .
2- بعد أن أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين في ختام سورة النحل بنسبته إلى الكذب والسحر والشعر، سلّاه هنا، وأبان شرفه وسمو منزلته عند ربه بالإسراء، وافتتح السورة بذكره تشريفا له، وتعظيما للمسجد الأقصى الذي أشير إلى قصة تخريبه.
3- في السورتين بيان نعم الله الكثيرة على الإنسان، حتى سميت سورة النحل «سورة النعم» وفصلت هنا أنواع النعم العامة والخاصة، كما في الآيات [9- 12] و [70] .
4- في سورة النحل أبان تعالى أن القرآن العظيم من عنده، لا من عند بشر، وفي هذه السورة ذكر الهدف الجوهري من ذلك القرآن.
5- في سورة النحل ذكر تعالى قواعد الاستفادة من المخلوقات الأرضية، وفي هذه السورة ذكر قواعد الحياة الاجتماعية من بر الأبوين، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم من غير تقتير ولا إسراف، وتحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، وإبطال التقليد من غير علم.
ما اشتملت عليه السورة:
1- تضمنت السورة الإخبار عن حدث عظيم ومعجزة لخاتم الأنبياء والمرسلين وهي معجزة الإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل، والتي هي دليل باهر على قدرة الله عز وجل، وتكريم إلهي لهذا النبي صلّى الله عليه وسلم.
2- وأخبرت عن قصة بني إسرائيل في حالي الصلاح والفساد، بإعزازهم حال(15/6)
الاستقامة وإمدادهم بالأموال والبنين، وتشردهم في الأرض مرتين بسبب عصيانهم وإفسادهم، وتخريب مسجدهم. ثم عودهم إلى الإفساد باستفزازهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وإرادتهم إخراجه من المدينة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [76] .
3- وأبانت بعض الأدلة الكونية على قدرة الله وعظمته ووحدانيته، مثل آية وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. [12] .
4- وضعت هذه السورة أصول الحياة الاجتماعية القائمة على التحلي بالأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة، وذلك في الآيات: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... [23- 39] .
5- نددت السورة بنسبة المشركين البنات إلى الله زاعمين أن البنات من الملائكة: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [40] ثم أنكرت عليهم وجود آلهة مع الله [41- 44] ثم فندت مزاعمهم بإنكار البعث والنشور [49- 52] [98- 99] وحذرت النبي صلّى الله عليه وسلم من موافقته المشركين في بعض معتقداتهم [73- 76] .
6- أوضحت السورة سبب عدم إنزال الأدلة الحسية الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم [الآية 59] ، ومدى تعنت المشركين في إنزال آيات اقترحوها غير القرآن من تفجير الأنهار، وجعل مكة حدائق وبساتين، وإسقاط قطع من السماء، والإتيان بوفود الملائكة، وإيجاد بيت من ذهب، والصعود في السماء [الآيات 89- 97] .
7- أنبأت السورة عن قدسية مهمة القرآن وسمو غاياته: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [9] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله [88] مما يدل على إعجازه.(15/7)
8- أعلنت السورة مبدأ تكريم الإنسان بأمر الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس [61- 65] وتكريم بني آدم ورزقهم من الطيبات [70] .
9- عددت أنواعا جليلة من نعم الله على عباده: [12- 17] ثم لوم الإنسان على عدم الشكر: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ.. [83] ومن أخص النعم: هبة الروح والحياة [85] .
10- عقدت مقارنة بين من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [18- 21] .
11- ذكرت أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة والتهجد في الليل [78- 79] ودخوله المدينة وخروجه من مكة [80] .
12- أشارت إلى جزء من قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل [101- 104] .
13- أبانت حكمة نزول القرآن منجمّا (مفرقا بحسب الوقائع والحوادث والمناسبات) [105- 106] .
14- ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد، والناصر والمعين، واتصاف الله بالأسماء الحسنى التي أرشدنا إلى الدعاء بها [110- 111] .
والخلاصة: إن السورة اهتمت بترسيخ أصول العقيدة والدين كسائر السور المكية، من إثبات التوحيد، والرسالة والبعث، وإبراز شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتأييده بالمعجزات الكافية للدلالة على صدقه، وتفنيد شبهات كثيرة للمشركين.(15/8)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
الإسراء وإنزال التوراة على موسى
[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
الإعراب:
سُبْحانَ منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحان، ثم نزل سُبْحانَ منزلة الفعل، فسدّ مسدّه.
لَيْلًا منصوب على الظرف.
أَلَّا تَتَّخِذُوا أي قلنا لهم: لا تتخذوا، وحذف القول كثير في كلامهم، وتكون «أن» على هذا زائدة، ويجوز أن تجعل «أن» بمعنى «أي» فيكون تقديره: وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا، أي لا تتخذوا، فيكون أَلَّا تَتَّخِذُوا تفسيرا لهدى. ولا يمتنع أن يكون التقدير:
وجعلناه هدى لبني إسرائيل بألا تتخذوا. وقرئ بالياء، ويكون المعنى: جعلناه لهم هدى، لئلا يتخذوا وكيلا من دوني.
ذُرِّيَّةَ بالنصب إما بدل من وَكِيلًا أو منصوب على النداء، أو منصوب على أنه مفعول أول لتتخذوا، ووَكِيلًا: المفعول الثاني، أو منصوب بتقدير: أعني، أو على الاختصاص. ومن قرأ بالرفع فهو بدل من واو أَلَّا تَتَّخِذُوا.
البلاغة:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى براعة استهلال لأنه لما كان الإسراء أمرا خارقا للعادة، بدأ السورة بما يشير إلى كمال القدرة وتنزهه تعالى عن صفات النقص.
بِعَبْدِهِ إضافة تشريف وتكريم.(15/9)
لِنُرِيَهُ فيه التفات عن الغيبة إلى التكلم، لتعظيم تلك البركات الدينية والدنيوية والآيات.
وَآتَيْنا مُوسَى التفات أيضا عن الغيبة إلى الحضور.
المفردات اللغوية:
سُبْحانَ اسم علم كعثمان للرجل بمعنى التسبيح (المصدر) الذي هو التنزيه عن كل صفات العجز والنقص، مما لا يليق بجلال الله وكماله أَسْرى وسرى: سار بالليل خاصة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، وحكمة الإسراء لبيت المقدس: أنه مجمع أرواح الأنبياء، وموطن نزول الوحي على الرسل والأنبياء، فشرفه الله بزيارته، وصلى بالأنبياء إماما. بِعَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلم، والعبد يشمل الروح والجسد معا، وقد وصفه الله هنا بالعبودية لأنه أشرف المقامات، كما وصفه في مقام الوحي بالوصف نفسه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم 53/ 10] وكذلك وصفه بالوصف ذاته في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن 72/ 19] .
لَيْلًا فائدة ذكره: الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي مسجد مكة بعينه لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق» .
أو المراد به الحرم المكي كله أي مكة، وسماه المسجد الحرام لأن كله مسجد، لما
روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ، بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة عليها، وقال: «مثل لي النبيون، فصليت بهم» .
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيت المقدس، ووصف بالأقصى، لبعده بالنظر لمن هو في الحجاز الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي، ومتعبد الأنبياء من لدن موسى عليه السلام، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا عجائب قدرتنا، كذهابه في برهة من الليل، مسيرة شهر، ومشاهدته بيت المقدس، وتمثل الأنبياء عليهم السلام له، ووقوفه على مقاماتهم السَّمِيعُ لأقوال النبي صلّى الله عليه وسلم الْبَصِيرُ بأفعاله، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك، فاجتمع بالأنبياء، وعرج إلى السماء، ورأى عجائب الملكوت، وناجى ربه تعالى.
وقال ابن عطية: هذا وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلم في أمر الإسراء، أي هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة أَلَّا تَتَّخِذُوا أي لئلا تتخذوا، أو بألا تتخذوا، أو على ألا تتخذوا، ومن قرأ بالياء فهو بمعنى: لئلا يتخذوا وَكِيلًا ربا أو كفيلا يفوضون إليه أمرهم، دون غيره مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر، يحمد الله تعالى في جميع أحواله.(15/10)
سبب نزول آية الإسراء:
ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذيبهم له، فأنزل الله ذلك تصديقا له.
فبعد أن عاد النبي صلّى الله عليه وسلم من الإسراء والمعراج، خرج إلى المسجد الحرام، وأخبر به قريشا، فتعجبوا منه لاستحالة ذلك في نظرهم، وارتد ناس ممن آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: إن كان قال، لقد صدق، فقالوا: تصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي «الصديق» . واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس، فجلّي له، فطفق ينظر إليه، وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق «1» ، فخرجوا ينشدون العير إلى الثنية، فصادفوا العير، كما أخبر، ثم لم يؤمنوا، وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين.
رأي العلماء في الحادث:
الأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجبت قريش واستحالوه.
قال أبو حيان: والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه، ولذلك كذبت قريش، وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانئ قالت: لا تحدّث الناس بها، فيكذبوك، ولو كان مناما، ما استنكر ذلك، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة «2» .
__________
(1) الجمل الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحما، وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره.
(2) البحر المحيط: 6/ 5.(15/11)
وما روي عن عائشة ومعاوية: أنه كان مناما فلم تثبت صحته، ولو صح لم يكن في قولهما حجة لأنهما لم يشاهدا الحادث، لصغر عائشة، وكفر معاوية إذ ذاك، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا حدثا به عنه.
ومناسبة آية وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لما قبلها: أنه لما ذكر تشريف النبي صلّى الله عليه وسلم وإكرامه بالإسراء، وإراءته الآيات، ذكر تشريف موسى وإكرامه بإيتائه التوراة من قبله.
التفسير والبيان:
أنزّه الله تنزيها من كل سوء، الذي أسرى بعبده محمد صلّى الله عليه وسلم في جزء من الليل، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، وعاد إلى بلده في ليلته، وأبرئه تبرئة تامة عن كل صفات العجز والنقص وعما يقوله المشركون من وجود شريك أو ولد له، وأثبت له القدرة الكاملة الفائقة، فهو القادر على تحقيق ما هو أغرب من الخيال والتصور، فلا غرابة إن أسرى بعبده تلك المسافة البعيدة في جزء من الزمن غير طويل، تشريفا لنبيه، ورفعا لقدره وإعلاء لمجده، ليكون معجزة دائمة له مع مرور الزمان.
والمراد بِعَبْدِهِ بإجماع المفسرين محمد عليه الصلاة والسلام، وأتى بقوله لَيْلًا بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل لأن التنكير يدل على معنى البعضية، والمسافة من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة بحسب وسائط النقل القديمة، وذلك قبل الهجرة بسنة، كما قال مقاتل «1» ، وذكر الحربي: أنه أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة.
__________
(1) وهو قول الزهري وعروة، فيكون الإسراء في شهر ربيع الأول. وأورد الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته حديثا لا يصح سنده أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب (البداية والنهاية لابن كثير: 3/ 108- 109) .(15/12)
وروى ابن سعد في طبقاته أن الإسراء كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا.
والمكان الذي أسري به منه: هو المسجد الحرام بعينه، كما يدل عليه ظاهر لفظ القرآن،
وما روي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق» .
وقال الأكثرون: المراد بالمسجد الحرام: الحرم لإحاطته بالمسجد، والحرم كله مسجد، كما قال ابن عباس، وقد أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب سنة 621 م.
والمسجد الأقصى بالاتفاق: هو بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة.
والأكثرون من المسلمين اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. وفي رأي ضعيف: أنه ما أسري إلا بروحه، وذلك محكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية. والأصح هو الرأي الأول وأنه تعالى أسرى بروح محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وجسده، من مكة إلى بيت المقدس، لأن كلمة العبد في قوله: بِعَبْدِهِ اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح، ولأن الخبر المروي عن أنس بن مالك وهو الحديث المشهور المروي في الصحاح عن المعراج والإسراء يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات العلا.
والخلاصة: أن الآية هنا دالة قطعا على إثبات الإسراء، وآية سورة النجم دالة على المعراج: وهو العروج والصعود إلى السموات، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، بعد وصوله إلى بيت المقدس.
وقد وصف الله المسجد الأقصى بأنه مبارك ما حوله، والبركة تشمل بركات(15/13)
الدين والدنيا، أما الأولى فهو أنه مهبط الأنبياء، وأما الثانية فهو إحاطته بخيرات الدنيا، لما اشتمل عليه من أنهار وأشجار وأثمار تكون سببا في توفير المعايش والأقوات.
والهدف من الإسراء: أن يري الله عبده آياته الكبرى، وأدلته العظمى على وجوده ووحدانيته وعظم قدرته، فكانت فائدة الإسراء مختصة بالله تعالى وعائدة إليه على سبيل التعيين.
ولا عجب في ذلك كله، فالله سبحانه هو السميع لكل قول، البصير بكل نفس، الذي يضع الأمور في مواضعها على وفق الحكمة، وبمقتضى الحق والعدل.
ومن ذلك: سماعه أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه، واستهزاؤهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم في إسرائه من مكة إلى القدس. وبصره بما يفعل أولئك المشركون، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته «1» .
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ.. بعد أن ذكر الله إكرام محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من نسل إسماعيل بالإسراء وإمامة الأنبياء في المسجد الأقصى، ذكر في هذه الآية إكرام موسى عليه السلام قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالكتاب الذي آتاه وأعطاه إياه، وهو التوراة، الذي جعله الله هدى وهداية، ليخرج بني إسرائيل بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق، وقلنا: لا تتخذوا من دوني وكيلا، أي لا تتخذوا من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم، فقوله:
وَكِيلًا معناه: ربا تكلون إليه أموركم.
__________
(1) يلاحظ أن الاية انتقل فيها من الغيبية إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبية، فقوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ في ذكر الله على سبيل الغيبة، وقوله: بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا انتقال إلى الحضور، وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على الغيبة.
ثم انتقل إلى الحضور بقوله: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يدل على الحضور أي الخطاب. وهذا يسمى الالتفات.(15/14)
وبين الإسراء بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس، وإيتاء موسى التوراة بمسيره إلى الطور تناسب واضح.
ثم أبان الله تعالى تشريفه لبني إسرائيل وإتمام نعمته عليهم، لحملهم على اتباع الرسل، فقال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ.. أي يا ذرية أو نسل وحفدة أولئك الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير، تشبّهوا بأصولكم، فأنتم أولى الناس بالتوحيد واتباع سيرة الأنبياء والمرسلين، وفي مقدمتهم أبوكم نوح عليه السلام الذي كان عبدا مبالغا في الشكر لنعم الله وعرفان قدره وعظمته، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله، فاقتفوا أثره، واتبعوا منهجه وسنته، واقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به.
ووصف نوح بكونه عَبْداً ووصف نبينا محمد بأنه «عبد» دليل واضح على مرتبة الأنبياء، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لا يصح وصفها بغير حقيقتها، ولا وضع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي وهو كونه عبدا لله، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه، خلافا لما وصفت به النصارى المسيح، ووضعوه في غير موضعه الصحيح.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- ثبوت حادثة الإسراء بنص القرآن الكريم بدلالة قطعية، وثبت الإسراء أيضا في جميع مصنفات الحديث، وروي عن عشرين صحابيا، فهو من المتواتر.
روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أتيت بالبراق- وهو دابة، أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل،(15/15)
يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء..»
الحديث.
وروى مسلم أيضا حديثا آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى بالأنبياء عليهم السلام وفيه: «.. فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، فسلّم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام» .
2- كان الإسراء بالروح والجسد يقظة راكبا البراق، لا في الرؤيا والمنام، بدليل نص الآية بِعَبْدِهِ وهو مجموع الروح والجسد، ولو كان مناما لقال:
«بروح عبده» ولم يقل: بِعَبْدِهِ، وقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم 53/ 17] يدل على ذلك، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبته قريش فيما أخبر به، حتى ارتدّ أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر «1» .
وأما المعراج أو العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش، فلا تدل هذه الآية عليه، وإنما تدل عليه أوائل سورة النجم «2» .
والخلاصة: إن تلك الرؤيا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كانت رؤيا عيان، لا رؤيا منام.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 208- 209.
(2) تفسير الرازي: 20/ 153.(15/16)
وتاريخ الإسراء مختلف فيه، والظاهر أنه كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة.
ولا خلاف بين العلماء وأهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وذلك منصوص عليه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما «1» . وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» .
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» .
3- إن المقصود من الإسراء والمعراج أن يري الله نبيه الآيات العظمى الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته، ومن تلك الآيات: الجنة والنار وأحوال السموات والكرسي والعرش، فيصبح العالم في عينه حقيرا أمام عظمة الكون، وتقوى نفسه على احتمال المكاره والجهاد في سبيل الله. ومن تلك الآيات التي أراه الله العجائب التي أخبر بها النبي الناس، وإسراؤه في ليلة، وعروجه إلى السماء، ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره.
كما أن في الإسراء من مكة إلى بيت المقدس الإشارة إلى وحدة الأنبياء في الرسالة والهدف والتوجه إلى الله تعالى وحده، وإن اختلفت القبلتان، وتمايزت الشرائع، وتمادى الزمان في فترات إرسال الأنبياء عليهم السلام، فهم من أولهم آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم دعاة إلى توحيد الله وعبادته وإلى إصلاح
__________
(1) جامع الأصول: 6/ 131.(15/17)
الإنسان والمجتمع، وإسعاد الفرد والجماعة، وتصحيح مسيرة الناس قاطبة على أساس من الحق والعدل والاستقامة والأخلاق السوية.
4- كرّم الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم بالإسراء والمعراج، وكرم موسى عليه السلام بالكتاب وهو التوراة الذي جعله الله هدى وهداية لبني إسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان بالله تعالى وحده، وتحريم اتخاذ ربّ سواه يتوكلون عليه في أمورهم. والوكيل: من يوكل إليه الأمر.
5- ثم نادى الله سبحانه البشرية قاطبة بأن ينضموا جميعا تحت راية واحدة هي راية الإيمان بالله تعالى وحده، قائلا: يا ذرية من حملنا مع نوح، وهم جميع من على الأرض، ومنهم موسى وقومه من بني إسرائيل: لا تشركوا مع الله إلها آخر.
وذكر الله تعالى نوحا لتذكير البشرية بنعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم..
ومقصود الآية: إنكم أيها البشر من ذرية نوح، وقد كان عبدا شكورا موحدا الله تعالى، مقرا بآلائه ونعمه عليه، ولا يرى الخير إلا من عنده، فأنتم أحق بالاقتداء به، دون آبائكم الجهال.
ويمكن مما ذكر تلخيص العظات والحقائق التالية:
أولا- أدى حادث الإسراء والمعراج في ليلة واحدة إلى تمحيص المؤمنين، وتبيان صادق الإيمان، ومريض القلب منهم.
ثانيا- كان اطلاع الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم على آيات الكون الأرضية والسماوية ذات العجائب درسا واقعيا لتعليم الرسول بالمشاهدة والنظر، ومن المعلوم أن التعليم المحسوس أوقع في النفس، وأرسخ في الذهن.
ثالثا- إن بشرية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم واحتياجه إلى الهواء في طبقات الجو والسموات(15/18)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
العليا والملأ الأعلى لم تمنع من إتمام تلك الرحلة، لأن قدرة الله تعالى كفيلة بتوفير حاجياته ومتطلباته، كما يزود الآن رواد الفضاء بالأكسجين.
وإن في غزو الفضاء الآن لدليلا مؤكدا على صحة الإسراء والمعراج، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم هو أول رواد الفضاء، وأنه تجاوز أسرع ما توصلت إليه محطات الفضاء.
رابعا- إن جمع الأنبياء في المسجد الأقصى وإمامة نبينا بهم دليل واضح على وحدة رسالاتهم وختمها برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وبلورتها وانصبابها في شريعته التي ختمت الشرائع السالفة.
أحوال بني إسرائيل في التاريخ
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
الإعراب:
خِلالَ الدِّيارِ ظرف مكان منصوب، وعامله فَجاسُوا وقرئ: جاسوا وداسوا وهما بمعنى واحد، وحاسوا.(15/19)
وَعْدُ الْآخِرَةِ أي المرة الآخرة، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه.
وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا كَما: مصدرية ظرفية زمانية، أي وليتبّروا مدّة علوهم، فحذف المضاف، كقولك: أتيتك مقدم الحاج، أي زمن مقدم الحاج، فحذف المضاف.
البلاغة:
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا جناس اشتقاق.
أَحْسَنْتُمْ أَسَأْتُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَقَضَيْنا أعلمناهم وأخبرناهم بذلك من طريق الوحي. فِي الْكِتابِ التوراة.
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ أرض الشّام بالمعاصي، وهو جواب قسم محذوف. مَرَّتَيْنِ من الإفساد، أولاهما- مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعيا، وثانيتهما- قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى.
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرنّ عن طاعة الله تعالى، وتبغون بغيا عظيما، وتظلمون الناس.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أولى مرّتي الفساد، ووعد عقاب أولاهما. بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة في الحرب والبطش، وهم بختنصّر وجنوده، وقيل: جالوت الخزري، وقيل: سنحاريب ملك بابل وجنوده. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ تردّدوا وسط دياركم لطلبكم وقتلكم وسببكم، فقتلوا الكبار، وسبوا الصغار، وأحرقوا التوراة، وخرّبوا المسجد الأقصى وبيت المقدس. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا وكان وعد عقابكم نافذا، لا بدّ منه.
الْكَرَّةَ الدّولة والغلبة. عَلَيْهِمْ بعد مائة سنة بقتل جالوت. نَفِيراً عشيرة.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ بالطاعة. أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها. وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد.
فَلَها إساءتكم، ووبالها عليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي جاء وعد المرة الآخرة.
لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أي ليجعلوها بادية آثار السوء فيها، بأن يحزنوكم بالقتل والسّبي حزنا يظهر في وجوهكم وحذف بعثناهم لدلالة ما ذكر أولا عليه. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس فيخربوه، وهو متعلّق بمحذوف هو: بعثناهم. كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ كما خربوه أول مرة. وَلِيُتَبِّرُوا يهلكوا. ما عَلَوْا ما غلبوا عليه أو استولوا عليه من بلادكم، أو مدة علوهم. تَتْبِيراً هلاكا، وذلك بأن سلّط الله عليهم الفرس، مرة أخرى، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف، اسمه: جوذرز أو خردوس، وقتل منهم ألوفا، وسبى ذريّتهم، وخرّب بيت المقدس.
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي وقلنا في الكتاب: عسى ربّكم، بعد المرة الثانية، إن تبتم.(15/20)
وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد. عُدْنا إلى العقوبة، وقد عادوا بتكذيب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فسلّط عليهم بقتل قريظة، ونفي بني النضير، وفرض الجزية عليهم. حَصِيراً محبسا وسجنا، لا يقدرون على الخروج منها أبدا، وقيل: بساطا، كما يبسط الحصير.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، لتكون لهم هدى يهتدون بها، ذكر أنهم ما اتبعوا هداها، بل أفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء وسفك الدّماء، فسلّط الله عليهم البابليين بقيادة بختنصّر، فقتلوهم ونهبوا أموالهم، وخربوا بيت المقدس، وسبوا أولادهم ونساءهم، وذلك أول الفسادين وعقابه.
ثم لما تابوا، أعاد الله لهم الدولة والغلبة، وأمدّهم بالأموال والبنين، ثم عادوا إلى فسادهم وعصيانهم، فقتلوا زكريا ويحيى عليهما السّلام، فسلّط الله عليهم الفرس، فقتلوهم، وسلبوهم، وخربوا بيت المقدس مرة أخرى، ثم وعدهم الله بالنصر إن أطاعوا، وبالعقاب بنار جهنم إن عصوا وأفسدوا.
التفسير والبيان:
هذه الآيات بيان لتأريخ بني إسرائيل وإخبار عما يرتكبون من وقائع وأحداث دامغة، ومفاسد عظيمة، والمعنى: وأعلمنا بني إسرائيل وأخبرناهم وأوحينا إليهم وحيا مقضيّا مقطوعا بحصوله فيما أنزلناه في التوراة على موسى أنهم سيفسدون في الأرض: أرض الشام وبيت المقدس أو أرض مصر، أو في كلّ أرض يحلّون فيها مرتين، ويعصون الله، ويخالفون شرع ربّهم في التوراة مخالفتين لا مخالفة واحدة، وهما:
الأولى- مخالفة التوراة وتغييرها، وقتل بعض الأنبياء، مثل شعيا عليه السّلام، وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله تعالى.(15/21)
والثانية- قتل زكريا ويحيى ومحاولة قتل عيسى عليهم السّلام.
ثم إنهم يتجبّرون ويطغون ويفجرون ويستعلون على الناس بغير الحق استعلاء عظيما، ويظلمونهم ظلما شديدا، فقوله تعالى: عُلُوًّا كَبِيراً أراد به التّكبر والبغي والطغيان.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما.. أي فإذا حان موعد أولى المرتين من الإفساد، وجاء وعد الفساق ووقت العقاب الموعود به على المرة الأولى، سلّطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد، أي قوة وشدّة وأصحاب عدّة في الحروب وعدد، وهم أهل بابل بقيادة بختنصّر، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه، كما قال ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: هم جند من فارس، والظاهر الرأي الأول، والمهم العبرة والعظة من تسلّط فئة على فئة باغية، ولا يهم بيان الأشخاص والجماعات.
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ..، أي أوغلوا في البلاد وتملكوها، وتردّدوا فيها وفي أوساطها ذهابا وإيابا، لا يخافون أحدا، يقتلون ويسلبون وينهبون، ويقتلون العلماء والكبراء، وكان من آثارهم إحراق التوراة، وتخريب بيت المقدس، وسبي عدد كثير من بني إسرائيل، وكان ذلك وعدا منجزا نافذا، وقضاء كائنا لا خلف فيه، أو قضاء حتما جزما لا يقبل النقض والنسخ لأنهم تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.
وكان هذا الدّرس القاسي البليغ محقّقا الثّمرة والغاية، فاتّعظ بنو إسرائيل مما حدث، وثابوا لرشدهم، وعدلوا عن غيّهم وضلالهم، وتمسّكوا بمبادئ كتابهم ودينهم، فكان ذلك مؤذنا بنصر جديد كما قال تعالى:
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.. أي ثم أعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم،(15/22)
ورددنا لكم القوة، وأهلكنا أعداءكم، وجعلناكم أكثر نفيرا، أي عددا من الرجال، وأمددناكم بالأموال والأولاد والسّلاح بفضل طاعة الله والاستقامة على أمره:
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران 3/ 140] ولذا قال تعالى:
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.. أي إن أحسنتم العمل، فأطعتم الله واتّبعتم أوامره واجتنبتم نواهيه، أو إن أحسنتم بفعل الطاعات، فقد أحسنتم إلى أنفسكم لأنكم بالطاعة تنفعونها، فيفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات، ويدفع عنكم أذى أهل السوء في الدّنيا، ويثيبكم في الآخرة، وإن أسأتم بفعل المحرّمات أسأتم إلى أنفسكم لأنكم بالمعصية تضرّونها، فبشؤم تلك المعاصي يعاقبكم الله بالعقوبات المختلفة، من تسليط الأعداء في الدّنيا، وإيقاع العذاب المهين في الآخرة. وقوله تعالى: فَلَها أي فعليها، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت 41/ 46] .
وهذه سنّة الله في خلقه، إن عصوا سلّط الله عليهم القتل والنّهب والسّبي، وإن تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد لهم الدولة، جَزاءً وِفاقاً [النبأ 78: 26] ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41: 46] .
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ... أي فإذا حان موعد المرة الأخيرة، وجاء وقت العقاب على الكرة الثانية من الإفساد والإقدام على قتل زكريا ويحيى عليهما السّلام، أرسلنا أعداءكم ليسوؤا وجوهكم، أي ليظهروا المساءة في وجوهكم بالإهانة والقهر، وليدخلوا المسجد، أي بيت المقدس قاهرين، كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة، وَلِيُتَبِّرُوا، أي يدمّروا ويخرّبوا، ما عَلَوْا، أي ظهروا عليه، تَتْبِيراً، أي تخريبا وهلاكا شديدا، فلا يبقون شيئا من آثار الحضارة والعمران، ويبيدون الأرض ومن عليها، ويهلكون الحرث والزرع والثمر، وقد سلّط الله عليهم في هذه المرة(15/23)
الفرس، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف المسمى بيردوس أو خردوس، كما ذكر البيضاوي.
والخلاصة: إن بختنصّر هو الذي أغار على بني إسرائيل أولا فخرّب بيت المقدس، وكان ذلك في زمن إرميا عليه السّلام، وهذا موافق لتأريخ اليهود، أما في المرة الثانية فإن المغير هو بيردوس ملك بابل، كما ذكر البيضاوي، وهو أسبيانوس، قيصر الروم كما ذكر اليهود في تاريخهم، وكان بين الإغارتين نحو من خمس مائة سنة.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل أمامهم مرة أخرى، فقال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي لعل ربّكم أن يرحمكم يا بني إسرائيل، ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم في المرة الثانية من تسليط الأعداء عليكم، إن تبتم وأقلعتم عن المعاصي، فيصرفهم عنكم، وقد وفى الله بوعده، فأعزّهم بعد الذّلة، وأعاد لهم الملك، وجعل منهم الأنبياء.
ثم أنذرهم الله بقوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، أي وإن عدتم إلى الإفساد والمعاصي في المرة الثالثة، عدنا إلى إذلالكم، وتسليط الأعداء عليكم وعقوبتكم بأشدّ مما مضى في الدّنيا، مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنّكال، ولهذا قال تعالى:
وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً، أي مستقرّا وسجنا لا محيد عنه، كما قال ابن عباس، وقال الحسن البصري: فراشا ومهادا وبساطا، كما قال تعالى:
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] ولأن العرب تسمّي البساط الصغير حصيرا.
والخلاصة: إن لبني إسرائيل بسبب عصيانهم ذلّ الدّنيا وعذاب جهنّم في الآخرة. وهذا عبرة لكلّ مخالف أوامر الله تعالى.(15/24)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يأتي:
1- صدق إخبار الله لبني إسرائيل أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي، لما علم الله منهم في علمه السابق الأزلي أنهم أرباب انحراف وفساد وتخريب، والمراد بالفساد: مخالفة أحكام التوراة.
2- تكرر العقاب مرتين والإنقاذ من العذاب والذّل مرتين أيضا فيه رحمة من الله بعباده لأن العقاب قد يكون سبيلا للإصلاح والتّربية والتّهذيب، ولأن التّغلّب على الأزمات والتّخلّص من المهانة والإذلال فيه تجديد للنّفس، وعون على فتح باب الأمل، وطرد اليأس من النّفوس.
وقد عوقب اليهود أولا على يد بختنصّر، وثانيا على يد ملك بابل:
بيردوس الفارسي، أو قيصر الروم لأنهم في المرة الأولى قتلوا إرميا أو شعيا نبي الله عليه السّلام وجرحوه وحبسوه، وفي المرة الثانية قتلوا يحيى وزكريا عليهما السّلام قتلهما هيردوس أو لاخت أحد ملوك بني إسرائيل، وعزموا على قتل عيسى عليه السّلام، وكان العقاب شديدا في الحالتين، ومن أهم صنوفه إحراق التوراة وهدم بيت المقدس.
وكانت النّجاة بإعادة العزّة والدّولة لبني إسرائيل كما كانت بالإمداد بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا ورجالا من عدوّهم لأنهم صاروا بعد الهزيمة الأولى أكثر التزاما للطاعة وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.
3- إن نفع الإحسان والاستقامة على الطاعة لله عائد للإنسان نفسه، وكذلك سوء الإساءة ومخالفة أوامر الله مردود للإنسان ذاته: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ(15/25)
ظُلْماً لِلْعِبادِ
[غافر 40/ 31] ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 108] .
4- تشير آية إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ إلى أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه لأنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ولو لم يكن جانب الرّحمة غالبا، لما فرق بين التعبيرين «1» .
أكّد تعالى ذلك بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فهو وعد من الله بكشف العذاب عنهم إن تابوا وأنابوا إليه.
5- إن عدل الله يقضي بأن من عاد إلى العصيان عاد الله إلى عقابه: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ومن عاد إلى التوبة والرّشد والهداية والاستقامة عادت رحمة الله إليه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ.
6- ليس عذاب العصاة مقصورا على الدّنيا بالإذلال والإهانة والقتل والنّهب والسّبي، وإنما هناك عذاب آخر ادّخره الله لهم في جهنّم، بإحاطة نارها بهم، وجعلها مقرّا ومحبسا وسجنا لهم، أو مهادا وفراشا وبساطا.
7- إن ذكر ما قضي إلى بني إسرائيل دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لمطابقة ما أخبر به القرآن الواقع الحادث.
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 158.(15/26)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
أهداف القرآن الكريم
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 11]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
الإعراب:
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ فيه حذف، أي ويدعو الإنسان بالشّر دعاء مثل دعائه بالخير، ثم حذف المصدر وصفته، وأقيم ما أضيفت الصفة إليه مقامه.
المفردات اللغوية:
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يهدي إلى الطريقة التي هي أعدل وأصوب. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ... عطفا على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أي يبشّر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم وعقاب أعدائهم، أو عطفا على يُبَشِّرُ بإضمار: ويخبر أن أَعْتَدْنا أعددنا. أَلِيماً مؤلما هو النار. وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي يدعو عند غضبه بالشّر على نفسه وأهله وماله. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه له. وَكانَ الْإِنْسانُ جنس الإنسان. عَجُولًا بالدعاء على نفسه، وعدم النّظر في عاقبته.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم وهو الإسراء وأكرم موسى عليه السّلام بالتوراة، وأنها هدى لبني إسرائيل، وما سلط عليهم بذنوبهم من عذاب الدّنيا والآخرة، مما يستدعي ردع العقلاء عن معاصي الله، ذكر ما شرّف الله به رسوله أيضا من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي، وأبان أهدافه من الهداية للطريقة أو الحالة التي هي أقوم، والتّبشير بالثواب العظيم لمن أطاعه، وإنذار الكافرين بالعذاب الأليم.(15/27)
التفسير والبيان:
لم لا تؤمنون بالقرآن يا بني إسرائيل، والقرآن كالتوراة أنزله الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو متّصف بثلاث صفات:
الصفة الأولى:
أنه يرشد للسبيل التي هي أقوم، فهو يهدي لأقوم الطرق وأوضح السّبل، وإلى الطريقة المثلى التي هي الدّين القيّم، والملّة الحنيفية السمحة التي تقوم على أساس التوحيد الخالص لله، وأنه الفرد الصمد، صاحب الملك، والعزّة والجبروت، المعزّ المذلّ الّذي يحيى ويميت، وتدعو إلى فضائل الأعمال، وإلى خيري الدّنيا والآخرة. فقوله تعالى: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ معناه: الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب.
الصفة الثانية:
أنه يبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا يوم القيامة، جزاء عملهم.
الصفة الثالثة:
أنه ينذر الذين لا يصدقون بوجود الله ووحدانيته، ولا بالمعاد والثواب والعقاب، ولا يعملون الخير بأن لهم عذاب جهنم، جزاء ما قدمت أنفسهم.
والمعنى أنه تعالى بشّر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، وإطلاق البشارة على البشارة بالعذاب من قبيل التهكّم، كما في قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [ال عمران: 3/ 21] ، أو من إطلاق اسم الشيء على ضدّه، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 42/ 40] .(15/28)
وبعد أن بيّن الله تعالى لبني إسرائيل وغيرهم صفات الهادي وهو القرآن، بيّن حال المهدي وهو الإنسان، ليقوي الترابط بينهما، ويدل على وحدة المهديين بالكتب السماوية، فقال تعالى:
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ.. أي إن صفة الإنسان العجلة، فيدعو في بعض الأحيان حين الغضب على نفسه أو ولده أو ماله بالشّر، أي بالموت أو الهلاك والدّمار واللعنة، كما يدعو ربّه بالخير، أي بالعافية والسّلامة والرزق، ولو استجيب دعاؤه لهلك، ولكن الله بفضله ورحمته لا يستجيب دعاءه، كما قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس 10/ 11] ،
وروى أبو داود عن جابر أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تدعوا على أنفسهكم، ولا أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة، يستجيب فيها» .
والذي يحمل الإنسان على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي يتعجل تحصيل المطلوب دون تفكير في عواقبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- إن القرآن الكريم أنزله الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم سبب اهتداء للبشرية قاطبة، يرشدها لأقوم الطرق، وأصح المناهج، وأعدل المسالك، وهي توحيد الله والإيمان برسله، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وأفضل مناهج الحياة.
2- وللقرآن هدف آخر وهو التّبشير والإنذار، تبشير المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحة بالجنّة، وإنذار أعدائهم الكفار بالعقاب في نار جهنم، والقرآن معظمة وعد ووعيد.
3- إن طبع الإنسان القلق والعجلة، فيعجل بسؤال الشرّ كما يعجل بسؤال(15/29)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
الخير، فيدعو على نفسه وولده وماله عند الضجر بما لا ينبغي، قائلا: اللهم أهلكه ونحوه، كما يدعو ربّه أن يهب له العافية ويوسّع له في الرّزق، فلو استجاب الله تعالى دعاءه على نفسه بالشّرّ، هلك، لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. ونظير الآية آية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كما تقدّم، نزلت في النّضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة الإلهية
[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 17]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
الإعراب:
مَنْشُوراً حال. بِذُنُوبِ متعلق بقوله: خَبِيراً بَصِيراً.(15/30)
البلاغة:
آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مجاز عقلي لأن النهار لا يبصر، بل يرى فيه، فهو مجاز من إسناد الشيء إلى زمانه.
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أستعير الطائر لعمل الإنسان لأن العرب الذين كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير، سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.
اقْرَأْ كِتابَكَ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال له يوم القيامة: اقرأ كتابك، وكذلك أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فيه إيجاز بالحذف، أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا.
اهْتَدى ضَلَّ بينهما طباق.
تَزِرُ وازِرَةٌ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
آيَتَيْنِ علامتين دالتين على قدرة الله تعالى، بتعاقبهما على نسق واحد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الآية التي هي الليل ممحوّة لا نور فيها، والإضافة فيها للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة أو مبصرة للناس. لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعلموا باختلافهما أو بحركتهما عدد السنوات وجنس الحساب. والفرق بين العدد والحساب: أن العدد إحصاء أمثال الشيء المكونة له، والحساب: إحصاء طائفة معينة يتكون منها الشيء، فالسنة بالنظر إلى أنها أيام (365 يوما) فقط فذلك العدد، وبالنظر إلى تكونها من اثني عشر شهرا، وكل شهر ثلاثون يوما، وكل يوم 24 ساعة، فذلك هو الحساب، كما ذكر الشوكاني في فتح القدير وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء تحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، بيّناه بيانا غير ملتبس.
طائِرَهُ عمله من خير أو شر. فِي عُنُقِهِ لزوم الطوق في عنقه إذ اعتادوا التفاؤل بالطير، ويسمونه زجرا، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين، تيمنوا به، وسموه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه، وسموه بارحا، وسموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. هو صحيفة عمله. مَنْشُوراً أي غير مطوي. حَسِيباً محاسبا عادّا يعد عليه أعماله.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي أن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي أن إثمه عليها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وزر نفس أخرى، والوزر:(15/31)
الإثم. مُعَذِّبِينَ أحدا حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يبين له ما يجب عليه. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم، لإنفاذنا قضاءنا السابق. أَمَرْنا مُتْرَفِيها
منعميها أي رؤساءها، بالطاعة على لسان رسلنا. فَفَسَقُوا فِيها
فخرجوا عن أمرنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
بالعذاب. فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أي أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها.
وَكَمْ أي كثيرا. الْقُرُونِ الأمم. خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنها وظواهرها.
سبب النزول: نزول الآية (15) :
مَنِ اهْتَدى قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به من نعم الدين على الناس وهو القرآن، أتبعه ببيان ما أنعم عليهم من نعم الدنيا، وهو في ذاته استدلال بالدلائل الواضحة على قدرة الله وحكمته.
وبعد أن أبان تعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأوضح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ذكر مبدأ رفيعا ومهما جدا، وهو مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن أعمال الإنسان وأن ذلك المبدأ قد تقرر بعد إرسال الرسل وبيان معالم الهدى، فلا تكليف قبل الشرع، ولا عقاب ولا عذاب قبل البيان والإنذار وأن العقاب العام للقرى والأمم لا يكون إلا بعد الأمر بالطاعات والخيرات، ومخالفة ذلك الأمر، والفسق.
التفسير والبيان:
وجعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا، وفي(15/32)
تعاقبهما واختلافهما تحقيق لمصالح الإنسان، ففي الليل سكنه وهدوءه وراحته، وفي النهار حركته وشغله وتقلبه في أنحاء الدنيا للمعيشة والكسب، والصناعة والعمل.
وجعلنا ظرف كل من الليل والنهار مناسبا للهدف المنشود والغاية المقصودة، ففي الليل ظلام دامس ومحو للضوء يتلاءم مع راحة النفس والعين والسمع، وفي النهار ضوء ونور يناسب الحركة والعمل وإبصار الأشياء.
فهذا امتنان من الله تعالى على خلقه بجعل الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء، وجعل النهار مبصرا، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي جعلنا تعاقب الليل والنهار لتتمكنوا كيف تتصرفون في أعمالكم، وتطلبون الرزق من الله ربكم الذي يربيكم ويمدكم من فضله وإحسانه شيئا فشيئا، وعلى وفق الزمان الدائر بكم صيفا وشتاء.
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعرفوا بتعاقب الليل والنهار عدد الأيام والشهور والأعوام، وتعلموا بحساب الأشهر والليالي والأيام أوقات مصالحكم من الدورات الزراعية، وآجال الديون والإجارات والمعاملات، وأزمان العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، فلو لم يتغاير الليل والنهار، لما تمكن الإنسان من الراحة التامة ليلا واكتساب المعايش والأرزاق نهارا، ولو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف الحساب على نحو صحيح يسير.
ونظير الآية قول الله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؟! [القصص 28/ 70- 73](15/33)
وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان 25/ 62] وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 5] .
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء لكم به حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد بيناه وشرحناه بيانا نافعا، وشرحا كاملا وافيا، كما قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] وقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل 16/ 89] .
وبعد ذكر الزمان وما يقع فيه من أعمال الناس، ذكر تعالى مبدأ التبعية أي المسؤولية عن الأعمال من خير أو شر فقال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي وجعلنا عمل كل إنسان ملازما له لزوم القلادة للعنق إن كان خبيرا، ولزوم الغلّ للعنق لا يفك عنه إن كان شرّا. فالمراد بالطائر: العمل الصادر من الإنسان. والعرب تعبر عن تلازم الشيء بالشيء بما يوضع في العنق، يقال:
جعلت هذا في عنقك، أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به.
وجعل العمل ملازما للإنسان أمر محتوم وقضاء معلوم، على وفق علم الله الأزلي السابق بالأشياء وبما يصدر عن الناس، وهذا لا يعني الإجبار ونفي الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب، فكل إنسان مخير في اختيار ما هو خير يقتضي ثوابا حسنا وما هو شرّ يقتضي عقابا سيئا.
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ... أي سنخرج لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها.
ذكر الحسن البصري حديثا قدسيا: «قال الله: يا بن آدم، بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان: أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك(15/34)
فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج لك يوم القيامة» .
اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ ... ويقال لك حين تلقى كتابك: اقرأ كتابك أي كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. كان الحسن إذا قرأها قال: يا بن آدم، أنصفك- والله- من جعلك حسيب نفسك. والقائل: هو الله تعالى على ألسنة الملائكة.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ... أي إذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب واتبع شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضلّ في عمله وحاد عن شرع الله وكفر به وبرسله، فإنما يضرّ نفسه لأن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، لا يتجاوزه إلى غيره، وعقاب العمل السيء ملازم صاحبه، لا يفارقه.
ثم أكد تعالى معنى الشق الثاني بقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، أو لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه.
وهذا ردّ واضح على الذين يحرضون غيرهم على ارتكاب المنكر، واقتراف الكفر، ويزعمون أنهم يتحملون عاقبة ذلك. روي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم.
وهو ردّ أيضا على الجاهليين الذين كانوا يقولون: نحن لا نعذب في شيء، وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، ويؤكد ذلك قوله تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] .
وتقرير مبدأ المسؤولية الشخصية من مفاخر الإسلام ومبادئه التي صححت(15/35)
مفهوم العقاب عند الرومان والعرب وغيرهم، إذ كانوا يعاقبون غير المجرم.
ويتضاعف العقاب والإثم على دعاة الضلال بسبب تأثيرهم في الآخرين، دون إعفاء من يتبعونهم في ضلالهم من الوزر والعقاب، لقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] وقوله سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] فعلى الدعاة إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم غيرهم.
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي لكن مقتضى العدل والحكمة والرحمة أننا لا نعذب أحدا في الدنيا أو الآخرة على فعل شيء أو تركه إلا بعد إنذار، ولا نعاقب الناس إلا بعد إعذار وبعث الرسل إليهم، لإقامة الحجة عليهم بالآيات المبينة للأحكام والحلال والحرام والثواب والعقاب، كما قال تعالى:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.. [الملك 67/ 8- 9] وقال عز وجل: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ودعوته إلى الخير، وتحذيره من الشرّ.
وأما كيفية وقوع العذاب بعد إرسال الرسل فهي كما أخبر تعالى:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...
أي إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال أمرنا مترفيها بالطاعات والخيرات، أي الأمر بالفعل، فإذا خالفوا ذلك الأمر وفسقوا وخرجوا عن الطاعة وتمردوا، حق أو وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم، فدمرناهم تدميرا وأبدناهم إبادة تامة، شملت جميع أهل(15/36)
تلك البلدة. والمترف: هو المتنعم، وهو أولى بالشكر من غيره وأوجب عليه.
ودمرناها: استأصلناها بالهلاك.
والإبادة الشاملة بسبب الأمر العام لجميع المكلفين، أغنياء كانوا أو فقراء، مترفين كانوا أو غير مترفين، لكن خصّ الأمر بالمترفين لأنهم القادة وغيرهم تبع لهم، وشأن العامة والأتباع تقليد الكبراء والزعماء دائما. قال ابن عباس في قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها
أي سلطنا أشرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو كقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام 6/ 123] .
ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ... أي وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام إلى زمانكم لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسله، كما أنتم الآن، وأنتم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى.
وهذا وعيد وتهديد لمكذبي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بهم، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذا تنبيه(15/37)
على أن الذنوب هي أسباب الدمار والهلاك لا غير، وأن الله عالم بها، ومعاقب عليها.
وكل ما ذكر حثّ للعقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، ودفع إلى الجد وعدم الكسل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقص، وتعاقبهما، وضوء النهار وظلمة الليل، دليل على وحدانية الله تعالى ووجوده وكمال علمه وقدرته.
2- ودورة الليل والنهار تعرفنا بعدد السنوات والأشهر والأيام المتماثلة، وتعلمنا حساب المدة المكونة من طوائف ومجموعات، كالسنة المكونة من اثني عشر شهرا، والشهر من ثلاثين يوما، واليوم من أربع وعشرين ساعة.
3- النهار وقت مناسب للعمل والحركة والتقلب في الأرض لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق.
4- كل إنسان معلّق بعمله، وعمله مختص به ولازم له، خيرا أو شرا.
5- إن كتاب الإنسان وسجله الذي يلقاه أمامه يوم القيامة حافل بكل ما قدم وما أخر. وكفى بالإنسان محاسبا لنفسه. قال الحسن البصري: يقرأ الإنسان كتابه أمّيا كان أو غير أمّي.
6- كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه.
7- إقرار مبدأ المسؤولية الشخصية عدلا من الله ورحمة بعباده، فلا يحمل(15/38)
أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه. قال ابن عباس عن آية:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة:
اتبعوني، واكفروا بمحمد، وعليّ أوزاركم، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أن الوليد لا يحمل آثامكم، وإنما إثم كل واحد عليه.
أما ما روي عن عائشة رضي الله عنها في الرد على ابن عمر حيث قال النبي في حديث رواه الشيخان: «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» فلا وجه لإنكارها وتخطئتها إذ لا معارضة بين الآية والحديث فإن الحديث محمول على ما إذا كان النّوح من وصية الميت وسنته وبسببه، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا متّ فانعيني بما أنا أهله ... وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد
وقال:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
8- لم يترك الله الخلق سدىّ، بل أرسل الرسل، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، وهذا في رأي الجمهور، في حكم الدنيا، بمعنى أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار، ولا يهلك الله القرى قبل ابتعاث الرسل.
وقالت المعتزلة بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر.
9- تدل آية وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على أن أهل الفترة (فترة انقطاع الرسل) الذين لم تصلهم رسالة، وماتوا ولم تبلغهم الدعوة وهم أهل الجاهلية وأمثالهم في الجزر النائية الذين لم يسمعوا بالإسلام في زماننا هم ناجون، من أهل الجنة. ومثلهم أولاد المشركين والكفار الذين ماتوا وهم صغار قبل التكليف، وآباؤهم كفار، وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف.(15/39)
أما الناس بعد البعثة- بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم- فهم كما أبان الغزالي رحمه الله أصناف ثلاثة:
الأول- من لم تبلغهم دعوته، ولم يسمعوا به أصلا، فهؤلاء في الجنة.
الثاني- من بلغتهم دعوته ومعجزاته ولم يؤمنوا به كالكفار في زماننا، فهؤلاء في النار.
الثالث- من بلغتهم دعوته صلّى الله عليه وآله وسلّم بأخبار مكذوبة أو بنحو مشوه، فهؤلاء يرجى لهم الجنة.
10- إن عذاب الاستئصال لا يكون إلا بشيوع المعاصي والذنوب والمنكرات، فإذا أراد الله إهلاك قرية أمر مترفيها وغيرهم بالطاعة والرجوع عن المعاصي، ففسقوا وظلموا وبغوا، أي آثروا الفسوق على الطاعة، خلافا للأمر، فحق عليها القول بالتدمير والهلاك.
وعلى قراءة أمرنا بالتشديد يكون المعنى: سلطنا شرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وذكر قتادة والحسن أن معنى أَمَرْنا
بكسر الميم: أكثرنا، يقال: أمر القوم- بكسر الميم-: إذا كثروا، ومنه
الحديث الذي رواه أحمد والطبراني عن سويد بن هبيرة: «خير مال المرء: مهرة مأمورة، أو سكّة مأبورة «1» »
أي مهرة كثيرة النتاج والنّسل، وصف من النخل مأبورة.
وفي حديث هرقل- الحديث الصحيح: «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة «2» ، ليخافه ملك بني الأصفر»
أي كثر.
__________
(1) السّكّة: الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة: الملقحة.
(2) يريد: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان المشركون يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ابن أبي كبشة» شبهوه بأبي كبشة: رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان.(15/40)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
11- كم من قوم كثيرين كفروا، فحلّ بهم الهلاك أو البوار، وهذا إنذار ووعيد وتهديد بالعقاب الشديد لكل من كفر بالله وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
12- إن المعاصي إذا ظهرت، ولم تغيّر، كانت سببا لهلاك الجميع.
13- دلّ قوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، راء لجميع المرئيات، فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات، فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه، وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم، وهذه الصفات الثلاث (العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم) أمان لأهل الطاعة، وخوف لأهل الكفر والمعصية.
جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة
[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
الإعراب:
لِمَنْ نُرِيدُ بدل من الْعاجِلَةَ بدل البعض من الكل بإعادة حرف الجر، مثل قوله تعالى:
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف 7/ 75] فقوله:
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال(15/41)
كُلًّا نُمِدُّ كلا: مفعول به ل نُمِدُّ وهؤُلاءِ بدل من كل ومعناه: إنا نرزق المؤمنين والكافرين.
كَيْفَ فَضَّلْنا كَيْفَ: منصوب بفضلنا، وليس العامل فيه انْظُرْ لأن كَيْفَ معناها الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
دَرَجاتٍ تمييز منصوب، وكذلك تَفْضِيلًا.
المفردات اللغوية:
مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله. الْعاجِلَةَ أي الدنيا، مقصورا عليها همه، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت عن المنعوت. عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ قيد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمنّ ما يتمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة. يَصْلاها يدخلها. مَذْمُوماً ملوما. مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله تعالى.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل عملها اللائق بها، وهو الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة لام لَها اعتبار النية والخلوص.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك فيه ولا تكذيب. فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة:
إرادة الآخرة، والسعي لها بحق، والإيمان. كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند الله تعالى، أي مقبولا عنده، مثابا عليه، فإن شكر الله: الثواب على الطاعة.
كُلًّا من الفريقين. نُمِدُّ نعطي مرة بعد أخرى. مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من معطاه في الدنيا. وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها. مَحْظُوراً ممنوعا عن أحد، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر، تفضلا.
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والجاه. وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ أعظم. وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا، أي إن التفاوت في الآخرة أكبر: لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، فينبغي الاعتناء بالآخرة دون الدنيا.
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها بنحو واضح، فبعد أن بيّن الله تعالى ارتباط كل إنسان بعمله، قسم العباد قسمين: قسم يريد الدنيا ويعمل لها، وعاقبته النار، وقسم يريد الآخرة، ومآله إلى الجنان.(15/42)
وكل من الفريقين يرزقهم ربهم في الدنيا لأن عطاءه ليس ممنوعا عن أحد، ولكنهم متفاضلون في الرزق، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من مراتب تفاوت الدنيا.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تصنيف عام لأحوال الناس في الدنيا، فهم فريقان: فريق يعمل للدنيا، وفريق يعمل للآخرة. أما الفريق الأول فهو: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ... أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، وكانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فخصها بكل جهده وعمله، ونسي الآخرة، عجل الله فيها تحقيق أمله حسبما يشاء ويريد، من سعة الرزق وترف الحياة، فليس كل من طلب الدنيا ونعمها يحصل له مراده، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، فالعطاء الدنيوي مقيد بالإرادة والمشيئة الإلهية، والقيد يشمل أمرين: ما يشاؤه الله لا ما يحبه العبد، ولمن يشاء الله، لا لكل من أراد الدنيا، فهؤلاء الماديون لا يعطون كل ما يريدون، وإنما يعطون بعض أمانيهم، والكثير من الماديين لا يعطون شيئا أبدا، فيجمعون بين فقر الدنيا وفقر الآخرة، وبين الحرمان من الدنيا والدين.
ولكل من هؤلاء الماديين، سواء أعطوا مرادهم أم لا جهنم يصلونها أي يقاسون حرها بصفة دائمة، مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين على قلة الشكر وسوء العمل والتصرف، مطرودين من رحمة الله تعالى.
فهذا العقاب ذو أوصاف ثلاثة في الآية: الدوام والخلود، والإذلال والإهانة، والطرد من رحمة الله. وهذا تهديد للماديين الكفرة وزجر شديد، فإنهم يحصرون همهم في الدنيا، وربما لم ينلهم شيء منها.
روى أحمد عن عائشة مرفوعا: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» .(15/43)
وأما الفريق الثاني وهم المؤمنون الأتقياء فهم الذين أخبر الله تعالى عنهم:
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها ... أي ومن طلب الآخرة، وكانت هي همّه ومقصده، فعمل لها ما استطاع من القرب والطاعات، وهو مؤمن مصدق بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر، فأولئك أهل الكمال المشكورون على طاعاتهم، المثابون على أعمالهم من قبل الله تعالى.
فلا يثاب هؤلاء ولا ينالون هذا الجزاء الحسن إلا بشروط ثلاثة:
الأول- إرادة ثواب الآخرة وما فيها من النعيم والسرور، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات» .
الثاني- أن يكون العمل من القرب والطاعات ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا من الأعمال الباطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، والكواكب والملائكة وبعض البشر من الأنبياء، فقوله: وَسَعى لَها سَعْيَها أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة.
الثالث- أن يكون العمل في دائرة الإيمان والتصديق بالثواب والجزاء، فلا ينفع العمل بغير الإيمان الصحيح. وهذه هي الشرائط الثلاثة في كون السعي مشكورا.
قال بعض السلف: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية.
هؤلاء المؤمنون الصلحاء الذين اختاروا غنى الآخرة لا يبالون بشيء بعدها، فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم، وإن حرموا منه صبروا، ورضوا لأن ما عند الله خير وأبقى.
ثم أبان الله تعالى أن الرزق في الدنيا مضمون مكفول لكلا الفريقين، فقال:(15/44)
كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ... أي إنه تعالى يمد الفريقين:
مريدي الدنيا ومريدي الآخرة بالأموال والأرزاق والأولاد وغيرها من مظاهر العز والزينة في الدنيا، فإن عطاءه لا يمنع عن أحد، مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فاقتضى عدل الله ورحمته ألا يترك لأحد مجالا للعذر، وأبان أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع، لتوفير متطلبات الحياة ومقوماتها.
ثم أوضح الله تعالى أن عطاءه لكلا الفريقين متفاوت فقال:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. أي انظر بعين الاعتبار كيف جعلنا الفريقين متفاوتين في عطاء الدنيا، وكيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا، فمنحناه مؤمنا، وحجبناه عن مؤمن آخر، وأعطيناه كافرا، ومنعناه عن كافر آخر، وذلك لحكمة بالغة نحن أعلم بها، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف 43/ 32] وفي آية أخرى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [الأنعام 6/ 165] وقال سبحانه أيضا:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] .
وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ... أي والتفاوت في الآخرة أكبر وأعظم، والتفاضل في درجات منافع الآخرة أكبر من التفاضل في درجات منافع الدنيا، فالدرجات أكبر، والتفاضل أعظم لأن الآخرة ثواب وأعواض وتفضل وكلها متفاوتة، فأهل النار في دركات سفلى متفاوتة، وأهل الجنة في درجات عليا متفاضلة، فإن الجنّة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض،
جاء في الصحيحين: «إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين، كما ترون(15/45)
الكوكب الغابر في أفق السماء» وقال بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة، وهي أكبر وأفضل» .
وهذه واقعة طريفة معبرة مناسبة للآية، رواها ابن عبد البر عن الحسن البصري قال: حضر جماعة من الناس فيهم الأشراف ومن دونهم من العامة باب عمر رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (أحد أشراف مكة) وأبو سفيان بن حرب، ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذّن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا- يعني إلى الإسلام- فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة؟
ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكبر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الناس في مجال العمل في الدنيا صنفان: صنف يريد الدنيا، وصنف يريد الآخرة، أما الصنف الأول: فلا يعطيه الله من الدنيا إلا ما يشاء، ولمن يشاء، ثم يؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، مدحورا مطرودا مبعدا من رحمة الله. قال القرطبي: وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 235(15/46)
وأما الصنف الثاني وهو الذي يريد الدار الآخرة، ويعمل لها عملها من الطاعات، وكان مؤمنا لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن، فيكون عمله مقبولا غير مردود.
2- اقتضت حكمة الله ورحمته أن يرزق المؤمنين والكافرين، فلا يكون عطاؤه محبوسا ممنوعا عن أحد، غير أن الناس في الدنيا متفاوتون في الرزق، بين مقلّ ومكثر، ولا يرتبط التفاوت في الرزق بالإيمان والكفر، فقد يكون مؤمن غنيا وآخر فقيرا، وقد يكون كافر موسرا مترفا وآخر معسرا معدما.
أما في الآخرة فدرجات تفاضل المؤمنين أكبر وأكثر، فالكافر وإن وسّع عليه في الدنيا مرة، وقتّر على المؤمن مرة، فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها.
3- إن هذه الآية: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ مقيدة لإطلاق آية هود: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [15] وآية الشورى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [20] .
4- في الآية نفسها مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ فوائد ثلاث:
الأولى- العقاب مضرة مقرونة بالإهانة والذم الدائمين.
الثانية- إن الرفاهية في الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها المصير إلى عذاب الله وإهانته، وهذا تنبيه للجهال الذين يغترون بالدنيا إذا أقبلت عليهم، ويظنون أن ذلك لأجل كرامتهم على الله تعالى.(15/47)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
الثالثة- قوله تعالى لِمَنْ نُرِيدُ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يطلبون الدنيا، ويبقون محرومين منها ومن الدين، وفي هذا زجر عظيم لهم، فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
5- إن قبول الأعمال عند الله مشروط بشرائط ثلاث: الإيمان الصحيح، والنية الطيبة الحسنة، والعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى.
6- إن رزق الله وعطاءه مكفول لكل إنسان بشرط السعي والعمل، وليس الرزق محظورا عن أحد من المؤمنين والكفار.
7- ليس الرزق معطي بدرجة متساوية ونسبة واحدة، وإنما هناك تفاوت في الأرزاق، لا يرتبط ذلك بالإيمان والكفر، وإنما يقسمه الله تعالى بين الخلائق على وفق ما يراه من الحكمة والمصلحة.
8- إن التفاوت في الدركات للكفار والفساق في نار جهنم وفي الدرجات للمؤمنين الأخيار الأتقياء في الجنة أشد بكثير من التفاوت في الدنيا، فالجنة مثلا مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض.
أصول تنظيم المجتمع المسلم التوحيد أساس الإيمان وترابط الأسرة المسلمة دعامة المجتمع
[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 30]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)(15/48)
الإعراب:
إِمَّا يَبْلُغَنَّ قرئ: يَبْلُغَنَّ: وحدّ الفعل لمجيء الفاعل بعده واحدا، فإن الفعل متى تقدم توحّد، والفاعل: أحدهما. ومن قرأ: يبلغان: فيكون أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بدلا من ألف يبلغان أو تكون الألف لمجرد التثنية ولا حظّ للاسمية فيها، فيرتفع أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بالفعل الذي قبلهما على لغة من قال: قاما أخواك، وأكلوني البراغيث. وإِمَّا: هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا.
أُفٍّ اسم من أسماء الأفعال، فكانت مبنية، والبناء إما على الكسر لالتقاء الساكنين، أو على الفتح لأنه أخف الحركات، أو على الضم لأنه أتبع الضمّ الضمّ. ومن نون أُفٍّ أراد به التنكير، ومن لم ينوّن أراد التعريف. وفي أُفٍّ إحدى عشرة لغة، مثل «هيهات» .
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ابْتِغاءَ: مصدر منصوب في موضع الحال، أي:
وإما تعرضن عنهم مبتغيا رحمة من ربك ترجوها. وجملة تَرْجُوها حال منصوب، أي راجيا إياها.
البلاغة:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ استعارة مكنية، شبّه الذل بطائر ذي جناح، ثم حذف الطائر، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الجناح، فهذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والخدم للسادة.(15/49)
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ: استعارة تمثيلية، مثّل للبخيل الذي حبس يده عن العطاء بمن شدّت يده إلى عنقه، بحيث لا يستطيع مدّها، وشبّه السرف ببسط الكف، حيث لا تمسك شيئا.
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً لف ونشر مرتب، أعاد لفظ مَلُوماً إلى البخيل، ولفظ مَحْسُوراً إلى الإسراف.
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته، أو الخطاب لكل أحد.
فَتَقْعُدَ إما بمعناها الأصلي، أي فتعجز عن تحصيل الخيرات، أو بمعنى: تصير، مأخوذ من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت مثل الحربة. مَذْمُوماً يذمك الملائكة والمؤمنون. مَخْذُولًا يخذلك الله تعالى، وتصير: لا ناصر لك لأنك أشركت معه إلها آخر.
وهذا بناء على المفهوم يدل على أن الموحد يكون ممدوحا منصورا.
وَقَضى رَبُّكَ حكم وأمر أمرا مقطوعا به. أَلَّا تَعْبُدُوا بألا تعبدوا. إِلَّا إِيَّاهُ حصر العبادة بنفسه تعالى لأن غاية التعظيم لا يستحقها إلا لمن له غاية العظمة وغاية الإنعام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا لهما إحسانا، بأن تبروهما، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والمعيشة. ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأنه صلته وهي لا تتقدم عليه. أُفٍّ اسم صوت يدل على التضجر والاستثقال، أي تبا وقبحا. وَلا تَنْهَرْهُما تزجرهما، والنهر: الزجر بغلظة. قَوْلًا كَرِيماً جميلا لينا.
جَناحَ الذُّلِّ ألن لهما جانبك الذليل، والمراد به التواضع والتذلل، أو حسن الرعاية والعناية. مِنَ الرَّحْمَةِ أي لرقتك عليهما وفرط رحمتك بهما. ارْحَمْهُما كَما رحماني حين.
رَبَّيانِي صَغِيراً أو رحمة مثل رحمتهما علي. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من إضمار البر والعقوق.
إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ طائعين لله، قاصدين للصلاح. لِلْأَوَّابِينَ للتوابين أو الرجاعين إلى طاعته. غَفُوراً لما صدر منهم في حق الوالدين من بادرة، وهم لا يضمرون عقوقا.
وَآتِ أعط. ذَا الْقُرْبى القرابة. حَقَّهُ من البر والصلة وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التبذير: إنفاق المال في غير موضعه الموافق للشرع والحكمة. إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي قرناءهم وعلى طريقتهم كَفُوراً شديد الكفر لنعمه. فكذلك قرينه المبذر. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي وإن أعرضت عن المذكورين من ذي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الرد، فلم تعطهم.(15/50)
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي لطلب رزق تنتظره يأتيك، فتعطيهم منه قَوْلًا مَيْسُوراً لينا سهلا، بأن تعدهم بالإعطاء عند مجيء الرزق.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تمسكها عن الإنفاق تماما، والمغلولة: المقيدة بالغل: وهو القيد الذي يوضع في اليدين والعنق، وهو تمثيل لمنع الشح وكناية عن البخل. وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي تتوسع في الإنفاق، وهو تمثيل وكناية لمنع الإسراف. فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالبخل، فهو راجع للأول: البخل. مَحْسُوراً نادما، أو منقطعا لا شيء عندك، وهو راجع للثاني: الإسراف. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لمن يشاء. وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما بسرهم وعلنهم، فيرزقهم على حسب مصالحهم.
سبب النزول:
نزول الآية (26) :
وَآتِ ذَا الْقُرْبى: أخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة، فأعطاها فدك.
قال ابن كثير: هذا مشكل، فإنه يشعر بأن الآية مدنية، والمشهور خلافه.
لكن ذكر في مطلع السورة أن هذه الآية مدنية. وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله.
نزول الآية (28) :
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ: أخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراساني قال:
جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، ظنوا ذلك، من غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ الآية.
والرحمة: الفيء.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت في كل من كان يسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(15/51)
من المساكين. قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد.
نزول الآية (29) :
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ: أخرج سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بزّ (ثياب) وكان معطيا كريما، فقسمه بين الناس، فأتاه قوم، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها الآية.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: ما عندنا شيء اليوم، قال: فتقول لك: اكسني قميصا، فخلع قميصه، فدفعه إليه، فجلس في البيت حاسرا، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ... الآية.
وأخرج ابن مردويه أيضا عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة: أنفق ما على ظهر كفي، قالت: إذن لا يبقى شيء، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الآية. قال السيوطي: وظاهر ذلك أنها مدنية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الناس فريقان: فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والعقاب، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل الثواب بشروط ثلاثة: هي إرادة الآخرة، والسعي بحق لطلب الآخرة، وأن يكون مؤمنا، أتبعه ببيان حقيقة الإيمان وأن جوهره التوحيد ونفي الشركاء والأضداد.
وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان، أتبعه بذكر شعائر الإيمان(15/52)
وشرائطه، ودعائم بنيان المجتمع الإسلامي، مبتدئا بأصول نظام الأسرة، وتقوية الروابط بين أفرادها.
التفسير والبيان:
يخاطب الله تعالى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لبيان حقيقة الإيمان وهو التوحيد ونفي الشركاء، والمراد بالخطاب: المكلفون من الأمة، إذ لم يكن له صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك الوقت أبوان.
ومضمونه: لا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته، وإنما أفرد له الألوهية والربوبية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، فإن جعلت مع الله إلها آخر، صرت ملوما على إشراكك به، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يتركك إلى من عبدته معه، وهو لا يملك ضرا ولا نفعا. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» . والخلاصة: إن أول دعامة للمجتمع المسلم: توحيد الله وعدم الشرك به.
وبعد بيان الركن الأعظم في العقيدة والإيمان وهو التوحيد، ذكر تعالى شعائر الإيمان ومظاهره، وهي ما يأتي:
أولا- عبادة الله تعالى وحده: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر الله تعالى ألا تعبدوا غيره، وهذا يتضمن أمرين: الاشتغال بعبادة الله تعالى، والتحرز عن عبادة غير الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم، ولا يستحق ذلك غير الله عز وجل لأنه مصدر النعم والإنعام من إعطاء الوجود والحياة والقدرة والعقل.(15/53)
ثانيا- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قرن الله في كثير من الآيات الأمر بعبادته بالأمر ببر الوالدين والإحسان لهما إحسانا تاما في المعاملة لأنهما بعد الله الذي هو السبب الحقيقي لوجود الإنسان، كانا السبب الظاهري في وجود الأولاد وتربيتهم في جو مشحون بالحنان واللطف والعطف والإيثار، والمعنى: وأمر بالوالدين إحسانا، أو وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبروهما، كما قال تعالى في آية أخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان 31/ 14] وذلك لشفقتهما على الولد، وإنعامهما عليه، وبذل أقصى الجهد في تربيته وصونه حتى يصبح رجلا سويا، فكان من الوفاء والمروءة رد شيء من الجميل والمعروف لهما، إما بالمعاملة الحسنة والأخلاق المرضية، وإما بالإمداد المادي إذا كانا بحاجة وكان الولد موسرا، لذا أبان تعالى بعض وجوه الإحسان إليهما، فقال:
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ.. أي إذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر، وصارا عندك في آخر العمر بحال من الضعف والعجز، كما كنت عندهما في بدء حياتك، فعليك اتباع الواجبات الخمسة التالية:
الأول- فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تسمعهما قولا سيئا فيه أدنى تبرّم، حتى ولا التأفف وهو التضجر والتألم الذي هو أدنى مراتب القول السيء، وذلك في أي حال، ولا سيما حال الضعف والكبر والعجز عن الكسب، لأن الحاجة إلى الإحسان حينئذ أشد وأولى وألزم، لذا خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى البر، للضعف والكبر.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» .(15/54)
الثاني- وَلا تَنْهَرْهُما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح. والفرق بين النهي عن التأفف والنهي عن الانتهار: أن الأول للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، وأن الثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول، بالرد أو التكذيب، فالتأفف: الكلام الرديء الخفي، والنهر: الزجر والغلظة.
الثالث- وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي وقل لهما قولا لينا طيبا حسنا مقرونا بالتوقير والتعظيم والحياء والأدب الجم. ويلاحظ أنه تعالى قدم النهي عن المؤذي، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب لأن التخلي مقدم على التحلي، ومنع الأذى أولى من إحسان القول والفعل. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفسرا القول الكريم: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، أي لا يدعوهما بأسمائهما، ولا يرفع الصوت أمامهما، ولا يحملق بنظره فيهما، وسئل سعيد بن المسيّب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ.
الرابع- وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما بفعلك، والمقصود منه المبالغة في التواضع وإلانة الجانب، فإن خفض الجناح كناية عن فعل التواضع، وتشبيه بحال الطائر إذا ضم إليه فرخه، فيخفض له جناحه.
والتواضع ينبغي أن يكون رحمة بهما وشفقة عليهما، لا لأجل امتثال الأمر وخوف العار والنقد فقط.
الخامس- وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي اطلب لهما الرحمة من الله في حال كبرهما وعند وفاتهما. قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال، بل أضاف إليه تعليم الأفعال، وهو أن يدعو لهما بالرحمة، فيقول: رَبِّ ارْحَمْهُما ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. وقوله كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي أحسن إليهما كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية: هي التنمية، وخصها بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.(15/55)
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها
ما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صعد المنبر، ثم قال: «آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله، علام أمّنت؟ قال: أتاني جبريل، فقال:
يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يسل عليك، قل: آمين، فقلت:
آمين. ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج، فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين» .
والبر يكون في حال الحياة وبعد الموت أيضا بدليل
ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرّهما به؟ قال: «نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» .
فإذا كان الوالدان كافرين فللولد أن يدعو لهما حال الحياة بالهداية والإرشاد، وأن يطلب لهما الرحمة بعد حصول الإيمان. أما بعد الموت فقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات، ولو كانوا أولي قربى في الآية:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التوبة 9/ 113] . فيعامل المسلم أبويه الذميين معاملة حسنة إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر.
ويكفي في العمل بمقتضى هذه الآية طلب الرحمة لهما مرة واحدة لأن ظاهر الأمر للوجوب، وظاهر الأمر لا يقتضي التكرار. سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر، أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات.(15/56)
وكفى بالشريعة التي جعلت عقوق الوالدين من الكبائر،
أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر حديثا: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد» .
ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ... أي أن العبرة بما في القلب وما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فإن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم، بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لاختلاطها بالسهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فمن بدرت منه بادرة غير مقصودة، فلا يعاقبه الله عليها ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين، فإنه سبحانه غفور للتائبين الراجعين إلى الخير، النادمين على ما فرط منهم من غير قصد. والتائب من الذنب: هو الرجّاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله، إلى ما يحبه ويرضاه. والمقصود من الآية: التحذير من ترك الإخلاص.
ثالثا- الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، والمعنى: وأعط أيها الإنسان المكلف القريب والمسكين والمسافر المنقطع في الطريق إلى بلده حقه، من صلة الرحم والود، والزيارة وحسن المعاشرة، والنفقة إن كان محتاجا إليها، وإعانة المسكين ذي الحاجة، ومساعدة ابن السبيل بالمال الذي يكفيه زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.
والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته من بعده.
جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن بكر بن الحارث الأنماري: «أمك وأباك، ثم أدناك أدناك» أو «ثم الأقرب فالأقرب»
وأخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» .(15/57)
والأمر في رأي أبي حنيفة بالنسبة للأقارب المحارم كالأخت والأخ والوالدين للوجوب، وفي رأي الشافعي للندب، ولا تجب عند الجمهور إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب، وعند الحنابلة: تجب لكل الأقارب حتى الحواشي.
أما مساعدة المساكين وأبناء السبيل فهي من الصدقات المندوبة.
رابعا- منع التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً: لما أمر الله تعالى بالإنفاق والبذل نهى عن الإسراف وبيّن سياسة الإنفاق، أي لا تنفق المال إلا باعتدال وفي غير معصية وللمستحقين، بالوسط الذي لا إسراف فيه ولا تبذير، والتبذير لغة:
إفساد المال وإنفاقه في السرف، والوسطية والاعتدال هي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان 25/ 67] .
ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير بإضافته إلى أفعال الشياطين، فقال:
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي إن المبذرين المنفقين أموالهم في معاصي الله يشبهون في هذا الفعل القبيح الشياطين، فهم قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة، وأشباههم في ذلك في الصفة والفعل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] أي قرناءهم من الشياطين.
قال ابن مسعود: التبذير: الإنفاق في غير حق، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق، لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق، كان مبذرا. وعن علي كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة، فذلك حظ(15/58)
الشيطان. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته، فاستعمل نفسه في المعاصي والإفساد في الأرض، وإضلال الناس.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفورا لنعمة الله لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.
وفي صفة الشيطان أنه كفور لربه دلالة على كون المبذر أيضا كفورا لربه.
وقال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب، وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة، ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم.
خامسا- الوعد الجميل بالعطاء أو القول الميسور: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة، بعد أن سألوك، فقل لهم قولا سهلا لطيفا لينا، وعدهم وعدا بسهولة ولين بالصلة والعطاء إذا جاء رزق الله، واعتذر بعذر مقبول.
سادسا- القصد في الإنفاق: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.. لما أمر الله تعالى بالإنفاق ذكر هنا أدب الإنفاق، والاقتصاد في العيش، بذم البخل، والنهي عن السرف، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا(15/59)
مفرطا، فتعطي فوق طاقتك، وتنفق أكثر من دخلك، بحيث لا يبقى في يدك شيء.
والخلاصة: إن أصول الإنفاق هو الاقتصاد في العيش، والتوسط في الإنفاق، دون بخل ولا سرف، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق، وهما مذمومان، وخير الأمور أوساطها، والفضيلة وسط بين رذيلتين.
روى أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» .
وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» «1» .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان من السماء، يقول أحدهما:
اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» .
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله» .
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» .
ثم أبان الله تعالى ربط الرزق بمشيئته وإرادته، ليدرك الناس أن تضييق الرزق أحيانا على بعضهم ليس لسوء حالهم عند الله، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن ربك أيها الرسول هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له في ذلك
__________
(1) ورواه القضاعي عن علي رضي الله عنه، وهو حديث حسن.(15/60)
من الحكمة، لذا قال: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فهو خبير بصير بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح،
جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في المسانيد (الجامع الكبير) : «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه» .
وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا، والفقر عقوبة.
والمقصود بالآية أنه تعالى عرف رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كونه ربا، والرب: هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب، فيوسع الرزق على البعض، ويضيقه على البعض.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم مما ذكر أن الآيات ترشد إلى الأحكام التالية:
1- التوحيد أساس الإيمان، والإشراك رأس الكفر والضلال.
2- الإحسان إلى الوالدين فرض لازم واجب، وقد أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
3- من البرّ بالأبوين والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبّهما ولا لعقوقهما فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف.
4- عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برّهما موافقتهما على أغراضهما، فتجب طاعتهما في المباح المعروف غير المعصية، ولا تجب طاعتهما في المعصية.(15/61)
روى الترمذي عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلّقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال:
«يا عبد الله بن عمر، طلّق امرأتك» .
5- لا يختص برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل يجب برهما ولو كانا كافرين، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الممتحنة 60/ 8] .
وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: «قدمت أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم، إذ عاهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع أبيها، فاستفتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: إن أمي قدمت، وهي راغبة «1» ، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك» .
6- من الإحسان إلى الأبوين والبرّ بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد الولد إلا بإذنهما.
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيّ والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» .
أما الوالدان المشركان فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما، وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما.
7- من تمام برّ الوالدين: صلة أهل ودّهما،
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن من أبرّ البرّ: صلة الرجل أهل ودّ أبيه، بعد أن يولّي»
وقد ذكر حديث أبي أسيد الساعدي البدري.
8- هناك رقابة خاصة من الله تعالى على معاملة الأبوين لقوله سبحانه:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء.
__________
(1) أي راغبة في بري وصلتي. [.....](15/62)
9- وكما أمر الله بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقهما، أمر أيضا بصلة الرحم، وبالتصدق على المسكين وابن السبيل.
10- يحرّم الإسلام التبذير، والتبذير كما قال الشافعي رضي الله عنه: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال مالك:
التبذير: هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين.
11- من أنفق ماله في الشهوات زائدا على قدر الحاجات، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذر، ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه. ومن أنفق ربح ماله في شهواته، مع المحافظة على أصل رأس المال، فليس بمبذر.
12- الأدب الرفيع هو رد ذوي القربى بلطف ووعدهم وعدا جميلا بالصلة عند اليسر، والاعتذار إليهم بما هو مقبول وفيه تطييب الخاطر، ولا يعرض الشخص عنهم إعراض مستهين، وهو في حال الغنى والقدرة، فيحرمهم حقهم.
لقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد، فأحسن القول، وابسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل: إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرّة نفسه عمل المواساة.
13- الإنفاق في الإسلام: هو التوسط والاعتدال من غير بخل ولا إسراف، ولا تضييع المنفق عياله في المستقبل، أو ألا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، فإن الإسراف وإتلاف المال بغير حق يوقع المسرف في الحسرة والندامة والملامة.
والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.
14- إن الله أعلم بمصالح عباده وبأحوالهم، فيرزق من يشاء، ويمنع من يشاء على وفق الحكمة والمصلحة.(15/63)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
أصول أخرى لنظام المجتمع الإسلامي
[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 39]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
الإعراب:
وَساءَ سَبِيلًا نصب على التمييز، التقدير: وساء سبيله سبيلا، أي لأنه يؤدي إلى النار.
إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الهاء إما أن تعود على القتل أو على المقتول أو على الولي.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً منصوب على المصدر، ومن قرأ: مَرَحاً بكسر الراء كان منصوبا على الحال.(15/64)
وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا منصوب على المصدر في موضع الحال من الجبال أو من الفاعل.
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كُلُّ: مبتدا، وذلِكَ: إشارة إلى المذكور المتقدم من قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع. وسَيِّئُهُ: اسم كانَ، ومَكْرُوهاً: خبر كانَ. وعِنْدَ رَبِّكَ ظرف حشو، أو أنه خبر كانَ أي كائنا عند ربك مكروها، ومَكْرُوهاً: حال من المضمر في الظرف. ومن قرأ: سَيِّئُهُ بالتنوين، جعل اسم كانَ ضميرا يعود إلى كُلُّ وسَيِّئُهُ: خبرها، ومَكْرُوهاً:
صفة ثانية. وقال: مكروها لا مكروهة لأن تأنيث السيئة مجازي غير حقيقي، أو أنه خبر آخر لكان، وذكّره لأن ضمير كُلُّ مذكر، ويكون عِنْدَ رَبِّكَ متعلقا بقوله: مَكْرُوهاً.
البلاغة:
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى أبلغ من القول: لا تأتوه، أو لا تزنوا.
كُلُّ أُولئِكَ عبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها مسئولة، فهي حالة من يعقل، فعبر عنها بأولئك.
المفردات اللغوية:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بالوأد خَشْيَةَ إِمْلاقٍ خوف الفقر نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ قدّم هنا رزق الأبناء على رزق الآباء لأن قتل الأولاد كان خشية وقوع الفقر بسببهم، فقدم رزقهم، وفي سورة الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [151] قدم رزق الآباء على رزق الأولاد، لأن قتلهم كان بسبب فقر الآباء خِطْأً إثما كَبِيراً عظيما.
فاحِشَةً فعلة قبيحة ظاهرة القبح وَساءَ سَبِيلًا بئس طريقا هو، لأنه اعتداء على الأعراض، وغصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاط الأنساب وقطعها، وتهييج الفتن لِوَلِيِّهِ لوارثه سُلْطاناً تسلطا على القاتل بمؤاخذته على القتل، بإشراف الحاكم وحكمه، أو بالقصاص من القاتل، فإن قوله تعالى: مَظْلُوماً يدل على أن القتل قتل عمد عدوان لأن الخطأ لا يسمى ظلما فَلا يُسْرِفْ يتجاوز الحد المشروع فِي الْقَتْلِ بأن يقتل غير القاتل، أو بغير ما قتل به، أو أكثر من شخص، منعا لعادة الأخذ بالثأر في الجاهلية.
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الطريق التي هي أحسن وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ عهد الله أي تكاليفه، أو عهد الناس الذي تبرمونه معهم إبراما موثقا مؤكدا مَسْؤُلًا عنه، ومطلوبا من المعاهد ألا يضيعه ويفي به وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ الميزان السوي أو العدل(15/65)
تَأْوِيلًا مآلا أو عاقبة وَلا تَقْفُ لا تتبع ما لا تعلم وَالْفُؤادَ القلب مَسْؤُلًا صاحبه: ماذا فعل به؟ فكل هذه الأعضاء يسأل صاحبها عما فعل بها، وأجراها مجرى العقلاء، لما كانت مسئولة عن أحوالها، شاهدة على صاحبها.
مَرَحاً فخرا وتكبرا، أو ذا مرح بالكبر والخيلاء لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك أو لن تجعل فيها طرقا بشدة ووطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لا تبلغ هذا المبلغ، فكيف تختال؟! كُلُّ ذلِكَ المذكور من قوله: وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ يا محمد مِنَ الْحِكْمَةِ هي معرفة الحق سبحانه لذاته، والخير والموعظة للعمل بهما.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، فإن من لا قصد له لا يقبل عمله، ومن قصد بفعله أو تركه غير التوحيد، ضاع سعيه، وأنه- أي التوحيد- رأس الحكمة وملاكها مَلُوماً تلام نفسك مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله. ثم رتب على الشرك نتيجته في الآخرة، وهو الإلقاء في جهنم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا هي (التوحيد، والاشتغال بعبادة الله بإخلاص والاحتراز عن عبادة غير الله، والإحسان إلى الوالدين والتواضع لهما، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، والقول الميسور) ثم ذكر أدب الإنفاق وهو التوسط دون إسراف ولا تقتير، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي (النهي عن الزنى، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) .
ثم أتبعه بأوامر ثلاثة: هي الوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل، ووزن الميزان بالقسط أو العدل. ثم نهى عن ثلاثة أشياء: اتباع ما لا علم له به، والتكبر والخيلاء، واتخاذ الشركاء آلهة مع الله.
والخلاصة: أنه تعالى جمع في هذه الآيات وما قبلها خمسة وعشرين نوعا من التكاليف وهي ما يأتي، مبتدئا بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، مختتما به(15/66)
أيضا، للتنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد «1» :
1- نبذ الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
2، 3- الأمر بعبادة الله، والنهي عن عبادة غير الله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.
4- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
5، 9- نواحي الإحسان للوالدين وهي خمسة: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما.
10، 12- إيتاء المستضعفين الثلاثة: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.
13- عدم التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً.
14- القول الميسور: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً.
15- عدم البخل والتقتير: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.
16- تحريم وأد البنات أو قتل الأولاد: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ.
17- تحريم القتل إلا بالحق: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
18- حق الولي في القصاص: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.
19- تحريم الإسراف في القصاص: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 213(15/67)
20- الوفاء بالعهد: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ.
21- إيفاء الكيل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ.
22- الوزن بالعدل: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.
23- عدم اتباع الظن: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
24- تحريم التكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.
25- تحريم الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
التفسير والبيان:
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات التي تبين دعائم المجتمع الإسلامي «1» ، وهو تحريم وأد البنات، فبعد أن بيّن تعالى كيفية البر بالوالدين، بيّن كيفية البر بالأولاد.
والمعنى: ولا تقتلوا بناتكم خوف الفقر أو العار، فنحن نرزقهم لا أنتم، ونرزقكم أيضا، إن قتلهم خوف الفقر أو العار كان إثما وذنبا عظيما، وخطأ جسيما. وقدم الإخبار برزق الأولاد هنا لأنه خاطب الموسرين منهم وذكر الاهتمام برزقهم، وقدم الإخبار برزق الآباء في سورة الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [151] لأنه خاطب الفقراء، ونهاهم عن قتلهم من فقر، فالأرزاق للآباء والأولاد بيد الله، وقتل الأولاد خوف الفقر من سوء الظن بالله، وإن كان خوف العار، والغيرة على البنات، فهو سعي في تخريب العالم.
والآية دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث. وكان أهل الجاهلية لا يورثون
__________
(1) والأنواع الأربعة السابقة: هي الأمر بالتوحيد، والاشتغال بعبادة الله تعالى دون غيره، والأمر ببر الوالدين، وإيتاء القريب والمسكين وابن السبيل حقه دون بخل ولا تبذير. وحق الوالدين خمسة أشياء: عدم التأفيف، وعدم الانتهار بكلام زاجر، والقول الكريم الطيب، والمبالغة في التواضع، والدعاء لهما بالرحمة.(15/68)
البنات دائما، ويقتلون البنات أحيانا بوأدهن أحياء في التراب لعجزهن عن الكسب، وقدرة البنين عليه بالغارة والنهب والسلب، وأيضا كانوا يخافون من أن فقر البنات ينفر الأكفاء عن الرغبة فيهن، فيحتاجون إلى تزويجهن من غير الأكفاء.
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» .
النوع السادس- تحريم الزنى: وبعد أن أمر الله تعالى بالأشياء الخمسة المتقدمة، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء هي الزنى والقتل وأكل مال اليتيم، وبدأ بتحريم الزنى، لأنه نوع من الإسراف، عقب النهي عن قتل الأولاد الذي هو مظهر من مظاهر البخل، فقال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا أي لا تقتربوا من الزنى، ولا من أسبابه ودواعيه لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه، والزنى فعلة فاحشة شديدة القبح، وذنب عظيم، وساء طريقا ومسلكا لأن فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، واقتحام الحرمات، والاعتداء على حقوق الآخرين، وتقويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة، ونشر الفوضى، وفتح باب الاضطراب، وانتشار الأمراض الفتاكة، والوقوع في الفقر والذل والهوان. قال القفال: إذا قيل للإنسان: لا تقرب هذا، فهذا آكد من أن يقول له: لا تفعله، ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
أخرج ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» .(15/69)
وقد علّم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أخرجه أحمد فتى شابا درسا بليغا واقعيا في أن الزنى كما هو مبغوض مكروه في أمهات الإنسان وبناته وأخواته وعماته وخالاته، فكذلك هو مبغوض لا يحبه الناس لأمهاتهم وبناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم، ثم وضع يده عليه،
وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه»
فلم يكن ذلك الفتى بعد يلتفت إلى شيء.
أما بلاد الشرق والغرب التي تبيح الزنى ولو علانية، فإنها لا تهتم باختلاط الأنساب، ولا بما يسمى بالعرض، فقد رفع هذا من القيم الأخلاقية عندهم، وجعلوا الاستمتاع بالمرأة كالطعام والشراب، وهذا نذير سوء، وقلب للأوضاع، ونكسة في الفطرة الإنسانية.
وقد وصف الله تعالى الزنى بصفات ثلاث: كونه فاحشة، ومقتا في آية أخرى، وساء سبيلا. أما كونه فاحشة: فلاشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم، ولاشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج، وهو أيضا يوجب خراب العالم. وأما المقت: فلأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، حتى في الأوساط المتحللة، وذلك يوجب عدم السكن والازدواج، وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلا: فلأنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكور بالإناث، وأيضا يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة، من غير أن يصير مجبورا بشيء من المنافع «1» .
النوع السابع- تحريم القتل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ... هذا هو ثاني الأمور المنهي عنها، وسابع أحكام المجتمع، وناسب ذكره بعد الزنى لأن الزنى يؤدي إلى عدم وجود الإنسان، ويقلل من النسل البشري، أما القتل فيهدم وجود الإنسان، وهو إعدام الناس بعد وجودهم، وهو حرام لكونه اعتداء على خلق
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 198- 199(15/70)
الله، وهدم له لأن الإنسان ليس ملكا لنفسه، إنما هو ملك لخالقه، وثروة لمجتمعه ودولته، ولذلك حرّم الانتحار وحرّم قتل النفس إلا بالحق، فمن قتل نفسه فهو آثم معتد، ومن قتل غيره فهو أيضا معتد أثيم.
ومعنى الآية: ولا تقتلوا النفس الإنسانية التي حرم الشرع قتلها إلا إذا كان بحق شرعي، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان (ردة) وزنى بعد إحصان، وقتل معصوم الدم عمدا،
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .
وثبت في السنن للترمذي والنسائي عن ابن عمرو: «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم» .
فالقتل بغير حق جريمة عظمي لأنه إفساد والله تعالى لا يحب الفساد، وضرر واعتداء، وإخلال بالأمن، وإحداث للاضطراب في المجتمع، وسبيل لانقراض الإنسانية.
وبعد أن استثنى الله تعالى من تحريم القتل حالة القتل بالحق بقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ أثبت الحق في تنفيذ القصاص بإشراف الدولة لولي الدم، مع تقييده بحصر القتل في القاتل نفسه دون غيره، فقال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.. أي ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله، فقد جعلنا لمن يلي أمره من وارث أو سلطان حاكم عند عدم الوارث سلطة على القاتل ومنحه الخيار بأحد أمرين: إما القصاص (القود) منه بعد حكم قضائي وبإشراف القاضي، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا كما ثبت في السنة، لقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة 2/ 178]
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أبو داود والنسائي عن أبي شريح الخزاعي: «من قتل له قتيل بعد مقالتي هذه، فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل- الدية- أو يقتلوا» .(15/71)
وهذا السلطان لولي الدم مقيد بألا يسرف في القتل، أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به، أو يقتص من غير القاتل، كعادة أهل الجاهلية والجاهلين اليوم الذين يقتلون الجماعة في الواحد تشفيا واستعلاء، قال مهلهل بن أبي ربيعة حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب أخي، أي أنت تساوي نعل كليب، ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرّة جميعا.
لا تسرف أيها الولي في استيفاء القتل، فإنك معان منصور على القاتل شرعا وقدرا، حيث وجب لك القصاص، ويعوضك الله خيرا في الدنيا والآخرة، بتكفير الخطايا، وتعذيب القاتل في النار.
والمقصود بذلك: أن الأولى ألا يقدم ولي الدم على استيفاء القتل، وأن يكتفي بأخذ الدية، أو يعفو مجانا لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 178] وقوله سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] .
النوع الثامن- تحريم أكل مال اليتيم:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ.. بعد أن حرم الله تعالى إتلاف الأنفس حرم إتلاف الأموال، والمعنى لا تتصرفوا في مال اليتيم ولا تقربوا منه أكلا وإتلافا إلا بما يحقق الفائدة أو المصلحة الظاهرة لليتيم، وهي الطريقة الحسنى بحفظ ماله وتثميره حتى يبلغ رشيدا، ويبلغ أشده مبلغ الرجال، ويكتمل عقله، فالمراد بالأشد: بلوغه إلى سن يتمكن فيه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند الرشد تزول ولاية غيره عنه، وهو حد البلوغ رشيدا. فإن بلغ غير عاقل أو غير رشيد، بقيت الولاية السابقة عليه. وبلوغ العقل: هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية.
ونظير الآية: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا(15/72)
فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
[النساء 4/ 6] . فيجوز لولي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأخذ شيئا من مال اليتيم للحاجة بقدر المعروف.
ولما نزلت آية وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ شق ذلك على الصحابة، فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام ولا غيره، مما أدى إلى إهمال شؤون الأيتام، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة 2/ 220] .
النوع التاسع- الوفاء بالعهد: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا: بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا، ثم نهى عن ثلاثة أشياء (الزنى، والقتل إلا بالحق، وقربان مال اليتيم) أمر بأوامر ثلاثة: أولها- الوفاء بالعهد، والمعنى: وفّوا بالعهد الذي تعاهدون عليه الناس، وبالعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد، كل منهما يسأل صاحبه عنه، ونظير الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة 5/ 1] فالعهد فضيلة وميثاق، والعقد التزام وارتباط، والإخلال بالعهد خيانة ونفاق، والتحلل من العقد إهدار للثقة وتضييع للحقوق، فيجب شرعا الوفاء بالعهد، وتنفيذ مقتضى العقد، فمن أخلف بوعده، ولم يوف بعهده، ولم ينفذ التزام عقده، وقع في الإثم والمعصية، وأخل بمقتضى الإيمان والدين، والعهد: أمر عام يشمل كل ما بين الإنسان وبين الله والنفس والناس. والعقد: كل التزام يلتزمه الإنسان، كعقد اليمين والنذر، وعقد البيع والشركة والإجارة والصلح والزواج.
وكل عقد لأجل توثيق الأمر وتوكيده، فهو عهد.
لذا تواردت الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والعقود، كقوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة 2/ 177] وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون 23/ 8، المعارج 70/ 32] وقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ(15/73)
الْبَيْعَ
[البقرة 2/ 275] وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء 4/ 29] .
والوفاء بالعهد أو بالعقد: تنفيذ مقتضاه، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي، وعلى وفق التراضي الذي لا يصادم الشرع.
النوع العاشر- إيفاء الكيل والوزن بالعدل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ... هذا هو الأمر الثاني من الأوامر الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهو إتمام الكيل وإتمام الوزن، أي أتموا الكيل من غير تطفيف ونقص، وأتموا الوزن بالعدل دون جور أو حيف، فإن كلتم لأنفسكم أو وزنتم فلا تزيدوا في الكيل أو الوزن، ولا مانع إن نقصتم عن حقكم. ذلِكَ خَيْرٌ.. أي فإن عاقبة الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والوزن بالعدل خير لكم في الدين والدنيا في معاشكم ومعادكم، وأحسن مآلا ومنقلبا في آخرتكم، فلا تؤاخذون أو تعاقبون يوم القيامة، ويرغب الناس في معاملتكم، ويثنون عليكم، ولا تتعرضون لإساءة السمعة، أو عقاب السلطة، فقد ثبت بالتجربة أن التاجر الثقة الصدوق هو المحبوب الرابح الذي يقبل عليه الناس، وأن التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن هو المنبوذ المبغوض الخاسر الذي يعرض الناس عنه.
وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآية، منها وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن 55/ 9] ومنها: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود 11/ 85] ومنها: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
[سورة المطففين 83/ 1- 3] .
وكل من الوفاء بالعقود والعهود وإتمام الكيل والميزان قاعدة حضارية اجتماعية سامية، وأساس راسخ ضروري في صرح التعامل بين الناس، يؤدي إلى(15/74)
توفير الثقة والطمأنينة، ويكون سببا لتنمية العلاقات وزيادة الكسب والأرباح.
النوع الحادي عشر- التخمين وسوء الظن: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. أي أنه تعالى بعد بيان الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي، فنهى عن ثلاثة أشياء:
أولها- القول بالحدس والتخمين وسوء الظن، فهذا عيب في السلوك، وتشوية للحقائق، وطعن في الآخرين بغير حق، وإهدار لقدسية العلم والحقيقة. والمعنى: ولا تتبع ولا تقتف مالا علم لك به من قول أو فعل، والمقصود النهي عن الحكم على الأشياء بما لا يكون معلوما علما صحيحا، ولا دليل عليه.
وهذا يشمل نهي المشركين عن الاعتقاد الفاسد في القضايا الإلهية والنبوات، بسبب تقليد أسلافهم، واتباع الهوى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم 53/ 23] .
ويشمل أيضا شهادة الزور وقول الزور، والقذف ورمي المحصنين والمحصنات (العفائف) بالأكاذيب، والكذب والبهتان والافتراء، والطعن في الآخرين بالظن وتتبع العورات، وتزييف الحقائق العلمية والأخبار وغير ذلك، فلا يصح لإنسان أن يقول مالا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به، أو أن يذم أحدا بما لا يعلم.
وقد شاع هذا الخلق المذموم بين المسلمين، وصار التحدث بغير علم ولا معرفة ولا ثقة ظاهرة منتشرة بسبب ضعف الدين والإيمان، وتفسخ الأخلاق، وانحلال القيم، واتباع الأهواء، وضعف النفوس والانغماس في المادة، وتحلل القيم.
لذا حذر القرآن من تلك الظاهرة المرضية، فقال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ... أي إن مفاتيح العلوم والمعارف من السمع والبصر وهما واسطة العلوم الحسية والتجريبية، والفؤاد وبه تتحصل العلوم العقلية، يسأل عنها صاحبها يوم القيامة، وتسأل عنه، فإذا سمع الإنسان ما لا يحل له سماعه،(15/75)
وأبصر أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، وعزم على مالا يحل العزم عليه، كان مسئولا عنه، معاقبا عليه لأن أدوات المعرفة هذه ينبغي استعمالها في الطاعة لا في المعصية. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات 49/ 12]
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» .
بل إن هذه الأدوات تسأل عن صاحبها بأن يخلق الله فيها الحياة، ثم تشهد على الإنسان، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور 24/ 24] .
قال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك. وقال قتادة: لا تقل: سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم.
النوع الثاني عشر- تحريم التكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ... هذا هو الأمر الثاني المنهي عنه هنا، وهو تحريم الكبر والتجبر والتبختر في المشية، والمعنى: ولا تمش في الأرض مرحا أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين، فذلك المشي يدل على الكبرياء والعظمة، إنك لن تخرق الأرض أي تنقبها أو تقطعها بمشيك إذا سرت عليها، ولن تبلغ الجبال طولا، أي لن تصل بتطاولك وتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك إلى قمم الجبال، وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.
بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده، كما
ثبت في صحيح مسلم: «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بردان يتبختر فيهما، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»
وأخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على(15/76)
قومه في زينته، فخسف الله به وبداره الأرض.
وفي الحديث الحسن الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة من تواضع لله رفعه الله»
فهو في نفسه حقير، وعند الله كبير.
ونظير الآية قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان 25/ 63] وقوله سبحانه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان 31/ 19] .
خاتمة معبرة:
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كل ما تقدم من الخصال القبيحة المفهومة من الأوامر والنواهي، وهي خمس وعشرون، من قوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إلى هنا، كان سيئه أي قبيحه مكروها عند ربك، أي مبغوضا عنده، ومنهيا عنه، ومعاقبا عليه، وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية التي لا تستدعي الرضا منه سبحانه، كما
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن» .
وكلمة ذلِكَ تصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر.
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي ذلك الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، هو مما أوحينا إليك يا محمد من أصول الشريعة والدين، والحكم به، لتأمر به الناس، والمراد بالحكمة: التكاليف المذكورة.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. لا تتخذ إلها آخر شريكا مع الله، فتعاقب بالإلقاء في جهنم ملوما: تلومك نفسك، ويلومك الله والخلق، مدحورا، أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ومن كل خير.
والخطاب في هذه الآية للأمة، بواسطة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه معصوم فيكون(15/77)
المراد به: كل من سمع الآية من البشر. وقد بدأ الله تعالى هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها بعين هذا المعنى. والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر وآخره يجب أن يكون مبتدئا ومقترنا بالتوحيد، وأن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والتعمق فيه.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، ثم تلا: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. أو إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وأولها:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وقد رتب الله تعالى على الإشراك وترك التوحيد في البداية كون الشخص مخذولا، وفي آخر الآيات كونه ملوما مدحورا، فثبت أن أول الأمر يصبر مخذولا، وآخره أن يصير مدحورا. والمخذول: ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، والمدحور: إهانته والاستخفاف به.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
1- تحريم وأد البنات خشية الفقر أو العار أو غير ذلك مطلقا.
2- تحريم الاقتراب من الزنى ودواعيه وأسبابه التي تؤدي إليه عادة.
3- تحريم قتل النفس بغير حق شرعي. وللولي الوارث سلطة استيفاء القصاص من القاتل وحده دون غيره، بغير تمثيل ولا قتل غير القاتل، فإنه معان عليه بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعها ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى.(15/78)
4- تحريم قربان مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى التي تؤدي إلى الحفاظ عليه وتحقيق مصلحته الظاهرة، إلى أن يبلغ رشده.
5- وجوب الوفاء بالعهد فالإنسان مسئول عنه، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد.
6- إيفاء الكيل وإتمام الوزن بالحق والعدل دون بخس ولا زيادة ولا نقص، فذلك خير للإنسان عند ربه وأبرك، وأحسن عاقبة.
قال الحسن البصري: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يقدر رجل على حرام، ثم يدعه، ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» .
7- عدم اتباع مالا يعلم به الإنسان ولا يعنيه، قال مجاهد: لا تذمّ أحدا بما ليس لك به علم. لكن يجوز الحكم بالقيافة لأن الآية وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ دل على جواز مالنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه، جاز أن يحكم به.
ويجوز أيضا إثبات الشيء بالقرعة، والخرص (التقدير والتخمين) لأنه نوع من غلبة الظن، فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العمل بالقيافة في إثبات نسب أسامة وكان أسود، من زيد بن حارثة وكان أبيض،
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل عليّ مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تري أن مجززا- وكان قائفا- نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، عليهما قطيفة، قد غطّيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال:
«إن بعض هذه الأقدام لمن بعض» .
واستدل جمهور العلماء على القيافة عند التنازع في الولد بسرور النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول هذا القائف.(15/79)
ولم يأخذ الحنفية بالقيافة متمسكين بإلغاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الشبه في حديث اللعان.
8- يسأل كل واحد من السمع والبصر والفؤاد عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه الإنسان واعتقده، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع.
9- النهي عن الخيلاء وتحريمه، والأمر بالتواضع والحض عليه. وذكر القرطبي أن إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إليه داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان.
10- استدل العلماء بهذه الآية: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً على ذم الرقص وتعاطيه، قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: قد نص القرآن على النهي عن الرقص، فقال: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وذمّ المختال. والرقص أشد المرح والبطر. قال القرطبي: أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشّعر معه على الطّنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما «1» .
11- هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 263(15/80)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
تقريع على نسبة الولد والشريك إلى الله تعالى
[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
البلاغة:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ؟ الهمزة للإنكار والتوبيخ.
لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ وارد على سبيل الفرض والاحتمال.
المفردات اللغوية:
أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم وخصكم يا أهل مكة، والإصفاء: جعله خالصا له إِناثاً بنات لنفسه بزعمكم لَتَقُولُونَ بذلك قَوْلًا عَظِيماً عظيم الإنكار، بإضافة الأولاد إليه صَرَّفْنا بينا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا يتعظوا ويتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً وما يزيدهم ذلك إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، والنفور: البعد عن الشيء.
قُلْ لهم أي للمشركين لَوْ كانَ مَعَهُ أي مع الله لَابْتَغَوْا طلبوا إِلى ذِي الْعَرْشِ أي الله سَبِيلًا طريقا، وللكلام معنيان: الأول- هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى، لغلب بعضهم بعضا، والثاني- لو كانت هذه الأصنام كما تقولون أيها الكفار من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى الله تعالى، وسبيلا إليه، وأعدت لأنفسها المراتب العالية، فلما لم تقدر على اتخاذ سبيل لأنفسها إلى الله، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله؟!(15/81)
سُبْحانَهُ تنزيها له وَتَعالى تعاظم عَمَّا يَقُولُونَ من الشركاء. عُلُوًّا كَبِيراً تعاليا متباعدا غاية البعد عما يقولون، فإنه في أعلى مراتب الوجود، وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته، وأما اتخاذ الولد فمن أدنى مراتبه، فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.
تُسَبِّحُ لَهُ تنزهه وَإِنْ ما مِنْ شَيْءٍ من المخلوقات إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إلا ينزهه تنزيها مقترنا بحمده، فيقول: سبحان الله وبحمده لا تَفْقَهُونَ لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ لأنه ليس بلغتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم، غفورا لمن تاب منكم.
المناسبة:
بعد أن حذر الله تعالى من الشرك، نبّه إلى جهل من أثبت لله شريكا، وندّد بالمشركين وقرّع الذين أثبتوا لله ولدا، وجعلوا البنين لأنفسهم، مع علمهم بعجزهم ونقصهم، ونسبوا البنات لله، مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له، مما يدل على نهاية جهلهم.
ثم أبان أنه ضرب في القرآن الأمثال للناس ليتدبروا ويتأملوا فيها، وذكر أنه لو كانت هذه الأصنام تقرب إلى الله زلفى، لطلبت لنفسها القربة إلى الله، ولكنها لم تفعل ذلك، فبان خطؤهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله، وتبين إبطال تعدد الآلهة، وإثبات الوحدانية لله، والتنزيه له، لأن كل ما في الكون تدل أحواله على توحيد الله وتقديسه وعزته، ولكنكم بسبب الجهل والغفلة لا تدركون دلالة تلك الأدلة.
التفسير والبيان:
بعد أن فند الله تعالى زعم من نسب لله شريكا، شنع هنا على من نسب له الولد، وردّ الله تعالى في هذه الآية على المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، مقرعا لهم ومنكرا عليهم، ومبينا خطأهم العظيم قائلا: أيكرمكم ربكم فيخصكم بالذكور من الأولاد، ويختار لنفسه على(15/82)
زعمكم البنات، وأنتم تئدوهن ولا ترضونهن لأنفسكم. ثم يشدد الإنكار عليهم قائلا: إنكم في زعمكم أن لله ولدا، وهو من الإناث اللاتي تأنفون أن يكن لكم، لتفترون على الله الكذب، وتقولون على الله قولا عظيما إثمه، موجبا العذاب عليكم، منافيا لأبسط مبادئ العقول بنسبة الضعيف للقوي، والقوي للضعيف.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 22] أي جائرة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 88- 95] .
ثم نبّه الله تعالى إلى كون هذه المناقشة وذلك الكلام غاية في الوضوح بقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ... أي ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات والمواعظ، وأوضحنا الأمثال لهم، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، وهم مع ذلك ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
ثم رد الله تعالى على المشركين الذين يتخذون شريكا لله، فقال:
قُلْ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ... قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يزعمون أن لله شريكا من خلقه، ويتخذون مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون، وأن الله معه آلهة تعبد لتقرب إليه، وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون المتخذون آلهة يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة بعبادتهم، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه تعالى لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة أنبيائه ورسله، ثم نزه نفسه الكريمة عن ذلك فقال:(15/83)
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً أي تنزه الله تعالى عما لا يليق به، وتعالى، أي ارتفع وعلا عما يقول هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى، تعاليا كبيرا، بل هو الله الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
وفي وصف العلو بالكبر إشارة إلى وجود التغاير المطلق بين ذاته وصفاته تعالى، وبين نسبة الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد إليه، لوجود المنافاة بين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج، منافاة لا يتصور الزيادة عليها، كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم 19/ 90- 91] .
ثم أبان الله تعالى مبلغ عظمته فقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ ... أي تقدسه وتنزهه السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وما من شيء من المخلوقات (الحيوانات والجمادات والنباتات) إلا يسبح بحمد الله تعالى، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجوب وجود الله تعالى الخالق لكل الأكوان، فالتسبيح من الناس هو قولهم: سبحان الله، وهذا حقيقة، ومن الجمادات وغيرها: معناه الدلالة على تنزيه الله تعالى، وهذا مجاز. وقال بعضهم: إنه حقيقة أيضا.
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي ولكن لا تفهمون أيها البشر تسبيحهم، لأنه بخلاف لغاتكم، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح، من شجر أو غيره.
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً إنه تعالى كان وما يزال حليما لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، وإنما يمهل ويؤجل، ويغفر لمن تاب منكم.(15/84)
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن نسبة الملائكة بجعلها بنات الله افتراء كبير وقول عظيم الإثم عند الله عز وجل. وهذا تنديد بقول بعض العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
2- بالرغم من بيان القرآن الشافي للحجج والبينات الدالة على توحيد الله ووحدانيته المطلقة، والاتعاظ بما فيها، فإن المشركين المعاندين الظالمين لا يزدادون بعد هذا البيان إلا التباعد عن الحق، والغفلة عن النظر والاعتبار، لسوء نظرهم وخلل تفكيرهم، واعتقادهم في القرآن أنه حيلة وسحر، وكهانة وشعر.
3- لو كان هناك آلهة شفعاء مع الله كما يزعم المشركون، لكانت هذه الآلهة بحاجة إلى التقرب إلى الله، بالعبادة والتعظيم، لتجعل لنفسها مكانة عند الله، وتلتمس الزّلفة عنده، لأنهم دونه، والمشركون اعتقدوا أن الأصنام تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد بطل أنها آلهة، وكان الأحرى بعبدتها أن يعبدوا الإله الحقيقي وهو الله جل جلاله.
وهذا ردّ على عباد الأصنام، كما أن الآية الأولى ردّ على الذين يجعلون الملائكة بنات الله.
4- ما من مخلوق في السموات والأرض إلا يسبح بحمد الله تعالى، وتسبيح البشر العقلاء هو حقيقة بأن يقولوا: سبحان الله أي تنزيها لله تعالى وتمجيدا وتقديسا، وتسبيح غير البشر مجاز، والمراد به تسبيح الدلالة أي دلالة هذه المخلوقات بذاتها على وجود الإله الخالق، فكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح أيضا حقيقة، وكل شيء بصفة(15/85)
عامة يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، لأن الآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وثبت في السنة أنه يخفف على الأموات بالأشجار في حديث الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا المتضمن تعذيب صاحبي القبرين بسبب عدم الاستنزاه من البول والنميمة. قال القرطبي: وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن؟! فالثابت أنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه.
وهو رأي المذاهب الأربعة.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء» .
والخلاصة:
إن الرازي وجماعة يرون أن تسبيح الجمادات مجاز وهو تسبيح الدلالة، وأن القرطبي وآخرين يرون أن كل شيء من الموجودات على الصحيح يسبح، للأخبار الدالة عليه، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود؟ كما حكى القرآن: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص 38/ 17- 18] وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح، وقد نصت السنة على ما دلّ عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه ومالك عن أبي سعيد الخدري-: «لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» .
5- من صفات الله السامية أنه حليم عن ذنوب عباده في الدنيا، غفور للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه، وحلمه أنه لا يعاجل المشركين بالعقوبة على غفلتهم وسوء نظرهم وجهلهم بالتسبيح والشرك.(15/86)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
حماية النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين إذا قرأ القرآن
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
الإعراب:
حِجاباً مَسْتُوراً أي ذا ستر، على النّسب، مثل: امرأة حائض وطالق وطامث أي ذات حيض وطمث وطلاق، أو بمعنى ساتر، فيجيء مفعول بمعنى فاعل، كما يجيء فاعل بمعنى مفعول، مثل: سرّ كاتم، وماء دافق، أي سر مكتوم، وماء مدفوق. وَحْدَهُ مصدر وقع موقع الحال، أي واحدا.
وَإِذْ هُمْ نَجْوى إما جمع نجيّ، كجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وإما مصدر، مثل قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة 58/ 7] .
إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِذْ بدل من إِذْ قبله.
المفردات اللغوية:
حِجاباً وحجبا: أي منعا من الوصول إلى الشيء، والمراد: حاجبا. مَسْتُوراً أي ساترا لك عنهم، فلا يرونك. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ أي منعناهم أن يفهموه، أو كراهة أن يفهموه. وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن استماعه استماع تأمل في لفظه، وتدبر في معناه. وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم، قال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة، ووحده هنا: مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا وحده.(15/87)
بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ بسببه من الهزء. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إلى قراءتك. نَجْوى يتناجون بينهم، أي يتحدثون. إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ في تناجيهم. إِنْ ما تتبعون.
مَسْحُوراً مخبول العقل، كقولهم: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون 23/ 25] .
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والكاهن والشاعر. فَضَلُّوا جاروا عن طريق الهدى.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إليه.
سبب النزول:
نزول الآية (45) :
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآية:
أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا القرآن على مشركي قريش، ودعاهم إلى الكتاب قالوا يهزؤون به: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت 41/ 5] ، فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآيات.
وروى ابن عباس: أن أبا سفيان، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد، غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء، وقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آيات، وهي قوله في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [57] وفي النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [108] وفي حم الجاثية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [23] إلى آخر الآية
، فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 20/ 221(15/88)
فهذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفّقون ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار.
نزول الآية (46) :
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ: قيل:
دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقرأ، ومرّ بالتوحيد، ثم قال:
يا معشر قريش، قولوا: لا إله إلا الله، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولّوا، فنزلت هذه الآية.
قال أبو حيان: والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته القرآن، ومروره بتوحيد الله تعالى، والمعنى: إذا جاءت مواضع التوحيد، فرّ الكفار إنكارا له، واستبشاعا لرفض آلهتهم، واطراحها «1» .
المناسبة:
بعد أن تكلّم الله تعالى في المسائل الإلهية، وجادل المشركين بضرب الأمثال لهم، تكلّم في هذه الآية فيما يتعلّق بتقرير النّبوة، والنّعي عليهم بعدم فهمهم للقرآن ونفورهم منه وهزئهم به، وإيذائهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتّهامهم له بأنه كاهن أو ساحر أو مجنون أو شاعر.
التفسير والبيان:
وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، أي حائلا مانعا يمنع
__________
(1) البحر المحيط: 6/ 42.(15/89)
قلوبهم عن فهم معاني القرآن وتدبر آياته، وجعلنا على قلوبهم أغطية بحيث لا يتسرّب إليها فهم مدارك القرآن ومعرفة أحكامه وأسراره وغاياته، وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته. فمعنى قوله تعالى: أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموا القرآن، والوقر: هو الثقل الذي يمنع من سماع القرآن سماع انتفاع واهتداء به.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت 41/ 5] .
والحجاب المستور أي الساتر، فهو يستر البصائر عن أن تبصر حقائق الأشياء، ومعنى جعل الأكنة على القلوب: أي جعل القلوب في الأكنّة، والأكنّة جمع كنان: الذي يغشى القلب، فصار التغليف والحيلولة دون الفهم من الظاهر والباطن والأعلى والأسفل، وأوصد الله الآذان وصمّها عن السّماع سماع وعي وفهم وتدبّر، فهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، والمراد بالآية منعهم عن الإيمان، ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره، ولا يفهمون دقائقه وحقائقه، وذلك لتأصّل الشرك في نفوسهم، وعدم إعمال أفكارهم في حقائق الدّين.
وقد تقدّم ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصيّ يصفّقون، ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.. أي وإذا وحّدت الله في تلاوتك وقلت: لا إله إلا الله، ولم تقل: واللّات والعزّى، ولّوا أي أدبروا راجعين على أدبارهم نافرين نفورا، تكبّرا من ذكر الله وحده، كما قال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزّمر 39/ 45] وذلك لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتّوحيد نفروا.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ.. نحن يا محمد أعلم بالنّحو الذي يستمعون به(15/90)
حين يستمعون إليك هزءا وسخرية وتكذيبا، وأعرف بما يتناجى به رؤساء كفار قريش، ويتسارّون، حين جاؤوا يستمعون قراءتك سرّا قائلين: إنك رجل مسحور، أو مجنون، أو كاهن، لذا قال تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.. أي تأمل يا محمد كيف مثّلوا لك الأمثال، وأعطوك الأشباه، فقالوا: هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا عن سواء السّبيل، ولم يهتدوا إلى الحقّ لضلالهم، ولم يجدوا إليه مخلصا يتخلّصون من متاهة ما هم فيه من الضّياع. وهذا وعيد لهم وإيناس لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الثّابت الذي دلّ عليه القرآن والسّيرة أن الله تعالى حجب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبصار كفار قريش عند قراءة القرآن، فكانوا يمرّون به ولا يرونه.
2- حجب الله القرآن عن أبصار المشركين وعقولهم وأفهامهم، وجعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنّواهي، والحكم والمعاني، وجعل أيضا في آذانهم وقرا أي صمما وثقلا أن يسمعوه، وإذا ذكر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه عند تلاوة القرآن فقال: لا إله إلا الله وحده، ولّى المشركون نافرين نفورا من سماع كلمة الحقّ والتّوحيد.
3- الله تعالى أعلم بالنّحو الذي يستمع فيه المشركون إلى القرآن حين يقول الظالمون منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما للناس لتنفيرهم عن النّبي:
ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، قد خبله السّحر، فاختلط عليه أمره، يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، بعد أن قرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التّوحيد،
وقال: «قولوا: لا إله إلا الله لتطيعكم العرب، وتدين لكم العجم»
فأبوا.(15/91)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
7- تعجيب من الله لرسوله من صنع المشركين كيف يقولون تارة:
ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، فضلوا الطريق، فأصبحوا لا يستطيعون حيلة في صدّ النّاس عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وضلّوا عن الحقّ، فلا يجدون سبيلا إلى الهدى.
إنكار المشركين البعث والرّد عليهم
[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
الإعراب:
أَإِذا كُنَّا عِظاماً عامل إِذا مقدّر، أي أإذا كنّا عظاما ورفاتا بعثنا؟ ولا يجوز أن يعمل فيه لَمَبْعُوثُونَ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. أَوْ خَلْقاً مصدر أو حال أي بعثا جديدا.
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ: يَوْمَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكروا يوم يدعوكم، أو نعيدكم يوم يدعوكم، دل عليه قوله تعالى: مَنْ يُعِيدُنا [الإسراء 17/ 51] فعلى التقدير الأول يكون مفعولا، وعلى التقدير الثاني يكون ظرفا، وهو أوجه الوجهين.
والباء في بِحَمْدِهِ للحال أي تستجيبون حامدين له.
البلاغة:
أَإِذا كُنَّا عِظاماً استفهام إنكاري. أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كرر الهمزة لتأكيد الإنكار، ثم أكّده بإنّ واللام، لإفادة قوة الإنكار.
قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً تعجيز وإهانة.(15/92)
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي قال المشركون منكرين للبعث. وَرُفاتاً بقايا ما تكسّر وبلي من كلّ شيء. قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أي قل لهم يا محمد: كونوا أي شيء، حجارة أو حديدا، ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر على إحيائكم، والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة، وإلى رطوبة الحي وغضاضته، بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحيّ، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فالله قادر على أن يردّها إلى حالتها الأولى.
ولو كنتم أبعد شيء عن الحياة ورطوبة الحي، بأن تكونوا حجارة يابسة، أو حديدا، مع أنها تتصف بالصّلابة، لكان الله قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة.
أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني: أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه، فإنه يحييه، وينفخ فيه الرّوح. مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة؟
فَطَرَكُمْ خلقكم. أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون. فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ سيحرّكون رؤوسهم تعجّبا واستهزاء. وَيَقُولُونَ
استهزاء. مَتى هُوَ أي البعث. أَنْ يَكُونَ قَرِيباً خبر أو ظرف أي في زمان قريب.
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل. فَتَسْتَجِيبُونَ أي تجيبون الداعي.
بِحَمْدِهِ حال منهم، أي حامدين الله تعالى على كمال قدرته، أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مرّ على قرية، أو مدّة حياتكم، لما ترون من الهول.
المناسبة:
بعد أن تكلّم الله تعالى في الإلهيّات، ثم أتبعه بذكر شبهات المشركين في النبوّات، ذكر في هذه الآية شبهاتهم في إنكار البعث والمعاد والقيامة، وردّ عليها بما ينقضها.
ومن المعلوم أن مدار القرآن على المسائل الأربعة، وهي: الإلهيّات، والنّبوّات، والمعاد، والقضاء والقدر.(15/93)
التفسير والبيان:
وقال المشركون منكر والبعث والمعاد استفهام إنكار لذلك حين سماع القرآن وسماع أمر البعث: أإذا كنّا عظاما بالية في قبورنا، ورفاتا أي ترابا بسبب تكسر العظام وصيرورتها كالتّراب، أإنا لمبعوثون عائدون يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر خلقا صحيحا جديدا كما كنّا قبل الممات، كما أخبر عنهم القرآن في موضع آخر: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات 79/ 10- 12] . وقوله تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] .
فأمر الله تعالى نبيّه أن يجيبهم بقوله:
قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ... أي قل يا محمد لهم: إن إعادة الميت إلى الحياة أمر يسير سهل، وهو أهون على الله من الخلق أول مرة، أي أهون في تصورنا وحكمنا على الأشياء وإلا فالخلق لأي شيء على الله يسير في أي حال لأن المادة المركبة إذا وجدت عناصرها وعرفت خواصها يسهل إحداث أشياء مماثلة لها، ولو فرض أنكم أيها المشركون كنتم أبعد شيء من الحياة، وأشدّ الأشياء صلابة من حجارة أو حديد إذ هما أشدّ امتناعا من العظام والرّفات عن قبول الحياة، أو أي خلق يعظم في تصوّركم وعقولكم كالسّماء والأرض والجبال عن قبول الحياة، فإن الله قادر على إحيائه وبعثه من جديد لأن المواد الجامدة متساوية في قبولها ما يطرأ عليها من حياة أو عقل إذ لو لم يكن هذا القبول والاحتمال قائما حاصلا، لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر، والله قادر على كل الممكنات، وعالم بجميع الجزئيات، فإعادة الحياة إلى تلك الأجزاء المادية ممكن قطعا، سواء صارت عظاما ورفاتا، أو صارت شيئا أبعد في تصور الحياة وقبولها، وهي أن تصير حجارة أو حديدا.(15/94)
وهذا من قبيل المبالغة وربط الأشياء بأقصى ما يمكن تصوره في الدّلالة على قدرة الله تعالى على الإحياء والإعادة.
وبعد استبعاد الإعادة استبعدوا حدوثها كما قال تعالى:
فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا؟ .. أي فسيقولون لك يا محمد: من يعيدنا إلى الحياة إذا كنّا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا، فقل لهم: المعيد هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا، ثم صرتم بشرا عديدين منتشرين في الدّنيا، فإنه سبحانه وتعالى قادر على إعادتكم، ولو صرتم إلى أي حال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم 30/ 27] .
والمتوقع حين سماع ذلك هو كما قال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي لتأصل إنكار البعث في نفوسهم سيحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيبا.
وَيَقُولُونَ: مَتى هُوَ؟ أي يقولون: متى هذا البعث والإعادة؟
عنّا الحزن [فاطر 35/ 34] وهي رواية ضعيفة، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري: هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة.
قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي إن ذلك قريب منكم سيأتيكم لا محالة، فكلّ ما هو آت قريب، كما قال سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج 70/ 6- 7] .
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس: «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وأشار بالسبابة والوسطى. فقوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً معناه أنه هو قريب لأن عَسى واجب، نظيره:
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى 42/ 17] .
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي يكون ذلك البعث يوم يدعوكم الرّب تبارك وتعالى، فتستجيبون له من قبوركم حامدين طائعين منقادين، وتقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث فقوله تعالى:(15/95)
بِحَمْدِهِ أي بأمره، كما قال تعالى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم 30/ 25] ، أي إذا أمركم بالخروج من الأرض فأمره لا يخالف.
روى أنس مرفوعا: «ليس على أهل: لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم، ينفضون التراب عن رؤوسهم، يقولون:
لا إله إلا الله» وفي رواية الطبراني عن ابن عمر: يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر 35/ 34] وهي رواية ضعيفة، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري: هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي وتحسبون عند البعث يوم تقومون من قبوركم أنكم ما لبثتم في الدار الدنيا إلا زمنا قليلا، كقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] ، وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه 20/ 104] ، وقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم 30/ 55] .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
1- لم يقتصر فساد عقيدة المشركين على الشرك واتخاذ آلهة أخرى مع الله تعالى، وإنما أنكروا وقوع البعث والمعاد، وكانت هذه الآية مبيّنة غاية الإنكار منهم.
2- لا داعي للعجب من قدرة الله تعالى، فإن البشر إذا عجبوا من إعادة الحياة للعظام البالية والرّفات الفانية، فلقصور إدراكهم، وضعف قدراتهم، ونقص قواهم، وأما الله تعالى فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى لو فرض أنهم حجارة أو حديد في غاية الشدة والقوة، لأعادهم كما بدأهم، بل(15/96)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
لو كانوا ما شاؤوا فسيعادون إلى الحياة مرة أخرى لأن القدرة التي أنشأهم بها يعيدهم بها.
3- لا يسع البشر حين دعوتهم بالخروج من قبورهم إلا الامتثال والطاعة والانقياد، وذلك يحصل بلحظة سريعة جدا، كما قال تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] .
ويستجيب الناس بأمر الله وقدرته ودعائه إياهم، وبحمده، أي باستحقاقه الحمد على الإحياء. ورجح المالكية أن المراد بقوله تعالى: بِحَمْدِهِ: بدعائه إياهم.
4- يقدّر الناس بعد البعث أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا زمنا قليلا لطول لبثهم في الآخرة.
مجادلة المخالفين باللين وبالتي هي أحسن
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
الإعراب:
يَقُولُوا: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا: جواب «قولوا» المقدرة، أي قل لعبادي:
قولوا التي هي أحسن، يقولوها.(15/97)
البلاغة:
يَرْحَمْكُمْ ويُعَذِّبْكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَقُلْ: لِعِبادِي المؤمنين. يَقُولُوا للكفار الكلمة الحسنى وباللين، ولا يخاشنوا المشركين. يَنْزَغُ يفسد بينهم بالوسوسة، ويهيج الشّر. عَدُوًّا مُبِيناً بيّن العداوة.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة والإيمان. أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ أي وإن يشأ يعذّبكم تعذيبا بالموت على الكفر، وهذه الآية: تفسير للتي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي قولوا لهم هذه الكلمة، ولا يصرحوا بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشّر، مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا أو مفوضا إليك أمرهم، تقسرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك مبشّرا ونذيرا، فدارهم، وأمر أصحابك بالاحتمال منهم.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيخصّهم بما شاء على قدر أحوالهم، ويختار منهم لنبوّته وولايته من يشاء. وهو ردّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيّا، وأن يكون العراة الجياع أصحابه.
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بتخصيص كلّ منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلّة، ومحمد بالإسراء وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً الزّبور: الكتاب الذي أنزل على داود عليه السّلام.
سبب النزول: نزول الآية (53) :
وَقُلْ لِعِبادِي..: روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت. وقيل: شتم عمر رجل منهم، فهمّ به، فأمره الله بالعفو.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله تعالى:
لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [42] ، وذكر(15/98)
الحجة اليقينية في صحة البعث والمعاد بقوله تعالى: قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أمر تعالى بمجادلة المخالفين باللين وبالطريق الأحسن وألا يخاشن المشركون، وألا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب حتى لا يقابلوكم بمثله، وتحدث النّفرة، فيقال لهم: ربّكم العليم بكم، إن شاء عذّبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرّح لهم بأنهم من أهل النّار، فلا يحاولون الإيمان أو الإسلام.
ثم بيّن تعالى مهمة رسوله وهي التّبشير والإنذار، وأنه ليس مفوضا في حمل الناس على الإسلام أو إجبارهم عليه، وأنه تعالى العليم بكلّ شيء وبمن في السّموات والأرض، فيختار للنّبوة من يراه أهلا لها.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبات الناس من المشركين وغيرهم ومحاوراتهم معهم الكلام الأحسن للإقناع، والكلمة الطيّبة، وهو ألا يكون بيان الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب والأذى، كما قال تعالى في آية أخرى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] ، وقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت 29/ 46] .
وعلّة ذلك كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي إن لم يقولوا الكلام الأحسن والكلمة الطيبة، فإن الشيطان يفسد الأمور بين المؤمنين والمشركين، ويثير الفتنة والشّر، ويوقع المخاصمة والمقاتلة ويغري بعضهم لأنه عدو لآدم وذريّته عداوة ظاهرة بيّنة، ولهذا نهى الشرع أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، فربّما أصابه بها،
روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يشيرنّ(15/99)
أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار» .
وسبب نزغ الشيطان للإنسان ما قاله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي إن الشيطان عدوّ ظاهر العداوة للإنسان، وقد أعلن عداوته منذ القدم كما حكى القرآن: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف 7/ 17] .
ثم فسّر الله تعالى الطريق الأحسن الألين الذي لا مخاشنة فيه بقوله:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ.. أي ربّكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة ووفقكم للطاعة والإنابة إليه، وإن شاء عذّبكم فلا يهديكم للإيمان، فتموتوا على شرككم، فهذه هي الكلمة ونحوها التي تقال لهم، ولا يقال لهم: إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشّر. وقوله تعالى: أَعْلَمُ بمعنى عليم، نحو قولهم: «الله أكبر» بمعنى كبير، فلا مجال للمقارنة أو الموازنة بينه وبين غيره.
وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي وما أرسلناك يا محمد عليهم حفيظا ورقيبا ووكيلا موكولا إليك أمرهم، تحاسبهم على أعمالهم، وتقرّهم على الإسلام وتجبرهم عليه، إنما أرسلناك نذيرا وبشيرا فقط، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار، فتلطّف في دعوتهم ولا تغلظ عليهم، ودارهم، ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وربّك أعرف بكل من هو في السموات والأرض، وأعلم بأحوالهم ومقاديرهم كلّها علم إحاطة وانكشاف: أَلا(15/100)
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
[الملك 67/ 14] فهو أدرى وأعرف بما يستأهل كل واحد منهم.
وفي هذا ردّ على المشركين في جعل النّبوة والرّسالة بمن اصطفاهم وتفنيد لقولهم حين قالوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزّخرف 43/ 31] وحين تضايقوا من تقريب الفقراء كصهيب وبلال وخبّاب وإبعاد السّادة وزعماء قريش.
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أي ولقد فضّلنا بعض الأنبياء والرّسل على بعض بالمزايا والكتب والخصائص، كاتّخاذ إبراهيم عليه السّلام خليلا، وموسى عليه السّلام كليما، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النّبيين، ونظير الآية:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة 2/ 253] وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم والإسراء والمعراج، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السّلام على المشهور.
ولا خلاف أنّ الرّسل أفضل من بقية الأنبياء، وأنّ أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون في آيتين من القرآن هما: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ، وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ، وَمُوسى، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب 33/ 7] . شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] .
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي فضلناه بإنزال الزّبور عليه، لا بالملك والسلطان، ومما ورد في الزّبور أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النّبيين، وأن أمته خير(15/101)
الأمم، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] وفيه تنبيه على فضله وشرفه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
1- أمر الله تعالى في الآية الأولى جميع المؤمنين فيما بينهم بخاصة بحسن الأدب، وإلانة القول، وخفض الجناح، واطراح نزعات الشيطان، وفيما بينهم وبين الكفار أثناء المحاورة والنقاش بالكلمة الطيبة، والكلام الأحسن للإقناع لأن الشيطان يفسد بين الناس، ويلقي العداوة والبغضاء بينهم لأنه شديد العداوة للإنسان.
وتفويتا للفرصة عليه، وادّخارا للجهد في سبيل إبلاغ الدّعوة، ونشر الإسلام، وتوصّلا إلى الغاية المرجوة، يلزم أن يكون النقاش منطقيا عقليا هادئا، بعيدا عن السّبّ والشّتم والأذى.
2- الآية الثانية رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ.. خطاب للمشركين مضمونه: إن يشأ الله يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشّرك فيعذّبكم. وهذا قول ابن جريج.
وقال الكلبي: الخطاب للمؤمنين مضمونه: إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذّبكم بتسليطهم عليكم.
3- ليس أمر المشركين موكولا إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقسرهم على الإسلام وإجبارهم عليه، ومنعهم من الكفر، وإنما مهمته محصورة في التبليغ والتّبشير والإنذار، تبشير من أطاعه بالجنّة، وإنذار من عصاه بالنّار.
4- قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بعد قوله:(15/102)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ لبيان أن الله خالقهم، وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم.
5- ليس كلّ الأنبياء في درجة واحدة متساوية، وإنما يوجد تفاضل بينهم، فقد فضل الله بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم، كما بيّنا في التّفسير.
6- أنزل الله تعالى الزّبور على داود عليه السّلام، والزّبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد، والقصد من الإشارة إليه في الآية محاجّة اليهود، وإعلامهم أنه كما آتينا داود الزّبور، فلا تنكروا أن يؤتي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن الكريم.
تفنيد آخر لشبهات المشركين
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)(15/103)
الإعراب:
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ ... أُولئِكَ: مبتدأ، والَّذِينَ: صفته، ويَدْعُونَ: صلة الَّذِينَ، والعائد محذوف، أي يدعونهم. والَّذِينَ يَدْعُونَ: صفة المبتدأ. ويَبْتَغُونَ: خبر المبتدأ. وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ: مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، أي ينتظرون. ويحتمل أن تكون «أي» بمعنى الذي بدل من واو يَبْتَغُونَ فتكون «أي» مبنية.
أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ ... : أَنْ الأولى: منصوبة بتقدير حذف حرف الجر، أي من أن نرسل، فلما حذف حرف الجر انتصب ب «منع» . وأَنْ الثانية: فاعل منع، أي وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها. والمعنى أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش، فكذبوها، لأهلكناهم، كما أهلكنا من تقدّمهم، وقد سبق في العلم القديم تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة، فلم نرسل بالآيات لذلك.
وَالشَّجَرَةَ.. منصوبة بالعطف على الرُّؤْيَا وهي مفعول أول ل جَعَلْنَا والثاني فِتْنَةً.
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فاعل يَزِيدُهُمْ مقدر، أي التخويف، دلّ عليه نُخَوِّفُهُمْ. وطُغْياناً: مفعول ثان ل يَزِيدُهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين.
البلاغة:
وَلا تَحْوِيلًا فيه إيجاز بالحذف، أي ولا تحويل الضّرّ عنكم، حذف لدلالة ما سبق.
يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ بينهما طباق.
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ المنع محال في حق الله تعالى إذ لا يمنعه شيء، فالمنع مجاز عن الترك، أي سبب ترك الإرسال هو التكذيب.
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مجاز عقلي علاقته السببية، أي أنه لما كانت الناقة سببا في إبصار الحقّ والهدى، نسب إليها الإبصار.
المفردات اللغوية:
زَعَمْتُمْ أنهم آلهة، أي كذبتم، والزعم في الأصل: القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه زعم فهو كذب «1» .
__________
(1) تفسير الرّازي: 20/ 231(15/104)
مِنْ دُونِهِ كالملائكة وعيسى وعزير. فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون. كَشْفَ الضُّرِّ إزالته.
وَلا تَحْوِيلًا ولا تحويله عنكم إلى غيركم.
يَدْعُونَ أي يدعونهم آلهة أو ينادونهم. يَبْتَغُونَ يطلبون. الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة، أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله تعالى القربة بالطاعة. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يبتغي القربة أو الوسيلة الذي هو أقرب منهم إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ أو كيف تدعونهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً مخوّفا، حقيقا بأن يحذره كلّ أحد، حتى الرّسل والملائكة.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ما من قرية، والمراد أهلها. مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت.
أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره. فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ. مَسْطُوراً مكتوبا. بِالْآياتِ التي اقترحها أهل مكة، فهي ما اقترحته قريش، مثل جعل الصّفا ذهبا.
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي لما أرسلنا الآيات وكذبوا بها أهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء، لكذبوا بها، واستحقوا الإهلاك وعذاب الاستئصال، وقد كنّا حكمنا بإمهالهم، لإتمام نشر دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
مُبْصِرَةً آية بيّنة واضحة، أو ذات إبصار لمن يتأملها ويفكر فيها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها فأهلكوا، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المعجزات أو الآيات المقترحة. إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد من نزول العذاب المستأصل، فيؤمنوا.
وَإِذْ قُلْنا واذكر إذ قلنا. أَحاطَ بِالنَّاسِ علما وقدرة، والمراد أنهم في قبضته وتحت قدرته، فبلغهم الرسالة ولا تخف أحدا، فهو يعصمك منهم، ولا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا. الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ عيانا ليلة الإسراء، والرُّؤْيَا: هي ما عاينه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الإسراء من العجائب، والمراد بها هنا خلافا للغالب: الرؤية البصرية، قال ابن عباس: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به» ، ولو كانت رؤيا منام، لما كانت فتنة للناس، ولما ارتدّ بعضهم عن الإسلام. إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أهل مكة، إذ كذّبوا بها، وارتدّ بعضهم، لما أخبرهم بها. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، جعلناها فتنة لهم، إذ قالوا: النار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ وَنُخَوِّفُهُمْ بها. فَما يَزِيدُهُمْ تخويفنا.
إِلَّا طُغْياناً الطغيان: تجاوز الحدّ في الفجور والضلال.
سبب النزول:
نزول الآية (56) :
قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان(15/105)
ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجنّ، فأسلم الجنيّون، واستمسك الآخرون بعبادتهم، فأنزل الله: قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ الآية.
وروي أنه لما أصاب القحط قريشا، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنزل الله هذه الآية.
نزول الآية (59) :
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ:
أخرج أحمد والنسائي والحاكم والطّبراني عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، وأن ينحّي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت نؤتهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا، كما أهلكت من قبلهم، قال: «بل أستأني بهم» فأنزل الله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
نزول الآية (60) :
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا: أخرج أبو يعلى عن أم هانئ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أسري به أصبح يحدّث نفرا من قريش يستهزئون به، فطلبوا منه آية، فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وأخرج ابن المنذر عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصبح يوما مهموما، فقيل له: مالك يا رسول الله؟ لا تهتم، فإنها رؤيا تنالهم، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.(15/106)
نزول الآية (60) أيضا:
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: لما ذكر الله الزقّوم، خوّف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوفكم به محمد؟ قالوا: لا، قال:
الثّريد بالزّبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقما، فأنزل الله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً، وأنزل تعالى:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان 44/ 43- 44] .
المناسبة:
بعد أن ندّد الله تعالى بإنكار المشركين البعث، عاد إلى الرّدّ عليهم في عبادتهم الملائكة والجنّ والمسيح وعزيرا، فهؤلاء يتوسّلون إلى الله بالطاعة والعبادة، ويخافون عذابه، فالمستحق للعبادة هو مالك هؤلاء، والقادر على النفع والضّر دونهم. وليس المراد الأصنام لأن ابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة.
ثم ذكر تعالى وعيده لهم وهو أن مصير قرى الكافرين إما الإبادة والاستئصال، وإما العذاب دون ذلك، كالقتل والسّبي واغتنام الأموال.
ثم ردّ تعالى على المشركين طالبي آيات حسيّة ومعجزات عظيمة قاهرة، مثل قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الآيات: 90- 93] ، بأن تلبية اقتراحهم يهددهم، فلو جاء بالآيات، ثم كذبوا بها، عذبوا بعذاب الاستئصال، على وفق سنّة الله فيمن قبلهم، مثل آية ثمود البيّنة الواضحة.
وبالرغم من أن إظهار المعجزات ليس بمصلحة، فقد تجرأ أولئك الكفار بالطّعن بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين له: لو كنت رسولا حقّا من عند الله تعالى، لأتيت(15/107)
بهذه المعجزات التي طلبناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعندئذ أبان الله تعالى أنه ناصره بقوله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ.
ثم أردف ذلك بأن ليلة الإسراء كانت فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما أن شجرة الزّقوم في نار جهنم فتنة وامتحان أيضا.
التفسير والبيان:
قل أيّها الرّسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، وهي الأصنام والأنداد، هل يجيبونكم، وارغبوا إليهم حين وقوع الضّرّ بكم من فقر ومرض وقحط وعذاب ونحوها، وانتظروا هل يستطيعون كشف الضّرّ عنكم أو تحويله أو تبديله من مكان أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم.
وإنما الذي يقدر عليه هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر.
قال ابن عباس: كان أهل الشّرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرا.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربّهم، يقصدون ويطلبون التّوسل إليه والتّقرّب منه بالطاعات والقربات، ويخصونه بالعبادات، والوسيلة: هي القربة.
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ أي ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ أو أن معنى يبتغون الوسيلة:
يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى، وذلك بالطاعة وازدياد الخير(15/108)
والصلاح، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «سلوا الله الوسيلة، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: القرب من الله، ثم قرأ هذه الآية» .
وأما رجاء الرّحمة وخوف العذاب، فلأن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي، وبالرجاء يكثر من الطاعات.
والعلّة في الخوف من العذاب هي كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي إن عذاب ربّك كان مخوّفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذره ويخاف من وقوعه وحصوله العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فكيف أنتم؟! ثم أبان الله تعالى مصير الظالمين، فقال:
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها.. أي وما من قرية في علم الله المكتوب عنده في اللوح المحفوظ، من قرى الظالمين بالكفر والمعاصي إلا سيهلكها الله، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاب استئصال، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، لا ظلما، وإنما بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 11/ 101] .
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان ذلك حكما عاما ثابتا مسجّلا في علم الله أو في اللوح المحفوظ.
أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال:
ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر وما هو كائن إلى يوم القيامة» .
ثم أوضح الله تعالى سبب عدم تلبية طلبات أهل مكة فقال:(15/109)
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ.. أي وما صرفنا عن الإتيان بما يقترحونه من الآيات إلا تكذيب المتقدّمين الأولين بأمثالها، فإن أتينا بها وكذّب بها أهل مكة وأمثالهم، عجّلنا لهم العذاب، ولم يؤخّروا، كما هي سنّة الله في خلقه.
والآيات التي اقترحها أهل مكة- كما بيّنا في سبب النزول- مثل جعل الصّفا ذهبا، وتنحية الجبال عنهم، وجعل أراضيهم صالحة للزراعة.
وأما الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذّبوا بها لما أرسلت، فأهلكوا جميعا، مثل ناقة صالح لثمود، فلما عقروها أخذتهم الصيحة، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها الذاهب والعائد كما قال تعالى هنا: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجّة واضحة دالّة على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي لبى الله دعاءه فيها. وقوله تعالى: مُبْصِرَةً أي بيّنة أو ذات إبصار يدركها الناس، وإنما خصّت بالذّكر هنا دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة من بلاد العرب وفي طريقهم. وقوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم.
وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي ولا نبعث بالآيات إلا تخويفا للناس من نزول العذاب العاجل لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، فإن لم يخافوا وقع عليهم.
ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت (زلزلت) على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس، إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه، وروي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ،
وفي الحديث المتّفق عليه بين الشيخين: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته،(15/110)
ولكن الله عزّ وجلّ يخوّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ثم قال: يا أمّة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» .
ثم حرّض الله تعالى رسوله على إبلاغ رسالته، وأخبره بأنه قد عصمه من الناس، فقال: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر إذ أوحينا إليك أن الله هو القادر على عباده، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته، وقد عصمك من أعدائك قريش وغيرهم، وأن الله سينصرك عليهم كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] ، وقال مبشّرا بالنّصر في بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر 54/ 45] ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران 3/ 12] .
ولما بيّن تعالى أن إنزال آيات القرآن تتضمن التّخويف، ذكر آية الإسراء، فقال:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي وما جعلنا ما أطلعناك عليه ليلة الإسراء إلا اختبارا وامتحانا للنّاس، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكافرين المكذّبين، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس، لا بالنّسبة إلينا، فنحن على علم سابق بكل ما سيحصل، وقد كذّب بها قوم وكفروا، وصدّق بها آخرون.
ذكر البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به. ويقال في العربية: رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فيه تقديم وتأخير أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، أي اختبارا لهم، مثل حادث الإسراء والمعراج. وتلك الشجرة هي شجرة الزّقوم، قال تعالى:(15/111)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدّخان 44/ 43- 44] . وقد اختلف الناس فيها، فمنهم من ازداد إيمانا، فكثير من الأشياء لا تحرقها النار، ومنهم من ازداد كفرا كأبي جهل وعبد الله بن الزّبعرى، وقالوا: وما الزّقّوم إلا التّمر والزّبد، فجعلوا يأكلون ويتزقّمون منهما.
وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والنّكال في الدّنيا والآخرة، فما يزيدهم التّخويف إلا تماديا في الطّغيان وفيما هم فيه من الكفر والضّلال، فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
أفهمت الآيات المبادئ والأحكام التالية:
1- لا يملك أحد غير الله عزّ وجلّ كشف الضّر من فقر أو مرض أو بلاء أو غيره، أو تحويله وتبديله من مكان إلى مكان أو من شخص إلى آخر. وقد تحدّى الله المشركين في مكة بآية قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ.. بأن يدعوا ما يعبدون من دون الله، ويزعمون أنهم آلهة لكشف ما أحدق بهم من قحط سبع سنين.
2- لا فائدة ولا جدوى من الاستعانة بغير الله من الآلهة المزعومة، فإن تلك المخلوقات كالملائكة وعيسى وعزير يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرّعون إلى الله تعالى في طلب الجنة. والوسيلة هي القربة.
وهذا إخبار من الله تعالى بأن المعبودين يبتغون القربة إلى ربّهم، فهم بأنفسهم بحاجة إلى ربّهم، فكيف يؤمل منهم الخير ودفع الضرّ والشّرّ لأتباعهم وعابديهم؟! 3- ما من قرية ظالمة إلا وسيهلكها وأهلها الله أو يعذّبها عذابا شديدا قبل(15/112)
مجيء يوم القيامة، فليتّق الله المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحلّ بها العذاب، قال ابن مسعود: إذا ظهر الزّنى والرّبا في قرية أذن الله في هلاكهم.
ولا يكون الإهلاك إلا بظلم من الناس، قال تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص 28/ 59] .
4- لا مانع يمنع الله سبحانه من الإرسال بالآيات التي اقترحها مشركو مكة إلا أن يكذّبوا بها، فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم، لذا أخّر الله تعالى العذاب عن كفار قريش، لعلمه أن فيهم من يؤمن، وفيهم من يولد مؤمنا.
5- كان إيتاء ثمود الناقة آية دالّة مضيئة نيّرة على صدق صالح عليه السّلام، وعلى قدرة الله تعالى. ولما ظلموا أنفسهم بتكذيبها، أو جحدوا بها، وكفروا بأنها من عند الله تعالى، استأصلهم الله بالعذاب.
6- لا يكون الإرسال بآيات الانتقام إلا تخويفا من المعاصي والكفر.
7- بشّر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأنه أحاط بالناس، أي أهل مكة، وإحاطته بهم: إهلاكه إياهم، أو أحاطت قدرته بجميع الناس، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
8- إن آية الإسراء وشجرة الزّقّوم اختبار للناس وامتحان لهم، ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدّق من سبق له الإيمان.
والثابت والأصح أن حادث الإسراء رؤيا عين أريها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به إلى بيت المقدس.
والشجرة الملعونة هي شجرة الزّقّوم، وهي في أبعد مكان من الرّحمة.
والله تعالى يخوف المشركين وغيرهم بالزّقوم، فما يزيدهم التّخويف إلا الكفر.(15/113)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
قصة آدم مع إبليس- أمر الملائكة بالسّجود
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
الإعراب:
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً: طِيناً: إما تمييز منصوب، أو حال من هاء خَلَقْتَ المحذوفة، وإما منصوب بحذف حرف الجرّ (منصوب بنزع الخافض) ، وتقديره: خلقت من طين، فلما حذف حرف الجرّ، اتّصل الفعل به، فنصبه.
لَئِنْ اللام: لام القسم. أَرَأَيْتَكَ هذَا الكاف لتأكيد الخطاب، لا محل له من الإعراب، وهذا مفعول به أول، والَّذِي صفته. والمفعول الثاني محذوف، لدلالة صلته عليه، أي أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسّجود له، لم كرمته علي.
جَزاءً مَوْفُوراً منصوب على المصدر بإضمار فعله، أو حال موطئة لقوله تعالى:
مَوْفُوراً.
البلاغة:
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ استعارة تمثيلية، شبّه حال الشيطان في تسلّطه على الغاوين بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء، للغلبة عليهم.(15/114)
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قُلْنا واذكر حين قلنا. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحيّة بالانحناء أَأَسْجُدُ استفهام إنكار وتعجّب. أَرَأَيْتَكَ أخبرني. كَرَّمْتَ فضّلت. عَلَيَّ بالأمر بالسّجود له، وأنا خير منه، خلقتني من نار. لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنّهم بالإغواء إلا قليلا، لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم، كأنه أصبح يملكهم. والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة.
إِلَّا قَلِيلًا منهم، ممن عصمته.
قالَ تعالى له. اذْهَبْ امض لشأنك، منظرا إلى وقت النّفخة الأولى، فقد خلّيتك وما سولت لك نفسك. جَزاءً مَوْفُوراً وافرا كاملا. وَاسْتَفْزِزْ واستخف وأزعج.
بِصَوْتِكَ بدعائك إلى معصية الله أو الفساد. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ وصح عليهم، من الجلبة:
وهي الصياح. بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وهم الفرسان الركاب، والمشاقة في المعاصي. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ المحرمة كالرّبا والغصب. وَالْأَوْلادِ من الزّنى. وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا جزاء، وغير ذلك من المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة لطول الأمل. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ بذلك. إِلَّا غُرُوراً باطلا. وهو اعتراض لبيان مواعيده، والغرور: تزيين الخطأ أو الباطل بما يوهم أنه صواب أو حقّ.
إِنَّ عِبادِي المؤمنين المخلصين. سُلْطانٌ تسلّط وقوة على إغوائهم. وَكِيلًا حافظا لهم منك، ورقيبا، فهم يتوكّلون على الله في الاستعاذة منك على الحقيقة.
المناسبة:
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين:
أحدهما- عقد مشابهة بين محنة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومحنة آدم عليه السّلام من إبليس، فلما نازع المشركون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في النّبوة، وكذّبوه حين أخبرهم عن الإسراء وشجرة الزّقّوم، واقترحوا عليه الآيات، كبرا منهم وحسدا له على النّبوة، ناسب ذكر قصة آدم عليه السّلام وإبليس، حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود، فالحسد داء قديم.
والثاني- أنه لما قال تعالى: فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً بيّن ما سبب هذا الطغيان، وهو قول إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.(15/115)
هذا.. وقد ذكرت قصة آدم في سبع سور: البقرة، الأعراف، الحجر، الإسراء، الكهف، طه، ص.
التفسير والبيان:
واذكر أيّها الرسول للنّاس عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، والدليل أنه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم سجود تحيّة ومحبّة وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، فسجدوا كلّهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له، افتخارا عليه واحتقارا له، قائلا: أأسجد له وهو طين، وأنا مخلوق من النار، كما أخبر تعالى عنه: قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 38/ 76] .
وقال هنا جرأة وكفرا: قالَ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته: لم كرّمته علي، وأنا خير منه؟ فإنه نسب الجور إلى ربّه في زعمه أنه أفضل من آدم بسبب عنصر الخلق، فإن عنصر النار أسمى وأرفع، وعنصر الطين أدنى وأقرب للخمول، والحقيقة أن العناصر كلها من جنس واحد، أوجدها الله، بل إن الطين أنفع من النار، فبالأول البناء والعمران، وبالثاني الخراب والهدم والدّمار.
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلنّ ذريته بالإغواء، ولأستولينّ عليهم بالإضلال جميعا، أو لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر 15/ 42] أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم.
فأجابه الله إلى طلبه حين سأل التأخير وأخّره:
قالَ: اذْهَبْ، فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ.. أي امض لشأنك الذي اخترته(15/116)
لنفسك خذلانا وتخلية، فمن أطاعك واتّبعك منهم، فإن جهنم مقرّكم ومأواكم وجزاؤكم جميعا تجازون فيها جزاء وافرا أو موفرا أي محفوظا كاملا لا ينقص لكم منه شيء، ونظير الآية: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر 15/ 37- 38] .
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي استخف واستنفر بدعوتك إلى معصية الله، بكلّ ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة، وصوته: دعاؤه إلى معصية الله تعالى.
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة، وهذا تمثيل، والمراد به: تسلّط عليهم بكلّ ما تقدر عليه، واجمع لهم كلّ مكايدك، ولا تدّخر وسعا في إغوائهم، مستخدما كلّ الأتباع والأعوان.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي بتحريضهم على كسب الأموال وإنفاقها في معاصي الله تعالى من ربا وسرقة وغصب وغش وخديعة، وعلى إنجاب الأولاد بالزّنى أو التّخلّص منهم بالقتل أو الوأد أو إدخالهم في غير الدّين الذي ارتضاه الله تعالى، وغير ذلك من تسميات غير شرعية، وتجاوز حدود الشّرع في الزّواج والطّلاق والرّضاع والنّسب والنّفقة وغيرها.
وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي عدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من شفاعة الآلهة المزعومة، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، أو بالتّسويف في التوبة ومغفرة الذّنوب بدونها، والاتّكال على الرّحمة، وشفاعة الرّسول في الكبائر، وإيثار العاجل على الآجل، وألا جنّة ولا نار، ونحو ذلك، مما سيظهر بطلانه حينما يقول إبليس يوم القضاء بالحقّ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم 14/ 22] .(15/117)
وقوله تعالى هنا:
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي لا يعدهم الشيطان إلا كذبا وباطلا وإظهارا للباطل في صورة الحقّ، فمواعيده كلها خدعة وتزيين كاذب، وهذه الأوامر للشيطان واردة على سبيل التّهديد والخذلان والتّخلية، كما يقال للعصاة:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] .
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي إن عبادي المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرّجيم.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي كفى بالله حافظا ومؤيّدا ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكّلين عليه، الذين يستعينون به على التّخلّص من وساوس الشيطان.
وهذا دليل على أن المعصوم من عصمه الله، وأن الإنسان بحاجة إلى عون الله جلّ جلاله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:
1- إن تمادي المشركين وعتوهم على ربّهم يذكّر بقصة إبليس حين عصى ربّه وأبى السّجود، وقال: إن آدم من طين، وهو من نار، وجوهر النار خير من جوهر الطين، مع أن الجواهر متماثلة، وقال مخاطبا ربّه: أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليّ، لم فضّلته؟ وقال أيضا متحدّيا: لأستأصلنّ ذرية آدم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنّهم ولأضلنّهم إلا القليل المعصومين منهم الذين ذكرهم الله في قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.
وإنما قال إبليس ذلك ظنّا، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ(15/118)
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ
[سبأ 34/ 20] ، أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى كلامه على قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة 2/ 30] .
والظاهر أن المأمور بالسجود لآدم هم جميع الملائكة في الأرض والسماء، وسجد الملائكة لآدم من أول ما كملت حياته.
2- كان جواب الحقّ تبارك وتعالى في غاية الإهانة والتّحقير، فقال له:
اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ ... الآية، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك، فمن أطاعك من ذرية آدم، فجزاؤكم جميعا جهنّم.
واستزلّ واستخفّ بدعوتك إلى معصية الله تعالى، واجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك، واجعل لنفسك شركة في الأموال بإنفاقها في معصية، وفي الأولاد بجعلهم أولاد الزّنى، وعدهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب.
ولكن عبادي المؤمنين الصالحين لا سلطان ولا تسلّط لك عليهم. وكفى بالله عاصما من القبول من دعاوى إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.
3- قال القرطبي: دلّت آية وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ على تحريم المزامير والغناء واللهو لأن صوته: كلّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى، وكلّ ما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التّنزه عنه.
وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ فأقول: نعم، فمضى حتى قلت له:
لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع صوت زمّارة راع، فصنع مثل هذا «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 290(15/119)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
بعض نعم الله تعالى على الإنسان
[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
الإعراب:
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ بِكُمْ حال أو صلة ليخسف. إِلَّا إِيَّاهُ الظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله: مَنْ تَدْعُونَ إذ المعنى: ضلت آلهتهم أي معبوداتهم، وهم لا يعبدون الله.
البلاغة:
إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تذييل كالتعليل لما سبق من تسيير السفن بقصد التجارة وطلب الرزق.
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض عن الإيمان والتوحيد.
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض.(15/120)
المفردات اللغوية:
يُزْجِي يجري ويسيّر، والأصل فيه أنه يسوق حينا بعد حين. الْفُلْكَ السفن.
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تطلبوا من فضله تعالى بالتجارة وفَضْلِهِ: هو رزقه. إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في تسخيرها لكم، وتهيئة ما تحتاجون إليه، وتسهيل ما تعسر من الأسباب. الضُّرُّ الشدة أو خوف الغرق بتقاذف الأمواج. ضَلَّ غاب عنكم وعن ذاكرتكم. مَنْ تَدْعُونَ تعبدون من الآلهة، فلا تدعونه إِلَّا إِيَّاهُ تعالى، فإنكم تدعونه وحده لأنكم في شدة لا يكشفها إلا هو. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق. أَعْرَضْتُمْ عن الإيمان والتوحيد كَفُوراً جحودا للنعم، والمراد بالإنسان الكفار.
أَفَأَمِنْتُمْ أي أنجوتم فأمنتم، فأعرضتم، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق، قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي يقلبه الله وأنتم عليه، أو يقلبه بسببكم، كما فعل بقارون، والخسف: انهيار الأرض. وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل، كفروا وأعرضوا، وإن الجوانب والجهات في قدرته سواء، لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك.
أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي يرميكم بالحصباء والحجارة كقوم لوط، والمراد: الريح الشديدة الحاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغيرة. وَكِيلًا حافظا منه. أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر. تارَةً أُخْرى مرة ثانية. قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته فهي تكسر الشجر وغيره.
والخلاصة: إن الحاصب: الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، والقاصف: الريح التي تقصف الشجر وغيره وتكسره أو هي الريح الشديدة الصوت. بِما كَفَرْتُمْ بكفركم. تَبِيعاً ناصرا ومعينا وتابعا يطالبنا بما فعلنا بكم.
كَرَّمْنا فضلنا. بَنِي آدَمَ بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة، والتمييز بالعقل والعلم، والإفهام بالنطق والإشارة، والاهتداء إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمكن من الصناعات، والطهارة بعد الموت، أي أن التكريم بالخلق في أحسن تقويم، وبالعقل أداة العلم والمعرفة والتقدم والتمدن. وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ أركبناهم في الماضي والحاضر على الدواب، وفي الحاضر على السيارات والطائرات ونحوها. وَالْبَحْرِ على السفن. الطَّيِّباتِ المستلذات. وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا كالبهائم والوحوش، ومن: بمعنى ما، أو بمعناها الأصلي وتشمل الملائكة، والمراد تفضيل الجنس، ولا يلزم منه تفضيل أفراده، إذ الملائكة أفضل من البشر غير الأنبياء. والمراد: فضلناهم بالغلبة والاستيلاء، أو بالشرف والكرامة.(15/121)
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم، وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته، ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضارّ، المتصرف في خلقه بما يشاء، وتلك المخلوقات هي نعم إلهية على الإنسان، سواء في البر والبحر، ودلائل القدرة الإلهية، فهو تعالى الذي يزجى الفلك في البحر، وينجي من الغرق، ومن تمام نعمته: تكريم الناس ورزقهم وتفضيلهم على جميع الخلق، مما يستوجب الإفراد بالعبادة.
التفسير والبيان:
ربكم اللطيف بعباده هو الذي يوفر مصالح خلقه ويسهل لهم سبل الحياة، فيجري ويسيّر لكم السفن في البحر بمختلف القوى كالريح أو الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية، لنقل الأشخاص للسياحة أو للارتزاق بين بلاد الدنيا، ونقل البضائع والسلع التجارية من إقليم إلى إقليم، وطلب الرزق من فضل الله، إنه كان بكم رحيما، أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.
ومن رحمته تعالى وفضله ما أخبر به: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ.. أي وإذا أصابكم أيها الناس ضر أو شدة وجهد في البحر، ذهب عن تصوراتكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم وتعبدونه من دون الله من صنم أو ملك أو بشر إلا إياه سبحانه، فلا تتذكرون إلا الله، ولا تلجؤون لسواه لكشف الضر عنكم.
وذلك كما حدث لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارّا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين فتح مكة، وركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتها ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه:(15/122)
والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤفا رحيما، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي فلما أمنتم وأنقذكم، وأوصلكم إلى شاطئ البر والسلامة، واستجاب دعاءكم، أعرضتم، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه، وعدتم إلى الإشراك به.
وعلة ذلك ما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي وكانت سجية الإنسان وطبعه أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله تعالى.
ثم ناقشهم تعالى محذرا من جحود النعمة فقال:
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ.. أي أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقام الله وعذابه، بأن يخسف بكم جانب البر الذي تقطنون فيه بتغييبه في باطن الأرض، أو أن يرسل عليكم حاصبا، وهو المطر الذي فيه حجارة من السماء أو الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار، كما فعل بقوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي لا تجدون بعدئذ ناصرا تكلون إليه أموركم، وينقذكم منه، ومن يتوكل بصرف ذلك عنكم. وجانب البر: ناحية الأرض.
والحاصب أخبر تعالى عنه في آيات، مثل: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر 54/ 34] ومثل وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر 15/ 74] .
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ ... أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا، بعد ما اعترفتم في البحر بتوحيدنا، وخرجتم إلى البر، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية، فيرسل عليكم وأنتم راكبون في السفن ريحا قاصفا تقصف السواري، وتغرق(15/123)
المراكب، فالقاصف: ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها، ولها قصيف أي صوت شديد، كأنها تتقصف أي تتكسر.
فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي يغرقكم بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى.
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نفعل ما نفعل بكم، ثم لا تجدوا أحدا يطالبنا بما فعلنا، انتصارا منا، ودركا للثأر من جهتنا، أي لا تجدوا أحدا يأخذ بثأركم بعدكم. وقوله تَبِيعاً أي نصيرا يأخذ بالثأر، أو يطالب بالحق.
ونظير هذا قوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس 91/ 15] . وفي قوله وعيد شديد وتهديد بسوء العاقبة.
ومن تمام نعمة الله وفضله ورحمته تكريم الإنسان في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ.. أي ولقد كرمنا بني آدم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا «1» ، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحناهم السمع والبصر والفؤاد للفقه والفهم، وجمّلناهم وميزناهم بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى الصناعات والزراعات والتجارات، ومعرفة اللغات، ويفكرون في اكتشاف خيرات الأرض، والإفادة من الطاقات، وتسخير ما في العالم العلوي والسفلي، وما في الكون من وسائل النقل وأسباب الحياة والمعيشة، والتمييز بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.
وحملناهم في البر على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي الوقت الحاضر على القطارات والطائرات وغيرها، وفي البحر أيضا على السفن الكبيرة والصغيرة، وهو حمل لا يصح لغير بني آدم بإرادته وقصده وتدبيره.
ورزقناهم من الطيبات، أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، والخلاصة: أن
__________
(1) وهذا كرم نفي النقصان، لا كرم المال.(15/124)
الطيبات هي لذيذ المطاعم والمشارب، وتشمل تبعا سائر أنواع الزينة المستطابة.
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا وهو ما سوى الملائكة، أو فضلناهم على أصناف المخلوقات وسائر أنواع الحيوانات بالغلبة والاستيلاء والحفظ والتمييز والثواب والجزاء.
وعلى التفسير الثاني استدل بهذه الآية الكريمة كما ذكر ابن كثير على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو، وعبد الرزاق عن زيد بن أسلم موقوفا،
وابن عساكر عن أنس بن مالك مرفوعا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبّح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا، فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فيكون» .
وقد عرفنا أن الحق تفضيل الملائكة على البشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- لله تعالى على الإنسان أفضال ونعم كثيرة غير الرزق والحياة، منها تسخير السفن في البحار، لركوب الركاب وتيسير وسائل المواصلات ونقل التجارات، مما يقتضي شكر تلك النعم، وعدم الإشراك به شيئا آخر.
2- من نعمه تعالى ورحمته إنقاذ الإنسان من مخاطر البحر وأهواله أثناء هياجه واضطرابه، فلا يجد المضطر ملجأ غير الله يلجأ إليه لكشف الضر عنه.
وكل واحد يعلم بالفطرة علما يقينيا أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام.
لكن الإنسان ظلوم كفار للنعم إلا من عصمه الله، والمراد بالإنسان في(15/125)
قوله: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً هو الجنس الشامل للمؤمن والكافر.
والله قادر على إهلاك الناس في البر، وإن سلموا من البحر، ولن يجدوا من دون الله حافظا ونصيرا يمنع من بأس الله، والله تعالى إما أن يهلك الناس بالزلزال (خسف جانب من الأرض) أو بإرسال ريح شديدة وهي التي ترمي بالحصباء.
وإذا تم الإنجاء من الغرق، فربما يعود الإنسان إلى ركوب البحر، فيتم الإغراق بقاصف من الريح: وهو الريح الشديدة التي تكسر بشدة، بسبب الكفر والضلال، دون أن يجد الناس من يثأر لهم أو يوجد نصير يطلب لهم بثأر أو غيره.
3- ومن نعم الله تعالى الجليلة على الإنسان: الأشياء الأربعة التي بها فضل الإنسان على غيره: وهي تكريم بني آدم بخلقهم في أحسن تقويم وبالعقل والتفكير، والحمل في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وغيرها من الوسائل الحديثة، وفي البحر على السفن، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات، لا على الكل.
والفرق بين التكريم والتفضيل: أن الأول يكون بالأمور الخلقية الطبيعية الذاتية مثل العقل والنطق والتخطيط والصورة الحسنة والقامة المديدة، والثاني يكون بتمكينه بالعقل والفهم من اكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة «1» .
وهل الإنسان أفضل أو الملائكة؟
يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وليس في الآية نص على التفضيل بين الصنفين، كالآية التي تصرح بتفضيل بعض الأنبياء على بعض.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 16.(15/126)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
فقال بعض العلماء بتفضيل المؤمنين على الملائكة، محتجين
بالحديث المتقدم عن عبد الله بن عمرو أو أنس أو زيد بن أسلم، وبما قال أبو هريرة: «المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده» .
وقال آخرون بأن الملائكة أفضل من البشر على الإطلاق، عملا بهذه الآية، وهو دليل الخطاب: وهو أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد.
والظاهر هو الرأي الثاني، فإن قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هو ما سوى الملائكة، قال الزمخشري: وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة ذوو المنزلة العالية عند الله «1» .
أحوال الناس مع قادتهم يوم القيامة
[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
الإعراب:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يَوْمَ: ظرف منصوب متعلق بفعل دل عليه: وَلا يُظْلَمُونَ فكأنه قال: لا يظلمون فتيلا يوم ندعو كل أناس بإمامهم، ولا يجوز أن يعمل فيه نَدْعُوا لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهو المضاف، ولا يجوز أن يعمل فيه «فضلنا» في الآية المتقدمة، لأن الماضي لا يعمل في المستقبل.
__________
(1) الكشاف: 2/ 240.(15/127)
وباء بِإِمامِهِمْ متعلقة بندعو لأن كل إنسان يدعى بإمامه يوم القيامة، أو متعلقة بمحذوف في موضع الحال، أي يوم ندعو كل أناس مختلطين بإمامهم.
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى هو من عمى القلب، ولو كان من عمى العين، لقال: فهو في الآخرة أشد عمى لأن عمى العين شيء ثابت كاليد والرجل، فلا يتعجب منه إلا بأشد أو نحوه من الثلاثي. وأفعل: الذي للتفضيل يجري مجرى التعجب.
البلاغة:
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ استعارة، استعار الإمام الذين يتقدم الناس في الصلاة لكتاب الأعمال، لملازمته الإنسان وتقدمه يوم القيامة.
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا استعارة تمثيلية، أي لا ينقصون من ثواب أجورهم ولو بمقدار خيط شق النواة، وهو مثل للقلة.
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى تفصيل بعد إجمال، بعد ذكر كتاب الأعمال.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ نَدْعُوا اذكر يوم ندعو، وهو يوم القيامة. بِإِمامِهِمْ بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا، وكتاب كذا، وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر، كقوله تعالى:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس 36/ 12] فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي فمن أوتي منهم كتابه بيمينه، وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا. فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ قيل أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع، وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لشعورهم بالسعادة، فهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة 69/ 19] وأما أصحاب الشمال فكأنهم لا يقرءون كتابهم، لعجزهم عن النطق السوي والقول الصحيح، بسبب ما ينتابهم أمام العقاب من حياء وخجل وانخزال وحبس لسان وتعتعة.
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء، كقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم 19/ 60] فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه 10/ 112] والفتيل: الخيط المستطيل في شقّ النواة. وهو يضرب به المثل في الشيء الحقير التافة القليل، ومثله: النقير والقطمير.(15/128)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي ومن كان في الدنيا أعمى فليس المراد بالعمى الحقيقة، وإنما المجاز هو عمى البصيرة، فقد أستعير الأعمى لأعمى القلب أو البصيرة عن حجة الله وبيناته، أو من لا يهتدي إلى طريق النجاة، وهو دليل على وقوع المجاز في القرآن. وَأَضَلُّ سَبِيلًا أبعد طريقا عنه.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنواعا من كرامات الإنسان وأفضاله عليه في الدنيا، ذكر من أحوال الآخرة وما فيها من تفاوت شديد بين أهل السعادة وأهل الضلال والانحراف عن معالم الهدى الإلهي وأنه تعالى يحاسب كل أمة بإمامهم، أي بنبيهم فيقال: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد أو بكتابهم الذي أنزل على نبيهم أو بكتبهم التي فيها رصد أعمالهم، وهو الأرجح.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة بإمامهم أي بكتاب أعمالهم، وهو القول الأرجح كما ذكر ابن كثير لقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس 36/ 12] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف 18/ 49] فالكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرّف أعمالهم.
ويحتمل أن المراد بِإِمامِهِمْ أي بقائدهم الذي يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال تعالى:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص 28/ 41] . إلا أن الراجح هو ما ذكر ابن كثير، بدليل قوله تعالى بعده:
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ أي فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه، فأولئك يقرءونه بفرح وسرور بما فيه من العمل(15/129)
الصالح، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة 69/ 19] .
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، والفتيل:
هو الخيط المستطيل في شق النواة، ونحو الآية: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم 19/ 60] وآية فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه 20/ 112] .
أخرج الترمذي والحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يدعى أحدهم، فيعطى كتابه بيمينه، ويمدّ له في جسمه، ويبيّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون:
اللهم أتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» .
وعاقبة الحساب معروفة في الدنيا قبل الآخرة، فقال سبحانه:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي ومن كان في الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون، فهو يكون كذلك أعمى في الآخرة، لا يجد طريق النجاة، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا. وليس المراد بالأعمى عمى البصر، بل المراد منه عمى القلب.
والأعمى مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه.(15/130)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يلي:
1- الحساب بين الخلائق يوم القيامة يكون مدعما بالوثائق والمستندات، فكل إنسان يدعى للحساب بكتابه الذي فيه عمله، كما قال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية 45/ 28] .
والدعوة تكون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، خلافا لمن قال كمحمد بن كعب أن الدعوة تكون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم، بدليل
حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» فقوله: «هذه غدرة فلان بن فلان»
دليل على أن الدعوة تكون بأسماء الآباء لا بأسماء الأمهات.
2- ليس هناك فرحة بعد أهوال الحساب أشد وأغبط للنفس من فرحة تلقي الكتاب باليمين لأنه دليل النجاة والفوز والسعادة الأبدية، فاللهم اجعلنا من أهل اليمين.
3- إن الأعمى في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق والاستدلال بآيات الله في الكون الدالة على وجوده ووحدانيته هو في الآخرة أعمى، وأضل سبيلا، لا يهتدي إلى طريق النجاة، ولا يجد طريقا إلى الهداية، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه 20/ 124] وقال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء 17/ 97] .(15/131)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
محاولة المشركين فتنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطرده من مكة
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
الإعراب:
وَإِنْ كادُوا إِنْ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وكذلك في قوله:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ.. سُنَّةَ: منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، والتقدير: أهلكناهم إهلاكا مثل سنة من قد أرسلنا قبلك، أو سن الله ذلك سنة، فحذف المصدر وصفته، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقامه.
البلاغة:
ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ كادُوا قاربوا. لَيَفْتِنُونَكَ ليستنزلونك وليخدعونك في ظنهم، لا أنهم قاربوا ذلك، إذ هو معصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه. عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأحكام. لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ غير ما أوحينا إليك. وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ذلك، واتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم، بريئا من ولايتي.(15/132)
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ولولا تثبيتنا إياك على الحق بالعصمة. لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم اتباعا قليلا، لشدة احتيالهم وإلحاحهم، ولكن أدركتك عصمتنا، فمنعت أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح في أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يركن إليهم ولا قارب ولا همّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها، وهو دليل أيضا على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.
إِذاً لَأَذَقْناكَ أي لو قاربت لأذقناك. ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، أي مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة. نَصِيراً مانعا منه، يدفع العذاب عنك.
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ليزعجونك ويثيرونك بمعاداتهم ومكرهم لإخراجك من أرض مكة، وقال السيوطي: أرض المدينة. قال قتادة: همّ أهل مكة بإخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك، ما أمهلوا، ولكن الله تعالى منعهم من الخروج، حتى أمره بالخروج «1» . وَإِذاً لو أخرجوك. لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ لا يمكثون أو لا يبقون فيها بعدك أي بعد خروجك. إِلَّا قَلِيلًا إلا زمانا قليلا، ثم يهلكون.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، أي كسنتنا فيهم من إهلاك من أخرجهم. تَحْوِيلًا أي تبديلا وتغييرا.
سبب النزول:
نزول الآية (73) :
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم وابن إسحاق وغيرهم عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف، وأبو جهل بن هشام، ورجال من قريش، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمد، تعال تمسّح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرقّ لهم، فأنزل الله: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله: نَصِيراً.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال: كان
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 23.(15/133)
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يستلم الحجر، فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا، فحدّث نفسه وقال: ما عليّ أن ألمّ بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر، والله يعلم، إني لها كاره، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية. وأخرج نحوه عن ابن شهاب الزهري.
وقيل: نزلت الآية في ثقيف وقد سألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحرّم واديهم، وألحوا عليه.
نزول الآية (76) :
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ:
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن غنم: أن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إن كنت نبيا فالحق بالشام، فإن الشام أرض الحشر، وأرض الأنبياء، فصدّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما قالوا، فغزا غزوة تبوك يريد الشام، فلما بلغ تبوك، أنزل الله آيات من سورة بني إسرائيل، بعد ما ختمت السورة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأل قال: قل: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً
[الإسراء 17/ 80] فهؤلاء نزلن في رجعته من تبوك. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد، وله شاهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم، ولفظه: قالت المشركون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهم أن يشخص، فنزلت. وله طريق أخرى مرسلة عند ابن جرير:
أن بعض اليهود قال له. والمراد أن هذه الروايات يقوي بعضها بعضا، فتصبح مقبولة، أي أن هذه الآية نزلت لما قال اليهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن كنت نبيا، فالحق بالشام فإنها أرض الأنبياء.
روي أنه لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» .(15/134)
المناسبة:
لما عدّد الله تعالى نعمه على بني آدم، وذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة، أتبع ذلك بما يهمّ به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سيد أهل السعادة، المقطوع له بالعصمة.
وسبب هذه المساومات والخديعات: رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا، وبالعكس، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه.
التفسير والبيان:
المعنى وإن همّ المشركون وقاربوا بمكائدهم وخداعهم أن يصرفوك عما أوحينا إليك من الشرائع والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، لتفتري علينا غير الذي أوحيناه إليك، وتتقول علينا ما لم نقل، وتخترع غيره وتبدل فيه كما أرادوا من تبديل الوعد وعيدا، والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن تضيف إلى الله ما لم ينزل عليك.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي وحينئذ لو اتبعت ما يريدون، وفعلت ما يطلبون لاتخذوك صديقا لهم، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على ما هم عليه من الشرك، ولكنت لهم وليا مناصرا، وخرجت من ولايتي.
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي ولولا تثبيتنا لك على الحق وعصمتنا إياك، لقاربت أن تميل إلى خداعهم ومكرهم، ميلا وركونا قليلا.
وهذا تهييج من الله لنبيه، وبيان فضل تثبيته له، ولطف بالمؤمنين، أي أنه ربما هادنتهم، لا لضعف إيمانك، بل لشدة مبالغتهم في المكر والحيلة(15/135)
والخداع، ولكن عنايتنا منعتك من الركون إليهم. وهو تصريح بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يصدر منه همّ بمجاملتهم ومجازاتهم، بل ولم يقترب من ذلك.
وهو دليل على تأييد الله لرسوله وتثبيته وعصمته وتسليمه من مكائد الكفار، وأنه تعالى هو المتولي أمره وحافظه وناصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه.
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» .
وإمعانا في العصمة والصون توعده الله على ما قد يكون على سبيل الاحتمال والافتراض، وإن لم يحصل فقال:
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو فعلت ذلك لعاقبناك بعقوبة مضاعفة في الدنيا والآخرة ويكون المراد بالآية ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة لأن ذنب القائد أو العظيم يستحق عقابا أشد وأعظم، لذا يعاقب العالم القدوة أشد من عقوبة العامي التابع له،
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي جحيفة وواثلة بن الأسقع: «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
والضعف: أن يضم إلى الشيء مثله.
وهذا وارد أيضا في عقوبة نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب 33/ 30] .
ومن مكائد أهل مكة محاولة إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، كما قال تعالى:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها أي ولقد قارب أهل مكة أيضا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم، ويخرجوك من أرضهم التي أنت فيها أي أرض مكة.(15/136)
وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإذا أخرجوك لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا، فإن الله مهلكهم، وحدث هذا الوعيد كما قال، فقد أهلكهم الله ببدر بعد إخراجه بقليل، وهو ثمانية عشر شهرا بعد الهجرة أو الإخراج.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا.. أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم أن يأتيهم العذاب، بخروج الرسول من بينهم، فكل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ولولا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم الرحمة المهداة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال 8/ 33] .
وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي لا تغيير لسنة الله ونظامه وعادته، ولا خلف في وعده.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى العبر والعظات والأحكام التالية:
1- تعرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنواع شتى من مكائد المشركين في مكة وألوان خداعهم ومساوماتهم، ومن أخطرها محاولات افتراء تغيير الوحي وتبديله، وإخراجه وطرده من مكة موطنه الأصلي.
أما محاولة تبديل الوحي وإقرارهم على شيء من قواعد شركهم وجاهليتهم فباءت بالفشل والخيبة، ولم يتم لهم ما أرادوا، لا قليلا ولا غيره بتأييد الله وعصمته.
وأما محاولة الإخراج من مكة فتم لهم مرادهم حينما أمره الله بالخروج، ولكنهم بعدها تعرضوا للقتل في بدر، وإلى فتح مكة موطنهم، وإسلام بعض(15/137)
زعمائهم، وانتشار الإسلام فيها وفي أنحاء الجزيرة العربية، فتداعت معاقل الشرك، وتهدمت حصون الوثنية، وحل الإسلام محلها.
2- لا يشكن أحد في أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم، وأنه لم يهادن الكفر والكفار والشرك والمشركين، بل ولم يهمّ في ذلك، وإنما كانت الآيات تهييجا له، وتهديدا على مجرد الاحتمال والافتراض.
فقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ يدل على قرب وقوعه في الفتنة، لا على الوقوع في تلك الفتنة، فلو قلنا: كاد الأمير أن يضرب فلانا، لا يفهم منه أنه ضربه.
وقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لا يدل على قرب ركونه إلى دينهم والميل إلى مذهبهم لأن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول:
لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك معنى الآية: أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون.
والوعيد الشديد في قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ.. لا يدل على سبق وجود جرم وجناية لأن التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، كما في آيات أخرى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة 69/ 44- 46] . لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] . وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ.. [الأحزاب 33/ 48] .
3- احتج أهل السنة بقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا على أنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى، فالله عاصمه وناصره ومؤيده ومثبّته.
4- منع الله أهل مكة من إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك(15/138)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
ما أمهلوا، ولكن الله منعهم من إخراجه، حتى أمره الله بالخروج، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، حتى قتلوا يوم بدر.
فالأصح الذي عليه المفسرون هو قول قتادة ومجاهد: أن هذه الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ نزلت في همّ أهل مكة بإخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو أخرجوه لما أمهلوا، ولكن الله أمره بالهجرة فخرج لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة. فقوله مِنَ الْأَرْضِ يريد أرض مكة، وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد 47/ 13] يعني مكة، ومعناه: همّ أهلها بإخراجه.
5- سنة الله الثابتة الدائمة تعذيب كل قوم أخرجوا رسولهم من بلده، فإذا أخرجوه أهلكوا ودمّروا.
أوامر وتوجيهات وتعليمات للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 85]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)(15/139)
الإعراب:
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اللام لام الوقت والأجل لأن الوقت سبب الوجوب.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ معطوف منصوب على قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ أي أقم الصلاة وقرآن الفجر، أو منصوب بفعل مقدّر، أي واقرؤوا قرآن الفجر.
مَقاماً مَحْمُوداً منصوب على الظرف بإضمار فعله، أي فيقيمك مقاما، أو بتضمين يبعثك معناه، أو حال أي أن يبعثك ذا مقام.
وَمِنَ اللَّيْلِ الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: قم، ومِنَ للتبعيض، والمعنى قم بعض الليل.
البلاغة:
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، أي قراءة الفجر، وهي صلاة الفجر لأن القراءة جزء منها.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً إظهار محل الإضمار لمزيد العناية والاهتمام. بعد قوله:
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ.
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ بينهما مقابلة، وكذا بين جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ.. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فيه إسناد الخير إلى الله والشر لغيره، لتعليم الأدب مع الله تعالى.
مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ: للتبيين أو للتبعيض.
المفردات اللغوية:
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ هو زوال الشمس عن منتصف كبد السماء نصف النهار، وتحولها من جهة المشرق إلى جهة المغرب إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ إقبال ظلمته، وقدوم سواد الليل وشدة الظلمة، وهذا يشمل أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح كانَ(15/140)
مَشْهُوداً
تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أو شواهد القدرة من تبدل بالظلمة الضياء، وبالنوم اليقظة والحركة، وبهذا تكون الآية جامعة الصلوات الخمس.
فَتَهَجَّدْ بِهِ فصل صلاة التهجد، والضمير للقرآن. والتهجد: ترك الهجود أي النوم للصلاة، أي الاستيقاظ من النوم للصلاة نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك، لاختصاص وجوبه بك، دون أمتك أَنْ يَبْعَثَكَ يقيمك رَبُّكَ في الآخرة مَقاماً مَحْمُوداً يحمدك فيه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء لما
روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» .
أَدْخِلْنِي المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره وَأَخْرِجْنِي من مكة مُخْرَجَ صِدْقٍ إخراجا لا ألتفت بقلبي إليه سُلْطاناً نَصِيراً قوة تنصرني بها على أعدائك، والسلطان: الحجة البينة، والنصير: الناصر والمعين وَقُلْ عند دخولك مكة جاءَ الْحَقُّ الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب أو بطل وزال، أو اضمحل الشرك والكفر زَهُوقاً مضمحلا زائلا. روى الشيخان عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح، وفيها ثلاث مائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول ذلك- أي جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ- حتى سقطت، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من صفر- نحاس- فقال:
يا علي، ارم به، فصعد، فرمى به وكسره.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ: لبيان الجنس وقيل: للتبعيض ما هُوَ شِفاءٌ من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ به، والمعنى على أن مِنَ للبيان فإن كله كذلك: ننزل القرآن الذي فيه تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم، كالدواء الشافي للمرضى، والمعنى على أن مِنَ للتبعيض: أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ولا يزيد الكافرين إلا خسارة، لتكذيبهم وكفرهم به.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعادة على جنس الإنسان، وقيل: الكافر أَعْرَضَ عن الشكر وعن ذكر الله وَنَأى بِجانِبِهِ لوى جانبه (عطفه) عن الطاعة وولاه ظهره متبخترا وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو شدة كانَ يَؤُساً قنوطا من رحمة الله أو شديد اليأس من روح الله.
قُلْ: كُلٌّ قل يا محمد: كل منا ومنكم يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، فالشاكلة: الطبيعة والعادة والدين أَهْدى سَبِيلًا أسدّ طريقا وأقوم منهجا، فيكافئه حسبما يستحق.
وَيَسْئَلُونَكَ أي اليهود عَنِ الرُّوحِ أي عن ماهيتها وحقيقتها وهي ما يحيى به(15/141)
البدن، وهو اسم جنس على الظاهر قُلِ لهم مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من الإبداعات الكائنة بكن من غير مادة ولا تولد من أصل، وقيل: مما استأثره الله بعلمه، لما روي أن اليهود قالوا لقريش:
سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض، فهو نبي، فبين لهم القصتين، وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بالنسبة إلى علمه تعالى، وهو ما تستفيدونه بحواسكم.
سبب النزول:
نزول الآية (80) :
وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الآية: أخرج الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ....
نزول الآية (85) :
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ: أخرج البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، وهو متوكئ على عسيب، فمر بنفر من قريش، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدّثنا عن الروح، فقام ساعة، ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: علمونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لكن حديث البخاري يدل على أن الآية مدنية، مع أن السورة كلها مكية، وأن سؤال قريش يدل على أنها مكية.
قال ابن كثير: يجمع بين الحديثين بتعدد النزول، أي قد تكون نزلت عليه(15/142)
بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي آية: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «1» . وكذا قال الحافظ ابن حجر. قال السيوطي: أو يحمل سكوته حين سؤال اليهود على توقع مزيد بيان في ذلك، وإلا فما في الصحيح أصح، ويرجح ما في الصحيح بأن رواية حاضر القصة، بخلاف ابن عباس.
والحقيقة، كما سنذكر في سبب نزول قصة أصحاب الكهف أن النفر من قريش قدموا إلى المدينة، واستشاروا اليهود، كما ذكر ابن إسحاق، وتظل الآية مكية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى كيد الكفار واستفزازهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما كانوا يرومون به، أمره تعالى بالإقبال على عبادة ربه، وألا يشغل قلبه بهم. وقد تقدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان، وهي الصلاة.
ثم وعده ربه في الآخرة بالمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى باتفاق المفسرين، ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بالمقام المحمود، أمره بأن يدعوه بما يشمل الأمور الدينية والأخروية بقوله: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي ...
والظاهر- كما قال أبو حيان- أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية. والصدق هنا: لفظ يقتضي رفع المذامّ، واستيعاب المدح.
ثم أبان الله تعالى أن ما أنزل عليه من القرآن فيه شفاء النفوس والقلوب من الداء الحسي والمعنوي وهو مرض الاعتقاد، ثم عرّض بما أنعم به، وما حواه من
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/ 60(15/143)
لطائف الشرائع على الإنسان، وإعراضه عنه تكبرا، ثم رد على اليهود والمشركين المعرضين عن الإيمان، السائلين عن الروح تعنتا وتعجيزا.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآية الأولى بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها، والمعنى: أيها الرسول، أدّ الصلاة المفروضة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط، من بعد زوال الشمس إلى ظلمة الليل، وذلك يشمل الصلوات الأربعة: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. والدلوك: ميل الشمس وزوالها عن كبد السماء ووسطها وقت الظهر. وإنما وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمته أيضا لمكانة المأمور به وهو الصلاة.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي وأقم صلاة الفجر، وتلك هي الصلاة الخامسة. وقد أبانت السنة المتواترة من أقوال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله مقادير أوقات الصلاة بدءا وانتهاء، على النحو المعروف اليوم.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء في وقت تبادل المهام والوظائف. وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة لأنها ركن، كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. ويجوز أن يكون وَقُرْآنَ الْفَجْرِ حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة «1» .
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» .
__________
(1) الكشاف: 2/ 243 [.....](15/144)
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح، وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم- وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» .
وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
وقد يكون المراد بقوله مَشْهُوداً الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة، والمعنى كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة، أو شهود كمال قدرة الله تعالى، من اختلاط الظلمة بالضوء، والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، وينتقل العالم من الظلمة إلى الضوء، ومن الموت بالمنام إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن العدم إلى الوجود «1» .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ هذا فرض آخر خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو صلاة التهجد، والمعنى: قم للصلاة في جزء من الليل وهو أول أمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقيام الليل، زيادة على الصلوات المفروضة (المكتوبة) .
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «صلاة الليل»
ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد:
ما كان بعد نوم. وثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتهجد بعد نومه.
وقوله نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، مخصوصة بك دون الأمة، وهي فريضة عليك خاصة، دون غيرك، وأما أمتك فهي لهم مندوبة أو تطوع لهم. وهذا هو الراجح. وقيل: المراد أن قيام الليل في
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 28(15/145)
حقه صلّى الله عليه وآله وسلّم نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما غيره من أمته فإن النوافل تكفّر ذنوبهم. ورد ابن جرير هذا القول لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مأمورا بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر 110/ 3] وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يزيد في الاستغفار في اليوم على مائة مرة، وكلما اشتد قرب العبد من ربه، كلما زاد خوفه منه، وإن كان السيد قد أمّنه، وذلك مقام يعرفه أهله.
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى، كما قال ابن كثير.
وأجمع المفسرون- كما ذكر الواحدي- على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب. وهو- كما ذكر ابن جرير- مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة للشفاعة بالناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
وكلمة عَسى في كلام العرب تفيد التوقع، وهي هنا للوجوب لأنها تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه، كان غارّا، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فهذه الكلمة من الكريم إطماع محقق الوقوع، وهي من الله باتفاق المفسرين واجب.
والمقام المحمود: هو المكان المرموق، والمركز المعلوم المعدّ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو كما بينا مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول، أما
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول: «أنا لها أنا لها»
، فيشفع بالخلق جميعا لتقديمهم للحساب، وتخليصهم من وهج الشمس الشديد التي تدنو من الرؤوس، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار.
روى مسلم بسنده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه» .(15/146)
وروى النسائي والحاكم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلّم نفس إلا بإذنه، فينادي: يا محمد، فيقول: لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهديّ: من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل» .
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي بن كعب، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر» .
وبمناسبة أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهجرة أنزل الله: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ... أي وقل يا محمد داعيا: ربّ أدخلني في الدنيا والآخرة إدخالا مرضيا حسنا، لا يكره فيه ما يكره، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله، وأخرجني إخراجا مرضيا حسنا، مكللا بالكرامة، آمنا من السخط، يستحق الخارج منه أن يوصف بأنه صادق.
وهذا يشمل كل مدخل للنبي وكل مخرج كدخوله المدينة وخروجه من مكة، ودخوله القبر وخروجه منه للبعث، ودخوله مكة فاتحا وخروجه منها آمنا.
وخصص بعضهم الآية بأنها نزلت حين أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهجرة، يريد إدخال(15/147)
المدينة والإخراج من مكة، أو إدخاله مكة منتصرا فاتحا وإخراجه منها آمنا من المشركين.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي واجعل لي حجة بينة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا، ناصرا للإسلام على الكفر، ومظهرا له عليه، قال الحسن البصري: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس، وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له.
وقد أنجز له وعده، وأجيبت دعوته، فتحقق له العصمة الشخصية:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] وانتشار الإسلام وتفوقه على الأديان كلها: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة 9/ 33] وانتصار الدولة والملك:
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة 5/ 56] لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] .
وطلبه السلطة والملك ليس لشهوة السلطة وإنما لحماية حرمات الإسلام لأنه لا بد للحق من قهر لمن عاداه وناوأه، وناصر وحام له، لذا قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ... الآية [الحديد 47/ 25] فقرن الله بين الرسالة والبيان وبين الحديد والقوة، وفي الأثر عن عثمان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع.
ثم هدد كفار قريش وأوعدهم بقوله: وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ أي وقل للمشركين: جاء الحق من الله الذي لا مرية فيه، وهو الإسلام، وما بعثه الله به من القرآن والإيمان، والعلم النافع، واضمحل وهلك الباطل وهو الشرك،(15/148)
فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] .
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له، غير ثابت في كل وقت.
وقد تلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية حين كسر الأصنام، وهو يفتح مكة.
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، وحول البيت ستون وثلاث مائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ 34/ 49] .
وقال الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، وحول البيت ثلاث مائة وستون صنما تعبد من دون الله، فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأكبّت على وجوهها، وقال:
جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.
ثم أخبر الله عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه شفاء ورحمة، فقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء، فكل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فهو يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ والإلحاد، والجهل والضلالة، فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدقه واتبعه لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من العذاب،
وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» .
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله لتأصل الكفر في نفسه.(15/149)
ونظير الآية: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] وأيضا قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] .
قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
ثم يخبر الله تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله فقال:
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي وإذا أمددنا الإنسان بنعمة من مال وعافية ورزق ونصر ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه، وهذا تأكيد للإعراض لأن الإعراض: التولي بالوجه، والنأي بالجانب: لوي الجانب وتولية الظهر، والمراد بذلك الاستكبار والتباعد لأن ذلك عادة المتكبرين.
وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً أي وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. والآية مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [يونس 10/ 12] . وقوله سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود 11/ 9- 10] .
قُلْ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قل يا محمد: كل أحد يعمل على مذهبه وطريقته التي تشاكل وتشبه حاله من الهدى والضلالة.(15/150)
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي فالله ربكم الذي ربّاكم وأوجدكم وأنعم عليكم أعلم من كل أحد بمن هو أسدّ مذهبا وأوضح طريقا واتباعا للحق، وسيجزي كل عامل بعمله. وفي الآية تهديد ووعيد للمشركين.
والآية مثل قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود 11/ 121- 122] .
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... أي ويسألك المشركون عن حقيقة الروح التي تحيى بها الأبدان، فقل: الروح من شأن ربي، يحدث بتكوينه وإيجاده، وقد استأثر بعلمه، فلا يعلمه إلا هو، ولا يستطيعه إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا، مصدره إحساس الحواس وملاحظة المرئيات، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه، ولا اطلاع لأحد على حقيقته.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- دلت آية أَقِمِ الصَّلاةَ ... على فرضية الصلوات الخمس المفروضة، وعلى أوقاتها في الجملة التي فصلتها وحددتها السنة النبوية.
2- في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ فوائد وهي أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة، ووجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه. وأبانت السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات، فالمقصود من قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ الحث على تطويل القراءة فيها، ووصف قرآن الفجر بأنه مشهود معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام، وهو دليل قوي على أن التغليس (الصلاة وقت الظلمة) أفضل، وهذا قول مالك والشافعي.(15/151)
وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس.
واجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الصبح وكذا في صلاة العصر، كما جاء في الحديث المتقدم لا يعني أن هاتين الصلاتين ليستا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار، كما فهم بعض العلماء، وإنما هما من النهار، بدليل الصيام فيه.
3- كانت صلاة التهجد (قيام الليل) مطلوبة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نافلة زيادة وكرامة له، واختلف العلماء في تخصيص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذّكر دون أمته، فقال جماعة: كانت صلاة الليل فريضة واجبة عليه لقوله نافِلَةً لَكَ أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة، ثم نسخت، فصارت نافلة، أي تطوعا وزيادة على الفرائض.
وقال آخرون: صلاة الليل تطوع في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي حق أمته، فيكون الأمر بالتنفل على جهة الندب، ويكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في الدرجات، وأما غيره من الأمة فتطوعهم كفارات لذنوبهم، وتدارك الخلل الذي يقع في الفرض.
4- للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى للناس يوم القيامة، ولأجل ذلك
قال فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر»
قال النقّاش: لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر.
وقال ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا للأنبياء وللعلماء. وذكر أبو الفضل عياض خمس شفاعات: العامة، ولإدخال قوم الجنة دون حساب، ولإخراج عصاة الأمة من النار، وللحيلولة دون إدخال بعض المذنبين من(15/152)
موحّدي الأمة النار، ولزيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
وقال القاضي عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات.
ومع الشفاعة لواء الحمد،
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» .
5- وللنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام السامي المرضي الحسن في الدنيا والآخرة، فيشمل كل دخول وخروج كإدخاله المدينة مهاجرا، ومكة فاتحا، وفي القبر مغفورا له آمنا، وإخراجه من مكة مهاجرا، وإخراجه من القبر للبعث مطمئنا موصوفا بالصدق.
6- ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام قوة الحجة، والسلطان والقهر والقدرة والعصمة من الناس، فكانت له حجة بينة ظاهرة ينتصر بها على جميع من خالفه، ورزقه الله السلطة والتفوق والنصر على أعدائه، وأظهر دينه على الدين كله أي على الأديان والشرائع، وعصمه من أذى الناس ومكرهم.
7- أيد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بما أنزله عليه من القرآن والإيمان والحق الذي لا مرية ولا جدال فيه، فبه جاء الحق، وهو الإسلام والقرآن، واضمحل الباطل وهو الشرك والشيطان.
8- في آية جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ دليل على كسر نصب المشركين والأصنام وجميع الأوثان. قال القرطبي: ويدخل بالمعنى: كسر آلة الباطل(15/153)
وما لا يصلح إلا لمعصية الله، كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى «1» .
قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصّور المتخذة من المدر (الطين المتحجر) والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيّرت عما هي عليه وصارت سبيكة أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها.
9- القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد سماعه الكافرين الظالمين أنفسهم إلا خسارا لتكذيبهم وزيادتهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا. قال قتادة:
ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الآية.
وللعلماء قولان في كونه شفاء:
أحدهما- أنه شفاء للقلوب: بزوال الجهل عنها وإزالة الرّيب، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى.
الثاني- شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه.
وقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما رواه الأئمة- الاستشفاء بالقرآن، والرقية بالفاتحة بقراءتها سبع مرات على لديغ، وإعطاء قارئها عوضا عن الرقية ثلاثين شاة.
وأجاز سعيد بن المسيب ما يسمى بالنّشرة: وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله تعالى، أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثم يمسح به المريض، أو يسقيه.
وقال الإمام مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عزّ وجلّ على
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 314(15/154)
أعناق المرضى على وجه التبرك بها، إذا لم يرد معلّقها بتعليقها مدافعة العين، أي قبل أن ينزل به شيء من العين. ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم.
وكره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال، قبل نزول البلاء وبعده.
قال القرطبي: والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، إن الفاعل الحقيقي المؤثر هو الله تعالى، أما الأدعية المأثورة، وتلاوة آيات الشفاء، والفاتحة والمعوذات وغير ذلك فهي من وسائل الفرج والبرء بإذن الله تعالى، بشرط تعظيم القرآن في الصدور، والإيمان الصادق به، والبعد عما لا يتناسب مع تعظيم آيات الله تعالى. ولا يعني هذا الاكتفاء بالرقى عن المداواة والعلاج بالأدوية الناجعة، فذلك كله من الوسائل التي أذن الشرع بها، بل وأوجبها لصيانة حق الحياة. أما ما يفعله بعض العوام من إهمال علاج المريض المحموم أو المبتلى بداء خطير مثلا، اعتمادا على مجرد التلاوة لشيء من القرآن أو التميمة، فهذا جهل بحقائق الدين، وإهدار لقدسية العلم الذي عظمه الله، ورفع شأن علمائه وأتباعه.
وأما ما روي عن ابن مسعود: «إن التمائم والرقى والتّولة من الشرك، قيل:
ما التّولة؟ قال: ما تحبّبت به لزوجها»
فيجوز أن يريد بما ذكره تعليق غير القرآن أشياء مأخوذة عن العرّافين والكهّان إذ الاستشفاء بالقرآن معلّقا وغير معلّق لا يكون شركا.
10- إن هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وكذلك شأن الإنسان عموما النسيان وكفران النعم إلا من عصمه الله، فتراه إذا كان منعما مترفا بعد عن القيام بحقوق الله عزّ وجلّ، وإذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.
11- إذا أفلس نداء العقل والقلب والوجدان، لتعطيل الفكر والبصر(15/155)
بآيات الله كالمشركين، فلم يبق معهم إلا التهديد والوعيد، وإهمال هؤلاء المعطلين عقولهم، وتركهم يعملون على شاكلتهم من الهدى والضلال وما هو الأولى بالصواب في اعتقادهم. والله تعالى أعلم بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.
12- سأل المشركون عن الروح الذي هو سبب الحياة، فأجابهم القرآن جوابا مبهما يدل على أن خلق الروح من الله، وهو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، تاركا تفصيله، ليعرف الإنسان يقينا عجزه عن علم حقيقة نفسه، مع العلم بوجودها، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه جاهلا حقيقتها، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك ومعرفة مخلوق مجاور له، للدلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز، وبذلك ثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة للإنسان، ولكن لا يلزم من كونها مجهولة نفيها.
وأما حقيقة الروح فللعلماء فيها قولان:
القول الأول للرازي وابن القيم في كتاب الروح: إن الروح جوهر بسيط مجرد، وجسم نوراني مخالف بطبعه للجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ.
والقول الثاني للغزالي وأبي القاسم الراغب الأصفهاني: الروح ليس بجسم ولا جسماني، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف.
13- لم يؤت العالم كله من العلم إلا القليل، ويظل الكثير مختصا بعلم الله تعالى، قال القرطبي: والصحيح أن المراد بالخطاب في قوله تعالى:(15/156)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
وَما أُوتِيتُمْ العالم كله، وليس المراد: السائلين فقط، أو اليهود بجملتهم، كما قال بعضهم.
فالله تعالى لم يطلع الناس من علمه إلا على القليل، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والخلاصة: أن علم الناس في علم الله قليل، والذي يسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى.
إعجاز القرآن
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
الإعراب:
وَلَئِنْ شِئْنا اللام لام القسم، أو الموطئة للقسم، ولَنَذْهَبَنَّ: جوابه النائب مناب جواب الشرط، أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور.
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ اللام لام القسم أو الموطئة للقسم، وإن: حرف شرط، وجوابه محذوف قام مقامه قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وليس هذا جوابا للشرط، لإثبات نون يَأْتُونَ وإنما هو جواب قسم مقدر هيّأته لام لَئِنْ. والتقدير: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فو الله لا يأتون بمثله.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الاستثناء منقطع، أي لكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، ويجوز أن يكون متصلا.(15/157)
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور وَكِيلًا يتوكل ويلتزم استرداده محفوظا مسطورا، بعد الذهاب به إِلَّا رَحْمَةً استثناء متصل، أي إلا إن نالتك رحمة الله، فلعلها تسترده عليك، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا بمعنى:
لكن رحمة من ربك أبقيناه، فيكون ذلك امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً عظيما، بإبقائه في حفظه، كإرساله وإنزاله، وكذلك بإعطائك المقام المحمود، وغير ذلك من الفضائل.
عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وكمال المعنى لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيهم العرب العرباء، وأرباب البيان، وأهل النثر والنظم. وهو جواب قسم محذوف، دل عليه اللام الموطئة للقسم. ظَهِيراً معينا في تحقيق المراد. وهو رد لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] .
صَرَّفْنا بينا، وكررنا ورددنا بوجوه مختلفة، زيادة في التقرير والبيان. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه موقعا في الأنفس أو هو صفة لمحذوف أي مثلا من جنس كل مثل، ليتعظوا أَكْثَرُ النَّاسِ أهل مكة وغيرهم إِلَّا كُفُوراً جحودا للحق.
سبب النزول: نزول الآية (88) :
قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.. الآية:
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سلام بن مشكم في عامة من يهود سماهم، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وإن هذا الذي جئت به، لا نراه متناسقا، كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابا نعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن امتن الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنبوة وبإنزال وحيه عليه، وبتنزيل القرآن شفاء للناس، امتن عليه أيضا ببقاء القرآن محفوظا، رحمة بالناس، وذكّر(15/158)
ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، مع اشتماله على أصح القواعد، وأقوم الحكم والأحكام والآداب المفيدة للدنيا والآخرة، بل إن فصحاء اللسان الذي نزل به، وبلغاءهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله، ولو تعاون الثقلان عليه. ويحتمل اندراج الملائكة تحت لفظ (الجن) لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم، كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات 37/ 158] وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس.
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه ما آتى الناس من العلم إلا قليلا، أبان أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال:
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل، وسلب هذا القرآن الذي أوحينا به إليك يا محمد من الصدور والمصاحف، ولم نترك له أثرا، فهو تعالى قادر على أن يمحو حفظه من القلوب، وكتابته من الكتب.
ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي ثم لا تجد بعدئذ من تتوكل عليه وتستنصر به في رد شيء منه وإعادته محفوظا.
أخرج الحاكم والبيهقي والطبراني وسعيد بن منصور عن ابن مسعود قال:
«إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم، قيل: كيف ينزع منا، وقد أثبته الله في قلوبنا، وثبتناه في مصاحفنا؟! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة، فينزع ما في القلوب، ويذهب ما في المصاحف، ويصبح الناس منه فقراء» ثم قرأ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، ويجوز أن(15/159)
يكون الاستثناء منقطعا، بمعنى: ولكن رحمة من ربك تركته ولم أذهب به، قال الرازي: وهذا امتنان من الله تعالى على جميع العلماء ببقاء القرآن بنوعين من المنة: أحدهما- تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني- إبقاء حفظه لهم «1» .
إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي إن فضل الله عليك أيها الرسول عظيم وكبير بإرسالك للناس بشيرا ونذيرا، وبإنزال القرآن عليك وبحفظه في صدرك وفي المصاحف، وبحفظ أتباعك، وبسبب جعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك، وإعطائك المقام المحمود.
والخلاصة: إن الله تعالى يذكر في هذه الآية نعمته وفضله على عبده ورسوله الكريم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأما بقية النعم والأفضال فهي تبع لذلك، فالقرآن الكريم مصدر العلوم والمعارف، ومنبع الحضارات والثقافات التي ظهرت في ربوع المسلمين.
ثم نبه الله تعالى على شرف هذا القرآن العظيم وأهميته وخطورته، فقال:
قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.. قل يا محمد متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا وتعاونوا وتظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن المنزل، في بلاغته، وحسن نظمه وبيانه، ومعانيه وأحكامه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان والفصاحة، لعجزوا عن الإتيان بمثله، حتى ولو كان الجميع متعاونين متآزرين فيما بينهم لتلك الغاية، فإن هذا أمر غير مستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟! ثم أبان تعالى مضمون القرآن، فقال:
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 53- 54، وقال في الكشاف (2/ 245) : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه.(15/160)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي لقد بينا للناس، ورددنا البيان وكررناه على وجوه مختلفة، وألوان متعددة، وعبارات متنوعة، مرة بالإيجاز، وأخرى بالإطناب، وذكرنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، وأوضحنا الحق وشرحناه، وأتينا بالآيات والعبر، والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي، والحكم والتشريع، وقصص الأولين، والجنة والنار والقيامة، للعظة والعبرة.
فقوله مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى، هو كالمثل في غرابته وحسنه ومع ذلك فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي فأبى أكثر الناس، أي أهل مكة وأمثالهم إلا جحودا وإنكارا للحق، وردا للصواب، وبقاء على الكفر.
فقه الحياة أو الأحكام:
تبين الآيات مدى فضل الله ونعمته على نبيه بإنزال القرآن عليه وحفظه في صدره وتثبيته في المصاحف، وانتفاع أمته به إلى يوم القيامة. وكما أن الله قادر على إنزاله، قادر على إذهابه حتى ينساه الخلق، ولكن لم يشأ الله ذلك رحمة منه بعباده.
ومن فضل الله على نبيه أيضا أن جعله سيد ولد آدم، وأعطاه المقام المحمود، كما أعطاه الكتاب العزيز.
والقرآن هو المعجزة الباقية، والحجة الدائمة التي تحدى الله بها العرب كلهم، فعجزوا عن الإتيان بمثله، وهم فرسان الفصاحة، وأئمة البلاغة والبيان، ولم تنقصهم ثقافة الحياة بدليل المأثور عنهم في الجاهلية من الحكم والمعاني والقيم الإنسانية في النثر والخطابة والشعر.
فو الله لئن تعاونوا مع البشر قاطبة ومع الجن، وكان بعضهم لبعض معينا ونصيرا، كما يتعاون الشعراء على بيت شعر، لا يستطيعون الإتيان بمثل القرآن،(15/161)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
وهذا تكذيب للكفار حين قالوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] .
فظل القرآن هو المعجزة الباقية الناطقة بأنه من عند الله تعالى، وأنه وحي منه لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة، فمن آمن به نجا، ومن كفر به خسر وهلك.
وكان بيان القرآن شاملا لكل شيء من شؤون الحياة، شافيا بلسم كل معذب ومحروم، موضحا كل ما يحتاجه البشر من قضايا الدين والدنيا والآخرة، مبينا الحق الأبلج، فأبى أهل مكة وأشباههم إلا الكفر بعد بيان الحق وتمييزه من الباطل، مع قدرتهم على طلب الحق ومعرفة الصواب.
اقتراح المشركين إنزال إحدى آيات ست
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
الإعراب:
كِسَفاً جمع كسفة، جمع تكسير، نحو كسرة وكسر، وقطعة وقطع، وسدرة وسدر.
وقرئ كسفا فهو اسم جنس كثمرة وثمر، ودرّة ودرّ، وبرّة وبرّ، ونحو ذلك مما يفرق بين واحده وجمعه التاء.
قَبِيلًا مقابلا فهو حال من الله، وحال الملائكة محذوفة، لدلالتها عليها، فإن كان بمعنى جماعة فيكون حالا من الملائكة.(15/162)
البلاغة:
تَفْجِيراً رَسُولًا سجع.
المفردات اللغوية:
فَتُفَجِّرَ تجريها بقوة يَنْبُوعاً عينا ينبع منها الماء دون أن ينضب جَنَّةٌ بستان تغطي أشجاره الأرض خِلالَها وسطها كِسَفاً جمع كسفة، كقطع وقطعة، لفظا ومعنى قَبِيلًا مقابلة وعيانا، والمراد رؤيتهم عيانا، أو جماعة فيكون حالا من الملائكة.
زُخْرُفٍ ذهب، وأصله: الزينة تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ على السلم وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لو رقيت فيها حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا منها كِتاباً فيه تصديقك قُلْ لهم سُبْحانَ رَبِّي تعجب هَلْ ما كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل، فهم لم يكونوا يأتون بآية إلا بإذن الله تعالى.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة، فقالوا: ابعثوا إلى محمد، فكلّموه وخاصموه، حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا- وكان حريصا على رشدهم- فقالوا:
- يا محمد، إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا.
- وإن كنت إنما تطلب الشّرف فينا، سوّدناك علينا.
- وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا «1» ، بذلنا أموالنا في طلب الطّب حتى
__________
(1) رئيا: أي تابعا من الجن.(15/163)
نبرئك منه، أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم» .
فقالوا: يا محمد، إن كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أشدّ عيشا منا، فسل ربك يسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا، حتى نسألهم أحقّ ما تقول؟ وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، تغنيك عنا.
فأنزل الله: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الآيات «1» .
وفي لفظ: فأنزل عليه ما قال له عبد الله بن أبي أمية.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن جبير في قوله: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ: قال: نزلت في أخي أم سلمة: عبد الله بن أبي أمية، مرسل صحيح شاهد لما قبله، يجبر المبهم في إسناده.
المناسبة:
بعد ما تحدى الله المشركين بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، وبعد ما ألزمهم الحجة، وغلبوا على أمرهم، ببيان إعجاز القرآن، مع ظهور معجزات أخرى غيره، فتبين عجزهم عن ذلك، وإعجاز القرآن، أخذوا يتعللون، ويقترحون آيات أخرى تعنتا وحيرة، فطلبوا إحدى آيات ست.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 168 وما بعدها، بإيجاز وتصرف، وأسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين.(15/164)
التفسير والبيان:
بعد أن أثبت الله تعالى كون القرآن معجزا لأنه كلام الله، فأثبت بذلك كون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيا صادقا، وبعد أن أخرستهم الحجة، ولم يجدوا ردا مقنعا، راوغ رؤساء قريش باقتراح إنزال إحدى ستة أنواع من المعجزات فقالوا:
1- وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ.. أي وقال زعماء مكة وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وأبو البختري: لن نصدق برسالتك حتى تخرج لنا من الأرض ينبوعا يتدفق. وهو العين الجارية، فإننا في صحراء مجدبة قاحلة من أرض الحجاز، وذلك سهل على الله تعالى يسير.
2- أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ.. أو يكون لك بستان من نخيل وأعناب وغيرهما تتدفق فيه الأنهار تدفقا بقوة، حتى يسقى الزرع والشجر وتخرج الأثمار.
3- أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أو تسقط السماء علينا قطعا قطعا كما زعمت أن ربك يفعل ذلك إن شاء، ونظيره آية أخرى: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
[الأنفال 8/ 32] لأنك وعدتنا أن السماء تنشق يوم القيامة، وتتساقط أطرافها، فعجّل ذلك في الدنيا، وأسقطها كسفا، أي قطعا. وهذا مشابه لما طلبه قوم شعيب إذ قالوا:
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء 26/ 187] .
4- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أو تأتي بالله والملائكة معاينة ومواجهة، فيحدثونا بأنك رسول من عند الله، والمعنى: أو تأتي بالله قبيلا، وبالملائكة قبلا أي بأصناف الملائكة قبيلا قبيلا. كما في قوله تعالى: أُنْزِلَ(15/165)
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا
والقبيل: الكفيل الضامن يضمنون لنا إتيانك به، أو الشاهد (الشهيد) .
5- أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أو أن يكون لك بيت من ذهب، كما في قراءة ابن مسعود، فإنك يتيم فقير.
6- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ.. أو أن تصعد في السماء على سلّم تضعها، ثم ترقى عليه، ونحن ننظر، ثم تأتي بصك معه أربعة ملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، أو تأتي بكتاب فيه تصديقك أنك رسول من عند الله، ونقرؤه كعادتنا.
قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا قل يا محمد متعجبا من اقتراحاتهم: تنزه ربي وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، فهو الفعال لما يشاء، وما أنا إلا رسول بشر كسائر الرسل أبلّغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وليس للرسل أن يأتوا بشيء إلا بما يظهره الله على أيديهم على وفق الحكمة والمصلحة، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل، إن شاء أجابكم وإن شاء لم يجبكم.
بل إنهم لن يؤمنوا ولو جاءت الآيات كما اقترحوا، كما ذكر تعالى في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] .
فقه الحياة أو الأحكام:
إن ضعفاء العقول ومحدودي التفكير يظنون أن الإله يفعل لهم ما يريدون، كما يحاول زعماء البشر من استرضاء الأتباع، لتحقيق المصالح المادية وجلب المنافع، وتسيير الأمور.
ثم إن طلبهم مقرون بالتحدي والمراوغة والتعجيز، لا من أجل التوصل إلى(15/166)
التصديق والإيمان، ومعرفة حقيقة النبوة إذ لو أرادوا معرفتها بحق لأقنعهم القرآن المعجزة ولكفاهم آية على تصديق هذا النبي.
إنهم طلبوا إحدى آيات ست:
إما تفجير الينابيع (العيون الغزيرة) بكثرة من الأرض- أرض مكة، وإما تملك الرياض والبساتين والحدائق الغناء تجري الأنهار وسطها، وإما إسقاط السماء عليهم قطعا قطعا، كما زعم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعنون قول الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ 34/ 9] ، وإما الإتيان بالله والملائكة معاينة ومواجهة، كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته، وإما أن يكون لك بيت أو قصر من ذهب، وإما الصعود في معارج السماء، ولن نؤمن من أجل رقيك أو صعودك، حتى تنزل علينا كتابا من السماء فيه تصديقك، أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا كما قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر 74/ 52] .
فرد الله عليهم بالجواب الحاسم: قل يا محمد: سُبْحانَ رَبِّي أي تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء، وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب من فرط كفرهم واقتراحاتهم.
فما أنا إلا بشر رسول أتبع ما يوحى إليّ من ربي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات؟! والخلاصة: أن التدبير ليس إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى.(15/167)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
من شبهات المشركين بشرية الرسل وإنكار البعث
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 100]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
الإعراب:
فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مَلائِكَةٌ: اسم كانَ المرفوع، ويَمْشُونَ: جملة فعلية صفة له. وفِي الْأَرْضِ خبر كانَ، ومُطْمَئِنِّينَ:
حال.
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً جملة حالية من جَهَنَّمُ ولا يجوز أن تكون صفة لأن جَهَنَّمُ معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف(15/168)
بالنكرة. ويجوز ألا يكون لهذه الجملة موضع من الإعراب، وتكون الواو العاطفة مقدّرة، أي:
وكلما خبت.
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر وبِأَنَّهُمْ في موضع نصب لأنه يتعلق بجزاؤهم لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ أَنْتُمْ: مرفوع بفعل مقدر، يفسره تَمْلِكُونَ أي لو تملكون، فلما حذف الفعل، صار الضمير المرفوع المتصل في تَمْلِكُونَ ضميرا منفصلا، وهو أَنْتُمْ ولا يجوز أن يكون أَنْتُمْ مبتدأ لأن لو حرف يختص بالأفعال كإن الشرطية.
وخَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مفعول لأجله.
البلاغة:
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا استفهام إنكاري.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ التفات من الغيبة إلى التكلم، اهتماما بأمر الحشر.
مَنْ يَهْدِ وَمَنْ يُضْلِلْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق إِلَّا أَنْ قالُوا إلا قولهم منكرين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا، ولم يبعث ملكا.
قُلْ لهم جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي بنو آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، فلم يرسل الله إلى قوم رسولا إلا من جنسهم يمكنهم مخاطبته والفهم عنه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي وعلى أني رسول إليكم، بإظهار المعجزة على وفق دعواي إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنهم وظواهرهم. وفيه تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتهديد للكفار.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يهدونهم من دونه، والمعنى:
ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدي الموفق لأن نفسه ميّالة إلى ذلك، ومن يضلله الله ويخذله، لإعراضه عن هداية ربه، فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره، ويدافعون عنه.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون عليها تجرهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم، أو يمشون بها،
روى الشيخان عن أنس أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف يمشون على(15/169)
وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» .
وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم.
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا قال البيضاوي: لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر، وتصاموا عن استماع الحق، وأبوا أن ينطقوا بالصدق. ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار معطّلي القوى والحواس.
كُلَّما خَبَتْ سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدا وتلهبا واشتعالا، بأن تبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة «ورفاتا» ما بلي من الشيء.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا فهي رؤية القلب، وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة بعد الإفناء قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإنهم ليسوا أشد خلقا منهم، وليست الإعادة أصعب عليه من الإبداء وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا للموت والبعث فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحق إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه، والمطر من أهم المصادر لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ خوف نفادها بالإنفاق قَتُوراً بخيلا.
المناسبة:
بعد أن أنكر المشركون الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه، بل هي أعظم، أخبر الله تعالى عن السبب الواهي الضعيف الذي منعهم من الإيمان، وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الناس واحدا بشرا منهم، ولم يكن ملكا. فهذه شبهة أخرى وهي استبعاد كون الرسل بشرا، بعد الرد عليهم بأن وظيفة الرسل إبلاغ الناس، وليس تلبية اقتراح الآيات، ثم الرد على شبهتهم بأن الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم.
ثم ذكر شبهة أخرى أيضا وهي إنكار البعث، ولما أنكروا البعث، نبّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته، بخلق السموات والأرض.
ولما طلب المشركون إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله، لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما أقدموا على نفع أحد.(15/170)
التفسير والبيان:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ... أي وما منع أكثر الناس ومنهم مشركو مكة أن يؤمنوا بالله، ويتبعوا الرسل، حين مجيء الوحي المعجز الذي يستهدف الهداية والإسعاد والنجاة إلا استغرابهم وتعجبهم من بعثة البشر رسلا، غير متصورين كون الرسول من جنس البشر المرسل إليهم، وأنه كان لا بد من أن يكون من الملائكة، وهذا تحكم فاسد وتعنت باطل. والآية مثل قوله تعالى:
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس 10/ 2] وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن 64/ 6] . والآيات في هذا كثيرة.
ثم أجابهم الله تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده، وعلى منطق الأمور، فقال: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ.. أي قل لهم يا محمد: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفقهوا عنه ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف لجنسه، ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معه حول أحكام التشريع وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام 6/ 9] .
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، لذا قال تعالى:
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 151] وقال سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران 3/ 164] وقال عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] .(15/171)
والخلاصة في معنى الآية: إنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون عليها مطمئنين فيها، كما أنتم أيها البشر فيها، لنزلّنا عليهم من عالم السماء رسولا من جنسهم، وأنتم البشر رسولكم منكم، لكن يمكن أن يكون البشر رسولا لغير البشر، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول إلى الإنس والجن لأنه يمكنهم تلقي الوحي عنه وفهم الخطاب منه. وأما تلقي النبي الوحي من جبريل عليه السلام فهذا يتطلب استعدادا خاصا لا يتهيأ لغير نبي أو رسول.
ثم أرشد الحق تعالى إلى حجة أخرى هي:
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القول الفصل بيني وبينكم، وإقامة الحجة الدامغة عليكم أن الله شاهد علي وعليكم، وحكم بيني وبينكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة 69/ 44- 46] وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام 6/ 21] .
إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي إن الله سبحانه عليم بأحوال عباده، يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وخبير بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الضلالة، مطلع على ما في قلوبهم، فهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن قبول الحق. وفي ذلك تهديد ووعيد، وإيناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم يخبر الله تعالى عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، فقال:
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.. أي من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب.
والمقصود إيناس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية،(15/172)
لعلمه السابق بأنهم صائرون لذلك لميل نفوسهم إلى الحق، وجب أن يصيروا مؤمنين لأن علم الله لا يتغير، ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل، لما علم الله منهم سوء الاختيار، والإصرار على الغواية والضلال، استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال، كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف 18/ 17] .
ولا يقصد بوجود العلم والحكم السابق إجبار البشر على الإيمان والكفر، فإن الإنسان مختار في حدود ما اختاره الله له، أي إن الإنسان، وهو يختار بمشيئته فإنه في الحقيقة التي لا يعلمها لا يختار إلا ما اختاره الله له، فلا مشيئة للإنسان ولا لشيء إلا ما يشاؤه الله. وهذه المشيئة الكلية والشاملة لله في كل شيء كفلت للإنسان حرية الاختيار بقين الأمرين، كفلت مشيئة الله في عدله ورحمته أن يكون له «الخيار» بين الهدى والأمن مع الله، أو الضلال والشك، كما بيّن تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3] وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] .
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي ونجمعهم يوم القيامة في موقف الحساب بعد الخروج من القبور، مسحوبين على وجوههم، كما قال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر 54/ 48] عميا لا يبصرون، بكما لا ينطقون، صمّا لا يسمعون، أي أنهم كما كانوا في الدنيا معطلين هذه الحواس عن الانتفاع الحقيقي بها، وإن كانوا في الظاهر مبصرين ناطقين سامعين، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، كما قال تعالى:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء 17/ 72] قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكما وعميا وصما عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك.(15/173)
أخرج الشيخان وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «قيل:
يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» .
وأخرج الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف في الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم»
وفي معناه
أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد، قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار» .
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً أي منقلبهم ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، بأن تأكل جلودهم ولحومهم وتفنيها، فيسكن لهبها، ثم يبدلون غيرها، فترجع ملتهبة مستعرة، ويتكرر الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم بالبعث، كما قال تعالى:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ 78/ 30] .
وعلة تعذيبهم ما قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.. أي إن ذلك الجزاء والعقاب الذي جازيناهم به من البعث عميا وبكما وصمّا هو جزاؤهم الذي يستحقونه على كفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم آياته أي أدلته وحجته على وجوده ووحدانيته وعلى البعث، وعلى قولهم منكرين وقوع البعث: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا بالية وترابا منتشرا، نعود خلقا جديدا آخر؟ أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في أنحاء الأرض، نعاد مرة ثانية؟
فنبههم الله على قدرته على البعث بأنه خلق السموات والأرض، فقال:(15/174)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي أبدع خلق السموات والأرض على غير مثال سبق، قادر على أن يخلق أمثالهم، ويعيد أبدانهم، وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] ، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات 79/ 27] فدل هذا على أن خلق الإنسان أو إعادته أهون وأيسر من خلق السموات والأرض، وأن الإعادة أهون عليه من الابتداء.
لكن للبعث والقيامة أو الموت وقتا محددا، فقال تعالى: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي وجعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا معينا، ومدة مقدرة، لا بدّ من انقضائها، وبعد مضي تلك المدة تكون القيامة أمرا محتما لا شكّ فيه.
فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي وبالرغم من إقامة تلك الحجة الدامغة عليهم أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وجحودا للثابت الصحيح، وإنكارا للبعث.
وسبب عدم إجابتهم لمطالبهم من القصور والجنات والعيون هو الشح، فقال الله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي.. أي قل لهم يا محمد:
لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، أي الفقر، كما قال ابن عباس، أي خشية الزوال والذهاب والنفاد والفراغ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفذ أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم.
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا منوعا، كما قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء 4/ 53] . أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله تعالى، لما أعطوا أحدا شيئا، ولا مقدار نقير، وهو الخيط في(15/175)
شق النواة، وقال الله تعالى أيضا: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج 70/ 19- 22] .
والآية دليل واضح على شح الإنسان وكرم الله تعالى وجوده وإحسانه،
جاء في الصحيحين: «يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن كفار قريش قوم متكبرون معاندون، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنت مثلنا، فلا يلزمنا الانقياد لك، وغفلوا عن القرآن المعجزة الذي يثبت صدقه في رسالته.
وادعاؤهم أن الرسول لا يصلح أن يكون بشرا: ادعاء مردود عليهم لأن أداء الرسالة وما تقتضيه من إقناع ونقاش، ومراعاة لموجب الحكمة والمصلحة أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم.
فالملك إنما يرسل إلى الملائكة لأنه لو أرسل الله تعالى ملكا إلى بني آدم لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على رؤيته، وخلق فيهم ما يقدرون به ليكون ذلك آية لهم ومعجزة.
2- كفى بالله شاهدا ومصدقا يشهد أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الله، يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 93] : فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.(15/176)
3- لو شاء الله أن يهدي الكفار لاهتدوا، فإن لم يهتدوا، فإن لم يهتدوا بهدي الله تعالى، لا يهديهم أحد.
4- يحشر الكفار يوم القيامة على وجوههم، وفيه وجهان:
أحدهما- أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، كما يقول العرب: قدم القوم على وجوههم: إذا أسرعوا.
والثاني- أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم، كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لحديث أنس المتقدم. فإنهم يحشرون عميا عما يسرّهم، بكما عن التكلم بحجة مقبولة، صما عما ينفعهم، وهذا يدل على أن حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها، ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا لقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف 18/ 53] ، وتكلموا لقوله تعالى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان 25/ 13] ، وسمعوا لقوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان 25/ 12] .
5- مأوى الكفار ومستقرهم ومقامهم جهنم، كلما سكنت نارها، زادها الله نارا تلتهب، وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم.
6- ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله تعالى وحججه الدالة على وجوده وتوحيده، وجزاء جحودهم وإنكارهم البعث إنكار تعجب من إعادة ما بلي من العظام، وتفتت من الجسد، وزالت معالمه، وغفلوا عن أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، والإعادة أهون عليه من الابتداء، كما قال الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء 21/ 104] ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] .(15/177)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
ومع كل هذه الدلائل أبى المشركون الظالمون إلا جحودا بأجل القيامة وبآيات الله تعالى.
7- لو وسّع الله الرزق على العباد لبخلوا أيضا، فإن قوله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن الأرزاق والنعم إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ من البخل، هو جواب قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء 17/ 90] حتى نتوسع في المعيشة، والمعنى: لو توسعتم لبخلتم أيضا، وكان الإنسان قتورا أي بخيلا مضيّقا، والآية على الصحيح عامة في المشركين وغيرهم.
الآيات التسع لموسى عليه السلام وصفة إنزال القرآن
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 109]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)(15/178)
الإعراب:
تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ بَيِّناتٍ إما وصف مجرور لآيات، أو وصف منصوب لتسع.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الباء في بِالْحَقِّ في الموضعين: إما متعلقة بالفعلين على جهة التعدي، وإما أن الأولى حال من هاء أَنْزَلْناهُ والثانية حال من ضمير نَزَلَ.
وَقُرْآناً إما منصوب بفعل مقدر، وتفسيره فَرَقْناهُ أي فرقنا قرآنا فرقناه، أو معطوف على قوله: مُبَشِّراً وَنَذِيراً على تقدير: وصاحب قرآن، ثم حذف المضاف، فيكون فَرَقْناهُ وصفا لقرآن. وعَلى مُكْثٍ: حال، أي متمهلا مترفّقا.
البلاغة:
مُبَشِّراً وَنَذِيراً بينهما طباق.
مَسْحُوراً مَثْبُوراً بينهما جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً بينهما مقابلة، وفيهما سجع.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي والله لقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله، وهي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وهذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فقيل: انفلاق البحر، والسنون، وقيل: انفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل، وقيل: انفلاق البحر، وحل عقدة لسان موسى. وهما مرويان عن ابن عباس، وقيل عن مجاهد وآخرين: السنون، ونقص الثمرات.
وقيل بغير ذلك كما ذكرنا في سورة الأعراف.
خمس منها ذكرت في سورة الأعراف: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [133] والباقي متفرقات.(15/179)
وقيل: المراد بالآيات: الأحكام،
أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه: «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألاه عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قال: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود»
قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل في الآية.
فَسْئَلْ يا محمد. بَنِي إِسْرائِيلَ عنه سؤال تقرير للمشركين على صدقك، أو: فقلنا له: اسأل. مَسْحُوراً سحرت، فأصبحت متخبط العقل مخبولا. هؤُلاءِ الآيات.
بَصائِرَ بينات واضحات وعبرا، ولكنك تعاند. مَثْبُوراً هالكا، أو مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشر. فَأَرادَ فرعون. أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أن يخرج موسى وقومه وينفيهم من الأرض: أرض مصر، أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال.
اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها. وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة. لَفِيفاً جميعا أنتم وهم، واللفيف: الجمع العظيم المختلط من الطائعين والعصاة وغيرهم. فَرَقْناهُ نزلناه مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة. مُكْثٍ مهل وتؤدة وتأن ليفهموه. وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا شيئا بعد شيء على حسب المصالح والحوادث.
قُلْ لكفار مكة. آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا تهديد لهم ووعيد. مِنْ قَبْلِهِ قبل نزوله، وهم مؤمنو أهل الكتاب. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله، وشكرا لإنجازه وعده في تلك الكتب ببعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على فترة من الرسل وإنزاله القرآن عليه.
والمعنى: إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به من هو خير منكم، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة، وعرفوا حقيقة الوحي، وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والمبطل، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب. فالخرور: السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن: وهو مجتمع اللحيين.
سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها له عن خلف الوعد. سُبْحانَ مخففة من الثقيلة. كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا بإنزال القرآن وبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ عطف بزيادة صفة.
وَيَزِيدُهُمْ القرآن. خُشُوعاً تواضعا لله.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن قريش تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول(15/180)
صلّى الله عليه وآله وسلّم، سلّاه تعالى وذكّره بما جرى لموسى مع فرعون، وقومه من قولهم: أرنا الله جهرة، وقول قريش: أو تأتي بالله، أو نرى ربنا، وأنه أنزل آيات تسعا على موسى مثلما اقترحوا، فلم تفد تلك الآيات فرعون وقومه بالإقبال على ساحة الإيمان، ويكفيكم ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من آيات علمية غير مادية، فإن لم يؤمنوا، كانت عاقبتكم الدمار والهلاك، كما أهلك فرعون وقومه بالغرق.
وبعد أن ذكر تعالى إعجاز القرآن بقوله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء 17/ 88] عاد إلى بيان صفة نزول القرآن منجما، وأنه حق ثابت لا يزول. وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا «1» . وهدد تعالى من لم يؤمن به، وأنه قد آمن به علماء أهل الكتاب.
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى المشركين في هذه الآيات عن قولهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة، فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي لقد أمددنا موسى عليه السلام وأعطيناه تسع آيات بيّنات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به، حين أرسله إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها، كما قال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق [النمل 27/ 14] .
والآيات التسع هي كما
ذكر ابن عباس فيما رواه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر: «العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم آيات مفصلات» .
__________
(1) البحر المحيط: 6/ 87.(15/181)
لكن تخصيص التسع بالذكر لا يمنع ثبوت الزائد عليها لأن القاعدة في أصول الفقه: أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.
وقد ذكر القرآن المجيد ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام ذكرها الرازي «1» وهي: إزالة العقدة من لسانه أي إذهاب العجمة وصيرورته فصيحا، وانقلاب العصا حية، وتلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وشق البحر: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة 2/ 50] والحجر: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ [الأعراف 7/ 160] وإضلال الجبل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف 7/ 171] وإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه، والجدب، ونقص الثمرات: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف 7/ 130] والطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والنقود.
وقال الرازي «2» بعد أن ذكر أن الروايات ظنية غير يقينية في بيان الآيات التسع: أجود الروايات في تفسير قوله تعالى: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ما
روى صفوان بن عسّال المرادي أنه قال: إن يهوديا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألاه عنها، فقال: «هن ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت، فقام اليهوديان، فقبّلا يديه ورجليه، وقالوا:
نشهد إنك نبي، ولولا نخاف القتل، وإلا اتبعناك» «3» .
فالمراد بالآيات:
الأحكام.
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 64.
(2) المرجع السابق.
(3) أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه.(15/182)
فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاسأل أيها النبي بني إسرائيل المعاصرين لك كعبد الله بن سلام وصحبه سؤال تأكد واستيثاق واطمئنان، لتعلم ثبوت ذلك في كتابهم.
إِذْ جاءَهُمْ، فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي فاسألهم حين جاءهم موسى بتلك الآيات، وبلغها فرعون، فقال فرعون: إني لأظنك يا موسى أن الناس سحروك وخبلوك، فصرت مختلط العقل.
قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق الأرض والسموات إلا حججا وأدلة على صدق ما جئتك به، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق، وأنها من عند الله لا من عند غيره.
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي مغلوبا هالكا مصروفا عن الخير، ميالا إلى الشر.
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر بالقتل، أو بالطرد.
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون إخراجكم منها وهي أرض مصر، أو أرض الشام التي وعدتم بها.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم أنتم وعدوكم جميعا، مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم. واللفيف: الجمع(15/183)
العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدني، والمطيع والعاصي، والقوي والضعيف.
وبعد أن ردّ الله تعالى على الكفار بأنه لا حاجة للمعجزات لأن قوم موسى آتاهم الله تسع آيات بينات، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، ولأنه لو جاءهم بتلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها، لأنزل بهم عذاب الاستئصال، فاقتضت الحكمة عدم تلبية مطالبهم لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، ومنهم من لا يؤمن ...
بعد هذا عاد الله تعالى إلى تذكيرهم بالمعجزة الخالدة وهي القرآن، وإلى تعظيم شأنه، والاكتفاء به، فقال:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ... أي إننا أنزلنا القرآن متضمنا للحق من تبيان براهين الوحدانية والوجود، وحاجة الناس إلى الرسل، والأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، والنهي عن الظلم وقبائح الأفعال والأقوال، والأحكام التشريعية والأوامر والنواهي المنظمة لحياة الفرد والجماعة والدولة وغير ذلك من أصول التشريع الرفيع.
ونزل إليك يا محمد هذا القرآن محفوظا محروسا، لم يختلط بغيره، ولم يطرأ عليه زيادة فيه ولا نقص منه، بل وصل إليك مع الحق وهو جبريل عليه السلام، الشديد القوي، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.
وبعد بيان خواص القرآن أبان تعالى مهام النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين بالجنة، ونذيرا لمن عصاك من الكافرين بالنار.
ثم عاد إلى بيان كيفية نزول القرآن منجما، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، فقال تعالى:(15/184)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي وأنزلنا قرآنا مفرقا منجما في مدى ثلاث وعشرين سنة، فلم ينزل في يومين أو ثلاثة، وإنما أنزلناه بحسب الوقائع والحوادث وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدنيا والآخرة على وفق المناسبات، وقد ابتدأ نزوله في ليلة مباركة هي ليلة القدر في رمضان، وقرئ فَرَقْناهُ بالتشديد، أي أنزلناه آية آية مبينا مفسرا.
وذلك لتبلغه للناس وتتلوه عليهم على مهل، ونزلناه تنزيلا أي شيئا بعد شيء، على الحد المذكور والصفة المذكورة. وفائدة قوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بعد قوله فَرَقْناهُ بيان كون التنزيل على حسب الحوادث.
ثم هددهم الله محتقرا لهم غير مبال بشأنهم بقوله: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين لم يقتنعوا بكون القرآن معجزة كافية، وقالوا لك: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء 17/ 90] آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به، فهو حق في نفسه أنزله الله، وكتاب خالد إلى أبد الدهر.
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ... أي إن علماء أهل الكتاب الصالحين الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولم يحرفوه، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يسجدون على وجوههم تعظيما لله عز وجل، وشكرا على ما أنعم به عليهم، وعبر عن السجود بقوله لِلْأَذْقانِ لأن الإنسان كلما ابتدأ بالخرور والإقبال على السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض: الذقن، أو هو كناية عن المبالغة في الخضوع والخشوع والخوف من الله تعالى.
ويقولون في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا ... أي تنزيها لله تعالى وتعظيما وتوقيرا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد، لذا قال: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا(15/185)
لَمَفْعُولًا
أي منجزا واقعا آتيا لا محالة.
وهؤلاء كما قال مجاهد: ناس من أهل الكتاب، حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خرّوا سجدا، منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام.
وهذا السجود من هؤلاء تعريض بأهل الجاهلية والشرك، فإنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن، فإن خيرا منهم وأفضل علماء أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب، وعلموا ما الوحي، وما الشرائع، فآمنوا وصدقوا به، وثبت لديهم أنه النبي الموعود به في كتبهم، فإذا تلي عليهم خروا سجدا لله، تعظيما لأمره، ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في الآية: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي بإنزال القرآن وبعثة محمد.
وصفة سجودهم ما قال تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي ويخرون ساجدين باكين خاشعين خاضعين لله عز وجل من خشية الله، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله.
ويزيدهم السجود خشوعا، أي إيمانا وتسليما، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد 47/ 17] .
وقد امتدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم البكاء في أحاديث كثيرة منها:
ما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى التالي:
1- أيد الله نبيه موسى عليه السلام بمعجزات أو آيات تسع، كما ذكرت الآية(15/186)
هنا، وهي بدلالة آيات أخرى ست عشرة معجزة، كما بينا في التفسير، واخترنا ما اختاره الرازي وغيره أنها آيات الكتاب والأحكام.
ولم تكن الإحالة بالسؤال إلى بني إسرائيل عن هذه الآيات إلا من قبيل الاستفهام والإلزام، ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وبالرغم من دعم موسى بهذه الآيات، فلم يؤمن فرعون برسالته، وإنما قال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي ساحرا بغرائب أفعالك، أو مسحورا من غيرك مختلط العقل مخبولا. والظن هنا على حقيقته المفيد رجحان الوقوع.
2- لم يجد موسى جوابا لفرعون إلا الاعتصام بربه، وإعلانه أن هذه الآيات منزلة من رب السماء والأرض بصائر، أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته وتصديقه موسى في نبوته، وقال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً والظن هنا بمعنى التحقيق والتيقن، والثبور: الهلاك والخسران.
3- لم يجد الطاغية فرعون غير استخدام السلطة والقوة، وصمم على إخراج موسى وبني إسرائيل إما بالقتل أو بالإبعاد، فأهلكه الله عز وجل، وأسكن بني إسرائيل من بعد إغراقه أرض الشام ومصر. ثم يأتي الله بالجميع يوم القيامة من قبورهم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر دون تمييز ولا تحيز، ويحاسب كل امرئ على ما قدم.
4- أنزل الله القرآن متضمنا الحق والعدل والشريعة والحكم الأمثل، والجمع بين الإنزالين لمعنيين، فقوله: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي أوجبنا إنزاله بالحق، وقوله: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ونزل وفيه الحق، أو أن الأول معناه: مع الحق، والثاني بالحق أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي نزل عليه.(15/187)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
5- كان إنزال القرآن منجما مقسطا على حسب الوقائع والمناسبات في مدى ثلاث وعشرين سنة، ليتمكن الناس من قراءته على مهل وتدبر وإمعان، وليعملوا به تفصيلا، فإنهم لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
6- هدد الله تعالى مشركي قريش وأبدى إعراضه عنهم، لا على وجه التخيير قائلا لهم: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن العلماء السابقين من أهل الكتاب وهم مؤمنوا أهل الكتاب آمنوا به عن يقين، ولم يتمالكوا أنفسهم عند سماعه إلا السجود لله خاضعين خاشعين باكين من خشية الله، قائلين: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي منجزا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7- قوله يَبْكُونَ دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن البكاء لا يقطعها ولا يضرها. وقيد ذلك بعض الفقهاء بألا يكون مقرونا بصوت وكلام.
أما الأنين فلا يقطع الصلاة للمريض، ويكره للصحيح في رأي مالك.
وكذلك التنحنح والنفخ لا يقطع الصلاة عند مالك. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع.
دعاء الله بالأسماء الحسنى
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)(15/188)
الإعراب:
أَيًّا ما تَدْعُوا أَيًّا: شرطية، منصوب بتدعوا، والتنوين في أَيًّا عوض عن المضاف إليه، وما: زائدة للتأكيد، وتَدْعُوا: مجزوم بأي، وفاء فَلَهُ جواب الشرط، وقوله ادْعُوا يتعدى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا.
البلاغة:
تَجْهَرْ وتُخافِتْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموه بأي واحد من هذين الاسمين، أو نادوه بأن تقولوا: يا الله، يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا أي هذين تدعوا فهو حسن، والدعاء هنا: التسمية فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فلله الأسماء الحسنى، وهذان منها، وكونها أسماء حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. وقوله: فَلَهُ للمسمى لأن التسمية له، لا للاسم، وكان أصل الكلام: أيّا ما تدعو فهو حسن، فوضع موضعه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل على الله تعالى.
والأسماء الحسنى تسع وتسعون، كما
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءتك فيها، فيسمعك المشركون، فيسبوك ويسبوا القرآن ومن(15/189)
أنزله وَلا تُخافِتْ بِها ولا تسرّ بقراءتك، لينتفع أصحابك وَابْتَغِ اقصد بَيْنَ ذلِكَ الجهر والمخافتة سَبِيلًا طريقا وسطا.
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ متولي أمره ينصره مِنَ الذُّلِّ من أجل الذل، أي لم يذل، فيحتاج إلى ناصر، أي لم يكن له ولي يواليه من أجل مذلّة به، ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظّمه تعظيما تاما منزها عن اتخاذ الولد والشريك والذل وكل مالا يليق به.
وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد، لكمال ذاته وتفرده في صفاته.
وفيه تنبيه على أن العبد، وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك.
روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ إلى آخر السورة» .
سبب النزول:
نزول الآية: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ ... :
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ، ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فنزل: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ... الآية.
وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يكتب في أول ما يوحى إليه:
باسمك اللهم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: قال أهل التفسير: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك لتقلّ ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.(15/190)
نزول الآية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها:
أخرج أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس في قوله تعالى:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مختف بمكة، وكانوا إذا سمعوا القرآن، سبّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا يسمعون وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت في قراءته، ويقول: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية، أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا.
نزول الآية (111) :
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس، لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله: وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ... الآية.
المناسبة:
بعد أن الله أثبت تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن العرب عجزوا عن معارضته، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاءهم بتوحيد الله ورفض آلهتهم، عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فرد الله تعالى عليهم بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ.. الآية.(15/191)
ولما ذكر تعالى أنه واحد، وإن تعددت أسماؤه، أمر الله تعالى نبيه أن يحمده على ما أنعم به عليه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصف نفسه بأنه لم يتخذ ولدا، للرد على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الأصنام، وجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله، فنفى الولد أولا، ثم نفى الشريك في ملكه، ثم نفى الولي وهو الناصر، والشريك أعم من الولد، والولي الناصر أعم من نسبة الولد والشريك، فهو أعم من أن يكون ولدا، أو شريكا أو غير شريك.
التفسير والبيان:
هذا رد على المشركين الذين أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عز وجل، فقال: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين في مكة المنكرين صفة الرحمة لله تعالى، المانعين من تسميته بالرحمن: لا فرق في دعائكم لله باسم الله أو باسم الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى. قال في الكشاف: الله والرحمن المراد بهما الاسم، لا المسمى، وأو للتخيير، فمعنى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا، وإما هذا، والدعاء بمعنى التسمية، لا بمعنى النداء «1» .
وقوله أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التقدير: أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم، فكل أسمائه حسنى، فيها تعظيمه وتقديسه، كما قال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحشر 59/ 24] فأي اسم تدعونه به فهو حسن.
ثم أرشد الله إلى كيفية القراءة والدعاء، فقال:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي ولا تجهر
__________
(1) الكشاف: 2/ 249.(15/192)
بقراءة صلاتك، حتى لا يسمع المشركون فيسبوا القرآن، ويسبوا من أنزله، ومن جاء به، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا، فهذه هي الطريقة المثلى في القراءة، وهي الحد الوسط بين الجهر بالصوت والإسرار والإخفات فيه، ففي الجهر حتى لا يتفرقوا عنه ويأبوا أن يسمعوا منه، أو يسبوا القرآن، وفي الإسرار ليسمع من أراد السماع فينتفع به.
ثم علّمنا تعالى كيفية الحمد، فقال:
وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ... أي وقل: لله الحمد والشكر على ما أنعم على عباده، وهو الموصوف بالصفات الثلاث التالية لتنزيه نفسه عن النقائص:
الأولى- إنه لم يتخذ ولدا: فهو غير محتاج إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث، وهو منزه عنها. وفي هذا رد على اليهود القائلين: عزيز ابن الله، والنصارى القائلين: المسيح ابن الله.
الثانية- ليس له شريك في الملك والسلطان: لأنه أيضا غير محتاج إليه، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] . ولم يعرف المستحق للعبادة والحمد والشكر.
الثالثة: لم يكن له ولي من الذل: أي ليس بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة، من ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بمشيئته «1» .
ومجموع هذه الصفات في قوله سبحانه:
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 71.(15/193)
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1- 4] .
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا، فذلك التعظيم الذي يتناسب مع جلاله وعظمته وقدسيته، فهو الكبير المتعال في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل الوجود وفي صفاته فله صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقصان وفي أفعاله، فلا يحدث شيء في ملكه إلا بمقتضى حكمته ومشيئته وفي أحكامه، فله مطلق الأمر والنهي والعز والذل، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض لأحد على شيء من أحكامه وفي أسمائه فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية «1» .
روى أحمد عن معاذ الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية» .
وروى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى آخر الآية، سبع مرات» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أن دعاء الله وتسميته يكون بكل اسم من أسمائه الحسنى، التي منها الله والرحمن، وليس ذلك تعددا في الآلهة كما فهم المشركون خطأ، وإنما التسمية بأسماء متعددة لمسمى واحد.
والدعاء أو القراءة في الصلاة يكون بطريقة متوسطة بين الجهر والإسرار، وإذا كان السبب الداعي لذلك وهو تفادي سماء المشركين وسبهم القرآن ومن أنزله ومن جاء به، أو نفرتهم عنه وإبائهم سماعه، فإننا نحتفظ بالتزام هذه الطريقة، تذكرا لحال التشريع وظروفه الأولى التي صاحبته.
وقد عبر الله تعالى بالصلاة في الآية هنا عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن
__________
(1) تفسير الرازي: 21/ 72.(15/194)
الصلاة في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 17/ 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها، فعبّر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز، وهو كثير.
وقوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى والعرب في قولهم: عزير وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه، فهو تعالى لا والد له ولا صاحبة ولا ولد، وهو واحد لا شريك له في ملكه وعبادته، وليس له ناصر مدافع عنه يجيره من الذل، لم يحالف أحدا، ولا ابتغى نصر أحد.
وهو تعالى يستحق التعظيم التام والإجلال، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر، أي أنه أكبر من كل شيء،
وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل في الصلاة قال: الله أكبر.
وقال عمر بن الخطاب: «قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها» .
وهذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ ... هي خاتمة التوراة. قال عبد الله بن كعب:
افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة.
وفي خبر معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنها آية العز»
، كما بينا.
وقال عبد الحميد بن واصل: سمعت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية، كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم 19/ 90] .
وجاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم «أمر رجلا شكا إليه الدّين بأن يقرأ: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر السورة، ثم يقول: توكّلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات» .(15/195)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكهف
مكية، وهي مائة وعشر آيات.
تسميتها:
سميت سورة الكهف، لبيان قصة أصحاب الكهف العجيبة الغريبة فيها في الآيات [9- 26] مما هو دليل حاسم ملموس على قدرة الله الباهرة.
وهي إحدى سور خمس بدئت ب الْحَمْدُ لِلَّهِ: وهي الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر. وهو استهلال يوحي بعبودية الإنسان لله تعالى، وإقراره بنعمه وأفضاله، وتمجيد الله عز وجل، والاعتراف بعظمته وجلاله وكماله.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة وضع هذه السورة بعد سورة الإسراء من نواح: هي افتتاح الإسراء بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر 15/ 98] وفي الحديث: «سبحان الله وبحمده» . كما أن الإسراء اختتمت بالتحميد أيضا، فتشابهت الأطراف أيضا.
ولما أمر اليهود المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، أجاب تعالى في آخر سورة بني إسرائيل عن السؤال الأول، وقد أفرد فيها لعدم الجواب عن الروح، ثم أجاب تعالى في سورة الكهف عن السؤالين الآخرين، فناسب اتصالهما ببعضهما.(15/196)
ولما ذكر تعالى في الإسراء: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [85] ناسب ذكر قصة موسى مع العبد الصالح الخضر، كالدليل على ما تقدم. وقد ورد في الحديث: أنه لما نزل: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قال اليهود: قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فنزل: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ... [109] .
ولما قال تعالى في الإسراء: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [104] أعقبه في سورة الكهف بالتفصيل والبيان بقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي، جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا إلى قوله: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [98- 100] «1» .
والخلاصة: أنه تعالى لما قال في آخر الإسراء: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وذكر المؤمنين به أهل العلم، وأنه يزيدهم خشوعا، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج، القيم على كل الكتب، المنذر من اتخذ ولدا، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.
ثم استطرد إلى حديث كفار قريش، والتفت من الخطاب في قوله:
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً إلى الغيبة في قوله: عَلى عَبْدِهِ لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه.
ما اشتملت عليه السورة:
استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه، وأنه جاء للتبشير والإنذار.
ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى.
__________
(1) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي 64 وما بعدها، طبع دار الكتاب العربي- دمشق.(15/197)
وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن وهي قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين. أما قصة أصحاب الكهف [9- 26] فهي مثل عال، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني، واحتموا في غار في الجبل، فأنامهم الله ثلاث مائة وتسع سنين قمرية، ثم بعثهم ليقيم دليلا حسيا للناس على قدرته على البعث.
واتبع الله تعالى تلك القصة بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. [28] .
ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. [29] وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين [30- 31] .
وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات [60- 78] فكانت مثلا للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء، بدليل قصة خرق السفينة، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار.
وأما قصة ذي القرنين في الآيات [83- 99] فهي عبرة للحكام والسلاطين، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم، ومشرق الأرض ومغربها، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.
وتخللت هذه القصص أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى، وإنما يرتبط بالإيمان، وأول هذه الأمثلة:
قصة أصحاب الجنتين [32- 44] للمقارنة بين الغني المغتر بماله، والفقير المعتز(15/198)
بإيمانه، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين.
وثانيها: مثل الحياة الدنيا [45- 46] لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال، وحشر الناس في صعيد واحد، ومفاجأة الناس بضائف أعمالهم [47- 49] .
وثالثها: قصة إبليس وإبائه السجود لآدم [50- 53] للموازنة بين التكبر والغرور، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان، وبين العبودية لله والتواضع، وما حقق من رضوان الله تعالى.
وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكرى، وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار، والتحذير من الإعراض عن آيات الله [54- 57] .
وأن سياسة التشريع اقتران الرحمة بالعدل، فليست الرحمة فوق العدل ولا العدل فوق الرحمة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [58- 59] .
وختمت السورة بموضوعات ثلاثة: أولها- إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة [100- 106] وثانيها- تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [107- 108] وثالثها- أن علم الله تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [109- 110] .
فضل هذه السورة:
ورد في فضائل سورة الكهف أحاديث صحاح ثابتة، منها:
ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال» .
ومنها:
ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي، عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(15/199)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال» .
وفي لفظ النسائي: «من قرأ عشر آيات من الكهف..» الحديث.
ومنها:
ما أخرجه النسائي في سننه عن ثوبان، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، فإنه عصمة له من الدجال» .
دلت هذه الأحاديث على أن قراءة الآيات العشر الأوائل أو الأواخر أو أي عشر آيات عصمة من فتنة الدجال.
والسنة أن يقرأ الشخص الكهف يوم الجمعة وليلتها،
لما رواه الحاكم وقال:
صحيح الإسناد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من قرأ الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين»
وروى الدارمي والبيهقي: «من قرأها ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» .
كيفية الحمد والثناء على الله تعالى ومهام القرآن العظيم
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)(15/200)
الإعراب:
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً الواو للعطف على أَنْزَلَ. والأولى جعل الواو للحال من الكتاب، على تقدير: أنزل الكتاب على عبده غير مجعول له عوج قَيِّماً. وهو أولى من جعله معطوفا على أَنْزَلَ لما فيه من الفصل بين بعض الصلة وبعض، فلو كان للعطف، كان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه، ولذلك قيل في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: أنزل الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا.
قَيِّماً قال في الكشاف: الأحسن أن ينتصب بمضمر، ولا يجعل حالا من الْكِتابَ، منعا من الفصل بين الحال وصاحبه. وقيل: حال من الْكِتابَ.
لِيُنْذِرَ بَأْساً اللام متعلقة بأنزل، وبَأْساً: مفعول ثان لينذر، والمفعول الأول محذوف، تقديره: لينذركم بأسا شديدا من لدنه.
مِنْ لَدُنْهُ قرئ بضم الدال على الأصل، وبإسكانها على وزن عضد وحذف الضمة فيقال:
عضد ولدن، وبإشمامها بالضم للتنبيه على أن أصلها هو الضم.
ماكِثِينَ فِيهِ حال من الهاء والميم في لَهُمْ.
كَبُرَتْ كَلِمَةً تمييز منصوب، أي: كبرت الكلمة كلمة. وتَخْرُجُ جملة فعلية صفة كَلِمَةً.
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا. وكذبا منصوب بيقولون، مثل: قلت شعرا أو خطبة.
أَسَفاً منصوب على المصدر، في موضع الحال، أو مفعول لأجله.
زِينَةً لَها مفعول ثان لجعلنا بمعنى صيّرنا. وإن جعل بمعنى خلقنا فهم مفعول به له.
البلاغة:
يُبَشِّرَ وَيُنْذِرَ بينهما طباق.
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فيه إطناب بذكر الخاص بعد العام. وفي كل منهما حذف بديع، فحذف من الجملة الأولى المفعول الأول أي لينذر الكافرين بأسا، وحذف من الجملة الثانية المفعول الثاني، وهو عذابا، فحذف لدلالة الأول عليه، وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه.(15/201)
باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ استعارة تمثيلية، شبه حاله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المشركين بحال من فارقته الأحباب، فهمّ بإهلاك نفسه حزنا عليهم.
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ استفهام إنكاري بمعنى النهي، أي لا تبخع نفسك لإعراضهم عن الإيمان أسفا.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: الوصف بالجميل ثابت لله تعالى، وهو تعليم للعباد كيف يثنون على الله ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم الْكِتابَ القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وألفاظه.
قَيِّماً مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف منعا للمشقة والحرج، ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه. وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هو التأكيد، فرب مستقيم لا يخلو من أدنى عوج عند التأمل. وقيل: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها، وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال.
لِيُنْذِرَ ليخوف بالكتاب الكافرين وهو متعلق بأنزل بَأْساً عذابا في الآخرة مِنْ لَدُنْهُ من قبله أو من عنده. حذف المفعول الأول لفعل لِيُنْذِرَ- وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة- لأن المنذر به هو الغرض المسوق إليه، فاقتصر عليه، ودل عليه ذكر المنذرين في قوله: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً من غير ذكر المنذر به لتقدم ذكره، كما ذكر المبشر به في قوله: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً والأجر الحسن:
الجنة.
ما لَهُمْ بِهِ بهذا القول أو باتخاذ الولد وَلا لِآبائِهِمْ من قبلهم، والمعنى: أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم كَبُرَتْ كَلِمَةً عظمت، والمخصوص بالذم محذوف أي مقالتهم المذكورة إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ما يقولون في ذلك إلا مقولا كذبا.
باخِعٌ مهلك نفسك أو قاتلها عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم، أي من بعد توليهم عن الإيمان الْحَدِيثِ القرآن أَسَفاً غيظا وحزنا منك، لحرصك على إيمانهم. والأسف: المبالغة في الحزن والغضب ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان والنبات والشجر والأنهار وغير ذلك لِنَبْلُوَهُمْ لنختبر الناس، ناظرين إلى نتيجة الاختبار أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تعاطيه، وهو من زهد فيه، ولم يغتر به، وصرفه على ما ينبغي من الإتقان صَعِيداً ترابا جُرُزاً يابسا لا نبات فيه.(15/202)
التفسير والبيان:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ... يحمد الله تعالى نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه إذ أخرج الناس من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، فمعنى قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
والحمد معناه: الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى. والله تعالى محمود على كل حال، ويحمد نفسه أحيانا عند فواتح السور وخواتمها، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، ومن أهمها نعمة الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم.
قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.. أي مستقيما، وأتى بهذه الصفة بعد نفي الاعوجاج للتأكيد، فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند الفحص والاختبار. وقيل: معناه: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع.
لِيُنْذِرَ أي ليخوف الذين كفروا بالكتاب عذابا شديدا، وعقوبة عاجلة في الدنيا وهو النكال، وآجلة في الآخرة وهو نار جهنم. وقوله: مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عند الله تعالى.
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ بهذا القرآن، الذين دعموا إيمانهم بالعمل الصالح، أن لهم مثوبة جميلة عند الله، وهي الجنة دار المتقين الأبرار، ودار الخلود أبدا للمحسنين الأخيار، فالأجر الحسن: الجنة.(15/203)