خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة، وقال: وفيهم نزل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وهي الآية التالية.
أخذ الصدقة وقبول التوبة والأمر بالعمل الصالح
[سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 105]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
الإعراب:
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ جملتان فعليتان في موضع نصب على الحال من ضمير خُذْ أو أن يكون تُطَهِّرُهُمْ وصفا لصدقة، وتزكيهم: حالا من ضمير: خُذْ.
البلاغة:
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فيه تشبيه بليغ، وأصله كالسكن، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.
أَلَمْ يَعْلَمُوا استفهام للتقرير في النفس، قصد به حثهم على التوبة والصدقة.
وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ مجاز عن قبوله لها.
المفردات اللغوية:
صَدَقَةً ما ينفقه المؤمن قربة لله وَتُزَكِّيهِمْ بِها تنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل(11/26)
المخلصين، فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ادع لهم واستغفر سَكَنٌ أي تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم، والسكن في الأصل: ما تسكن إليه النفس وترتاح من منزل وأهل ومال ودعاء وثناء وَاللَّهُ سَمِيعٌ لاعترافهم عَلِيمٌ بندامتهم وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها التَّوَّابُ صيغة مبالغة، أي يقبل توبة عباده الرَّحِيمُ بهم، صيغة مبالغة أيضا.
اعْمَلُوا ما شئتم وَسَتُرَدُّونَ بالبعث إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الله فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يجازيكم به
سبب النزول: نزول الآية (103) :
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن هؤلاء الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلّم من سواري المسجد لما اعترفوا بذنوبهم وتاب الله عليهم، وهم أبو لبابة وأصحابه، جاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية. فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلّم من أموالهم الثلث.
قال الحسن البصري: وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم. وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة، وعلى هذا يكون قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ هو لجميع الأموال والناس، وهو عام يراد به الخصوص في الأموال، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالديار والثياب «1» .
وهذا النص، وإن كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلّم، وذا سبب خاص، فهو عام يشمل خلفاء الرسول ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لذا قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب، حتى أدّوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الصدّيق: «والله لو منعوني عقالا- أو عناقا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأقاتلنهم على منعه» .
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 95(11/27)
المناسبة وتعيين المراد بالصدقة:
إذا كان المقصود من كلمة صَدَقَةً كفارة الذنب الذي صدر من المتخلفين عن غزوة تبوك، كما قال الحسن البصري فيما تقدم، فالمناسبة بين هذه الآية وما قبلها واضحة لأن المراد علاج خطأ هذه الفئة من الناس، وتكون الآية خاصة بهم. ويمكن تعميم المراد بالآية بأن يقال: إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة، فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى.
وأما إذا كان المقصود من الآية الزكوات الواجبة أو إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء، وهو رأي أكثر الفقهاء، وهو الصحيح، فالمناسبة تكون على النحو التالي: لما أظهر هؤلاء التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك، وأقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف هو حبهم للأموال، وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق، فكأنه قيل لهم: إنما تظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فإن أدوا تلك الزكوات عن طيب نفس، ظهر كونهم صادقين في توبتهم، وإلا فهم كاذبون.
ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات.
قال الجصاص: والصحيح أنها الزكوات المفروضة، إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس، سوى زكوات الأموال، وإذا لم يثبت بذلك خبر، فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس.
ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوي الناس في الأحكام إلا من خصه دليل، فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة(11/28)
على جميع الناس، غير مخصوص بها قوم دون قوم، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة.
وقوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة لأن الزكاة المفروضة أيضا تطهر وتزكي مؤديها، وسائر الناس في المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم «1» .
التفسير والبيان:
خذ أيها الرسول وكل حاكم مسلم بعدك من أموال هؤلاء التائبين ومن غيرهم صدقة مقدرة بمقدار معين، تطهرهم بها من داء البخل والطمع، وتزكي أنفسهم بها، وتنمي بها حسناتهم، وترفعهم إلى منازل المخلصين. والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال، أي أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا للإنماء،
وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «ما نقصت صدقة من مال» .
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم واستغفر وترحم، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم. والصلاة من الله على عباده: الرحمة، ومن ملائكته: الاستغفار، ومن النبي والمؤمنين: الدعاء.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بما في ضمائرهم وبإخلاصهم في توبتهم وصدقاتهم وبما فيه الخير والمصلحة لهم.
فالصدقة مطهرة للنفس، مرضاة للرب، وحصن للمال.
ألم يعلم أولئك التائبون وجميع المؤمنين أن الله هو الذي يقبل توبة عباده،
__________
(1) أحكام القران للجصاص: 3/ 148(11/29)
ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ الصدقات أي يقبلها ويثيب عليها ويضاعف أجرها، كما قال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعِفْهُ لَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن 64/ 17]
وفي الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة: «إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوّه»
أي ولد الفرس، وهذا تمثيل لزيادة الأجر.
وفي هذا حث على التوبة وإعطاء الصدقة سواء كانت فريضة أو تطوعا. قيل في سبب نزول هذه الآية: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلّمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصّوا بها فنزلت: أَلَمْ يَعْلَمُوا فالضمير في يَعْلَمُوا عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين.
وأن الله هو التواب الذي من شأنه قبول توبة التائبين، والتفضل عليهم، وهو الرحيم بعباده التائبين، الذي يثيبهم على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه 20/ 82] وقال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران 3/ 135] والتوبة مفيدة في تجديد همة النفس والعهد، ومحو الذنب.
وقل أيها الرسول لهؤلاء التائبين ولغيرهم: اعملوا، فإن عملكم لا يخفى على الله وعباده، خيرا كان أو شرا، فالعمل أساس السعادة، وسيرى الله عملكم، ورسوله والمؤمنون باطلاعه إياهم على أعمالكم. وهذا وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار على الذنب والذهول عن التوبة، ولكل المخالفين أوامر الله، بأن أعمالهم ستعرض عليه تعالى، وعلى الرسول، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد والبيهقي عن أبي سعيد الخدري: «لو أن(11/30)
أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوّة، لأخرج الله عمله للناس، كائنا ما كان»
وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ،
كما قال أبو داود الطيالسي، روي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك» .
وستردون يوم القيامة إلى الله الذي يعلم سرائركم وعلانيتكم، يعلم الغائب والحاضر، والباطن والظاهر، فيعرفكم أعمالكم، ثم يجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا كلام جامع للترغيب والترهيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام الثلاثة التالية:
1- فرضية أخذ الصدقات وهي الزكوات الواجبة لتطهير النفوس وتزكيتها وتنمية الأموال والبركة فيها. وأن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلّم شفاعة وطمأنينة.
2- قبول الله توبة التائبين بحق أي التوبة الصحيحة، وقبول الصدقات الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها، وسمى تعالى نفسه باسم اللَّهُ لينبه على أن كونه إلها يوجب قبول التوبة، والتخصيص بالله يدل على أن قبول التوبة وردها إلى الله، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم.
3- كل إنسان مجزي بعلمه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والعمل مشهود عند الله ورسوله والمؤمنين، وفي ذلك وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعلى المؤمنين، في عالم البرزخ، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] .(11/31)
لكن آية: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ عامة في أصناف الأموال، لم تبين نوع المال المأخوذ منه ولا مقدار المأخوذ، فيقتضي الظاهر أن يؤخذ من كل صنف بعضه لأن مِنْ أَمْوالِهِمْ تقتضي التبعيض، فدلت الآية على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال، لا كلها، لكن البعض غير مذكور هنا صراحة في اللفظ، فجاءت السنة والإجماع لبيان مقدار المأخوذ والمأخوذ منه، ومقادير الأنصبة ووقت الاستحقاق، ويكون لفظ الزكاة مجملا في هذه الوجوه كلها، مفتقرا إلى البيان فيما ذكر كما قال الجصاص. وقد نص القرآن على زكاة الذهب والفضة بقوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة 9/ 34] ونص أيضا على زكاة الزروع والثمار في قوله سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ إلى قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام 6/ 141] وأوضحت السنة زكاة سائر الأموال الأخرى التي تجب فيها الزكاة، وهي عروض التجارة، والأنعام السائمة (الإبل والبقر والغنم) وبينت مقاديرها وأنصبتها
روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة» «1» .
وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من الفضة، وهي الخمس الأواق المنصوصة في الحديث، حولا كاملا، فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم.
وإنما اشترط الحول
لما أخرجه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلّم: «ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وما زاد على المائتي درهم من الفضة فبحساب ذلك في كل شيء منه ربع عشره، قل أو كثر.
__________
(1) الخمسة أوسق 653 كغ، والورق: الفضة، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة.(11/32)
وأما زكاة الذهب فتجب في رأي جمهور العلماء إذا كان الذهب عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم، فما زاد، عملا بحديث علي الذي أخرجه الترمذي.
وأما زكاة الغنم ففي كل أربعين شاة شاة، على ما جاء في كتاب الصّديق لأنس لما وجهه إلى البحرين، وأخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
وزكاة البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنّة لما رواه الدارقطني والترمذي عن معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن.
ولا زكاة في رأي الجمهور على الأنعام إلا إذا كانت سائمة ترعى في البراري ونحوها
لما روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ليس في البقر العوامل صدقة»
وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسّنة»
وروى أبو داود والدارقطني عن علي «ليس على العوالم شيء»
وفي حديث البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب لأبي بكر الصديق كتابا في الصدقات، جاء فيه: «صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، فيها شاة»
فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة.
وقال مالك والليث: في العوامل صدقة، لعموم
قوله صلى الله عليه وسلّم في حديث أنس المتقدم: «في خمس من الإبل شاة»
والجواب: ذلك مخصوص بالأحاديث المتقدمة.
وظاهر عموم هذه الآية يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان أي الكفالة.
وأما قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فقال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلّم، أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم. وظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن(11/33)
الآثام، وبما أن الإثم لا يتقرر إلا في حق البالغ، فوجب ألا تجب الزكاة في حق الصغير، كما قال أبو حنيفة رحمه الله. وأوجب الجمهور الزكاة في مال الصبي والمجنون، لأن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم، فتكون طهرة للأموال.
وظاهر قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق بالبركة، وهذا رأي الظاهرية. وأما سائر الأئمة فحملوا الأمر على الندب والاستحباب
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم»
ولم يأمره بالدعاء لهم، ولأن الفقراء إذا أخذوا الزكاة لا يلزمهم الدعاء.
ومع هذا،
روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم: قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته، فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
والصلاة هنا: الرحمة والترحم. وبناء عليه قال الحنابلة والظاهرية في صيغة الدعاء: لا مانع أن يقول آخذ الزكاة: اللهم صل على آل فلان. وقال باقي الأئمة: لا يجوز هذا القول لأن الصلاة صارت مخصوصة بالأنبياء عليهم السلام. ولا خلاف أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم، فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه لأن السلف استعملوه، وأمرنا به في التشهد.
والسلام في حكم الصلاة لأن الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب على غير الأنبياء. أما استحباب السلام في مخاطبة الأحياء تحية لهم وفي تحية الأموات فهو ثابت في السنة.
واستحسن الشافعي أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت.(11/34)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وقوله: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ دليل على كونه تعالى رائيا للمرئيات، ودليل لأهل السنة أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، أي إبصاره لأن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. والعمل المرئي يشمل أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار، وأعمال الجوارح، كالحركات والسكنات.
وقوله تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلّم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل الأئمة بعده، كما تقدم.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، ويَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ.
وفي صحيح مسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فتربو في كفّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل» .
وهذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض، تعطفا عليه
بقوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني» .
وخصّ اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه، أو يوضع له فيه فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزّه عن الجارحة.
الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة عليهم
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)(11/35)
المفردات اللغوية:
وَآخَرُونَ من المتخلفين مُرْجَوْنَ مؤخرون عن العقوبة، وموقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم بأن يأمر فيهم بما شاء إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بأن يميتهم بلا توبة وإما يتوب عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وآخرون: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية من بني واقف، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا.
وكان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة «1» :
1- المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين.
2- التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا فتاب الله عليهم، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وهم أبو لبابة وأصحابه، فنزلت توبتهم.
3- الذين بقوا موقوفين وهم المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم عن تخلفهم، وأرجؤوا توبتهم، فلم يربطوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله الحكم في أمرهم، فوقف أمرهم خمسين ليلة، وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، والذين نزلت فيهم هذه الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة 9/ 118] .
التفسير والبيان:
وآخرون من المتخلفين موقوفون مرجون أي مؤخرون لأمر الله في شأنهم،
__________
(1) تفسير الرازي: 16/ 191 [.....](11/36)
ولا يدري الناس ما ينزل فيهم، هل يتوب الله عليهم أولا، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن، إلى أن نزل قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إلى قوله- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. [التوبة 9/ 118] .
هؤلاء في هذه الآية أمرهم متردد بين أمرين: التعذيب والتوبة. وقد ترك أمرهم غامضا، لا للشك، فالله تعالى منزه عنه، وإنما ليكون أمرهم على الخوف والرجاء، وإثارة الغم والحزن في قلوبهم، ليقدموا على التوبة، ويصير أمرهم عند الناس على الرجاء، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذرا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم.
ولا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو، فلم يحكم تعالى بكونهم تائبين لأن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة، ثم ندموا على المعصية لكونها معصية، فصحت توبتهم.
والله عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، وبما يصلح عباده ويربّيهم، حكيم في أفعاله وأقواله، وفيما يشرعه لهم من الأحكام المؤدية لهذا الصلاح. ومن حكمته: إرجاء النص على توبتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الحكمة الإلهية قد تقتضي البت في شأن بعض العباد، وقد ترجئ ذلك، ليظل الناس في أمل ورجاء ورهبة وخوف، وقد أثمرت هذه الحكمة في دفع هؤلاء المخلفين عن التوبة إلى مزيد من الشعور بالقلق والاضطراب والخوف والهلع، وكادوا يحسون باليأس من قبول عذرهم، حتى أنزل الله في شأنهم ما يدل على قبول توبتهم في قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا....
وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ دليل على أنه لا حكم إلا أحد(11/37)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
هذين الأمرين، وهو إما التعذيب وإما التوبة. أما العفو عن الذنب من غير توبة فغير معتبر.
مسجد الضّرار (مسجد المنافقين) ومسجد التّقوى (مسجد قباء)
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
الإعراب:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا عطف على وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أو مبتدأ، وخبره: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ، أو خبره محذوف، أي وفيمن وصفنا أو ممن ذكرنا الذين اتّخذوا، أو كما رجح أبو حيان منصوب على الاختصاص، كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء 4/ 162] .
ضِراراً إما منصوب على المصدر أي مضارّة للمؤمنين، وإما مفعول به، وما بعده من المنصوبات عطف عليه. مِنْ قَبْلُ متعلق بحارب أو باتّخذوا، أي اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتّخلف، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك.
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فيه مضاف محذوف، تقديره: من تأسيس أول يوم لأن مِنْ(11/38)
لا تدخل على ظروف الزمان. ويرى الكوفيون أنها تدخل على ظروف الزمان، فلا تحتاج إلى تقدير مضاف.
هارٍ صفة، أصله هائر، فقلب، كما قالوا: لاث في لائث، وشاك في شائك. وحذفت الياء كما حذفت في نحو قاض ورام في الرّفع والجّر.
أَفَمَنْ أَسَّسَ من: بمعنى الذي مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ.
البلاغة:
هارٍ فَانْهارَ بينهما جناس ناقص.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى استعارة مكنية، حيث شبهت التّقوى والرّضوان بأرض صلبة يقوم عليها البناء، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو التّأسيس. والاستفهام معناه التّقرير.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ مصدر أريد به اسم المفعول.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ أي ومنهم الذين اتّخذوا مسجد الضّرار. وهم اثنا عشر من المنافقين.
ضِراراً مضارّة لأهل مسجد قباء، والضّرار: إيقاع الضّرر بالغير ولا منفعة لك فيه، والضرر:
إيقاع الضّرر بالغير وفيه لك منفعة. وكلاهما ممنوع
للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار» .
وَكُفْراً لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الرّاهب، ليكون معقلا له، يقدم فيه من يأتي من عنده، وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر، لقتال النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين يصلّون بقباء، بصلاة بعضهم فيه، أي الذين يجتمعون للصّلاة في مسجد قباء.
وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا مع العداوة. لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائه، وهو أبو عامر الراهب. إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببنائه. إِلَّا الْحُسْنى الفعلة أو الخصلة أو الإرادة الحسنى من الرّفق بالمسكين في المطر والحرّ والتّوسعة على المسلمين. إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم ذلك، وكانوا سألوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، فنزل: لا تَقُمْ.
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لا تصلّ فيه أبدا، فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة.
والتأسيس: وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي بني من(11/39)
أول أيام وجوده، يوم حللت بدار الهجرة، وهو مسجد قباء، كما في البخاري. والتّقوى: ما يرضي الله ويبقي من سخطه. أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أجدر بأن تقوم فيه. فِيهِ رِجالٌ هم الأنصار.
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي يثيبهم.
عَلى تَقْوى مخافة من الله. وَرِضْوانٍ ورجاء رضوان منه وهذا مثال مسجد قباء.
عَلى شَفا طرف أو حرف أو حدّ. جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه. هارٍ مشرف على السقوط. فَانْهارَ بِهِ سقط مع بانيه. فِي نارِ جَهَنَّمَ وهذا تمثيل للبناء على غير التقوى بما يؤول إليه، وهو مثال مسجد الضّرار.
رِيبَةً شكّا وحيرة. تَقَطَّعَ تنفصل وتنفرق قلوبهم أجزاء، بأن يموتوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه. حَكِيمٌ في صنعه بهم.
سبب النزول:
نزول آية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا:
قال المفسّرون: إن بني عمرو بن عوف وهم من الأوس اتّخذوا مسجد قباء «1» ، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وهم من الخزرج، وقالوا: نبي مسجدا، ونبعث إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلّي لنا فيه، كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشّام فأتوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلّة، والليلة المطيرة، ونحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة.
فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّي على سفر وحال شغل، فلو قدمنا لآتيناكم، وصلّينا لكم فيه» .
__________
(1)
لما هاجر النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، نزل أولا قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس. وقباء: قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الاثنين إلى الجمعة، وأسس مسجد قباء.(11/40)
فلما انصرف النّبي صلى الله عليه وسلّم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه، وصلّوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضّرار.
فدعا النّبي صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدّخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السّكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه» .
فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدّخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا.
وأما أبو عامر الراهب: فهو رجل من الخزرج، كان قد تنصّر، وكان له منزلة كبيرة في أهل الكتاب، فلما قدم النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرا، واجتمع عليه المسلمون، وعلت كلمة الإسلام، خرج فارّا إلى مكة، وألّب المشركين على المسلمين في وقعة أحد. ولما فرغ الناس من الموقعة فرّ إلى هرقل ملك الرّوم يستنصره، فوعده وحباه.
وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النّفاق: أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتّخذوا له معقلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.
والخلاصة: أن هذا المسجد بناه اثنا عشر رجلا من المنافقين، بمشورة أبي عامر الرّاهب، ولقي هوى في نفوس أبناء عمّ بني عمرو بن عوف، لينافسوهم على تأسيس مسجد قباء، ومضاهاتهم به، وليكون مقرّا لأبي عامر إذا قدم، ليكون إمامهم فيه.(11/41)
سبب نزول: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا:
أخرج التّرمذي عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: فِيهِ رِجالٌ ... قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم.
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عويم بن ساعدة، فقال: «ما هذا الطّهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال: يا رسول الله، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال: مقعدته، فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «هو هذا» .
وقيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومعه المهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس،
فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أمؤمنون أنتم؟» فسكتوا، فأعادها، فقال عمر: إنهم مؤمنون، وأنا معهم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أترضون بالقضاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في الرّخاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصّلاة والسّلام: «أنتم مؤمنون، وربّ الكعبة» فجلس، ثم قال: «يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء، وعند الغائط؟» ، فقالوا: يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين وطرائقهم المختلفة في النّفاق، قال:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ...(11/42)
التفسير والبيان:
ومن المنافقين الذين ذكرناهم جماعة بنوا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج، لأسباب أربعة هي:
1- مضارّة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه النّبي صلى الله عليه وسلّم بمجرد وصوله إلى المدينة.
2- الكفر بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام وبما جاء به، وللطعن عليه وعلى الإسلام، واتّخاذه مقرّا للكيد والتّآمر على المسلمين، فصار مركز الفتنة، وبيت النّفاق، ومأوى المنافقين، للتّهرّب من أداء الصّلاة. وهذا كفر، لأن الكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.
3- التّفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلّون خلف النّبي صلى الله عليه وسلّم في مسجد واحد، فإذا صلّى فيه بعضهم، حدثت الفرقة، وبطلت الألفة، وتفرّقت الكلمة. لذا كان الأصل أن يصلّي المسلمون في مسجد واحد، ويكون تكثير المساجد لغير حاجة منافيا لأغراض الدّين وأهدافه.
4- الإرصاد، أي التّرقب والانتظار لمجيء من حارب الله ورسوله إليه، ويتّخذه مقرّا له، ومكانا لقوم راصدين مستعدين للحرب معه، وهم المنافقون الذين بنوا هذا المسجد.
والمقصود بمن حارب الله ورسوله كما ذكر في سبب النزول: هو أبو عامر الراهب من الخزرج، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة،
وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق
، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وترهّب وطلب العلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاداه، لأنه زالت رياسته، وقال للرّسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين،(11/43)
فلما انهزم مع هوازن، هرب إلى الشّام، ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات بقنّسرين (بلد في شمال سوريا) وحيدا. وقيل: كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب، فلما انهزموا خرج إلى الشّام.
فذهاب أبي عامر إلى هرقل كان إما بعد يوم أحد، أو بعد يوم حنين، أو بعد يوم الأحزاب (الخندق) بحسب ما دلّت عليه الرّوايات.
وليحلفن هؤلاء المنافقون: ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهي الرّفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أهل الضّعف والعجز، وفي أثناء المطر ليصدقهم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، وليصلّي معهم فيه، تغريرا لبقية المسلمين، والله تعالى يعلم أنهم لكاذبون في أيمانهم وادّعائهم، منافقون في أعمالهم، وقد أطلع رسوله بذلك، فمعنى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ..: أنه يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
وبما أنهم بنوه للضّرر والإساءة نهى الله تعالى بوحيه إلى جبريل أن يصلّي فيه والأمّة تبع له في ذلك، فقال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصلّي فيه أبدا، وقد يعبر عن الصّلاة بالقيام، يقال: فلان يقوم الليل، ومنه
الحديث الصحيح لدى البخاري: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» .
ويلاحظ استعمال الظّرف أَبَداً الذي يستغرق الزمن المستقبل كله لاتّصاله بلا النافية، فيفيد العموم.
ثم حثّه على الصّلاة في مسجد قباء لأمرين: الأول- أنه بني على التّقوى، أي الذي أسس من أول يوم بنيانه على التّقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله، وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله، فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ... أي إن المسجد المؤسس على التقوى، تقوى الله، بإخلاص(11/44)
العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والعمل على وحدة الإسلام، أولى وأحق من غيره بالصّلاة فيها أيها الرّسول.
والمراد به كما جاء في صحيح البخاري، وكما دلّ عليه السياق والقصة: مسجد قباء، لهذا جاء
في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» .
لكن
روى أحمد ومسلم والنسائي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم سئل عنه، فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة.
ولا مانع من إرادة المسجدين لأن كلّا منهما قد بني على التّقوى، من أول يوم بدئ ببنائه.
الثاني- إن في هذا المسجد رجالا يحبّون أن يتطهّروا طهارة معنوية: وهي التّطهر عن الذّنوب والمعاصي، وطهارة حسية للثوب والبدن بالوضوء والاغتسال، وبالماء بعد الحجر في الاستنجاء، وهذا النوع الأخير هو قول أكثر المفسّرين، والأولى إرادة نوعي التّطهّر.
والله يحبّ المطّهّرين، أي المبالغين في الطّهارة الرّوحية المعنويّة والجسديّة البدنيّة، وهؤلاء هم الكمّل بين النّاس. قال البيضاوي: فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله، وقيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها. والله يحبّ المطهّرين: يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحبّ حبيبه.
وقال في الكشّاف: محبّتهم للتّطهّر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهي له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم، ويحسن إليهم، كما يفعل المحبّ بمحبوبه «1» .
__________
(1) الكشّاف: 2/ 58(11/45)
فمحبة الله عباده: معناها الرّضا والقبول والإدناء لأنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة صفاتنا، فحبّه غير حبّنا، وهو شيء يليق بكماله تعالى، كما جاء
في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» .
والحبّ في هذه الآية يشبه أيضا حبّ الله تعالى في تطهير آل بيت النبّوة في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب 33/ 23] .
ثم قارن الله تعالى بين أهداف بناء المسجدين فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ...
أي لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، أي على أساس متين نافع في الدّنيا والآخرة، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار، أي ساقط، وجرف: جانب الوادي الذي ينحفر بالماء، والمعنى: على طرف حفرة أو واد، أي أساس ضعيف منهار، مشرف على السقوط، فإذا أنهار فإنما ينهار في قعر جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين أي لا يصلح عمل المفسدين، ولا يوفقهم إلى الحق والعدل والسّداد والصّواب وما فيه صلاحهم ونجاتهم، قال الرّازي «1» : ولا نرى في العالم مثالا أجدر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال! وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم.
وقوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل: إن ذلك حقيقة، أي إنه
__________
(1) تفسير الرّازي: 16/ 197(11/46)
موضع من مواضع جهنم، وقيل: إنه مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه أنهار إليه وهوى فيه.
ثم أبان الله تعالى ما يجسّده إقامة المنافقين مسجد الضّرار من معان سيئة ثابتة راسخة على ممرّ التاريخ، فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ.. أي لا يزال بناؤهم هذا وهدمه سبب شكهم في الدّين، وتزايد نفاقهم لأنه يجسّد آثار النّفاق والكفر، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبّه، وأصبح وسمه لا يزول عن قلوبهم، فلا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا في حال تقطع قلوبهم أجزاء، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أي بموتهم، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة.
والمراد أن هذا البناء الذي فرحوا به مصدر استلهام الشّكوك في الدّين، ومظهر تجسيد الكفر والنّفاق الجاثم في نفوسهم، فحينما أمر النّبي صلى الله عليه وسلّم بهدمه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وازداد ارتيابهم في نبوّته، وعظم خوفهم، وارتابوا في أمرهم: هل سيتركون أو يقتلون؟ فكان ذلك البنيان نفسه ريبة، لكونه سببا للرّيبة، وظهرت سببيّته للرّيبة بتخريبه وهدمه.
والله عليم بأعمال خلقه، حكيم في مجازاتهم عنها من خير أو شرّ، ومن حكمته تبيان حال المنافقين وإظهار ما خفي من أمرهم، لمعرفة الحقائق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- من المنافقين جماعة أقاموا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء لمقاصد أربعة: محاولة الضّرار، والكفر بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وتفريق جماعة المؤمنين، واتّخاذه معقلا لمن عادى الله ورسوله.(11/47)
والمقصود في الضّرار بالمسجد من أهله، وليس لذات المسجد ضرار.
2- كانت أيمانهم على حسن النّيّة، وسلامة القصد كاذبة.
3- قال المالكية: كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصّلاة فيه. ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول، فيبقى شاغرا، إلا إذا كانت البلدة كبيرة، وأهلها كثيرين، ولم يعد يكفيهم مسجد واحد، فيبنى حينئذ. ولا ينبغي أن يبنى في البلد الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه «1» .
4- قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلّى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن عمر بن الخطّاب في خلافته لم يأذن لمجمّع بن جارية أن يصلّي إماما في مسجد قباء لأنه كان إمام مسجد الضّرار، ثم أذن له لمّا تبيّن أنه كان جاهلا بما أضمر عليه المنافقون.
5- إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره، فكلّ ما فيه ضرر يزال ويهدم، كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضّرر على الغير. والضابط: أن من أدخل على أخيه أو جاره ضررا منع، وهذا ما يسمّى حديثا عند القانونيين: نظرية التّعسّف في استعمال الحقّ.
وقد سبق فقهاء المالكية وغيرهم إلى تقرير هذه النّظرية.
6- الكفر العملي: قال ابن العربي: لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النّبي صلى الله عليه وسلّم، كفروا بهذا الاعتقاد.
7- دلّ قوله تعالى: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ على أنّ المقصد الأسمى من
__________
(1) تفسير القرطبي: 8/ 254(11/48)
وجود الجماعة تأليف القلوب واتّحادهم على الطّاعة، حتى يأنسوا بالمخالطة، وتصفو القلوب من الأحقاد.
واستنبط مالك من هذه الآية: أنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء.
8- دلّ قوله تعالى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، على أن الأفعال تختلف باختلاف المقصود والإرادة.
9- تحريم الصّلاة في مسجد الضّرار لقوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً يعني مسجد الضّرار.
10- أحقيّة مسجد التّقوى بالصّلاة فيه، والتّقوى: هي الخصال التي تتّقى بها العقوبة.
11- ترغيب الإسلام بالنّظافة المعنوية (السّلامة من الأحقاد وصفاء النّفس وصحّة الإيمان) والنظافة البدنيّة (بالوضوء والاغتسال وإزالة النّجاسة عن الثّوب والبدن والمكان) لأن الله تعالى في هذه الآية أثنى على من أحبّ الطّهارة وآثر النّظافة.
وللعلماء في إزالة النّجاسة ثلاثة أقوال:
الأول- أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلّى بثوب نجس، عالما كان أو ساهيا، وهو قول الشّافعي وأحمد، وروي عن مالك.
الثاني- إن كانت النّجاسة قدر الدّرهم أعاد الصّلاة. وقدر الدّرهم قياس على حلقة الدّبر. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
الثالث- إزالة النّجاسة من الثياب والأبدان سنّة وليس بفرض، وهو قول آخر لمالك وأصحابه.(11/49)
قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله، لأنّ
النّبي صلى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري ومسلم- مرّ على قبرين، فقال: «إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنّميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله»
ولا يعذّب الإنسان إلا على ترك واجب.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أكثر عذاب القبر من البول» .
واحتجّ الآخرون بخلع النّبي صلى الله عليه وسلّم نعليه في الصّلاة لما أعلمه جبريل عليه السّلام أنّ فيهما قذرا وأذى «1» . ولما لم يعد ما صلّى دلّ على أنّ إزالة النّجاسة سنّة، وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت، طلبا للكمال.
12- دلّت آية: أَفَمَنْ أَسَّسَ.. على أن كلّ شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم، هو الذي يبقى، ويسعد به صاحبه، ويصعد إلى الله ويرفع إليه: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف 18/ 46] .
13- كان مسجد الضّرار سببا لريبة المنافقين، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به، ولما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلّم بتخريبه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وزاد ارتيابهم في نبوّته. وظلّ ذلك الرّيب في قلوبهم حتى الموت.
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(11/50)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
صفات المؤمنين الصادقين الكمّل وهم المجاهدون التائبون العابدون
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
الإعراب:
التَّائِبُونَ إما بدل من واو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم التائبون، أو مبتدأ وخبره: الْآمِرُونَ وما بعده.
وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف.
البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى استعارة تبعية، شبه بذلهم الأنفس والأموال وإثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء. ولا يجوز أن يشتري الله شيئا في الحقيقة لأن الله مالك لكل شيء. ولهذا قال الحسن:
اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها.
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ بينهما جناس ناقص، لاختلاف الشكل.
فَاسْتَبْشِرُوا فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.(11/51)
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلون، فيه مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الإظهار في موضع الإضمار أي بشرهم للتكريم والاعتناء بهم، وللتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل: من اتصف بتلك الصفات.
المفردات اللغوية:
اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... بأن يبذلوها في طاعته كالجهاد، وهذا تمثيل مثل قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة 2/ 16، 175] .
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. جملة استئناف بيان للشراء. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى منه. وَذلِكَ المبيع. هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ المحقق غاية المطلوب.
الْعابِدُونَ المخلصون العبادة لله. الْحامِدُونَ له على كل حال. السَّائِحُونَ الصائمون. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ المصلون. وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لأحكامه بالعمل بها.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالجنة.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية لما بايع الأنصار- وكانوا سبعين رجلا- رسول الله صلى الله عليه وسلّم في البيعة الثالثة، وهي بيعة العقبة الكبرى، وكان أصغرهم سنّا عقبة بن عمرو.
أخرج ابن جرير عن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة» قالوا: ريح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأبان أصناف المقّصرين من المؤمنين، ذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وأولها الجهاد في سبيل الله.(11/52)
التفسير والبيان:
هذه الآية تمثيل قصد به الترغيب في الجهاد، عبّر فيه تعالى عن بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم وإثابتهم بالجنة، كرما وفضلا وإحسانا، عبر عن ذلك بالشراء والمعارضة، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم.
والمعنى: إن الله تعالى اشترى من المؤمنين الأنفس والأموال بثمن هو الجنة، أي مثّل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بصفقة الشراء. ثم استأنف بيان ما لأجله تم الشراء، وكيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقال:
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون الأعداء، أو يستشهدون في سبيل الله، فسواء قتلوا أو قُتلوا أو اجتمع الأمران، فقد وجبت لهم الجنة.
ثم أكد الله تعالى وعده وإخباره بقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا.. أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا ثابتا مقررا فيما أنزله على رسله في التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وضياع التوراة والإنجيل وتحريفهما لا ينفي وقوع ذلك، فقد أثبته الله في القرآن الذي جعله مصدقا لتلك الكتب ومهيمنا عليها.
ومن أوفى بعهده من الله؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء 4/ 87] وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء 4/ 122] .
وهذا مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا.
وإذا كان الوفاء بالعهد مؤكدا على هذا النحو، فأظهروا غاية السرور والفرح على ما فزتم به من الجنة، ثوابا من الله وفضلا وإحسانا على بذلكم أنفسكم وأموالكم لله. وذلك الفوز هو الفوز العظيم والنعيم المقيم الذي لا فوز أعظم منه.(11/53)
وهؤلاء المؤمنون المذكورون الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله هم التائبون عن الكفر حقيقة، الراجعون إلى الله، بتركهم كل ما ينافي مرضاته، والتوبة تختلف باختلاف نوع المعصية، فالتوبة عن الكفر بالرجوع عنه، وتوبة المنافق بترك نفاقه، وتوبة العاصي: بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله في المستقبل، وتوبة المقصر في شيء: بالتعويض عن تقصيره، وتوبة الغافل عن ربه: بالإكثار من ذكره وشكره.
وهم العابدون: الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، الحامدون لنعمائه، أو لما نالهم من السّراء والضراء،
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه الأمر يسّره قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الحمد الله على كل حال» .
السائحون في الأرض للجهاد أو لطلب العلم أو للرزق الحلال، أو الصائمون،
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة: «السائحون هم الصائمون»
لأنه يعوق عن الشهوات واللذات، كما أن السياحة كذلك غالبا، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت.
الراكعون الساجدون أي المؤدون صلواتهم المفروضة، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما ولما فيهما من الدلالة على التذلل والتواضع لله تعالى.
الآمرون بالمعروف أي الداعون إلى الإيمان والطاعة، والناهون عن المنكر أي عن الشرك والمعاصي. والعاطف الواو هنا للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين.
والحافظون لحدود الله أي الحافظون لفرائض الله وشرائعه وأحكامه، وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل لها، فمن اتصف بتلك الصفات كان حافظا حدود الله. وذكرت الواو هنا لقربه من المعطوف عليه وهو: وَالنَّاهُونَ عَنِ(11/54)
الْمُنْكَرِ
. وقيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له.
وجزاؤهم المعبر عنه بقوله: بشر أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الفضائل بخيري الدنيا والآخرة. وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- إن ثواب الجهاد في سبيل الله بالمال أو النفس أو بهما معا هو الجنة. وقد دل الله تعالى على هذا المعنى من طريق المجاز، بتمثيل المبذول وعوضه بصفقة بيع وشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال. وأكد تعالى منحه الثواب والجنة بمؤكدات عشرة هي: كون المشتري هو الله، وإيصال الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد، وقوله: وعدا، ووعد الله حق، وإثباته في الكتب الكبرى: التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا يتضمن إشهاد جميع الكتب وجميع الرسل والأنبياء على هذه المبايعة، وقوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ وهو غاية في التأكيد، وقوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ وهو أيضا مبالغة في التأكيد، وقوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ وقوله: الْعَظِيمُ.
2- قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين، كذلك اشترى من الأطفال، فآلمهم وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، لأن هؤلاء يكونون أكثر صلاحا وأقل فسادا عند ألم الأطفال، ثم يعوض الله عز وجل هؤلاء الأطفال عوضا حسنا.
3- القتال في سبيل الله وحده ومن أجل مرضاته هو المستحق لهذا الجزاء وهو الجنة.(11/55)
4- تشريع الجهاد أو مقاومة الأعداء قديم من عهد موسى عليه السّلام.
5- لا أحد أوفى بعهده من الله، وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، لكن وعده للجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين، وببعض الذنوب، وفي بعض الأحوال.
6- قال الحسن عن آية: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ ... : والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة.
7- آية التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ذكرت أوصافا تسعة، بعد صفة المجاهدين، فتكون أوصاف المؤمنين الكّمل عشرة، والآيتان مرتبطتان ببعضهما، لا مستقلتان. قال ابن عباس: لما نزل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية، قال رجل: يا رسول الله، وإن زنى، وإن سرق، وإن شرب الخمر، فنزلت التَّائِبُونَ الآية «1» .
والأوصاف التسعة هي: الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله، المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه، والراضون بقضاء الله، المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال، الصائمون، وسمي الصائم سائحا لأنه يترك اللذات كلّها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال عطاء: السائحون المجاهدون.
والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة المكتوبة وغيرها الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان أو بالسنة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ من الكفر والبدعة والمعصية وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي القائمون بما أمر به، والمنتهون عما نهى عنه.
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 103(11/56)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
هذه أوصاف المؤمنين الكلمة، ذكرها الله، ليتسابق المؤمنون في الاتصاف بها.
8- الحافظون لحدود الله تشمل جميع التكاليف الشرعية، سواء ما يتعلق منها بالعبادات أو بالمعاملات. وأما تفصيل الصفات التسع قبلها، فلأنها أمور تلازم المكلف غالبا.
9- قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ للتنبيه على أن البشارة المذكورة لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.
الاستغفار للمشركين وشرط المؤاخذة (العقاب) على الذنوب
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
البلاغة:
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ بينهما طباق. وكذلك بين يُحْيِي وَيُمِيتُ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا يطلبوا المغفرة. أُولِي قُرْبى ذوي قرابة. أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار، بأن ماتوا على الكفر. مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم 19/ 47] رجاء أن يسلم. أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بموته على الكفر. تَبَرَّأَ مِنْهُ وترك الاستغفار(11/57)
له. لَأَوَّاهٌ كثير التضرع والتأوه والدعاء. حَلِيمٌ صبور على الأذى لا يغضب. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع معاداته له لِيُضِلَّ قَوْماً ليسميهم ضلالا أو يؤاخذهم.
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام. ما يَتَّقُونَ من العمل أي يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، فإذا لم يتقوه استحقوا الإضلال. عَلِيمٌ يعلم كل شيء، ومنه مستحق الإضلال والهداية.
مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره. مِنْ وَلِيٍّ يحفظكم منه. وَلا نَصِيرٍ يمنعكم من ضرره.
سبب النزول:
أخرج أحمد والشيخان وابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لما حضر أبا طالب الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم: قل:
لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى آخر شيء كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية. وأنزل في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية [القصص 28/ 56] .
وظاهر هذا أن الآية نزلت بمكة ولأن أبا طالب مات بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. ونظرا لأن هذه السورة مدنية، فقد استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب.
وأخرج الترمذي وحسنه الحاكم عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك، وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه، وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن ابن مسعود قال: خرج(11/58)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا، ثم بكى فبكيت لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل الله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وأخرج أحمد وابن مردويه، واللفظ له، من حديث بريدة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم، إذ وقف على عسفان، فأبصر قبر أمه، فتوضأ وصلى وبكى، ثم قال: استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فأنزل الله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكّركم الموت» .
دلت الروايات على أن سبب النزول أبو طالب أو أم النبي، أو رجل مسلم يستغفر لأبويه.
قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون لنزول الآية أسباب: متقدم، وهو أمر أبي طالب، ومتأخر، وهو أمر آمنة، وقصة علي وجميع غيره بتعدد النزول.
المناسبة:
كان موضوع سورة التوبة من أولها إلى هنا إعلان البراءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، ثم بيّن هنا أنه تجب البراءة أيضا من أمواتهم، وإن كانوا أقرب الناس إلى الإنسان كالأب والأم، كما وجبت البراءة من أحيائهم.
والمقصود بيان وجوب مقاطعتهم في الحالات كلها.(11/59)
التفسير والبيان:
ما ينبغي للنبي والمؤمنين، وليس من شأنهم أن يستغفروا أو يدعو الله بالمغفرة للمشركين، أو معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي «1» لأن النبوة والإيمان مانعان من الاستغفار للمشركين، ولا تستغفروا، والمعنيان متقاربان، وسبب المنع قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 9/ 113] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 116] .
والمنع حتى ولو كانوا من أقرب المقربين، قياما بحق البر والصلة والشفقة عليهم.
من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أي أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار، وهذه العلة لا تفرّق بين الأقارب والأباعد. قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم، فإنه طلب توفيقهم للإيمان، وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر، فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ ...
أما استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه آزر بقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء 26/ 86] أي وفقه للإيمان، فكان بسبب صدور وعد سابق على المنع، إذ قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم 19/ 47] أي لا أملك إلا الدعاء لك. وكان من خلق إبراهيم الوفاء: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم 53/ 37] .
__________
(1) قال أهل المعاني: ما كانَ في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل 27/ 60] والآخر بمعنى النهي كقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب 33/ 53] وكهذه الآية.(11/60)
فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، بأن مات على الكفر، أو أوحي إليه فيه بأنه لن يؤمن، تبرأ منه، وقطع استغفاره له، إن إبراهيم لأوّاه أي لكثير التأوه والتحسر، أو لكثير التضرع والدعاء، كما
قال صلى الله عليه وسلّم: «الأواه: الخاشع المتضرع»
وهو كناية عن فرط رحمته، ورقة قلبه، حليم: صبور على الأذى. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له، مع معاداته له وسوء خلقه معه، بدليل أنه أي آزر قال لإبراهيم: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم 19/ 46] .
ثم رفع الله تعالى المؤاخذة عن الذين استغفروا للمشركين قبل نزول آية المنع هذه، وبيّن أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ ... أي وما كان من سنة الله في خلقه ولا في رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال أو يؤاخذهم مؤاخذة الضالين، بعد إذ هداهم للإسلام حتى يبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من الأقوال والأفعال. وهذا يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين، وإزالة العذر.
إن الله تعالى عليم بكل شيء، وبأحوال الناس وحاجتهم إلى البيان، وكأن هذا بيان عذر للرسول في قوله لعمه أو لمن استغفر له قبل المنع. وفي هذا دلالة على أن الغافل الذي لم تبلغه رسالة نبي غير مكلف. وبناء عليه، يستبعد أن يكون سبب نزول الآية الاستغفار لأم الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنها ماتت قبل البعثة في عهد الفترة الجاهلية، التي انقطعت فيها النبوة بعد عيسى عليه السّلام، ولم يعد هناك مجال للتعرف على الدين الحق، لاختلاط الأمور.
وبعد أن أمر الله تعالى بالبراءة من الكفار، بين أن النصر لا يكون إلا من عنده لأن له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو الناصر لكم، فهم لا يقدرون على إضراركم، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ ... أي إنه تعالى مالك كل موجود(11/61)
ومتولي أمره، والغالب المهيمن عليه بيده الأمر كله، يحيي ويميت، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتبرؤوا مما عداه، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه، ولا تهمنكم القرابة والصلة الذين هم أولياء مناصرون لكم عادة، فما لكم ولي ولا نصير غير الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
1- تحريم الدعاء لمن مات كافرا، بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك، كقولهم: المغفور له، والمرحوم فلان، كما يفعل بعض الجهلة.
2- قطع الموالاة مع الكفار حيّهم وميّتهم فإن الله لم يسمح للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين، فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. وأما
دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجّوا وجهه: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
فإنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء، كما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم، أو أن هذا الدعاء كان قبل نزول سورة التوبة التي هي من آخر ما نزل من القرآن.
وحديث مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
«رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
3- لا حجة للمؤمنين في استغفار إبراهيم الخليل عليه السّلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة (وعد) . والواعد: إما أبو إبراهيم، فإنه وعده أن يؤمن، قال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله، ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر، علم أنه عدو الله، فترك الدعاء له.
وقوله: إِيَّاهُ ترجع إلى إبراهيم، والواعد أبوه. أو أن يكون الواعد هو إبراهيم، أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، رجاء إسلامه، فلما مات مشركا تبرأ(11/62)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
منه. ودل عليه قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم 19/ 47] . أي إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار قبل أن يتبين الكفر منه، وأملا في إسلامه، فلما تبين له الكفر منه، تبرأ منه.
4- يحكم على الإنسان بظاهر حاله عند الموت، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله.
5- لا عقوبة إلا بنص، ولا مؤاخذة إلا بعد بيان، لقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً....
6- تدل هذه الآية أيضا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً على أن المعاصي سبب للضلالة والهلاك، وطريق إلى ترك الرشاد والهدى.
7- الله مالك الملك، وبيده مقاليد السموات والأرض، فالنصر منه وحده، لا من الأقارب أو الأباعد.
التوبة على أهل تبوك وعلى الثلاثة المخلفين والصدق
[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)(11/63)
الإعراب:
كادَ يَزِيغُ اسمها ضمير الشأن، وجملة يَزِيغُ خبرها، وهي تفسير لضمير الشأن، وجاز إضمار الشأن في كادَ دون (عسى) لأنها أشبهت (كان) الناقصة، فإنها لا تستغني عن الخبر، بخلاف (عسى) فإنها قد تستغني عن الخبر إذا وقعت (أن) بعدها. ويجوز أن يكون اسمها ضمير القوم أصحاب النبي، وتقديره: كاد قبيل يزيغ، وضمير مِنْهُمْ عائد على هذا الاسم.
وَعَلَى الثَّلاثَةِ معطوف على النَّبِيِّ في الآية السابقة، وتقديره: لقد تاب الله على النبي وعلى الثلاثة.
البلاغة:
ضاقَتْ.. ورَحُبَتْ بينهما طباق.
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ أدام توبته. الْعُسْرَةِ الشدة والضيق، وساعَةِ الْعُسْرَةِ: وقتها، وهي حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة من الركائب والزاد، حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، والعشرة تعتقب على بعير واحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث.
يَزِيغُ يميل عن اتباع النبي إلى التخلف، لما هم فيه من الشدة. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بالثبات.
وكرر للتأكيد والتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة. رَؤُفٌ رَحِيمٌ الرأفة: الرفق بالضعيف، والرحمة: السعي في إيصال المنفعة. وَعَلَى الثَّلاثَةِ أي وتاب على الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. الَّذِينَ خُلِّفُوا تخلفوا عن الغزو، أو خلّف وأخر أمرهم مدة، فإنهم المرجون لأمر الله، ثم تاب عليهم بعدئذ. رَحُبَتْ أي مع رحبها أو برحبها، أي سعتها، فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه، وأعرض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ قلوبهم من فرط الوحشة والغم بتأخير توبتها، فلا يسعها سرور ولا أنس. وَظَنُّوا أيقنوا أو علموا. أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ أن: مخففة، أي ألا ملجأ من سخطه أي لا ملاذ ولا معتصم. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ وفقهم للتوبة. اتَّقُوا اللَّهَ بترك معاصيه. مَعَ الصَّادِقِينَ في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق.(11/64)
سبب النزول:
روى البخاري وغيره عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها إلا بدرا، حتى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوة، وآذن الناس بالرحيل ... فأنزل الله توبتنا: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قال: وفينا نزل أيضا: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
المناسبة:
بعد أن استقصى الله تعالى في شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلفين عنها، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها، وهذا أسلوب القرآن في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، للتأثير على النفس، وتجديد الذكرى، ومنع اليأس في التلاوة.
والآية مناسبة لما قبلها في النهي عن الاستغفار للمشركين، وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلّم خلاف الأولى، كما كان من بعض الصحابة زلات، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات.
التفسير والبيان:
لقد تفضل الله ورضي عن نبيه، وتاب على أصحابه المؤمنين الذين صاحبوه واتبعوه في غزوة تبوك وقت الشدة والضيق، التي تسمى غزوة العسرة، وجيشها جيش العسرة الذي جهزه عثمان وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. فكانوا في نقص شديد من وسائط الركوب والزاد والماء، حتى إن العشرة يعتقبون البعير الواحد، ويقتسم الاثنان التمرة الواحدة، وينحرون البعير ويعتصرون الفرث الذي في كرشه، ليبلّوا به ألسنتهم، بالإضافة إلى شدة الحر أو حرارة القيظ التي(11/65)
صادفت خروجهم لتلك الغزوة. قال جابر بن عبد الله في ساعة العسرة: عسرة الظهر (الإبل) وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
والتوبة على النبي لأنه كان قد صدر عنه ما هو خلاف الأفضل والأولى، مثل إذن المنافقين في التخلف بناء على اجتهاد منه لم يقره الله عليه لأن غيره خير منه، فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين، بقوله: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 9/ 43] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.
والتوبة على الصحابة من المهاجرين والأنصار كانت بسبب تثاقل بعضهم في الخروج، أو لسماعهم للمنافقين ما يثيرونه من فتنة.
والتوبة هنا ذات معنيين: بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلّم تعني الرضا والعطف، وبالنسبة للصحابة تعني قبول التوبة منهم وتوفيقهم إليها.
حدثت هذه التوبة على المؤمنين من بعد ما كاد يزيغ أو يميل بعضهم عن الحق والإيمان، وهم الذين تخلفوا لغير سبب النفاق، وهم الذين عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم. ومن بعد ما ارتاب بعضهم بما نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم.
ثم أكد الله تعالى التوبة عليهم، فقال: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه، إن ربهم رؤف رحيم بهم، فلا يتركهم بعد ما صبروا على الجهاد في سبيله، وإنما يزيل ضررهم ويوصل المنفعة إليهم. وهذا معنى الرأفة أي السعي في إزالة الضر، والرحمة أي السعي في إيصال النفع.
وفائدة تأكيد ذكر التوبة مرة أخرى تعظيم شأنهم، وإزالة الشك من نفوسهم، والتجاوز عن وساوسهم التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة.(11/66)
وتاب الله أيضا على الثلاثة الذين خلّفوا أي تخلفوا عن الغزو لا بسبب النفاق، وإنما كسلا وإيثارا للراحة والقعود. وخلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وأرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم شيء، وهم المرجون لأمر الله، وهم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الواقفي الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع العامري، وكلهم من الأنصار.
ووصف الله هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاث هي:
الصفة الأولى:
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ: أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا، خوفا من العاقبة، وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلّم عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، حتى بقوا على هذه الحالة خمسين يوما أو أكثر.
والصفة الثانية:
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي ضاقت صدورهم بسبب الهم والغم، ومجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة.
والصفة الثانية:
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا واعتقدوا ألا ملجأ ولا ملاذ من غضب الله إلا بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته.
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي أنزل قبول توبتهم.
لِيَتُوبُوا أي ليرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلّم. وهذه الأوصاف السابقة كانت دليلا على توبتهم وصدقهم في ندمهم. إن الله(11/67)
كثير القبول لتوبة التائبين، واسع الرحمة للمحسنين. وقصة قبول توبتهم تظهر فيما يأتي:
قال أكثر المفسرين: إنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام،
قال كعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب حديثي، فلما أبطأت عنه في الخروج، قال عليه الصلاة والسلام: «ما الذي حبس كعبا؟» فلما قدم المدينة، اعتذر المنافقون، فعذرهم، وأتيته وقلت: إن كراعي (خيلى) وزادي كان حاضرا، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلّم ذلك.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءت امرأة هلال بن أمية، وقالت: يا رسول الله، لقد بكى هلال، حتى خفت على بصره، حتى إذا مضى خمسون يومأ أنزل الله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وأنزل قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فعند ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حجرته، وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر، قد أنزل الله عذر أصحابنا» فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتلا عليهم ما نزل فيهم.
فقال كعب: توبتي إلى الله أن أخرج مالي صدقة، فقال: لا، قلت:
فنصفه قال: لا، قلت: فثلاثة؟ قال: نعم «1» .
وبعد أن نزل قوله تعالى بقبول توبة هؤلاء الثلاثة، زجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
__________
(1) تفسير الرازي: 16/ 218(11/68)
أي اتقوا وتجنبوا ما لا يرضاه الله من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها، وجالسين مع المنافقين في البيوت، وكونوا في الدنيا مع الصادقين في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نية وقولا وعملا، تكونوا في الآخرين مع الصادقين في الجنة.
والصدق: الثبات على دين الله وشرعه، وتنفيذ أوامره، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وقد استتبع صدق هؤلاء الثلاثة في ندمهم على ما فعلوا قبول الله تعالى توبتهم. وذلك مؤذن بأن الصدق في المواقف طريق النجاة والفلاح،
قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البيهقي مرفوعا: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال للصادق: صدق وبرّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا» .
وترك الكذب كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلّم سبيل لترك جميع المعاصي من خمر وزنا وسرقة ونحوها.
ولا يرخص في الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته ليرضيها، كأن يقول لها: أنت أجمل الناس، وأحب الناس إلى، لا في غير ذلك كمصالح البيت والنفقة ونحوها.
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل يكذب في خديعة حرب، أو صلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها» .
وجاء في حديث آخر أخرجه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين، وهو ضعيف: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» .
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات: التوبة والصدق.(11/69)
أما التوبة فكانت شاملة عامة لكل من شارك في غزوة العسرة أو غزوة تبوك. وذلك تفضل من الله ورحمة، بعد ما تعرضوا للشدائد في جميع أوقات تلك الغزوة، قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظّهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
قال الزمخشري في قوله تعالى: تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ هو كقوله:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] وقوله:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر 40/ 55] وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرين والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأولين صفة الأنبياء «1» .
وشملت هذه التوبة أيضا الثلاثة الذين خلّفوا عن هذه الغزوة، أي أرجئوا وأخّروا عن المنافقين، فلم يقض فيهم بشيء، وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخّر النبي صلى الله عليه وسلّم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن.
وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. قال كعب فيما رواه مسلم:
كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر الله مما خلّفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.
والأوصاف الثلاثة التي وصفهم بها القرآن دليل على صدقهم في التوبة. لذا
__________
(1) الكشاف: 2/ 61(11/70)
أمر تعالى بالصدق بعد هذه الأوصاف، وهو خطاب لجميع المؤمنين يأمر فيه تعالى التزام مذهب الصادقين وسبيلهم.
والآية هذه توجب الصدق، وهو أمر حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وأبعدهم عن منازل المنافقين، وهي دالة على فضل الصدق، وكمال درجته.
ولا شك بأن التوبة النصوح من أخص أحوال الصدق، فما على العاقل المتقي إلا ملازمة الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأفعال، والصفاء في الأحوال، ومن اتصف بذلك صار مع الأبرار، وحظي برضا الإله الغفار.
موقفا صدق وإيمان للمقارنة مع المتخلفين: الأول-
عن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى سواده: كن أبا ذر! فقال الناس: هو ذاك، فقال:
«رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» .
والثاني-
أن أبا خيثمة الأنصاري بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحر والريح، ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكان، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واستغفر له «1» .
__________
(1) الكشاف: 2/ 61- 62(11/71)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
فرضية الجهاد على أهل المدينة والأعراب وثوابه
[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
الإعراب:
وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً مفعول به، وهو اسم منقوص كقاض، ودخلته الفتحة في النصب لخفتها، وجمعه أودية، وليس في كلام العرب فاعل جمعه أفعلة غيره.
البلاغة:
يَطَؤُنَ مَوْطِئاً بينهما جناس اشتقاق، وكذلك يَنالُونَ ... نَيْلًا صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا غزا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشدائد، والرغبة الأولى: المحبة والإيثار، والثانية: الكراهة، وهو نهي بلفظ الخبر ذلِكَ أي النهي عن التخلف بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم ظَمَأٌ عطش نَصَبٌ تعب مَخْمَصَةٌ جوع يَغِيظُ يغضب نَيْلًا أسرا أو قتلا أو أخذ مال إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلا استوجبوا به الثواب والجزاء عليه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أجرهم على إحسانهم، بل يثيبهم، وهو تنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار فلأنه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن(11/72)
كشرب المريض الدواء المرّ، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم من سطوة الكفار واستيلائهم.
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً أي في الجهاد ولو مثل التمرة وَلا كَبِيرَةً مثل إنفاق عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة وادِياً في مسيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل، والمراد أي أرض إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أثبت لهم ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أو أحسن جزاء أعمالهم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بقوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بالصدق في متابعة الرسول في جميع الغزوات، أكد هنا ذلك، فنهى عن التخلف عنه، وأبان حسن الجزاء على الجهاد.
التفسير والبيان:
يعاتب الله تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ورغبتهم بأنفسهم عن مشاركته في المشاق التي تعرض لها، فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.. أي ما كان ينبغي لأهل المدينة المؤمنين، ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لها كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم، التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، بل عليهم أن يصحبوه، فإن النفير كان فيهم، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحق بذلك من غيرهم، بل إن المراد من النص النهي عن التخلف، والتوبيخ عليه لأن المتخلف يؤثر نفسه على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي لا بد من إيثارها وحبها أكثر من حب النفس.
وظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أصحاب الأعذار بدليل العقل، وبقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] وقوله أيضا: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. [النور 24/ 61] ولا يقصد بهذا وجوب الجهاد عينا على كل واحد، فقد دل الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية،(11/73)
فيكون مخصوصا من هذا العموم، ويكون المنصوص عليهم هم المقصودين بالنص العام.
ولا يصح لهؤلاء إيثار أنفسهم على نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم، فلا يرضوا لأنفسهم بالدعة والراحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في المشقة.
لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع والجهاد، بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم- من معاناة ومكابدة ومشاق كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار، والنيل من الأعداء بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة- يستوجب الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، أي لا يدع له شيئا من الثواب على إحسانه إلا كافأه به، كقوله تعالى:
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف 18/ 30] .
وكذلك لا ينفق هؤلاء المجاهدون (الغزاة) «1» في سبيل الله نفقة صغيرة ولا كبيرة، أي قبيلا ولا كثيرا، ولا يقطعون واديا، أي في السير إلى الأعداء، إلا أثبت لهم الجزء الأوفى، ليجزيهم الله أحسن الجزاء على عملهم لأن الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الإسلام، وصون الإيمان، وحفظ الأوطان، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا واستعبدوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- فرضية الجهاد ووجوبه على أهل المدينة وقبائل العرب المجاورة لها، بسبب كون المدينة عاصمة الإسلام، وكونهم سكانها، وجيران الرسول صلى الله عليه وسلّم،
__________
(1) الغزو والجهاد والحرب كلها بمعنى واحد في اللغة.(11/74)
ويصيبهم مباشرة ما أصابه من مجد أو خير أو نصر أو غير ذلك.
2- لا يصح لمؤمن إيثار نفسه على نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم لأن الإيمان لا يكمل إلا بأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلّم أكثر مما يحب نفسه.
3- إن كل ما يتعرض له المجاهد من مكابدة ومتاعب في السفر للجهاد يثاب عليه ثوابا جزيلا.
4- إن في الجهاد إحسانا، سواء في حق الأعداء لأنه قد ينقلهم من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، وفي حق المسلمين لأنهم يصونون به الحرمات: حرمة الدين والإيمان، وحرمة البلاد والأوطان والأموال والأعراض، ويحققون به العزة والمجد والكرامة.
5- تستحق الغنيمة بمجرد الاستيلاء، كما قال الشافعي لأن الله تعالى جعل وطء ديار الكفار بمثابة النّيل من أموالهم، وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم، ويدخل الذّل عليهم، فهو بمثابة نيل الغنيمة والقتل والأسر.
6- إن هذه الآية منسوخة بالآية التالية بعدها: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.. وإن حكمها كان في حال قلة المسلمين، فلما كثروا نسخت، وأباح الله التخلف عن الجهاد مع الحكام لمن شاء. قال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلّم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة، فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. قال القرطبي: قول قتادة حسن، بدليل غزاة تبوك.
أما المعذورون الباقون في المدينة فلهم مثل أجر العاملين المجاهدين لما
روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر»
وأخرجه مسلم من حديث جابر قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزاة، فقال:(11/75)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض»
فأعطى صلى الله عليه وسلّم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل. ويؤكد ذلك أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة، فعجز عنها صاحبها لمانع منها، فله الثواب على عمله
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي عن أنس وهو ضعيف: «نية المؤمن خير من عمله» .
الجهاد فرض كفاية وطلب العلم فريضة
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
الإعراب:
لولا: للتحضيض، وهي داخلة هنا على الماضي، فتفيد التوبيخ واللوم على ترك الفعل فيما مضى، والأمر به في المستقبل.
المفردات اللغوية:
لِيَنْفِرُوا إلى الجهاد فَلَوْلا فهلا وهي تفيد الحض والحث على ما تدخل عليه نَفَرَ خرج للقتال فِرْقَةٍ قبيلة أو جماعة عظيمة طائِفَةٌ جماعة قليلة أقلها اثنان أو واحد، ومكث الباقون لِيَتَفَقَّهُوا ليتعلم الباقون الفقه والأحكام الشرعية، والتفقه: تكلف الفقاهة والفهم، وتجشم مشاق التحصيل وَلِيُنْذِرُوا يخوفوا إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ من الجهاد، بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا عقاب الله بامتثال أمره ونهيه، والحذر من الشيء: التحرز منه.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً(11/76)
أَلِيماً
وقد تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أصحاب البوادي، فنزلت: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: كان المؤمنون، لحرصهم على الجهاد، إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سرية، خرجوا فيها، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة في رقة من الناس، فنزلت.
قال ابن عباس: لما شدّد الله على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده، فنزل:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ الآية.
وقال ابن عباس أيضا: فهذه مخصوصة بالسرايا، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد، فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلّم.
المناسبة:
هذه الآية من بقية أحكام الجهاد، فهي لا توجب على جميع المؤمنين الجهاد إذا لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلّم إليه، وإنما أرسل سرية. وحينئذ يجب على المؤمنين طلب العلم والتفقه في الدين لأن الجهاد يعتمد على العلم، ولأن نشر الإسلام في الأصل يتوقف على البيان بالحجة والبرهان.
التفسير والبيان:
هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلهم، فتكون فئة منهم للتفقه وفئة أخرى للجهاد، فإنه فرض كفاية على الناس، كما أن طلب العلم فرض كفاية أيضا.
فما كان من شأن المؤمنين أن ينفروا جميعا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم وحده، فإن(11/77)
الجهاد فرض كفاية، متى قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، لا فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، وإنما يصبح فرض عين إذا خرج الرسول للجهاد واستنفر الناس إليه.
فهلا نفر في أثناء النهضة من كل جماعة كالقبيلة أو البلد طائفة قليلة منهم للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة وأسرارها، حتى إذا ما رجع المجاهدون من المعركة أنذروهم من الأعداء وحذروهم من غضب الله وعرفوهم أحكام الدين، لكي يخافوا الله، ويحذروا عاقبة عصيانه، ومخالفة أمره.
والضمير في لِيَتَفَقَّهُوا، ولِيُنْذِرُوا للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلّم. وضمير إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أي المجاهدون من الجهاد.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على الأحكام التالية:
1- الجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، إذ لو نفر الكل لتعطلت مصالح الأمة، وتضررت الأسر والأولاد، فليخرج فريق من المسلمين للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، ويصونون مصلحة البلاد.
حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع. وهذه الآية مبينة لقوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا وللآية التي قبلها: انْفِرُوا.
وقال مجاهد وابن يزيد: ناسخة والأصح القول بأنها مبينة لا ناسخة. وكل من مِنْ المفيدة للتبعيض، والفرقة (الجماعة الكثيرة) والطائفة (الجماعة الأقل) يفيد كون الجهاد وطلب العلم موجها للبعض.
2- وجوب طلب العلم، والتفقه في القرآن والسنة، وهو فرض على الكفاية لا على الأعيان بدليل قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ(11/78)
لا تَعْلَمُونَ
[النحل 16/ 43] . وآية لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وإن اقتضت فقط الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام، فقد لزم طلب العلم بأدلة أخرى، مثل
حديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس، ورواه آخرون.
والطائفة وإن أطلقت على الاثنين والواحد في اللغة، فلا شك إن المراد بها هنا جماعة لقوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ فجاء بضمير الجماعة، ولأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب.
ومما يدل على أن الواحد يقال له طائفة قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات 49/ 9] يعني نفسين، بدليل قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فجاء بلفظ التثنية. وأما ضمير اقْتَتَلُوا وإن كان ضمير جماعة، فأقل الجماعة اثنان، في أحد القولين للعلماء.
3- يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم لأن الآية أمرت بإنذارهم إلى الدين الحق، وعليهم أن يحذروا الجهل والمعصية، ويرغبوا في قبول الدين. فغرض المعلم الإرشاد والإنذار، وغرض المتعلم اكتساب الخشية. هذا.. وطلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان كالصلاة والزكاة والصيام، وفرض على الكفاية كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه.
وطلب العلم فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل،
لما رواه مسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»
وروى الترمذي عن أبي الدرداء قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل(11/79)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» .
4- خبر الواحد حجة لأن الطائفة مأمورة بالإنذار أو الإخبار، وهو يقتضي فعل المأمور به، ولأنه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار، والمراد: ليحذروا.
السياسة الحربية في قتال الكفار
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
المفردات اللغوية:
يَلُونَكُمْ يجاورونكم الأقرب فالأقرب غِلْظَةً شدة وخشونة، أي اغلظوا عليهم مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
المناسبة:
لما أمر الله سبحانه المؤمنين بقتال المشركين كافة، كما يقاتلونهم كافة، أرشدهم في هذه الآية إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدءوا من الأقرب فالأقرب، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته بهذه الخطة، فقد قاتل قومه في مكة، ثم قاتل سائر العرب، ثم انتقل إلى قتال الروم في الشام، ثم دخل صحابته العراق.
وهكذا سار خط الدعوة الإسلامية على هذا الترتيب، فقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ثم اتسع نطاقها إلى الجزيرة العربية، فقال(11/80)
تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام 6/ 92] وقال عزّ وجلّ:
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح 48/ 16] ثم انتشرت خارج الجزيرة بين أهل الكتاب فقال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 29] وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] أي لأنذر العرب ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان.
فالسياسة الإسلامية تسير على منهج دعوة الأقرب فالأقرب سلما، وقتال الأقرب فالأقرب إذا توافرت دواعي القتال.
التفسير والبيان:
يأيها المؤمنون قاتلوا الأقرب منهم فالأقرب إلى ديار الإسلام، فإن الأقرب أحق بالشفقة والإصلاح، ولأن تكوين الأتباع المؤمنين من الجوار بالدعوة الإسلامية أفيد وأحصن وأجدى، وفيه حماية الديار والوطن، ولأن هذا الترتيب يحقق قلة النفقات، والاقتصاد في نقل الآلات وانتقال المجاهدين بأمان، حتى لا يطعنوا من الخلف.
وهذا بالطبع يشمل أولا اليهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر، ثم المشركين في جزيرة العرب، ثم أهل الكتاب وهم الروم في الشام شمال المدينة.
وسياسة القتال أن يجدوا في المؤمنين المقاتلين غلظة أي شدة وخشونة، وقوة وحميّة، وصبرا على القتال، وجرأة على خوض المعارك والفتك والأسر ونحو ذلك، وهذه طبيعة الحرب ومصلحة القتال، ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 73] .
وأعلموا أن الله مع المتقين أي بالنصر والحراسة والإعانة، والمتقون: هم(11/81)
المتبعون أوامر الله، المجتنبون نواهيه. فهذه المعية ملازمة للتقوى، فالله معكم إذا التزمتم أحكام شرعه ومن أهمها إقامة الفرائض والسنن، والثبات والصبر والطاعة والنظام، وابتعدتم عن اختراق حدوده والتقصير في إعداد العدة المناسبة لكل عصر وزمان ومكان، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال 8/ 60] .
وإذا أريد بالمتقين المخاطبون، ففيه إظهار بدل الإضمار للدلالة على أن الإيمان والقتال من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين. وإذا أريد بالمتقين الجنس دخل المخاطبون دخولا أولياء، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله، أي قاتلوهم واغلظوا عليهم ولا تخافوهم لأن الله معكم أو لأنكم متقون.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يلي:
1- التعريف بكيفية الجهاد، وكون الابتداء به بالأقرب فالأقرب من العدو، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعرب، ثم قصد الروم بالشام. وروي عن الحسن البصري أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] . والأصح أنها غير منسوخة لأنها للإرشاد ورسم خطة الحرب في قتال الكفار. قال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى «1» .
2- أمر المؤمنين بالاتصاف بالغلظة على الكفار، حتى يجدهم الكفار متصفين بذلك. وهذا لا شك في أثناء القتال، أما قبل بدء المعركة فشأن المسلمين هو الرفق واللين والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن وجدوا تنمرا وتجهما
__________
(1) تفسير القرطبي: 8/ 297، تفسير الرازي: 16/ 288(11/82)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
من الأعداء، عوملوا بما يناسب من العنف والشدة فالفائدة في الشدة في هذه المواطن أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح والشر، وقد يحتاج الأمر إلى الرفق واللطف. فالأمر بالعنف ليس مطردا، وإنما يعمل بما هو الأوفق ولو في أثناء المعركة.
3- إن الله نصير المتقين في السلم والحرب، والواجب أن يكون الهدف من القتال تقوى الله، لا طلب المال والجاه.
موقف المنافقين من سور القرآن
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
الإعراب:
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ جملة حالية.
البلاغة:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي كفرا مضموما إلى الكفر بغيرها. ولما ازداد المنافقون عند(11/83)
نزول السورة عمى، أضيف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
أَوَلا يَرَوْنَ هذه ألف استفهام، دخلت على واو العطف، وهو خطاب على سبيل التنبيه.
المفردات اللغوية:
سُورَةٌ من القرآن فَمِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه استهزاء إِيماناً تصديقا يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بها وبنزولها مَرَضٌ شك وضعف اعتقاد وكفر ونفاق رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا ونفاقا إلى كفرهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا على الكفر.
أَوَلا يَرَوْنَ أي المنافقون يا أيها المؤمنون يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البلاء، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي أنهم يتعرضون للعذاب في الدنيا في كل عام مرة أو مرتين، وقال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم كل سنة مرة أو مرتين ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يتعظون. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية، أو غيظا، لما فيها من عيوبهم هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي أنهم يريدون الهرب، ويقولون: هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإن لم يرهم أحد قاموا، وإن رآهم أحد أقاموا وتثبتوا ثُمَّ انْصَرَفُوا على كفرهم صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الهدى والإيمان، وهو يحتمل الإخبار، والدعاء بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحق، لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة، كتخلفهم عن غزوة تبوك، وتعللهم بالإيمان الفاجرة، ذكر هنا أنواعا أخرى أخطر مما سبق، وهي استهزاؤهم بالقرآن وتهربهم حين سماعه لأنه كلما نزلت سورة مشتملة على تبيان فضائحهم وعيوبهم تأذوا من سماعها، وكذلك كلما سمعوا سورة وإن لم يذكر فيها شيء عنهم، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء.(11/84)
التفسير والبيان:
إذا ما أنزلت سورة من سور القرآن وبلغت المنافقين، فمنهم من يقول لإخوانه أي يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي تصديقا بأن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في نبوته.
ومن المعروف أن الإيمان الصحيح: وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس، يزيد بنزول القرآن، ويتضاعف بسماعه سماع تدبر وإمعان، مما يدفع إلى العمل بما نزل فيه. وفي هذا دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب الأكثرين.
فأجابهم الله تعالى عن حقيقة أثر القرآن: فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن يقينا وتصديقا وقوة دافعة إلى العمل به، وهم أي وحالهم أنهم يفرحون بنزول السورة لأنها تزكي أنفسهم، وترشدهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الزمخشري في فَزادَتْهُمْ إِيماناً: لأنها أزيد لليقين والثبات وأثلج للصدر، أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.
والذين في نفوسهم شك وكفر ونفاق، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، ويستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا وهم كافرون بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وسلّم. وهذا مناقض للهدف من إنزال السورة، فهي في الحقيقة هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، وجلاء لما في القلوب، كما قال تعالى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] وقال عز وجل: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] فهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء المزاج لا يفيده الغذاء إلا تأخرا ونقصا.(11/85)
وبعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين يموتون كفارا، أوضح أنهم يتعرضون أيضا لعذاب الدنيا كل عام مرة أو مرتين، فقال: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يختبرون كل عام مرة أو مرتين بأنواع الاختبار العديدة من جهاد وقحط ومرض وهي التي تذكّر الإنسان بالله، وتجعله ميالا إلى الإيمان وترك الكفر والتمييز بين الحق والباطل.
ثم إنهم مع توالي الاختبارات لا يتوبون من ذنوبهم السابقة، ولا يتعظون فيما يستقبل من أحوالهم، مما يجعلهم غير مستعدين لقبول الإيمان.
وإذا أنزلت سورة قرآنية على النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم جلوس عنده، تلفتوا وتغامزوا بالعيون وتهكموا لفساد قلوبهم، وعزموا على الهروب، قائلين: هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلّم أو المؤمنون إذا خرجتم؟
ثم انصرفوا جميعا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم أي تولوا عن الحق، فهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه، كقوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر 74/ 49- 51] وقوله: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج 70/ 36- 37] أي ما لهؤلاء القوم يخرجون مسرعين، هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل.
صرف الله قلوبهم عن الحق والإيمان وعن الخير والنور. وهذا إما دعاء عليهم به أو إخبار عن أحوالهم.
ذلك الصرف بسبب أنهم قوم لا يفهمون الآيات التي يسمعونها، ولا يريدون فهمها، ولا يتدبرون فيها حتى يفقهوا، بل هم في شغل عن الفهم ونفور منه، كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 61/ 5] .(11/86)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب أكثر السلف والخلف، فالمؤمنون يزدادون إيمانا بما يتجدد نزوله من القرآن، ويفرحون به، لتزكية نفوسهم، وتحقيق سعادتهم.
2- الكفر يتراكم بعضه فوق بعض، وينضم بعضه إلى بعض لأنهم كلما جددوا بتجديد الله الوحي كفرا ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم، وتضاعف عقابهم.
3- المنافقون المستهزئون بالقرآن يموتون على كفرهم إن لم يتوبوا، مما يدل على مداومة الكفر.
4- وسائل تذكير المنافقين بالإيمان والحق كثيرة متكررة، فتتوالى عليهم اختبارات عديدة كالأمراض والأوجاع، والشّدة والقحط، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة أو مرتين، ويرون ما وعد الله من النصر والتأييد.
5- ومن الوسائل الداعية لإيمان المنافقين أيضا ما ينزل به القرآن كاشفا أسرارهم، معلما بمغيبات أمورهم، ومع ذلك ينصرفون عن تلك الحال التي هي مظنّة النظر الصحيح والاهتداء، ولا يسمعون القرآن سماع تدبر وتعقل ونظر في آياته: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال 8/ 22] .
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] .
وقوله: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قول صادر على سبيل الاستهزاء، وقوله نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اكتفاء بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزء، وطلب الفرار.(11/87)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
6- إن الله تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه في مذهب أهل السنة، لصرف نفوسهم عنه لقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهو إما دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا، وإما خبر عن صرفها عن الخير والرشد والهدى، مجازاة على فعلهم.
وهذا رد على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم، وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم، ويحكمون بإرادتهم واختيارهم.
صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم ذات الصلة بأمته
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
الإعراب:
ما عَنِتُّمْ ما: مصدرية، وهي مع عَنِتُّمْ في تأويل المصدر، وتقديره: عزيز عليه عنتكم. وهو إما مرفوع بعزيز لأنه وقع صفة لرسول، وإما مبتدأ، وعَزِيزٌ خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع لأنها صفة رَسُولٌ.
المفردات اللغوية:
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منكم ومن جنسكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم عَزِيزٌ شديد أو شاق ما عَنِتُّمْ أي عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أن تهتدوا والحرص: شدة الرغبة في الحصول على الشيء رَؤُفٌ شفوق، والرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة رَحِيمٌ يريد لكم الخير، والرحمة عامة شاملة حال الضعف وغيره فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك فَقُلْ: حَسْبِيَ كافي تَوَكَّلْتُ وثقت به لا بغيره وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الكرسي الْعَظِيمِ خص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات.(11/88)
المناسبة:
لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يبلغ في هذه السورة تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا من خصة الله بالتوفيق، ختمها بما يوجب سهولة تحملهم تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلّم منكم، فكل ما يحققه من عز وشرف فهو عائد إليكم، وهو بحال يشق عليه ضرركم، وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب الحاذق إذا أقدم على علاجات صعبة، فإنما يريد الخير، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير.
وكذلك لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم أو من نسبهم عربي قرشي يبلغهم عن الله، متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم بالوقوع في العذاب الأخروي، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم «1» .
روى الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ... إلى آخر السورة. وروى الشيخان عن البراء بن عازب قال:
آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت: بَراءَةٌ. وعن ابن عباس: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلّم ثمانون يوما. وهذا قول سعيد بن جبير أيضا.
التفسير والبيان:
امتن الله تعالى على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم، أي من
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 117(11/89)
جنسهم وعلى لغتهم. لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم وبلغتكم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة 62/ 2] وقال أيضا:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران 3/ 164] وصف الله هذا الرسول بخمس صفات:
الأولى- قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من العرب، والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته. قال ابن عباس: إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلّم مضريّها وربيعيها ويمانيها، أي أن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب.
الثانية- عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه في الدنيا والآخرة، إذ هو منكم، يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم.
الثالثة- حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على هدايتكم وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
الرابعة والخامسة- بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه.
فإن تولوا أي أعرض المشركون والمنافقون عنك وعن الإيمان برسالتك والاهتداء بشرعك، فقل: حسبي الله، أي الله كافي في النصر على الأعداء.
لا إله إلا هو، أي لا معبود سواه أدعوه وأخضع له، عليه توكلت أي فوضت أمري إليه وحده، فلا أتوكل إلا عليه.
وهو رب العرش العظيم، والعرش: سقف المخلوقات كلها في السموات والأرض وما بينهما، وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، فيدخل فيه ما دونه(11/90)
إذا ذكر، إذ عليه تدبير أمور الخلق، كما قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس 10/ 3] .
روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: «حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله ما أهمه، صادقا كان بها أو كاذبا» .
وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.
وقد اتفق الصحابة حين جمع القرآن على وضع هاتين الآيتين في آخر سورة بَراءَةٌ روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخرها. أي لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، كما ذكر ابن حجر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال:
لا أسألك عليها. بيّنة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرؤها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمرين:
1- اتصاف النبي صلى الله عليه وسلّم بصفات خمس تستدعي من العرب الاستجابة لدعوته، وتحمّل أعباء رسالته، والقيام بالتكاليف التي أمر بها، لأنه منهم وفيهم، وحريص على اهتدائهم، ورؤف رحيم بهم.(11/91)
2- إن أعرض الناس عن دعوة النبي فهو يستنصر بالله المعين الكافي ويكتفي باللجوء إليه في الدعاء والعبادة والإعانة، والخضوع والتذلل، لأن الله رب العرش العظيم، والناس مقهورون تحت العرش بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.(11/92)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السّلام
مكية وهي مائة وتسع آيات.
تسميتها:
سميت «سورة يونس» لذكر قصة نبي الله يونس فيها، وهي قصة مثيرة، سواء بالنسبة لشخصه الذي تعرض لالتقام الحوت له، أو بالنسبة لما اختص به قومه من بين سائر الأمم، برفع الله العذاب عنهم حين آمنوا وتابوا بصدق.
موضوعها:
تتميز بالكلام عن الأهداف الكبرى لرسالة القرآن وهي إثبات التوحيد لله وهدم الشرك، وإثبات النبوة والبعث والمعاد، والدعوة للإيمان بالرسالات السماوية وخاتمتها القرآن العظيم، وهي موضوعات السور المكية عادة.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة التوبة السابقة بذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبدئت هذه السورة بتبديد الشكوك والأوهام نحو إنزال الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلّم، للتبشير والإنذار، وكانت أغلبية آيات السورة المتقدمة في أحوال المنافقين وموقفهم من القرآن، وهذه في أحوال الكفار والمشركين وقولهم في القرآن. فالاتصال بالسورة المتقدمة واضح، فقد ذكرت أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلّم التي تستدعي الإيمان به، ثم(11/93)
ذكر هنا الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن شأن الضالين التكذيب بالكتب الإلهية.
ويلاحظ أنه لا يشترط وجود تناسب واضح بين السور ولا بين الآيات في ضمن السورة الواحدة، فقد تتعدد الأغراض والانتقال من العقيدة إلى العبادة إلى الأخلاق والأمثال والقصص وأحكام السلوك والمعاملات، وذلك أسلوب خاص بالقرآن لاجتذاب الأنفس حين التلاوة والبعد عن السأم والملل، وقد أصبح هذا الأسلوب هو المرغوب فيه شعبيا كما يظهر في الإقبال على الروايات وأساليب العرض القصصي والتمثيليات، لشد انتباه المشاهدين والقارئين والسامعين، من خلال المفاجآت والاستطرادات وتحليل بعض القضايا الجانبية.
فقد يكون هناك تناسب بين السور، كسور الطواسين وحواميم وسورتي المرسلات والنبأ، وقد يوجد فاصل بينهما كسورتي الهمزة واللهب مع أن موضوعهما واحد.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة يونس تتحدث عن الرسالات الإلهية، والألوهية وصفات الإله، والنبوة وقصص بعض الأنبياء، وموقف المشركين من القرآن، والبعث والمعاد.
1- بدأت السورة بتقرير سنة الله في خلقه بإرسال رسول لكل أمة، وختم الرسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم، مما لا يستدعي عجب المشركين من بعثته: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [2] .
2- ثم تحدثت عن إثبات وجود الإله من طريق آثاره في الكون: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. الآيات. ثم التذكير بمصير الخلائق إليه بالبعث والجزاء: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً.. وانقسام البشر إلى(11/94)
مؤمنين وكفار وجزاء كل منهم. وإنذار الجاحدين بإهلاك الأمم الظالمة:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...
3- ثم أوضحت عقائد المشركين وذكرت خمس شبهات لمنكري النبوة والرسالة وناقشتهم نقاشا منطقيا مقنعا، وأثبتت أن القرآن كلام الله ومعجزة النبي الخالدة على مر الزمان: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وأقامت الدليل على كونه من عند الله بتحدي المشركين وهم أمراء البيان وأساطين الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... وذكرت موقف المشركين من القرآن: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ....
4- ثم ذكرت آثار القدرة الإلهية الباهرة التي تدل على عظمة الله وضرورة الإيمان به، لأنه مصدر الحياة والرزق والنعم: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟!.
5- ثم تناولت بإيجاز للعبرة والعظة وتقرير صدق القرآن قصص بعض الأنبياء، كقصة نوح عليه السّلام في تذكير قومه، وقصة موسى عليه السّلام مع فرعون، واستعانة فرعون بالسحرة لإبطال دعوة موسى، وشأن موسى مع قومه، ودعائه على فرعون، ونجاة بني إسرائيل، وغرق فرعون في البحر، وقصة يونس عليه السّلام مع قومه، فصار المذكور في هذه السورة ثلاث قصص.
6- ختمت السورة بما أشارت إليه في الآية [57] : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو اتباع رسالة القرآن وشريعة الله، لما فيها من خير وصلاح للإنسان: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ،(11/95)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
ذكر البيضاوي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس ومن كذب به، وبعدد من غرق مع فرعون»
، والظاهر أنه غير صحيح.
قضية إنزال الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
الإعراب:
تِلْكَ آياتُ مبتدأ وخبر، أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. والمراد من تِلْكَ: هذه أي هذه آيات الكتاب أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا أن وما بعدها في تأويل المصدر في موضع رفع اسم كانَ، وعَجَباً خبره، واللام في لِلنَّاسِ متعلقة بمحذوف، لأنه صفة لعجب، فلما تقدم صار حالا، لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت على الحال. ولا يجوز أن تتعلق اللام بكان، لأنها لمجرد الزمان، ولا تدل على الحدث الذي هو المصدر، فضعفت.
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كانَ: هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر أن لهم الباء معه محذوف.
البلاغة:
الْحَكِيمِ بمعنى مفعول، أي الحكم الذي لا فساد فيه ولا نقص.
أَنْذِرِ.. وَبَشِّرِ بينهما طباق. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا استفهام معناه التقرير والتوبيخ.(11/96)
قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة. وإضافة قدم إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة، ففي ذلك غاية البلاغة لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى بها. وجاء في القرآن: مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر 54/ 55] ، ومُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء 17/ 80] ، ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 17/ 80] ، وقَدَمَ صِدْقٍ [يونس 10/ 2] .
المفردات اللغوية:
الر تقرأ هكذا: ألف، لام، را. والحروف المقطعة في أوائل السور وتعديدها يقصد به التحدي، والإشارة إلى أن هذا القرآن كلام مكون من الحروف العربية المألوفة غير الغريبة على العرب، فما لهم عجزوا عن محاكاته؟ مما يدل على كونه كلام الله. أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها.
تِلْكَ أي هذه الآيات آياتُ الْكِتابِ القرآن العظيم، والإضافة بمعنى من الْحَكِيمِ المحكم، أي هذه آيات القرآن المحكم المبين.
أَكانَ لِلنَّاسِ أي أهل مكة، استفهام إنكار أَنْ أَوْحَيْنا أي إيحاؤنا، والوحي:
إعلام خفي إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ محمد صلى الله عليه وسلّم أَنْذِرِ خوّف، والإنذار: الإخبار بما فيه تخويف النَّاسَ الكافرين بالعذاب وَبَشِّرِ التبشير: إعلام مقترن بالبشارة بحسن الجزاء أو الثواب قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموه من الأعمال، سميت قدما، لأن السعي إلى هذه الفضائل بالقدم، كما سميت النعمة يدا، وإضافتها للصدق للتحقق. والصدق يكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال وسائر الفضائل. إِنَّ هذا الكتاب وما جاء به محمد لَساحِرٌ مُبِينٌ بيّن واضح ظاهر، والسحر: شيء مؤثر في النفوس بدون أن يكون له حقيقة.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدا رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية. وأنزل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا الآية [يوسف 12/ 109 ومواضع أخرى] ، فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى(11/97)
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
[الزخرف 43/ 31] يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الآية [الزخرف 43/ 32] .
التفسير والبيان:
الر: تقرأ هذه الحروف الثلاثة هكذا: ألف، لام، را، والقصد منها التنبيه إلى ما يتلى بعدها ليعتني المرء بفهم ما يسمع أو يقرأ، وتعديد الحروف على طريق التحدي، كما مر في أول سورة البقرة.
تلك آيات القرآن المحكم، أو ذات الحكمة لا لاشتماله عليها، أو تلك آيات السورة الحكيمة، التي أحكمها الله وبينها لعباده، كما قال تعالى: الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي أحكمت معانيه ومبانيه.
والأولى بالصواب كما ذكر القرطبي أن المراد القرآن، لأن الحكيم من نعت القرآن، كما دل قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ. والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ينكر الله تعالى على من تعجب من الكفار على إرسال المرسلين من البشر، أي عجيب أمر بعض الناس الذي ينكرون إيحاءنا إلى رجل من جنسهم من البشر، كأن الاشتراك في البشرية تحول دون الإرسال، وكأنهم يريدون رسولا من غير جنسهم، كما قال تعالى في آيات أخرى حكاية عنهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن 64/ 6] أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 94] لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت 41/ 14] وقال هود وصالح لقومهما: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ [الأعراف 7/ 63] .
قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم رسولا أنكرت العرب ذلك،(11/98)
أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً.
هذا التعجب في غير محله، إذ أن كل الرسل كانوا بشرا: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام 6/ 9] وردد الله هذا المعنى في آيات كثيرة منها: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء 17/ 95] . فإرسال الرسول من جنس المرسل إليهم أدعى إلى قبول دعوته، والتفاهم معه. وأما اختيار أحد هؤلاء البشر فالله أعلم من هو أولى للرسالة وأحق بالاصطفاء والاختيار: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج 22/ 75] ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 31] .
أما معايير البشر فهي خطأ، مثل كون محمد صلى الله عليه وسلّم يتيم أبي طالب، إذ قال القرشيون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبي طالب، أو أنه فقير، وهم يريدون كونه غنيا مترفا وزعيما مرموقا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] وهم يعنون إما الوليد بن المغيرة من مكة، أو مسعود بن عمرو الثقفي من الطائف.
ومهمة هذا النبي الموحي إليه هي الإنذار من النار: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس وخوفهم من عذاب النار يوم البعث، إذا ظلوا كافرين ضالين عاصين، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ [يس 36/ 6] وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم، أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند الله في جنات النعيم، وأجرا حسنا بما قدموا.
والأعمال الصالحة: هي صلاتهم وصومهم وصدقهم في القول والفعل وتسبيحهم.(11/99)
والإنذار والتبشير هما من أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد صرح القرآن بهما في آيات كثيرة مثل: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [الكهف 18/ 2] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب 33/ 45] .
وفي الكلام حذف يدل الظاهر عليه تقديره: ومع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم، رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ أي قال المنكرون المكذبون رسالته: إن محمدا ساحر ظاهر. وعلى قراءة:
إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ معناه إن هذا القرآن سحر ظاهر بيّن. وعلى أي حال فإنهم وصفوا القرآن وصاحبه المنزل عليه بالسحر وكونه الساحر، وهم الكاذبون في ذلك. ووصفوه بالسحر لما رأوا من تأثيره القوي في القلوب، والسحر عندهم يطلق على كل فعل غريب خارق للعادة، لا يعرف له سبب، مؤثر في النفوس، جذاب يلفت الأنظار.
ثم تبيّن لعقلاء العرب وحكمائهم أن القرآن ليس سحرا، لأنهم جربوا السحر وعرفوه، فلم يجدوه مطابقا له، لأن السحر علم يعتمد إما على الحيل والشعوذة، أو على خواص بعض الأشياء الطبيعية، أو على علم النجوم، أو على دراسات نفسانية، والقرآن ليس من هذه الأشياء إطلاقا بالتجربة والحس والمشاهدة والموازنة، وإنما هو مغاير لها، وفوقها، لأنه وحي من عند الله على قلب نبيه، مشتمل على أحكام سامية عالية في التشريع والقضاء، والسياسة والاجتماع، والعلوم والأخلاق والآداب، معجز في أسلوبه ونظمه ومعانيه، يفوق قدرة البشر على محاكاته أو الإتيان بشيء من مثله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً، مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ(11/100)
اللَّهِ، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر 39/ 23] .
فقه الحياة أو الأحكام:
1- القرآن الكريم كتاب محكم واضح بيّن فيما اشتمل عليه من حلال وحرام وحدود وأحكام.
2- الإيحاء إلى رجل من البشر ليؤدي رسالة الله إلى الناس أمر طبيعي منطقي، ليس محل تعجب واستغراب، وإنما هو موافق للحكمة والعقل والواقع.
3- ليست مقومات اختيار الأنبياء بحسب معايير الناس ومفاهيمهم كالمال والغنى والثروة والجاه والزعامة، وإنما المعيار هو ما في علم الله جل وعز من كون النبي المصطفى هو الأهل الأكفاء الأجدر بتحمل أعباء الرسالة، والأوفق لتحقيق المصلحة وتبليغ الوحي إلى الناس.
4- مهمة الرسول هي الإنذار والتبشير، إنذار من عصاه بالنار، وتبشير من أطاعه بالجنة. وله خصائص أخرى مثل
ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم في الصحاح عن نفسه أنه قال: «لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب: أي آخر الأنبياء، كما قال تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب 33/ 40] .
5- لا يملك الضعيف أو الخاسر المفلس سوى الاتهام الرخيص الكاذب الذي لا فائدة منه، لذا قال الكافرون: إن هذا أي الرسول صلى الله عليه وسلّم لساحر مبين، أو إن هذا القرآن لسحر مبين، بحسب القراءتين، فوصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل كما قال الرازي على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا، وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام الذي ذكروه في معرض الذم، على(11/101)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
ما يظهر، وأرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، أو ذكروه في معرض المدح، وأرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر.
الله خالق السموات والأرض وعلى الخلق عبادته
[سورة يونس (10) : آية 3]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)
المفردات اللغوية:
خَلَقَ الخلق: التقدير والإيجاد فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في قدر أيام الدنيا لأنه لم يكن ثمّ شمس ولا قمر، ولو شاء لخلقهن في لحظة، ولكنه عدل عن ذلك لتعليم خلقه التثبت. واليوم لغة: الوقت الذي يحده حدث يحدث فيه. الْعَرْشِ مركز تدبير المخلوقات، ولا نعلم حقيقته، والاستواء على العرش شيء يليق به تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ بين الخلائق، والتدبير: النظر في عواقب الأمر لإيقاعها على النحو المناسب محمودة العاقبة شَفِيعٍ يشفع لأحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ رد لقولهم إن الأصنام تشفع لهم ذلِكُمُ الخالق المدبر فَاعْبُدُوهُ وحده.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ورد عليهم تعجبهم بأنه من الممكن الإيحاء إلى رجل يبشر على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الفاسدة بالعقاب، ذكر تعالى أمرين:
الأول هنا: إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهي.
والثاني في الآية التالية: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، ليحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر بهما الأنبياء.(11/102)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أزمنة أو أيام، قيل: كأيام الدنيا وهو قول الجمهور وهو الصواب، وقيل: كل يوم كألف سنة مما تعدون، والأصح عند جماعة أنه تعالى خلق الكون سماءه وأرضه في زمن لا يعلم مقداره إلا هو. واليوم في اللغة هو الجزء من الزمن.
ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله، ولا يعلمه إلا هو، والعرش هو كرسيه أو مركز تدبير الخلائق، وهو أعظم المخلوقات وسقفها، ولا يعلم أحد حقيقة العرش إلا هو سبحانه وتعالى.
والله تعالى في استوائه على العرش يدبر أمر الخلائق والملكوت بما يتفق مع حكمته وعلمه، ويقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته.
وإذا كان الله الرب خالق الأكوان وفاطر السموات والأرض على هذا النظام البديع المحكم، فيمكنه ولا يستبعد عنه أن يوحي بشيء من علمه على بشر من خلقه، ليهدي الناس إلى سواء السبيل، فذلك مظهر من مظاهر قدرته وإرادته، فيجب على منكري النبوة الإيمان بهذا الوحي وتصديق صاحبه وتأييده بكل ما جاء به.
ولله تعالى أيضا السلطان المطلق يوم القيامة في حساب الخلائق، فلا يستطيع شفيع أن يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه أي إرادته ومشيئته، كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ 34/ 23] وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] وقوله: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه 20/ 109] .(11/103)
وفي هذا رد واضح على عبدة الأصنام أو الملائكة أو البشر الذين يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، كما قال تعالى عن عبدة الأصنام: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] .
وفيه أيضا إثبات الشفاعة لمن أذن له الله الرحمن.
ذلكم الله، أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية من الخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في الشفاعة، هو ربكم المتولي شؤونكم، لا غيره إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
فاعبدوه، أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، أفلا تذكرون، أي أفلا تتفكرون أدنى تفكر في أمركم أيها المشركون، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه من الآلهة، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] وقوله: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون 23/ 86- 87] .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر 39/ 38] .
فلقد كان العرب يؤمنون بوحدة الربوبية، كما فهم من الآيات المذكورة، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، لذا قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. ثم دعاهم تعالى إلى التفكر بقوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتجهلون فلا تتذكرون أن الله هو خالق السموات والأرض، فتستدلوا بها عليه؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل هذه الآية على ما يأتي:
1- إثبات الألوهية أو وجود الله بإثبات صفة الخلق لله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.(11/104)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
2- كون خلق السموات والأرض في ستة أيام، لتعليم الخلق التثبت في الأمور، مع أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر.
3- اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسما عظيما هو العرش، الله أعلم به، وبكيفية استوائه عليه.
4- إن الله وحده هو الذي يدبر الخلائق بمقتضى حكمته، لا يشركه في تدبيرها أحد، وتدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر.
5- لا شفاعة لأحد- نبي ولا غيره- يوم القيامة إلا بإذن الله تعالى لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل؟! 6- إن الله الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره، فهو وحده الذي يستحق العبادة بإخلاص له.
7- قوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ دال على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، وأن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على عظمته أعلى مراتب التفكير وأكملها.
إثبات البعث والجزاء
[سورة يونس (10) : آية 4]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)(11/105)
الإعراب:
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم جَمِيعاً حال منصوب.
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران منصوبان بفعلهما المقدر، أي وعد الله ذلك وعدا وحققه.
المفردات اللغوية:
إِلَيْهِ تعالى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي بدأه بالإنشاء حَقًّا صدقا لا خلف فيه ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث لِيَجْزِيَ يثيب بِالْقِسْطِ بالعدل حَمِيمٍ ماء شديد الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم.
التفسير والبيان:
أثبت الله تعالى في الآية السابقة وجوده ووحدانيته المقتضية توحيده الخالص في العبادة، وهنا يثبت أمرا آخر مهما في الإسلام وهو البعث والجزاء.
يخبر الله تعالى أن إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، بعد الموت، لا يترك أحدا منكم أبدا، ووعد الله ذلك وعدا حقا ثابتا لا خلف فيه.
ثم ذكر أنه تعالى كما بدأ الخلق وأنشأه حين التكوين، كذلك يعيده في النشأة الأخرى، والإعادة أهون من البدء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] .
أما البدء فمشاهد بلا نزاع، ولكن البشر لم يستطيعوا إلى الآن معرفة النشأة الأولى والقوة الموجدة للحركة في المادة.
وأما الإعادة فيتوقع العلماء خراب العالم، لكن بعضهم ينكر البعث والجزاء، ولكن القرآن أقام الدليل عليه بأن القادر على البدء والتكوين، قادر على إعادة الحياة مرة أخرى بعد الموت والفناء.
والهدف من الإعادة حساب الخلق بالعدل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أي(11/106)
ليجازي المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله وما أنزل إليهم، وعملوا الأعمال الطيبة الصالحة، بالعدل والجزاء الأوفى، فيعطي كل عامل ما يستحقه من الثواب:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] .
والجزاء بالعدل لا يمنع التفضل بمضاعفة أجر المحسنين، كما قال تعالى:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر 35/ 30] وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] فالحسنى جزاء، والزيادة فضل من الله وإحسان.
وأما الذين كفروا بالله ورسله وأنكروا البعث، وتعجبوا من الإيحاء إلى بشر ينذرهم ويبشرهم، فلهم من الجزاء شراب ساخن شديد الحرارة يقطع الأمعاء ويشوي البطون، بئس الشراب شرابهم، ولهم أيضا يوم القيامة عذاب موجع مؤلم أشد الألم بسبب كفرهم، من سموم وحميم وظل من يحموم: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 57- 58] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
1- إثبات المعاد (البعث) والحشر والنشر، بدليل أنه تعالى قادر على كل شيء، فهو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف 7/ 29] فالله قادر على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق، فلأن يكون قادرا على إيجادنا مرة أخرى، مع سبق الإيجاد الأول، كان أولى وأهون.
2- الجزاء ثابت على الأعمال، أما جزاء المؤمنين الصالحين فهو مقصود(11/107)
بالذات، بدليل تعليل الرجوع إليه تعالى بأنه للجزاء: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا لأن العدل يقضي بتقديم المقابل على العمل الصالح، وهو جزاء حسن لا يعادل بالعمل المبذول، بل هو أفضل وأرقى وأكمل منه بكثير، كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] وروى البخاري حديثا قدسيا: «أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وأما جزاء الكافرين على كفرهم فليس من مقاصد خلق الإنسان، وإنما اقتضاه العدل والعقل، للتمييز بين المحسنين والمسيئين، وبين الأبرار والفجار، وبين المؤمنين والكفار، لأننا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات أحيانا، ونرى العلماء والصالحين ضد ذلك، فهل يعقل أن يتساوى العامل مع العاطل، والمحسن مع المسيء؟! قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى، لإقامة العدل بين الخلائق.
ودلت الآية أيضا على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمنا، وبين أن يكون كافرا لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.
والخلاصة: أثبت تعالى البعث والحشر والنشر بناء على أنه لا بد من إثابة أهل الطاعة، وعقوبة أهل الكفر والمعصية، وأن الحكمة تقتضي تمييز المحسن عن المسيء.(11/108)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
إثبات القدرة الإلهية في الكون بالشمس والقمر واختلاف الليل والنهار
[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
الإعراب:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ضياء: مفعول به ثان لجعل. وَقَدَّرَهُ الضمير إما راجع للشمس والقمر، ووحّد لكنه في معنى التثنية، اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة 9/ 62] .
وإما أن يكون الضمير راجعا إلى القمر وحده لأن بسير القمر تعرف الشهور، والشهور المعتبرة في الشريعة هي الشهور القمرية، المبنية على رؤية الأهلة، وكذلك السنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ [التوبة 9/ 36] .
المفردات اللغوية:
ضِياءً ذات ضياء أي نور نُوراً أي ذا نور، وسمي نورا للمبالغة، وهو أعم من الضوء. وقيل: ما بالذات ضوء، وما بالاكتساب من غيره نور، وقد نبه تعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيّرة في ذاتها، والقمر نيرا بالاكتساب من الشمس وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لكل واحد من الشمس والقمر، أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدر القمر ذا منازل، والتقدير: جعل الأشياء على مقادير مخصوصة، والمنازل: مكان النزول لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أى لتعلموا بذلك حساب الأوقات من السنين والأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ المذكور إلا خلقا ملتبسا بالحق، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثا. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون، فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها.(11/109)
فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك وَالْأَرْضِ وفي الأرض من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها لَآياتٍ دلالات على قدرته تعالى ووجوده ووحدته وكمال علمه وقدرته. لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ يتقون عواقب الأمور، فيؤمنون، لأن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على إثبات الألوهية والتوحيد، والبعث، من خلق السموات والأرض، خصص بالذكر للتأكيد أحوال الشمس والقمر الدالة على التوحيد من جهة الخلق والإيجاد، وعلى إثبات المعاد من جهة كونهما أداة لمعرفة السنين والحساب، وذلك رصد للزمن الذي لا بد له من نهاية، وموت أهله، ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السموات والأرض.
فصارت الأدلة على الألوهية والتوحيد أربعة: خلق السموات والأرض، وأحوال الشمس والقمر، والمنافع المترتبة على اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السموات والأرض من حوادث وأحوال، كالأمطار والرعد والبرق، والزلازل والبراكين، والمد والجزر في البحار، وأحوال النبات والحيوان والمعادن.
التفسير والبيان:
الله ربكم هو الذي خلق السموات والأرض، وجعل الشمس في النهار ضياء للكون، ومصدرا للحياة وإشعاع الحرارة الضرورية للحياة، في النبات والحيوان، وجعل القمر نورا في الليل يبدد الظلمات، وقدر مسيره في فلكه منازل أو ذا منازل، ينزل كل ليلة في واحد منها، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب، يرى القمر فيها بالأبصار، كقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس 36/ 39] .(11/110)
وتخصيص القمر بذكر منازله، إذا جعل الضمير عائدا إليه وحده، لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به، ولذلك علله بقوله:
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي يعرف به حساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي، والفصول الأربعة، والحساب مطلوب لضبط أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج وزكاة ومعاملات وعقود.
وإذا كان تقدير المنازل لكل من الشمس والقمر، فيعرف بهما حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام. وقد حث الشرع على الانتفاع بالحساب الشمسي في نحو قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن 55/ 5] وقوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء 17/ 12] وفي كل من الحساب الشمسي والقمري فوائد، فالحساب الشمسي ثابت، والحساب القمري أسهل على البدوي والحضري، فأنيطت به الأحكام الشرعية.
ما خلق الله ذلك المذكور من الشمس والقمر إلا خلقا متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثا، بل له حكمة عظيمة في ذلك، وحجة بالغة، كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص 38/ 27] وقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] .
يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يبين الله الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته، والآيات القرآنية، لقوم يعلمون طرق الدلالة على الخالق ومنافع الحياة، ويميزون بين الحق والباطل.
إن في اختلاف الليل والنهار أي في تعاقبهما، إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا(11/111)
ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئا، وفي طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس، ومالهما من نظام دقيق، وما فيهما من برودة وحرارة، وكون الليل لباسا وسكنا والنهار معاشا.
وإن ما خلق الله في السموات والأرض من أحوال الجماد والنبات والحيوان، وأحوال الرعود والبروق والسحب والأمطار، وأحوال البحار من مد وجزر، وأحوال المعادن من خواص وتركيب ونحو ذلك.
إن في ذلك كله لآيات ودلائل دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته، وعظمته، وكمال علمه، لقوم يتقون مخالفة سنن الله في التكوين، وسننه في التشريع، فسنة الكون الحفاظ على الصحة، من خالفها مرض، وسنة الحياة الاستقامة، من أفسدها وخالفها، أساء لنفسه، وكل من لم يتق عقاب الله وسخطه وعذابه بارتكاب المعاصي ومخالفة السنن، عوقب على ذلك في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- إن أحوال الشمس والقمر وما فيهما من فوائد، والمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وكل ما خلق الله في السموات والأرض آيات دالة على وجود الله وتوحيده، وكمال قدرته وعظيم سلطانه، ولم يخلق الله ذلك إلا لحكمة وصواب، ومصلحة للإنسان.
2- وإن تقدير الشمس والقمر في منازل مفيد في التوقيت لمعرفة عدد السنين والحساب. قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت، والحساب، والتاريخ، ومنازل القمر.(11/112)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
3- أودع سبحانه في أجرام الكواكب والأفلاك خواص معينة وقوى مخصوصة وفوائد وآثارا في هذا العالم، وإلا كان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد.
4- المستفيد من آيات الكون هم العلماء العقلاء، والمتقون الذين يخافون الله ويحذرون عقابه، والحذر يدعوهم إلى التدبر والنظر.
المؤمنون والكافرون وجزاء كلّ
[سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
الإعراب:
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف، أو خبر ثان، أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر أو حال آخر منه أو من الأنهار، أو متعلق بتجري أو بيهدي.
البلاغة:
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فيه التفات، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله.
المفردات اللغوية:
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه لإنكارهم للبعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، واللقاء: الاستقبال والمواجهة. وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا بدل الآخرة بإنكارهم لها وغفلتهم عنها.
وَاطْمَأَنُّوا بِها سكنوا إليها، وقصروا هممهم على لذائذها وزخارفها. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أي تاركون النظر في دلائل وحدانيتنا، لا يتفكرون فيها، لأنهما كهم فيما يضادها.(11/113)
مَأْواهُمُ ملجأهم الذي يأوون إليه وقد أطلق المأوى على الجنة في ثلاث آيات، وعلى النار في بضع عشرة آية. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الشرك والمعاصي. يَهْدِيهِمْ يرشدهم.
بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم، إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو نعيم عن أنس، والظاهر أنه ضعيف: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم»
أو لما يريدونه في الجنة، بأن يجعل لهم نورا يهتدون به يوم القيامة.
دَعْواهُمْ فِيها طلبهم لما يشتهونه في الجنة، والدعوى: الدعاء، والدعاء للناس: النداء والطلب المعتاد بينهم، والدعاء لله: سؤاله الخير والرغبة فيما عنده، مع الشعور بالحاجة إليه.
ودعاؤهم هنا أن يقولوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها لك وتقديسا يا الله، فإذا ما طلبوه وجدوه عندهم. وَتَحِيَّتُهُمْ فيها بينهم، والتحية: التكرمة، بقولهم: حياك الله، أي أطال عمرك.
سَلامٌ السلامة من كل مكروه. أَنِ الْحَمْدُ أن مفسرة.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الدلائل على إثبات الإله ووجوده، وعلى إثبات البعث والجزاء على الأعمال يوم الحساب، ذكر حال من كفر به وأعرض عن أدلة وجوده ووحدانيته، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات، ثم أوضح جزاء كل من الفريقين.
التفسير والبيان:
إن الذين لا يتوقعون لقاء الله في الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال، لإنكارهم البعث، ورضوا بالحياة الدنيا بدل الآخرة لغفلتهم عنها، واطمأنوا بها وسكنوا إليها وإلى شهواتها ولذائذها وزخارفها، وكانوا غافلين عن آيات الله الكونية والشرعية، فلا يتفكرون في الأولى، ولا يأتمرون بالثانية، أولئك المذكورون من الفريقين مثواهم ومقامهم النار وملجؤهم الذي يلجأون إليه، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا مع كفرهم بالله ورسوله واليوم الآخر. وهذا الجزاء توضيح للجزاء السابق المذكور في الآية [4] .
وعطف وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ الذي يقتضي المغايرة إما لتغاير(11/114)
الوصفين، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالفريق الأول: من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وهم الماديون الملحدون، والمراد بالفريق الثاني: من ألهته الدنيا عن التأمل في الآخرة والإعداد لها.
هذا جزاء الفريق الكافر وهم الأشقياء، أما جزاء الفريق المؤمن وهم السعداء فأخبرت الآية التالية عنه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...
أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات، ولم يغفلوا عن آيات الله في الكون والشريعة، يرشدهم ربهم بسبب إيمانهم إلى الصراط المستقيم الذي يؤدي بهم إلى الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، ومن تحت غرفهم في جنات النعيم والخلد، وهذا مثل للتنعم والراحة والسعادة والانسجام في تلك المناظر الخلّابة، التي تأخذ بمجامع القلوب، وتسرّ النفوس.
ومفهوم الترتيب بين الإيمان والعمل الصالح، وإن دلّ على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دلّ منطوق قوله: بِإِيمانِهِمْ على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتابع له والتتمة.
دَعْواهُمْ ... أي يبدءون دعاءهم وثناءهم على الله تعالى بهذه الكلمة:
سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، أو اللهم إنا نسبحك، وتحيتهم فيما بينهم سَلامٌ الدالة على السلامة من كل مكروه مثل قوله:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] ، وهي أيضا تحية المؤمنين في الدنيا، وهي كذلك تحية الله تعالى حين لقائه لأهل الجنة تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ [الأحزاب 33/ 44] وتحية الملائكة لهم عند دخول الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر 39/ 73] .(11/115)
وآخر دعائهم الذي هو التسبيح: الحمد لله رب العالمين، وهو أيضا أول ثناء على الله حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر 39/ 74] وهو كذلك آخر كلام الملائكة: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر 39/ 75] .
قال ابن كثير: وفي هذا دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وعند ابتداء تنزيل كتابه، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام 6/ 1] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف 18/ 1] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- للكافرين الجاحدين عذاب النار بسبب ما اكتسبوا أو اقترفوا من الكفر والتكذيب والمعاصي. وقد وصفهم الله تعالى بصفات أربع هي:
الأولى- إن الذين لا يرجون لقاءنا، أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا.
الثانية- ورضوا بالحياة الدنيا، أي رضوا بها عوضا من الآخرة، فعملوا لها.
الثالثة- واطمأنوا بها، أي فرحوا بها وسكنوا إليها.
الرابعة- والذين هم عن آياتنا غافلون، أي لا يعتبرون ولا يتفكرون بأدلتنا.(11/116)
2- للمؤمنين المحقين العاملين الأعمال الصالحة جنات النعيم، تجري من تحتهم أي من تحت بساتينهم أو أسرّتهم الأنهار، يمجدون فيها الله تعالى بقولهم:
سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ويحمدون ربهم بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والفرحة تغمرهم، والبهجة تملأ قلوبهم، والسعادة ترفرف بأجنحتها عليهم، تحية الله لهم، أو تحية الملك أو تحيتهم لبعضهم: سلام.
3- التسبيح والحمد والتهليل قد يسمّى دعاء،
روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات وربّ الأرض ورب العرش الكريم»
قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء، ويسمّونه دعاء الكرب. وهذا الدعاء الصادر من أهل الجنة ليس بعبادة إذ لا تكليف في الجنة، إنما يلهمون به، فينطقون به تلذذا بلا كلفة.
4- من السنة لمن بدأ بالأكل أو الشرب أن يسمّي الله عند أكله وشربه، ويحمده عند فراغه، اقتداء بأهل الجنة.
ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة، فيحمده عليها» .
5- يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه، كما قال أهل الجنة: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
6- الإيمان والعمل الصالح طريق الإنسان إلى الجنة. والله يهدي أي يسدد ويرشد بسبب الإيمان إلى طريق الاستقامة المؤدي إلى الثواب على الأعمال.
ويجوز أن يريد الله تعالى بقوله: يَهْدِيهِمْ أي في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد 57/ 12] ومنه
الحديث: «إن المؤمن إذا خرج من(11/117)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قبره، صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار» .
وما على المؤمن إلا أن يستزيد من الأعمال الصالحة ليتبوأ مكانه في الجنة، إذ ليست الجنة بمجرد الاتصاف بالإسلام، أو بالتمنيات المعسولة، كما قال تعالى:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء 4/ 123- 124] والنقير: قدر النّقرة في ظهر النواة.
والإيمان: هو المعرفة والهداية المترتبة عليها. والمقصود: معرفة صفات الله تعالى، لا معرفة ذاته فذلك مستحيل.
والأعمال الصالحة: عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة. والأعمال المذمومة ضدّ ذلك.
استعجال الإنسان الخير دائما والشرّ حال الغضب
[سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 12]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)(11/118)
الإعراب:
اسْتِعْجالَهُمْ منصوب على المصدر، تقديره: استعجالا مثل استعجالهم. فحذف المصدر وصفته، وأقام ما أضيفت إليه الصفة مقامه.
لِجَنْبِهِ في موضع نصب على الحال، وعامله دَعانا وقيل: العامل: مسّ، أي مسّ الإنسان مضطجعا أو قاعدا أو قائما، والأول أرجح.
كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا مخففة من الثقلية واسمها محذوف أي كأنه، وحذف ضمير الشأن.
البلاغة:
الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم، ففيه تشبيه مؤكد مجمل. وبين الشرّ والخير طباق. ووضع الاستعجال موضع التعجيل لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير.
المفردات اللغوية:
يُعَجِّلُ يقدمه على وقته، والتعجيل: تقديم الشيء على وقته المقدر له.
اسْتِعْجالَهُمْ طلب التعجيل، قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ بأن يهلكم ولكن يمهلهم، وقضاء الأجل: انتهاؤه. فَنَذَرُ نترك. فِي طُغْيانِهِمْ الطغيان: مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان. يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين. الضُّرُّ الشدة كالمرض والفقر والخطر. لِجَنْبِهِ أي مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً في كل حال. مَرَّ مضى في طريقته على كفره. كَذلِكَ أي كما زين له الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء. لِلْمُسْرِفِينَ المشركين، والإسراف: تجاوز الحد.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة، ثم ذكر أدلة التوحيد والبعث، أبان هنا الجواب عن قول كانوا يقولونه: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ومضمون الجواب: أنه لا مصلحة لهم في استعجالهم الشر وإلا ماتوا وهلكوا.(11/119)
وأما مضمون الجواب عن تعجبهم: فهو أني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد، وقد أقمت الأدلة على صحتها، فلا معنى للتعجب من نبوتي.
التفسير والبيان:
العجلة من طبائع الإنسان، فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه، ويتعجل الشّر حين الغضب والحماقة والضجر، فلو يعجل أو يسرع الله للناس إجابة دعائهم في حال الشر، كاستعجالهم تحقيق الخير، لأميتوا وأهلكوا، وذلك مثل استعجال مشركي مكة إنزال العذاب عليهم، كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ
[الرعد 13/ 6] وقال سبحانه: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .
وسمى الله تعالى العذاب شرّا في هذه الآية لأنه أذى في حق المعاقب، ومكروه عنده، كما أنه سماه سيئة في قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ.. وفي قوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] .
ولكنه تعالى بحلمه ولطفه بعباده لا يستجيب لهم ويذرهم إمهالا لهم واستدراجا، فإنه لو أجابهم لانتهى أمرهم وهلكوا، كما هلك الذين كذبوا الرسل، وربما آمن به بعضهم، أما من عاند فيعاقبه الله بالقتل، كما قال تعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 14] .
وأما عذاب سائر الكفار فنتركه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي فنترك غير المتوقعين لقاءنا فيما هم فيه من طغيان الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين، ولا نعجل لهم في الدنيا عذاب الاستئصال تكريما للنبي صلى الله عليه وسلّم، ونمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.(11/120)
وكذلك اقتضت رحمته تعالى بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر، في حال الضجر والغضب لأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك.
روى أبو داود والحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة، فيستجيب لكم»
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: «إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه» .
ومن عجلة الإنسان أيضا وضجره وقلقه أنه إذا أصابه الضرّ أي الشدة والألم من مرض أو فقر أو خطر: يدعو ربه بإلحاح في كشف ضره وإزالته، حالة كونه مضطجعا لجنبه، أو قاعدا أو قائما وفي جميع أحواله لأن فائدة الترديد في القعود وغيره تعميم الدعاء لجميع الأحوال، فإذا فرّج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء، ومضى في طريقه من الغفلة عن ربه والكفر به، كأنه لم يدع إلى شيء ولم يكشف الله عنه ضره.
فقوله: إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أي إلى كشف ضر.
وذلك كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت 41/ 51] ، ثم قال تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي مثل ذلك العمل القبيح المنكر أو التزيين وهو الذي حدث من اللجوء إلى الله تعالى وقت الشدة وتركه في الرخاء، زيّن للمشركين طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك والإعراض عن القرآن والعبادات، واتباع الشهوات.
والمراد بالإنسان في قوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ هو الكافر لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.(11/121)
وقوله: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً يراد به أحوال الدعاء.
والمراد بالمزين في قوله: زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ هو الشيطان أو النفس، أو الله تعالى. وسمي الكافر مسرفا في نفسه وماله ومضيعا لهما لأنه في النفس جعلها عبدا للوثن، وفي المال فلأنه أضاعه فيما لا يفيد. والأصح كما قال القرطبي أن الآية تعم الكافر وغيره، وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته العافية، استمر على ما كان عليه من المعاصي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الآتي:
1- الله لطيف بعباده حليم رحيم بهم لا يستجيب دعاءهم على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال الضجر والغضب، فلو عجل الله للناس العقوبة، كما يستعجلون الثواب والخير، لماتوا لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وذلك على عكس خلقهم يوم القيامة لأنهم حينئذ يخلقون للبقاء.
فالآية ذامّة خلقا ذميما في بعض الناس، يدعون في الخير، فيريدون تعجيل الإجابة، ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشرّ، فلو عجّل لهم لهلكوا.
ومن حكمة الله تعالى أن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم قومه العرب وآخرون من الأمم، ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة، وهذا معنى قوله: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ...
2- لا يعجل الله للناس الشر، فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. وقد رحم الله تعالى العالم كله بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فرفع عن الأمم عذاب الاستئصال لأنه رحمة للعالمين.
3- الإنسان في جميع حالاته الاضطرارية لا يجد ملجأ أمامه سوى الله تعالى(11/122)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
فيدعوه لكشف ما تعرض له من ضرّ، ولكنه سرعان ما ينسى ربه، ولا يكون وفيا لفضل الله عليه، فإذا نجا وكشف الله عنه الضر، استمر على كفره ولم يشكر ولم يتّعظ.
4- وكما زيّن للإنسان الدعاء عند البلاء، والإعراض عند الرخاء، زيّن للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي، وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله بخذلانه وتخليته، ويجوز أن يكون من الشيطان بوسوسته. وإضلال الشيطان:
دعاؤه إلى الكفر.
سنة الله في إهلاك الأمم الظالمة الكافرة واستخلاف خلائف بعدهم
[سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
الإعراب:
لَمَّا ظَلَمُوا لَمَّا: ظرف لأهلكنا لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عطف على ظَلَمُوا، أو حال من واو ظَلَمُوا بإضمار:
قد.
كَيْفَ تَعْمَلُونَ كيف: معمول تَعْمَلُونَ ومنصوب به.
البلاغة:
كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه.(11/123)
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ في النظر استعارة تمثيلية، حيث شبه حال العباد مع الله، بحال رعية مع حاكمها، في إمهالهم للنظر في أعمالهم، وأستعير المشبّه به للمشبه للتقريب والتمثيل، لكن ليس كمثل الله شيء. وأستعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنطر الناظر وعيان المعاين.
المفردات اللغوية:
الْقُرُونَ الأمم، جمع قرن: وهم القوم المقترنون في زمان واحد. مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم. لَمَّا ظَلَمُوا بالشرك والتكذيب. بِالْبَيِّناتِ الدلالات الواضحات الدالة على صدقهم. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء: وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم. نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الكافرين.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أهل مكة. خَلائِفَ جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيها، أتعملون خيرا أو شرا، فنعاملكم على مقتضى أعمالكم، وهل تعتبرون بالأمم السابقة، فتصدقوا رسلنا.
وننظر: نشاهد ونرى.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنهم كانوا يتعجلون العذاب، وأوضح أنه لا فائدة في إجابة دعائهم، ثم ذكر أنهم كاذبون في هذا الطلب إذ لو نزل بهم ضر، تضرعوا إلى الله تعالى في إزالته وكشفه، بيّن هنا ما يجري مجرى التهديد: وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال، كما أنزله في الأمم السابقة، ليكون ذلك رادعا لهم عن مطلبهم تعجيل العذاب.
التفسير والبيان:
يخاطب الله تعالى أهل مكة ويخبرهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم قبلهم بسبب ظلمهم وتكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، كما قال: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف 18/ 59] وهلاك تلك القرى والأمم بالظلم: إما بعذاب الاستئصال لأقوام(11/124)
الرسل الذين كذبوا بهم مثل قوم نوح وعاد وثمود، وإما بإضعافهم واستيلاء الأمم القوية عليهم بسبب ظلم الأفراد بالفسق والفجور أو ظلم الحكام.
لقد أهلكناهم لما كذبوا بالبينات الدالة على صدق رسلهم، وما كانوا ليؤمنوا، أي وما كانوا يؤمنون حقا، وهو تأكيد لنفي إيمانهم، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل.
كذلك.. أي مثل ذلك الجزاء أي الإهلاك، نجزي كل مجرم. وهذا وعيد شديد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ثم خاطب الله الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ أي جعلناكم خلفاء في الأرض بعد تلك القرون التي أهلكنا، لننظر أتعملون خيرا أم شرا، وننظر طاعتكم لرسولنا واتباعكم له.
وفي هذا بيان بأن أمة الإسلام ستكون لها الخلافة في الأرض إذا لازمت الطاعة واتبعت هدي القرآن: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
[النور 24/ 55] وقد تمت هذه فملكوا ملك كسرى وقيصر وفرعون وكثير من الأمم. وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء» .
والخلافة منوطة بالأعمال الصالحة، لا بمجرد الوراثة للصفة الإسلامية.(11/125)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى المبادئ التالية:
1- إن إهلاك الأمم الظالمة قديما وحديثا إنما يكون بسبب الظلم، والظلم:
إما الكفر والشرك، وإما طغيان الأفراد أو الحكام.
2- هذه الآية تخويف ووعيد لأهل مكة الكفار ولأمثالهم على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالله قادر على إهلاك الأمة التي تكذب محمدا صلى الله عليه وسلّم، ولكن حكمته اقتضت إمهالهم لعلمه بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهكذا حال الأمم الحالية، نرى في كل أمة اتجاها إلى إيمان الآلاف منهم بعقيدة الإسلام ونظامه.
3- هذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان.
4- الاستخلاف في الأرض منوط بالعمل الصالح، فالله يستخلف قوما بعد آخرين لينظر كيف يعملون، خيرا أو شرا، فيعاملهم على حسب عملهم. وبما أن الله يعلم ما سيكون في المستقبل في كل أنحاء الكون ومن المخلوقات، فيكون المقصود إقامة الدليل الحسي والمادي المشاهد على الناس من خلال أعمالهم الواقعية، لذا قال المفسرون كالرازي:
ليس معنى الآية بأن الله تعالى ما كان عالما بأحوال الخلق قبل وجودهم، وإنما المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه، كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك 67/ 2] .(11/126)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
مطالبة المشركين بقرآن آخر أو بتبديل بعض آياته
[سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 17]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
الإعراب:
بَيِّناتٍ حال. مِنْ تِلْقاءِ مصدر استعمل ظرفا.
البلاغة:
أَفَلا تَعْقِلُونَ استفهام إنكار وتوبيخ.
المفردات اللغوية:
آياتُنا القرآن. بَيِّناتٍ ظاهرات. قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا وهم المشركون الذين لا يخافون البعث. ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ليس فيه عيب آلهتنا، ولا ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت. أَوْ بَدِّلْهُ بنفسك بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى. ما يَكُونُ لِي ما ينبغي وما يصح لي. أَنْ ما عَصَيْتُ رَبِّي بتبديله.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. وهذا يعني أنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به على لساني، وَلا: نافية عطف على ما قبله والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى، لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه. لَبِثْتُ مكثت. فِيكُمْ عُمُراً أربعين سنة. مِنْ قَبْلِهِ لا أحدثكم بشيء. أَفَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من قبلي، أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه، لتعلموا أنه ليس إلا من الله.(11/127)
فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن فكفر بها. إِنَّهُ أي الشأن. لا يُفْلِحُ لا يسعد. الْمُجْرِمُونَ المشركون.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى شبهتين للمشركين (وهما التعجب من إنزال الوحي على بشر وتخصيص محمد بالنبوة، والمطالبة بتعجيل العذاب إن كان ما يقول محمد حقا، ثم أثبت لهم الألوهية والتوحيد والقدرة على الوحي والبعث بخلق العالم وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه، ذكر هنا النوع الثالث من شبهاتهم في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو التشكك في القرآن، لذا طالبوه بأحد أمرين:
أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن، أو أن يبدل هذا القرآن. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] فذكر تعالى أنهم كلما تليت عليهم آيات: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ.
التفسير والبيان:
إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلّم على المشركين كتاب الله وحججه الواضحة، قالوا له:
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر، ليس فيه ما يعيب آلهتنا ولا ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال، أو بدّله إلى وضع آخر، بأن تجعل مكان آية الوعيد آية أخرى.
ومقصدهم من هذه المساومة إذا نفّذ اقتراحهم إبطال دعواه أن القرآن كلام(11/128)
الله. وقوله: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب، أي أنهم مكذبون بالحشر والنشر.
فأمره الله أن يقول ردا عليهم: ما يصح لي وليس من شأني أن أبدل هذا القرآن من قبل نفسي، فإني ما أتبع فيه إلا ما يوحى إلي، وهو ما أبلّغكم به، وما علي إلا البلاغ، فهو كلام الله تعالى، والمتبع لغيره في أمر ليس له التصرف فيه.
وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل، لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر.
فقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ تعليل لما يكون، ثم أكد ما سبق بقوله: إِنِّي أَخافُ.. أي إني أخشى إن ارتكبت أي مخالفة أو عصيان لما أمر ربي عذاب يوم عظيم هو عذاب النار يوم القيامة.
وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
ثم احتج لهم في مجال صحة ما جاءهم به، وهو جواب عن طلبهم الأول تغيير القرآن، بقوله: قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ.. أي قل لهم أيها الرسول: لو شاء الله ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه بأمره، وجئتكم به بإذنه، وأفعل ذلك بمشيئته وإرادته. ولو شاء الله ألا يعلمكم به بإرسالي إليكم، لما أرسلني، ولما أعلمكم الله به، ولا أخبركم به، ولكنه شاء أن يرفدكم بهذا الكتاب المشتمل على الهدى والسعادة: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 52] .
والدليل على ما أقول أني لبثت فيكم مقدار عمر أربعين سنة من قبل نزول القرآن، لا أتلو شيئا منه ولا أعلمه أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر في أن من عاش أميا أربعين سنة، لم يقرأ كتابا، ولا تعلم من(11/129)
أحد، ولا خطّ بيمينه شيئا من الكلام، لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولكل العلماء، فأنتم وغيركم من الإنس والجن لم تستطيعوا معارضته.
وهذه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة لأنه كلام الله، وليس كلام بشر، بدليل أنكم فرسان البلاغة والفصاحة وأساطين البيان، ولم تأتوا بسورة من مثله لأن فصاحته بذّت فصاحة كل منطيق، وعلا عن كل منثور ومنظوم، واحتوى على قواعد الأصول والفروع، وأعرب عن قصص الأولين، وأخبر عن مغيبات المستقبل، وجاء مطابقا للعلوم الصحيحة والنظريات العلمية الثابتة:
قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] .
فلا أحد أظلم من رجلين: أحدهما- من افترى على الله الكذب بنسبة الشريك أو الولد إليه، أو بتبديل كلامه على النحو الذي اقترحتموه، أو بالتقول على الله والزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك. والثاني- من كذّب بآيات الله البينة، فكفر بها، ثم علل تعالى ذلك بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ ... أي إنه لا يفوز المجرمون، أي الكافرون في الآخرة، فالمقصود من قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ ... نفي الكذب عن نفسه. والمقصود بقوله: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث كذبوا بآيات الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- التسجيل الواضح الفاضح لكلام المشركين المطالبين إما الإتيان بغير القرآن وإما تبديله، والفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه غيره، وأما التبديل فلا يجوز أن يكون معه غيره. وسبب هذا الطلب إما السخرية والاستهزاء، وإما التجربة والامتحان.(11/130)
ومضمون الأمرين: إما إسقاط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وإما تحويل الوعد وعيدا، والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا، وإما إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور. ويصح إرادة كل هذه الأشياء.
2- رفض مطالب المشركين، وإعلان كون القرآن كلام الله، وأن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلّم مقصورة على تبليغ ما يوحى إليه، واتباع ما يتلوه عليهم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي.
3- الموقف الثابت من عدم التبديل والتغيير لشريعة القرآن، والإصرار على العمل بالقرآن إنما هو بسبب التعرض لعذاب عظيم يوم القيامة.
4- المقصود من إنزال القرآن تبليغه إلى جميع الناس، ولا سيما المشركون، ولولا أن تكون مشيئة الله ذلك لما أنزله، ولما أمر بتلاوته عليهم، ولما أخبرهم بمضمونه.
5- القرآن كلام الله بدليل إعجازه من حيث النظم والأسلوب والمبنى، ومن حيث المعاني التي اشتمل عليها، وبدليل كون المبلّغ له أمّيا لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلم من أحد، وبدليل التحدي لمعارضته والإتيان بمثله أو بأقصر سورة من مثله.
6- لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ممن افترى على الله الكذب، وبدّل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله، وكذلك لا أحد أظلم منكم أيها المشركون والكفار إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم: ليس هذا كلامه.
7- لا فوز ولا فلاح للمجرمين الكافرين، والاجرام مصيره الخيبة حتما.(11/131)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
عبادة الأصنام وادعاء شفاعتها
[سورة يونس (10) : آية 18]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
الإعراب:
هؤُلاءِ إشارة إلى ما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ حملا على معنى ما لأنها هاهنا في معنى الجمع، وإن كان لفظها مفردا، كما أن مِنْ تقع على الجمع، وإن كان لفظها مفردا.
فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف في يَعْلَمُ مؤكدة للنفي، منبهة على أن ما تعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي. عَمَّا يُشْرِكُونَ ما: موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء أو عن إشراكهم.
البلاغة:
أَتُنَبِّئُونَ استفهام تقريع وتهكم بهم.
المفردات اللغوية:
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وهو الأصنام لأنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر، والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. وَيَقُولُونَ عنها هؤُلاءِ الأوثان شُفَعاؤُنا تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا وفي الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم شاكين فيه. أَتُنَبِّئُونَ أتخبرون بِما لا يَعْلَمُ وهو أن له شريكا، إذ لو كان له شريك لعلمه، إذ لا يخفى عليه شيء سُبْحانَهُ تنزيها له عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم.(11/132)
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن المشركين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلّم قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي اتخذوها آلهة لأنفسهم، ندد بعبادتهم تلك الأصنام وجعلها شفعاء، مع أنها جماد لا تضر ولا تنفع، ولا برهان لهم على ما يدّعون، فكيف يليق بالعقلاء عبادتها من دون الله؟!
التفسير والبيان:
ينكر الله تعالى على المشركين أمرين: عبادة الأصنام وجعلها شفعاء لهم عند الله، ظانين أنها تنفعهم شفاعتها عند الله، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا.
إن أكثر العرب كانوا يعترفون بالخالق: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 9] وينكرون البعث، ويعبدون الأصنام، وهي لا تنفع ولا تضر لأنها حجارة أو أجسام مصنوعة، فهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، كما قال تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ، إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف 12/ 106] .
فهم يزعمون وجود قدرة للأصنام على النفع والضرر، وأنها وسطاء تملك الشفاعة لهم عند الله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] فهذان هما السببان في عبادتهم الأصنام. روي أن النضر بن الحارث قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللّات والعزى.
فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ.. أي قل أيها الرسول لهم:
لا دليل لكم على ما تدعون، أتخبرون الله بما لا وجود له في السموات ولا في الأرض، وما لا يعلمه من هؤلاء الشفعاء؟ نظيره قوله: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ(11/133)
فِي الْأَرْضِ
[الرعد 13/ 33] ونفي العلم دليل على عدم وجود تلك الشفعاء والشركاء لله، فلا شيء من الموجودات السماوية والأرضية إلا وهو حادث مقهور مثلهم، لا يليق أن يشرك به.
ثم نزّه الله تعالى نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله وتعاظم وتعالى علوا كبيرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء، فهو منزه عن إشراكهم وعن الشركاء الذين يشركونهم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- عبد المشركون الأصنام مع اعترافهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى لأمرين: اعتقادهم فيها القدرة على الضرر والنفع، وأنها تملك الشفاعة لهم عند الله في أمور الدنيا والآخرة. وهذا غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وتركوا عبادة الموجد الضار النافع.
2- عبادة المشركين الأوثان واتخاذها شركاء لله افتراء على الله بوجودها، فلا وجود أصلا لتلك الشركاء في السموات والأرض لأن الله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض لأنه لا شريك له، فلذلك لا يعلمه، فلو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى، وحيث لم يكن معلوما لله تعالى وجب ألا يكون موجودا.
3- دل قوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ على أنه أعظم من أن يكون له شريك.
قال الزمخشري عن عَمَّا ما: موصولة أو مصدرية. أي عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم.
4- أثبتت الآية بطلان الشرك في الألوهية: وهو عبادة غير الله مطلقا،(11/134)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وبطلان الشرك في الربوبية، بادعاء وساطة المعبود في الخلق والتدبير، أو الشفاعة عند الله.
الأصل في الناس جميعا كونهم على الدين الحق
[سورة يونس (10) : آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
المفردات اللغوية:
أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد وهو دين الإسلام من لدن آدم إلى نوح، أو من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحيّ الذي سنّ للعرب عبادة الأصنام فَاخْتَلَفُوا بأن ثبت بعض وكفر بعض وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحكم بينهم أو تأخير الجزاء والعذاب الفاصل إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الناس عاجلا في الدنيا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بإهلاك المبطلين وهم الكافرون، وإبقاء المحقين وهم المؤمنون.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الأدلة على بطلان عبادة الأصنام، بيّن سبب حدوث هذا المذهب الفاسد، وأن هذا الشرك حادث في الناس بسبب الاختلاف أي اتباع الهوى والباطل، بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد هو الدين الحق وهو دين الإسلام.
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال 8/ 42] .(11/135)
التفسير والبيان:
ما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة على الفطرة النقية المؤمنة بالله تعالى وحده لا شريك له، أي فطرة الإسلام والتوحيد. ثم اختلفوا بعدئذ في الأديان باتباع الأهواء والأباطيل، أو عند بعثة الرسل فتبعتهم طائفة وأصرّت أخرى على الضلال. ونظير هذه الآية قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة 2/ 213] ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» «1» .
فكل الناس كانوا جميعا على الدين الحق وهو دين الإسلام، ثم اختلفوا فبعث الله الأنبياء والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب الله، فمنهم من آمن واهتدى، ومنهم من ضل واعتدى، ثم اختلفوا في كتاب الله اتباعا لأهوائهم.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، أي ولولا ما تقدم من الله تعالى من كلمة حق في جعل الجزاء الفاصل بين الناس يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء، لعجّل لهم العذاب في الدنيا بإهلاك المبطلين، وتعذيب العصاة بسبب اختلافهم، ولقضي بينهم فيما اختلفوا فيه: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس 10/ 93] .
وفي هذا وعيد على الاختلاف في أصول الاعتقاد وفي الكتاب الذي أنزل لإعادة الناس إلى الوحدة الأولى وإزالة الشقاق بينهم. كما أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم في تأخير العذاب عمن كفر به، وبيانا لطبع الإنسان.
__________
(1) رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع، وهو حديث صحيح. [.....](11/136)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية أحكاما ثلاثة:
1- الأصل في الإنسان كونه على دين الفطرة والتوحيد، وهذا دليل على عدل الخالق ورحمته، فإنه تعالى خلق كل إنسان موحدا، وحكم ببقائه على التوحيد إلى البلوغ، ثم تركه للعقل والتفكر في الوحي الإلهي.
2- الاختلاف على الأنبياء والكتب الإلهية بسبب اتباع الهوى والباطل هو سبب تفرق الناس وانقسامهم إلى مؤمنين وكفار.
3- سبق القضاء والقدر وتم حكم الله بأنه لا يقضي بين العباد فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة، ولولا ذلك الحكم السابق والتأجيل المتقدم، لقضى الله بين الناس في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار بكفرهم، وهو موعدهم يوم القيامة الذي جعله الله لحكمة بالغة هي إعطاء الفرصة الكافية للإنسان في تصحيح عقيدته، وتعديل وضعه، والتوبة من عصيانه وكفره وضلاله، حتى لا يؤخذ على حين غرّة.
طلب المشركين إنزال آية كونية
[سورة يونس (10) : آية 20]
وَيَقُولُونَأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
المفردات اللغوية:
وَيَقُولُونَ أي أهل مكةهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد صلى الله عليه وسلّم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي آية حسية كونية مادية من الآيات التي اقترحوها، كما كان للأنبياء من ناقة صالح، والعصا واليد لموسى، والمائدة لعيسى عليهم السلام فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فقل لهم: إنما الغيب (وهو ما غاب(11/137)
عن العباد) لأمر الله، فهو المختص بعلمه، ولا يأتي بها إلا هو، وإنما على التبليغ، ولعله لا ينزلها، لعدم الفائدة في إنزالها، فقد نزلت آيات كثيرة ولم يؤمن بها المعاندون الجاحدون، والمانع من إنزالها أمر مغيب لا يعلمه إلا هو فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه، أو العذاب إن لم تؤمنوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل عليه من الآيات العظام واقتراحكم غيره.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ثلاث شبهات للمشركين للطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم (وهي عجبهم من نزول الوحي على محمد، وتعجلهم العذاب إن كان صادقا، وتشككهم في القرآن) ذكر هنا شبهة رابعة لإنكار نبوته، وهي أن الكتاب لا يكون معجزا، بدليل أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما، بل كان لهما معجزات أخرى دلت على نبوتهما، وكان في مشركي العرب من يدعي إمكان معارضة القرآن، لقوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] وإنما لا بد لإثبات نبوته من نزول آية كونية حسية مادية غير هذا القرآن، ليكون معجزة له.
هذا مع العلم بأن القرآن الكريم اشتمل على آيات علمية وعقلية دالة على النبوة والرسالة.
التفسير والبيان:
ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون قولا متكررا: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم آية كونية حسية مشاهدة كالتي نزلت على نوح وشعيب وهود وصالح وموسى وعيسى، أو أن يحول الصفا لهم ذهبا، أو يزيح، عنهم جبال مكة، ويجعل مكانها بساتين وأنهارا، أو نحو ذلك مما الله عليه قادر.
وقد حكى القرآن عنهم في مواضع كثيرة هذا الطلب بإنزال معجزات مادية، وأجاب عنه إما مجملا كما هنا، وإما مفصلا، كما في سورة الفرقان: وَقالُوا(11/138)
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها
[7- 8] ثم في آيات بعدها: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [10] .
وفي سورة الإسراء طالبوا بواحدة من بضع آيات: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [90- 93] .
وكان الرد الحاسم على مثل هذه الاقتراحات قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء 17/ 59] أي كذب بها قوم عاد وثمود وغيرهم. وقضينا ألا نعاملهم بمثل معاملة الأقوام الغابرة، فنستأصلهم لأن محمدا خاتم النبيين، ورحمة عامة شاملة للعالمين، وقد يلد منهم من يؤمن ويوحد الله تعالى.
ومع كل هذا آتى الله نبيه آيات علمية وكونية، ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته، ولا طالبهم بالإيمان بموجبها، بل كانت لضرورة كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلّم، كشفاء المرضى، وإشباع العدد الكثير في غزوتي بدر وتبوك من الطعام القليل، وانشقاق القمر نصفين، وحنين الجذع، وتكليم الضب، ونحو ذلك مما هو معروف مستقصى في كتب السنة والسيرة مثل أعلام النبوة للماوردي.
وبالرغم من تلك الآيات، ظل القرآن الكريم هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلّم الخالدة، ولعل عصرنا بما اكتشف فيه من اختراعات عجيبة، وظهرت فيه(11/139)
نظريات كونية وعلمية تتفق مع الأخبار الواردة في القرآن، يؤيد الاكتفاء بهذه المعجزة.
روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
وكان الجواب الإجمالي في هذه الآية: فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي إن تلبية مقترحاتكم ونزول الآية من الأمور الغيبية، والله وحده هو المختص بعلم الغيب، فلا يعلم به إلا هو، والأمر كله لله، وهو يعلم عواقب الأمور، وليس لي ولا لأحد علم بالغيب المستأثر به سبحانه وتعالى، فإن قدّر إنزال آية علي، فهو يعلم وقتها.
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي إن كنتم لا تؤمنون بي حتى تشاهدوا ما سألتم من نزول الآيات المقترحة، فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم، وهو ما سيحلّ بكم من العذاب لعنادكم وجحودكم بالآيات.
وقد فسّر الله تعالى ما ينتظر في القسم الأخير من هذه السورة: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [102] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية أمرين:
1- علم الغيب ومنه الوحي وإنزال المعجزات والآيات الكونية مختص بالله تعالى، وما النبي إلا رسول موحى إليه، يبلّغ ما أنزل إليه من ربه.
2- تهديد كفار مكة وأمثالهم بحلول العذاب إن لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنذارهم بفصل القضاء بينه وبينهم بنصره عليهم، وإظهار المحق على المبطل.(11/140)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
عادة الكفار المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف
[سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
الإعراب:
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ بَغْيُكُمْ: مبتدأ، وعَلى أَنْفُسِكُمْ: خبره.
مَتاعَ الْحَياةِ منصوب إما بفعل مقدر، تقديره: تبتغون متاع الحياة الدنيا، أو على المصدر المؤكد بفعل مقدر تقديره: تمتعوا متاع الحياة الدنيا. ويقرأ بالرفع خبرا بعد خبر لبغيكم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو متاع الحياة الدنيا. ويقرأ بالجر على غير المشهور على البدل من الكاف والميم في أَنْفُسِكُمْ وتقديره: إنما بغيكم على متاع الحياة الدنيا.
جاءَتْها جواب إِذا.
دَعَوُا اللَّهَ ... بدل من: ظَنُّوا بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا.. على إرادة القول، أو مفعول: دعوا لأنه من جملة القول. ولام لَئِنْ: لام القسم.
البلاغة:
أَسْرَعُ مَكْراً المكر: إخفاء الكيد، وهو من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر، وتسمية عقوبة الله مكرا من باب «المشاكلة» .(11/141)
وَجَرَيْنَ بِهِمْ فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة، لزيادة التقبيح والتشنيع على الكفار، لعدم شكرهم النعمة، وللتعجب من حالهم والإنكار عليهم.
المفردات اللغوية:
أَذَقْنَا أصل الذوق: إدراك الطعم بالفم، ويستعمل مجازا في إدراك غيره من الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة، والعذاب والنقمة. النَّاسَ أي كفار مكة رَحْمَةً مطرا وخصبا وصحة وسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ بؤس، وجدب أو قحط، ومرض مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها والاحتيال في دفعها بالاستهزاء والتكذيب قُلِ لهم اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً المكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالغير إلى مالا يتوقعه، والمراد هنا: مجازاة أو جزاء على المكر، أو المراد الاستدراج إِنَّ رُسُلَنا الحفظة الكرام الكاتبين من الملائكة.
يُسَيِّرُكُمْ يسخّر لكم، أو يعطيكم أداة السير من سفينة أو دابة أو سيارة أو طائرة ونحوها، أو يحملكم على السير ويمكنكم منه، والتسيير بإيجاز: التمكين من الانتقال بالنفس أو بالواسطة الْفُلْكِ السفن أو السفينة، جمعا أو واحدا بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة، والطيب من كل شيء: ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال: رزق طيب، ونفس طيبة، وشجرة طيبة جاءَتْها الضمير للفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها رِيحٌ عاصِفٌ شديدة الهبوب، تكسر كل شيء، وذات عصف أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء مِنْ هذِهِ الأهوال الشَّاكِرِينَ الموحدين.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه، والبغي: الزيادة على القصد والاعتدال حتى الوقوع في الفساد والظلم، كالشرك، وبغير الحق أي مبطلين فيه. وأما الفساد بحق كتخريب الديار وإحراق الزروع وقطع الأشجار في حالة الحرب فهو إفساد بحق إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ظلمكم أي وباله وإثمه عليكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتعون فيها قليلا مَرْجِعُكُمْ أي بعد الموت فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فنجازيكم
المناسبة:
بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين الطالبين إنزال آية كونية غير القرآن، بأن هذا من الغيب المستأثر به الله تعالى، ذكر جوابا آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم لأن عادتهم المكر والجحود والعناد(11/142)
وعدم الإنصاف، فكثيرا ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله ثم يمكرون فيها، فهم إن أصابتهم الشدة تضرعوا، وإن جاءتهم الرحمة بطروا وكفروا.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية، فإذا تحققت لم يعتبروا ولم يتعظوا، مما يدل على سوء طبع الإنسان وتأصل خلق السوء فيه، وتنكره للأدلة العقلية والحسية، والقواعد الخلقية أيضا التي تقتضي الوفاء بالمعروف وشكر النعمة الإلهية. وهذا المذكور في الآيات مثال لسوء الطبع والانقلاب على الفطرة.
إذا أذاق الله الناس رحمة، ورزقهم فضلا، من بعد ضرّاء مستهم «1» ، كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط ونحو ذلك، إذا هم يسرعون بالمفاجأة الغريبة وهي المكر في مقام الحمد والشكر، والمراد بالمكر:
الاستهزاء والتكذيب لها، أو الطعن فيها والاحتيال في دفعها، والتنكر لها.
وهكذا إذا رزق الله المطر، قال الإنسان: مطرنا لأنا في فصل الأمطار، أو لأن الكوكب الفلاني طلع، وإذا نجا من مكروه أو شدة، قال: نجوت صدفة، وإذا نجح في مشروع ما، نسب النجاح إلى تفوقه ومهارته وذكائه، ولم يذكر توفيق الله له، كما قال قارون: إنما أوتيته أي المال على علم عندي، وإذا رفع الكرب بدعاء نبي، لم يقروا له بالفضل، كما حدث لمشركي مكة، روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم نسبوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء «2» ، وكل ذلك لمقابلة النعمة بالكفران.
__________
(1) ذكر هذا القيد لأن الشعور بالنعمة بعد زوال البؤس والشدة أكمل وأتم وأفرح.
(2) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما. وكانت العرب-(11/143)
والقصة هي كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
«أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صل الله عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسنيّ سيدنا يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدخان 44/ 10- 11] فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قوما ربما هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم، فكشف الله عنهم العذاب، ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول يطعنون في آيات الله، ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلّم، ويكذّبونه» .
فرد الله عليهم بقوله: قُلِ: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي قل لهم يا محمد: إن الله أسرع جزاء لكم على أفعالكم قبل أن تدبروا مكائدهم لإطفاء نور الإسلام، أو أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة، ثم يؤخذ على غرة منه.
إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي إن الحفظة أو الكتبة من الملائكة الكرام يكتبون جميع ما تفعلونه وتدبرونه أو تخططون له، ويحصونه عليكم، ثم يعرضونه على الله عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلا منكم على الجليل والحقير.
وفي هذا دلالة على تمام الحفظ والعناية وعدم خفاء تدبيرهم على الله تعالى، وعلى أن عقابه واقع بهم لا محالة.
ثم ضرب الله مثلا للمشركين المعاندين على مقابلتهم النعمة بالجحود، فقال:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ.. أي إن الله تعالى هو الذي يمكنكم من السير والانتقال
__________
- تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها لأنه في سلطانه، والجمع أنواء.(11/144)
بالنفس أو بالوسائط المعروفة في البر بالدواب والسيارات والقطارات وفي البحر بالسفن والمراكب، وفي الجو فوق البر والبحر بالطائرات فوق الهواء.
حتى إذا كنتم راكبين في الفلك (السفينة أو السفن) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية للاتجاه في جهة السير، وفرحتم بما تحقق لكم من راحة وقطع مسافة، ثم جاءت تلك السفن ريح عاصفة شديدة قوية، فاضطرب البحر، وتلاطمت بالأمواج العالية من مختلف الجهات، وظننتم أي اعتقدتم أنكم هالكون لا محالة بسبب إحاطة الموج، فلم تجدوا ملجأ إلا الله، فدعوتموه مخلصين له الدعاء والعبادة والتضرع، ولم تتجهوا إلى آلهتكم من الأوثان، وقلتم: لئن أنجانا الله من هذه المخاطر الجسيمة، لنكونن من جماعة الشاكرين النعمة، الموحدين الله، ثم بعد النجاة عدتم إلى الكفر، كما قال تعالى في الآية السابقة: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ، دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس 10/ 12] .
وقال هنا: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ ... أي فلما نجاهم من تلك الورطة، عادوا فجأة إلى سيرتهم الأولى من البغي وإلحاق الظلم بالنفس وبالآخرين، وكأن شيئا لم يكن، كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] .
ثم خاطب الله الناس البغاة الذين لم يعتبروا ونكثوا العهد مع الله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنما وبال هذا البغي وجزاؤه وإثمه على أنفسكم في الدنيا والآخرة ولا تضرون به أحدا غيركم، أما في الدنيا فأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا قرار له، وأقله توبيخ الضمير والوجدان، أو المعاملة بالمثل، كما
جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة(11/145)
الرحم»
وفي حديث آخر رواه الترمذي عن عائشة: «أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقابا البغي وقطيعة الرحم» «ثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» .
وأما في الآخرة فالجزاء المحقق على البغي في النار، وهذا ما أفاده قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ ... أي إن مصيركم ومآلكم إلينا يوم القيامة، يوم الفصل والجزاء، فنخبركم بجميع أعمالكم، ونوفيكم إياها، ونجازيكم عليها الجزاء الأوفى المناسب، بسبب ما كنتم تعملون، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. وفي هذا تهديد كاف ووعيد شاف.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
1- إن مقابلة النعمة الإلهية بالجحود والإنكار، والتكذيب بآيات الله، مرصود رصدا تاما عند الله، والملائكة الحفظة تدون كل شيء، ثم يحاسب الله تعالى كل إنسان على ما قدم وأخر.
2- إن الفضل في إنقاذ الإنسان ونجاته من ألوان المخاطر والشدائد والأهوال هو لله تعالى وحده.
3- دلت هذه الآية على ركوب البحر مطلقا، وأكدت السنة ذلك، مثل حديث أنس في قصة أم حرام، الذي يدل على جواز ركوبه في الجهاد. ودلت هذه الآية أيضا على أن سير العباد في البحر من الله تعالى وتوفيقه.
4- الكفار شأنهم نكث العهد وعدم الوفاء بالوعد، فبالرغم مما قد يتعرضون له من مخاطر الغرق، تراهم ينسون ذلك، ويعودون إلى الفساد في الأرض بالمعاصي، والبغي: الفساد والشرك، وهو أشنع أنواع الظلم.(11/146)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
5- البغي من منكرات المعاصي، قال ابن عباس: لو بغى جبل على جبل، لاندك الباغي. والبغي يغلب استعماله في غير الحق، ولا يكون بحق غالبا، ولكن قد يكون بحق كحال تنفيذ القصاص، وحالة الضرورات الحربية وما يتطلبه الجهاد لتحقيق الغلبة والنصر.
6- عاقبة البغي يتحمل وزرها الباغي نفسه، سواء في الدنيا بالعقاب العاجل أو الآجل، أو في الآخرة.
مثل الحياة الدنيا في سرعة زوالها وفنائها
[سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
الإعراب:
وَازَّيَّنَتْ فعل ماض، أصله: تزينت، فأدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا، وقلبت التاء زايا ولم تقلب الزاي تاء لأن فيها زيادة صوت وهي من حروف الصفير. فَجَعَلْناها حَصِيداً مفعول به أول وثان.
كَأَنْ مخففة من الثقيلة، أي كأنها.
البلاغة:
أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها استعارة، شبه الأرض حينما تتزين بالنبات والأعشاب والأزهار، بالعروس المزينة بالحلي والثياب، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو الزخرف على سبيل الاستعارة المكنية.
أَتاها أَمْرُنا كناية عن العذاب والدمار.(11/147)
المفردات اللغوية:
مَثَلُ صفة عجيبة تشبه المثل في الغرابة، ومَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا: أي حالها العجيبة في سرعة انقضائها وذهاب نعيمها، بعد إقبالها واغترار الناس بها كَماءٍ مطر فَاخْتَلَطَ بِهِ أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الزروع والقبول وغيرها وَالْأَنْعامُ من الحشيش زُخْرُفَها بهجتها من النبات، والزخرف: كمال حسن الشيء وَازَّيَّنَتْ بالزهر وغيره من النباتات، أي صارت ذات زينة أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها وتحصيل ثمارها وجني غلتها أَتاها أَمْرُنا قضاؤنا أو عذابنا، فاجتاح زرعها فَجَعَلْناها جعلنا زرعها حَصِيداً كالمحصود أو المقطوع بالمناجل لا شيء فيها كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كأن لم يغن زرعها، أي لم يلبث فلم تكن عامرة، يقال: غني بالمكان: أقام به وعمره.
بِالْأَمْسِ فيما قبله، وهو مثل في الوقت القريب، والمراد هنا زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعد ما كان غضا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم المنتفعون به.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في الآية السابقة: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولما كان سبب بغي الناس هو حرصهم على الدنيا وإفراطهم في التمتع بنعيمها، أتبعه بهذا المثل العجيب لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويعرض عن الآخرة، فكأن الدنيا أرض سقيت ماء، فأنبتت وأزهرت وأثمرت، وحان وقت الحصاد، ثم لم تلبث أن أصابتها فجأة جائحة، فاستأصلتها.
وقد تكرر هذا التشبيه والمثل في القرآن كثيرا، كقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد 57/ 20] .(11/148)
التفسير والبيان:
هذا مثل ضربه الله تعالى للحياة الدنيا في سرعة انقضائها وزوال بهجتها ونعيمها، وهو أن صفة الحياة الدنيا العجيبة كالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء المطر المنزل من السماء، فإذا هطل على الأرض أنبت نباتات شتى تشابكت واختلط بعضها ببعض، منها ما يأكله الناس من زروع وحبوب وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، ومنها ما تأكله الأنعام من أقوات ومراع وغير ذلك.
وقوله: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي اختلط بالماء نبات الأرض.
حتى إذا اكتمل نمو النبات وازدهر، وأَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي حسنها وزينتها الفانية، وَازَّيَّنَتْ بأبهى أنواع الزينة، أي تزينت وحسنت بما خرج في رباها ووهادها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان وحبوب وثمار، وَظَنَّ أي أيقن أهلها الذين زرعوها وغرسوها، أنهم متمكنون قادرون من جذاذها وحصادها والانتفاع بها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها. ويلاحظ أنه أخبر عن الأرض وأراد النبات إذ كان مفهوما، وهو منها.
وهو معنى قوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً.. أي نزل بها قضاؤنا المقدر لهلاكها ليلا أو نهارا، فجعلناها كالأرض المحصودة، يابسة بعد الخضرة والنضارة، كأن لم تنبت، وكأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف 7/ 97- 98] وقال تعالى إخبارا عن المهلكين: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها [هود 11/ 67- 68]
وجاء في الحديث الذي أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أنس: «يؤتي بأنعم أهل الدنيا، فيغمس في النار غمسة، فيقال له: هل رأيت خيرا(11/149)
قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا، فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا» .
ثم قال تعالى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كهذا المثل المبين الذي يوضح حال الدنيا وسرعة زوالها، نبين الحجج والأدلة الدالة على إثبات التوحيد والجزاء وكل ما فيه صلاح الناس في معاشهم ومعادهم، لقوم يتفكرون في آيات الله أي يستعملون تفكيرهم وعقولهم في الاتعاظ والاعتبار بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها زوالا سريعا، مع اغترارهم بها، وتمكنهم من خيراتها، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها.
وتشبيه الدنيا بنبات الأرض كثير في كتاب الله، مثل الآية السابقة في سورة الحديد، ومثل آية الكهف: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [45] وآية الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [21] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآية أن الحياة الدنيا سريعة الزوال والانقضاء، وأن معيشة الناس والأنعام تعتمد على خيرات الأرض، وأن الإنسان عاجز ضعيف أمام قدرة الله وسلطانه، وأن مراد الله وأمره بشيء كالعذاب والهلاك هو النافذ، وأنه تعالى يبين الآيات والأمثال لمن يستخدم تفكيره وعقله فيها، فإن عاقبة هذه الحياة الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي تعلقت الآمال بالانتفاع به، فحين عظم الرجاء بالمنفعة وقع اليأس منها.
والمقصود من الآية ألا يعتمد المرء على نعيم الدنيا بنحو دائم، وألا يغتر(11/150)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
بزخارفها، وينسى ما يجب عليه نحو الآخرة، فيكون هو الخاسر خسارة كبري لا تعوض، إذ إنه يكون من الذين خسروا الدنيا والآخرة، وهو معنى قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام 6/ 44] .
الترغيب في الجنة ووصف حال المحسنين والمسيئين في الآخرة
[سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 27]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
الإعراب:
وَالَّذِينَ كَسَبُوا الَّذِينَ مبتدأ، وخبره: جَزاءُ سَيِّئَةٍ، على تقدير: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة.
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ معطوف على كَسَبُوا وجاز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لأنها جملة مبينة للأول، وليست أجنبية عنه.
بِمِثْلِها الباء زائدة، وتقديره: وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما في آية أخرى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] .
قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً جمع قطعة، ومظلما حال من الليل، وليس وصفا لقطع لأنه كان يقال: مظلمة. ومن قرأ بإسكان الطاء، جاز أن يكون مُظْلِماً وصفا لقوله: قطعا، وجاز أن يكون حالا من اللَّيْلِ.
البلاغة:
أَحْسَنُوا الْحُسْنى بينهما جناس اشتقاق.(11/151)
كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
وَاللَّهُ يَدْعُوا إلى الإيمان الموصّل إلى الجنة دارِ السَّلامِ أي السلامة وهي الجنة، وتخصيص الجنة بهذا الاسم للتنبيه على ذلك وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بالتوفيق إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دين الإسلام. وفي تعميم الدعوة بقوله: يَدْعُوا وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بالإيمان الْحُسْنى المثوبة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ ما يزيد على المثوبة تفضلا، وهي النظر إلى الله تعالى، كما في حديث مسلم وقيل: الزيادة: الفضل أو تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها. ودليل التفضل قوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 173 وغيرها] . وَلا يَرْهَقُ يغشى قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ كآبة وهوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخارفها.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا عطف على الذين أحسنوا، أي وللذين كسبوا السيئات أي عملوا الشرك بِمِثْلِها أي أن يجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها مِنْ عاصِمٍ مِنَ زائدة، وعاصِمٍ: مانع يعصمهم من سخط الله ومن جهة الله ومن عنده، بخلاف المؤمنين الذين لهم مانع يعصمهم أُغْشِيَتْ ألبست قِطَعاً جزءا مُظْلِماً لفرط سوادها وظلمتها. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي أولئك الكفار، فالآية في الكفار، لاشتمال السيئات على الكفر أو الشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة، فلا يتناولهم قسيمه.
المناسبة:
بعد أن نفّر الله تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها. ووجه الترغيب في الآخرة:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد، بنى دارا، ووضع مائدة، وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المائدة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد، فالله(11/152)
السيد، والدار: دار الإسلام، والمائدة: الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلّم» «1» .
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق، إلا الثقلين، أيها الناس، هلموا إلى ربكم، والله يدعو إلى دار السلام» «2» .
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى الدنيا وسرعة زوالها، رغب في الجنة ودعا إليها، فقال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي والله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح المؤديين إلى الجنة، وسماها دار السلام لسلامتها عن الآفات والشوائب والنقائص والأكدار ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام لكل الناس. ويهدي من يشاء أي يوفقهم إلى الطريق المستقيم الموصل إلى الجنة، وهو دين الإسلام: عقائده وأخلاقه وأحكامه لأنه الطريق الذي لا عوج فيه ولا التواء. والهداية خاصة بالمشيئة، على عكس الأمر بالإيمان.
ومن المعلوم أن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهي عامة لجميع الناس، وهي الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وهداية توفيق وهي خاصة بمن يشاء الله من عباده إلى طريق الاستقامة، ومعناها التوفيق والعون.
والسبب في تلك الدعوة إلى الإسلام مصلحة المدعوين لأن للذين أحسنوا العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح المثوبة الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن 55/ 60] ولهم أيضا زيادة:
__________
(1) حديث مرسل عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وجاء متصلا رواه ابن جرير عن جابر بن عبد الله.
(2) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.(11/153)
وهي تضعيف ثواب الأعمال الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا، والزيادة التي هي أعظم من جميع ما أعطوه هي النظر إلى وجه الله الكريم، بدليل
ما روى أحمد ومسلم وجماعة من الأئمة عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبّيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم» .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي، يا أهل الجنة- بصوت يسمع أولهم وآخرهم- إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة:
النظر إلى وجه الرحمن عز وجل» .
ونظير الآية قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] .
وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي ولا يغشى وجوههم شيء مما يغشى وجوه الكفرة من الغبرة التي فيها سواد، والهوان والصغار، أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الدهر 76/ 11] أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم. والصفة الأولى (القتر) هي المذكورة في قوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس 80/ 40- 41] والصفة الثانية (الذلة) هي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية 88/ 2- 3] .(11/154)
أولئك المتصفون بهذه الصفات هم أهل الجنة لا غيرهم، وهم المقيمون الماكثون فيها أبدا، لا زوال فيها، ولا انقراض لنعيمها.
ولما أخبر تعالى عن حال السعداء، عطف بذكر حال الأشقياء، كما هو الشأن الغالب في الموازنة والمقارنة في الأسلوب القرآني، وشأنه تعالى مع الفريق الأول الفضل والإحسان، ومع الفريق الثاني المعاملة بالعدل.
فللذين اقترفوا السيئات والمعاصي في الدنيا ومنها الكفر والشرك والظلم الجزاء العادل وهو المجازاة على السيئة بمثلها، لا زيادة عليها كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام 6/ 160] ، وتغشاهم أي تعتريهم وتعلوهم ذلّة من فضيحة معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى 42/ 45] وقال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ [إبراهيم 14/ 42- 43] .
ثم قال: ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ليس لهم مانع ولا واق يقيهم العذاب، أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] وقال تعالى:
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة 75/ 10- 12] .
كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ.. أي ألبست وجوههم أجزاء أو أغشية من سواد الليل المظلم لفرط سوادها وظلمتها، كقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران 3/ 106- 107] وقوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ(11/155)
مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
[عبس 80/ 38- 42] .
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ.. أي أولئك المتصفون بتلك الصفات هم لا غيرهم أصحاب النار، هم فيها خالدون، دائمون فيها، لا يزحزحون عنها.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات صريحة في الدعوة إلى السعادة الأبدية، والخلود في الجنان، من طريق الإيمان والعمل الصالح.
وهي موضحة معالم الطريق، معلنة أن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة: طاعة أحكامه، لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام: هو الله، وداره الجنة. وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات.
وقد عمّ بقوله يَدْعُوا جميع الناس بالدعوة إلى دائرة الإيمان، إظهارا لحجّته، وخص بالهداية من شاء من عباده استغناء عن خلقه، وتمييزا بين الأمر والإرادة، فهناك دعوة عامة دعا فيها جميع الخلق إلى دار السلام، وهداية خاصة مغايرة لتلك الدعوة العامة، مشتملة على التوفيق الإلهي.
والصراط المستقيم واحد سواء قلنا: إنه كتاب الله، أو الإسلام.
وللذين أحسنوا العمل في الدنيا المثوبة الحسنى وهي الجنة، والزيادة فضلا من الله وهي تضعيف الحسنات، والنظر إلى وجه الله الكريم، والشعور بالسعادة الظاهرية والباطنية، فلا غشاوة لغبار مع سواد في محشرهم إلى الله، ولا مذلة ولا إهانة.
وللمسيئين الذين أشركوا بالله شريكا آخر، وكفروا بنعمته، فلم يقابلوها(11/156)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
بالإيمان والإحسان عقاب مماثل لسيئاتهم دون زيادة، أخذا بالعدل، ويغشاهم الهوان والخزي والذل والعار، ولا عاصم لهم، ولا مانع يمنعهم من عذاب الله، وجوههم مسودّة كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ في حال ظلمته.
جعلنا الله من أهل جنته بفضله ورحمته، وحمانا من عذاب أهل النار، تكرما وإحسانا وإنعاما، وهدانا إلى سواء السبيل.
وقد أثبت أهل السنة بهذه الآية وما وضحها من السنة جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، وأكد ذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] فأثبت لأهل الجنة أمرين: أحدهما- نضرة الوجوه، والثاني- النظر إلى الله تعالى.
حشر الخلائق وتبرؤ الشركاء من المشركين ومن عبادتهم
[سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
الإعراب:
جَمِيعاً نصب على الحال، أي نحشر الكل حال اجتماعهم.
مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ مَكانَكُمْ: اسم فعل لا لزموا، كما أن «مه» اسم لا كفف، و «صه» اسم لا سكت. وفتحة النون فتحة بناء لقيامه مقام فعل الأمر. وقال الرازي والسيوطي:
منصوب بإضمار: الزموا.(11/157)
وأَنْتُمْ: توكيد لضمير مَكانَكُمْ المستتر، وشُرَكاؤُكُمْ: معطوف عليه لوجود التوكيد، كقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 2/ 35 والأعراف 7/ 19] .
فَزَيَّلْنا من زيّلت الشيء من الشيء: إذا نحيته. ولا يجوز أن يكون من زال يزول لأنه يلزم فيه الواو، فيقال: زوّلنا.
ما كُنْتُمْ إِيَّانا ما: نافية، وإِيَّانا مفعول به مقدم لتعبدون، وقدم مراعاة لفواصل الآيات.
إِنْ مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا، واللام في لَغافِلِينَ هي الفارقة بينها وبين النافية.
المفردات اللغوية:
نَحْشُرُهُمْ أي الخلق وهم فريقا المحسنين والمسيئين المذكورين في الآية السابقة، والحشر:
الجمع من كل جانب إلى موقف واحد مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقد سد مسد قوله: «الزموا» ويراد بذلك التهديد والوعيد. وَشُرَكاؤُكُمْ أي الأصنام فَزَيَّلْنا فرقنا وميزنا وقطعنا ما بينهم من صلات وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم، فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الآمرة بالإشراك إِنْ كُنَّا أي تقول الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دونه من أولي العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله عز وجل، فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي زعموها لهم، وعلقوا بها أطماعهم بقولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] .
هُنالِكَ في ذلك اليوم أو في ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدمت من عمل، فتعاين نفعه وضرره، وأَسْلَفَتْ: قدمت ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة، لا ما اتخذوه مولى: والحق: الثابت الدائم وَضَلَّ غاب أو ذهب وضاع عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ عليه من الشركاء.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى مصير المحسنين والمسيئين يوم القيامة، أعقبه بذكر يوم الجزاء الذي يتم فيه حشرهم، فيحشر العابد والمعبود، ثم يتبرأ المعبود من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته. والمقصود نفي الشفاعة، فإن(11/158)
القوم كانوا يقولون: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرءون منهم، وهو يدل على نهاية الخزي والنكال في حق الكفار.
التفسير والبيان:
هذا مشهد فاصل من مشاهد يوم القيامة، تصفّى فيه علاقة الشرك بين المشركين وآلهتهم المزعومة، فيقول الله لنبيه: واذكر أيها الرسول يوم نحشرهم أي نجمع أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبرّ وفاجر، وفيهم الفريقان المذكوران سابقا وهم المحسنون والمسيئون كما قال تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 18/ 47] .
ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي الذين اتخذوا مع الله شريكا: الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم، كقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات 37/ 24] وفي هذا وعيد وتوبيخ أمام الخلائق.
فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فرقنا بين الشركاء والمشركين، وقطعنا ما كان بينهم في الدنيا من صلات وروابط.
وتبرأ الشركاء من عابديهم: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ أي وقال الشركاء لعابديهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا، فأطعتموهم. وفي هذا أيضا تهديد ووعيد، وأنه تتبدد حينئذ آمال المشركين في شفاعة الشركاء.
والشركاء: إما الملائكة وعيسى المسيح ونحوهم ممن عبدوا من دون الله، أو الأصنام التي ينطقها الله عز وجل، فتكلمهم بذلك، والأولى أن المراد بالشركاء:
كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وملك وإنسي وجني.(11/159)
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي كفى بالله شاهدا وحكما بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك. وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين، وتهديد في حق العابدين.
إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ أي إننا كنا في غفلة تامة عن عبادتكم، لا نعلم بها، ولا ننظر إليها، ولا نرضى عنها، وقال القرطبي. ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل لأنا كنا جمادا لا روح فينا أي أنه جعل إِنْ هنا نافية، والحق أنها مخففة من الثقلية بدليل دخول اللام على:
غافلين.
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي هنالك في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتذوق وتعلم ما قدمت من العمل من خير وشر، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليتبين حاله؟ كما في قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق 86/ 9] .
وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي وأرجعوا إلى الله، ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، الحق الثابت الدائم، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، دون تلك الشركاء والأنداد.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وذهب عن المشركين افتراؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، ويتخذون تلك الأنداد آلهة مزعومة، ولم يبق لهم نصير ولا شفيع، والأمر كله يومئذ لله تعالى. فهذا تنبيه على زوال ما يدعون أن أولئك الشركاء شفعاء، وأن عبادتهم تقرّب إلى الله تعالى.(11/160)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- الحشر (أي جمع الخلائق من كل جانب في موقف واحد) أمر ثابت يوم القيامة.
2- انقطاع الصلة تماما بين الشركاء والمشركين يوم القيامة.
3- وعيد الكفار المشركين المتكرر في قوله تعالى: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ وقوله: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وقوله:
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...
4- إظهار الخيبة والخزي والإفلاس من عبادة الشرك والمشركين للآية هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ....
5- وصف الله تعالى نفسه بالحق لأن الحق منه، كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه أي كل عدل وحق فمن قبله.
6- خيبة الآمال التي تعلق بها المشركون في شفاعة الشركاء وتقريبهم إياهم إلى الله تعالى.
والسبب في قوله تعالى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مع أنه تعالى أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم: هو أن المولى هنا يراد به أنه مولاهم في الرزق وإدرار النعم، وليس بمولاهم في النصرة والمعونة.(11/161)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
إثبات التوحيد بثبوت الربوبية لدى المشركين
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
الإعراب:
أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أن وصلتها: يجوز كونها في موضع نصب وجر ورفع، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بأنهم أو لأنهم، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه، والجر:
بأن يجعل حرف الجر في نية الإثبات، وإنما حذف للتخفيف، والرفع على أن يكون بدلا من كَلِمَةُ.
البلاغة:
فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ استفهام إنكاري، أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى، وقع في الضلال.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم، وهو تعميم بعد تخصيص.
فَذلِكُمُ الفعال لهذه الأشياء الْحَقُّ الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي ليس بعد عبادة الله التي هي الحق إلا الضلال والانحراف فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تصرفون عن الحق أي الإيمان إلى غيره مع قيام البرهان؟(11/162)
كَذلِكَ حَقَّتْ أي كما صرف هؤلاء عن الإيمان ثبتت كلمة ربك أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا كفروا، وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أو هي أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جناية المشركين على أنفسهم باتخاذهم الأنداد والشركاء، ذكر أدلة فساد مذهبهم وهو عبادة الأوثان، وإذا فسد مذهبهم ثبت التوحيد، بدليل إقرارهم بأن الرازق ومالك الحواس، والمحيي والمميت هو الله تعالى، فهو سبحانه يحتج على المشركين باعترافهم بوحدانية الله وربوبيته على وحدانية الألوهية.
التفسير والبيان:
قل أيها النبي لمشركي مكة وأمثالهم: من ذا الذي ينزل من السماء المطر، فيكون سببا في إثبات الأرض بالزرع والزهر والشجر، فيخرج منها حبا وعنبا وقضبا (البرسيم) وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا متشابكة وفاكهة كثيرة ونحو ذلك؟ كقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ [الملك 67/ 21] فهي مصدر رزقكم، بسبب بركات السماء والأرض، فيرزقكم منهما جميعا، دون اقتصار على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته.
ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وغيرهما من الحواس، فيملك خلقها وتسويتها على نحو بديع وتحصينها من الآفات، ومن الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها؟ كقوله تعالى:
قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك 67/ 23] فهي وسائل العلم والمعرفة وإدراك ما في هذا العالم.
وخص السمع والبصر لأنهما أهم الحواس، وأداة تحصيل العلوم.(11/163)
ومن الذي بقدرته العظيمة أمر الحياة والموت؟ فيحيي ويميت، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، مثل إخراج النخلة من النواة والطائر أو الحيوان من البيضة أو النطفة، وعكس ذلك كإخراج الحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه من الشجر والحيوان، وفي هذا دلالة عامة على إيجاد أمارات الحياة والموت، وعلامة الحياة في النبات: النمو، وفي الحيوان: النمو والحركة الإرادية.
وفسر بعضهم الحياة والموت بالشيء المعنوي وهو إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون من المفسرين يفسرون الآية بالمعنى الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، كما قال الرازي.
وإذا كان المفسرون قد مثلوا للحي بالنطفة وللميت بالبيضة، فهم يلاحظون الوضع الظاهر المشاهد للناس عادة وهي حياة الحركة والنمو، وهذا لا ينفي ما يقوله الآن علماء الأحياء بأن في البذور والبيض والمني والنطفة حياة أي حياة الخلية، لكن هذه حياة خاصة لا حركة فيها ولا نمو.
ويمكن التمثيل في العلم الحديث لإخراج الميت من الحي بما يطرحه البدن من الخلايا الميتة في الدم والجلد فيخرج مع البخار والعرق، ومثال إخراج الحي من الميت الغذاء الذي يحرق بالنار، ثم يتناوله الإنسان فيتولد منه الدم.
وإذا قال هؤلاء العلماء الجدد: الحي لا يخرج إلا من حي، فإنهم يقررون أن الحياة الأولى هي من خلق الله بدون أي شك.
وعلى أي حال فإن المقصود من الآية إثبات القدرة الكاملة لله تعالى وأنه خالق الموت والحياة، أيا كان المثال لأن إطلاق النص القرآني وعمومه يمكن تطبيقه على ما يقره العلم.
ومن الذي يدبر أمور العالم وبيده ملكوت كل شيء، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟.(11/164)
هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، وأن يجيبوا بأن الموجد والمعدم هو الله تعالى، بلا تردد ولا شك، ومن غير مكابرة وعناد في ذلك، لفرط وضوح الأمر، ولأنه لا جواب في الواقع غيره.
وإذا اعترفوا بالحقيقة، فقل لهم أيها الرسول عندئذ: أفلا تتقون أنفسكم عقاب الله بإشراككم إياه وعبادتكم غيره، مما لا يشاركه في شيء من ذلك، ولا يملك ضرا ولا نفعا.
فذلكم الذي يتصف بما ذكر من القدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله خالقكم ومربّيكم على فضله ومدبر أموركم، وهو المستحق للعبادة، وهو ربكم الثابت ربوبيته بذاته، لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، فلا إله غيره، ولا معبود سواه.
وإذا كان الله هو ربكم الحق الثابت بذاته، فليس بعد القول الحق والفعل الحق إلا الضلال والباطل، ولا واسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال.
فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي كما حقت الربوبية لله والألوهية لله، حقت أي ثبتت كلمة الله وحكمه أو وعيده على الذين فسقوا أي تمردوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم، وخرجوا عن دائرة الحق والصلاح وتوحيد الربوبية والألوهية، أنهم لا يؤمنون، أي حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان وأن إيمانهم غير كائن. ويجوز أن يراد بالكلمة الوعيد بالعذاب، ويكون قوله أَنَّهُمْ(11/165)
لا يُؤْمِنُونَ
تعليلا للحقية، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون «1» . ويلاحظ أن الآية صرحت باليأس من إيمان الذين فسقوا وأصروا على كفرهم، ولم تذكر غيرهم لأن من لم يصرّ يرجى إيمانه وتخلصه من العذاب إذا آمن وأطاع، فلا مانع أمامه، كما أنه ليس هناك أي مانع قهري يمنع من إيمان أي كافر، وإنما هو الذي يمتنع باختياره من الإيمان، ويصرّ على الكفر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] .
وجعل ابن كثير الآية الأخيرة كَذلِكَ حَقَّتْ في المشركين أنفسهم، فقال: أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرزاق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده، فلهذا حقت عليهم أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] «2» .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا نقاش منطقي هادئ مع المشركين، فإنهم إن سئلوا عن الرازق والخالق والمحيي والميت والمدبر، فلا يسعهم إلا الاعتراف بأنه هو الله رب الخلائق قاطبة، وهذا اعتراف صريح منهم بوحدة الربوبية، فلم لا يعترفون بوحدة الألوهية، وإنما يشركون مع الله إلها آخر؟! والمنطق يقضي بالتسوية بين الأمرين والإقرار بوحدة الربوبية والألوهية، فتكون الآية دالة على إثبات التوحيد.
__________
(1) الكشاف: 2/ 74
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 416(11/166)
ودلت الآية على ما يأتي:
1- الله تعالى هو الرزاق، المتصرف في الملك والخلق والإيجاد وحده، المحيي، المميت، المدبر أمر الكون والعالم.
2- من كانت هذه قدرته ورحمته ويفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه، لا ما أشركتم معه: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ. وبما أن الله تعالى هو الحق المبين، وجب أن يكون ما سواه ضلالا لأن النقيضين لا يجتمعان، فإذا كان أحدهما حقا، وجب أن يكون ما سواه باطلا: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال؟
وبناء عليه، قال العلماء: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى. ويقاس عليها مسائل الأصول، الحق فيها واحد لا يتعدد، بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48]
وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات» .
وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام إلى صلاة التهجد قال: «اللهم لك الحمد»
وفي الحديث: «أنت الحق ووعدك الحق..»
فقوله: «أنت الحق»
أي الواجب الوجود، وهذا وصف لله تعالى بالذات والحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، بخلاف غيره، كقوله تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] .
ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية، وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا، كما في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ(11/167)
الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
[الحج 22/ 62] . وحقيقة الضلال:
الذهاب عن الحق.
3- احتج الإمام مالك على تحريم اللعب بالشّطرنج والنّرد بقوله تعالى:
فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فقال: اللعب بالشطرنج والنّرد من الضلال.
وقد اختلف العلماء في حكم اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار، فقال جمهور الفقهاء: إن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به، مرة في الشهر أو العام، لا يطّلع عليه ولا يعلم به: أنه معفوّ عنه، غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن اشتهر به سقطت مروءته وعدالته، وردّت شهادته.
وذهب الشافعي إلى أنه لا تسقط شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج إذا كان عدلا في غير ذلك، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا، سقطت عدالته، وسفّه نفسه لأكله المال بالباطل.
وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد وكل اللهو، فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة، وكانت محاسنه أكثر من مساويه، قبلت شهادته.
4- العاقل يلتزم المعقول، لذا استنكر الله تعالى على المشركين الخروج عن دائرة المعقول بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟ أي كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر، وكيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟! 5- علم الله قديم واسع الإحاطة، والعذاب حق وعدل ومعلوم سابقا في علم الله تعالى على الذين أصروا على الكفر وماتوا وهم كفار لقوله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي ثبت حكمه وقضاؤه وعلمه السابق على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا أنهم لا يصدقون، أو ثبت عليهم استحقاق العذاب والوعيد به لأنهم لا يؤمنون.(11/168)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
إثبات البعث
[سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 36]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
الإعراب:
أَفَمَنْ يَهْدِي.. مِنْ: مبتدأ مرفوع، وأَحَقُّ: خبره، وفي الكلام محذوف تقديره: أحق ممن لا يهدي. وأَنْ يُتَّبَعَ: إما موضعه النصب على تقدير حذف حرف الجر، وإما الرفع على البدل من مِنْ بدل اشتمال. وأَحَقُّ: الخبر. ويحتمل أن يجعل أَنْ مبتدأ ثانيا، وأَحَقُّ خبره مقدم عليه، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو مِنْ.
ويَهْدِي أصله يهتدي، فأبدل من التاء دالا، وأدغم الدال في الدال، وكسرت الهاء لاتباع ما بعدها ولالتقاء الساكنين لأنه الأصل في التقاء الساكنين. وقرئ بفتح الهاء (يهدّى) لأنه نقلت فتحة التاء إلى الهاء.
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما: مبتدأ مرفوع، ولَكُمْ: خبره، وكَيْفَ في موضع نصب بتحكمون.
شَيْئاً منصوب لأنه في موضع المصدر، أي غناء، مثل: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي إشراكا ويجوز أن يكون مفعولا به، ومِنَ الْحَقِّ: حالا منه.
البلاغة:
يَبْدَؤُا ... ثُمَّ يُعِيدُهُ بينهما طباق. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ استفهام توبيخ وتقرير أي الأول أحق.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وفَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الاستفهام للتوبيخ.(11/169)
المفردات اللغوية:
مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الإعادة كالابتداء في الإلزام بها، لظهور برهانها.
تُؤْفَكُونَ تصرفون عن الحق إلى الباطل وعن عبادته مع قيام الدليل.
مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بإقامة الحجج، وإرسال الرسل، وخلق الاهتداء أو التوفيق للنظر والتدبر. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو الله أَمَّنْ لا يَهِدِّي أم الذي لا يهتدي، والاستفهام للتقرير والتوبيخ، أي الأول أحق. كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد من اتباع ما لا يحق اتباعه، وما يقتضي صريح العقل بطلانه.
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في عبادة الأصنام، والمراد بالأكثر الجميع، أو الذي عنده تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد. إِلَّا ظَنًّا وهو تقليد الآباء بالاعتماد على خيالات فارغة وقياسات فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يفيد الظن فيما يطلب فيه العلم والاعتقاد الحق. شَيْئاً من الإغناء. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فيجازيهم عليه.
المناسبة:
انتقل الله تعالى فورا في بيانه من إثبات التوحيد إلى إثبات البعث، من طريق معرفة القادر ابتداء على خلق الإنسان وخلق السموات والأرض، وأن الإعادة كالابتداء، ثم عرض الأمر على العقلاء في بيان الأحق بالاتباع أهو الله الذي يخلق الاهتداء والتوفيق إليه، أم المحتاج إلى هداية غيره؟
وصيغ البيان أو الحجة بطريق السؤال والاستفهام لأنه أوقع في النفس، وأبلغ تأثيرا على القلب.
التفسير والبيان:
قل للمشركين أيها الرسول: من الذي بدأ خلق السموات والأرض، ثم أنشأ ما فيهما من الخلائق؟ هل يستطيع أحد غير الله ذلك؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو جنّا أو رسولا أو غيرهم؟ ومن يقدر أن يعيد الخلق خلقا جديدا؟(11/170)
وبما أنهم بسبب اللجاج والمكابرة لا يؤمنون بالبعث والمعاد، فلم يجيبوا كما أجابوا عن الأسئلة الخمسة المتقدمة، فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلِ: اللَّهُ ...
أي قل أيها الرسول: الله هو القادر على بدء الخلق وإعادته لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، فهو سبحانه وتعالى الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له. علما بأنهم يعترفون بأن المبدئ والمعيد في النباتات هو الله، لما يشاهدونه من تكرار بدء ظهور النبات بالمطر في فصل الشتاء، ثم موته في الصيف، ثم عودته إلى الظهور في الشتاء القادم مرة أخرى. ولكنهم ينكرون إعادة الحياة في الأحياء الحيوانية من إنسان وغيره.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل وعن الحق وهو التوحيد إلى الضلال وهو الإشراك وعبادة الأصنام؟
أي إذا كانت فطرتكم وعقولكم أو أنظاركم وملاحظاتكم تؤدي إلى أن الله تعالى هو الذي يعيد الحياة إلى النبات، فلم لا تعترفون بقدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان؟ وذلك يؤدي بكم إلى الإيمان بالبعث والجزاء يوم القيامة؟! ثم سألهم الله تعالى عن شأن من شؤون الربوبية، بقوله: قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ؟ ... أي قل لهم أيها الرسول: هل يستطيع أحد من شركائكم هداية الضال والحيران: إما بالفطرة والغريزة، وإما بالحواس من سمع وبصر ونحوهما، وإما بالعقل والتفكير، وإما بهداية الكتب السماوية والرسل، أو هم عاجزون عن ذلك كله؟! وهذه الهداية هي تماما كالقدرة على الخلق والتكوين، كقوله تعالى:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] .
وبما أنهم يدركون تماما أن شركاءهم لا يستطيعون شيئا من الخلق والهداية التشريعية، فلم يجدوا جوابا، فأجابهم الله تعالى: قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ(11/171)
أي قل أيها الرسول: هو الله الذي يهدي إلى الحق بما أوجد من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، ومنح الإنسان مفاتيح العلم والمعرفة والإيمان بالعقل والحواس.
ومن هو أحق باتباع قوله وطاعة أمره؟ أهو الذي يقدر على الهداية إلى الحق والرشد والإيمان، أم الذي لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهو الله تعالى؟
وهذا يشمل جميع الشركاء من ملائكة وغيرهم كالمسيح وعزير فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي فما بالكم وأي شيء دهاكم، كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه، وحكمتم بجواز عبادة غير الله وشفاعتهم؟ وهذا تعجب شديد من حكمهم الجائر بالمساواة بين عبادة الله تعالى وعبادة شركائهم العاجزة عن كل شيء.
ثم بين الله تعالى أنهم لا يتبعون في اعتقادهم هذا وشركهم وعبادتهم غير الله دليلا ولا برهانا، وإنما يتبع جميعهم نوعا من الظن الضعيف وهو التوهم والتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، لأن الظن الخائب لا يغني شيئا من الإغناء فيما يطلب فيه الحق الثابت، أي العلم والاعتقاد الصواب.
إن الله عليم بأفعالهم، فيجازيهم على كل فعل منها، كتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلّم، مع قيام الأدلة القطعية على صدقه، وتقليد الآباء والأجداد بدون حجة أو دليل. وهذا تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
والخلاصة: أن مجموعات، الآيات السابقة اشتملت على حجج ثلاث للاستدلال على وجود الله تعالى: الأولى- أنه الرازق الموجد السمع والبصر خالق الموت والحياة، والثانية- أنه خالق الإنسان والسموات والأرض وما بينهما، والثالثة-(11/172)
أنه القادر على الهداية. والاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا: عادة مطردة في القرآن.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت هذه الآيات من أجل إثبات البعث على توبيخين للمشركين وتهديد.
أما التوبيخ الأول: فهو على عبادتهم شركاء عاجزين عن الخلق بدءا وإعادة، فكيف تصح تلك العبادة؟ وكيف تنقلبون أيها المشركون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟
وبما أن الحق تعالى هو القادر على الخلق، فخلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة دم، وهو قدير على إعادته، فيجب الإيمان بالبعث إيمانا لا يخالجه أي شك أو ريبة.
وأما التوبيخ الثاني: فهو أيضا على اتخاذ الشركاء آلهة معبودة مع أنهم لا يستطيعون هداية أنفسهم ولا غيرهم، فيكون الأحق بالعبادة والتوحيد هو الله تعالى القادر على الإرشاد إلى الطريق المستقيم الذي هو القرآن ودين الإسلام..
فما لكم كيف تحكمون، أي فأي شيء لكم في عبادة الأوثان، وكيف ترضون لأنفسكم وعقولكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؟
وأما التهديد: فهو على الكفر والتكذيب: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وسيجازيكم عليه.
ودلت آية إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً على أنه لا يكتفى بالظن في(11/173)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
العقائد، وعلى أن تحصيل العلم واليقين في الأصول واجب، وأما الاكتفاء بالتقليد والظن فيها فهو غير جائز لأن أصول الإيمان أساسية، فتبني على اليقين، ولا يجدي فيها الظن، وإنما يكفي هذا في فروع الأعمال.
القرآن كلام الله وتحدي العرب به
[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 39]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
الإعراب:
وَلكِنْ تَصْدِيقَ تَصْدِيقَ: خبر كان مقدرة، تقديره: ولكن كان هو تصديق، أي القرآن. وأجاز الكسائي الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: ولكن هو.
وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ خبر ثان.
لا رَيْبَ فِيهِ خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك.
مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر تقديره: كائنا من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، ولا رَيْبَ فِيهِ: اعتراض، ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو الضمير في فِيهِ.
البلاغة:
بَيْنَ يَدَيْهِ استعارة لما سبقه من التوراة والإنجيل اللذين بشرا به.
أَمْ يَقُولُونَ الهمزة فيه للإنكار، والمعنى: بل أيقولون افتراه محمد؟(11/174)
المفردات اللغوية:
أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أن يفتري افتراء من غير الله تعالى. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي كان أو أنزل مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها وليس كذبا.
وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ تبيين ما كتبه الله من الأحكام وغيره، وتوضيح ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع. لا رَيْبَ فِيهِ لا شك.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقولون: اختلقه محمد، والهمزة للإنكار. فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وقوة المعنى، على وجه الافتراء فإنكم عرب فصحاء، مثلي في العربية والفصاحة، وأشدّ تمرنا في النظم والعبارة. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. مِنْ دُونِ اللَّهِ سوى الله أو غيره، فإنه وحده قادر على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه افتراء وأنه اختلقه، فلم يقدروا على ذلك.
بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب. بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي القرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه. وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ لم يطلعوا على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، ولم تتحقق عاقبة ما فيه من الوعيد، أو تقع أخباره عن المغيبات، حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب. والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجؤوا بتكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتفحصوا معناه.
كَذلِكَ التكذيب. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ بتكذيب الرسل، أي آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك نهلك هؤلاء.
المناسبة:
ذكر الله تعالى مطلب المشركين من النبي صلى الله عليه وسلّم بإنزال آية من ربه (الآية 20) لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز، وأن محمدا إنما يأتي به من عند نفسه اختلاقا، وأجابهم بأن محمدا عاجز كغيره عن إنزال آية والإتيان بمثله، ثم أبطل شركهم بأدلة كثيرة، ثم عاد هنا إلى ترسيخ حقيقة أصيلة وهي أن القرآن وحي من عند الله تعالى، وليس إتيان محمد عليه الصلاة والسلام به على سبيل الافتراء على الله تعالى، مما يدل على أنه معجز نازل من عند الله، وأنه مبرأ من الافتراء.(11/175)
التفسير والبيان:
هذه الآيات في بيان إعجاز القرآن، وكونه كلام الله، وهذا من أصول الدين، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن لإثبات أنه من عند الله تعالى، وليس من عند النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما هو معجزة خالدة تشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو معنى قول الله
في الحديث القدسي: «صدق عبدي في كل ما يبلغه عني» .
ومعنى الآية: ما شأن القرآن وما ينبغي أن يختلق من غير الله لأنه بفصاحته وبلاغته، ووجازته وحلاوته، وإخباره عن المغيبات، وأصالة تشريعه، واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله تعالى، فهو كلامه الذي لا يشبه كلام المخلوقين، ولا يقدر أحد إلا الله أن يجاريه أو يعارضه.
وقد ثبت أن أبا جهل قال: إن محمد لم يكذب على بشرط، أفيكذب على الله؟
وإنه مطابق ومصدّق لما تقدمه من الكتب الإلهية المنزلة على الرسل، كإبراهيم وموسى وعيسى، وموافق لها في الدعوة إلى أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر، وصالح الأعمال، وفضائل الأخلاق، وهو أيضا مهيمن عليها، ومبيّن كاشف لما وقع فيها من تحريف وتبديل، كما قال تعالى:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة 5/ 48] .
وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي وبيان الأحكام والشرائع، والحلال والحرام، والعبر والمواعظ، والآداب والأخلاق الشخصية والاجتماعية، بيانا شافيا كافيا.
لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أبدا، ولا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه، لوضوحه، وبيانه الحق والهدى والصواب.(11/176)
مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منزل وموحى به من الله لا من غيره، بدليل سلامته عن الاضطراب والاختلاف، كما قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] .
وبه يتبين أن الله سبحانه وصف القرآن بصفات خمس هي:
1- لا يصح أن يفتري من دون الله لأن القرآن معجز لا يقدر عليه البشر.
2- وهو مصدّق مؤيد لما قبله في أصول الدين والفضائل، ومهيمن عليه، فهو معجز لاشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، وهو المراد بقوله: تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
ومن إخباره عن مغيبات المستقبل التي وقعت مطابقة للخبر: قوله تعالى:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ.. وقوله تعالى في فتح مكة: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح 48/ 27] وقوله في ظهور الدولة الإسلامية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] مما يدل على أن الإخبار إنما حصل بالوحي من الله تعالى.
3- وهو مفصّل ما يحتاج إليه الإنسان من الأحكام الشرعية والعلوم الكثيرة الدينية والدنيوية، ففيه علم العقائد والأديان: وهو معرفة الله تعالى (ذاتا وصفات) وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفيه علم الأعمال وهو علم الفقه، وعلم الأخلاق مثل قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف 7/ 199] وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل 16/ 90] وهو المراد بقوله: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف 12/ 111] .(11/177)
4- لا ريب ولا شك فيه، لبيانه العلوم الكثيرة، وعدم وجود التناقض فيه.
5- كونه من عند الله تعالى، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلّم ليكون من المنذرين.
ثم أنكر الله تعالى على المشركين الجاهلين القائلين بأن محمدا صلى الله عليه وسلّم قد افتراه، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. أي بل أيقولون:
اختلقه محمد؟! فمحمد بشر مثلكم، وقد زعمتم أنه جاء بهذا القرآن، فأتوا بسورة مثله، أي من جنس هذا القرآن، ولو بما يشابه أقصر سورة فيه في النظم والأسلوب، والقوة والإحكام، والبلاغة والدقة، واستعينوا على ذلك بمن قدرتم عليه من إنس وجان، ولن تستطيعوا فعل شيء فإن جميع الخلق عاجزون عن معارضته أو الإتيان بمثله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] .
فإن كنتم صادقين في ادعائكم أن القرآن من عند محمد، فلتأتوا بنظير ما جاء به وحده، ولتستعينوا بمن شئتم.
ولقد كان التحدي للإتيان بمثل القرآن على مراحل: أولها- ما ذكر في هذه الآية: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ وهي أعلى المراتب. وثانيها- التنازل معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [13] . وثالثها- التنازل إلى سورة، فقال هنا في هذه السورة المكية: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وكذا في سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [23] .
ثم أثبت القرآن موقف هؤلاء المشركين منه فقال: بَلْ كَذَّبُوا.. أي بل(11/178)
سارع هؤلاء إلى تكذيب القرآن من قبل أن يتدبروا ما فيه، أو يفهموه، وهذا.
شأن المعاند الجاهل.
وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي وكما أنهم كذبوا به بداهة قبل التدبر والمعرفة تقليدا للآباء، كذلك كذبوه بعد التدبر ومعرفة علو شأنه وإعجازه وضعف قواهم في المعارضة، تمردا وعنادا، وبغيا وحسدا. ويجوز أن يكون معنى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ: لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالمغيبات، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق؟
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل ذلك التكذيب كذبت الأمم السابقة بمعجزات الأنبياء قبل النظر فيها وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن تقليدا للآباء وعنادا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي فانظر أيها الرسول كيف كانت عاقبة أولئك الظالمين لأنفسهم بتكذيبهم رسلهم وطلبهم الدنيا وترك الآخرة، وهي أننا أهلكناهم بسبب تكذيبهم رسلنا، ظلما وعلوا، وكفرا وعنادا وجهلا، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[العنكبوت 29/ 40] .
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات إثبات قاطع لكون القرآن كلام الله تعالى ووحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، وليس افتراء من محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك بدليل وصفه بالأوصاف الخمس التي ذكرت في الآية، وأوضحتها في التفسير السابق.(11/179)
وبدليل التحدي للعرب بأن يأتوا بمثل سورة من هذا القرآن، إذا كان في زعمهم من كلام محمد صلى الله عليه وسلّم وهو بشر مثلهم، وهم عرب فصحاء بلغاء مثله.
فالآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله تعالى لأنه مصدّق الذي بين يديه من الكتب، وموافق لها، من غير أن يتعلم محمد عليه الصلاة والسلام عن أحد.
والآية الثانية إلزام بسورة مثله إن كان مفترى. وهذا مناسب لما اشتهر به العرب من فصاحة وبلاغة وبيان، فالقرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلّم الخالدة في بيانه ونظمه وتشريعه وعلومه. كما أن كل معجزة لنبي تناسب العصر الذي عاش فيه، مثل معجزة العصا واليد لموسى عليه السّلام في زمن برع فيه السحرة بفنون السحر، ومعجزة عيسى عليه السلام الذي بعث في زمان اشتهار علم الطب، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهذا من غير علاج ولا دواء.
لهذا جاء
في الحديث الصحيح المتقدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من نبي من الأنبياء، إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» .
ودلت الآية الثالثة: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ على انهيار موقف العرب من القرآن، فهم قبل أن يتأملوا بما فيه كذبوا به تقليدا للآباء وإبقاء على عبادة الأوثان، وبعد أن تأملوا وتدبروا فيه كذبوا به أيضا تمردا وعنادا، وبغيا وحسدا، وعجزا وضعفا من معارضته والإتيان بمثل أقصر سورة فيه في سلامة النظم والأسلوب والمعنى والحكم. لذا أنذرهم القرآن بالدمار والهلاك على ظلمهم كما أهلك الأمم الخالية بسبب تكذيب الرسل.(11/180)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
انقسام المشركين إلى فريقين حول الإيمان بالقرآن والنبي
[سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 44]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
الإعراب:
مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ حملا على معنى مَنْ لأن معناها الجمع.
مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ينظر حملا على لفظ مَنْ لأن لفظها مفرد.
وَلكِنَّ النَّاسَ ذهب جماعة من النحويين إلى أن الاختيار في لكِنَّ إذا جاءت معها الواو أن تكون مشدّدة، وإذا جاءت بغير واو أن تكون مخففة، قال الفراء: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخففت لتكون مثلها في الاستدراك، وإذا جاءت بالواو خالفت فشدّدت، فمن شددها، كان ما بعدها منصوبا لأنه اسمها، ومن خففها رفع ما بعدها على الابتداء، وما بعده الخبر أَنْفُسَهُمْ مفعول به مقدم.
البلاغة:
مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... ومَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ بينهما طباق السلب.
الصُّمَّ.. الْعُمْيَ مجاز عن الكافرين، شبههم بالصم والعمي لإعراضهم عن الحق والهدى.
المفردات اللغوية:
وَمِنْهُمْ ومن المكذبين أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق(11/181)
ولكن يعاند، أو من سيؤمن به ويتوب عن كفره. وضمير بِهِ يعود إلى القرآن مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو المصرين على الكفر، وهو تهديد لهم.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ أصروا على تكذيبك لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي لكل جزاء عمله، وأنا بريء من عملكم، وبما أني تبرأت منه فقد أعذرت أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذوني بعملي ولا أؤاخذ بعملكم.
مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ شبههم بهم في عدم الانتفاع بالقرآن وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم وتدبرهم. وهذا يدل على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه.
مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ شبههم بهم في عدم الاهتداء وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة، فإن المقصود من الإبصار: هو الاعتبار والاستبصار. والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم.
لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها وتفويت منافعها عليها. وفيه دليل على أن للعبد كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت المجبرة.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى طعن الكافرين في النبوة والوحي، وبعد أن أنذرهم بالدمار والعذاب في الدنيا بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ذكر أنهم في الواقع فريقان: فريق يصدق بأن القرآن كلام الله، ولكنه يكابر ويعاند، وفريق لا يصدق به أصلا لفرط غباوته وجهله، فيصر على تكذيب النبي لفقده الاستعداد للإيمان به، فلا أمل في إصلاحه وهدايته، فتكون المصلحة في إعطاء الفرصة للفريق الأول للإيمان دون الاستئصال.
التفسير والبيان:
المشركون في الحال والاستقبال فريقان: فريق يصدق بالقرآن في نفسه(11/182)
ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب، وفريق يشك فيه لا يصدق به. هذا في الحال. ويجوز أن يراد بفعل يُؤْمِنُ الاستقبال، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من سيؤمن بهذا القرآن، ويتبعك، وينتفع بما أرسلت به ومنهم من سيصرّ على كفره، ويموت على ذلك ويبعث عليه.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهؤلاء هم المعاندون أو المصرّون، والله العادل الذي لا يجوز، بل يعطي كلا ما يستحقه، فمعنى الآية: وربك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم والطغيان، فلا أمل في صلاحهم، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وسيعذبهم في الدنيا والآخرة.
وإن كذّبك هؤلاء المشركون وأصروا على ذلك، فتبرأ منهم ومن عملهم، وقل لهم: لِي عَمَلِي: وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير والطاعة والإيمان، وسيجازيني الله عليه، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ: وهو الظلم والشرك والفساد، وسيجازيكم الله عليه، كما قال تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس 10/ 52] .
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يراد بذلك الزجر والردع، وإعلان مبدأ المسؤولية الفردية: وهي انحصار مسئولية كل إنسان بنفسه، وعدم سؤاله عن ذنب غيره. والمعنى: فلا تؤاخذوني بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم فقد أعذرت وأنا بريء من عملكم، كقوله تعالى: قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود 11/ 35] وقوله: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] وقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] وقوله: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء 26/ 216] .(11/183)
وأما موقف المشركين المكذبين منك يا محمد، فلا تعجب منه، فمنهم من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وإنما يسمعون دون تدبر ولا فهم، ويهتمون بسماع نظم القرآن وجرس صوته، فهم لاهون لاعبون غير جادّين: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء 21/ 2- 3] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك، وضموا إلى ذلك أنهم لا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه، فينتفعوا به، فإن السماع النافع للمستمع: هو ما عقل به ما يسمعه، وعمل بمقتضاه وإلا كان في الواقع كالأصم حقيقة. وهذا حال بعض المسلمين مع الأسف اليوم. وفيه دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم بالقسر والإلجاء إلا الله عز وجل.
ومنهم من ينظر إليك عند قراءتك القرآن نظرة إعجاب، ولكنه لا يبصر نور الإيمان والقرآن وهداية الدين والخلق القويم. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي لا تقدر على هداية هؤلاء، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة، فلا تستطيع هدايتهم لفقدهم نعمة البصيرة المدركة والعقل المدرك: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] .
والخلاصة: إنك يا محمد لا تستطيع هداية هؤلاء، لفقدهم الاستعداد للفهم والهداية، وكأنهم مثل من فقد حاسة السمع في الحقيقة، وفقد حاسة البصر أيضا لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] والمراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً.. أي إن الله تعالى لا يجور أبدا، بسلب(11/184)
حواسهم وعقولهم التي بها يدركون الأشياء ويهتدون إلى الحق والصواب، ولكن الناس هم الظالمون أنفسهم وحدها دون غيرها لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي، بتعطيلهم نعمة العقل، وتنكرهم لهداية الدين. وهذا وعيد للمكذبين، فإن عذابهم يوم القيامة عدل وحق لا ظلم فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- جميع الكفار ومنهم أهل مكة في الماضي: منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، لكنه يتعمد إظهار التكذيب، ومنهم من لا يؤمن به أصلا. ومنهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويؤمن، ومنهم من يصر على الجحود ويستمر على الكفر، والله تعالى عليم بالجميع.
2- كل إنسان مسئول عن نفسه وسيلقى جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر.
3- إن الحواس من سمع وبصر لها هدفان: هدف ظاهري وهو سماع المسموعات ورؤية المبصرات، لتكون الحياة بوجه سليم وهدف حقيقي: وهو استخدامها في تدبر المسموع وفهمه وتعقله، وإنعام النظر وإدراك البصيرة في أمور الدين والأخلاق، للتوصل إلى نعمة الإيمان والهداية والحق، والتخلص من ظلمة الكفر والضلال والباطل.
4- الرسول صلى الله عليه وسلّم مجرد مبلّغ ومنذر ومبشر، فلا يقدر على غرس الإيمان في القلوب، وزرع الهداية في النفوس، وما على العقلاء إلا الاستجابة لبلاغاته، والاستماع لمواعظه ولأنه كما لا يقدر على إسماع من سلب السمع، وإبصار من حرم البصر، فلا يقدر أن يوفق هؤلاء للإيمان إذا أصروا على الكفر.(11/185)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
5- إن السمع أفضل من البصر، بدليل أنه كلما ذكر الله السمع والبصر، فإنه في الأغلب وكما في هذه الآية يقدم السمع على البصر.
6- احتج أهل السنة بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام، وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء، والله هو الذي يخلق القدرة على الهداية فيها.
7- إن الله لم يظلم أهل الشقاء، فهو في جميع أفعاله عادل، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم.
زوال الدنيا سريع
[سورة يونس (10) : آية 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
الإعراب:
وَيَوْمَ منصوب بتقدير: اذكر، أو على الظرف، وعامله: يَتَعارَفُونَ.
كَأَنْ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير يَحْشُرُهُمْ أي يحشرهم متشابهين أو صفة مصدر محذوف، تقديره: يحشرهم حشرا مشابها لحشر يوم لم يلبثوا قبله، أو صفة (ليوم) على تقدير محذوف أيضا، أي كأن لم يلبثوا قبله، فحذف المضاف فاتصلت الهاء يلبثوا، فحذفت للطول. وكَأَنْ: مخففة من الثقيلة، تقديره: كأنهم لم يلبثوا، وواو يَلْبَثُوا عائدة إلى ضمير يَحْشُرُهُمْ.
يَتَعارَفُونَ جملة فعلية حال من ضمير لَمْ يَلْبَثُوا ويجوز جعلها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم يتعارفون.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ.. إما استئناف فيه معنى التعجب أي ما أخسرهم، وإما حال من ضمير يتعارفون.(11/186)
المفردات اللغوية:
يَحْشُرُهُمْ الحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد. كَأَنْ أي كأنهم، فخففت.
لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، أو في القبور، لهول ما يرون.
يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا، ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ بالبعث. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ طريق الرشاد، وقوله: قَدْ خَسِرَ ... هو استئناف، فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم، وهي شهادة من الله تعالى على خسرانهم، أو حال من ضمير: يَتَعارَفُونَ، على إرادة القول، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك.
المناسبة:
لما وصف الله تعالى هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر، وتكذيبهم القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلّم، أتبعه بالوعيد بالجزاء في الآخرة على ما كان منهم في الدنيا.
التفسير والبيان:
يذكّر الله تعالى الناس بقيام الساعة والحشر من قبورهم إلى أرض المحشر يوم القيامة، فيقول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي اذكر لهم أيها الرسول وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت في موقف الحساب والجزاء، فيلاحظون كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة، والساعة مثل في القلة، ثم انقضت، حالة كونهم يتعارفون أي يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا، ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال، أو فهم يتعارفون.
وتقديرهم قصر الدنيا في ذلك الموقف الرهيب معنى متكرر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف 46/ 35] وقوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم 30/ 55] وقوله: قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟(11/187)
قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ، قالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
[المؤمنون 23/ 112- 114] .
ثم أعلن الله تعالى خسارتهم فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا.. أي إن هؤلاء الكفار المكذّبين بالبعث قد خسروا ثواب الجنة خسارة كبري، إذ بدلوا الإيمان بالكفر، وما كانوا مهتدين لأوجه الربح والنفع بعمل الصالحات، فما أخسرهم! وهذا تعجب شديد من الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن عمر الدنيا قصير، إذا قوبل بحياة الآخرة الطويلة الأمد بل الخالدة، وعلى أن الكافرين المكذبين بالبعث خسروا ثواب الجنة خسارة كبري لا تعوض لأن الخسران إنما هو في يوم لا يرجى فيه القيام بالبديل، ولا تنفع فيه التوبة، وذلك بعد قيام الأدلة الكثيرة في القرآن المجيد على البعث والنشور. ويفهم من الآية أيضا أن لذات الدنيا بالنسبة إلى جميع العالم لا تعادل شيئا أمام العذاب الشديد والآفات الحاصلة للكافر يوم القيامة، فمن باع آخرته بالدنيا فقد خسر لأنه أعطى الكثير وأخذ القليل، وأن الكافر اهتدى إلى رعاية مصالح تجارته هذه.
كذلك أشارت الآية إلى أن الناس في الآخرة يعرف بعضهم بعضا، ولكن التعارف يمكث وقتا يسيرا، ويقولون: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي بالبعث والنشور.
ومع أنني اتجهت في تفسير الآية إلى مقابلة الدنيا بالآخرة فإن ما ذكر في الآية من لبث قدر ساعة من النهار يحتمل أن يكون ذلك هو عمرهم في الدنيا، أو مدة بقائهم في قبورهم، لهول ما يرون من البعث.(11/188)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
تعذيب المشركين في الدنيا والآخرة
[سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 56]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)(11/189)
الإعراب:
بَياتاً منصوب على الظرف بمعنى وقت بيات.
ماذا يَسْتَعْجِلُ يجوز جعله جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ويجوز جعل جواب الشرط محذوفا وهو: تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ إما بمعنى: يستخبرونك، فيتعدى إلى مفعولين، الأول هو الكاف والثاني جملة أَحَقٌّ هُوَ جملة اسمية في موضع المفعول الثاني. وإما بمعنى يستعملونك فيتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فتكون الجملة الاسمية قد سدت مسدّ المفعولين.
إِي وَرَبِّي أي: حرف يكون مع القسم بمعنى نعم، وجواب القسم: إِنَّهُ لَحَقٌّ.
أَرَأَيْتُمْ تستعمل «أرأيت» بمعنى أخبرني، والرؤية إما بصرية أو علمية، ولا تستعمل في غير الأمر العجيب مثل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى.
البلاغة:
ضَرًّا وَلا نَفْعاً بينهما طباق، ومثله بين بَياتاً أَوْ نَهاراً وبين يُحيِي وَيُمِيتُ وبين يَسْتَأْخِرُونَ.. ويَسْتَقْدِمُونَ.
يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فيه وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل والتشنيع على الجرم، كما أن هذا الاستفهام للتهويل والتعظيم.
أَثُمَّ دخول حرف الاستفهام على ثم لإنكار التأخير لإيمانهم، فلا يقبل منهم.
المفردات اللغوية:
وَإِمَّا أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما المزيدة. نُرِيَنَّكَ نبصرنك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر، وجواب الشرط محذوف أي فذاك.
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة، وهو جواب: نتوفينك.
ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ مطلع أو مجاز عليه، فإنه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها. عَلى ما يَفْعَلُونَ من تكذيبهم وكفرهم، فيعذبهم أشد العذاب.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ إليهم بالبينات فكذبوه. قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل، أي بين الرسول ومكذبيه، فيعذبون وينجّى الرسول ومن آمن به. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بتعذيبهم بغير جرم، فكذلك نفعل بهؤلاء.(11/190)
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ بالعذاب، يراد استبعاد له واستهزاء به، وقولهم خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه أو يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة معلومة لهلاكهم. فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يتقدمون عليه.
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ عذاب الله الذي تستعجلون به. بَياتاً ليلا. ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ: أي شيء من العذاب يستعجلونه، وكله شديد مؤلم لا يلائم الاستعجال. الْمُجْرِمُونَ المشركون. وجواب الشرط: هي جملة الاستفهام، كقولك: إذا أتيتك ماذا تعطيني؟ والمراد به التهويل، أي ما أعظم ما استعجلوه. آلْآنَ تؤمنون؟ على إرادة القول، أي يقال لهم إن آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به؟ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ استهزاء وتكذيبا.
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على (قيل أو: يقال) المقدر قبل: آلْآنَ ...
عَذابَ الْخُلْدِ أي الذي تخلدون فيه، أي المؤلم على الدوام. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ما تجزون إلا جزاء على ما كسبتموه من الكفر والمعاصي.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك. أَحَقٌّ هُوَ؟ أي أحق ما تقول من الوعد الذي وعدتنا به من العذاب والبعث. قُلْ: إِي نعم. بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب.
ظَلَمَتْ بالشرك أو الكفر أو التعدي على الغير. ما فِي الْأَرْضِ ما فيها جميعا من خزائن وأموال. لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة. النَّدامَةَ على ترك الإيمان. لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا بما عاينوا من الهول فلم يقدروا على النطق. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الخلائق. بِالْقِسْطِ بالعدل. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا. وليس هذا تكرارا مع ما سبق من القضاء بالقسط لأن الله يقضي بين الأنبياء ومكذبيهم، والثاني فيه مجازاة المشركين على الشرك، أو الحكم بين الظالمين والمظلومين.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء من ثواب وعقاب كائن ثابت لا خلف فيه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى خسارة المشركين المكذبين بالبعث الذين لم يهتدوا إلى وجوه الخير والصلاح، وأنهم سيعذبون، أوضح أن بعض هذا العذاب سيكون في(11/191)
الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهو تنبيه على أن عاقبة المذنبين مذمومة قبيحة جدا.
وليس هذا حال محمّد صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بل هو حال كل الأنبياء مع أقوامهم.
ثم بيّن الله تعالى الشبهة الخامسة «1» من شبهات منكري النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلّم كلما هددهم بنزول العذاب، ومرّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ واحتجوا بعدم وجوده على القدح في نبوته صلى الله عليه وسلّم. ثم أجابهم تعالى بأنه لو نزل هذا العذاب، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم: نؤمن عنده، فالإيمان وقت الإلجاء والعسر باطل، فيكون هذا العذاب في الدنيا، ثم يعقبه عذاب آخر أشد منه يوم القيامة؟
وبالرغم من سؤالهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ وإجابتهم، عادوا مرة أخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم يسألونه: أَحَقٌّ هُوَ أي المعاد والقيامة من القبور ثم العذاب؟
هو حق وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى، وأن ثبوت النبوة وصحة المعاد متفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وكل ما سواه ملكه.
التفسير والبيان:
كان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلّم في توعده لهم بالعذاب، وكانوا يستعجلون نزوله تكذيبا له واستهزاء به، ويتمنون موته لتموت دعوته، فرد الله تعالى عليهم مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلّم: إن ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينك كما حدث يوم بدر وحنين وغيرهما، فذاك وإن توفيناك قبل ذلك فمصيرهم ومنقلبهم إلينا بكل حال، فنريك عذابهم في الآخرة، والله مطلع على أفعالهم بعدك، فيجازيهم به، على علم وشهادة حق. وذلك كقوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ،
__________
(1) قد مضى بيان الشبهات الأربعة في هذه السورة.(11/192)
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] .
وهذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته.
وهذا ليس حال النبي صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بل هو حال الأنبياء كلهم مع أقوامهم، فإنه تعالى أرسل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا، يدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى العمل الصالح مناط النجاة في الآخرة. وهذا يدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولا: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] .
فإذا جاء رسولهم إليهم بالبينات فكذبوه، قضى الله بينه وبينهم بالعدل، فيعذبون، وينجي الله رسوله ومن صدقه، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا، مما ينزل بهم من عذاب، فلن يكون عذاب بغير ذنب ارتكبوه.
ويقول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين تكذيبا واستهزاء، كلما هددهم بنزول العذاب على شركهم ولم ينزل: متى يقع هذا الوعيد، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟
فأجابهم الله تعالى بجواب يحسم هذه الشبهة: قل أيها الرسول لمن يستعجل العذاب: إني بشر لا أملك لنفسي ضرا أمنعه، ولا نفعا أجلبه، إلا ما شاء الله أن يقدرني. والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار نصر المؤمنين لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، وأنه تعالى ما عيّن لذلك الوعيد وقتا معينا، فهذا من شأن الإله، وأما الرسول فمهمته مقصورة على التبليغ لما جاء من عند الله.
والاستثناء هنا في رأي أهل السنة منقطع، أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن.(11/193)
ولكل أمة من الأمم مدة من الزمن أو العمر مقدرة، فإذا جاء أجلهم، لا يملك رسولهم ولا غيره أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة من الزمان المقدر له.
وهذا يدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط، لا متأخرا عنه، وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي، وإنما يدل على كونه جزاء.
ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ.. أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم، أو نهارا وقت شغلكم.
وأي نوع من العذاب تستعجلون، أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟ وكل من العذابين واقع شديد، وأي عذاب تطلبون تعجيله فهو جهل وحماقة؟ فأي فائدة لكم فيه؟ إن قلتم: نؤمن عنده، فالإيمان وقت الشدة واليأس باطل، فالعذاب القريب هو عذاب الدنيا، ويعقبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه.
وهذا معنى قوله: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ أي أتنتظرون مجيء هذا العذاب للإيمان؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به، في وقت لا ينفع الإيمان، ويقال لكم توبيخا: آلآن آمنتم بالله والرسول اضطرارا وقسرا، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! ودخلت ألف الاستفهام على ثُمَّ للتقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى.
ثم يقال للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان، وتكذيب الرسول ووعيده: تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، هل تجزون أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون وتعملون باختياركم من الكفر والمعاصي.
وذكر هذه العلة: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كلما ذكر العقاب والعذاب دليل على أن جانب الرحمة راجح غالبا، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.(11/194)
وظاهر الآية يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ويوجب العمل لأن ذلك الجزاء عند أهل السنة واجب بحكم الوعد المحض، وعند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى.
والآية تدل أيضا على كون العبد مكتسبا للخير والشر، خلافا للجبرية.
وبالرغم من جواب الله تعالى بما ذكر عن سؤال الكفار: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ فإنه أخبر سبحانه أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى، وسألوه مرة أخرى، عن ذلك السؤال، فقال: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ.
أي ويستخبرونك أيها الرسول أن تخبرهم عن عذاب الدنيا والآخرة أحق أنه سيقع على ما نكسبه من المعاصي في الدنيا، أم هو مجرد إرهاب وتخويف؟.
وتكرار السؤال دليل على أن القوم تملّكهم إحساس شديد بالقلق والخوف من العذاب، كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم.
فقل لهم أيها الرسول: نعم وربي، إنه لحق ثابت واقع ماله من دافع، وما أنتم بمعجزين أي بفائتين العذاب، وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
وليس لهذه الآية نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد، وهما في سورة سبأ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [3] وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [7] .
ثم أخبر الله تعالى عن بعض مضايقات وأهوال القيامة فقال: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ(11/195)
نَفْسٍ..
أي أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا.
وأسروا الندم: وهو ما يجد الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل ضارّ، لما رأوا العذاب الشديد، فصاروا مبهوتين متحيرين. وقد يجهرون بالندم كما قال: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 39/ 56] ثم بين تعالى أنه لا ظلم حينئذ فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.. أي وحكم الله بين الظالمين والمظلومين بالعدل. لأن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم بالحق، رفعا لما ظلم به بعضهم بعضا في الدنيا، فيكون في القضاء تخفيف عذاب بعضهم، وتثقيل عذاب الباقين.
ثم أتبع ذلك الاعلام وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به، بأن الملك كله لله وأنه المعاقب فإن الله مالك السموات والأرض، وكل الأشياء ملكه وفي سلطانه، وأن وعده حق كائن لا محالة، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة والمعاد، لغفلتهم عنها، وعدم إيمانهم بالإله القادر الحكيم، فأبان تعالى لهم الحقيقة، وأن كل ما سواه مملوك له.
والدليل على قدرته تعالى على البعث والجزاء والثواب والعقاب أنه تعالى هو المحيي والمميت، وإليه مرجع الخلائق حين يحييهم بعد موتهم، فيحشرهم للحساب والجزاء على أعمالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- عذاب الكفار شديد مضاعف في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعذبون بالهزيمة والذل والخزي ونحوها من القلق والخوف، وفي الآخرة بعذاب النار.(11/196)
والله تعالى يري رسوله في الدنيا نماذج من عذابهم، وسيريه يوم القيامة ما هو أشد وأكثر، مما يدل على أن عاقبة المؤمنين محمودة، وعاقبة المذنبين مذمومة.
2- لكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم، وكذلك لا يعذب الناس في الدنيا حتى يرسل الله إليهم رسولا، فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذّب لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] .
3- القضاء بين العباد حق قائم على العدل المطلق، وهم لا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة.
4- النقاش حول نزول العقاب الإلهي ومجيء القيامة قديم بين الأمم مع الرسل عليهم السلام، وبين الأمة العربية مع النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو مستمر دائم بين الكفار ودعاة الإسلام المصلحين.
5- إنزال العذاب مقدر بأجل معين في علم الله تعالى، ولا يملك إنزاله إلا الله تعالى، ومتى حان وقت هلاك أمة من الأمم، فلا يتأخر ولا يتقدم لحظة.
وليس لرسول أو نبي أو غير هما الحيلولة دون وقوع العذاب المقرر.
6- استعجال العذاب لا نفع فيه، وإنما النافع هو الإيمان قبل نزول العذاب، فإذا نزل فلا فائدة ولا نفع فيه لأن إيمان اليأس غير مفيد ولا صحيح.
والقائل في قوله: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إما الملائكة استهزاء بهم، وإما من قول الله تعالى.
7- تبكيت الظالمين بما يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي الذي لا ينقطع، والجزاء لا يكون إلا جزاء الكفر والعصيان.(11/197)
8- قيام الساعة والبعث والمعاد حق ثابت أقسم الله ورسوله على أنه حق كائن لا شك في وقوعه، وجميع الناس غير فائتين عن عذابه ومجازاته.
9- لا يقبل من أحد الفداء عن ذنبه لأن الله هو مالك السموات والأرض وكل شيء في ملكه وسلطانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً، وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمران 3/ 91] .
10- يندم الكفار والظلمة والعصاة على أعمالهم في الدنيا، وهم إما أن يخفوا الندامة أحيانا، وإما أن يظهروها أحيانا أخرى. ورؤساء الضلالة يخفون ندامتهم عن أتباعهم قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع، بدليل قولهم: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون 23/ 106] فبيّن أنهم لا يكتمون ما بهم.
11- القضاء بالعدل بين الكفار أنفسهم لدفع الظلم الذي كان بينهم واقع أيضا في الآخرة، فيخفف العذاب حينئذ عن المظلوم، ويزاد على الظالم.
12- تنبيه الناس قاطبة على أمور هي: أن الله مالك السموات والأرض، وأن وعد الله حق كائن لا محالة فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده، وأنه يحيي ويميت، وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ما يريد، العليم بأماكن وجودهم قبل البعث والحشر في البر والبحر، وأن أكثر الكفار منكري البعث غافلون عن أمر الآخرة، مقصّرون في الاستعداد لها.
والله تعالى في الآخرة كما في الدنيا قادر لذاته على الإحياء والإماتة، لا تزول قدرته، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا.(11/198)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
مقاصد القرآن الكريم
[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
الإعراب:
مَوْعِظَةٌ.. وَشِفاءٌ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ التنكير للتعظيم.
بِفَضْلِ اللَّهِ.. الباء متعلقة بفعل يفسره قوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، أي فليعتنوا أو فليفرحوا ثم قال: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وفائدة هذا التكرار: التأكيد والبيان بعد الإجمال. والفاء بمعنى الشرط، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء، فبهما فليفرحوا، وإعادة الباء بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ دليل على أن كلا منهما سبب في الفرح. وقوله فَبِذلِكَ للواحد والاثنين والجمع.
البلاغة:
شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ، أي شفاء للقلوب التي في الصدور.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة وغيرهم. مَوْعِظَةٌ أو عظة: هي الوصية بالحق والخير واجتناب الشر والباطل، بأسلوب جمع بين الترغيب والترهيب. وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ودواء من العقائد الفاسدة والشكوك. وَهُدىً بيان الحق من الضلال، والبيان في العقيدة بالبرهان، وفي التشريع العملي ببيان المصالح. وَرَحْمَةٌ رقة تقتضي الإحسان والعطف.
بِفَضْلِ اللَّهِ التوفيق لتزكية النفوس، أو هو الإسلام. وَبِرَحْمَتِهِ أي ثمرة الفضل أو هي إنزال القرآن. فَبِذلِكَ الفضل والرحمة. فَلْيَفْرَحُوا الفرح والسرور: انفعال في النفس بنعمة حسية أو معنوية ترتاح له وتستمتع به.(11/199)
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الأدلة على أسس الدين الثلاثة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، ذكر التشريع العملي وهو القرآن، وأبان صفاته ومقاصده الأربعة.
التفسير والبيان:
يا أيها الناس، قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ أو الوصايا الحسنة التي تصلح الأخلاق والأعمال وتزجر عن الفواحش، وتشفي الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وتهدي إلى الحق واليقين والصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، وترحم المؤمنين رحمة خاصة.
وهذه هي صفات القرآن المجيد أو خصائصه.
1- كونه موعظة حسنة من عند الله، يجمع بين الترغيب والترهيب، فيبعث على فعل الحسن وترك القبيح، مثل قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 138] .
2- شفاء لما في القلوب من الشبهات والشكوك والنفاق والكفر وسوء الاعتقاد والخلق، كقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] .
3- هاد إلى الحق واليقين والصراط المستقيم المحقق لسعادتي الدنيا والآخرة كقوله تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت 41/ 44] .
4- رحمة للمؤمنين خاصة، ينجيهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، ويحجبهم من النيران، ويرفعهم إلى درجات الجنان. وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون بالإيمان.(11/200)
قل أيها الرسول للمؤمنين: ليفرحوا بفضل الله وبرحمته بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق، فإنه أولى ما يفرحون به. وقوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يفيد الحصر، يعني يجب ألا يفرح الإنسان إلا بذلك.
روى ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن أنس مرفوعا: «فضل الله:
القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله»
وقال الحسن البصري والضحاك وقتادة ومجاهد: «فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن» .
إن الفرح بما تفضل به الله وبما رحم به المؤمنين هو أجدى وأنفع من كل ما يجمعونه من الأموال وسائر خيرات الدنيا، لا محالة لأنه يؤدي إلى سعادة الدارين، وتلك الأموال سبب السعادة في الدنيا فقط.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الصفات الأربع هي صفات القرآن، ففي القرآن المواعظ والحكم، وهو الشفاء النافع من الشك والنفاق والخلاف والشقاق، وهو الهدى أي الرشد لمن اتبعه، عصمة لمن تبعه، ونجاة لمن تمسك به. ورحمة أي نعمة كبري خاصة بالمؤمنين.
وإن فضل الله ورحمته من أعظم دواعي الفرح والسرور، بل لا فرح ولا سرور بغير فضل الله ورحمته، وفضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وهذا قول الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة. وعن أبي سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما العكس تماما، فقالوا: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام.
وعلى كل فإن مصدر الفرح الصحيح للمسلمين شيئان: الإيمان أو الإسلام، والقرآن. وإن فضل الله ورحمته خير للمؤمنين مما يجمعون من حطام الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل.
روى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من هداه الله للإسلام، وعلمه القرآن، ثم شكا(11/201)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
الفاقة، كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه، ثم تلا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
الإنكار على المشركين بالتحليل والتحريم للأنعام
[سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
الإعراب:
ما أَنْزَلَ ما: منصوب ب أَنْزَلَ أو ب أَرَأَيْتُمْ، فإنه بمعنى أخبروني.
يَوْمَ الْقِيامَةِ: منصوب بالظن، وهو ظن واقع فيه أو منصوب على الظرف.
البلاغة:
حَراماً وَحَلالًا بينهما طباق.
قُلْ: آللَّهُ كرر الفعل للتأكيد.
آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ الاستفهام للإنكار.
وأَمْ منقطعة بمعنى بل، ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله، بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء. ويجوز أن تكون متصلة ب أَرَأَيْتُمْ.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتُمْ أخبروني. ما أَنْزَلَ اللَّهُ ما خلق. لَكُمْ أي ما حل لكم، ولذلك وبخ على التبعيض فقال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا كالبحيرة والسائبة والوصيلة. قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في ذلك بالتحليل والتحريم؟ لا. أَمْ بمعنى بل. تَفْتَرُونَ تكذبون بنسبة ذلك إليه.(11/202)
وَما ظَنُّ الَّذِينَ.. أي، أيّ شيء ظنهم به. يَوْمَ الْقِيامَةِ أيحسبون أنه لا يعاقبهم عليه؟ وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل، وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأنعم عليهم بنعم كثيرة، وأمهلهم في العقاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى في أوائل السورة الوحي والنبوة، ذكر طريقا آخر في إثبات النبوة: وهو أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى، وأن الأصل في الأرزاق والأشياء الإباحة، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض، مع تساويها في الصفات والمنافع، دليل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة لأنه لم يقم لكم دليل عقلي ولا نقلي على هذا التمييز، فهو منهج فاسد باطل، وأن ما عليه الأنبياء هو الحق والصواب.
التفسير والبيان:
ينكر الله تعالى على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا [الأنعام 6/ 136] وقوله:
وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ، بِزَعْمِهِمْ [الأنعام 6/ 138] وقوله: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام 6/ 139] وقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، قُلْ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام 6/ 144] .
ورد الله تعالى عليهم كل ما شرعوه من تحليل وتحريم بقوله: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [المائدة 5/ 103] .(11/203)
ومعنى الآية: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين كفار مكة: أخبروني عما أنزل الله من رزق حلال لكم للانتفاع به، فجز أتموه أو بعضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام بزعمكم، أخبروني: آلله أذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبون على الله، في نسبة ذلك إليه.
والآية توبيخ على التبعيض، وزجر بليغ على التهاون في الفتوى، وباعثة على وجوب الاحتياط فيما يسأل عنه العالم من الأحكام، وألا يقول أحد في شيء:
جائز أو غير جائز، إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت.
وإلا فهو مفتر على الله «1» ، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل 16/ 116] .
وَما ظَنُّ الَّذِينَ ... المعنى: أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه؟ وهو يوم الجزاء، والإحسان والإساءة، أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله أو أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به؟
وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره، أم أن لهم شفعاء يشفعون لهم؟ كما قال تعالى:
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 42/ 21] .
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل، ورحمهم بالوحي، وتعليم الحلال والحرام، وتشريع الدين، وفضّل عليهم بالرزق وجعل الأصل فيما رزقهم من المنافع الإباحة، ولكنه جعل حق التحليل والتحريم إليه وحده، كيلا يعبث به، كما عبث به الأخبار والرهبان، ولم يحرّم عليهم إلا ما فيه ضرر بهم في دنياهم أو دينهم.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة وذلك الفضل كما قال تعالى:
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] ولا يتبعون ما هدوا إليه، بل
__________
(1) الكشاف: 2/ 78(11/204)
يحرمون ما أنعم الله به عليهم، ويضيّقون على أنفسهم، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما، وقد وقع في هذا المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وربما وقع فيه بعض المسلمين، فتغالوا في الزهد وتركوا طيبات الرزق، أو أسرفوا في الأكل والشرب والزينة، مخالفين نهج الإسلام في التوسط والاعتدال في الإنفاق، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] وقال سبحانه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها [الطلاق 65/ 7] .
وأيدت السنة ذلك الاتجاه،
روى البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا: «إذا آتاك الله مالا فلير عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس» .
وأخرج أحمد عن أبي الأحوص عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا رثّ الهيئة فقال: هل لك مال؟ قلت: نعم، قال: من أيّ المال؟ قلت: من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال: إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته» .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
1- الشيء الذي جعله أهل الجاهلية المشركون حراما: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كما ذكر في سورة المائدة، وهو أيضا المذكور في سورة الأنعام من جعل نصيب من الزروع والثمار والمواشي لله تعالى يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها، كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام 6/ 136] .(11/205)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
2- مصدر التشريع هو الله عز وجل، وحق التحليل والتحريم لله، لا لأحد سواه من الخلق ولو كان نبيا أو رسولا، فإن كانت الأحكام من الله تعالى فهو المراد بقوله: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وإن كانت ليست من الله، فهي افتراء، وهو المراد بقوله تعالى: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ.
3- توبيخ من تجرأ على تبعيض الأحكام الشرعية، فجعل بعضها حلالا، وبعضها حراما. وهذا أيضا تنديد بمن يتهاون في الفتوى، ولا يحتاط في وصف الأحكام، فيحلل أو يحرم برأيه دون تثبت ولا تيقن.
4- وعيد من يفتري على الله الكذب، فينسب الحكم إليه، وهو منه براء.
5- معاقبة المفترين يوم القيامة على جريمة افتراء الكذب على الله.
6- الله تعالى صاحب الفضل العظيم على الناس بإعطاء العقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وجعل التحليل والتحريم إليه دون سواه، وجعل الأصل في المنافع والأرزاق والأشياء والأعيان الإباحة.
7- أكثر الكفار لا يشكرون الله على نعمه، ولا على تأخير العذاب عنهم.
إحاطة علم الله تعالى بجميع شؤون العباد وأعمالهم وبكل الكائنات
[سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)(11/206)
الإعراب:
وَما تَتْلُوا مِنْهُ الهاء تعود على «الشأن» على تقدير حذف المضاف، وتقديره: وما تتلو من أجل الشأن من قرآن، أي: يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله. ومن: تبعيضية، أو مزيدة لتأكيد النفي. وإضمار القرآن قبل التصريح به تفخيم له أو لله عز وجل.
وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ النصب فيهما على أن لا نافية، وأَصْغَرَ اسمها، وفِي كِتابٍ: خبرها وهذا كلام مستقل بنفسه، مقرر لما قبله. ويجوز الرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه، أو على العطف على محل: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ وتقديره: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر. ويجوز الجر، مراعاة للفظ مِثْقالِ لأن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في اللفظ مجرور. وفِي كِتابٍ مُبِينٍ موضع الرفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو في كتاب مبين.
المفردات اللغوية:
وَما تَكُونُ يا محمد، وما: نافية، أي لست في شأن من عبادة أو غيرها إلا والربّ مطلع عليك. شَأْنٍ أمر مهم عظيم وَما تَتْلُوا مِنْهُ من الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل هو معظم شأنه، أو ما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو من الله عز وجل وَلا تَعْمَلُونَ أنتم جميعا أيها المؤمنون (الأمة والنبي) وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم شُهُوداً شاهدين رقباء نحصي عليكم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تندفعون فيه وتخوضون أو تأخذون في العمل وَما يَعْزُبُ وما يبعد عنه وما يغيب عن علمه مِثْقالِ وزن ذَرَّةٍ أصغر نملة أو هباء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في الوجود والإمكان إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن وهو اللوح المحفوظ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن القليل من الناس شاكرون نعم الله بدوام طاعته وترك معصيته، ذكّرهم بأن علمه محيط بجميع شؤونهم وأعمالهم صغيرها وكبيرها، وبكل الموجودات والكائنات كلها في السموات والأرض، حتى يحملهم ذلك على الطاعة والشكر والعبادة وتجنب المعصية لأنه إذا كان الحق تعالى عالما بكل شيء، سرّ الطائعون، وهدّد المذنبون.(11/207)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل لحظة.
وما تكون أيها الرسول في أي أمر من أمورك الخاصة أو العامة، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك، لنشر الدعوة بين الناس إلا ونحن شهود عليكم.
وفي التعبير بالشأن دليل على أن جميع أموره صلى الله عليه وسلّم كانت عظيمة، حتى العادات لأنه قدوة حسنة للمؤمنين. وبعد أن خصه الله بأمرين وهما وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ووَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ خاطب جميع الأمة التي هو رأسها.
وضمير مِنْهُ إما عائد إلى الشأن، وإما إلى القرآن أي وما تتلو من القرآن من قرآن لأن القرآن اسم للمجموع واسم لكل جزء من أجزاء القرآن، والإضمار قبل الذكر يدل على التعظيم، وإما إلى الله أي وما تتلو من قرآن نازل من عند الله.
وَلا تَعْمَلُونَ.. أي ولا تعملون أيتها الأمة أي عمل صغير أو كبير، خير أو شر، وأي عمل كان، إلا كنا عليكم شاهدين رقباء مطلعين، نحصي عليكم، وسنجازيكم عليه.
إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تندفعون وتأخذون فيه، أي في ذلك الشيء.
وما يبعد عن الله ولا يغيب عن علمه أي شيء، ولو كان مثقال ذرة أي وزن أصغر نملة أو هباء، وبه يضرب المثل في الصغر والخفة، ولا أصغر من الذرة أي أجزاء الذرة، وهذا يشير إلى نظرية أو مبدأ تحطيم الذرة واكتشاف جزيئاتها،(11/208)
ولا شيء أكبر من ذلك، كالعرش الذي هو أعظم المخلوقات، إلا وهو معلوم له، ومحصى معروف في كتاب عظيم الشأن وهو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها.
وفي هذا دلالة إلى سبق القرآن إلى الإشارة إلى أصغر الموجودات في الكون مما لا يدرك بالعين المجردة، وإنما بالمكبّرات، كأجزاء الذرة والجراثيم، ويحتاج تكبيره إلى مئات أو آلاف المرات. كما أن هناك أشياء كبيرة جدا، أكبر من السموات والأرض، وما فيهما، فإن بعض النجوم أكبر من الشمس والأرض والقمر بملايين المرات، والعرش أعظم المخلوقات.
ونظير الآية قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] أي أنه تعالى يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة، وكل ما هو موجود في طبقات الأرض، وأجواء السماء.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن كل من يتأمل في مدلول هذه الآية- ولا يتأمل فيها بحق إلا عالم مؤمن، واسع العلم والأفق والنظر- فيجد سعة علم الله الشامل، ورصده لكل شيء في الوجود، وأعمال جميع الكائنات الحية، والناس قاطبة في البر والبحر والجو، يسيطر عليه الخوف والرهبة، ويمتلئ قلبه اليقين بعظمة الله تعالى، ويدرك أن جميع أعماله محصية عليه، سواء أكانت صغيرة حقيرة أم كبيرة جليلة.
ولو قيل: إن شاشة كبيرة من التلفاز (الرائي) تصوّر جميع حركات الإنسان على أشرطة مسجلة في منزله وغيره، وفي تنقلاته كلها، وإن ما يرتسم على هذه الشاشة وما يسجل فيها من أصوات، سيعرض على حاكم الدولة،(11/209)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
وسيحاسبه على أموره كلها، هل أدى واجبه أو قصر، وهل أدى الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه أو خانها، وهل أحسن أو أساء إلى نفسه أو غيرها من الأهل والجيران والمجتمع، لو قيل ذلك، وقدّر كل إنسان ما يرصد عليه في هذه الشاشة في يوم أو شهر أو سنة أو في العمر كله، لفكّر تفكيرا دقيقا جدا، والتزم درب الاستقامة، حتى لا يعرّض نفسه إلى الإهانة.
وهكذا- ولله المثل الأعلى- رصد الله لحركاتنا، وعلمه بجميع أعمالنا، بل اطلاعه على ما تكنه نفوسنا، يملأ النفس رهبة وخوفا، فسبحانك يا رب لا يسعنا إلا سترك وعفوك ورحمتك، وكفى بهذه الآية باعثا على الطاعة والإيمان، ورادعا عن المعصية والكفر، وكفى بالله حسيبا، وهو أسرع الحاسبين.
أولياء الله- أوصافهم وجزاؤهم
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
الإعراب:
الَّذِينَ آمَنُوا فيه ثلاثة أوجه: النصب على أنه صفة للأولياء أو بدل منهم، أو النصب على المدح أي أخص أو أعني، أو الرفع على الابتداء، وخبره: هُمُ الْبُشْرى.
ويجوز أن تكونْ بُشْرى
مبتدأ، وهُمُ
خبره، والجملة في موضع رفع: خبر الَّذِينَ.(11/210)
المفردات اللغوية:
أَوْلِياءَ اللَّهِ أي أحبابه وأصفياؤه والمقرّبون إليه، الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة، هم المؤمنون المتقون كما فسرتهم الآية، فكل من كان تقيا كان لله وليا. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات مأمول.
وَكانُوا يَتَّقُونَ الله بامتثال أمره ونهيهْ بُشْرى
الخبر السارّ، وهي ما بشّر الله به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم، وما يريهم في الرؤيا الصالحة، كما في حديث صححه الحاكم:
يراها الرجل أو ترى له، وما يسنح لهم من المكاشفات، وبشرى الملائكة عند النزع فِي الْآخِرَةِ
الجنة والثواب وتلقي الملائكة إياهم مسلّمين مبشرين بالفوز والكرامة. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لا خلف لمواعيده لِكَ
المذكور.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى إحاطة علمه بأعمال العباد وبجميع الكائنات ليكون ذلك باعثا لهم على الشكر والعبادة، ذكر حال الشاكرين المتقين الذين حسن جزاؤهم في الآخرة.
التفسير والبيان:
إن أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة والعبادة، ويتولاهم بالكرامة هم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكانوا يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فكل من كان تقيا كان لله وليا. وأولياء الله هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح والتقوى. فلا خوف عليهم في الدنيا من مكروه يتوقع، كما قال تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 175] أي لا تخافوا أولياء الشيطان وأنصاره.
ولا خوف عليهم في الآخرة مما يخاف منه الكفار والعصاة من أهوال الموقف وعذاب القيامة، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء 21/ 103] .(11/211)
ولا هم يحزنون في الدنيا من فوات مأمول، ولحوق مكروه، وذهاب محبوب لأنهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويبتغون رضوان الله، كما لا يحزنون في الآخرة من مخاوف القيامة.
روى البزار عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟
قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله» .
ولهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر والاستخلاف في الأرض ما داموا على شرع الله ودينه، يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج 22/ 41] وقال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] .
ومن بشائر الدنيا لهم الرؤيا الصالحة، روى أحمد والحاكم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
قال: «هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له» .
ومن البشائر بشرى الملائكة لهم بحسن الحال وبالدرجة الرفيعة عند النزع:
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل 16/ 32] .
ولهم البشرى في الحياة الآخرة بحسن الثواب والنعيم المقيم في الجنة، كما قال تعالى:
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة 9/ 21] .
وتلقي الملائكة لهم يبشرونهم بالجنة، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها(11/212)
ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
[فصلت 41/ 30- 32] .
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا تغيير لأقواله، ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق 50/ 29] ومنها تبشير المؤمنين بالجنة.
ِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
أي ذلك المذكور وهو البشارة لهم في الدارين بالسعادة هو الفوز العظيم الساحق الذي لا فوز غيره لأنه ثمرة الإيمان والعمل الصالح.
فقه الحياة أو الأحكام:
وضعت هذه الآية الحد الفاصل أمام الأدعياء، فأبانت أن أولياء الله هم المؤمنون الأتقياء،
روى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل: من أولياء الله؟ فقال: «الذين يذكر الله برؤيتهم» .
وقال عمر بن الخطاب- فيما رواه أبو داود- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء، تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة، لمكانهم من الله تعالى. قيل:
يا رسول الله، خبّرنا من هم وما أعمالهم، فلعلنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تحابّوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها، فو الله، إن وجوههم لنور، وإنهم على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» .
وما أعظم وأجدى هذه الحوافر للعمل الصالح والاتصاف بصفة أولياء الله، التي ذكرتها هذه الآية، وهي المجموعة في قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وفي تلك البشرى إيماء إلى الوعد بنصرهم على الأعداء.
__________
(1) قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب، لكن رواه أحمد عن أبي مالك الأشعري، ورواه ابن جرير عن أبي هريرة.(11/213)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
والبشرى: هي الخبر السارّ أو البشارة السارّة بالخير والفضل والمكافأة، وقد جمعت هذه البشرى بين سعادتي الدنيا والآخرة، ففي الدنيا: النصر والعز والثناء الحسن، وفي الآخرة: الفوز والنجاة والظفر بالجنة ونعيمها الأبدي الخالد.
ولا خلف لوعد الله، ولا تبديل لأخباره، فلا ينسخها شيء، ولا تكون إلا كما قال، فما أجلّ ذلك، وما أكرم الله المبشّر وأحبّه إلى عباده، وما أسعد المبشّرين! جعلنا الله منهم.
العزة والملك لله تعالى وفائدة جعله الليل والنهار
[سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
الإعراب:
وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ.. ما: إما بمعنى الذي، وإما بمعنى النفي، وإما بمعنى الاستفهام. فإن كانت بمعنى الذي فهي معطوفة بالنصب على مَنْ أي، ألا إن لله تعالى الأصنام الذين تدعونهم من دون الله شركاء، فحذف العائد من الصلة. وشُرَكاءَ: حال من ذلك المحذوف.
وإن كانت نفيا وهو الظاهر كانت حرفا، والتقدير: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. وانتصب شركاء ب يَدْعُونَ، والعائد إلى الَّذِينَ الواو في يَدْعُونَ(11/214)
ومفعول يَتَّبِعُ قام مقامه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، ولا ينتصب الشركاء ب يَتَّبِعُ لأنك تنفي عنهم ذلك، والله تعالى قد أخبر به عنهم.
وإن كانت ما بمعنى الاستفهام، والمراد به الإنكار والتوبيخ، كانت اسما في موضع نصب ب يَتَّبِعُ، وتقديره: وأي شيء يتبع الذين يدعون.
البلاغة:
وَالنَّهارَ مُبْصِراً استعارة، شبه النهار بالإنسان لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له أي للإبصار على طريق المبالغة، كما قالوا: ليل أعمى وليلة عمياء، إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها.
المفردات اللغوية:
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إشراكهم وتهديدهم وتكذيبهم وقولهم لك: لست مرسلا إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ استئناف بمعنى التعليل، والْعِزَّةَ: الغلبة والقوة والمنعة هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بعزماتهم وأفعالهم، فيجازيهم عليها وينصرك عليهم.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين: الإنس والجن، ملكا وخلقا وعبيدا. قال البيضاوي: وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا، لا يصلح أحد منهم للربوبية، فما لا يعقل منها- وهي الأصنام- أحق ألا يكون له ندا وشريكا، فهو كالدليل على قوله. وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره أصناما شُرَكاءَ له على الحقيقة، تعالى الله عن ذلك إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في ذلك يقينا، وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء، أو أنها آلهة تشفع لهم وَإِنْ هُمْ ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون فيما ينسبون إلى الله، فيستعمل الخرص بمعنى الكذب لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين، والأصل في الخرص:
الحزر والتقدير، ويجوز أن يراد: يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا.
وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ذا إبصار، وإسناد الإبصار إلى النهار مجاز لأنه يبصر الناس فيه، وإنما قال مبصرا، ولم يقل: لتبصروا فيه، تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب لَآياتٍ دلالات على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار أو اتعاظ.
المناسبة:
بعد أن أورد الله تعالى أنواع شبهات المشركين في هذه السورة، وأجاب(11/215)
عنها، ذكر أنهم عدلوا إلى طريق آخر، وهو التهديد والتخويف بأنهم أصحاب السلطة والمال، فأجابهم الله عن ذلك بقوله: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تبشيرا له بالنصر عليهم، كما أنه تعالى مهد لذلك في بيان صفة الأولياء وبشارتهم في الآيات المتقدمة، إيماء إلى الوعد بالنصر على الأعداء في مكة المغترين بقوتهم، المكذبين بوعد الله.
التفسير والبيان:
ولا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين: لست مرسلا، وغيره من إشراك وتكذيب وتهديد بأنهم أصحاب القوة والمال، واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه، فإن العزة أي الغلبة والقوة والقهر لله تعالى جميعا، أي جميعها له، وأما إثبات العزة لرسوله وللمؤمنين ففي آية أخرى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] فالعزة كلها بالله، وإلى الله.
هو السميع لأقوال عباده، ومنها أقوالهم المتضمنة تكذيب الحق وادعاء الشرك، العليم بأحوالهم وبما يفعلون من إيذاء وكيد، وسيجازيهم عليه، فلا تأبه لقولهم ومكيدتهم، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من أذى قومه، وتبشير له بالنصر عليهم.
ثم أقام الدليل على انفراده بالعزة كلها بقوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ... أي انتبهوا أيها الناس، إن لله ملك السموات والأرض وما بينهما، لا ملك لأحد فيهما سواه، فكيف تصلح الأصنام آلهة؟ وهي مملوكة، والعبادة لا تكون إلا للمالك، بل إنها لا تعقل ولا تملك شيئا، لا ضرا ولا نفعا، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وأوهامهم.
وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي لا يتبع هؤلاء المشركون شركاء لله في الحقيقة، فليس لله شريك أبدا، وليس للشركاء المزعومين(11/216)
قدرة على شيء من تدبير أمور العباد ودفع الضر عنهم، بل إنهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم، ولا يملكون جلب أي نفع لهم.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.. أي ما يتبع المشركون في الحقيقة فيما يزعمون إلا الظن الفاسد والخطأ الفادح، وما هم في هذا الظن إلا متخرصون كاذبون فيما ينسبون إلى الله، أو حازرون مقدّرون أن تكون شركاء تقديرا باطلا.
فهذه الجمل الثلاث بعد بيان استقلال الله بملكية ما في السموات وما في الأرض مؤكدات متوالية، تؤكد سلب صلاحية الملائكة والأصنام والمسيح وغيرهم عن اتخاذها آلهة، ولا اتخاذها وسطاء أو شفعاء أو وسائل لله، كما هو شأن حكام الدنيا والملوك الظالمين الذين لا يصل إليهم إلا الوسطاء، فجميع من في السموات والأرض مملوك لله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] والمملوك لا شأن له أمام المالك.
ثم استدل تعالى على كون العزة لله جميعا وانعدام أي دور للشركاء مع الله في الخلق والتقدير والتصرف والتدبير بقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ.. أي إنه تعالى قسم الزمان قسمين وهما الليل والنهار، وجعل الليل للاستراحة والسكن والاطمئنان فيه بعد عناء النهار والاشتغال فيه، وجعل النهار مضيئا للمعاش والسعي والأسفار وقضاء المصالح، كقوله تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ 78/ 9- 11] وقوله سبحانه:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء 17/ 12] .
ففي هذا تنبيه على كمال قدرته تعالى، وعظيم نعمته المتوحد هو بهما، ليدلّهم على تفرده باستحقاق العبادة، وأن يوحدوه بها، بأنه أظلم الليل للسكن فيه من متاعب المعاش في النهار، وأضاء النهار لإبصار مطالب الأرزاق(11/217)
والمكاسب. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. أي إن في تخليق الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما لدلائل واضحة دالة على أن الإله المعبود بحق هو خالق الليل والنهار، لقوم يسمعون هذه الحجج والأدلة، فيعتبرون بها ويتدبرون ما يسمعون، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدّرها ومسيّرها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن العزة لله جميعا، أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده، فهو ناصر رسوله ومعينه ومانعة من أذى الأعداء.
ولا يعارض هذا قوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فإن كل عزة بالله، فهي كلها لله، قال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات 37/ 180] .
2- إن الله هو السميع لأقوال العباد وأصواتهم، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم.
3- إن الله مالك من في السموات ومن في الأرض، أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء، فليس للمحكوم والمملوك نفاذ أو تدخل في أي حكم، أو قدرة على التصرف في الأملاك، وهذا دليل سلب الألوهية عما سوى الله.
4- إن المشركين لا يتبعون في عبادتهم شركاء على الحقيقة، بل يظنون ظنا باطلا أنها تشفع أو تنفع، وما هم في ظنهم إلا يحدسون يخمنون ويكذبون فيما ينسبونه إلى الله.
5- إن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار، وإحكام تعاقبهما بنظام دقيق، لا عبادة من لا يقدر على شيء.(11/218)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
6- إن لله الحكمة البالغة في إيجاد الليل والنهار، فالله جعل الليل لمنافع عديدة منها السكون (أي الهدوء عن الاضطراب) مع الأزواج والأولاد، وزوال التعب والكلال الناجم عن الانهماك في الأعمال. وجعل النهار لفوائد جليلة منها إبصار موارد العيش، والاهتداء به إلى الحوائج، والأنس مع الناس.
7- إن في خلق السموات والأرض وفي خلق الليل والنهار لعلامات ودلالات قاطعات واضحات على استحقاق الخالق للعبادة والتفرد بها وحده، ولكن لا يتعظ بهذا إلا القوم الذين يسمعون سماع تدبر واعتبار واتعاظ، وذلك هو جوهر فائدة خلق السمع والبصر.
الإشراك بنسبة الولد لله تعالى
[سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
الإعراب:
بِهذا متعلق ب سُلْطانٍ أو نعت له، أو ب عِنْدَكُمْ، كأنه قيل: إن عندكم في هذا سلطان.
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف، أي افتراؤهم أو تقلبهم متاع في الدنيا، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم متاع أو تمتع في الدنيا.(11/219)
البلاغة:
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ استفهام يراد به التوبيخ والتقريع على اختلافهم وجهلهم.
المفردات اللغوية:
قالُوا أي اليهود والنصارى والمشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي تبناه، والولد يستعمل مفردا وجمعا سُبْحانَهُ رد الله عليهم بقوله: سُبْحانَهُ أي تنزيها وتقديسا له عن التبني، فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ عن كل أحد، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه، وهو علة لتنزيهه، فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، وهو تقرير لغناه إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم من حجة وبرهان على هذا الذي تقولونه أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ توبيخ وتقريع على قولهم.
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة الولد وإضافة الشريك إليه لا يُفْلِحُونَ لا يسعدون، فلا ينجون من النار، ولا يفوزون بالجنة مَتاعٌ أي لهم متاع قليل فِي الدُّنْيا يتمتعون به طوال حياتهم ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ثُمَّ نُذِيقُهُمُ بعد الموت بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى أفعال المشركين باتخاذ الأوثان والأصنام شفعاء، وردّ عليهم ردا مقنعا، ذكر هنا نوعا آخر من أباطيلهم وهو نسبة الولد إلى الله تعالى، وهذا يشمل المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله، واليهود القائلين بأن عزيزا ابن الله، والنصارى القائلين بأن المسيح عيسى ابن الله.
التفسير والبيان:
موضوع الآيات: الإنكار على المشركين واليهود والنصارى الذي ادعوا أن الله تعالى ولدا.(11/220)
والمعنى: وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله.
سُبْحانَهُ تنزه وتقدس الله عن التبني، والمراد التعجب من كلامهم الباطل، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور له الولد، والله لا والد له ولا ولد.
هُوَ الْغَنِيُّ علة لتنزيهه، أي أن الله هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه، ولا حاجة له للولد، وإن اتخاذ الولد ناشئ عن الحاجة.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ.. فكيف يكون له ولد مما خلق؟ وكل شيء مملوك له وعبد له، وهو خالق السموات والأرضين وكل ما فيهما، لا يشبهه أحد من خلقه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل الكل محتاج إليه، وكل ما في السموات وما في الأرض له ملكا وخلقا وعبيدا، وتصريفا، لا يشاركه في ذلك أحد، فكيف بالموجد الخالق واهب الحياة وحوائجها يتخذ ولدا موجودا مخلوقا موهوبا له، محتاجا إليه في كل شيء مادي كالرزق ومعنوي كالإعانة والنصرة والإعزاز؟!.
إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ليس عندكم دليل على ادعائكم وما تقولونه من الكذب والبهتان.
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أتقولون على الله قولا لا حقيقة له، وتنسبون إليه تعالى مالا يصح عقلا وواقعا نسبته إليه. وهذا استفهام يراد به التوبيخ والتقريع، أو الإنكار والوعيد الأكيد، والتهديد الشديد. قال البيضاوي: وفي هذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد لها من دليل قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا(11/221)
لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً
[مريم 19/ 88- 95] .
ثم توعد الله تعالى الكاذبين عليه المفترين، ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون، مما يدل على أن هذا المذهب افتراء على الله ونسبة لما لا يليق به إليه: قُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ ... أي قل لهم أيها الرسول: إن الذين يختلقون على الله الكذب بنسبة الشريك إليه، أو باتخاذ الولد، لا يفلحون ولا يفوزون أبدا، في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فيستدرجهم ويمتعهم قليلا، وأما في الآخرة فيضطرهم إلى عذاب غليظ شديد، كما قال تعالى:
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أي لهم تمتع في الدنيا قليل لمدة قصيرة ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثم بعد الموت يرجعون إلى ربهم بالبعث يوم القيامة، وما فيه من أهوال الحشر والحساب ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي ثم يلقون الشقاء المؤبد ويعذبون في نار جهنم العذاب الموجع المؤلم الغليظ أي الشديد، بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور.
وفي هذا دلالة واضحة على الخسارة المحققة للكافرين، فإن ما يتوهمون أنه نجاح في الدنيا بالحصول على المنافع المادية والمعنوية، لا قيمة له أصلا في مقابلة ما فاتهم في الآخرة من ثواب عظيم ونعيم مقيم في جنان الخلد، فإن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أمرين: الأول- بطلان القول بنسبة الولد لله تعالى بالأدلة القاهرة، وبانعدام الدليل على صحة هذا القول. والثاني- ظهور أن هذا المذهب افتراء على الله ونسبة لما لا يليق به إليه.(11/222)
أما أدلة بطلان القول بنسبة الولد لله تعالى فهي كما ذكرت الآية الأولى خمسة:
1- سبحانه: وهو تنزيه وتقديس الله تعالى عن الصاحبة والأولاد وعن الشركاء والأنداد، وتعجب شديد من هذه الكلمة الحمقاء لأنه تعالى ليس محتاجا إلى غيره، وإنما هو مصدر قضاء الحوائج.
2- هو الغني: الله هو الغني غنى مطلقا عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه.
وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له أب وأم، ومن تقدس عن الوالدين تقدس عن الأولاد. وامتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه، والولد عبارة عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان. وامتنع أن يكون موصوفا بالشهوة واللذة، فلا صاحبة له ولا ولد. وامتنع من اتخاذ الولد، لعدم احتياجه إلى إعانته على المصالح الحاصلة والمتوقعة.
وكل من كان غنيا كان قديما أزليا باقيا سرمديا، فلا يطرأ عليه الانقراض والانقضاء، والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي وينقرض.
وكل من كان غنيا مطلقا كان واجب الوجود لذاته، فلو كان له ولد، لكان ولده مساويا له، أي يصبح واجب الوجود أيضا، وإذا اتصف بهذه الصفة امتنع تولده من غيره، وإذا لم يكن متولدا من غيره لم يكن ولدا.
فثبت أن كونه تعالى غنيا من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له «1» .
3- له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فكيف يكون له ولد مما خلق، وكل شيء مملوك له، عبد له؟!.
__________
(1) تفسير الرازي: 17/ 132 وما بعدها.(11/223)
4- إن عندكم من سلطان بهذا، أي ليس عندكم من حجة ولا دليل على صحة قولكم، والدعوى العارية من الدليل باطلة بطلانا مطلقا. «1»
5- أتقولون على الله مالا تعلمون؟ من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة، والله تعالى لا يجانس شيئا، ولا يشابه شيئا. وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا لما سبق إنكار شديد ووعيد أكيد وتقريع وتوبيخ على من تجرأ بنسبة الولد إلى الله تعالى.
وأما ظهور كون هذا المذهب افتراء وكذبا على الله، فواضح مترتب على بطلان الادعاء بثبوت الولد لله تعالى.
وقد دل قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ على أن إثبات العقيدة لا سيما فيما يتعلق بإثبات الله الصانع يتطلب دليلا قطعيا يقينا، ولا يقبل فيه التقليد والوراثة ومحاكاة عقائد المسلمين المؤمنين بحق. ودل قوله لا يُفْلِحُونَ على إفلاس الكافر وخسارته المحققة يوم القيامة وعدم نجاته من العذاب.
كذلك دل قوله تعالى: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ... الآية على أن التمتع في الدنيا قليل وحقير جدا بالنسبة لنعيم الآخرة، وأن مرجع جميع الخلائق إلى الله تعالى، وأن الكفار والمشركين معذبون عذابا شديدا بسبب كفرهم.
__________
(1) تفسير الرازي: 17/ 132 وما بعدها.(11/224)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قصة نوح عليه السّلام مع قومه
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
الإعراب:
إِذْ قالَ بدل مما قبله.
وَشُرَكاءَكُمْ منصوب لوجهين: أحدهما- لأنه مفعول معه، أي، فأجمعوا أمركم مع شركائكم. والثاني- بتقدير فعل، أي فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم. وقيل: التقدير: وادعوا شركاءكم. والنصب على تقدير الفعل مثل قول الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
وتقديره: وكحلن العيون لأن العيون لا تزجج.
وقرئ: وشركاؤكم بالرفع عطفا على ضمير فَأَجْمِعُوا المرفوع، لوجود الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو أَمْرَكُمْ لأن الفصل يتنزل منزلة التوكيد، كقوله تعالى:
مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يونس 10/ 28] .
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً اسم يكن وخبرها.
البلاغة:
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ تقديم متعلّق تَوَكَّلْتُ لإفادة الحصر، أي توكلت على الله لا على غيره.(11/225)
لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً استعارة، عبر عن الالتباس والستر بالغمة، أي لا يكن أمركم مبهما، فيكون كالغمة.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ يا محمد عَلَيْهِمْ أي على كفار مكة نَبَأَ نُوحٍ خبره مع قومه كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم وشق عليكم مَقامِي قيامي أو إقامتي ومكثي فيكم. وَتَذْكِيرِي وعظي إياكم بآيات الله تَوَكَّلْتُ وثقت به فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه عزما لا تردد فيه أي اعزموا على أمر تفعلونه بي وَشُرَكاءَكُمْ أي مع شركائكم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ في قصدي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا خفيا، بل أظهروه وجاهروني به، والغمة: الستر واللبس ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أدّوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون بي، ونفذوه بي وَلا تُنْظِرُونِ تمهلوني ولا تؤخروني، فإني لست مباليا بكم.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن تذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي فما طلبت منكم ثوابا عليه يوجب تولّيكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله إِنْ أَجْرِيَ أي ما ثوابي على الدعوة والتذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي فهو يثيبني به، سواء آمنتم أو توليتم مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره، ولا أرجو غيره.
فَكَذَّبُوهُ فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة، وبيّن أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم، فحقت عليهم كلمة العذاب فَنَجَّيْناهُ من الغرق وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ السفينة، وكانوا ثمانين.
وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي وجعلنا من معه يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها، وهي جمع خليفة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من إهلاكهم، فكذلك نفعل بمن كذّب. وهذا تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذّب الرسول صلى الله عليه وسلّم وتسلية له.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة الدالة على الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة، وفنّد شبهات المشركين وكشف عنادهم لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتكذيبهم له، ذكر هنا بعض قصص الأنبياء، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم ليتأسى بهم، فيهون عليه ما يتعرض له من الشدائد والمكائد، وتذكيرا للمشركين بمن سبقهم في مثل فعلهم، وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسل عليهم السلام.(11/226)
وذكر تعالى هنا ثلاث قصص: قصة نوح مع قومه، وقصة موسى وهارون مع فرعون، وقصة يونس مع قومه، وفي كل قصة عبرة وعظة. ولقد ذكرت أضواء من التاريخ على القصتين الأوليين، وسأذكر ما يناسب قصة يونس عليه السلام.
التفسير والبيان:
وأخبر أيها الرسول واقصص على كفار مكة الذين يخالفونك ويكذبونك خبر نوح مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله، ودمر هم بالغرق أجمعين عن آخرهم، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك.
اذكر لهم حين قال نوح لقومه: يا قوم إن كان قد شق عليكم وعظم قيامي معكم للدعوة إلى عبادة ربكم، وتذكيري ووعظي إياكم بآيات الله أي بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وعبادته، فإني توكلت على الله وحده ووثقت به، فلا أبالي ولا أكف عن دعوتي ورسالتي، سواء عظم عليكم أو لا.
فأجمعوا أمركم، أي اعزموا على ما تريدون من أمر تفعلونه بي، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله من صنم ووثن.
ولا تجعلوا أمركم الذي تعتزمونه خفيا ملتبسا عليكم، بل أظهروه لي، وتبصروا فيه، وافصلوا حالكم معي.
فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلى ذلك الأمر ونفّذوه بالفعل، ولا تؤخروني ساعة واحدة عن تنفيذ هذا القضاء، فمهما قدرتم فافعلوا، فإني لا أبالي بكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء. وهذا الموقف الواثق بالله وبنصره لنوح أبي البشر الثاني مشابه لموقف هود عليه السّلام إذ قال لقومه:
إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ الآية [هود 11/ 54- 56] .(11/227)
وهكذا يتبين الفرق الجلي بين موقف المؤمن الراسخ الإيمان الذي لا يعرف التردد، المعتصم بالله وبوعده وثقته به، وبين موقف الكافر الضعيف المتردد الذي لا ملاذ له، إلا بالقوة الوهمية الخاثرة بل المنعدمة للشركاء والآلهة المزعومة.
فإن توليتم أي أعرضتم عن تذكيري وكذبتم ولم تؤمنوا برسالتي ولم تطيعوني فيما أدعوكم إليه من الدين الحق، فإني لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا: أجرا أو جزاء، إن ثواب عملي وجزائي على الله ربي الذي أرسلني إليكم، وأمرني أن أكون من المسلمين، أي المنقادين الممتثلين لما أمرت به من الاستسلام لكل ما يصل إلى من أجل هذه الدعوة، والإسلام والخضوع لله عز وجل، والإسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم «1» ، وإن تنوعت شرائعهم التفصيلية كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] فأصولهم واحدة، ومصدرهم واحد،
قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد:
__________
(1) فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ، يا بَنِيَّ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة 2/ 131- 132] . وقال يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف 12/ 101] . وقال موسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس 10/ 84] وقال السحرة: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف 7/ 126] وقالت بلقيس: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
[النمل 27/ 44] . وقال تعالى واصفا رسالة الأنبياء: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة 5/ 44] وقال تعالى عن الحوار بين:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، قالُوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [المائدة 5/ 111] وقال الرسول وسيد البشر صلى الله عليه وسلّم امتثالا لقول الله: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام 6/ 163] أي من هذه الأمة.(11/228)
«الأنبياء أولاد علّات»
أي أننا أولاد من أمهات شتى والأب واحد، وديننا وإيماننا واحد: وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا.
فكذبوه، أي فأصروا على تكذيبه، فنجيناه هو ومن آمن معه في الفلك أي السفينة التي صنعها بأمرنا.
وجعلناهم خلائف، أي وجعلنا الناجين مع نوح في السفينة خلائف أولئك الهالكين، في عمارة الأرض وسكناها من بعدهم، وأغرقنا بالطوفان الذين كذبوا نوحا، فانظر أيها الرسول كيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا المكذبين المنذرين، الذين أنذرهم رسولهم بالعذاب قبل وقوعه، فلم يرتدعوا، وأصروا على تكذيبه، وهذه عاقبة كل المصرّين على تكذيب الأنبياء، وعاقبة المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- العبرة من قصة نوح: ذكر الله تعالى في هذه السورة قصة نوح عليه السلام لفائدتين: الأولى- أن تصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وهجر الجحود بالتوحيد والإيمان بالنبوة لأن الله عجل هلاك قوم نوح بالغرق لما أصروا على الكفر والجحود.
والثانية- أن الإنذار بالعذاب لا بد أن يتحقق، فقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول صلى الله عليه وسلّم لهم، ويقولون له: كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فذكر الله تعالى قصة نوح ليبين لهم أن ما أنذر به نوح قومه وقع في نهاية الأمر، كما أخبر، فكذلك يقع كل عذاب أنذركم به.
2- النظر في الموقف والمقارنة بينها: موقف نوح وموقف قومه، فموقف نوح عليه السّلام كان موقف المؤمن الجريء الجسور الذي لا يخشى الصعاب، ولا يعرف التردد، ولا يهاب الموت في سبيل دعوته، ويتحدى الجمع الغفير فيما(11/229)
يريدون أن يعملوه معه. وموقف قومه كان موقف الهيّاب الضعيف المتخاذل المتردد الذي لم يستطع اتخاذ قرار حاسم في شأن نوح، الذي كانت هيبة الإيمان تحميه وتعصمه من مكائدهم وشرورهم.
3- كلمات نوح مع أولئك الكفار: كانت كلمات نوح مكونة من جملة شرط وجزاء. أما الشرط ففيه أمران: الأول- إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي أي ثقل وشق بسبب مكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وبسبب ما ألفه الكفار من مذاهب فاسدة وعقائد ومناهج باطلة، والغالب أن من ألف طريقة في الدين يثقل عليه تغييرها.
والأمر الثاني- تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ لأن من شغف بلذات الدنيا كان شديد النفرة من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات.
وأما الجزاء على الشرط ففيه أمور خمسة:
الأول- فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي إن شدة بغضكم لي التي تحملكم على إيذائي تجعلني لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله، وهذا منه توكل على الله في دفع شر هذه الساعة، إن كان متوكلا أبدا على الله تعالى.
الثاني- فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ أي اعزموا على الأمر الذي تريدون إيقاعه بي، وابذلوا جهودكم في الكيد لي والمكر بي، مع شركائكم الأوثان التي تسمونها آلهة، وفي هذا تحد شديد لمخططاتهم ومكائدهم.
الثالث- ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم، وفي هذا استعداد لمواجهة قراراتهم بصراحة وجرأة، وصرامة وصبر.
الرابع- ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي امضوا إلى بمكروهكم وما توعدونني به، وهذا(11/230)
دليل الإباء وعدم المبالاة بما ينفذون من قرار.
الخامس- وَلا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه، وهذا غاية الشجاعة والبأس، فإنه لا يحتاج إلى إنذار وإمهال. وهو أيضا من دلائل النبوات، فإنه أعلمهم أنهم لا يصلون إليه بسوء لأن الله عاصم أنبياءه.
4- النبي في دعوته لا يطلب أجرا من أحد على نصحه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ قال المفسرون: هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالا على دعوتهم إلى دين الله تعالى. ومتى كان الإنسان خاليا من الطمع كان قوله أقوى تأثيرا في القلب. وهكذا كانت سيرة جميع الأنبياء.
5- الثبات على المبدأ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيه قولان:
الأول- أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام.
والثاني- أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلى لأجل هذه الدعوة. قال الرازي: وهذا الوجه أليق بهذا الموضع، لانسجامه مع قوله السابق: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ.
6- عاقبة القصة بين نوح وقومه: ترتب على هذا النقاش الحاد بين نوح وقومه الكفار نتائج حاسمة ومهمة جدا.
أما بالنسبة لنوح وأصحابه فأمران: أنه تعالى نجاهم من الكفار، وأنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق.
وأما بالنسبة للكفار: فهو أنه تعالى أغرقهم بالطوفان وأهلكهم. وهذه القصة زحر للمخالفين من حيث يخافون آن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح،(11/231)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
ودعوة المؤمنين للثبات على الإيمان.
وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا عرضت على سبيل الحكاية تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ. وتفاصيل هذه القصة ذكرت في سور أخرى.
عادة الأمم في تكذيب الأنبياء
[سورة يونس (10) : آية 74]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
الإعراب:
كَذَّبُوا بِهِ الضمير يعود على قوم نوح، أي فما كان قوم الأنبياء الذين أرسلوا بعد نوح ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، بل كذبوا كتكذيب قوم نوح.
المفردات اللغوية:
مِنْ بَعْدِهِ أي بعد نوح. رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كإبراهيم وهود وصالح فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات المثبتة لدعواهم مِنْ قَبْلُ أي قبل بعث الرسل إليهم، أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل.
ويجوز أن يكون ذلك حكاية لما حدث في عهد نوح عليه السّلام. كَذلِكَ نَطْبَعُ نختم والمراد أن القلوب تصبح غير قابلة لغير ما رسخ فيها عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي كما طبعنا على قلوب أولئك نطبع على قلوب المعتدين، أي المتجاوزين حدود الحق والعدل فلا تقبل الإيمان، بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف. قال البيضاوي: وهذا دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.(11/232)
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى قصة نوح مع قومه والعبرة منها، ذكر عبرة أخرى من تاريخ الأقوام مع أنبيائهم، فإنهم لما كذبوا عوقبوا، وكما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، كذلك يطبع الله على قلوب أمثالهم. فما على أهل مكة وغيرهم إلا الاتعاظ بذلك، وتجنب أسباب تلك العاقبة، من الكفر والتكذيب، وإلا أدى بهم الكفر إلى الحيلولة عن الإيمان وما يتبعه من السعادة.
التفسير والبيان:
ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم مثل هود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب عليهم السلام، بالبينات، أي بالمعجزات القاهرة والأدلة والبراهين العقلية والحسية على صدق ما جاءوهم به.
فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي فما كانت تلك الأقوام لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، وكما كذب به المتقدمون عنهم من قبل ممن كانوا أمثالهم في سبب الكفر.
والمراد بقوله مِنْ قَبْلُ ما كان إيمانهم إلا ممتنعا كالمحال لتصميمهم على الكفر قبل بعثة الرسل، وتكذيبهم كتكذيب قوم نوح، وكأنه لم يبعث إليهم أحد. وعبارة المفسرين في تفسير القبلية متقاربة، فقال بعضهم: قبل بعثة الرسل، وقال آخرون: بما كذب به قوم نوح من قبل.
كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي كما نختم على قلوب هؤلاء فلا يؤمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا نختم على قلوب من أشبههم في العناد ممن بعدهم من المعتدين كقومك، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.(11/233)
قال الزمخشري: والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن الخذلان يتبعه، ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
وبعبارة أخرى: المراد بالطبع عدم قبول القلوب شيئا من نور الهداية والمعرفة لأنهم تجاوزوا كل حد في الكفر والتكذيب، فلا يؤمنوا.
وهذا إنذار شديد لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء، فإنه إذا كان قد أصاب المكذبين السابقين العذاب والنكال، فما ظن هؤلاء وقد فعلوا مثلهم وأكبر مما فعله من تقدمهم؟!.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
1- تكذيب الأنبياء عادة شائعة بين الناس، لتأثرهم بما كانوا عليه قبل بعثة الرسل من تصميم على الكفر ورسوخ فيه.
2- الطبع أو الختم على القلوب معناه التعبير عن العناد واللجاج والخذلان.
3- لقد أهلك الله الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن منهم.
4- احتج أهل السنة بالآية على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان، بسبب عناده وتصميمه على الكفر وتكذيبه الرسل.
5- في الآية دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد، أي أن الله يخلق للإنسان القدرة، والعبد يستخدمها فيما يختاره من خير أو شر.(11/234)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
قصة موسى عليه السّلام مع فرعون
- 1- الحوار بين موسى وفرعون
[سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
المفردات اللغوية:
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد هؤلاء الرّسل. وَمَلَائِهِ قومه أو أشراف القوم.
بِآياتِنا الآيات التّسع. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها. لَسِحْرٌ مُبِينٌ بيّن ظاهر.
أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه لسّحر، فحذف المحكي بالقول لدلالة ما قبله عليه.
أَسِحْرٌ هذا هو استئناف بإنكار ما قالوه. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ من تمام كلام موسى، للدّلالة على أنه ليس بسحر، فإنه لو كان سحرا لاضمحلّ، ولم يبطل سحر السّحرة، فهذا دليل من موسى عليه السّلام على أنه ليس بسحر، وإنما السّحر تخييل وتمويه.
لِتَلْفِتَنا لتردّنا وتصرفنا عنه، واللفت والفتل مترادفان. وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ الملك فيها، سمي بها لاتّصاف الملوك بالكبر والتّكبر على الناس باستتباعهم. وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فيما جئتنا به.
المناسبة:
هذه هي القصّة الثانية المذكورة في سورة يونس، وهي قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، وقد تكرر ذكرها في القرآن للدّلالة على أنّ قوة الحقّ وصوت(11/235)
النبّوة يعلوان الملك والحكم والسّلطان، ويقوضان العروش، ويزيلان دعائم الباطل. وهذا هو الفصل الأول من القصة وهو الحوار بين موسى وفرعون.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الأول من قصة موسى عليه السّلام.
والمعنى: ثم بعثنا من بعد تلك الرّسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه، أما بقية الناس فهم تبع لهم في الكفر والإيمان، ولذا لم يذكروا.
بعثناهما بآياتنا المذكورة في سورة الأعراف «1» وغيرها، فاستكبروا عن اتّباع الحقّ والانقياد له، وعن الإيمان بموسى وهارون، وكانوا قوما مجرمين أي معتادي الاجرام كفارا ذوي آثام عظام، راسخين في الجريمة والظّلم والإفساد في الأرض.
وأعظم الكبر: أن يتهاون الناس برسالة ربّهم بعد قيام الأدلّة على صحّتها.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ.. أي فلما جاءهم موسى بالأدلّة الدّالة على الربوبية والألوهية الحقّة، قالوا عنادا وعتوا وحبّا للشّهوات: إن هذا لسحر واضح، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بإنّ، واسم الإشارة، واللام في الخبر، والجملة الاسمية. وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] .
قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ.. قال لهم موسى منكرا عليهم وموبّخا لهم: أتقولون للحقّ الواضح البعيد كلّ البعد عن السّحر الباطل: إنه سحر،
__________
(1) وهي السّنون (أعوام الجدب والقحط) ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثّمرات، والطّوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ.. [الأعراف 7/ 133] . [.....](11/236)
عجبا لكم أسحر هذا؟! والحال أنكم تعرفون أن السحر تخييل وتمويه، ولو كان هذا سحرا لاضمحلّ، ولم يبطل سحر السّحرة، ولا يفوز السّاحرون في ساحات الحقائق، وقضايا الدّين، وأصول الحياة، وإقامة الممالك لأن السّحر شعوذة وخفّة يد لا تغير من الحقيقة شيئا. وقولهم: هذا سحر محذوف، والاستفهام بقوله: أتقولون؟ إنكار، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله، فقال: أَسِحْرٌ هذا؟! وحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه.
فأجابوه إجابة الضعيف المفلس الحجة الذي لا يجد متمسكا له إلا التقليد للآباء والأجداد ووراثة العادات والطقوس الدّينية، فقالوا: قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا.. أي أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين آبائنا وأجدادنا، ولتكون لكما أي لك ولهارون أخيك الكبرياء في الأرض، أي الرّياسة الدّينية والدّنيوية أو العظمة والملك والسّلطان، وما نحن لكما بمصدقين لكما فيما تدعيانه من دين جديد يغاير دين الأسلاف والآباء، وهذا سبب تكذيب الرّسل دائما.
وقد خاطبوا موسى أولا لأنه كان هو الدّاعي لهم للإيمان بما جاء به، والإقرار بتوحيد الإله، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان. ثم أشركوا معه أخاه في الإفادة من ثمرات الدّعوة وهي النّفوذ والسّلطة والعظمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يختلف شأن فرعون وقومه عمن قبله من الأمم، في تكذيب الأنبياء، وعناد الدّعاة إلى الإيمان بالله، والتّخلص من عبادة الأصنام.
وتمثل هذه القصة شدّة العناد بسبب عظمة السلطان والملك والجاه، أمام شخصين ضعيفين موسى وهارون، وكان موسى قد تربى في بيت فرعون.
ولكن الضعف الشّخصي يزول أمام قوة الاعتزاز بالنّبوة والإيمان، فبالرغم(11/237)
من هذا الضعف بادر موسى وهارون إلى دعوة فرعون وقومه إلى الإيمان بالله تعالى، والتّرفع عن التّأله وتعظيم ما دون الله.
وأيد الله موسى بآيات تسع سلّطها على أهل مصر، كالقحط المتوالي، ونقص الأنفس والأموال والثّمرات بسبب الأمراض والجوع، والطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم، ومع ذلك لم يؤمن فرعون وقومه، ووصفوا الآيات والمعجزات بالسّحر.
فعجب موسى منهم ووبّخهم منكرا عليهم وصف المعجزة بالسّحر، وناقشهم ببيان الفرق الواضح بين المعجزة والسّحر، فلم يجدوا جوابا مقنعا إلا الارتماء في أحضان التّقليد واتّباع دين الآباء والأجداد، والتّرفع عن الإيمان، واتّهموا موسى وأخاه بأنهما يستهدفان من وراء دعوتهما الوصول إلى السلطة والملك في أرض مصر، ولم يدروا بأن الإيمان بالله وبالأنبياء أسمى وأجل وأقدس من النزعات الشخصية الشهوانية، وحبّ السّلطة والتّسلط، فهذه مظاهر فانية، وأثر الإيمان خالد باق.
والخلاصة:
إن قوم فرعون عللوا عدم قبول دعوة موسى بأمرين:
الأول- التّمسك بالتّقليد: وهو معنى قوله تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فإنهم تمسكوا بالتّقليد، ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار.
والثاني- الاتّهام بالحرص على طلب الدّنيا والوصول إلى الرّياسة: وهو معنى قوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي يكون لكما الملك والعزّ في أرض مصر، والخطاب هنا لموسى وهارون، ولما ذكروا هذين السّببين صرحوا بالحكم وقالوا: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ.(11/238)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
- 2- إحضار فرعون السّحرة لمقاومة دعوة موسى
[سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
الإعراب:
ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ فَلَمَّا: إما اسم موصول بمعنى الذي، وإما استفهامية، فإذا كانت اسما موصولا كانت مع الصّلة في موضع رفع بالابتداء، والسِّحْرُ: خبره. وإذا كانت استفهاما كانت أيضا مبتدأ، وجِئْتُمْ بِهِ الخبر، والسِّحْرُ خبر مبتدأ مقدر، تقديره: هو السحر.
ويجوز أن تكون فَلَمَّا في موضع نصب على تقدير فعل بعد فَلَمَّا وتقديره: أي شيء أتيتم أو جئتم به، والسِّحْرُ خبر مبتدأ مقدر أي هو السحر.
ولا يجوز أن تكون فَلَمَّا في موضع نصب إذا كانت بمعنى الذي لأن ما بعدها صلتها، والصّلة لا تعمل في الاسم الموصول، ولا تكون تفسيرا للعامل الذي تعمل فيه.
البلاغة:
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
ساحِرٍ عَلِيمٍ حاذق في السحر، فائق فيه. فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم. ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السّحر، لا ما سمّاه فرعون وقومه سحرا وهو المعجزات. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه أو سيظهر بطلانه. إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يقويه.
وفيه دليل على أن السّحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويظهره.
بِكَلِماتِهِ بأوامره وقضاياه. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.(11/239)
المناسبة:
هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى مع فرعون، فإن فرعون أراد الاستعانة بالسّحرة لمعارضة معجزة موسى ومقاومة دعوته، فأمر بإحضار حذاق السّحرة ليظهر للناس أن ما أتى به موسى نوع من السّحر، فيصد الناس عن اتّباعه، باعتبار أنه ساحر.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى عليه السّلام حيث استعان فرعون عليه بالسحرة.
ويلاحظ أنه ذكرت قصة السّحرة مع موسى في سورة الأعراف، كما تقدّم، وفي هذه السّورة، وفي سورة طه وفي الشّعراء لأن فرعون أراد التمويه على الناس وصدّهم عن اتّباع موسى ومعارضة ما جاء به عليه السّلام من الحقّ المبين، من طريق زخارف السّحرة والمشعوذين، فانعكس عليه الأمر، وصدم مرامه، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف 7/ 120- 122] .
ومعنى الآيات هنا: قال فرعون لحاشيته أو ملئه لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنها سحر فائق حاذق في علم السحر، لظنّهم ألا فرق بين المعجزة الإلهية والسّحر. فأتوا بهم، فلما جاء السّحرة وتجمّعوا، قال لهم موسى بعد أن خيّروه بين أن يلقي ما عنده أولا، أو يلقوا هم ما عندهم، كما ذكر في سورة الأعراف: بل ألقوا ما أنتم ملقون من فنون السّحر، ليظهر الحقّ ويبطل الباطل. فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا، ويستنفدوا ما لديهم من طاقات وخبرات، ثم يأتي بالحق بعده، فيدمغ باطلهم، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا:(11/240)
لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه 20/ 67- 69] .
فَلَمَّا أَلْقَوْا.. أي فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصي قال موسى واثقا غير مبال بهم: ما أتيتم به هو السّحر بعينه، لا ما سمّاه فرعون سحرا مما جئت به من الآيات والمعجزات من عند الله. وهذا السّحر الذي أظهر تموه إن الله سيمحقه وسيظهر بطلانه قطعا أمام الناس، بما يفوقه من المعجزة التي هي آية خارقة للعادة تفوق السّحر وأشكاله المختلفة.
ثم علل ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يثبّته ولا يقويه، ولا يجعله صالحا للبقاء، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي ويريد الله أن يؤيّد الحقّ ويظهره، ويثبته ويقويه، وينصره على الباطل بأوامره ووعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي ولو كره المجرمون الظالمون كفرعون وملئه ذلك، أي نصر الحقّ على الباطل. وفي آية أخرى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف 7/ 118] ، وقوله تعالى: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه 20/ 69] .
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مبارزة بين الحقّ والباطل، بين المعجزة والسّحر، فالمعجزة آية إلهية خارقة للعادة يؤيّد الله بها صدق الأنبياء لإقناع الناس وتصديق دعوتهم. وأمّا السّحر فهو إفساد وتمويه وتزييف لا حقيقة له، فلم يستطع الصمود أمام الشيء الحقيقي الثابت الذي لا تمويه فيه.
وهذا المعنى هو ما تضمنته آية: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يضرّ أحدا كيد ساحر. لذا قال العلماء: لا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.(11/241)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
وكان في خطة موسى عليه السّلام بأن يبدأ السّحرة أولا بالإلقاء براعة وثقة بما لديه من المعجزة وعدم اكتراث بالسّحرة، فإنّ كل ما فعلوه من لفت أنظار الناس وإخافتهم حينما ألقوا حبالهم وعصيهم، محق وأبطل بإلقاء العصا التي انقلبت ثعبانا عظيما التهم جميع الحبال والعصي، وصدق فيما أعلنه قبل المبارزة:
ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ.
وحينئذ أدرك السّحرة خسارتهم، وعرفوا أنّ فعل موسى ليس من قبيل السّحر، فهم أعرف الناس بفنونه، فلم يعاندوا، وشرح الله صدورهم للإيمان، واستيقظ فيهم عنصر العقل والتّفكير، ولم يرهبهم تهديد فرعون، فأعلنوا إيمانهم بربّ موسى وهارون، فأسقط في أيدي فرعون وملئه، وخابوا وخسروا، واستوجبوا نار جهنم بإصرارهم على الكفر.
والخلاصة المستنبطة من هذه الآية: أن السّحر تمويه وزيف باطل، والله تعالى يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون، أي الفجرة الكافرون.
- 3- إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى
[سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 87]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)(11/242)
الإعراب:
مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ جمع الضّمير في ملئهم لخمسة أوجه:
الأول- جمع الضمير على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، فيقول الواحد منهم: نحن فعلنا، ومنه قوله: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، وكان فرعون جبارا فأخبر عنه بفعل الجميع.
الثاني- جمع الضمير على أن المراد بفرعون آله، كما يقال: ربيعة ومضر، ويكون في الكلام حذف مضاف، تقديره: على خوف من آل فرعون.
الثالث- جمع لأنه ذو أصحاب يأتمرون به.
الرابع- أن جمع الضمير يعود على الذّرية التي تقدم ذكرها.
الخامس- أنه يعود على القوم الذين تقدم ذكرهم.
أَنْ يَفْتِنَهُمْ بدل مجرور من فِرْعَوْنَ بدل اشتمال.
أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً اللام مقحمة، وجعل تبوأا متعديا مثل بوّأ، يقال: بوّأته وتبوّأته، كقولهم: علقته وتعلقته.
المفردات اللغوية:
ذُرِّيَّةٌ طائفة من شبّانهم، والذّرية في أصل اللغة: صغار الأولاد، وتستعمل عرفا في الصّغار والكبار. عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي مع خوف منهم، والضّمير لفرعون أَنْ يَفْتِنَهُمْ الفتنة في اللغة: الاختبار والابتلاء بالشّدائد، والمراد هنا التّعذيب، أي أن يعذّبهم فرعون ويصرفهم بالتّعذيب عن دينهم. وإفراده بالضّمير للدّلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه. إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ متكبّر قوي فتّاك. فِي الْأَرْضِ أرض مصر. وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحدّ بادّعاء الرّبوبية واسترقاق أسباط الأنبياء.
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فثقوا به واعتمدوا عليه. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مستسلمين لقضاء الله، مخلصين له، مذعنين لأمره. فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً موضع فتنة. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تظهرهم علينا، فيظنّوا أنهم على الحقّ فيفتتنوا بنا، أولا تسلّطهم علينا فيفتنونا. وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي من كيدهم(11/243)
وشؤم مشاهدتهم. وفي تقديم التّوكل على الدّعاء تنبيه على أن الدّاعي ينبغي أن يتوكّل أولا لتجاب دعوته.
أَنْ تَبَوَّءا اتّخذا مباءة ومسكنا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما. بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً مصلّى أو مساجد تصلّون فيها لتأمنوا من الخوف، وكان فرعون منعهم من الصّلاة. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أتّموها فيها حتى لا يؤذيهم الكفرة ويفتنوهم عن دينهم.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنّصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة.
وإنما ثنّى ضمير تَبَوَّءا أولا لأن التبوء للقوم واتّخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور، ثم جمع في قوله: وَاجْعَلُوا لأن جعل البيوت مساجد والصّلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم أفرد بقوله: وَبَشِّرِ لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشّريعة.
المناسبة:
أبان الله تعالى أنه بالرّغم من مشاهدة المعجزات الباهرة على يد موسى عليه السّلام، فإنه لم يؤمن به من بني إسرائيل إلا طائفة من شبّان قومه، توطئة لإخراجهم من أرض مصر. وفي ذلك تسلية للنّبي محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر، فله بسائر الأنبياء أسوة.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثالث من قصة موسى عليه السّلام.
يخبر الله تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السّلام في أول أمره، مع ما جاء به من الآيات البيّنات والحجج القاطعات، إلا قليل من قومه بني إسرائيل، وهم طائفة من الشباب، على وجل وخوف من فرعون وملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر لأن فرعون كان جبارا عنيدا، مسرفا في التّمرد والعتوّ متجاوزا الحدّ في الظلم والفساد، شديد البطش والفتك، حتى إنه ادّعى الرّبوبية واسترقّ أسباط الأنبياء، وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديد. فالضمير في(11/244)
قَوْمِهِ عائد إلى بني إسرائيل قوم موسى، لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورين. وهذا قول مجاهد.
وقيل: الضمير في قَوْمِهِ لفرعون، والذّرّية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. وهذا قول ابن عباس.
وضمير مَلَائِهِمْ يعود إلى فرعون بمعنى آل فرعون، أو على ما هو المعتاد في ضمير العظماء.
والذّرّية: أولاد الذين أرسل إليهم موسى.
وَقالَ مُوسى: يا قَوْمِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ.. أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الاضطهاد والتّعذيب: إن كنتم آمنتم أي صدّقتم بالله وبآياته حقّ الإيمان، فعليه توكّلوا واعتمدوا، وبه ثقوا، واطمئنوا لوعده، إن كنتم مسلمين أي إن كنتم مستسلمين لقضاء الله، مذعنين مخلصين له إذ لا يكون الإيمان كاملا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام، فالمعلّق بالإيمان وجوب التّوكل، فإنه المقتضي له، ثم شرط في التّوكل الإسلام: وهو أن يسلموا نفوسهم لله بأن يجعلوها له سالمة خالصة، لا حظّ للشيطان فيها، وذلك بأن يعملوا بالأحكام لأن التوكل الصحيح لا يكون مع خلطه بغيره. والخلاصة: أن الإيمان: عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد، وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه. والإسلام: هو الانقياد للتّكاليف الصادرة عن الله تعالى، وإظهار الخضوع وترك التّمرد.
فقالوا على الفور ممتثلين أمره لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا وبه وحده استعنا على أعدائنا، ثم دعوا ربّهم قائلين: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بأن تنصرهم علينا وتسلطهم علينا فيفتتن الناس،(11/245)
ويقولون: لو كان هؤلاء على حقّ لما هزموا أمام فرعون وظلمه، أو موضع فتنة لهم أي عذاب بأن يفتنونا عن ديننا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي خلّصنا برحمتك وإحسانك وعفوك من تسلّط الكافرين بك، الظالمين الطّغاة، الذين كفروا الحقّ وستروه، ونحن قد آمنّا بك وتوكّلنا عليك.
وقد دعوا بهذا الدّعاء لأن التّوكل على الله هو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصّبر على الشّدائد، والدّعاء لا يستجاب إلا مع الطاعة واتّخاذ الأسباب، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] ، وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتّوكل كقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 11/ 123] ، وقوله تعالى: قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك 67/ 29] ، وقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل 73/ 9] . وأمر الله تعالى المؤمنين أن يكرروا في صلواتهم:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] .
ثم ذكر الله تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم منهم، فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ.. أي أمرنا موسى وأخاه هارون عليهما السّلام أن يتبوأ أي يتّخذا لقومهما بمصر بيوتا تكون مساكن للاعتصام فيها، والأصح أن تكون مساجد وليست منازل مسكونة في رأي أكثر المفسّرين.
وأمرهما مع قومهما أن يجعلوا البيوت مساجد متّجهة نحو القبلة، بأن يصلّوا في بيوتهم لأنهم كانوا خائفين. وقال قتادة والضّحّاك وسعيد بن جبير:
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي يقابل بعضها بعضا. قال القرطبي: والقول الأول أصح أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة باتّجاه بيت المقدس، وهو قبلة اليهود إلى اليوم.(11/246)
وأن يقيموا الصّلاة في تلك البيوت أي يتموها. وقد أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم.
وبشّر يا موسى المؤمنين بالحفظ والنّصر على عدوّهم في الدّنيا، والجنة في العقبى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- بالرّغم من المعجزات العظيمة لموسى عليه السّلام وانتصاره على السّحرة بتلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السّحر، فإنه لم يؤمن به من قومه إلا طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل، فإنه لطول الزّمان هلك الآباء وبقي الأبناء، فآمنوا. وقيل: كانت الطائفة من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأته، وماشطة ابنته، وامرأة خازنه.
وكان إيمانهم على خوف من فرعون لأنه كان مسلّطا عليهم، عاتيا متكبّرا، مجاوزا الحدّ في الكفر لأنه كان عبدا فادّعى الرّبوبية.
2- أراد موسى عليه السّلام الاستيثاق من إيمان تلك الطائفة، فقال لهم:
إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ أي صدّقتم بالله وبرسالتي، فتوكّلوا على الله وحده، أي اعتمدوا عليه، إن كنتم مسلمين، كرر الشّرط تأكيدا، أو أن الإسلام هو العمل، وبيّن موسى أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله.
فأجابوا بأنّا توكّلنا على الله، أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره.
ودعوا الله بألا ينصر الظالمين عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم في الدّين، أو(11/247)
لا يمتحنهم بأن يعذّبوا على أيديهم، وأن ينجيهم ويخلّصهم من الكافرين، أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة.
3- اتّخاذ البيوت في فترة ما مساجد، حتى لا يؤذي فرعون المصلّين لأن بني إسرائيل كانوا لا يصلّون إلا في مساجدهم وكنائسهم، فخرّبها فرعون ومنعهم من الصّلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون: أن اتّخذا وتخيّرا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد متّجهة نحو القبلة، ولم يرد في رأي أكثر المفسّرين المنازل المسكونة، وإنما أراد الاتّجاه إلى بيت المقدس.
وهذا يدلّ على أن القبلة في الصّلاة كانت شرعا لموسى عليه السّلام.
واستنبط العلماء من جواز أداء الصّلاة في البيوت: أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة، والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض المانع من التّنقل، أو خوف زيادته، أو خوف جور السّلطان في مال أو بدن، دون القضاء عليه بحقّ. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرّضه عذر أيضا، وقد فعل ذلك ابن عمر.
وأثير بهذه المناسبة خلاف في أداء صلاة التراويح (قيام رمضان) هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك وأبو يوسف وبعض الشّافعية إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه،
لما أخرجه البخاري: «فعليكم بالصّلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» .
وقال أكثر الأئمة: إن حضورها في الجماعة أفضل
لأن النّبي صلى الله عليه وسلّم قد صلّاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدّوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم، فلذلك قال: «فعليكم بالصّلاة في بيوتكم» .
ثم إن الصحابة كانوا يصلّونها في المسجد فرادى متفرّقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد، فاستقرّ الأمر على ذلك، وثبت سنّة.(11/248)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
4- إن أداء الصّلاة في البيوت التي أمر الله بني إسرائيل فيها خوفا من أذى الأعداء أمر مشروع لا شكّ فيه. وكذلك تكتل الفئات القليلة في مواجهة طغيان الظالمين كفرعون أمر مطلوب سياسة، إذا جرينا على القول بأن البيوت هي مساكن للاعتصام فيها، لأن ذلك أدى إلى نجاة بني إسرائيل من ظلم فرعون.
5- دلّ إيمان الطائفة القليلة برسالة موسى عليه السّلام وتقديمهم في دعائهم عدم الفتنة على النّجاة على أن اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم، فإنهم قالوا أولا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، ثم قالوا: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فهذا الترتيب يدلّ على تفضيلهم أمر الدّين على أمر الدّنيا.
- 4- دعاء موسى على فرعون وملئه
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
الإعراب:
لِيُضِلُّوا اللام للعاقبة وهي متعلقة ب آتَيْتَ، ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النّعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضّلال.
فَلا يُؤْمِنُوا إما منصوب أو مجزوم، الجزم: على أنه دعاء عليهم. والنّصب: إما لأنه معطوف على لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، أو على جواب الدّعاء أو جواب الأمر بالفاء بتقدير أن.(11/249)
وَلا تَتَّبِعانِّ بالتّشديد، أي أنه نهى بعد أمر. ومن قرأ بتخفيف النون، كان في موضع نصب على الحال، أي استقيما غير متبعين، فتكون لا نافية، لا ناهية.
البلاغة:
رَبَّنَا اطْمِسْ أمر أريد به الدّعاء بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره، كقولك:
لعن الله إبليس، وتكرار رَبَّنا لِيُضِلُّوا للتّأكيد والتّنبيه على أن المقصود عرض ضلالاتهم وكفرانهم، تقدمة لقوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ.
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة لتغليظ العقاب ومضاعفته.
فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدّعاء، أو دعاء بلفظ النّهي، أو عطف على: لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض.
المفردات اللغوية:
زِينَةً ما يتزيّن به من الملابس والمراكب ونحوهما، وأصل الزينة في اللغة: ما يتزين به من الحلي واللباس والأثاث والأموال والصحة ونحوها. لِيُضِلُّوا في عاقبته، واللام لام العاقبة أي الصيرورة. عَنْ سَبِيلِكَ دينك. اطْمِسْ أي أهلكها وأزلها، والطّمس: المحق وإزالة الأثر. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي وأقسها واطبع عليها واستوثق حتى لا يدخلها الإيمان. فقوله تعالى: رَبَّنا لِيُضِلُّوا، وقوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ دعاء بلفظ الأمر. وقوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدّعاء أو دعاء بلفظ النّهي، أو عطف على لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض. الْأَلِيمَ المؤلم.
قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أي موسى وهارون، روي أن موسى كان يدعو، وهارون يؤمّن.
فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا، فإن ما طلبتما كائن، ولكن في وقته، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة. سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الجهلة في الاستعجال، أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى.
المناسبة:
لما بالغ موسى في إظهار المعجزات القاهرة الدّالة على نبوّته، ورأى القوم:
فرعون وملأه مصرّين على الجحود والعناد والإنكار، دعا عليهم بعد أن ذكر سبب(11/250)
إقدامهم على تلك الجرائم وهو حبّهم الدّنيا وبسطة النّعيم التي أبطرتهم فتركوا الدّين، لهذا قال موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا.
قال ابن كثير: هذه الدّعوة كانت من موسى عليه السّلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبيّن له أنهم لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح عليه السّلام، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 26- 27] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السّلام فيهم هذه الدّعوة التي أمّن عليها أخوه هارون، فقال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما.
قال أبو العالية: دعا موسى وأمّن هارون فسمّي هارون وقد أمّن على الدّعاء داعيا.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الرابع من قصة موسى مع فرعون، بعد وجود فاصل استطرادي للإخبار بإيمان طائفة بموسى عليه السّلام، فبعد أن أبى فرعون وملؤه قبول دعوة الحقّ من موسى عليه السّلام، واستمرّوا على ضلالهم وكفرهم معاندين عتاة متكبّرين، وبعد أن أعدّ موسى قومه بني إسرائيل للخروج من مصر، وغرس في قلوبهم الإيمان وإيثار العزّة والكرامة، بعد ذلك دعا ربّه مبيّنا سبب الدّعاء فقال: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً.. أي أعطيتهم من الدّنيا والنّعمة ما أبطرهم، وهو الزّينة الشّاملة من حلي ولباس وأثاث ورياش وأموال كثيرة ومتاع الدّنيا ونحوها من الزّروع والأنعام، وأدّى النعيم بهم أن تكون عاقبة أمرهم إضلال عبادك عن الدّين، والطّغيان في الأرض، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6- 7] ، ويشهد لما ذكر ما يوجد في قبور الفراعنة والآثار المصرية من الذهب والفضة والحلي والتّحف، وما بنوه من(11/251)
القصور والقبور والتّماثيل الدّالة على رقي المدنية والحضارة.
فقوله تعالى: لِيُضِلُّوا اللام لام العاقبة أو الصّيرورة، كقوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] ، فكانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال. ويحتمل أن تكون اللام لام التعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر لا في الحقيقة نفسها، بمعنى أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال، وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطي المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى.
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ.. أي ربّنا أمحق وأزل آثارها وأهلكها، واختم على قلوبهم وأقسها حتى لا تنشرح للإيمان، فيستحقوا شديد العقاب، ولا يؤمنوا حتى يشاهدوا العذاب المؤلم الموجع.
ولما دعا موسى بهذا الدّعاء وكان هارون أخوه يؤمّن على دعائه، قال تعالى:
قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أي استجبنا دعاءكما وقبلناه كما سألتما من تدمير آل فرعون، فاستقيما، أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة إلى الحقّ، وإلزام الحجة، ولا تستعجلا الأمر قبل ميقاته، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون، أي طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى. ولا يعني هذا النّهي أن مقتضاه صدر من موسى وهارون عليهما السّلام، كما أنّ قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزّمر 39/ 65] لا يدلّ على صدور الشّرك منه.
قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدّعوة أربعين سنة.
وقال محمد بن كعب وعلي بن الحسين: أربعين يوما.(11/252)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- إن دعاء موسى وهارون كدعاء نوح عليهم السّلام لم يكن إلا بعد اليأس من إيمان القوم، بعد طول العهد من النّبي موسى بالدّعوة إلى الدّين الحقّ، وملازمة قومه حال الكفر وإصرارهم عليه، وبعد نفاد الصّبر منه.
وكل ذلك لم يتم إلا بعد إذن من الله لأن مهمة الرّسل استدعاء إيمان قومهم، ولا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن، ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن بدليل قوله تعالى لنوح عليه السّلام: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود 11/ 36] ، وعند ذلك قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] .
2- احتجّ بهذه الآية من يقول: إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا، وهارون أمّن.
والتأمين على الدّعاء: أن يقول: آمين، فقولك: آمين دعاء، أي يا ربّ استجب لي.
3- إن إجابة الدّعوات لها أوقات مخصوصة في علم الله وتقديره، وليس ذلك بحسب مراد العبد الدّاعي، وإنما بحسب مراد الله تعالى، وإن تعجّل الإجابة جهل لا يليق مع الأدب مع الله تعالى، وهو أيضا شكّ في الثّقة بوعد الله تعالى بإجابة دعاء الداعي إذا دعاه، لهذا قال تعالى لموسى وهارون عليهما السّلام: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.(11/253)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
- 5- إغراق فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل
[سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 93]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
الإعراب:
بَغْياً وَعَدْواً مفعول لأجله.
بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أي ببدنك عاريا عن الروح.
البلاغة:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ استفهام توبيخ وإنكار.
بَوَّأْنا ... مُبَوَّأَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَجاوَزْنا أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم. يقال: جاز المكان وجاوزه وتجاوزه: إذا قطعه حتى تركه وراءه. فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم. مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي المنقادين لأمره، كرر ذلك ليقبل منه فلم يقبل، وقال جبريل له: آلْآنَ تؤمن، أي أتؤمن(11/254)
الآن، وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ قبل ذلك مدة عمرك.
وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الضالين المضلين عن الإيمان.
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ نلقيك على نجوة (مكان مرتفع) من الأرض ليراك بنو إسرائيل، أو لا نغرقك في قعر البحر ونجعلك طافيا. بِبَدَنِكَ جسدك الذي لا روح فيه. لِمَنْ خَلْفَكَ بعدك وهم بنو إسرائيل. آيَةً عبرة وعظة، فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك.
روي عن ابن عباس: أن بعض بني إسرائيل شكّوا في موته، فأخرج لهم ليروه. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي أهل مكة وغيرهم. عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
وَلَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا. مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزل كرامة أو منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ. فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم، بأن آمن بعض وكفر بعض، إلا من بعد ما قرءوا التوراة وعلموا أحكامها، أو اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين، فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
المناسبة:
هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى مع فرعون التي ابتدأها الله تعالى بالحوار بينهما، ثم أتبعها بقصة السحرة، ثم استطرد في أثنائها لبيان إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى، استعدادا للخروج من مصر، ثم ذكر دعاء موسى على فرعون وملئه.
ولما أجاب الله تعالى دعاء موسى وهارون، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسّر لهم أسبابه، وفرعون كان غافلا عن ذلك، فذكر هنا خاتمة القصة الدالة على تأييد الله لموسى وأخيه على ضعفهما، وقوة فرعون وقومه.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى عليه السّلام.(11/255)
وموضوع الآيات كيفية إغراق فرعون وجنوده، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر مع موسى عليه السّلام، وهم فيما قيل: ست مائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حنق فرعون عليهم، فركب وراءهم مع جنوده وجيوشه الهائلة، فلحقوهم وقت شروق الشمس عند ساحل البحر (البحر الأحمر- بحر السويس) فخاف أصحاب موسى عليه السّلام، وإذا ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقا لكل سبط واحد، وأمر الله الريح فنشفت أرضه، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه، انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمّ بالرجوع، ثم صمّم على المتابعة وقال لأمرائه: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، ولما أصبحوا في وسط البحر، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك:
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، كقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر 40/ 84- 85] .
ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي أهذا الوقت تؤمن، وقد عصيت الله قبل هذا؟ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي في الأرض من الذين أضلوا الناس.
هذه القصة من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلّم.(11/256)
معنى الآيات:
وتجاوزنا ببني إسرائيل البحر بقدرتنا وحفظنا، فلحقهم فرعون وجنوده ظلما وعدوا، أي باغين وعادين عليهم، أو للبغي والعدوان، والفتك بهم، أو إعادتهم إلى مصر ليعذبوهم سوء العذاب ويستعبدوهم كما كانوا يفعلون.
فلما أشرف على الغرق، قال: آمنت بأنه لا إله بحق إلا الله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين أي المنقادين المذعنين لأمره.
وكرر فرعون بهذه العبارة المعنى الواحد ثلاث مرات، في ثلاث عبارات، حرصا منه على القبول، ومع ذلك لم يقبل منه إيمانه حيث أخطأ وقته، وقاله عند الإكراه والاضطرار، وحين لم يبق له اختيار قط. ويلاحظ أن المرة الواحدة كانت كافية في حال الاختيار.
فردّ الله تعالى عليه على لسان جبريل، أو بإلهام من الله تعالى نفسه بقوله:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك، وقد عصيت الله قبل هذا، وكنت من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] .
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ... أي فاليوم نرفعك على مكان مرتفع من الأرض، وننقذك بجسدك الذي لا روح فيه، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير من الارتماء في قعر البحر لتكون لبني إسرائيل دليلا أو علامة على موتك وهلاكك وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق، ولتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك، فينزجرون عن الكفر والفساد في الأرض وادعاء الربوبية.(11/257)
وفي هذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ... أي وإن أكثر الناس لغافلون عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة لله وحده، فلا يتعظون بها ولا يعتبرون بها، لعدم تفكرهم في أسبابها ونتائجها. وفي الآية دلالة على ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها.
وقد كان هلاكهم يوم عاشوراء من شهر المحرم،
كما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:
«ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه» .
ثم أخبر الله تعالى بالمناسبة عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية فقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ... أي ولقد أنزلنا بني إسرائيل منزلا صالحا مرضيا، وهو منزلهم سابقا في مصر، ولاحقا في فلسطين، ورزقناهم من الطيبات أي اللذائذ المستطابة المباحة فيها، وأنعمنا عليهم فيها بكثير من الخيرات من الثمار والغلال والأنعام وصيود البر والبحر.
لقد وعدهم الله على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرض فلسطين في الماضي، ولكن لما كفروا بالأنبياء، وعلى التخصيص عيسى ومحمد عليهما السلام، نزعها الله منهم. فليس لهم أي حق ديني بعدئذ في الاستيطان بأرض فلسطين بعد بغيهم وعدوانهم وكفرهم برسالات الله تعالى.
وللعلماء في تحديد المراد ببني إسرائيل قولان: الأول- أنهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السّلام، وعلى هذا يكون مبوأ الصدق مصر والشام، والطيبات منافع تلك البلاد ووراثة بني إسرائيل ما كان تحت أيدي قوم فرعون، وأن التوراة هي العلم الذي أدى إلى الاختلاف بينهم.. والقول الثاني- هم اليهود(11/258)
المعاصرون للنبي عليه الصلاة والسلام، وبه قال جمع عظيم من المفسرين وهم قبائل اليهود في المدينة (قريظة والنضير وبنو قينقاع) ومنزل الصدق: ما بين المدينة والشام، والطيبات: ما في تلك البلاد من التمور، والمراد بالعلم: القرآن، وسماه علما لأنه سبب للعلم على سبيل المجاز، وكونه سبب الاختلاف: أن اليهود اختلفوا فآمن قوم وبقي آخرون على كفرهم، فصار نزول القرآن سببا لحدوث انقسام بينهم.
فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي فما اختلف بنو إسرائيل في أمر دينهم إلا من بعد ما علموا وقرءوا التوراة وعلموا أحكامها، أو ما اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم مقرين بنبوته، مجمعين على صحة رسالته، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم، فلما بعث وجاءهم ما عرفوا، كفروا به، فكفر به بعضهم حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال، وآمن آخرون.
والخلاصة: إنهم ما اختلفوا في شيء من المسائل جهلا، وإنما من بعد ما جاءهم العلم، ولم يكن لهم أن يختلفوا.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي ... أي إن ربك يفصل ويحكم بينهم يوم القيامة في شأن ما اختلفوا فيه، فيميز المحق من المبطل بالإنجاء للمحقين من النار وإدخالهم الجنة، والإهلاك للمبطلين في عذاب جهنم.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على الأحكام التالية:
1- قد ينصر الله تعالى الضعفاء أو المستضعفين على الأشداء الأقوياء، كما(11/259)
نصر الله موسى وأخاه هارون على ضعفهما، على فرعون الجبار وجنوده الأشداء، إذ كانت دولتهم أقوى دول العالم القديم.
2- إيمان اليأس لا ينفع لأنه في وقت الإلجاء والاضطرار والإكراه وفقد عنصر الاختيار وزوال وقت التكليف، فلم يقبل الله إعلان فرعون الإيمان حينما أشرف على الغرق بمعان ثلاثة يؤكد بعضها بعضا.
قال الرازي: آمن فرعون ثلاث مرات، أولها قوله: آمَنْتُ وثانيها قوله: لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وثالثها قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فما السبب في عدم القبول، والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد، حتى يقال: إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار؟ والجواب أنه إنما آمن عند نزول العذاب. والإيمان في هذا الوقت غير مقبول لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء، وفي هذه الحال لا تكون التوبة مقبولة، ولهذا السبب قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» 3- كان فرعون عاصيا كافرا عاتيا متكبرا مفسدا في الأرض بالضلال والإضلال، فاستحق التوبيخ والإنكار والتهكم عليه.
4- تمّ إنقاذ جثة فرعون من الغرق، واسمه منپتاح بن رمسيس 1225 ق. م، وهي التي ما تزال موجودة في متحف الآثار المصرية بالقاهرة وشاهدتها بنفسي، وشاهدت فيها آثار ملوحة ماء البحر البيضاء على عظم الجبهة. ويعدّ هذا الإنقاذ عبرة وعظة لكل من يدعي الربوبية ويكفر بالله، فهو أحقر من أن يكون ربا لأن الرب لا يموت. قال المفسرون: إنما نجّى الله بدن فرعون بعد الغرق لأن قوما اعتقدوا فيه الألوهية، وزعموا أن مثله
__________
(1) تفسير الرازي: 17/ 154(11/260)
لا يموت، فأراد الله أن يشاهده الناس على ذلك الذل والمهانة، ليتحققوا موته، ويعرفوا أن الذي كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة قد آل أمره إلى الذل والهوان، فيكون عبرة للخلق، وزجرا لأهل الطغيان.
5- ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث الجسام وعواقبها المؤثرة في التاريخ.
6- إن في قصة إغراق فرعون الطاغية عبرة لمكذبي النبي محمد صلى الله عليه وسلّم الذين يغترون بقوتهم وكثرتهم وثروتهم، فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا، وأشد قوة، وأوفر ثروة، وقد جعل الله تعالى سنته في المكذبين واحدة وهي التدمير والإهلاك، إما في الدنيا وإما في الآخرة، فالعاقل من المكذبين من يتدبر في الأمر، ويبادر إلى ساحة الرضا والإيمان، ليكون من أهل النجاة في الآخرة:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] .
7- لقد أنعم الله على بني إسرائيل بالنعم الكثيرة الدينية والدنيوية، ومن أهمها إنقاذهم من طغيان فرعون، وأمانهم واستقرارهم في فلسطين في الماضي، ولكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا بها.
بل إنهم كفروا بهذه النعم، وكفروا برسالة عيسى ومحمد عليهما السلام، فأصبحوا مثل غيرهم ممن يستحق العذاب والطرد والإجلاء من ديار الإسلام.
والمقصود بذلك أحوال بني إسرائيل القدامى والمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلّم لأن المتأخرين راضون بفعل المتقدمين، وسائرون على نهجهم، وهذا جمع بين القولين السابقين.
ولم يختلفوا في شأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلّم وصدقه قبل بعثته، بل كانوا مجمعين على نبوته والإيمان به على وفق الأوصاف المذكورة في كتبهم، وإنما اختلفوا بعد بعثته حسدا وبغيا وحبا في بقاء المراكز الدينية، والزعامة السياسية، فكان اختلافهم(11/261)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
بإيمان بعضهم وكفر الآخرين لا عن جهل بحقيقة ووصف محمد صلى الله عليه وسلّم، وإنما عن علم ومعرفة حقيقية به، فإنهم يعرفونه بأوصافه المذكورة لديهم كما يعرفون أبناءهم.
8- كان فلق البحر بعصا موسى عليه السّلام اثني عشر فرقا، كل فرق منها كالجبل الأشم معجزة عظمي لسيدنا موسى عليه السّلام، تمّ على أثرها إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين، لذا سن صوم يوم عاشوراء الذي تم فيه هذا الحدث شكرا لله على ما أنعم.
9- القضاء المبرم والحكم القاطع يتبين يوم القيامة في شأن المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم في أمر قبول دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم، حيث ينجي الله المحقين، ويدمر المبطلين.
تأكيد صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد
[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
البلاغة:
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ كناية عن القضاء الأزلي بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب.(11/262)
المفردات اللغوية:
فَإِنْ كُنْتَ أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبيك إليك أو أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم والمراد به قومه، على نحو قول العرب: إياك أعني واسمعي يا جارة، وهو مثل قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب 33/ 41] .
فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد من القصص على سبيل الافتراض. الْكِتابَ هنا التوراة. مِنْ قَبْلِكَ فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقه،
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا أشك ولا أسأل» .
لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ واضحا لا مرية فيه، بالآيات القاطعة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ الشاكين فيه. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.. أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه، كقوله: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص 28/ 86] .
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ وجبت وثبتت. كَلِمَتُ رَبِّكَ باستحقاق العذاب.
لا يُؤْمِنُونَ وهذا واقع لأن الله لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لأنهم أصروا على الكفر. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وحينئذ لا ينفعهم، كما لا ينفع فرعون.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن قصص الأنبياء السابقين كنوح وموسى وهارون عليهم السلام بإنجاز النصر لهم على أقوامهم، وحكى اختلاف بني إسرائيل عند ما جاءهم العلم حسدا وبغيا وإيثارا لبقاء الرياسة، أورد ما يقوي صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد، وخاطب به النبي صلى الله عليه وسلّم وأراد قومه.
التفسير والبيان:
أراد الله تعالى أن يؤكد صحة القرآن وصدق النبوة على سبيل الافتراض والمبالغة، فقال: فإن وقع منك شك على سبيل الافتراض والتقدير في صحة ما أنزلنا إليك من القرآن المتضمن قصص الأنبياء المتقدمين مثل هود ونوح وموسى وغيرهم، فاسأل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب أي التوراة من قبلك، فهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك.(11/263)
والمراد الإحالة على علماء أهل الكتاب الصادقين ووصفهم بالعلم، لا وصف النبي صلى الله عليه وسلّم بالشك، قال ابن عباس: لا والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم،
وقال: «لا أشك ولا أسأل، بل أشهد أنه الحق» كما ذكر قتادة وسعيد بن جبير والحسن البصري.
والرأي الأولى كما ذكرت في بيان المفردات: أن الخطاب للسامع أو للنبي صلى الله عليه وسلّم والمراد به أمته، وهذا تعبير مألوف بين العرب. كما أن افتراض الشك في الشيء لنفي احتمال وقوعه مألوف أيضا لدى العرب، فيقول أحدهم: إن كنت ابني حقا فكن شجاعا. وذلك مثل قول عيسى عليه السّلام: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة 5/ 116] فهو يعلم أنه لم يقله، ولكنه يفرضه ليستدل على أنه لو قاله لعلمه الله منه.
قال البيضاوي: وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم.
لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.. أي تالله لقد جاءك الحق واضحا لا مرية فيه ولا ريب، بما أخبرناك في القرآن، وبأنك رسول الله، وأن اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، لما يجدون في كتبهم من نعتك وأوصافك، فلا تكونن من الشاكين في صدق ما نقول.
وفي هذا تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلّم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف 7/ 157] .
وهذا النهي: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ تعريض بالشاكين والمكذبين للنبي صلى الله عليه وسلّم من قومه.(11/264)
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا ... أي ولا تكونن أيها النبي ممن كذب بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر، فتكون ممن خسروا الدنيا والآخرة.
وهذا أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص 28/ 86] وفيه تعريض بالكفار الخاسرين الضالين.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ... أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة الله أي قضاؤه وحكمه بالعذاب لا يؤمنون أبدا، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وتصميمهم على الكفر، وليس المعنى أن الله يمنعهم الإيمان، وإنما هم الذين اختاروا الكفر وكسبوه. والمراد من الآية: أن من علم الله منهم الإيمان أو الكفر، لا بد من حصوله لأن علم الله واسع شامل، لا يتخلف.
وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ.. أي إن هؤلاء الذين علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، سيبقون على كفرهم وجحودهم، ولو جاءتهم كل آية كونية حسية، أو علمية، أو قرآنية، مثل آيات موسى التي اقترحوا مثلها على النبي صلى الله عليه وسلّم، ومثل تفجير الأنهار والصعود في السماء، وامتلاك الجنات أي البساتين، ومثل آيات القرآن الدالة بإعجازها على أنها من عند الله تعالى، وربما لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم الموجع الذي يحدق بهم ويطبق عليهم، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أشرف على الغرق، وكما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام 6/ 111] فالأدلة لا تنفعهم مهما كثرت لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله وتوفيقه، وتوافر الاستعداد لقبوله.(11/265)
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- القرآن حق، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلّم حق، وأدلة إثبات أحقيتهما: صدقهما فيما أخبرا به من قصص الأنبياء، ومغيبات المستقبل، وما أشار إليه من الآيات الدالة على الصدق في كل ما اشتمل عليه القرآن والسنة.
2- افتراض الشك أحيانا يفيد في إثبات عكسه وهو اليقين، وهذه نظرية أخذ بها الفلاسفة مثل (ديكارت) .
3- على كل من شك في شيء أن يبادر إلى سؤال العلماء لإزالته وتثبيت يقينه، وترسيخ عقيدته.
4- الخطاب في الآيتين الأوليين: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وفَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ للنبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. قال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته، والدليل عليه
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال لما نزلت هذه الآية: «والله لا أشك» .
5- الإحالة في تبين صدق القرآن وصحة النبوة كانت على من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وأمثاله.
6- إن الذين ثبت عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون، حتى ولو جاءتهم الآيات تترى بما يطلبون. فإن آمنوا حين نزول العذاب بهم لا ينفعهم إيمانهم لأنه إيمان يأس وإلجاء وقسر، وتوبة يائس.
7- احتج أهل السنة بهذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب، وقال في الكشاف في هذه الآية: ثبت(11/266)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
عليهم قول الله تعالى الذي كتبه في اللوح، وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا، فلا يكون غيره، وتلك كتابة معلوم، لا كتابة مقدّر.
قصة يونس عليه السّلام مع قومه
[سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
الإعراب:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ منصوب إما لأنه استثناء منقطع ليس من جنس الأول وإما على الاستثناء المتصل غير المنقطع، بأن يقدر في الكلام حذف مضاف، تقديره: فلولا كان أهل قرية آمنوا إلا قوم يونس. ويونس: ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة. وقرئ برفع يونس على البدل، كقول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والبدل من غير الجنس لغة بني تميم.
كُلُّهُمْ تأكيد لقوله لَآمَنَ، وجَمِيعاً عند سيبويه: نصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقوله: جَمِيعاً بعد كل تأكيدا كقوله: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
البلاغة:
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ الاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.(11/267)
المفردات اللغوية:
فَلَوْلا فهلا، وكل منهما للتحضيض والتوبيخ. قَرْيَةٌ أهل قرية أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها، كما أخر فرعون.
آمَنَتْ قبل نزول العذاب بها. فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها.
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند رؤية أمارة العذاب، ولم يؤخروه إلى حلوله. الْخِزْيِ الذل والهوان. وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى انقضاء آجالهم، الحين: مدة من الزمن، والمراد بها هنا العمر الطبيعي الذي يعيشه الإنسان.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قال المعتزلة: المراد مشيئة القسر والإلجاء، أي لو شاء الله تعالى أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه، ولصح ذلك منه، ولكنه ما فعل ذلك لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة، فالمشيئة المرادة في الآية لم تقع في رأيهم. وقال أهل السنة: المراد تخليق الإيمان أو خلق الإيمان، أي لو شاء ربك لخلق الإيمان فيهم، ولكنه لم يفعل، فدلّ على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم لأن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته، فإذا لم يحصل ذلك المعنى لم يحصل الإيمان. والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر، فكل إيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان 76/ 30] . وهذا المذهب موافق للمعتزلة في أن الله تعالى ما قسر الخلق، ولكنه أيضا ما سلب اختيارهم، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا وقصدا، فإبقاء الآية على إطلاقها أولى، وربط كل شيء من إيمان وغيره بمشيئة الله تعالى هو الواجب.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بما لم يشأه الله منهم، والاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله تعالى. والإذن بالشيء لغة: الاعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ هنا العذاب أو الخذلان. وأصله في اللغة: الشيء القبيح المستقذر. لا يَعْقِلُونَ لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، وهي قصة يونس عليه السّلام. فبعد أن بيّن الله تعالى أن الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أتبعه بهذه الآية(11/268)
للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. وهذا يدل على أن الكفار فريقان: منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان، وكل ما قضى الله به فهو واقع.
وذكر في هذه الآيات ما يكمل قبلها في أن الله تعالى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وأن مشيئة الله وحكمته متعلقتان بأفعال عباده، ووقوعها على وفقهما.
وكانت العبرة من إيراد هذه القصص الثلاث (قصة نوح، وقصة موسى، وقصة يونس) الرّد على شبهات الكفار التي منها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يهددهم بنزول العذاب عليهم، ولم ينزل، فأبان الله تعالى أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، بدليل أن الله أخّر العذاب عن قوم نوح، وفرعون، وقوم يونس، ثم أوقعه في الأولين ولم يوقعه في قوم يونس بسبب إيمانهم.
أضواء من التاريخ:
ذكر يونس عليه السّلام في القرآن الكريم باسمه أربع مرات: في سورة النساء [163] والأنعام [86] ويونس [98] والصافات [139] وذكر بوصفه في سورتين: في سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [87] وفي سورة القلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [48] .
وهو يونس بن متى، ويقول أهل الكتاب: يونس بن أمتاي. وقد أرسله الله تعالى إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه، فوعدهم بالعذاب بعد مدة، قيل: إلى أربعين يوما، وذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب، ولما دنا الموعد غامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد، فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى(11/269)
الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين كل والدة وولدها، فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة «1» . قال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
أما يونس فقد ذهب مغاضبا لقومه الذين أرسل إليهم لإبطائهم عن تلبية دعوته، والدخول فيما دعاهم إليه من الإيمان، فهرب إلى الفلك المشحون، من غير إذن الله تعالى.
ثم امتحنه الله تعالى بالإلقاء في اليم والتقام الحوت، قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء 21/ 87- 88] .
فنبذه الله بالعراء وهو سقيم بعد أن مكث في بطنه ثلاثا أو سبعا أو أكثر أو أقل، وحماه من هضم الحوت له، وأنبت عليه شجرة من يقطين. ثم أرسله الله تعالى إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا، وقبل الله منهم إيمانهم.
وأما قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فمعناه المناسب للأنبياء المعصومين عن الخطأ: فظن أن لن نضيق عليه، أي ظن أننا لن نلزمه بالذهاب إلى القوم الذين أرسل إليهم، ولا نلجئه إلى تبليغ رسالة الله تعالى إليهم، والمراد أنه تأول الأمر وهو أمر الذهاب إلى قومه على أنه أمر إرشاد لا أمر وجوب، ولا
__________
(1) تفسير الرازي: 17/ 165، تفسير القرطبي: 8/ 384(11/270)
إثم في مخالفته، كما تأول الفقهاء كتابة الدين المأمور به في قوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ على أنه أمر ندب وإرشاد، ففهم الأمر على هذا الوجه «1» .
التفسير والبيان:
فهلا كان أهل قرية من قرى الرسل الذين أرسلوا إليهم، آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، وقبل نزول العذاب واستحالة الإيمان، فنفعهم إيمانهم.
ولكن قوم يونس عليه السّلام الذي بعث في أهل نينوى بأرض الموصل شمال العراق، كانوا قد كفروا، ثم لما رأوا أمارات العذاب، تضرعوا إلى الله تعالى، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان فرحمهم الله، وكشف عنهم العذاب- أي العذاب الذي وعدهم يونس بنزوله- وقبل إيمانهم، ومتّعهم إلى أجلهم.
أي لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم من القرى الغابرة إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه. وكان قبول إيمانهم مغايرا لقبول إيمان فرعون، فإنه آمن عند الإشراف على الغرق واقتراب الموت. أما قوم يونس فآمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وإن كان إيمانهم عند ظهور أماراته.
وفي القصة تعريض بأهل مكة، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس، قبل أن يصلوا إلى درجة اليأس، فإن العذاب قابل للتحقق كما حدث في قوم نوح، وفرعون وجنوده. وعلى هذا التأويل لا تعارض ولا إشكال ولا خصوص لقوم يونس.
قال علي رضي الله عنه: إن الحذر لا يردّ القدر، وإن الدعاء ليردّ القدر.
__________
(1) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص 357، 359(11/271)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أي ولو شاء ربك يا محمد أن يأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به، وأن يخلق فيهم الإيمان، لفعل ولآمنوا كلهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى، كقوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 118- 119] .
وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد 13/ 31] . وكُلُّهُمْ في الآية أي على وجه الإحاطة والشمول، وجَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان، مطبقين عليه، لا يختلفون فيه.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ... أي أفأنت يا محمد تلزم الناس وتلجئهم إلى الإيمان، ليس ذلك عليك ولا إليك، بل إلى الله وعليه. فالإيمان لا يتم بالإكراه والإلجاء والقسر، وإنما يتم بالطواعية والاختيار، كما قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة 2/ 256] وقال تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] وإنما مهمتك فقط التبليغ بالإنذار والتبشير، كما قال تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى 42/ 48] وقال سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
[القصص 28/ 56] .
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ليس لنفس أن تؤمن إلا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه أو ما ينبغي لنفس أن تؤمن إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته، والنفس مختارة في الإيمان اختيارا غير مطلق، وليست مستقلة في اختيارها استقلالا تاما، بل مقيدة بسنة الله في الخلق، يهدي الله من يشاء بحكمته وعلمه وعدله.(11/272)
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي ويجعل الله العذاب على الذين لا يتدبرون حجج الله وأدلته، ولا يستعملون عقولهم في النظر بما يرشدهم إلى الحق من آيات الله وحججه الكونية والعقلية القرآنية، فهم لتعطيلهم منافذ المعرفة وحواسهم الهادية إلى الصواب، ولاتباع الهوى، يؤثرون الكفر على الإيمان.
فقه الحياة أو الأحكام:
استنبط العلماء من الآيات ما يأتي:
1- الحض على الإيمان وقت الرخاء والسعة قبل الإحاطة بالعذاب، فهو الوقت الذي يقبل فيه الإيمان.
2- خص الله قوم يونس من بين سائر الأمم بقبول توبتهم بعد معاينة العذاب، كما ذكر الطبري عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
قال القرطبي معلقا: قول الزجاج حسن فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا
قوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»
والغرغرة: الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا «1» .
فعلى قول الزجاج والقرطبي: لا تخصيص لقوم يونس.
3- احتج أهل السنة بآية: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ... على قولهم بأن جميع
__________
(1) تفسير القرطبي: 8/ 384(11/273)
الكائنات بمشيئة الله تعالى لأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية، فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل «1» .
ولقد أوردت في بيان المفردات مذهبي أهل السنة والمعتزلة في تفسير وَلَوْ شاءَ هل المشيئة مشيئة القسر والإلجاء، أم مشيئة الخلق والإرشاد والهداية؟
وفسر القرطبي الآية بقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لاضطرهم إليه، أي إلى الإيمان.
4- الإكراه في الدين ممنوع، لقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان جميع الناس فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذّكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول.
5- احتج أهل السنة على قولهم: «أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع» .
بقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وجه الاستدلال به: أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج، وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان.
6- احتج أهل السنة أيضا على قولهم: بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وتقريره أن الرجس هو العمل القبيح، سواء كان كفرا أو معصية، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه، ذكر بعده أن
__________
(1) انظر تفسير الرازي: 17/ 166، وكذا ص 167 للحكم رقم (5) ، وص 168 للحكم رقم (6) .(11/274)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه، والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر. هذا ما ذكره الرازي.
ويلاحظ أننا فسرنا الرجس بالعذاب، كما ذهب إليه كثير من المفسرين، وهو ما قرره أبو علي الفارسي النحوي في أن الرجس يحتمل كون المراد منه العذاب.
فرضية النظر والتفكير وإنذار المهملين
[سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
الإعراب:
ماذا إما استفهام مبتدأ، وخبره: فِي السَّماواتِ، أو أن الخبر: ذا بمعنى الذي، والجملة الابتدائية في موضع نصب.
ثُمَّ نُنَجِّي معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله: إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا.
كَذلِكَ الكاف: صفة مصدر محذوف، تقديره: ننجي رسلنا، والذين آمنوا ننجيهم مثل ذلك، وتصير الجملة: كذلك ننج المؤمنين، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين.
حَقًّا عَلَيْنا اعتراض، وهو منصوب بفعله المقدر، أي حق ذلك علينا حقا، ويجوز أن يكون حَقًّا بدلا من كَذلِكَ. ولا يجوز أن ينصب كَذلِكَ وحَقًّا ب نُنَجِّي لأن الفعل الواحد لا يعمل في مصدرين، ولا في حالين، ولا في استثناءين، ولا في مفعولين معهما.(11/275)
البلاغة:
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا عبر بصيغة المضارع عن الماضي، لتهويل الأمر، باستحضار صورة ذلك الماضي.
المفردات اللغوية:
قُلِ يا محمد لكفار مكة وغيرهم. انْظُرُوا تفكروا ماذا أي الذي. فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته. وإن جعلت ماذا استفهامية علقت انْظُرُوا عن العمل. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله وحكمته. وما: نافية أو استفهامية في موضع النصب. مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي مثل وقائعهم من نزول العذاب بهم إذ لا يستحقون غيرها. مأخوذ من قولهم: أيام العرب أي وقائعها. فَانْتَظِرُوا ذلك.
ثُمَّ نُنَجِّي المضارع لحكاية الحال الماضي. رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا من العذاب.
كَذلِكَ الإنجاء. حَقًّا عَلَيْنا اعتراض. نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي كذلك الإنجاء ننج النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حين تعذيب المشركين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، أمر بالنظر والاستدلال في الأدلة، حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض، فقال: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فعلى كل عاقل التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار، وما الدين إلا مساعد للعقل على حسن الاختيار.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده بالتفكر في خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات الباهرة ذات النظام البديع، كالكواكب النيرة من ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار واختلافهما، وتعاقبهما طولا وقصرا، وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وزينتها، وما أنزل الله منها من مطر، فأخرج به أنواع(11/276)
الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات، وما ذرأ في الأرض من دواب برية وبحرية مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وثروات معدنية، وما في البحر من العجائب، وهو مع ذلك مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير العلي القدير العليم الذي لا إله غيره، ولا رب سواه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 21- 20] .
فالنظر في ذلك يرشد إلى وجود الخالق، ويدعو إلى التصديق بالرسل، والإيمان بالقرآن والوحي المخبر عن هذه الآيات العظام.
ولكن ما تغني وما تفيد وما تنفع أي لن تغني هذه الآيات أي الدلالات الكونية والقرآنية والرسل المنذرون أو الإنذارات قوما لا يتوقع إيمانهم كما ذكر في (الكشاف) وهم الذين لا يعقلون، أي لا ينظرون في تلك الآيات. وقال القرطبي: عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن. وقيل: ما استفهامية والتقدير:
أي شيء تغني.
والمعنى على الاستفهام: أي شيء تغني الآيات السماوية والأرضية والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها لقوم لا يؤمنون بالله ورسله، ولم يستخدموا عقولهم فيما خلقت من أجله؟ وقوله: وَما تُغْنِي ... عَنْ قَوْمٍ أي لا تفيدهم شيئا، أو أي شيء تغني الآيات وهي الدلائل، والظاهر أن ما للنفي، ويجوز أن تكون استفهاما «1» .
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ.. يحذّر الله المشركين قائلا: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل وقائع الأمم الماضية المكذبة لرسلهم، من نزول العذاب بهم؟ وهي وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 194(11/277)
وغيرهم. والأيام هنا بمعنى الوقائع، يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم، والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما كقوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم 14/ 5] ، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام.
قُلْ: فَانْتَظِرُوا.. قل أيها الرسول لهم منذرا مهددا موعدا: انتظروا عذاب الله وعقابه، إني من المنتظرين هلاككم، أو فانتظروا هلاكي، إني معكم من المنتظرين هلاككم، أو من المنتظرين موعد ربي.
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا.. أي إن حكمنا المتبع وسنتنا السائدة أنه إذا وقع العذاب إنجاء رسلنا والمؤمنين معهم، وإهلاك المكذبين.
كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا ... أي مثل هذا الإنجاء للرسل السابقين ومن آمن معهم، ننجي المؤمنين معك أيها الرسول، ونهلك المكذبين بالرسل. وهذا حق أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة، كقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] وكما جاء
في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- وجوب النظر في الدلائل السماوية والأرضية للاهتداء بها إلى معرفة الخالق، فلا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل، كما قال عليه الصلاة والسلام: «تفكروا في الخلق، ولا تفكّروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره» «1» .
__________
(1) رواه أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس، وهو حديث صحيح.(11/278)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
فعلى الناس الاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال.
2- وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم عبرة وعظة للمكذبين الرسل.
3- سنة الله تعالى عند إيقاع العذاب الشامل إنجاء الرسل والمؤمنين معهم، وإهلاك الكافرين الضالين المكذبين. وهذا الاصطفاء والتمييز عدل من الله ورحمة.
إخلاص العبادة لله تعالى ونبذ الشرك
[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
الإعراب:
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ حذف حرف الجر من إِنْ أمر مطرد، مثل «أنّ» وقد يكون الحذف غير مطرد، فيقال: أمرتك الخير، فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر 15/ 94] .
وَأَنْ أَقِمْ عطف على أَنْ أَكُونَ لكن المعطوف محكي بصيغة الأمر، ولا ضير في ذلك لأن المقصود هو الوصل بما يتضمن معنى المصدر، ولا فرق في الأفعال كلها، سواء الخبر منها والطلب، والمعنى: وأمرت بالاستقامة في الدين بأداء الفرائض، والانتهاء عن القبائح، وقد سوغ سيبويه أن توصل أَنْ بالأمر والنهي، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر.(11/279)
حَنِيفاً حال من لِلدِّينِ أو من الوجه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معطوف على قوله: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء.
البلاغة:
ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بينهما طباق.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ.. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ بين الجملتين مقابلة.
فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ إظهار الفضل في موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد لهم من الخير، لا استحقاق لهم عليه.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لأهل مكة وغيرهم. فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أي في صحته وأنه حق مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره وهو الأصنام، لشككم فيه. يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم، والمعنى كما ذكر البيضاوي: هذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا، فاعرضوها على العقل الصرف، وانظروا إليها بعين الإنصاف، لتعلموا صحتها: وهو أني لا أعبد ما تختلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي وأمرت بأن أكون من المصدقين بما دل عليه العقل ونطق به الوحي.
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي وبأن أستقيم في الدين بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح.
حَنِيفاً مائلا عن الشرك وتوابعه إلى الدين الحق. ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بنفسه إن.
دعوته أو خذلته، فلا ينفعك إن دعوته، ولا يضرك إن لم تعبده. فَإِنْ فَعَلْتَ فإن دعوته وفعلت ذلك افتراضا.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصبك. بِضُرٍّ أي سوء من مرض أو ألم أو فقر. فَلا كاشِفَ رافع. فَلا رَادَّ فلا دافع لفضله الذي أرادك به. قال البيضاوي: ولعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول. يُصِيبُ بِهِ أي بالخير. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي فتعرضوا لرحمته بالطاعة، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على صحة الدين ووحدانية الخالق وصدق(11/280)
النبوة، أمر رسوله بإظهار دينه، وبإظهار المفارقة بينه وبين الشرك وما عليه المشركون من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الله الذين خلقهم، فتخرج عبادة الله من حالة السر إلى الإعلان.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن يقول لأهل مكة وغيرهم من الناس إلى يوم القيامة: إن كنتم لا تعرفون ديني، فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل، وإن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي، فاعلموا وصفه وأنه لا مجال للشك فيه، وهو أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، من حجارة وغيرها لأنها لا تضر ولا تنفع، بل أعبد الله وحده لا شريك له، الذي يتوفاكم كما أحياكم، ثم إليه مرجعكم، وأن أكون من المؤمنين إيمانا حقا بالله، العارفين به تمام المعرفة.
وفي هذا تعريض بأن الدين الحق لا يشك فيه، ويستحسنه ذوو العقول الصحيحة والفطر السليمة، وأما عباده الأصنام فمقطوع ببطلانها لأنها لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، ويستنكرها كل عاقل، فإنها أحجار!!.
ويلاحظ أنه تدرج من نفي عبادة غير الله لأن الإزالة في كل شيء بقصد إصلاحه مقدمة على الإثبات، والتخلي مقدم على التحلي، ثم انتقل إلى إثبات عبادة الله، ليبين أنه يجب ترك عبادة غير الله أولا، ثم يجب الاشتغال بعبادة الله، ثم انتقل إلى ذكر الإيمان والمعرفة بعد العبادة التي هي عمل جسدي، ليدل على وجوب تطابق العمل مع الاعتقاد، فإنه لا جدوى لعمل ما لم ينبع من اعتقاد صحيح يتجلى فيه نور الإيمان والمعرفة. وفي هذا التدرج من نفي عبادة الأصنام إلى إثبات من يعبده وهو الذي يتوفاكم، وفي ذكر هذا الوصف الدال على التوفي دلالة على البدء وهو الخلق وعلى الإعادة «1» .
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 195(11/281)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ.. أي وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقيم وجهي للدين القيم، أي بالاستقامة في أمر الدين بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، وبأن أخلص العبادة لله وحده، حنيفا أي مائلا عن الشرك والباطل إلى الدين الحق، ولهذا قال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي ممن يشرك في عبادة الله إلها آخر، وهو معطوف على قوله: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي قيل لي: كن من المؤمنين وأقم وجهك ولا تشرك.
فقوله أَقِمْ وَجْهَكَ معناه استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. ونظير الآية قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 79] .
وهذا يدل على وجوب التوجه في العبادة والدعاء إلى الله وحده، دون التفات إلى شيء سواه، فمن توجه بقلبه إلى غير الله في عبادة أو دعاء فهو عابد غير الله.
لذا قال تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ... أي لا تدع ولا تعبد أيها الرسول متجاوزا الله تعالى ما لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة إن دعوته، ولا يضرك أصلا إن تركت دعاءه.
فإن فعلت هذا وعبدت ودعوت غير الله، كنت حينئذ من الظالمين نفسك لأنه لا ظلم أكبر من الشرك بالله تعالى، ومن الظلم وضع العبادة في غير موضعها.
ثم أكد الله تعالى سلب صلاحية النفع والضر عن غير الله، فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... أي وإن تتعرض لضرر يمسّ جسمك أو مالك من مرض أو فقر أو ألم، فلا كاشف أو لا رافع له إلا الله، وإن يردك أو يخصك الله بخير منه في دينك أو دنياك من نصر ورخاء ونعمة وعافية، فلا دافع لفضله إلا الله إذ(11/282)
لا رادّ لقضائه، ولا معقب لحكمه ولا مانع لفضله أحد، وهو القادر على كل شيء، يمنح ويمنع، ويعطي ويحرم، يفعل كل ذلك بحكمة وعلم.
والفضل الإلهي يكون عادة عاما بعموم الرحمة، أما الضرر فإنه لا يقع إلا بسبب، فإن البلاء لا يقع إلا بذنب، ولا يرتفع إلا بتوبة: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى 42/ 30] .
وهو سبحانه الغفور الرحيم لمن تاب إليه، ولو من أي ذنب كان، حتى من الشرك به، فإنه يتوب عليه، فتعرضوا لرحمته بالطاعة، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمرين: تخصيص العبادة بالله تعالى ونبذ الشرك، وبيان أن الضار والنافع هو الله تعالى، مما يوجب استحقاقه العبادة.
أما تخصيص العبادة وإخلاصها بنحو كامل نقي لله عز وجل فيتطلب ضوابط أو قيودا ستة مفهومة من الآيات الثلاث الأولى وهي ما يأتي:
1- الامتناع النهائي البات المطلق عن عبادة غير الله بمختلف الأشكال.
2- عبادة الله تعالى وحده دون سواه لأنه المحيي المميت وإليه المرجع والمآب.
3- التصديق أو الإيمان الكامل الذي لا يخالجه أي شك بآيات الله.
4- الاستقامة على أمر الدين بأداء الفرائض واجتناب القبائح، والميل التام عما سوى الدين والشرع القويم، فقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً كما قال الرازي: إشارة للاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه.(11/283)
5- تجنب كل مظاهر الشرك الحقيقي الظاهر من عبادة الأوثان ونحوها، وهذا صار مفهوما من آية فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وتجنب ما يسمى بالشرك الخفي وهو الرياء، وهو المراد بقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
6- الامتناع من عبادة أي شيء سوى الله، مما لا يضر ولا ينفع، ولا يغني من الحق شيئا، ولا يفيد شيئا عند الله، ولا ينفع عابده أو داعيه، فمثل تلك العبادة والتعظيم لغير صاحب العظمة والجلال ظلم بحت بوضع العبادة في غير موضعها، وضياع وإهدار للجهود، وعدم إثمارها شيئا ما.
وأما النفع والإضرار وجلب الخير ودفع الشر: فلا يؤمل الخير من غير الله تعالى، ولا يدفع الشر بغير الله تعالى، ولا يمنح الفضل سوى الله، ولا يكشف السوء غير الله عز وجل، وهو سبحانه في كل الأحوال غفور لمن استغفره، رحيم بمن تاب إليه وأناب، ولو من أعظم المعاصي والجرائم هو الشرك.
ففي قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الآية بيان أن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده، لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وتكون هذه الآية مؤكدة للآيات السابقة، ومكملة لها، ومبرهنة لكل ذي عاقل أن المعبود بحق هو الله الذي يكشف الضر والسوء، ويمنح الفضل والخير.
روى الحافظ ابن عساكر عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوا أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم» .
7- المغفرة والرحمة تشملان كل من تاب وأناب، ولو من أي ذنب كان، حتى من الشرك به، فإن الله يتوب عليه.(11/284)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
الإسلام دين الحق ووجوب اتباعه
[سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
الإعراب:
وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ مبتدأ وخبر.
البلاغة:
فَمَنِ اهْتَدى.. وَمَنْ ضَلَّ بينهما طباق.
يَحْكُمَ اللَّهُ.. الْحاكِمِينَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة وغيرهم. قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ.. أي رسوله والقرآن، ولم يبق لكم عذر. فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن نفعه وثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ بالكفر بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلّم. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال الضلال عليها. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إليّ أمركم، وإنما أنا بشير ونذير.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك بالامتثال والتبليغ. وَاصْبِرْ على دعوتهم وأذاهم.
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فيهم بامره بالنصرة أو بالأمر بالقتال. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أعدلهم إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر.(11/285)
المناسبة:
هذه خاتمة عظيمة موجزة أجملت ما في السورة من مبدأ اتباع شريعة الله ووحيه إلى نبيه، فبعد أن قرر سبحانه وتعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وزيّن آخر هذه السورة بالبيان الدال على استقلاله تعالى بالخلق، والإبداع، ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية، وهي إكمال الشريعة أو دين الحق، وأزال علة التنكر لها، وأوجب اتباعها، وأوضح للناس كافة طريق الرؤية الصحيحة: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.
التفسير والبيان:
قل أيها الرسول للناس قاطبة، من حضر ومن ستبلغه هذه الدعوة: قد جاء الحق المبين من ربكم، يبين حقيقة هذا الدين، وكمال هذه الشريعة، على لسان رجل منكم.
فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله تعالى هو الحق الذي لا شك فيه.
فمن اهتدى به، وصدق القرآن ورسول الله، واتبعه، فإنما يهتدي لنفسه، أي يعود نفعه وثواب اهتدائه واتباعه على نفسه، ومن ضل عنه وحاد عن منهجه، فإنما يضل على نفسه، أي يرجع وبال ذلك عليه.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي وما أنا بموكّل بكم من عند الله بأموركم حتى أجعلكم مؤمنين وأكرهكم على الإيمان، وإنما أنا نذير منذر لكم عذاب الله لمن أعرض وكذب، وبشير مبشر من اهتدى، والهداية على الله تعالى.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ.. أي اتبع يا محمد ما أنزل الله عليك وأوحاه إليك، وتمسك به أشد التمسك، واصبر على دعوتك وأذى قومك ومخالفة من(11/286)
خالفك من الناس، حتى يحكم الله، أي يقضي بالفصل بينك وبينهم، أي المكذبين فينصرك عليهم ويحقق لك الغلبة، وهو خير الحاكمين أي أعدل الحكام وأحكمهم، يقضي بالعدل التام والحكمة الصحيحة والواقع الحقيقي. وقد أنجز الله وعده لنبيه صلى الله عليه وسلّم فنصره مع الجند المؤمنين، على فئات المشركين، واستخلفهم في الأرض، وجعلهم الأئمة الوارثين.
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم عما لقيه من أذى قومه، ووعد للمؤمنين أنصاره، ووعيد للكافرين أعدائه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يأتي من الأحكام:
1- الإسلام دين الحق وشريعة الله الكاملة، والقرآن مصدر هذا الحق والشرع، والرسول صلى الله عليه وسلّم هو المعبّر عن الدين الحق المبلغ له.
2- الإسلام منهج الهداية الربانية ومعقد الأمل والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فمن أبصر الحق واتبع سبيل الهداية الإلهية بما فيها من اعتقاد حق صحيح، وتشريع عادل، ونظام سديد، فاز ونجا وأسعد نفسه، ومن تنكب طريق الحق، وترك الرسول صلى الله عليه وسلّم والقرآن، واتّبع الأصنام والأوثان، وسار مع الأهواء وتقليد الآباء والأجداد، هلك ووبال ذلك على نفسه.
3- ما الرسول إلا مبلغ وحي الله، مبشر من أطاعه بالجنة، منذر من عصاه بالنار، لا يملك إكراه أحد على الإيمان بدعوته، واتباع رسالته.
4- الرسول كغيره من الرسل والمؤمنين يجب عليه اتباع ما أوحى الله له، والصبر على الطاعة وعن المعصية، فإن أصابه مكروه بسبب نشر دعوته، فليصبر عليه إلى أن يحكم الله فيه وله بالنصر على أعدائه والغلبة على المكذبين.(11/287)
قال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلّم الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم، فقال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة «1» ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» .
5- لا يحكم الله عز وجل إلا بالحق والعدل، وحكمه مطابق يقينا للواقع لأنه يعلم السرائر والبواطن كما يعلم الظواهر.
__________
(1) أي حب الذات والمؤاثرة عليكم، فيفضل غيركم مثلا في نصيبه من الفيء، وتكون الأولوية للأتباع والأشياع، لا للذين سبقوا إلى الإيمان ونصرة الإسلام.(11/288)
[الجزء الثاني عشر]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هود عليه السلام
مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة هود لاشتمالها على قصة هود عليه السلام مع قومه: «عاد» في الآيات [50- 60] وهي كغيرها من قصص القرآن تمثل صراعا حادا عنيفا بين هود عليه السلام وبين قومه الذين دعاهم إلى عبادة الله تعالى، وهجر عبادة الأصنام والأوثان، فلما أصروا على كفرهم وتكذيبه، عذبهم الله بعذاب غليظ شامل وهو الريح العقيم الصرصر، التي سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود 11/ 58] وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 6- 8] .
نزولها وشأنها ومناسبتها لما قبلها:
هذه السورة مكية أي نزلت في مكة إلا الآيات الثلاث التالية وهي:
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ.. [12] كما قال ابن عباس ومقاتل، وقوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.. [17] فإنها(12/5)
نزلت في ابن سلام وأصحابه، وقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.. [114] فإنها نزلت في نبهان التمار.
وقد نزلت بعد سورة يونس، وهي منفقة معها في معناها وموضوعها وافتتاحها ب الر واختتامها بوصف الإسلام والقرآن والنبي الذي جاء بالحق من الله، والدعوة إلى الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفصيلها ما أجمل في سورة يونس من أمور الاعتقاد من إثبات الوحي والتوحيد والبعث والمعاد والثواب والعقاب والحساب، وإعجاز القرآن وإحكام آياته، ومحاجّة المشركين في ذلك وتحديهم بالقرآن، وذكر قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام.
وتمتاز هذه السورة بما فيها من القوارع والزواجر التي اشتملت عليها قصص هؤلاء الأنبياء، والدعوة الشديدة إلى الاستقامة، مبتدأة بالنبي صلى الله عليه وسلّم،
روى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبت، قال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت» .
وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم عما شيبة من سورة هود، فقال: قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
ومن فضائلها:
ما أسنده أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة»
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة هود، أعطي من الأجر عشر حسنات..» .
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة كسورة يونس أصول الدين العامة وهي التوحيد، والرسالة، والبعث والجزاء، وتوضيح هذه العناصر إجمالا فيما يأتي:(12/6)
1- إثبات كون القرآن من عند الله، من طريق إحكام آياته وإتقانها بنظمها نظما رصينا محكما لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم، ثم تفصيلها في الحال دون تراخ، ببيان دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والتفرقة بين الحق والباطل، ومن طريق إعجاز القرآن وتحديه العرب بأن يأتوا بعشر سورة مثله: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود 11/ 13] وبعد أن عجزوا عن محاكاته والإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه، أعلن الله تعالى إفلاسهم وعجزهم فقال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود 11/ 14] .
2- توحيد الله: وهو نوعان:
أ- توحيد الألوهية: وهو عبادة الله وحده وعدم عبادة أحد سواه، كما قال تعالى في مطلع هذه السورة: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.. فعبادة كل من سواه كفر وضلال.
ب- توحيد الربوبية: أي الاعتقاد بأن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته. وكان عرب الجاهلية يؤمنون بأن الله هو الرب الخالق: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. [العنكبوت 29/ 61] ولكنهم كانوا يقولون بتعدد الآلهة. وورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت توحيد الربوبية، مثل المذكور في هذه السورة: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ..
[7] والخلق: التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة، ثم أريد به الإيجاد التقديري.
3- إثبات البعث والجزاء: للإيمان بهما وللترغيب والترهيب، كما في قوله(12/7)
تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [4] وقوله: وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [7] .
4- اختبار البشر لمعرفة إحسان أعمالهم: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7] .
5- الموازنة بين طبع المؤمن والكافر في أحوال الشدة والرخاء، فالمؤمن صابر وقت الشدة، شاكر وقت الرخاء، والكافر فرح فخور حال النعمة، يئوس كفور حال المصيبة [الآيات 9- 11] .
6- استعجال البشر الخير والنفع، والعذاب الذي ينذر به الرسل: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ: ما يَحْبِسُهُ.. [8] وقال تعالى في سورة يونس المتقدمة: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [11] .
7- طبائع البشر مختلفة حتى في قبول الدين إلا من رحم ربك:
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ.. [118- 119] أي أن لهذا الاختلاف فوائد علمية وعلمية، كما أن فيه مضارّ إذا أدى إلى التفرق في الدين والاختلاف في أصول الحياة والمصالح العامة.
8- إيراد قصص الأنبياء بالتفصيل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم على ما يتعرض له. من أذى قريش وصدودهم عن دعوته: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [120] ، وفي كل قصة عبرة وعظة أيضا للمؤمنين. وقد ذكر الله قصة نوح أب البشر الثاني وأمره له بصناعة الفلك، لنجاته ومن معه من المؤمنين، وإغراق قومه بالطوفان الذي عم الأرض، ونوح أطول الأنبياء عمرا، وأكثرهم بلاء وصبرا [الآيات: 25- 49] وتبين من قصته أن أتباع الرسل عادة هم(12/8)
الفقراء، كما حكى تعالى عن قوم نوح: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود 11/ 27] .
ثم ذكر الله تعالى قصة هود الذي سميت السورة باسمه، ودعوته قومه «عاد» الأشداء العتاة المتجبرين إلى عبادة الله تعالى، فاعترفوا بقوتهم وقالوا:
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية في بحر أسبوع:
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 7] وعبر عن ذلك بأنه عذاب غليظ، بسبب الكفر والجحود بالآيات الإلهية: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.. [الآيات: 50- 60] .
ثم ذكر سبحانه قصة صالح مع قومه ثمود [الآيات: 61- 68] . وأشار إلى قصة ضيوف إبراهيم من الملائكة [الآيتان: 69- 70] ثم قصة «لوط» [الآيات: 70- 83] ثم قصة شعيب [الآيات: 84- 95] ثم قصة موسى مع فرعون [الآيات: 96- 99] .
9- التعقيب المباشر على ما في تلك القصص من عبر وعظات، بإهلاك الظالمين، كما قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآيات: 100- 111] .
10- الأمر بالاستقامة في الدين [الآية: 112] وهو أمر ثقيل شديد على النفس، يتطلب جهاد النفس، والصبر على أداء الواجبات، وحمايتها من الموبقات المهلكات.
11- الطغيان سبيل الدمار، والركون إلى الظلم موجب عذاب النار:
وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [الآية: 113] .
12- الأمر بإقامة الصلاة في أوقاتها ليلا ونهارا لأن الحسنات يذهبن(12/9)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
السيئات [الآية: 111] والصبر على الطاعة، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [الآية: 115] .
13- محاربة الفساد في الأرض من أجل حفظ الأمة والأفراد من الهلاك:
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [الآية: 116] .
14- لا إهلاك ولا عذاب للأمم في حال الإصلاح [الآية: 117] .
15- تهديد المعرضين عن دعوة الحق بالعذاب، وجعل العاقبة للمتقين.
ويلاحظ أن التهديد والترغيب أمران متلازمان مفيدان في إصلاح الأفراد والجماعات، وبناء الأمة وتحقيق غلبتها على خصومها، لذا اقترنا غالبا في القرآن.
16- ختمت السورة بما بدئت به من الأمر بعبادة الله وحده والاتكال عليه، والتحذير من عقابه: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، ليتناسق البدء مع الختام.
إحكام القرآن ودعوته إلى عبادة الله والتوبة إليه والإيمان بالبعث
[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)(12/10)
الإعراب:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ كتاب: كتاب: خبر مبتدأ محذوف، وأُحْكِمَتْ صفة له، وقال الرازي:
الر اسم للسورة وهو مبتدأ، وكِتابٌ خبره، وذكر البيضاوي الوجهين.
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أي من عنده إحكامها وتفصيلها.
أَلَّا تَعْبُدُوا إما أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: قال: ألا تعبدوا إلا الله، أو آمركم ألا تعبدوا إلا الله، مثل قوله تعالى: أَنِ امْشُوا [ص 38/ 6] أي امشوا. وإما أن تكون مفعولا لأجله، على معنى: لئلا تعبدوا إلا الله.
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا معطوف على أَلَّا تَعْبُدُوا على الوجهين السابقين.
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه.
يُمَتِّعْكُمْ مجزوم لأنه جواب الأمر، وهو قوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ وجزم جواب الأمر لأنه جواب لشرط مقدّر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولّوا، فحذفت إحدى التاءين، لاجتماع حرفين متحركين من جنس واحد، فاستثقلوا اجتماعهما، فحذفوا إحداهما تخفيفا.
البلاغة:
أُحْكِمَتْ.. وفُصِّلَتْ بينهما طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم، وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور. وكذلك بين نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ طباق أيضا.
عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إضافة العذاب إلى اليوم الكبير وهو يوم القيامة للتهويل.
المفردات اللغوية:
الر تقرأ بأسمائها ساكنة، كما ذكر في أول سورة يونس، فيقال: ألف، لام، را، وهي للتحدي والإلزام للعرب الفصحاء، لإثبات إعجاز القرآن وكونه من عند الله، أو هي حروف تنبيه مثل: ألا، لما سيلقى بعدها. والسور المفتتحة بمثل تلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران. والسور المكية تعنى بإثبات التوحيد والبعث والوحي وإعجاز القرآن، وفيها غالبا قصص الأنبياء.(12/11)
أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما محكما لا خلل فيه من جهة اللفظ والمعنى ثُمَّ فُصِّلَتْ بينت الأحكام والقصص والمواعظ، وبالإحكام والتفصيل يصبح القرآن كامل الصورة والمعنى. وقال الزمخشري: ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد (أي عقود النساء) بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد، أي بيّن ولخص «1» .
وقوله: ثُمَّ فُصِّلَتْ ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل «2» .
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي من عند الله الحكيم الصنع في أقواله وأفعاله وأحكامه، العليم بأحوال الناس والكون، في الظاهر والباطن، الخبير بعواقب الأمور.
نَذِيرٌ بالعذاب إن كفرتم أو أشركتم وَبَشِيرٌ بالثواب إن آمنتم أو التزمتم عقيدة التوحيد وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك والمعاصي ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا بالطاعة يُمَتِّعْكُمْ في الدنيا مَتاعاً حَسَناً بطيب عيش وسعة رزق. والمتاع: كل ما ينتفع به في المعيشة.
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الموت أو العمر المقدّر وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يعط كل محسن ذي فضل في العمل جزاءه وَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولوا، فحذفت إحدى التاءين، أي تعرضوا عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة أو يوم الشدائد، وقد ابتلي مشركو مكة بالقحط حتى أكلوا الجيف.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في ذلك اليوم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ القادر على كل شيء، ومنه الثواب والعذاب، وكأنه تقرير لكبر ذلك اليوم.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات تقرير أصول الدين وهي إحكام القرآن وتفصيله، والدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والإنابة إليه، والإيمان بالبعث والجزاء في عالم الآخرة.
والمعنى: هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر، محكم النظم والمعنى، لا خلل
__________
(1) الكشاف: 2/ 89
(2) الكشاف: 2/ 90(12/12)
فيه ولا نقص، فهو كامل الصورة والمعنى لأنه صادر من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه، الخبير بحوائج عباده وبعواقب الأمور.
ففي هذه السورة كغيرها من السور تبيان حقائق الاعتقاد وتفنيد أباطيل الكافرين، وتوضيح أسلم الأحكام التشريعية للحياة، وأقوم المناهج والفضائل والمواعظ من خلال القصص القرآني والتنبيه إلى غرر الشمائل والأخلاق.
أَلَّا تَعْبُدُوا.. أي أن هذا الكتاب المحكم نزل بألا تعبدوا غير الله ولا تشركوا به شيئا، أو أنه نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، أو لئلا تعبدوا إلا الله، وهذا كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] .
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي، وقل للناس: إنني كائن لكم من جهة الله، نذير من العذاب، إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه، كما جاء
في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال: «يا معشر قريش، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم، ألستم مصدّقي؟» فقالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» .
وهذا بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلّم ووظيفته وهي الإنذار لمن عصاه بالنار، والتبشير لمن أطاعه بالجنة.
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... أي: وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة، أي أن تطلبوا المغفرة من الشرك والكفر والمعاصي، وأن تتوبوا منها إلى الله عز وجل بالندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب في المستقبل،(12/13)
والاستمرار على ذلك، فإن استغفرتم وتبتم من الذنوب، يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا، أي يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة طيبة ورزق واسع ونعمة متتابعة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يتوفاكم، كقوله تعالى:
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل 16/ 97] . والجمع بين الاستغفار والتوبة للدلالة على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة، والاستغفار مطلوب بالذات، والتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، هذا على أساس أنهما معنيان متباينان لأن الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والتوبة:
الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها، والمعنى: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. ومن قال: الاستغفار توبة، جعل قوله: ثُمَّ تُوبُوا بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والعبادة.
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل جزاء فضله لا يبخس منه.
والتمتيع في الدنيا والثواب في الآخرة جمع بين الجزاءين، إلا أن جزاء الدنيا موقوت محدود، وجزاء الآخرة دائم مطلق غير مقيد بشيء. وفي هذا دلالة على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه تعالى، وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطائه، كما أن فيه إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس، لا لكل فرد فرد، وأما جزاء الآخرة فمخصوص بكل فرد على حدة.
ومن عادة القرآن أن يذكر الشيء وفائدته للترغيب فيه، ثم يذكر مقابله للترهيب والتهديد، والتنفير، فقال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي وإن أعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإني أخشى عليكم عذاب يوم كبير هو يوم القيامة، وصف بالكبر لما فيه من الأهوال، كما وصف بالعظم والثقل والشدة والألم، لما فيه من العظائم والشدائد والأثقال والآلام.(12/14)
ثم بيّن عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، ومنه العذاب والثواب، أي أن معادهم يوم القيامة، إلى الله القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة. ولفظ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره.
وهذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذّب رسله، فإن العذاب يناله يوم القيامة، لا محالة. وهو ترهيب يقابل الترغيب السابق.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- آي القرآن الكريم محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل، منظمة بنظم محكم اللفظ والمعنى، لا تناقض فيها ولا اضطراب، مفصلة تفصيلا تاما شاملا جميع الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها، فهي كاملة الصورة والمعنى، محققة للمصالح البشرية في الدنيا والآخرة. وقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ دليل على وجود الصانع الخالق.
2- دعوة القرآن صريحة تتجه نحو تحقيق العبودية للخالق المنعم المتفضل، وتخصيصه وإفراده بالعبادة، دون أي أحد سواه، فالآية مشتملة على الأمر بعبادة الله، ومنع عبادة غير الله.
3- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم هي الإنذار والتخويف لمن عصاه بالعذاب، والتبشير بالرضوان والجنة لمن أطاعه.
4- واجب الإنسان الاستغفار، أي طلب المغفرة من الشرك والذنوب، والتوبة والإنابة إلى الله بالطاعة والعبادة، فمعنى قوله تُوبُوا ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذابين.(12/15)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
5- إن ثمرة الاستغفار والتوبة وهو الفضل الإلهي على الإنسان المؤمن الطائع أمر عظيم واسع شامل الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تمتيع إلى نهاية العمر المقدر بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، وعدم الاستئصال بالعذاب كما فعل بمن أهلك من الأمم السابقة، فالمتاع الحسن: وقاية من كل مكروه وأمر مخوف، واستمتاع بطيبات الحياة. وفي الآخرة إيتاء كل ذي عمل من الأعمال الصالحة جزاء عمله. ودلت الآية على أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط.
6- مرجع أو معاد الخلائق جميعا بعد الموت إلى الله تعالى القادر على كل شيء من ثواب وعقاب. وهذا ترهيب بعد الترغيب السابق.
إعراض الكفار عن الحق
[سورة هود (11) : آية 5]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
البلاغة:
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يعرضون عن الحق، ويطوون صدورهم على ما فيها من حقد وحسد وعداوة النبي صلى الله عليه وسلّم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي يحاولوا الخفاء من الله أو ليتواروا عن محمد يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يتغطون بها يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ في أفواههم، فالله تعالى يستوي في علمه سرهم وعلنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب وأحوالها.(12/16)
سبب النزول:
روى البخاري عن ابن عباس في قوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال:
كان أناس يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. أي كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، أي في المسلمين.
وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال: كان أحدهم إذا مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلّم ثنى صدره لكيلا يراه، فنزلت.
وقيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد، كيف يعلم؟
وذكر الواحدي والقرطبي: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما يحب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
والظاهر لي أن الآية في إعراض الكفار عن الحق، بدليل ما قبلها وما بعدها.
المناسبة:
بعد وصف حالة الكفار وبيان أنهم إن أعرضوا عن عبادة الله وطاعته، تعرضوا لعذاب يوم كبير، بيّن الله تعالى أن التولي عن ذلك باطنا أو سرا كالتولي عنه ظاهرا، وأن إعراضهم متصف بالحيرة والجهل.
التفسير والبيان:
ألا إن الكفار أو المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله، يعرضون عن(12/17)
النبي صلى الله عليه وسلّم بصدورهم، كيلا يراهم النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا يراهم أحد، إمعانا في العناد والكفر. وقوله: أَلا للتنبيه.
ألا حين يستغشون ثيابهم ويغطون بها رؤوسهم، ليستخفوا أو يتواروا من محمد أو من الله، يظنون أن الله لا يراهم، مع أن الله يعلم ما يسرون في قلوبهم، وما يعلنون بأفواههم، ويعلم ما يسرون ليلا، وما يظهرون نهارا.
وكرر أَلا للتنبيه على وقت استخفائهم. وعود الضمير إلى الله أولى، لقوله تعالى: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
إن الله عليم بالأسرار ذات الصدور، وبخواطر القلوب، فليحذر من يظن أن أسراره خفية على الله، وليعلم أن الله مطلع على كل شيء في الوجود، وما تنطوي عليه النفوس من شكوك وأوهام، ويجازي كل إنسان بما أسر وأعلن.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على تصميم الكفار في إعراضهم عن سماع القرآن، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الإيمان برسالته، وأنهم بهذا الإعراض أغبياء جاهلون.
ودلت أيضا على أنه لا فائدة في استخفائهم وتواريهم عن الله أو عن محمد صلى الله عليه وسلّم لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود من النيات والضمائر والسرائر، ومن الأقوال والأفعال العلنية، يستوي علمه بالسر مع علمه بالجهر، ولا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم.(12/18)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
فضل الله وعلمه وقدرته
[سورة هود (11) : الآيات 6 الى 7]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
المفردات اللغوية:
وَما مِنْ دَابَّةٍ: مِنْ: زائدة، والدّابة في اللغة: كل ما يدبّ على الأرض، زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه، وإطلاق الدّابة على الخيل والبغال والحمير إطلاق عرفي. رِزْقُها غذاؤها ومعاشها، لتكفله إياها تفضّلا ورحمة. وإنما أتى بلفظ الوجوب بهذا التّعبير تحقيقا لوصوله وضمانه وحملا على التّوكل فيه. مُسْتَقَرَّها مكانها من الأرض ومسكنها. وَمُسْتَوْدَعَها ما كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة، والمراد بالمستقر والمستودع: أماكن الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلّ مما ذكر، أي كلّ واحد من الدواب وأحوالها ورزقها ومستقرّها ومستودعها مذكور في اللوح المحفوظ، مكتوب فيه مبيّن، والمراد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها، وكونه قادرا على الممكنات بأسرها، لتقرير التوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي وكان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السّموات والأرض. وليس المعنى على سبيل كون أحدهما ملتصقا بالآخر، وإنما كقوله: السماء على الأرض. والماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. والعرش: مركز التنظيم للملك ومصدر التدبير، وهو أعظم من السموات والأرض.
لِيَبْلُوَكُمْ متعلّق بخلق، أي خلق ذلك لحكمة بالغة هي أن يعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم المختبر لأوضاعكم كيف تعملون. والابتلاء: الاختبار والامتحان. أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أطوع لله، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، وأما أعمال الكافرين فتتفاوت إلى حسن(12/19)
وقبيح. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما هذا القرآن الناطق بالبعث، والذي تقوله يا محمد إلا سحر، أي تخييل وتمويه، مُبِينٌ أي بيّن ظاهر البطلان. ويجوز تضمين قُلْتَ معنى ذكرت. ومعنى قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر، تشبيها له به.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أردفه بما يدلّ على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل شيء، فهو الخالق والرّازق والعالم بأحوال البشر، والباعث لهم بعد الموت، فالبعث واقع لا محالة.
التفسير والبيان:
ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجوّ إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها، المعدّ لطعامها بعد البحث والحركة والعمل، ويعلم مستقرّها ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرّها، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها، ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام وأيام الحياة والممات.
وكل ما ذكر من كلّ الدّواب وأرزاقها ومستقرّها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق.
وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة عَلَى المفيدة للوجوب تفضّلا منه ورحمة، إلا أن الرّزق بمقتضى سنّته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات، أي أن الحصول على الرّزق مرتبط بالسّعي والعمل، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق، وهدايتهم إلى الطّلب والتّحصيل، كما قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] .(12/20)
ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام 6/ 38] ، وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] .
وبعد أن أثبت تعالى بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات، أثبت بكونه خالقا السموات والأرض كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وفي الحقيقة كل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته، فقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...
أي أنه تعالى يخبر عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق أو أبدع وكوّن السموات والأرض في ستة أيام من أيام الله في الخلق والتكوين، لا كأيامنا الحالية، وهو الظاهر بدليل قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج 22/ 47] وقوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] . ويقدر علماء الفلك اليوم من أيام التكوين بألوف الألوف من سنوات الدنيا.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ العرش: أعظم المخلوقات، ولا نعلم حقيقته وإنما نؤمن به كما أخبر عنه تعالى، وأما استواؤه عليه، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما روي عن أم سلمة رضي الله عنها ومالك وربيعة. وهذه الآية تدل على كيفية بدء الخلق قبل أن يخلق الله السموات والأرض، وعلى أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض، وأن العرش كان قبل أن يخلق شيئا، وأن ما تحت العرش هو الماء أصل المادة الحية، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً، فَفَتَقْناهُما، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ(12/21)
[الأنبياء 21/ 30] وهذا ما يسميه علماء الفلك بنظرية السديم، ويعبر عنها القرآن بالدخان، أو الماء أو متن الريح.
ثم ذكر تعالى علة الخلق العجيب بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ولم يخلق ذلك عبثا، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] .
والتكليف بالعبادة والطاعة واجتناب المعاصي للاختبار والامتحان، ومعرفة الأحسن عملا: وهو العمل الخالص لله عز وجل، القائم على أساس شريعة الله، فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين حبط وبطل، فمن شكر وأطاع أثابه الله، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال:
لِيَبْلُوَكُمْ أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم، كيف تعملون.
وبما أن للابتلاء والاختبار ثمرة، فلا بدّ من حصول الحشر والنشر، المقتضي تخصيص المحسن بالرحمة والثواب، وتخصيص المسيء بالعقاب، ولا بد للعاقل من الاعتراف بالمعاد والقيامة، لذا قال تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ....
والمعنى ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت، وذكرت ذلك للمشركين، لقال الكافرون: هذا سحر، أي غرور باطل لأن السحر في مفهومهم باطل. ومعنى الجملة: ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان.(12/22)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- تكفل الله بأرزاق المخلوقات، وضمنها لهم تفضلا من الله تعالى لهم، ورحمة بهم. وهذا دليل على اتصافه تعالى بالعدل والرحمة. ولكن الرزق مرتبط بالسعي والكسب والعمل، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك 67/ 15] .
2- علم الله عز وجل محيط شامل بكل مخلوقات الأرض ودوابها البرية والبحرية والجوية، بدءا من وجود مادتها في الأصلاب والأرحام، إلى ظهورها في ساحة الحياة الحركية، إلى تنقلاتها وتحركاتها ومسيرها حيث تأوي إليه، وإلى الموضع الذي تموت فيه فتدفن.
3- الله خالق السموات والأرض وما بينهما من كائنات حية، وهاتان الآيتان: وَما مِنْ دَابَّةٍ ووَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ تدلان على كمال علم الله تعالى وكمال قدرته.
4- العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء. والله تعالى أمسك الماء لا على قرار، والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات، من غير دعامة تحته، ولا علاقة فوقه.
5- الله خلق السموات لابتلاء واختبار المكلف، وهذا يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكبير لمصلحة المكلفين.
6- الواجب قطعا وعقلا حصول الحشر والنشر، والاعتراف بالمعاد والقيامة، لإقامة العدل بين الخلائق، وللجزاء الذي يميز بين المحسنين والمسيئين، فيجازى المحسن بالثواب والرحمة، والمسيء بالعقاب والعذاب.(12/23)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
موقف الإنسان المؤمن والكافر عند النعمة والنقمة
[سورة هود (11) : الآيات 8 الى 11]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
الإعراب:
وَلَئِنْ أَخَّرْنا اللام للقسم، والجواب: لَيَقُولُنَّ.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا اللام في لَئِنْ موطئة لقسم مقدّر، وليست جوابا للقسم، وإنما جوابه قوله: إنه ليئوس كفور. وأغنى جواب القسم عن جواب الشرط، كما في قوله تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء 17/ 88] فرفع لا يَأْتُونَ على أنه جواب القسم الذي هيأته اللام، وتقديره: والله لا يأتون. ولو كان جواب الشرط، لكان مجزوما، فلما رفع دل على أنه جواب القسم، واستغني به عن جواب الشرط.
أَلا يَوْمَ منصوب بخبر لَيْسَ مقدم عليه، وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها.
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في موضع نصب على الاستثناء من: الْإِنْسانَ لأن المراد به الجنس المفيد للاستغراق، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر 103/ 2] . وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] . وإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق 96/ 6] . وقيل: هو استثناء منقطع.
أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مبتدأ وخبر.(12/24)
البلاغة:
لَيَؤُسٌ كَفُورٌ من صيغ المبالغة، أي شديد اليأس، كثير الكفران.
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
إِلى أُمَّةٍ المراد: إلى أجل معلوم، أي إلى مجيء أوقات أمة. والأمة في الأصل: الجماعة من جنس واحد، مثل: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص 28/ 23] ، وقد تطلق على الدين والملة، كما في قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف 43/ 22] وقد تطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كما في قوله تعالى:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل 16/ 120] وقد تطلق على الزمن، كما في قوله تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف 12/ 45] وكما هنا. وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل، كما قال تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] . وفي الصحيح: «فأقول: أمتي أمتي» .
لَيَقُولُنَّ استهزاء ما يَحْبِسُهُ ما يمنعه من النزول مَصْرُوفاً مدفوعا وَحاقَ نزل بهم العذاب وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ المراد بالإذاقة هنا: الإعطاء القليل. والمراد بالإنسان هنا:
الكافر أو مطلق الإنسان رَحْمَةً غنى وصحة نَزَعْناها سلبناها إياه لَيَؤُسٌ شديد اليأس من عود تلك النعمة، قنوط من رحمة الله كَفُورٌ شديد الكفر به.
نَعْماءَ هي النعمة والنّعمى: وهي الخير والمنفعة من صحة وغنى، ويقابلها: الضراء والضّر: وهو الألم من فقر وشدة السَّيِّئاتُ المصائب لَفَرِحٌ بطر مغتّر بالنعمة فَخُورٌ متعاظم على الناس بسبب النعم صَبَرُوا على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في النعماء وَأَجْرٌ كَبِيرٌ هو الجنة.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلّم بقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ حكى عنهم في الآية الأولى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا نوعا آخر من أباطيلهم، وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، أخذوا في الاستهزاء، وقالوا: ما سبب حبسه عنا؟(12/25)
وبعد أن ذكر أن عذاب الكفار، وإن تأخر، فلا بد من مجيئه، ذكر بعده ما يدل على كفرهم واستحقاقهم لذلك العذاب، وهو سوء طبع الإنسان، ففي حال النعمة يبطر ويتفاخر، وفي حال الضر يجحد وييأس من رحمة الله، إلا من صبر وشكر وعمل صالحا.
التفسير والبيان:
والله لئن أخرنا العذاب عن الكفار أو المشركين، بعد أن توعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، إلى حين من الزمان، على وفق سنتنا وحكمتنا: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] لقالوا استهزاء وتكذيبا واستعجالا: ما يحبسه؟ أي ما الذي يؤخر هذا العذاب عنا؟ ومعنى إِلى أُمَّةٍ إلى أجل معلوم وحين معلوم.
فأجابهم الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزئون به، لم يصرفه عنهم صارف، وسيحيط بهم حينئذ من كل جانب، جزاء بما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، كما قال تعالى:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور 52/ 7- 8] والمضاف الذي هو جزاء محذوف.
ثم أخبر تعالى عن صفات الإنسان الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين: أنه إذا أعطاه الله نعمة من صحة ورزق وأمن وولد بارّ، رحمة منه، ثم سلبه تلك النعمة، وأبدله بها نقمة من مرض أو فقر أو خوف أو موت أو كارثة، أضحى شديد اليأس من رحمة ربه، كثير الكفر والجحود للماضي ولما عليه من نعم أخرى، فهو قانط بالنسبة للمستقبل، جاحد لماضي الحال كأنه لم ير خيرا، ولما عليه الآن من النعم، وذلك لعدم التزامه بفضيلة الصبر والشكر.
وإن أعطاه الله نعمة من بعد ضراء، كشفاء من مرض، وقوة من بعد ضعف، ويسر من بعد عسر، لقال: ذهب ما كان يسوؤني من المصائب، ولن(12/26)
ينالي بعد اليوم ضيم ولا سوء، وأصبح شديد الفرح والبط بتلك النعمة أو بما في يده، متفاخرا متعاظما على غيره، محتقرا من دونه.
فهو في موقفه هذا لا يقابل النعمة بالشكر عليها، بل يبطر ويفخر على الناس، ولا يواسي البائس الفقير.
ويلاحظ أنه عبر في حال النعمة بقوله: أَذَقْنَا والذوق: إدراك الطعم، ليدل على التمتيع بالنعمة بأقل أوصافها، وفي حال الضراء بقوله:
مَسَّتْهُ والمس: مبدأ الوصول، ليشعر بأن الضر في أقل مرتبة من الإصابة.
وهناك مقابلة بين التعبير ب أَذَقْنَا الذي يفيد اللذة والاغتباط، وقوله: نَزَعْناها الذي يفيد شدة تعلقه بالنعمة والحرص عليها.
وكل هذا يدل على أن في الإنسان طبائع سيئة وأمراضا فتاكة وهي اليأس من رحمة الله والكفر بنعمته، والبطر والفخر والتكبير، ولا علاج لها إلا بالصبر والإيمان والرضا بالقضاء والقدر.
والمراد بالإنسان مطلق الإنسان بدليل استثناء الصابرين الذين يعملون الصالحات منه بقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن المقصود بالإنسان المؤمن والكافر. وحينئذ يكون الإنسان شاملا المؤمن والكافر، والاستثناء متصل، قال القرطبي: وهو حسن.
وفي قول آخر: إن المراد منه الكافر، حملا على المعهود السابق في الآية المتقدمة وهو الكافر، ولأن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر، وهي صفات: اليؤوس، والكفور، وقوله: ذهب السيئات عني، والفرح، والفخور، وتلك هي صفات الكافرين، وليست من صفات أهل(12/27)
الدين، وحينئذ يجب حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، حتى لا تلزم هذه المحذورات.
ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان الصابرين العاملين الصالحات بقوله:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...
أي إلا الذين صبروا على الشدائد والمكاره كالجهاد والفقر والمصيبة، وعملوا الصالحات أي الأعمال الطيبة المفيدة في حال الرخاء أو النعمة والعافية، كأداء الفرائض وشكر النعمة وأعمال البر والخير والإحسان للناس، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم بعملهم الصالح أو بما يصيبهم من الضراء، وأجر كبير في الآخرة على ما عملوا من بر وخير وما أسلفوا في زمن الرخاء، أقله الجنة.
وفي معنى الآية قوله تعالى: وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر 103/ 1- 3]
والحديث النبوي الثابت: «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب، ولا وصب «1» ، ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»
وفي الصحيحين: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء فصبر، كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن» .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
1- أقسم الله تعالى على أن كل عذاب أوعد الله أو الرسول به الكفار آت
__________
(1) النّصب: التعب، والوصب: المرض.(12/28)
لا ريب فيه، ولا يصرفه عنهم صارف، وهو نازل محيط بهم، جزاء ما كانوا به يستهزئون. والمراد من العذاب إما عذاب الدنيا وهو عذاب الاستئصال أو الهزيمة الساحقة في معركة فاصلة كمعركة بدر، وإما عذاب الآخرة. وأخبر تعالى عن أحوال القيامة بلفظ الماضي: وَحاقَ مبالغة في التأكيد والتقرير.
2- وأقسم عز وجل أيضا على أن الإنسان (وهو اسم شائع للجنس في جميع الناس، أو الكفار) إن وجد أقل القليل من الخيرات العاجلة وهو الإذاقة والذوق (وهو أقل ما يوجد به الطعم) يقع في التمرد والطغيان، وإن أدرك أقل القليل من المحنة والبلية، يقع في اليأس والقنوط والكفر. واليؤوس: من الرحمة، والكفور للنعم: الجاحد لها، وكلاهما من صيغ المبالغة، يراد به التكثير، كفخور للمبالغة.
وتفسير هذه الظاهرة: هو أن الكافر يعتقد أن سبب حصول تلك النعمة مصادفة ومجرد اتفاق. وأما المسلم فيعتقد أن تلك النعمة من الله تعالى وفضله وإحسانه، فلا يحصل له اليأس، ويأمل خيرا منها، ويصبر على فقدها كما قال تعالى: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ [القلم 68/ 32] وقال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] .
3- وأقسم تعالى ثالثا على أن الإنسان إن أمدّه الله بنعمة كالصحة والرخاء والسعة في الرزق، بعد ضر مسّه كالفقر والشدة، قال: ذهب السيئات عني أي المصائب التي تسوء صاحبها من الضر والفقر، وهو فرح (بطر) فخور (متعال على الناس) بما ناله من السعة، وينسى شكر الله عليه.
وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، كما قال البيضاوي.
4- استثنى الله تعالى من أوصاف الإنسان الذميمة وأحواله حالة المؤمنين(12/29)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
الذين يصبرون على الشدائد والمكاره، ويكونون عند الرخاء والسعة من الشاكرين، ويعملون الأعمال الطيبة الخيّرة في الدنيا، فهؤلاء لهم من الله مغفرة على ما صبروا على عمل الخير وحال المصاب، ولهم ثواب كبير أقله الجنة. وهذا جمع بين المطلوبين: زوال العقاب والخلاص منه، وهو المراد من قوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والفوز بالثواب، وهو المراد من قوله: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهذا دليل على إعجاز القرآن لا بألفاظه فحسب، بل بمعانيه أيضا.
أما الكافر عند البلاء فلا يكون عادة من الصابرين، وعند الفوز بالنعمة لا يكون من الشاكرين لأن الشكر الحقيقي لا يكون إلا بالإيمان بالمنعم، والصبر لا ثواب له عليه ما لم ينبعث من الإيمان، وكثيرا ما يجزع وينفد صبره وربما ينتحر لأنه لا يجد سلوى أو عزاء له بمصابه يعوضه عنه في الآخرة لعدم إيمانه بالبعث والحساب والجزاء الحق من الله تعالى وحده.
والخلاصة: أن الآيات موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر، ومنشأ الفرق هو الإيمان والكفر.
5- أحوال الدنيا غير باقية، بل هي متغيرة متحولة من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات، وبالعكس وهو الانتقال من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.
مطالبة مشركي مكّة بإنزال كنز أو مجيء ملك مع النّبي صلى الله عليه وسلّم وتحدّيهم بالقرآن
[سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)(12/30)
الإعراب:
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ: ضائِقٌ: عطف على تارِكٌ، وصَدْرُكَ مرفوع به، وهاء بِهِ تعود على ما أو على بَعْضَ، أو على التّبليغ أو على التّكذيب. أَنْ يَقُولُوا في موضع نصب، أي كراهية أن يقولوا.
المفردات اللغوية:
فَلَعَلَّكَ هنا للاستفهام الإنكاري، الذي يراد به النّفي أو النّهي، أي لا تترك. والأصل أن «لعلّ» للتّرجي وتوقع المحبوب، وقد تكون للإعداد والتّهيئة، كما في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 2/ 21 وغيرها] ، وقد تكون للتّعليل كما في قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] .
تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلغهم إياه، وهو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم واستهزائهم، ولا يلزم من توقع الشيء وجوده ووقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرّسل من الخيانة في الوحي مانعا.
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ عارض لك أحيانا ضيق الصّدر، بتلاوته عليهم، لأجل أن يقولوا، أي مخافة أن يقولواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي هلا صحبه كنز ينفقه لكسب الأتباع كالملوك، والكنز: المال الحاصل بغير كسب. أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه كما اقترحنا. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، لا الإتيان بما اقترحوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ رقيب حفيظ للأمور، فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
أَمْ يَقُولُونَ: أَمْ بمعنى بل. افْتَراهُ الضمير لما يوحى وهو القرآن. بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة والبيان وحسن النّظم، تحدّاهم أولا بالإتيان بمثل القرآن، ثم بعشر سور، ثم لما عجزوا عنها تحدّاهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كلّ واحد. مُفْتَرَياتٍ مختلقات(12/31)
من عند أنفسكم، إن صحّ أني اختلقته من عند نفسي، فإنكم عرب فصحاء مثلي، تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر لمعرفتكم بأساليب البيان خطابة وشعرا ونثرا. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إلى المعاونة على المعارضة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي بالإتيان بما دعوتم إليه للمعاونة. والاستجابة: الإجابة. وجمع ضمير لَكُمْ إما لتعظيم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم أيضا. فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ خطاب للمشركين: فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بعلم الله فلا يعلمه إلا الله، ولا يقدر عليه سواه، وليس افتراء عليه.
وَأَنْ مخففة أي أنه. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إن كان الخطاب للمؤمنين؟ وهل أسلموا بعد هذه الحجة القاطعة إن كان الخطاب مع الكفار؟
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر مبين، وإعراضهم عنه كيلا يسمعوه، ذكر تكذيبهم للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللقرآن، وظنّهم أنه مثل الملوك مدعوم بالمال للإغراء وكسب الأتباع، ومطالبتهم دعمه بالكنز أو بالملك، وتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم.
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآية.
التفسير والبيان:
لعلك أيها الرّسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به، مثل تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، أو لأجل أن يقولوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ(12/32)
والمراد بهذا الاستفهام الإنكاري النّفي أو النّهي، أي لا تترك شيئا مما أوحينا إليك من تبليغه المشركين وغيرهم، ولا تتضايق من تلاوته عليهم. ويقصد من ذلك المبالغة في التّحذير، والإغراء بأداء الرّسالة، وعدم المبالاة بكلماتهم الفاسدة، تأكيدا على تبليغ كامل الوحي، سواء رضي الناس أو غضبوا، لأن مجاملتهم غير مفيدة. ولا يعني هذا وقوع المنهي عنه، لعصمة الرّسول من التّقصير أو الخيانة في الوحي، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن يخون في الوحي، والتّنزيل، وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشّك في كلّ الشّرائع والتّكاليف، وذلك يقدح في النبوة.
أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ.. أي لا تتضايق لأجل أن يقولوا، أو كراهة أن يقولوا «1» : لولا أي هلا أنزل عليه كنز من عند ربّه يغنيه عن التّجارة والكسب، ويدلّ على صدقه، والقائل عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أو ينزل معه ملك من السماء يؤيد دعوته، كقوله تعالى:
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان 25/ 7- 8] . وإنما قال:
ضائِقٌ ولم يقل «ضيق» ليشاكل تارِكٌ الذي قبله، ولأن الضائق عارض طارئ غير لازم، والضيق ألزم منه.
فهذا إرشاد من الله تعالى لنبيّه ألا يضيق صدره بتبليغ الوحي والرّسالة، وألا يثنيه شيء عن دعوتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر 15/ 97] .
__________
(1) وذلك مثل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلّوا.(12/33)
ثم أكّد الله تعالى مهمّة نبيّه فقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ... أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك، غير مبال بما يقولون، ولا آت بما يقترحون، ولك أسوة بإخوانك من الرّسل قبلك، فإنهم كذّبوا وأوذوا، فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ، والله هو الرّقيب على عباده، الحفيظ للأمور، فتوكّل عليه، ولا تبال بهم، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أعمالهم. وهذا كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] ، وقوله تعالى: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] ، وقوله تعالى:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] .
ثم أبان الله تعالى إعجاز القرآن الكريم بدليل تحدّي العرب به، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. أي بل يقول مشركو مكة: افترى محمد القرآن أي اختلقه من عند نفسه، فإن كان ما يزعمون صحيحا، فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات، تضارعه في الفصاحة والبلاغة، وإتقان الأحكام والتّشريعات في شؤون الحياة المختلفة من سياسة واجتماع واقتصاد ونظام تعامل، والإخبار بقصص الأنبياء والغيبيات، وهم أهل السّبق في البيان والتّفوق في ملكة اللسان. والمختار عند أكثر المفسّرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة، وقيل: بسبب الأسلوب، وقيل: بسبب عدم التناقض، وقيل: بسبب اشتماله على العلوم الكثيرة، وقيل:
بسبب إخباره عن المغيبات.
ولكنهم عجزوا لأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، بل ولا بأقصر سورة من مثله لأن كلام الرّب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء.
وهذه الآية اشتملت على خطابين: خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:
قُلْ: فَأْتُوا..، وخطاب الكفار بقوله: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ...(12/34)
ثم قال الله تعالى بعد هذا التّحدي: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ.. أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن القرآن نزل من عند الله، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه، وتشريع بأمره ونهيه لا يبلغون مستواه. وجاء ضمير لَكُمْ بصيغة الجمع لأنه خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله تعالى.
واعلموا أنه لا إله موجود ومعبود بحقّ إلا الله عزّ وجلّ.
فهل أنتم بعد قيام الحجة القاطعة على أنه، أي القرآن، من عند الله مسلمون، مؤمنون بالله وبهذا القرآن، وبما تضمنه من عقائد ووعد ووعيد وأخلاق وآداب ونظام شامل للحياة؟ وهذا يدلّ على أن الخطاب للكفار، فإن كان الخطاب للمسلمين فمعناه: فهل أنتم مخلصون؟
ومعنى هذا أنه بعد ظهور الدّليل القاطع على صدق النّبي صلى الله عليه وسلّم وصدق القرآن، يكون كفرهم مجرد عناد وإعراض واستكبار.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- وجوب تبليغ الوحي بكامله دون إنقاص أو إرجاء شيء منه، ولا يتنافى هذا الحكم مع مبدأ عصمة الرّسول صلى الله عليه وسلّم عن الخيانة في الوحي والتّنزيل، وترك بعض ما يوحى إليه، وهذا كقوله تعالى في تأكيد الأمر بإبلاغ الوحي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة 5/ 67] .
وهذا الحكم لا يختلف سواء قلنا: إن معنى الكلام في آية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ.. الاستفهام الإنكاري أي هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما(12/35)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
سألوك؟ أو معنى الكلام النّفي مع استبعاد، أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك لأن مشركي مكة قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلّم: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتّبعناك، فهمّ النّبي صلى الله عليه وسلّم أن يدع سبّ آلهتهم فنزلت.
2- لا مجاملة ولا مهادنة ولا إرجاء في تبليغ الوحي، فسواء كره الناس تبليغهم ما أنزل الله أم قالوا: لولا أنزل عليه كنز أو ملك، فلا تراجع عن تبليغ الوحي.
3- تحدّى الله العرب في هذه السّورة بأن يأتوا بعشر سور مثل سور القرآن، بعد أن كان تحدّاهم بالإتيان بمثل القرآن، فعجزوا في الحالين، كما عجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه، في سورة أخرى. والتحدي ليثبت أن القرآن كلام الله المعجز.
4- ثبت بقوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ عجزهم عن المعارضة، فقامت عليهم الحجة بأن القرآن ليس من عند محمد أو غيره، وإنما هو كلام الله، وليعلم الجميع أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ.
5- إن وجوه إعجاز القرآن كثيرة منها البلاغة والفصاحة، ومنها الاشتمال على الغيبيات، ومنها الأحكام التّشريعية، ومنها مواكبه الاكتشافات العلمية الحديثة.
من أراد الدنيا وحدها حرم نعيم الآخرة
[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)(12/36)
الإعراب:
وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ابتداء وخبر، أي وباطل عمله.
المفردات اللغوية:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي من قصد بعمله الطّيب وإحسانه وبرّه الدّنيا.
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نؤتهم ثمار أعمالهم وافية تامة، جزاء ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم.
فِيها بأن نوسع عليهم رزقهم. وَهُمْ فِيها أي الدّنيا. لا يُبْخَسُونَ ينقصون شيئا من أجورهم. حَبِطَ فسد وبطل ولم ينتفعوا به.
سبب النّزول:
قيل: إن الآية مختصّة بالكفار، أو بالمنافقين، وقيل: إنها عامّة مطلقة في أهل الرّياء، والظاهر أن المراد بهذا العام هو الكافر لأن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لا يليق إلا بالكفار.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى أن القرآن من عند الله تعالى، وليس بالمفترى من محمد صلى الله عليه وسلّم كما يزعم المشركون، ذكر أن سبب المعارضة والتّكذيب هو الهوى والشهوة ومحض الحسد وحظوظ الدّنيا.
التفسير والبيان:
من كانت إرادته مقصورة على حبّ الدّنيا وزينتها، من متاع ولباس، وزينة وأثاث، ولم يكن طالبا السعادة الأخروية، يوصل الله إليه جزاء عمله في الدّنيا من الصّحة والرّياسة وسعة الرّزق وكثرة الأولاد، ويوفّيه ثمرة جهده تماما دون أن ينقصه شيئا من مردود العمل ونتيجة الكسب لأن الأرزاق منوطة بالأعمال، لا بالنّيات.(12/37)
وذلك يدلّ على أن ثمرة العمل في الدّنيا مرتبطة بالكسب وتقدير الله، وأما جزاء الآخرة فهو محصور بإرادة الله وفضله وإحسانه.
وأولئك الذين لا همّ لهم إلا الدّنيا، لا حظّ لهم في الآخرة إلا النّار في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا في الدّنيا ثمرة العمل الحسن، وبقي لهم في الآخرة وزر العمل السّيء، وتبدد أثر عملهم في الدّنيا، وبطل ثواب عملهم في الآخرة لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى، والعمدة في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عزّ وجلّ.
ونظير الآية قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 18- 19] ، وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] .
ويؤيّده الحديث المشهور في الصّحيحين عن عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنّيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقال قتادة: من كانت الدّنيا همّه ونيّته وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدّنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدّنيا، ويثاب عليها في الآخرة. أي أن للمؤمن على عمله الحسن ثوابين، ثواب الدّنيا وثواب الآخرة، وللكافر ثوابا واحدا وهو في الدّنيا فقط.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يأتي:(12/38)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
1- اقتضى عدل الله وحكمته أن من قصد الدنيا وحدها وأتى بعمل البرّ والخير كصدقة وصلة رحم وكلمة طيّبة ونحو ذلك، يكافأ بها فقط بصحة الجسم، وكثرة الرّزق، لكن لا حسنة له في الآخرة، ويحرم من ثمرة عمله فيها.
2- إن أهل الرّياء والسّمعة يعطون بحسناتهم في الدّنيا، حتى لا يظلموا شيئا منها مهما قلّ، ويحرمون من الثواب الأخروي لأن ثواب الجنة يكون بتزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، واجتناب المعاصي، وأما عمل أهل الدّنيا فمقصور عليها وعلى مظاهرها وشهواتها.
3- ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية وأمثالها المذكورة مطلقة، تشمل المؤمن والكافر.
4- إن العبد ينوي ويريد، والله سبحانه يحكم ما يريد.
5- الكافر يخلد في النّار، والمؤمن لا يخلّد لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
6- الإسلام يدعو إلى إيثار العمل للآخرة على عمل الدّنيا، في النّيّة والقصد، فإن قصد الدّنيا والآخرة معا كان ذلك مقبولا شرعا.
من كان يريد الآخرة
[سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)(12/39)
الإعراب:
أَفَمَنْ كانَ: فَمَنْ: مبتدأ، والهمزة للإنكار، والخبر محذوف تقديره: أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحياة الدّنيا، والهاء في يَتْلُوهُ للقرآن، والشاهد: الإنجيل. والهاء في مِنْهُ عائد لله تعالى، والهاء في قَبْلِهِ للإنجيل.
وكِتابُ مُوسى معطوف مرفوع على قوله: شاهِدٌ ففصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وهو قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ وتقديره: ويتلوه كتاب موسى من قبله.
إِماماً وَرَحْمَةً نصب على الحال من كِتابُ مُوسى.
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ مبتدأ وخبر، والجملة خبر وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ.
المفردات اللغوية:
بَيِّنَةٍ حجة وبيان وبرهان من الله يدلّه على الحقّ والصّواب فيما يأتيه ويذره، والبيّنة:
هي القرآن، وهو حكم يعمّ كلّ مؤمن مخلص، وقيل: المراد به النّبي صلى الله عليه وسلّم، أو المؤمنون، وقيل:
مؤمنو أهل الكتاب. وَيَتْلُوهُ يتبعه. شاهِدٌ له بصدقه. مِنْهُ أي من الله، و «الشاهد» : الإنجيل، وقيل: جبريل، وقيل: القرآن، وقيل: النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَمِنْ قَبْلِهِ أي الإنجيل، وقيل: القرآن. كِتابُ مُوسى التّوراة شاهد له أيضا. إِماماً كتابا مؤتّما به في الدّين. أُولئِكَ أي من كان على بيّنة، ويراد بكلمة فَمَنْ المعنى الجماعي. يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، فلهم الجنة.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ أهل مكة وجميع الكفار الذين تحزّبوا معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يردها لا محالة، أي مكان الوعد وهي النّار يردها. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ في شكّ من الموعد المذكور، أو القرآن. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أهل مكة وأمثالهم. لا يُؤْمِنُونَ لقلّة نظرهم واختلال فكرهم.
المناسبة:
تعلّق الآية بما قبلها واضح، فبعد أن ذكر الله تعالى من كان يريد الدّنيا وزينتها ولا يهتم بالآخرة وأعمالها، أعقبه بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها، ومعه شاهد يدلّ على صدقه وهو القرآن.(12/40)
التفسير والبيان:
أفمن كان على نور وبصيرة من الله تدلّه على الحقّ والصّواب، ويؤيّده شاهد له على صدقه، وهو كتاب الله من إنجيل أو قرآن، وهم المؤمنون بالفطرة بأنه لا إله إلا الله، كمن كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها؟ كما قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزّمر 39/ 22] ، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم 30/ 30] .
وكذلك يؤيّده كتاب موسى عليه السّلام وهو التّوراة، الذي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمّة إماما لهم، أي كتابا مؤتما به في الدّين وقدوة يقتدون به، ورحمة من الله بهم لأنه همزة وصل بخير الدّارين، فمن آمن به حقّ الإيمان، قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن، ويكون ذلك الكتاب رحمة لمن آمن به وعمل به.
وكون الإنجيل والتّوراة تابعين للقرآن ليس في الوجود، بل في دلالتهما على هذا المطلوب، وتبشيرهما بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وكونه موصوفا فيهما: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف 7/ 157] .
أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... أي أولئك الذين يؤمنون بما في التّوراة من البشارة بمحمد النّبي صلى الله عليه وسلّم، يؤمنون بهذا القرآن إيمانا حقّا عن يقين وإذعان.
وفي الجملة: من كان مؤمنا بالفطرة وبالعقل، وبنور القرآن، وبالوحي الثابت الذي نزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرّسل، فهو على منهج الحقّ والصّواب.
ومن يكفر بالقرآن من أهل مكة ومن تحزّبوا على النّبي صلى الله عليه وسلّم وغيرهم من اليهود والنّصارى والوثنيين، فالنّار موعده لا ريب في وروده إياها، أي أن مآله حتما إلى جهنم وهو من أهل النّار، جزاء تكذيبه، كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود 11/ 16](12/41)
والْأَحْزابِ هم كما قال مقاتل: بنو أميّة، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل طلحة بن عبيد الله. وقال سعيد بن جبير: الأحزاب: أهل الأديان كلّها، وروي عن مقاتل: «من الملل كلّها» لأنهم يتحازبون.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النّار» .
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي فلا تكن أيها المكلّف السّامع في شكّ من أمر هذا القرآن، فإنه حقّ من الله لا ريب ولا شكّ فيه، كما قال تعالى: الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السّجدة 32/ 1- 2] . والخطاب بقوله: فَلا تَكُ للنّبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد جميع المكلّفين.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ.. أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] ، والسبب أن المشركين مستكبرون مقلّدون زعماءهم، وأن أهل الكتاب حرّفوا دين أنبيائهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
1- إن من تبيّن الرشد والصّواب بالفطرة والعقل، واهتدى بنور الوحي الإلهي فهو الذي يؤثر الآخرة على الدّنيا، ولا يستوي إطلاقا مع من آثر الدّنيا الفانية وزينتها الموقوتة على الآخرة الباقية الخالدة.
2- اليهود والنصارى المؤمنون بحقّ يؤمنون بما في التّوراة والإنجيل من البشارة بالنّبي صلى الله عليه وسلّم، وأما غير المؤمنين بحقّ، المتأخرون منهم أو من غيرهم، فهم(12/42)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
الذين موعدهم النّار، فمن يكفر بالقرآن أو بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام، من أهل الملل كلها أو أهل الأديان كلها، فهو من أهل النّار.
3- القرآن الكريم حقّ ثابت من عند الله، فلا يشكّنّ أحد بذلك، وليبادر إلى الإيمان بما جاء فيه. ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون به.
الكافرون والمؤمنون وجزاء أعمال كلّ منهم
[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
الإعراب:
الَّذِينَ يَصُدُّونَ إما نعت للظالمين، وإما خبر لمبتدأ أي هم الذين.
ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ما: فيها ثلاثة أوجه:(12/43)
أ- أن تكون ظرفية زمانية في موضع نصب بيضاعف، وتقديره: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار، أي أبدا، كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود 11/ 107] أي مدة دوام السموات والأرض، أي: أبدا.
ب- أن تكون في موضع نصب، على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بما كانوا، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به.
ج- أن تكون ما نافية، ومعناه لا يستطيعون السمع ولا الإبصار، لما قد سبق لهم في علم الله تعالى.
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
مبتدأ وخبر.
لا جَرَمَ ردّ لكلامهم، وهو نفي لما ظنوا أنه ينفعهم. وجَرَمَ فعل ماض بمعنى كسب.
أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ في موضع نصب من وجهين: أحدهما- تقديره: كسب ذلك الفعل لهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي كسب ذلك الفعل الخسران في الآخرة. وهذا قول سيبويه. والثاني- التقدير: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة، وحذف حرف الجر، فانتصب بتقدير حذف حرف الجر، وهذا قول الكسائي.
مَثَلًا تمييز منصوب.
البلاغة:
كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ تشبيه مرسل مجمل لوجود أداة التشبيه وحذف وجه الشبه، أي مثل الفريق الكافر كالأعمى والأصم في عدم البصر والسمع، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك والولد إليه. يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ في الموقف يوم القيامة مع جملة الخلق، بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم، والمراد: يحاسبهم ربهم. الْأَشْهادُ جمع شاهد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ، وعلى الكفار بالتكذيب.
لَعْنَةُ اللَّهِ اللعنة واللعن: الطرد من رحمة الله تعالى. يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يصرفون عن دين الله: دين الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون السبيل معوجة، والعوج: الالتواء.
هُمْ تأكيد للأولى. مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي ما كانوا معجزين لله في الدنيا أن يعاقبهم، ولا يمكنهم أن يهربوا من عذاب الله تعالى. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره.(12/44)
أَوْلِياءَ أنصار يمنعونهم من عذابه أو عقابه، ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. يُضاعَفُ لَهُمُ بإضلالهم غيرهم. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ للحق. وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي يبصرونه، لفرط كراهتهم له، كأنهم لم يستطيعوا ذلك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. وَضَلَ
غاب. يَفْتَرُونَ
على الله من ادعاء الشريك.
لا جَرَمَ حقا. قال الفراء: إنها بمنزلة قولنا: لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا) . تقول العرب: لا جرم أنك محسن، على معنى: حقا إنك محسن.
وَأَخْبَتُوا خشعوا وسكنوا وأخلصوا لله تعالى، وأصل الإخبات: قصد الخبث وهو المكان المطمئن المستوي. مَثَلُ صفة. الْفَرِيقَيْنِ الكفار والمؤمنين. كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ هذا مثل الكافر، وتشبيه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لعدم استماعه كلام الله تعالى وتدبر معانيه. وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هذا مثل المؤمن لتبصره بالقرآن وسماعه له سماع تدبر وإمعان، فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، أصله: تتذكرون، فأدغم التاء في الذال.
المناسبة:
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس: وهما الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
وكان القصد من آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ذم الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة، والقصد من آية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الرّد على منكري نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم والطعن في معجزاته، وأما المراد من آية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فهو الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وهذا محض الافتراء على الله تعالى، وهو داخل تحت عموم وعيد المفترين على الله تعالى.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى حال المفترين عليه ووصفهم بأنهم أظلم الناس، وفضيحتهم في الآخرة أمام الخلائق كلهم، فيذكر أنه لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن اختلق(12/45)
الكذب على الله تعالى، في صفته أو حكمه أو وحيه، أو زعم وجود شفعاء له بدون إذنه، أو اتخاذه ولدا من الملائكة كالعرب القائلين بأن الملائكة بنات الله، واليهود القائلين بأن عزيرا ابن الله، والنصارى القائلين بأن المسيح ابن الله.
أُولئِكَ يُعْرَضُونَ.. أي أولئك المغرقون في الكفر والشرك والافتراء على الله، يعرضون على ربهم أي يحاسبهم ربهم حسابا شديدا، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم وافتروا عليه، فلعنة الله على الظالمين، أي أنهم مطرودون من رحمة الله تعالى.
وبما أن العرض عام في كل العباد، فإن المراد به هنا عرض خاص وهو العرض بقصد افتضاحهم، فيحصل لهم الخزي والنكال في أسوأ حال، والعرض يكون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال، أو على من شاء الله من الخلق بأمر الله تعالى، من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
والآية مثل قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر 40/ 51- 52] .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في النجوى يوم القيامة: «إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟
أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» .
الَّذِينَ يَصُدُّونَ.. إن هؤلاء الظالمين يردون الناس عن اتباع الحق(12/46)
والإيمان والطاعة، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل، ويحولون بينهم وبين الجنة، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويعدلون بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، فهم يريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة، والحال أنهم كافرون بالآخرة أي جاحدون بها مكذبون، وأعاد لفظ هُمْ تأكيدا.
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ ... إن أولئك الظالمين الصادين عن سبيل الله لا يعجزون ربهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف كما فعل بغيرهم، بل هم تحت قهره وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدنيا قبل الآخرة، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، ويحجبون عنهم العذاب، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم، كما ضلوا بأنفسهم، وكانوا صمّا عن سماع الحق، عميا عن اتباعه.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم 14/ 42] وقوله سبحانه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] وقوله صلى الله عليه وسلّم في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» .
وعلة مضاعفة العذاب هي: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي لم يستمعوا إلى القرآن سماع تدبر واتعاظ، ولم يبصروا طريق الحق والخير وينظروا إلى آيات القرآن وآيات الكون، الدالة على صدق الوحي، كما قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت 41/ 26] وقال: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام 6/ 26] .
فليس المراد نفي السمع والبصر، بل المقصود أنهم وإن كانوا يسمعون ويبصرون في الظاهر، إلا أنهم ما استخدموا هاتين الحاستين استخداما صحيحا في(12/47)
تلقي المعارف والمعلومات وتكوين العقيدة السلمية، ونظرا لعنادهم وعتوهم وكراهتهم الحق والهدى، ما كانوا يطيقون سمع آيات القرآن والتبصر بآيات الكون.
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا ...
أي أولئك الموصوفون بالأوصاف السابقة خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نارا حامية يتزايد سعيرها، كما قال تعالى:
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء 17/ 97] ولا موت ولا حياة فيها.
وضلّ عنهم أي ذهب عنهم الذي كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام، فلم تجد عنهم شيئا، بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 6] وقال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] .
لا جَرَمَ ... حقا إنهم في الآخرة أخسر الناس صفقة لأنهم استبدلوا بنعيم الجنان ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن بغضب الديان وعقابه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا في الدنيا الأعمال الصالحة، فآمنت قلوبهم، وثابروا على الطاعات وترك المنكرات، وخشعوا لله وأنابوا إليه، فلهم جنات العلى ذات النعم التي لا تعد ولا تحصى، من كل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون فيها، ماكثون فيها على الدوام، لا يموتون ولا يهرمون، ولا يمرضون، ولا يخرج منهم مستقذر، وإنما هو رشح مسك يعرقون به.(12/48)
ثم ذكر الله شبه الكافرين والمؤمنين وضرب مثلا لكليهما فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ أي مثل الفريقين المذكورين اللذين وصفا سابقا وهم الكفار بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، كمثل الأعمى والأصم، والسميع والبصير الكافر مثل الأعمى، لتعاميه عن وجه الحق في الدنيا والآخرة، وعدم اهتدائه إلى الخير وعدم معرفته إياه، ومثل الأصم لعدم سماعه الحجج، فلا يسمع ما ينتفع به والمؤمن مثل متفتح السمع والبصر، لاستفادته بما يسمع من القرآن، ويرى في الأكوان. والسمع والبصر وسيلتا العلم والهدى، وطريقا تكوين العقل.
لا يستوي هذا وذاك صفة وحالا ومالا، أفلا تذكرون أي تعتبرون، فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، وكيف لا تميزون بين هذه الصفات المتباينة؟! كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] وقال سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر 35/ 19- 22] واستعمال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ تنبيه على أنه يمكن علاج هذا العمى وهذا الصمم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
1- لا أحد أظلم لأنفسهم من الذين افتروا على الله كذبا، فنسبوا كلامه إلى غيره، وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
2- ينادى بالكفار والمنافقين على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله، ألا لعنة الله على الظالمين، أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.(12/49)
والأشهاد المنادون بذلك: هم الملائكة، أو الأنبياء والمرسلون، والعلماء لذين بلّغوا الرسالات.
3- إن سبب اللعنة على الظالمين وطردهم من رحمة الله إنما هو صدّ أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة لله تعالى، وعدولهم بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، وكفرهم وجحودهم بالآخرة.
4- الظالمون وغيرهم لا يعجزون الله بعقابهم في الدنيا، ولا يقدرون على الإفلات من سلطان الله وقدرته وخسف الأرض بهم، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، وعقابهم مضاعف على قدر كفرهم ومعاصيهم بسبب إضلالهم غيرهم، وبسبب تعطيلهم قدرات السمع والبصر في استماع الحق وإبصاره.
5- هؤلاء الظالمين خسروا أنفسهم وضاع عنهم افتراؤهم، وتبدد كل ما تعلقوا به من آمال خاسرة، وهم حقا في الآخرة أخسر الناس صفقة لاستبدالهم بنعيم الجنة بعذاب جهنم.
6- المؤمنون المصدقون بالله ورسوله، العاملون الصالحات، الخاشعون الخاضعون المنيبون لربهم، هم أصحاب الجنة الماكثون فيها أبدا.
7- لا تساوي إطلاقا بين المؤمنين والكافرين، كما لا تساوي بين الأعمى والبصير، ولا بين الأصم والسميع، أفلا تنظرون في الوصفين وتتعظون وتعتبرون؟! والخلاصة: إن الله تعالى وصف السعداء أهل الجنة بصفات ثلاث هي:
الإيمان، والعمل الصالح، والخشوع إلى الله تعالى ووصف الأشقياء المنكرين الجاحدين أهل النار بأربع عشرة صفة هي:
1- كونهم مفترين على الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ(12/50)
2- إنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال:
أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ.
3- حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة لهم: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ.
4- كونهم ملعونين من عند الله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
5- كونهم صادّين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
6- سعيهم في إلقاء الشبهات، وتعويج الدلائل المستقيمة: وَيَبْغُونَها عِوَجاً.
7- كونهم كافرين: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
8- كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
9- إنهم ليس لهم أولياء يدفعون عنهم عذاب الله، فليست أصنامهم شفعاء عند الله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.
10- مضاعفة العذاب لهم، لسعيهم في الإضلال ومنع الناس عن الدين، مع ضلالهم الشديد: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ.
11- تعطيلهم وسائل الإيمان والمعرفة والاعتقاد الصحيح: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.
12- كونهم خاسرين أنفسهم لاشترائهم عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
.(12/51)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
13- غيبة افترائهم وذهابه عنهم بحيث لم يعودوا يتنبهون لضلالهم: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
14- كونهم خاسرين في الآخرة: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)(12/52)
الإعراب:
أَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ أو مفعول مُبِينٌ ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير.
ما نَراكَ الكاف: مفعول أول. الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فاعل اتَّبَعَكَ، واتَّبَعَكَ وفاعله: مفعول ثان لنراك إذا كان من رؤية القلب، وفي موضع الحال إذا كان من رؤية العين.
بادِيَ الرَّأْيِ منصوب على الظرف، أو في بادي الرأي، والعامل فيه: نَراكَ أي ما قبل إلا لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. وبادِيَ بغير همز: اسم فاعل من بدا يبدو: إذا ظهر، أي: ظاهر الرأي، وقرئ بالهمز: من بدأ يبدأ، أي أول الرأي.
أَنُلْزِمُكُمُوها أنلزم: يتعدى إلى مفعولين، الأول: الكاف والميم، والثاني: الهاء والألف، وأثبت الواو في: أَنُلْزِمُكُمُوها، ردا إلى الأصل لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، كقولك:
المال لك وله. وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا، وقدم الأعرف منهما، جاز في الثاني الفصل والوصل.
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ جملة اسمية في موضع الحال، ولَها: في موضع نصب لأنه يتعلق بكارهون.
تَزْدَرِي تقديره: تزدريهم، فحذف المفعول من الصلة وهو العائد، مثل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه الله. وأصله: تزتري على وزن تفتعل، ثم أبدل من التاء دالا لقرب مخرجهما.
البلاغة:
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ شبّه من لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك الصحراء لا يعرف طرقها على سبيل الاستعارة التمثيلية.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ استفهام للإنكار والتقريع.
المفردات اللغوية:
إِنِّي لَكُمْ أي بأني لكم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، أبيّن لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص. أَنْ لا تَعْبُدُوا أي بألا تعبدوا. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عبدتم غيره عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم في الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب، لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة: جدّ جده، ونهاره صائم للمبالغة.(12/53)
الْمَلَأُ الأشراف والزعماء. إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا فضل لك علينا، ولا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. أَراذِلُنا أسافلنا وأخساؤنا وأصحاب الحرف الخسيسة والفقراء، جمع أرذل الذي هو جمع رذل، مثل كلب وأكلب وأكالب. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الرأي من غير تعمق، من البدو، أو أول الرأي أو ابتداء الرأي من غير تفكر فيك، من البدء، أي في بدء الحكم عليك من أول وهلة ووقت حدوث أول رأيهم. وهو منصوب على الظرف، أي وقت حدوث أول رأيهم. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ في ادعاء الرسالة والنبوة، وهذا الخطاب أدرجوا قومه معه فيه، وغلب المخاطب على الغائبين.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على حجة شاهدة بصحة دعواي الرسالة أو معجزة. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة.
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت عليكم فلم تهدكم، وحقه أن يقال: فعميتا، ولكن أفرد الضمير إما لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن حذفها للاختصار أو الاقتصار على ذكره مرة، أو لأنه لكل واحدة من البينة والرحمة. أَنُلْزِمُكُمُوها يعني أنجبركم أو أنكرهكم على قبولها والاهتداء بها.
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها، أي لا نقدر على ذلك.
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ، وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. مالًا جعلا تعطونيه. إِنْ أَجرِيَ أى ما ثوابي المأمول. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سألوا طردهم. إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث، فيجازيهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم.
تَجْهَلُونَ عاقبة أمركم. مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي يمنعني من عذابه، أي لا ناصر لي إن طردتهم. أَفَلا فهلا. تَذَكَّرُونَ تتعظون، فإن طردهم ليس بصواب.
خَزائِنُ اللَّهِ أي خزائن رزقه أو أمواله حتى جحدتم فضلي. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف، أي ولا أقول لكم: أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة ولا تصميم قلبي. وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ بل أنا بشر مثلكم. تَزْدَرِي تحتقر شأنهم لفقرهم. لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي فإن ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ قلوبهم. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت شيئا من ذلك.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم، وأن القرآن وحي من الله تعالى، وبعد أن ذكر حال فريقي المؤمنين والكافرين المكذبين، وحض على الاعتبار(12/54)
والاتعاظ بالحالين بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ ذكر مجموعة من قصص الأنبياء للعظة والتذكر، وبيان اشتراك النبي صلى الله عليه وسلّم مع من قبله من الأنبياء في الدعوة إلى أصول واحدة مشتركة بين الأنبياء، وهي عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء، وتنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم.
التفسير والبيان:
أول هذه القصص المذكورة هنا هي قصة نوح عليه السلام، وكان قد ذكر تعالى هذه القصة في سورة يونس، وأعاد ذكرها هنا لما فيها من عظات وفوائد، أهمها إعلام الكفار أن محمدا صلى الله عليه وسلّم كغيره من الرسل، جاء للدعوة إلى توحيد الله وإثبات البعث والحساب والجزاء.
وتضمنت قصة نوح هنا عدة عناصر هي:
وصف دعوته إجمالا، ومناقشة قومه والرد عليهم، واستعجالهم العذاب، وكيفية صنع نوح السفينة، وإغراقهم بالطوفان، ونجاة نوح ومن آمن معه، والتماس نوح إنجاء ابنه معه. وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام.
والمعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه المشركين، فقال لهم: إني لكم نذير من الله ظاهر الإنذار، أنذركم عذابه وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله، فآمنوا به وأطيعوا أمره، ولا تعبدوا غيره، ولا تشركوا به شيئا لأني أخاف عذاب يوم القيامة، الذي هو عذاب شديد الألم.
ثم ذكر الله تعالى أجوبة قومه له وهي أربع شبهات:
الأولى- فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي قال السادة الكبراء من الكافرين منهم: ما أنت إلا بشر مثلنا، أي لست بملك، ولكنك بشر مشابه لنا في الجنس، فلا مزية تمتاز بها علينا تستوجب الطاعة.(12/55)
الثانية- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ.. أي ولم يتبعك إلا أراذل القوم الأخساء أصحاب الحرف الخسيسة كالزرّاع والصناع، وهم الفقراء والضعفاء، في بادئ الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبر في عواقب الأمور. ولو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والأكياس من الناس، كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء 26/ 111] .
الثالثة- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما رأينا لكم علينا امتيازا ظاهرا في فضيلة أو قوة أو ثروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي، يحملنا على اتباعكم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 46/ 11] .
الرابعة- بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أي بل يترجح لدينا كذبكم في ادعائكم الصلاح والسعادة في الدار الآخرة. ويلاحظ أنهم أشركوا معه أتباعه في هذه الإجابة، وكان الخطاب لنوح ومن آمن معه.
ثم أخبر الله تعالى عن ردود نوح عليه السلام على قومه الذين أثاروا تلك الشبهات، وغيرها مما لم يحكها القرآن وطواها، أو لم يقولوها ولكن كلامهم يستلزمها.
قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ.. قال نوح: يا قومي، أخبروني ماذا أفعل وما ترون؟ إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربي، يتبين لي بها أني على حق من عنده، وآتاني رحمة من عنده وهي النبوة والوحي، فعمّيت عليكم أي خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، أنكرهكم على قبولها ونغصبكم عليها، وأنتم لها كارهون، معرضون عنها، فلا يعقل الإكراه في الدين.
وهذا دليل النبوة والترفع عن آراء الجهال والسذّج.
وَيا قَوْمِ، لا أَسْئَلُكُمْ.. أي لا أطلب منكم على نصحي لكم مالا أي أجرا(12/56)
آخذه منكم، وإنما أجري على الله عز وجل. وهذا قول تكرر صدوره من جميع الأنبياء بعد نوح، مثل هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام.
وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليس من شأني طرد المؤمنين وتنحيتهم من مجلسي.
ويظهر من هذا أن أكابر الكفار كانوا يبغون تخصيصهم ببعض المزايا والامتيازات، كتخصيص مجلس خاص بهم، لا يلتقون فيه مع الضعفاء والفقراء، أنفة منهم وكبرا وترفعا، كما حدث تماما بين النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وبين قومه قريش، فقال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام 6/ 52] .
إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبكم، ويعاقب من طردهم، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق وتترددون في ظلمات الجهل في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم، فإن تفضيل الناس بعضهم على بعض إنما هو بالعمل الطيب والخلق الفاضل، لا بالثروة والمال والجاه كما تزعمون.
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي ... أي يا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم، فذلك ظلم عظيم، كما قال تعالى: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام 6/ 52] أفلا تذكّرون، أي أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟! وَلا أَقُولُ لَكُمْ.. أي لا تعني النبوة والرسالة أني أملك خزائن رزق الله تعالى، وأقدر على التصرف فيها، وإنما أنا بشر كغيري من الناس مؤيد بالمعجزات، أدعو إلى عبادة الله بإذنه، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه، ولست ملكا من الملائكة، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم: لن ينالهم خير، وليس لهم ثواب على أعمالهم، وهو ما وعدهم الله به(12/57)
على الإيمان من سعادة الدنيا والآخرة، الله أعلم بما في صدورهم، فإن كان باطنهم كظاهر هم في الإيمان، فلهم الحسنى، وإن حكم إنسان على سرائرهم، كان ظالما قائلا ما لا علم له به.
والمقصود بالآية أن نوحا عليه السلام أخبرهم بتذلله وتواضعه لله عز وجل.
وفي هذا دلالة على الخط الفاصل بين الأنبياء وبين الزعماء، الأولون يهتمون بإرشاد الناس إلى ما فيه سعادتهم الدنيوية والأخروية دون إغراء بمال أو عطاء نفعي، والآخرون يعتمدون في كسب الأتباع على الوعود بالمنافع المادية وبذل الأموال رخيصة من أجل كسب تأييدهم.
وفيه دلالة على أن النبي بشر لا ملك، وأنه لا يعلم الغيب وإنما علمه عند الله، كقوله تعالى: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف 7/ 188] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- دعوة نوح قومه كدعوة سائر الأنبياء إلى عبادة الله وإطاعته وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام.
2- الاستمرار على الكفر أو عبادة الأصنام يوجب العذاب الأليم الموجع الشاق في الدار الآخرة.
3- إن الغالب في إعراض قوم نوح من الأشراف والسادة والكبراء كإعراض كل المكذبين الجاحدين مبني على أعذار واهية، رأسها الاستكبار والاستعلاء على بقية الناس من الفقراء والضعفاء الذين يتبعون الحق غالبا، كما قال تعالى:
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف 43/ 23] .(12/58)
وهكذا يكون الغالب على ضعفاء الناس اتباع الحق، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما ذكرت الآية: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها.. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلّم قال له فيما قال:
أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
4- قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ ليس بمذمة ولا عيب في الواقع لأن الحق إذا وضح، لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق حينئذ لكل ذي عقل وذكاء، ولا يفكر عندئذ بالبعد عنه إلا غبي أو عيي، والرسل عليهم السلام إنما جاؤوا بأمر جلي واضح. جاء
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم»
أي ما تردد ولا تروى لرؤيته أمرا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع.
5- الأنبياء يتمسكون عادة بما ثبت لديهم يقينا من وحي الله تعالى، والنبوة والرسالة، ولو عارضهم أكثر الناس.
6- لا يلجأ الأنبياء عادة إلى إكراه أحد من الناس على قبول دعوتهم:
أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يمكنني أن أضطركم إلى الإيمان والمعرفة بها، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، أو النبوة والرحمة الإلهية أو البينة. وهذا أول نص يمنع الإكراه على الدين.
7- لا يصح عقلا وذوقا وأدبا طرد الأنبياء من يؤمنون بهم، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ضعفاء، فلو فعل ذلك أحدهم فرضا لخاصموه عند الله، وجازاهم على إيمانهم، وجازى من طردهم، ولا يجد من ينصره ويمنعه من عذاب الله إن طردهم لأجل إيمانهم، ويكون طرد المؤمنين بصفة دائمة لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي، ولا يقدم عليه نبي. والمقصود هو الطرد المطلق على سبيل التأبيد.(12/59)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
8- خزائن الرزق في تصرف الله تعالى، والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يقول نبي: إن منزلته عند الناس منزلة الملائكة.
9- احتج بعض العلماء بآية: وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؟ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم مذ خلقوا إلى يوم القيامة.
10- الفضائل الحقيقة الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء: الاستغناء المطلق فلا أدعيه: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ والعلم التام: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ والقدرة التامة الكاملة: وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ والملائكة أكمل المخلوقات في القدرة والقوة.
والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة أنه ما حصل لنوح عليه السلام إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية، وأما الكمال المطلق فلا يدعيه.
11- إن استحقاق المؤمن ثواب الله تعالى لا يمنعه اعتراض أحد: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم، الله أعلم بما في أنفسهم فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به.
استعجال قوم نوح العذاب ويأسه منهم
[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)(12/60)
الإعراب:
إِنْ أَرَدْتُ شرط، وجواب الشرط دل عليه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وتقدير الكلام:
إن كان الله يريد أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي.
البلاغة:
فَعَلَيَّ إِجْرامِي مجاز بالحذف، أي عقوبة إجرامي، على سبيل الفرض، بدليل استعمال كلمة إِنِ الدالة على الشك. وأما إجرامهم فهو محقق: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ.
المفردات اللغوية:
جادَلْتَنا خاصمتنا. فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فأطلته أو أتيت بأنواعه. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا به من العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوى النبوة، والوعيد، فإن مناظرتك لا تؤثر فينا. إِنْ شاءَ تعجيله لكم، أو تأجيله، فإن أمره إليه لا إلي. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب أو الهرب منه فلستم بفائتين الله تعالى.
نُصْحِي النصح: قصد الخير للمنصوح وإخلاص القول والعمل له. أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي إغواءكم أي الإيقاع في الغيّ والفساد، وقيل: المراد أن يهلككم هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم والمتصرف فيكم على وفق إرادته. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.
أَمْ يَقُولُونَ بل أيقول كفار مكة. افْتَراهُ اختلق محمد القرآن. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي عقوبة ذنبي ووباله. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من إجرامكم في إسناد أو نسبة الافتراء إلي.
المناسبة:
بعد أن أجاب نوح قومه على شبهاتهم، أوردوا عليه أمرين: الأول- أنهم وصفوه بكثرة المجادلة، والثاني- أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به. ثم ذكر تعالى يأسه منهم، واعتراضا في القصة وهو براءة محمد من نسبة افترائهم إليه.
التفسير والبيان:
قال قوم نوح له: قد حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك، فأتنا بما تعدنا به من العذاب المعجل في الدنيا، إن كنت صادقا في دعواك أن الله(12/61)
يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة، وهذا كقوله تعالى: قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح 71/ 5- 6] .
قال لهم نوح: إنما الذي يعاقبكم ويعجل تعذيبكم الله الذي لا يعجزه شيء، إن شاء عقابكم عاجلا أو آجلا، فما أنتم بمعجزين أي بفائتي الله ولا بمستطيعي الهرب من عذابه لأنكم في قبضته وملكه وسلطانه.
ولا يفيدكم نصحي واجتهادي في إيمانكم، إن أراد الله إغواءكم أي إيقاعكم في الغي والضلال والفساد، ودماركم وهلاككم، هو ربكم أي خالقكم والمتصرف في أموركم، والحاكم العادل الذي لا يجور، وإليه ترجعون في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير أو شر.
ومعنى إرادة الله إغواءهم وإضلالهم: ربط الأسباب بالمسببات، لا خلقه للغواية والشقاوة فيهم، فإن ذلك منوط بالعمل والكسب، والنتائج متوقفة على المقدمات.
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ..
هذا كلام معترض في وسط قصة نوح، مؤكد لها، مقرر لها، وهي حكاية لقوله مشركي مكة في تكذيب هذه القصص: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ بل يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون في مكة: إن محمدا افترى القرآن، أي اختلقه من قبل نفسه، ومنه ما أخبر به عن نوح وقومه، فرد الله معلما نبيه أن يقول لهم: إن افتريته فعلي عقوبة إثمي، وعذاب ذنبي، والاجرام: اقتراف المحظورات واكتسابها، وأنا بريء من آثامكم وذنوبكم، وسيجزيكم الله على أعمالكم، فجرمكم ليس مفتعلا ولا مفترى لأني اعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه، فكل إنسان مسئول عن ذنبه، كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا(12/62)
ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى
[النجم 53/ 36- 41] .
ونظير الآية: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] .
والأظهر أن قوله: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ هو من محاورة نوح لقومه، كما قال ابن عباس لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، والخطاب منهم ولهم. وأنهم يقولون: افترى ما أخبركم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
1- إن عناد الكفار وغباءهم وحماقتهم استوجب كل ذلك التنكر لدعوة النبي نوح عليه السلام، مهما أتى به من الأدلة المثبتة لتوحيد الله ووجوب طاعته وعبادته، وورّطهم في طلب تعجيل نقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق.
2- الجدال في الدين لتقرير الأدلة وإزالة الشبهات أمر محمود، وهو حرفة الأنبياء، ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله نجا، ومن ردّه خاب وخسر.
3- التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار، والجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق أمر مذموم، وصاحبه في الدارين ملوم.
4- قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ رد على المعتزلة والقدرية ومن وافقهما الذين زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي، وأنه يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك.(12/63)
والواقع أن الله هو الهادي والمضل، وإرادة الله يصح تعلقها بالإغواء، والمعنى أن الله يبين للناس طريق الهداية وطريق الضلال، ويختار الإنسان ما يشاء مع إرادة الله.
وكلام نوح عليه السلام دليل على أنه تعالى ما أغواهم، بل فوض الاختيار إليهم من وجهين:
الأول- لو أراد الله تعالى إغواءهم، لما بقي في النصح فائدة، ولما أمر الله نوحا بأن ينصح الكفار، وأجمع المسلمون على أن نبينا كغيره من الأنبياء مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم.
الثاني- لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم أو خلقهم غاوين ضالين، لصار هذا عذرا لهم في عدم إيمانهم، ولصار عمل نوح غير ذي موضوع ولا هدف، ولا داعي له، ولا فائدة منه لأنه يسهل عليهم الاعتذار بذلك، والرد عليه بعدم جدوى دعواه.
والخلاصة: إن مبدأ أهل السنة أن الله تعالى قد يريد الكفر من الإنسان، ولكن لا يأمره بذلك، وإنما يأمره بالإيمان، وإذا أراد الكفر من العبد فإنه يمتنع صدور الإيمان منه.
5- كل إنسان مسئول عن نفسه، فإن افترى أو اختلق نبي الوحي والرسالة كما يزعم قومه المعادون له، فعليه عقاب إجرامه، وإن كان محقا فيما يقول، وهو الحق الأكيد، فعليهم عقاب تكذيبهم وسيئاتهم.(12/64)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
نهي نوح عن الاغتمام بهلاك قومه وأمره بصنع السفينة
[سورة هود (11) : الآيات 36 الى 41]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
الإعراب:
نُوحٍ منصرف لأنه خفيف، وإن كان فيه العجمة والتعريف.
مِنْ قَوْمِكَ يُؤْمِنَ فاعل يُؤْمِنَ. مَنْ يَأْتِيهِ مَنْ موصولة، مفعول العلم.
اثْنَيْنِ في موضع نصب لأنه مفعول احْمِلْ. ووَ أَهْلَكَ معطوف عليه.
مَنْ سَبَقَ منصوب على الاستثناء من أَهْلَكَ.
وَمَنْ آمَنَ في موضع نصب لأنه معطوف على اثنين، أو على أهلك.(12/65)
مَجْراها فيه ثلاثة أوجه: الأول- أن يكون منصوبا على تقدير حذف ظرف مضاف إلى ذلك. وَمُرْساها عطف عليه، وتقديره: باسم الله وقت إجرائها وإرسائها، أي اركبوا فيها متبكرين باسم الله تعالى في هذين الوقتين. وبِسْمِ اللَّهِ متعلق بمحذوف في موضع نصب على الحال من واو ارْكَبُوا. وبِسْمِ اللَّهِ هو العامل في مَجْراها.
الثاني- أن يكون مَجْراها مبتدأ، وبِسْمِ اللَّهِ خبره، وتقديره: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، والجملة حال من ضمير فِيها.
والثالث- أن يكون مَجْراها في موضع رفع بالظرف، والظرف حال من هاء:
فِيها.
ومن قرأ مَجْراها وَمُرْساها جعله اسم فاعل من أجراها الله فهو مجري، وأرساها فهو مرسي، وهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو مجريها ومرسيها.
إِلَّا قَلِيلٌ مرفوع بفعل: آمَنَ ولا يجوز نصبه على الاستثناء لأن الكلام قبله لم يتم. والتعبير حصر بهم.
البلاغة:
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا كناية عن الرعاية والحفظ.
المفردات اللغوية:
فَلا تَبْتَئِسْ تحزن، أي لا تغتم بهلاكهم، وهذا يعني أن الله أيأسه أو أقنطه من إيمانهم، ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإيذاء. بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الشرك، فدعا عليهم بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] فأجاب الله دعاءه.
الْفُلْكَ السفينة، ويطلق على الواحد والجمع. بِأَعْيُنِنا بحفظنا وعنايتنا ورعايتنا، على طريق التمثيل. وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها. الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم والمقصود: لا تدعني برفع العذاب عنهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ محكوم عليهم بالإغراق، فلا سبيل إلى كفه.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية. مَلَأٌ جماعة. سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به لعمله السفينة، فإنه كان يعملها، في برية بعيدة عن الماء، فكانوا يضحكون منه ويقولون له: صرت نجارا بعد ما كنت نبيا. قالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أي سنهزأ بكم إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة، ونجونا وتركناكم. وقيل: المراد بالسخرية: الاستجهال. عَذابٌ يُخْزِيهِ يذله ويفضحه. وَيَحِلُّ ينزل. عَذابٌ مُقِيمٌ دائم وهو عذاب النار.(12/66)
حَتَّى إِذا.. حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن كانت غاية فهي غاية للصنع، أي لقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد. ويكون ما بعد يَصْنَعُ من الكلام حالا من يَصْنَعُ كأنه قال:
يصنعها، والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه، سخروا منه. وجواب كُلَّما إما سَخِرُوا وإما قالَ وسَخِرُوا بدل من مَرَّ أو صفة لملأ.
جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم. وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء فيه وارتفع كالقدر تفور، والتَّنُّورُ تنور الخبز، ابتدأ منه النبع، على خرق العادة، وكان ذلك علامة لنوح. وكان في الكوفة في موضع مسجدها، أو في الهند، أو بعين وردة بأرض الجزيرة. وقيل: التَّنُّورُ وجه الأرض.
احْمِلْ فِيها في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي ذكر وأنثى، أي من كل أنواعهما.
اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى. جاء في القصة: إن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب بيديه في كل نوع، فتقع يده اليمنى على الذكر، واليسرى على الأنثى، فيحملها في السفينة.
وَأَهْلَكَ أي زوجته وأولاده. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي منهم بالإهلاك والإغراق، وهو ولده كنعان وزوجته، وأخذ معه سام وحام ويافث وزوجاتهم الثلاثة.
إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا ثمانين، نصفهم رجال ونصفهم نساء، وقيل: كانوا تسعة وسبعين:
زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة (سام وحام ويافث) ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم.
مَجْراها وَمُرْساها أي جريها ومنتهى سيرها. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لولا مغفرته للسيئات ورحمته بالعباد، لما أنجاكم، فهو رحيم حيث لم يهلكنا.
المناسبة:
الآيات تتمة لما ذكر قبلها، تتضمن الإعداد لإغراق قوم نوح وإهلاكهم، ومقابلة السخرية والتهكم بالتخطيط للنجاة وغرق القوم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك إلا من قد آمن سابقا، فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم، فدعا عليهم نوح عليه(12/67)
السلام بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] .
واصنع الفلك أي السفينة أداة النجاة بأعيننا أي بمرأى منا وبرعايتنا وحفظنا وحراستنا، وبتعليمك بوحينا كيفية الصنع، حتى لا تخطئ، فقوله وَوَحْيِنا يعني تعليمنا لك ما تصنعه، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير.
واستعمل القرآن تعبير الأعين لكمال العناية وتمام الرعاية في قوله تعالى لموسى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه 20/ 39] وقوله للنبي محمد صلى الله عليه وسلّم: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور 52/ 48] .
وَلا تُخاطِبْنِي ... أي ولا تراجعني يا نوح ولا تدعني في شأن قومك ودفع العذاب عنهم بشفاعتك، فقد وجب عليهم العذاب، وتم الحكم عليهم بالإغراق. والمقصود ألا تأخذك بهم رأفة ولا شفقة.
وبدأ يصنع السفينة، وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه، استهزءوا منه ومن عمله السفينة، وكذبوا بما توعدهم به من الغرق. قال نوح متوعدا بوعيد شديد وتهديد أكيد: إن تسخروا منا لصنع ما نصنع مما لا يفيد شيئا في ظنكم، فإنا نسخر منكم في المستقبل حين الغرق، كما تسخرون منا الآن، أي نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة.
فسوف تعلمون قريبا بعد تمام عملنا من يأتيه عذاب يهينه في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب مقيم، أي دائم مستمر أبدا في الآخرة.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا.. أي حتى إذا حان وقت أمرنا بالهلاك من الأمطار المتتابعة، وفار التنور أي نبع الماء من التنور، موقد الخبز، وارتفع كما تفور القدر بغليانها، والفوران: الغليان، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام،(12/68)
وعن ابن عباس: التنور وجه الأرض، أي صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار، صارت تفور ماء. وهذا هو المعنى الأول لأن العرب تسمي وجه الأرض تنورا، قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر 54/ 11- 13] .
وقلنا لنوح حينئذ: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين: ذكرا وأنثى، للحفاظ على أصل النوع الحيواني. واحمل فيها أهلك أي أهل بيتك من الذكور والإناث إلا أمرأتك وابنك: يام أو كنعان، وهما من سبق عليه القول أنه من أهل النار، للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه، تعالى الله عن ذلك.
وخذ معك من آمن من قومك، وإن لم يؤمن إلا عدد قليل، أو نزر يسير، مع طول المدة ودعوتهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما. قيل: كانوا ستة أو ثمانية رجال، ونساءهم: نوحا عليه السلام وأهله وأبناءه الثلاثة وأزواجهم، وقال ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا، منهم نساؤهم.
ولم ير الحق سبحانه وتعالى حاجة لبيان العدد لقلتهم التي لا تستحق الذكر، ولم يبين أنواع الحيوان المحمولة ولا كيفية حملها، فذلك متروك للبشر.
وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها أخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لمن حملهم معه في السفينة: بسم الله يكون جريها على سطح الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها، أي بتسخيره تعالى وقدرته يكون مجراها ومرساها، لا بقوتنا.
إن ربي غفور لذنوب عباده رحيم بهم، فلولا مغفرته لذنوبكم ورحمته بكم لما نجاكم فقوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لأهل السفينة.
أخرج الطبراني عن(12/69)
الحسين بن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن الرحيم: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .
وفي رواية أخرى لأبي القاسم الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. الآية. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها.. الآية» .
وذكر المغفرة والرحمة بعد ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين هو في الجملة شأن القرآن في بيان الأضداد والمتقابلات، كما في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف 7/ 167] وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد 13/ 6] ونحو ذلك من الآيات التي تقرن بين الرحمة والانتقام.
وذكر آية المغفرة والرحمة هنا في وقت الإهلاك وإظهار القهر لبيان فضل الله على عباده الذين نجاهم، فهم في جميع الأحوال بحاجة إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، والإنسان لا ينفك عادة عن أنواع الزلات والخطايا، فإن نجاتهم لا ببركة علمهم كما قد يظنون، وإنما بمحض فضل الله، لإزالة العجب منهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- الإياس من إيمان قوم نوح واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم.
وهذا يدل على صحة قول أهل السنة في القضاء والقدر، فإنه تعالى أخبر عن قوم نوح أنهم لا يؤمنون، ولا بد أن يقع ما يتفق مع هذا الخبر، وإلا انقلب علم الله جهلا وكذبا، وذلك محال.(12/70)
2- لطف الله بنبيه نوح، إذ أخبره قبل الهلاك بألا يغتم بهلاك قومه، حتى لا يصبح بائسا حزينا.
3- أول سفينة عبرت البحر هي سفينة نوح، وكان صنعها برعاية الله وتعليمه نوحا كيفية الصنع. والمقصود من بِأَعْيُنِنا معنى الإدراك والإحاطة، لا التجسيم لأنه سبحانه منزه عن الحواسّ والتشبيه والتكييف، لا ربّ غيره.
واتخذ نوح عليه السلام السفينة في سنتين، كما قال ابن عباس، وقيل: في ثلاثين سنة، كما قال كعب، وقيل في مائة سنة كما ذكر زيد بن أسلم. وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلّمه كيف يصنعها. أما طولها وعرضها فعن ابن عباس:
كان طولها ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا وكانت من خشب الساج.
4- من الغباوة سخرية الناس من نبي يوحي إليه فيما يفعل، وسخريتهم إما بقولهم: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا، وإما لأنهم لم يشاهدوا سفينة تبنى وتجري على الماء. وسخرية نوح كانت عند الغرق، والمراد بالسخرية الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
5- ماء الطوفان جاء من السماء: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ وفوران التنور على وجه الأرض كان علامة.
6- من رحمة الله بخلقه نجاة نوح ومن آمن معه من قومه، وهم ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه: سام وحام ويافث وزوجاتهم. ومن فضله تعالى الحفاظ على أصل الثروة الحيوانية، إذ أمر الله نوحا عليه السلام باصطحاب الحيوانات من كل شيء زوجين ذكر وأنثى.
7- الآية دليل على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل.(12/71)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
انتهاء الطوفان ونجاة السفينة وهلاك ابن نوح مع استشفاع أبيه
[سورة هود (11) : الآيات 42 الى 47]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)
الإعراب:
لا عاصِمَ اسم لا، وخبرها: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وهو متعلق بمحذوف، تقديره:
لا ذا عصمة كائن من أمر الله. الْيَوْمَ معمول الظرف، وإن تقدم عليه، كقولهم: كلّ يوم لك درهم. أي في اليوم.
مَنْ رَحِمَ منصوب على أنه استثناء منقطع لأن عاصِمَ فاعل، ومَنْ رَحِمَ مفعول. وقيل: لا عاصِمَ بمعنى معصوم، فلا يكون مَنْ رَحِمَ استثناء منقطعا، وإنما هو(12/72)
بدل مرفوع من عاصِمَ. والتقدير: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي الراحم، وهو الله تعالى.
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ مبتدأ وخبر.
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعود الضمير إلى السؤال، أي إن سؤالك أن أنجي كافرا عمل غير صالح، أو يعود إلى الابن، والمراد: إنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن قرأه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ جعله فعلا ماضيا، ونصب غَيْرُ على أنه مفعول به، وهذه القراءة تدل على أن الضمير في إِنَّهُ يعود على الابن.
فَلا تَسْئَلْنِ الأصل فيه أن تأتي بثلاث نونات: نوني التوكيد ونون الوقاية، فاجتمعت ثلاث نونات فاستثقلوا اجتماعها، فحذفوا الوسطى لأن نون الوقاية لا تحذف، وكسرت الشديدة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة.
البلاغة:
يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي بين الأرض والسماء طباق، وبين ابلعي وأقلعي جناس ناقص.
قال أبو حيان: في هذه الآية و، حد وعشرون نوعا من البديع بالرغم من أن ألفاظها تسع عشرة لفظة: المناسبة في قوله: أَقْلِعِي وابْلَعِي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله يا سَماءُ المراد مطر السماء.
والاستعارة في قوله: أَقْلِعِي، والإشارة في قوله وَغِيضَ الْماءُ فإنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ عبر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإرداف في قوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فلفظ وَاسْتَوَتْ كلام تام، أردفه بقوله عَلَى الْجُودِيِّ قصدا للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليل في قوله: وَغِيضَ الْماءُ فإنه علة للاستواء، والاحتراس في قوله: وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهو أيضا ذم لهم ودعاء عليهم، والإيضاح بقوله الظَّالِمِينَ أي القوم الذين سبق ذكرهم في قوله: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ ...
فالألف واللام في القوم للعهد، والمساواة وَاسْتَوَتْ فلفظها مساو لمعناها، وحسن النّسق، لعطف قضايا بعضها على بعض، والإيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعبا للمعاني الجمة، والتسهيم لأن أول الآية يا أَرْضُ ابْلَعِي فاقتضى آخرها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، والتجنيس في قوله أَقْلِعِي وابْلَعِي والمقابلة في قوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والذم في قوله:(12/73)
بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ والوصف: قص القصة ووصفها بأحسن وصف (النهر الماد من البحر لأبي حيان: 5/ 227) بهامش البحر المحيط.
المفردات اللغوية:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه: ارْكَبُوا أي فركبوا مسمين، وهي تجري وهم فيها مَوْجٍ جمع موجة: وهي ما يرتفع من الماء الكثير عند اضطرابه كَالْجِبالِ في الارتفاع والعظم وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عن السفينة عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يمنعني ويحفظني مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عذاب إِلَّا لكن مَنْ رَحِمَ الله، فهو المعصوم ابْلَعِي ماءَكِ اشربي الماء الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارا وبحارا أَقْلِعِي أمسكي عن المطر، فأمسكت.
وَغِيضَ نقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ تم أمر هلاك قوم نوح الكافرين وإنجاء المؤمنين وَاسْتَوَتْ وقفت واستقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالجزيرة بقرب الموصل في ديار بكر. وهذا النداء والخطاب بالأمر استعارة مجازية بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين.
والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار للمجهول للدلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه.
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إن كنعان من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الذي لا خلف فيه وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم.
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الناجين أو ليس من أهل دينك. قال ابن عباس: كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن مؤمنا، وما بغت امرأة نبي قط. ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. إِنَّهُ أي سؤالك إياي بنجاته أو إن ابنك ذو عمل غير صالح، فإنه كافر، ولا نجاة للكافرين. وفي قراءة بكسر ميم عَمَلٌ ونصب غير، فالضمير لابنه ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ من إنجاء ابنك مِنَ الْجاهِلِينَ بسؤالك ما لم تعلم لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال، وأغناه عن السؤال، لكن أشغله حب الولد عنه، حتى اشتبه عليه الأمر.
أَنْ أَسْئَلَكَ في المستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحته وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من السؤال وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والتفضل علي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا.
المناسبة:
بعد أن أمر نوح عليه السلام أهله والمؤمنين بركوب السفينة قائلين: بسم(12/74)
الله، أعقبه بتصوير إلهي رائع لسير السفينة وسط المياه ذات الأمواج العظيمة، بسبب الرياح الشديدة العاصفة، وبقصد بيان شدة الهول والفزع.
التفسير والبيان:
السفينة تجري بسرعة، سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طفت على رؤوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا، وقيل: بثمانين ميلا.
إنها تجري بهم وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها، وهذا يدل على حصول رياح عاصفة شديدة حينذاك، والمقصود: بيان شدة الهول والفزع.
وهي تسير بإذن الله وتحت كنفه ورعايته وحراسته، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] وقال سبحانه: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 13- 15] .
واستولت الشفقة وعاطفة الأبوة على نوح، فنادى ابنه وهو الابن الرابع، واسمه يام أو كنعان، وكان في مكان منعزل عنه، وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ناداه بقوله: يا بني اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الهالكين.
فرد الابن العاصي عليه قائلا: سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء، ظنا منه أنه ماء سيل عادي يمكن النجاة منه بالتحصن في مكان عال أو جبل شامخ.
فأجابه نوح عليه السلام: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله وعذابه الذي(12/75)
يعاقب به الكافرين، لكن يحفظ من رحم الله، ومن رحمه الله فهو المعصوم، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفورا رحيما، غفورا لذنوبهم رحيما بهم إذا تابوا وأنابوا. أو إلا الراحم وهو الله، وقيل: إن عاصما بمعنى معصوم، كما يقال: طاعم وكاس، بمعنى مطعوم ومكسو.
وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش فكان من المغرقين الهالكين.
وما أدهش هذا المنظر الرهيب، ماء ينهمر من السماء، وأرض تتفجر بالمياه، فيرتفع حتى يغطي أعالي الجبال، ويغمر الأرض.
ولما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة، أمر الله الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، وتم النداء العلوي: يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك، ويا سماء كفّي عن المطر، فغاض الماء، أي نقص، امتثالا للأمر، وقضي الأمر، أي وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه الظالمين، واستقرت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمال العراق، في الموصل، وقيل: هلاكا وخسارا للقوم الظالمين، وبعدا من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم، فلم يبق لهم بقية، بسبب ظلمهم وكفرهم.
واستبدت العاطفة مرة أخرى بنوح على ابنه، فسأل ربه سؤال تسليم وكشف عن حال ولده، فقال مناديا ربه: رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاتهم، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فما مصيره، وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق، فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، وتمام العدل والصواب، حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.
فأجابه ربه: يا نوح إن ابنك ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، وابنك ذو عمل غير صالح، أي تنكر(12/76)
لدعوة الهدى والصلاح، وانضم مع الكافرين وهذا تعليل لانتفاء كونه من أهله، قال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك.، فهو على حذف مضاف.
فلا تطلب مني شيئا ليس لك به علم صحيح، ولا تلتمس مني التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه.
إني أنهاك أن تكون من فئة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمته وحكمه وتقديره في خلقه، رعاية لأهوائهم، ومجمل المعنى: أنهاك عن هذا السؤال وأحذرك أن تكون من الآثمين.
وقد تضمن دعاؤه معنى السؤال أو سمي نداؤه سؤالا، ولا سؤال فيه، أي وإن لم يصرح به لأن ذكر الوعد بنجاة أهله من الغرق استنجاز له، فرتب عليه طلب نجاة ابنه. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.
وفي الآية دلالة على أن العبرة بقرابة الدين، لا بقرابة النسب، وأن حكم الله في خلقه قائم على العدل المطلق دون محاباة نبي أو ولي، وأن الأنبياء قد يخطئون في اجتهادهم، ويعد ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع وتمام معرفتهم بربهم، وأنه لا يجوز الدعاء بطلب ما يغاير سنن الله في خلقه، وأن من الجهالة أن يدعو ولي بما نهي عنه الأنبياء.
وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وعلى جعل الجهل كناية عن الذنب، وهو أمر مشهور في القرآن، كما قالت تعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة 2/ 67] وقال: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء 4/ 17] .
ويحمل كل ما صدر من نوح وغيره من خطأ الاجتهاد على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وبناء عليه حصل العتاب والأمر(12/77)
بالاستغفار، ولا يدل هذا الأمر على سابقة ذنب، مثل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ ... وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر 110/ 1 و3] ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، ليست بذنب يوجب الاستغفار، وقال تعالى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد 47/ 19] وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك الأفضل.
لذا طلب نوح المغفرة من ربه، فقال: قالَ: رَبِّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ..
أي قال نوح: رب إني التجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي، أكن من الخاسرين أعمالا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات العبر والعظات التالية:
1- إجراء السفن في البحار بقدرة الله تعالى وإرادته، وحفظه ورعايته.
2- لن يحقق العناد والاستكبار فائدة أو مصلحة لمن يتصف بهما، فقد أغرق الله ابن نوح واسمه كنعان، وقيل: يام لأنه كان كافرا، ولم يستفد شيئا من الاعتصام بأعالي الجبال، فإذا وقع العذاب العام على الكفار فلا مانع منه لأنه يوم حقّ فيه ذلك العذاب، إلا من رحمه الله، فهو يعصمه.
3- آية وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ... في أعلى مستوى البلاغة والفصاحة والإيجاز، لما فيها من التعبير عن قضايا كثيرة تحتاج إلى بيان صاف، بعبارة محكمة موجزة، محققة لأغراض عديدة، وذات ألوان بيانية بلاغية وآفاق متنوعة.
4- إنما سأل نوح عليه السلام ربه ودعا لإنجاء ابنه، لوعده تعالى له بإنجاء أهله في قوله: وَأَهْلَكَ وترك قوله: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بدليل(12/78)
قوله له: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أي لا تكن منهم لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحا بما تفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته، بدليل
قراءة عليّ:
«ونادى نوح ابنها»
لكنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها، والصحيح أنه كان ابنه، لكن ليس على منهج أبيه في الدين والإيمان والاستقامة.
5- لم يعص نوح الله تعالى فيما سأل من إنجاء ابنه، وإنما كان خطأ في الاجتهاد، بنية حسنة، وعدّ هذا ذنبا لأنه ما كان ينبغي لأمثاله من أهل العلم الصحيح الوقوع في هذا الخطأ غير المقصود، وترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، لذا عاتبه الله تعالى وأمره بالاستغفار.
6- إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، ولا علاقة للصلاح والتقوى بالوارثة والأنساب، لذا نجى الله المؤمنين من قوم نوح، وأهلك ابنه وزوجته مع الكافرين. والصحيح أنه كان ابنه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدّين، لذا قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.
7- هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم، وإن كانوا صالحين. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت فمن أوصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. قال تعالى في آية أخرى: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات 37/ 75- 76] .
8- العدل الإلهي مطلق، لا محاباة فيه لنبي أو ولي، وإنه تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون 23/ 101] .(12/79)
فمن يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضي ربه، فهو جاهل بشرع الله ودينه،
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي: «يا معشر قريش لا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالأنساب» .
9- إن غيرة الله على حرماته اقتضت تحذير الأنبياء من الأخطاء ولو كانت غير مقصودة. قال ابن العربي عن آية: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ:
وهذه زيادة من الله وموعظة، يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين، فقال نوح: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه.
10- كان اعتذار نوح بمثابة توبة كاملة تتضمن عنصري حقيقة التوبة وهما:
الأول- في المستقبل: وهو العزم على الترك، وإليه الإشارة بقوله: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ والثاني- في الماضي: وهو الندم على ما مضى، وإليه الإشارة بقوله: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
11- كان الطوفان عاما شاملا لكل الأرض، في رأي المفسرين وأهل الكتاب، ويؤيدهم ما يقول علماء الجغرافية من وجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، وهي لا تكون إلا في البحر. والذي يجب اعتقاده أن الطوفان كان شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم، وذلك في منطقة الشرق الأوسط، أما أجزاء الكرة الأرضية الأخرى فلا يدل نص قاطع في القرآن على تغطيتها بالطوفان.(12/80)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
العبرة من قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 48 الى 49]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
الإعراب:
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ: تِلْكَ مبتدأ، وخبره: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. نُوحِيها خبر بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال، أي تلك كائنة من أنباء الغيب نوحيها إليك.
ويجوز أن يكون: تِلْكَ مبتدأ، ونُوحِيها: خبره، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ: من صلته، وتقديره: تلك نوحيها إليك من أنباء الغيب.
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أُمَمٍ مبتدأ، وسَنُمَتِّعُهُمْ صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، ودل عليه قوله مِمَّنْ مَعَكَ.
المفردات اللغوية:
اهْبِطْ بِسَلامٍ أنزل من السفينة بسلامة أو بتحية، أي مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ خيرات عليك ومباركا عليك، أو زيادات في نسلك حتى تصير آدم ثانيا وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم هم الذين معك في السفينة، أي من أولادهم وذريتهم هم المؤمنون، سموا أمما لتشعب الأمم منهم، فهم أصول البشرية، وقد تسللت الأعراق والأجناس من أولاد نوح: سام (وهم السامانيون) وحام (وهم الأفارقة) ويافث (وهم أهل الصين واليابان وأمثالهم) .(12/81)
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا، ثم يمسّهم منا عذاب أليم في الآخرة، والمراد بهم الكفار من ذرية من معه، وقيل: قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: هو ما نزل بهم.
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ من بعض أخبار ما غاب عنك نُوحِيها إِلَيْكَ يا محمد مِنْ قَبْلِ هذا القرآن فَاصْبِرْ على التبليغ وأذى قومك كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك والمعاصي.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن استواء السفينة واستقرارها على الجودي، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ذكر تعالى أمرين هما عبرة القصة:
الأول- تكريم نوح عليه السلام والمؤمنين معه بوعده تعالى عند الخروج من السفينة بالسلامة أولا، ثم بالبركة ثانيا، والسلامة تتضمن الدعوة لهم بالوقاية من المكروه لأنهم كانوا كالخائفين على وضعهم: كيف يعيشون وكيف يحققون حاجاتهم من المأكول والمشروب، بعد أن عم الغرق جميع الأرض، وعلموا أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان.
ثم إنه تعالى لما وعد نوحا ومن معه بالسلامة، أردفه بأن وعدهم بالبركة وهي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل.
والثاني- الإخبار عن أمور غائبة عن الخلق، تكون بمثابة الإنذار والإرهاب والاعتبار، وإعطاء الأمثلة للصبر الذي هو مفتاح الفرج:
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما قيل لنوح عليه السلام، حين أرست السفينة على الجودي، من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته(12/82)
إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
والمعنى: قال الله أو الملائكة لنوح بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من جبل الجودي إلى الأرض، فقد ابتلعت الماء وجفّت، بسلام منا، أي بسلامة وأمن أو بتحية، أي مسلما محفوظا من جهتنا، أو مسلما عليك مكرّما كما قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات 37/ 79] ، وبركات عليك، والبركات: نعم ثابتة وخيرات نامية، أي ومباركا عليك في المعايش والأرزاق، تفيض عليك، وعلى أمم ممن معك نسلا وتولدا، أي هم ومن يتناسل منهم من ذرية، ويصير التقدير: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم، فيدخل في قوله مِمَّنْ مَعَكَ كل مؤمن إلى يوم القيامة، وفي قوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ كل كافر إلى يوم القيامة، كما روي ذلك عن محمد بن كعب.
والمعنى: إن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين، ينشئون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون بالدنيا، منقلبون إلى النار.
وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة.
وهكذا عم السلام والتبريك كل المؤمنين، على اختلاف تجمعاتهم. لكن من أولئك المؤمنين سيكون من نسلهم أمم وجماعات آخرون من بعدهم، يمتعون في الدنيا بالأرزاق والبركات، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة، لكفرهم وعنادهم، فانقسم الناس بعد نوح قسمين: قسم مؤمنون صالحون ممتعون في الدنيا والآخرة، وقسم ممتعون في الدنيا فقط معذبون في الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى العبرة العامة من قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ(12/83)
أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيوب السابقة، نوحيها إليك على وجهها، كأنك تشاهدها، ونعلمك بها وحيا منا إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا أحد من قومك، حتى يقول من يكذبك: إنك تعلمتها من إنسان، بل أخبرك الله بها.
فاصبر على تكذيب المكذبين من قومك، وأذاهم لك، وعلى تبليغ رسالتك كما صبر نوح على أذى الكفار، فإن النصر والفوز والنجاة للمتقين الذين يطيعون الله ويتجنبون المعاصي، وإنا سننصرك ونرعاك ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين، حيث نصرناهم على أعدائهم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر 40/ 51] الآية، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات 37/ 171- 172] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يأتي:
1- السلامة والأمن، والتحية والتسليم والتكريم، والبركات والنعم من الله تعالى، على كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وذلك بدءا من نوح عليه السلام ومن آمن معه.
2- المتاع والانتفاع بنعم الدنيا، والتعذيب في الآخرة، لكل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، بدءا من ذرية المؤمنين في عصر نوح عليه السلام وذرية أمم من بعدهم.
3- كان خبر نوح وقصته مع قومه من أنباء ما غاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، أوحى الله بها إليه وأطلعه عليها، دون أن يكون عالما هو وقومه بها قبل ذلك،(12/84)
فلم يعرف أحد أمر الطوفان، وكانت القصة على النحو الصحيح الدقيق مجهولة عند النبي صلى الله عليه وسلّم وعند قومه.
4- كان الغرض من ذكر قصة نوح في سورة يونس هو معرفة وجه الشبه بين قوم نوح وقوم محمد عليهما السلام، وهو ان قوم نوح كذبوه لأنه هددهم بنزول العذاب، فاستعجلوه، ثم ظهر في نهاية الأمر، وكذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلّم استعجلوا نزول العذاب مثل قوم نوح. فوجه الشبه في سورة يونس هو استعجال العذاب.
وفي هذه السورة (هود) أعاد الله تعالى ذكر هذه القصة لهدف آخر، وهو بيان أن إقدام الكفار على الإيذاء كان حاصلا في زمن نوح، فلما صبر عليه السلام، نال الفتح والظفر، فلتكن يا محمد كذلك، لتنال المقصود، فقد عرفت مآل الصبر عند نوح والمؤمنين، وعاقبة الكفر، فوجه الشبه هو الإيذاء، وأن الصبر عليه مؤد إلى النصر.
5- إن الصبر على مشاق تبليغ الرسالة الإلهية، وإذاية القوم، مفتاح الفرج، وسبيل الظفر والنصر، كما صبر نوح ومحمد وأولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد صبر نوح على أذى قومه، ثم نصره الله عليهم، وكذلك صبر النبي صلى الله عليه وسلّم على أذى العرب الكفار، فأيده الله، وأعزّه، ونصره عليهم نصرا مؤزرا.
6- إن العاقبة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز للمتقين عن الشرك والمعاصي، القائمين بأوامر الله، الملتزمين حدوده، المطيعين شرعه.
7- يدل إيراد قصة نوح عليه السلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه.(12/85)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
قصة هود عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)(12/86)
الإعراب:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أَخاهُمْ منصوب بفعل مقدر، أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وغَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور، وقرئ بالجر صفة على اللفظ.
مِدْراراً حال من السَّماءَ، والعامل فيه يُرْسِلِ. والأصل في مدرار أن يكون مدرارة، ولكنهم يحذفون هاء التأنيث عادة من مفعال كامرأة معطار، ومن مفعيل كامرأة معطير، ومن فاعل كامرأة طالق وحائض. عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في تاركي. ما مِنْ دَابَّةٍ في موضع رفع بالابتداء. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا إن: حرف نفي بمعنى ما، أي ما نقول إلا هذه المقالة، فالاستثناء من المصدر الذي دل عليه الفعل، مثل أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى [الصافات 37/ 59] فموتتنا مستثنى من أنواع الموت الذي دل عليها قوله: بِمَيِّتِينَ.
فقد ذكر الفعل ويستثني من مدلوله، كما يستثني من الظرف والحال، مثال الأول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ [يونس 10/ 45] ساعَةً: مستثنى مما دل عليه لَمْ يَلْبَثُوا، أي كأن لم يلبثوا في الأوقات إلا ساعة من النهار ومثال الثاني: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا متمسكين بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران 3/ 112] أي ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل من الله، أي عهد من الله. وَتِلْكَ عادٌ مبتدأ وخبر، وبُعْداً منصوب بفعل مقدر، أي أن المصدر قائم مقام فعله.
البلاغة:
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً عبر بالسماء عن المطر من قبيل المجاز المرسل، لنزوله من السماء، ومدرار: للمبالغة.
فَكِيدُونِي جَمِيعاً أمر بمعنى التعجيز.
ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها استعارة تمثيلية، شبه الخلق وهم في قبضة الله وملكه بمن يقود دابة بناصيتها، فهي مقدورة له.
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ استعارة، فإنه استعار الطريق المستقيم للدلالة على كمال العدل.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا الأمر كناية عن العذاب.
نَجَّيْنا هُوداً.. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فيه إطناب، لتكرار لفظ الإنجاء بقصد بيان أن الأمر شديد عظيم الأهوال.
وَعَصَوْا رُسُلَهُ المراد عصوا رسولهم هودا، من قبيل المجاز المرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.(12/87)
أَلا إِنَّ عاداً.. أَلا بُعْداً لِعادٍ تكرار حرف التنبيه، وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم.
المفردات اللغوية:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم من القبيلة وواحدا منهم، وهو عطف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهُوداً: عطف بيان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده.
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مِنْ: زائدة للتأكيد. إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم في عبادتكم الأوثان. إِلَّا مُفْتَرُونَ كاذبون على الله باتخاذ الأوثان شركاء لله وجعلها شفعاء عند الله تعالى.
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ الضمير في عَلَيْهِ عائد على الدعاء إلى الله وتوحيده. إِنْ أَجْرِيَ ما أجري. فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة- فطرة التوحيد لله والمقصود من الآية بيان إخلاصه في النصيحة، فإنها لا تفيد ما دامت مشوبة بالمطامع.
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أخلصوا التوبة من المعاصي والكفر لله، وارجعوا إليه بالطاعة، أي اطلبوا المغفرة من الله بالإيمان، ثم توسلوا إليها بالتوبة، ثم لا يكون التبري من الغير إلا بالإيمان بالله والرغبة فيما عنده. يُرْسِلِ السَّماءَ المطر، وكانوا قد منعوه واشتدت حاجتهم إليه لأنهم كانوا أصحاب زروع. مِدْراراً كثير الدر. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي يزدكم قوة مع قوتكم بالمال والولد، أو يضاعف قوتكم بالتناسل والأموال. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ مشركين.
بِبَيِّنَةٍ ببرهان على قولك، وبحجة تدل على صحة دعواك، وهذا لفرط عنادهم، وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم. عَنْ قَوْلِكَ صادرين عن قولك أو لقولك. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإجابة والتصديق.
إِنْ نَقُولُ ما نقول في شأنك. اعْتَراكَ أصابك. بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون، لسبك إياها وصدك عنها، فأنت تهذي وتتكلم بالخرافات، والجملة مفعول القول، وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. فَكِيدُونِي اجتمعوا على الكيد لي في إهلاكي من غير إنظار. جَمِيعاً أنتم وأوثانكم. ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ تمهلون. والمراد بيان عجزهم عن إلحاق الضرر به ليعلموا أن آلهتهم جماد لا تضر ولا تنفع. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي أي وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني، فإني متوكل على الله، واثق برعايته.
ما مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب على الأرض. إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا وهو مالك لها، قادر عليها، يصرفها على ما يريد بها، فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه، والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك.(12/88)
وخص الناصية بالذكر لأن من أخذ بناصيته يكون في غاية الذل. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على الحق والعدل، لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا وتتولوا، وقد حذفت فيه إحدى التاءين. فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أي فقد أديت ما علي من الإبلاغ، وإلزام الحجة، فلا تفريط مني ولا عذر لكم، فقد أبلغتكم رسالة ربي. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم، بأن الله يهلكهم، ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم. وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتوليكم وإشراككم. حَفِيظٌ رقيب.
أَمْرُنا عذابا أو أمرنا بالعذاب. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ هداية، وكانوا أربعة آلاف. غَلِيظٍ شديد، وهذا تعريض بأنهم كما عذبوا في الدنيا بريح السموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الشديد.
وَتِلْكَ عادٌ أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم، أي فانظروا آثارهم في الأرض. جَحَدُوا كفروا. وَعَصَوْا رُسُلَهُ جمع الرسل لأن من عصى رسولا، عصى جميع الرسل لاشتراكهم في أصل ما جاؤوا به وهو التوحيد. وَاتَّبَعُوا أي السفلة. أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي معاند للحق، يعني كبراءهم ورؤساءهم الطاغين، والمعنى:
عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، في الدنيا من الناس، ويوم القيامة لعنة على رؤوس الناس، توقعهم في العذاب. كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه أو كفروا نعمه، أو كفروا به، فحذف الجار. أَلا بُعْداً لِعادٍ أي من رحمة الله، وهو دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم من العذاب، بسبب أفعالهم.
قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد، لتمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وقد ذكرت هذه القصة في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر. وكان هود أول من تكلم بالعربية من ذرية نوح.
وفي إيراد هذه القصة هنا شبه بقصة نوح مع قومه، ففيها تبليغ هود الدعوة والتكاليف إلى قومه، وردهم عليه، وما انتهت به القصة من إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين.(12/89)
التفسير والبيان:
دعا هود قومه إلى أنواع من التكاليف:
النوع الأول- دعوتهم إلى التوحيد، في قوله تعالى: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ أي وكما أرسلنا نوحا، أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، والمراد أخا لهم في النسب والقبيلة، لا في الدين لأن هودا كان رجلا من قبيلة عاد، فيقال للرجل: يا أخا العرب، والمراد رجل منهم، وكانت هذه القبيلة قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف (شمال حضرموت) وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأصحاب زرع وضرع.
إنه أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها، فقال لهم: آمركم بعبادة الله الذي لا إله غيره، ولا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما، ولا تشركوا به شيئا، مالكم من إله غيره، خلقكم ورزقكم، وأمدكم بالنعم الوفيرة، فما أنتم إلا مفترون الكذب على الله باتخاذكم الشركاء لله، ووصفكم إياهم بأنهم شفعاء.
ويا قوم، لا أطلب على ما أدعوكم عليه من عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة فطرة التوحيد، أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، وتقدرون ما يقال لكم من نصح قائم على الإخلاص والأمانة، وتعلمون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام.
والنوع الثاني- من التكاليف التي ذكرها هود لقومه: الاستغفار والتوبة فقال: ويا قوم، اطلبوا المغفرة من الله على الشرك والكفر والذنوب السابقة، وأخلصوا التوبة له، وعما تستقبلون، فإذا استغفرتم وتبتم يرسل الله(12/90)
عليكم مطرا كثيرا متتابعا، وقد كانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد أن منعوه لأنهم أصحاب زروع وبساتين، ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد، وعزا إلى عزكم، وقد كانوا أشداء أقوياء يهمهم التفوق والغلبة على الناس، والاعتزاز بالقوة، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف 7/ 69] وقال سبحانه:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء 26/ 128- 133] وقال عز وجل: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] .
وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ولا تعرضوا عني وعن دعوتي وعما أرغبكم فيه، مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
وفائدة الاستغفار المذكورة في الآية، لها ما يؤيدها في السنة النبوية، ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس: «من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» .
وبعد أن حكى تعالى ما ذكره هود لقومه، حكى ما ذكره القوم له:
قالُوا: يا هُودُ.. أي قالوا لنبيهم: ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه أنك رسول من عند الله، ولن نترك عبادة آلهتنا بمجرد قولك: اتركوهم، وما نحن لك بمصدقين، وما نظن إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب شتمك لها ونهيك عن عبادتها وعيبك لها.
فكان جوابهم متضمنا أربعة أشياء كلها عناد وحماقة واستكبار، وهي المطالبة بالبينة والإصرار على عبادة الآلهة، مع أنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر وعدم التصديق برسالة هود مما يدل(12/91)
على الإصرار والتقليد والجحود وإفساد عقله وجعله مجنونا بواسطة الآلهة.
فقال لهم هود: أشهد الله على نفسي واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام، ولا يعني هذا أنهم كانوا أهلا للشهادة، ولكنه نهاية للتقرير، أي لتعرفوا، ولم يقل: إني أشهد الله وأشهدكم، لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فإن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم.
وإذا كنت بريئا من جميع الأنداد والأصنام، أي مما تشركون من دون الله، فإني أعلن ذلك صراحة، فاجمعوا كل ما تستطيعون من أنواع الكيد لي، جميعا أي أنتم وآلهتكم، ولا تمهلوني طرفة عين، إني فوضت أمري كله لله ربي وربكم، ووكلته في حفظي، فهو على كل شيء قدير.
فما من دابة تدب على الأرض أو السماء إلا هي تحت سلطان الله وقهره فهو مصرف أمرها ومسخرها، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، إن ربي على الحق والعدل.
وقد تضمن جوابه الدال على التحدي والمعجزة الباهرة وقلة المبالاة بهم عدة أمور هي: البراءة من الشرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم، وطلبه المكايدة له، وإظهار قلة المبالاة بهم وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم. وهذا موقف مشابه تماما لموقف نوح في قوله السابق: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس 10/ 71] وقوله: قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ، فَلا تُنْظِرُونِ [الأعراف 7/ 195] .
فَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي فإن تتولوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم(12/92)
وحده لا شريك له، فقد بلغتكم رسالة ربي التي بعثني بها إليكم، ولا عتاب علي على تفريط في التبليغ، وكنتم محجوجين بأن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم، فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. ثم استأنف كلاما جديدا فقال: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين، يخلفونكم في دياركم وأموالكم ويكونون أطوع لله منكم، ولا تضرونه شيئا بتوليكم وكفركم، بل يعود وبال ذلك عليكم، وما تضرون إلا أنفسكم، إن ربي على كل شيء رقيب، مهيمن عليه، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
ثم ذكر الله تعالى العذاب وآثاره وعاقبة أمر هود وقومه، فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي ولما حان وقت نزول أمرنا بالعذاب، ووقع عذابنا، وهو الريح العقيم، نجينا هودا والمؤمنين معه من عذاب شديد شاق ثقيل، برحمة من لدنا ولطف منا، وأهلكنا قومه عن آخرهم.
وسبب ذلك العقاب أن عادا كفروا بآيات ربهم وحججه، وعصوا رسله، وقد جمع الرسل والمقصود رسولهم هودا لأن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، فهم كفروا بهود، فصار كفرهم كفرا بجميع الأنبياء، واتّبعوا أمر رؤسائهم الجبابرة الطغاة المعاندين.
فلهذا لحقت بهم لعنة الله في الدنيا، ولعنة عباده المؤمنين كلما ذكروا، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق: ألا إن عادا كفروا بربهم وبنعمه، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدمار والبعد من الرحمة.
والخلاصة: إنه تعالى جمع أوصاف عاد في ثلاثة: جحود دلائل المعجزات على الصدق، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم، وعصيان رسولهم، ومن عصى رسولا واحدا، فقد عصى جميع الرسل، لقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ(12/93)
مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة 2/ 285] ، وتقليد القوم رؤساءهم، ثم ذكر تعالى عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة وهي مصاحبة اللعن لهم في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة:
الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، ثم بين تعالى السبب الأصلي في استحقاق تلك الأحوال فقال: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي جحدوه، أو كفروا بربهم على حذف الباء، أو نعمة ربهم، على حذف المضاف. وفائدة قوله: أَلا بُعْداً لِعادٍ بعد قوله: وَأُتْبِعُوا.. الدلالة على غاية التأكيد. وفائدة قوله لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ تعيين عاد القديمة، تمييزا لهم عن عاد التي هي إرم ذات العماد، فقصد به إزالة الاشتباه، أو لمزيد التأكيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة هود مع قومه على ما يلي:
1- حصر هود عليه السلام دعوته في نوعين من التكاليف هما: الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، والاستغفار ثم التوبة، والفرق بينهما أن الاستغفار:
طلب المغفرة وهو المطلوب بالذات، والتوبة: هي السبب إليها، وذلك بالإعراض أو الإقلاع عما يضاد المغفرة، وقدم المغفرة لأنها هي الغرض المطلوب، والتوبة سبب إليها. وقد تقدم في أول السورة توضيح الفرق.
2- اقتصرت إجابة عاد قوم هود له على التركيز على عبادة الآلهة من الأصنام والأوثان، وتقليد الأسلاف، وذلك يدل على تعطيل الفكر والعقل، وعدم النظر الحر الطليق القائم على الاستدلال بالأدلة الكثيرة والمعجزات المتضافرة التي أظهرها الله على يد هود عليه السلام، ومنها تحديهم بالمكايدة والمعاداة والإضرار له جميعا هم وآلهتهم، وعدم الإمهال ساعة، وهو موقف يدل مع كثرة الأعداء على كمال الثقة بنصر الله تعالى، وهو أيضا من أعلام النبوة: أن يكون الرسول وحده(12/94)
يقول لقومه: فَكِيدُونِي جَمِيعاً.. وكذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لقريش، وقال نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس 10/ 71]
3- التوكل على الله الخالق القاهر المتصرف بالمخلوقات كيف يشاء، والمانع مما يشاء هو من أصول الإيمان التي تمنع وصول الضرر إلى النبي هود عليه السلام وكل مؤمن صادق مخلص، فما من نفس تدب على الأرض أو في السماء إلا وهي تحت سلطان الله وقهره وتصرفه.
4- الله تعالى قادر على الحق والعدل، وهو سبحانه وإن كان قادرا على قوم عاد العتاة الأشداء، لكنه لا يظلمهم، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب.
5- مهمة الأنبياء هي تبليغ الرسالات ومحاجة الكفار، فإن أعرض الناس عن دعواتهم وبيانهم، فهم أي الأنبياء قد أبرؤوا الذمة، وأدوا الغرض، وكان الناس الكافرون المعرضون هم الذين يخسرون، ويتضررون، ويتعرضون للعذاب في الدنيا بالإهلاك، واستخلاف قوم آخرين هم أطوع لله منهم يوحدونه ويعبدونه، وفي الآخرة بدخول جهنم. والله رقيب على كل شيء من أقوال العباد وأفعالهم، ويحاسبهم ويجازيهم عليها.
6- أحوال قبيلة عاد خطيرة ذات أوصاف ثلاثة: هي الجحود بآيات ربهم، وعصيان رسولهم، واتباعهم أو تقليدهم أوامر رؤسائهم دون تفكير ولا روية.
7- كانت عقوبة قبيلة هود لحوق اللعنة عليهم في الدنيا من الله ومن الناس، وهلاكهم بريح صرصر عاتية وبعدهم عن الخير، والطرد من رحمة الله في يوم القيامة، وما ربك بظلام للعبيد.(12/95)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قصة صالح عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
الإعراب:
ثَمُودَ ممنوع من الصرف عند الجمهور، على إرادة القبيلة، وقرأه بعضهم مصروفا على إرادة الحي.
لَكُمْ آيَةً إما حال من ناقَةُ اللَّهِ أي: هذه ناقة الله لكم آية بيّنة ظاهرة، وعامله معنى الإشارة، وإما تمييز أي: هذه ناقة الله لكم من جملة الآيات.
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ من قرأه بالكسر أعربه على الأصل، ومن قرأه بالفتح بناه لإضافته(12/96)
إلى غير متمكّن لأن ظرف الزمان إذا أضيف إلى اسم غير متمكن أو مبني أو فعل ماض، بني، كما في قول الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصّبا فقلت: ألمّا تصح، والشيب وازع فبنى حين على الفتح لإضافته إلى الفعل الماضي. والتنوين في إذا من يَوْمِئِذٍ عوض عن جملة محذوفة، ويسمى تنوين التعويض.
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قال: أخذ لأنه فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وهو الَّذِينَ ظَلَمُوا أو لأن تأنيث الصيحة غير حقيقي، أو محمول على المعنى لأن الصيحة في معنى الصياح، كقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ.. لأن موعظة في معنى وعظ.
أَلا إِنَّ ثَمُودَ من صرفه جعله اسم الحي، ومن لم يصرفه جعله اسم القبيلة معرفة، فلم ينصرف للتعريف والتأنيث.
كَأَنْ مخففة، واسمها محذوف، أي كأنهم.
البلاغة:
فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ استفهام معناه النفي، أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد.
المفردات اللغوية:
وَإِلى ثَمُودَ أي وأرسلنا إلى ثمود أَخاهُمْ من القبيلة اعْبُدُوا اللَّهَ وحدّوه هُوَ أَنْشَأَكُمْ ابتدأ خلقكم وتكوينكم منها، لا غيره، فإنه خلق آدم ومواد النّطف التي خلق نسله منها من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم تعمرونها، وأبقاكم عمركم فيها، تسكنون بها فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا إليه بالطاعة وأقلعوا عن الذنب إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قريب الرحمة من خلقه بعلمه مُجِيبٌ لمن سأله أو لداعيه.
مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا مأمولا أن تكون لنا سيدا أو مستشارا في الأمور لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فلما سمعنا هذا القول الذي صدر منك، انقطع رجاؤنا عنك أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، على حكاية الحال الماضية وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد، والتبري من الأوثان مُرِيبٍ موقع في الريبة أو الريب أي الظن والشك أَرَأَيْتُمْ من رؤية القلب، أي أتدبرتم؟
عَلى بَيِّنَةٍ بيان وبصيرة، واستعمل حرف الشك في قوله إِنْ كُنْتُ باعتبار(12/97)
المخاطبين رَحْمَةً نبوة فَمَنْ يَنْصُرُنِي يمنعني مِنَ اللَّهِ أي من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ في تبليغ رسالته، والمنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي أي فما تطلبون مني باتباعكم غَيْرَ تَخْسِيرٍ تضليل أو إيقاع في الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد، أو بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ دعوها ترعى نباتها وتشرب ماءها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ عقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا، وهو ثلاثة أيام، إن عقرتموها فَعَقَرُوها قتلوها، عقرها قدار بأمرهم فَقالَ صالح تَمَتَّعُوا عيشوا في منازلكم ثلاثة أيام: الأربعاء والخميس والجمعة، ثم تهلكون غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أربعة آلاف وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي ونجيناهم من هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة الْقَوِيُّ القادر على كل شيء الْعَزِيزُ الغالب على كل شيء. الصَّيْحَةُ المرة الواحدة من الصوت الشديد المهلك، والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب، وصعق بها الكافرون جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين، أو ساقطين على وجوههم مصعوقين، والجثوم للطائر كالبروك للبعير يَغْنَوْا يقيموا فِيها في دارهم بُعْداً هلاكا وطردا من رحمة الله، وهو اللعن.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، وهي قصة صالح مع ثمود، وصالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود:
الحجر: وهي بين الحجاز والشام، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم.
ونظم هذه القصة مثل النظم المذكور في قصة هود، إلا أنه لما أمرهم بالتوحيد هاهنا ذكر في تقريره دليلين: الإنشاء من الأرض، والاستعمار فيها أي جعلكم عمارها. وقد ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف.
وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها، ومضمون القصة تبليغ صالح دعوته، ومناقشتهم، وإنذارهم بالهلاك، وردودهم عليه، وتأييد صدقه بمعجزة الناقة، وقتلهم لها، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.(12/98)
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى ثمود الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد، أرسلنا لهم رجلا منهم أي من قبيلتهم، وهو صالح عليه السلام، فأمرهم بعبادة الله وحده، وأقام لهم دليلين على التوحيد:
الدليل الأول- قوله: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها، إذ خلق منها أباكم آدم فهو أبو البشر، ومادة التراب هي المادة الأولى التي خلق منها آدم، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين، بالوسائط التالية: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة تكسى بعدئذ بهيكل عظمي ولحم، وأصل النطفة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء إما من نبات الأرض أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات.
والدليل الثاني- وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها بالزراعة والصناعة والبناء والتعدين. فكون الأرض قابلة للعمارة النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرا عليها، دليل على وجود الصانع الحكيم، الذي قدر فهدى، ومنح الإنسان العقل الهادي والأداة لتسخير موجودات الدنيا، وجعل له القدرة على التصرف.
وإذا كان الله هو المستحق للعبادة وحده، فاستغفروه لسالف ذنوبكم، من الشرك والمعصية، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنب في الماضي، والعزم على عدم العودة إليه وإلى أمثاله في المستقبل.
إن ربي قريب من خلقه بالرحمة والعلم والسمع، مجيب دعوة الداعي المحتاج المخلص بفضله ورحمته، كقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186](12/99)
فأجابوه بكلام يدل على الجهل والعناد: قالُوا: يا صالِحُ.. أي قال قوم ثمود: يا صالح، قد كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت، أو كنا نأمل أن تكون سيدا أو مستشارا في الأمور لما نرى لك من رجاحة في العقل وسداد في التفكير، فالآن خيبت الآمال وقطعت الرجاء. وقال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: كان فاضلا خيّرا. والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: مَرْجُوًّا مشورا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر.
ثم تعجبوا من دعوته قائلين:
أتنهانا عن عبادة الآباء والأسلاف؟ وقد تتابعوا على تلك العبادة كابرا عن كابر دون إنكار من أحد.
وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك التوسل إليه بالشفعاء المقربين عنده، وهو شك موقع في التهمة وسوء الظن.
والشك: هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات، والمريب: هو الذي يظن به السوء.
والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد، ووجوب متابعة الآباء والأسلاف. وهذا نظير ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص 38/ 5] .
فأجابهم صالح مبينا ثباته على المبدأ ومنهج النبوة: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.. أي كيف أعصي الله في ترك ما أنا عليه من البينة؟ أخبروني ماذا أفعل، إن كنت على برهان وبصيرة ويقين فيما أرسلني به إليكم، وآتاني منه رحمة، أي نبوة تتضمن تبليغ ما أوحى به إلي.(12/100)
وقدّروا أني نبي على الحقيقة، وكان على يقين أنه على بيّنة لأن خطابه للجاحدين، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟! وإذا تابعتكم وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، لما نفعتموني، ولما رددتموني حينئذ غير خسارة وضلال، باستبدال بما عند الله ما عندكم.
ولما كانت عادة الأنبياء ابتداء الدعوة إلى عبادة الله، ثم اتباعها بدعوى النبوة، فإن صالحا عليه السلام الذي طلبوا منه المعجزة على صحة قوله، أتاهم بمعجزة الناقة. روي أن قومه خرجوا في عيد لهم، فسألوه أن يأتيهم بآية، وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا صالح ربه، فخرجت الناقة كما سألوا.
وقال لهم: هذه آية على صدقي: ناقة الله، التي تتميز عن سائر الإبل بأكلها وشربها وغزارة لبنها، كما قال تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 54/ 27- 28] .
فاتركوها تأكل ما شاءت في أرض الله من المراعي، دون أن تتحملوا عبء مؤنتها، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه، فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن إصابتكم إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم.
فلم يسمعوا نصحه، وكذبوه وعقروها، عقرها بأمرهم قدار بن سالف، كما قال تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29] فقال لهم: استمتعوا بالعيش في داركم، أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار، مدة ثلاثة أيام، ذلك وعد مؤكد غير مكذوب فيه.
ثم وقع ما أوعدهم به: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي فلما حان وقت أمرنا بالعذاب والإهلاك، وحل العقاب ووقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة، نجينا صالحا والمؤمنين معه، برحمة منا، ونجيناهم من عذاب شديد، ومن ذل ومهانة(12/101)
حدثت يومئذ أي يوم وقوع الهلاك أو يوم القيامة، والخزي: الذل العظيم البالغ حد الفضيحة، إن ربك هو القوي القادر الغالب على كل شيء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكلمة يَوْمِئِذٍ إما بفتح الميم فهو معرب، أو بكسرها فهو مبني مضاف لغير متمكن.
وأصبح أمرهم أنه أخذتهم صيحة العذاب وهي الصاعقة ذات الصوت الشديد المهلك، التي تزلزل القلوب، وتصعق عند سماعها النفوس، فصعقوا بها جميعا، وأصبحوا جثثا هامدة ملقاة على الأرض.
وكأنهم لسرعة هلاكهم لم يوجدوا في الدنيا، ولم يقيموا في ديارهم، بسبب كفرهم وجحودهم بآيات ربهم، ألا إنهم كفروا بربهم، فاستحقوا عقابه الشديد، ألا بعدا لهم عن رحمة الله، وسحقا لثمود، وهلاكا لهم ولأمثالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة صالح مع قومه ثمود على العبر والعظات التالية:
1- إن جحود ثمود وكفرهم بآيات الله وعدم إطاعتهم أوامر رسولهم كان هو شأن هؤلاء القوم إيثارا لتقليد الآباء والأسلاف، بالرغم من أن صالحا عليه السلام منهم نسبا وقبيلة، وأقام لهم الأدلة الكافية الشافية على وجوب عبادة الله وتوحيده، من الخلق والإيجاد في الأرض، وجعلهم عمارا لها.
2- إن الاستغفار من الذنوب والتوبة من المعاصي سبب سريع لإجابة الدعاء لأن الله قريب من عباده، رحيم بهم، مجيب دعوة المحتاجين والمضطرين، قريب الإجابة لمن دعاه.
3- لا تلاقي بين جحود الجاحدين من ثمود وأمثالهم وبين النبي صالح وأمثاله من الأنبياء لأن الجاحدين متمسكون بتقليد الآباء والأسلاف، والنبي ثابت على مبدئه ثبوت الجبال الراسيات، لأنه على يقين من صحة دعوته، وبصيرة من(12/102)
صدق ما أوحى الله به إليه، ولأنه أشد الناس خوفا من عذاب الله إن عصاه وخالف أمره.
4- كانت الناقة معجزة عجيبة مدهشة لخلقها من الصخرة وخلقها في جوف الجبل، وخلقها حاملا من غير ذكر، وخلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة، ولما كان لها من شرب يوم، ولكل القوم شرب يوم آخر، ولإدرارها بلبن كثير يكفي الخلق العظيم، فهذه ستة وجوه، كل وجه منه معجز، مما جعل تلك الناقة آية ومعجزة.
5- اقتضى العدل الإلهي ورحمة الله إنجاء صالح عليه السلام ومن آمن معه، وكانوا أربعة آلاف، وإهلاك قبيلة ثمود بسبب الجحود برسالة نبيهم، وكفرهم بربهم، وإنكارهم وجوده.
6- لا شك بأن وعد الأنبياء صادق صحيح، ووعيدهم مؤكد الحصول، وقد أوعد صالح قومه بالعذاب بعد ثلاثة أيام، وتحقق ذلك في اليوم الرابع.
7- كان عذابهم بالصيحة أو بالصاعقة أو بالرجفة، صيح بهم فماتوا، وأصبحوا جثثا ملقاة هنا وهناك في أنحاء ديارهم. والصيحة: إما صيحة جبريل، أو صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا، لما أحدثته من رهبة وهيبة عظيمة.
8- سحقا وهلاكا لثمود الذين كفروا ربهم، وبعدا وطردا لهم عن رحمة الله بسبب جحودهم وكفرهم.(12/103)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قصة إبراهيم عليه السلام- بشارته بإسحاق ويعقوب-
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
الإعراب:
وَلَقَدْ اللام لتأكيد الخبر، ودخلت لَقَدْ هاهنا لأن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع.
قالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ الأول منصوب بقالوا أو على المصدر، والثاني مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي وعليكم سلام، أو مرفوع على الحكاية.
أَنْ جاءَ إما في محل نصب على تقدير حذف حرف الجرّ، أي عن جاء، وإما في محل(12/104)
رفع على أنه فاعل لَبِثَ أي فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ، أي مشوي.
وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ منصوب بتقدير فعل دل عليه فَبَشَّرْناها أي بشرناها بإسحاق، ووهبنا له يعقوب، أو معطوف على موضع قوله: بِإِسْحاقَ. ويقرأ بالضم مبتدأ، أو مرفوعا بالجار والمجرور، ويقرأ بالجر معطوفا على بِإِسْحاقَ.
شَيْخاً حال من معنى اسم الإشارة أو التنبيه، ويقرأ بالرفع إما خبرا بعد خبر أو بدلا من بَعْلِي أو يكون بَعْلِي بدلا من هذا، وشيخ خبر عن هذا، أو شيخ خبر مبتدأ آخر، أي هذا شيخ، ونظيره في هذه الأوجه الأربعة قوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا [الكهف 18/ 106] .
أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على المدح أو النداء بقصد التخصيص، والأصح أنه منصوب على الاختصاص.
فَلَمَّا ذَهَبَ.. لما ظرف زمان، جوابه محذوف، أي أقبل يجادلنا. وجملة يُجادِلُنا حال من ضمير أقبل وهو ضمير إبراهيم.
آتِيهِمْ عَذابٌ مرفوع باسم الفاعل الذي جرى خبرا، فجرى مجرى الفعل، أي فإنه يأتيهم.
البلاغة:
أَأَلِدُ؟ استفهام معناه التعجب.
ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ.. وَجاءَتْهُ بينهما طباق.
جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ كناية عن العذاب الذي حكم به الله عليهم.
المفردات اللغوية:
رُسُلُنا الملائكة، قيل: كانوا تسعة، وقيل: ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل بِالْبُشْرى ببشارة الولد، وقيل: بهلاك قوم لوط قالُوا: سَلاماً سلمنا عليك سلاما، أو منصوب بقالوا أي ذكروا سلاما قالَ: سَلامٌ أمركم سلام أو جوابي سلام أو وعليكم سلام، وقد أجابهم بالرفع بأحسن من تحيتهم فَما لَبِثَ أبطأ حَنِيذٍ مشوي بالرّضف أي بالحجارة المحماة لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي لا تمتد للتناول نَكِرَهُمْ أنكر ذلك منهم، ضد عرفه وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أحسّ منهم خوفا في نفسه إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب،(12/105)
وإنما نمدّ إليه أيدينا لأنا لا نأكل. ولوط: النبي الكريم ابن أخي إبراهيم وأول من آمن به.
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وراء الستر، تسمع محاورتهم، أو تقوم بالخدمة. فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخوف، أو بهلاك أهل الفساد وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي وهبناها من بعد إسحاق يعقوب يا وَيْلَتى أصله يا ويلي وهلاكي أي يا عجبا، وهي كلمة تقال عند التعجب من بلية أو فجيعة أو فضيحة. بَعْلِي زوجي، وأصله القائم بالأمر، ويجمع على بعولة شَيْخاً ابن مائة أو مائة وعشرين أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين أو تسع وتسعين، فهي عقيم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يعني الولد من هرمين، وهو تعجب من حيث العادة لا القدرة الإلهية مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قدرته وحكمته، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات، ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل، فضلا عمن نشأت وشبت في ملاحظة الآيات. إِنَّهُ حَمِيدٌ تحمد أفعاله مَجِيدٌ كثير الخير والإحسان الرَّوْعُ الخوف والرعب وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الروع.
يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ يجادل رسلنا في شأنهم قائلا: إن فيها لوطا. لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسيء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس مُنِيبٌ راجع إلى الله، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط رحمته.
يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول، أي قالت الملائكة: يا إبراهيم أَعْرِضْ عن هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وقد ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكر إبراهيم في القرآن كثيرا، ذكر مع أبيه وقومه، وذكر هنا مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب، مخبرين له بهلاك قوم لوط، وذكر مع إسماعيل خاصة في موضع آخر، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن ضيافته.
التفسير والبيان:
والله لقد جاءت رسلنا الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل مع(12/106)
جبريل سبعة ملائكة آخرون، وذلك مروي عن عطاء وغيره من التابعين، جاءت الرسل إبراهيم بالبشرى تبشره بالولد إسحاق لقوله تعالى هنا:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وقوله: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات 51/ 28] .
وقيل: البشرى بهلاك قوم لوط وسلامة لوط. قالوا: سلاما عليك، قال: سلام عليكم، وهذا أحسن مما حيوه لأن الرفع بقوله سَلامٌ يدل على الثبوت والدوام، كما ذكر علماء البيان.
فما لبث أي فما أبطأ وذهب سريعا، فأتاهم بالضيافة بعجل (وهو فتى البقر) مشوي على الرّضف (جمع رضفة) وهي الحجارة المحماة بالنار أو بالشمس، كما قال تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات 51/ 26] .
فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام، أنكر ذلك منهم، ووجد في نفسه خوفا وفزعا منهم، إذ أدرك أنهم ليسوا بشرا، وربما كانوا ملائكة عذاب.
قالوا له: لا تخف، فنحن لا نريد سوءا بك، وإنما أرسلنا لا هلاك قوم لوط، وكانت ديارهم قريبة من دياره.
ونحن نبشرك بغلام عليم، يحفظ نسلك، ويبقي ذكرك، وهو إسحاق، ثم يعقوب من بعده وهو الذي من ذريته أنبياء بني إسرائيل.
وكانت امرأة إبراهيم قائمة وراء ستار بحيث ترى الملائكة، أو كانت واقفة تخدم الملائكة، فضحكت سرورا بزوال الخوف وتحقيق الأمن، أو استبشارا بهلاك قوم لوط لكراهتها لأفعالهم المنكرة، وغلظ كفرهم وعنادهم، فجوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ أي فبشرناها بولد هو إسحاق، وسيلد لإسحاق ولد هو يعقوب كما في قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام 6/ 84] .
وفسر مجاهد وعكرمة: فَضَحِكَتْ أي حاضت، وكانت آيسة، تحقيقا للبشارة.(12/107)
وهو تفسير غريب مخالف لرأي الجماهير.
وذلك لأنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر، تمنّت سارّة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنّها، فبشرت بولد يكون نبيا، ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
قالت سارّة لما بشرت بالولد: عجبا كيف ألد وأنا عجوز كبيرة شيخة عقيم، وزوجي في سن الشيخوخة لا يولد لمثله، إن هذا الخبر لشيء عجيب غريب عادة.
فأجابتها الملائكة: كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، أي لا عجب من ان يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق، فإن الله لا يعجزه شيء في الكون وهو على كل شيء قدير: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
فإن رحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة، وقد توورثت النبوة في نسل إبراهيم إلى يوم القيامة، إنه تعالى المحمود في جميع أفعاله وأقواله، المستحق لجميع المحامد، الممجد في صفاته وذاته، الكثير الخير والإحسان، فهو محمود ماجد.
ثم أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الخوف من الملائكة حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد، وأخبروه بهلاك قوم لوط، وعلم أنهم ملائكة العذاب لقوم لوط، أخذ يجادل الملائكة وهم رسل الله في قوم لوط، وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنهم جاؤوا بأمره.
لأن إبراهيم حليم غير متعجل بالانتقام من المسيء إليه، كثير التأوه مما يسوء الناس ويؤلمهم، ويرجع إلى الله في كل أموره، أي أن رقة قلبه وفرط رحمته حملته على المجادلة.(12/108)
فأجابته الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ القضاء والعذاب فيهم، وإنهم آتيهم عذاب غير مصروف ولا مدفوع عنهم أبدا، لا بجدال ولا بدعاء ولا بشفاعة ونحوها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت القصة إلى ما يلي:
1- تبادل السلام بين الملائكة وبين الأنبياء، فقد سلم الملائكة على إبراهيم عليه السلام بقولهم: سلاما، كما تقول: قالوا خيرا، فرد عليهم بتحية أحسن، فقال: سلام عليكم.
2- دلت الآية أن من أدب الضيف أن يعجّل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان لديه شيء وسعة، ولا يتكلف المفقود غير المستطاع الذي يتضايق به.
والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وهي سنة وليست بواجبة،
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي شريح، وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة: «الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة» .
وقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح وأبي هريرة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» .
والمخاطب بالضيافة أهل المدن أو الحضر والبادية في رأي الشافعي، وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة،
لحديث القضاعي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الضيافة على أهل الوبر، وليست على أهل المدر»
لكنه حديث لا يصح، كما قال القرطبي.(12/109)
والسنة إذا قدّم للضيف الطعام أن يبادر المقدّم إليه بالأكل فإن تكريم الضيف من مضيفه تعجيل التقديم، وتكريم صاحب المنزل من ضيفه المبادرة بالقبول. فلما قبض الملائكة أيديهم، تخوف إبراهيم، أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه.
ومن أدب الطعام: أن ينظر المضيف في ضيفه، هل يأكل أولا؟ وذلك بلمح نظر سريع، لا بتأكيد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلت معك.
3- مشاركة الزوجة لعواطف زوجها أمر مستحسن، فإن سارّة ضحكت استبشارا بتعذيب قوم لوط، لكراهتها خبائثهم، قال الجمهور: هو الضحك المعروف. وأنكر بعض اللغويين أن يكون في لغة العرب: ضحكت بمعنى حاضت.
4- من السنة قيام المرأة بخدمة الرجال الضيوف بنفسها، وترجم البخاري لحديث في ذلك: «باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس» قال القرطبي: ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب.
5- امتنع الملائكة من الطعام لأنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أتوا إبراهيم في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها، وهو كان مشغوفا بالضيافة.
6- ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدّم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن فقال لهم: «ثمنه أن تذكروا الله في أوله، وتحمدوه في آخره» فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا.
ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا.(12/110)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
7- إن رحمة الله متكاثرة، وبركاته على أهل بيت النبوة متعاقبة، فكان التبشير بولادة ولد لزوجين عجوزين معجزة خارقة للعادة، وتخصيصا لبيت النبوة بكرامة عالية رفيعة، والله تعالى قادر على كل شيء، وإنه حميد مجيد، فلا عجب بعدئذ.
8- إن جدل إبراهيم في شأن إهلاك قوم لوط ليس من الذنوب، بدليل إيراد المدح العظيم عقبه بقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ أي إن رقة قلبه وفرط رحمته وسعة حلمه حملته على المجادلة، التي كان المراد منها سعي إبراهيم في تأخير العذاب عن قوم لوط، رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة من المعاصي.
9- دلت آية رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ على أن زوجة الرجل من أهل البيت، وأن أزواج الأنبياء من أهل البيت، فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم وممن قال الله فيهم: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب 33/ 33] .
قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)(12/111)
الإعراب:
يُهْرَعُونَ في موضع الحال.
هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ هؤُلاءِ مبتدأ، وبَناتِي عطف بيان، وهُنَّ ضمير فصل، وأَطْهَرُ خبر المبتدأ.
فِي ضَيْفِي وحّد الضيف وإن كان جمعا في المعنى لأن ضيفا في الأصل مصدر يصلح للواحد والاثنين والجماعة.
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً.. لَوْ حرف امتناع لامتناع، وجوابه محذوف تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هاهنا أبلغ لأنه يوهم تعظيم الجزاء. وآوِي منصوب بأن، ليكون الفعل معها بتأويل المصدر معطوفا على قُوَّةً وتقديره: لو أن لي بكم قوة أو اويا. مثل قول ميسون بنت الحارث أم يزيد بن معاوية:
ولبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إلى من لبس الشفوف أي: وأن تقرّ عيني.
إِلَّا امْرَأَتَكَ مستثنى منصوب من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ ويرفع على البدل من أَحَدٌ. والمراد بالنهي وَلا يَلْتَفِتْ في رأي المبرد المخاطب، ولفظه لغيره، كما تقول لغلامك: لا يخرج فلان، أي لا تدعه يخرج.
البلاغة:
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ استفهام معناه التعجب والتوبيخ.(12/112)
أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ استعارة، والمراد بها قومه وعشيرته لأن الإنسان يلجأ إليهم ويستند كالاستناد إلى ركن.
عالِيَها سافِلَها بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
سِيءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم وحزن بسببهم لأنهم جاؤوا في صورة غلمان، فظن أنهم أناس، فخاف أن يقصدهم قومه، فيعجز عن مدافعتهم. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وهو كناية عن شدة الانقباض، للعجز عن مدافعة المكروه، يقال: ما لي به ذرع أي مالي به طاقة عَصِيبٌ شديد الأذى. يُهْرَعُونَ يسرعون، يقال: هرع وأهرع: إذا حمل على الإسراع وَمِنْ قَبْلُ قبل مجيئهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش وهي إتيان الرجال في الأدبار. هؤُلاءِ بَناتِي فتزوجوهن هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا أو أقل فحشا، وقال أبو حيان: الأحسن أن تكون الإضافة مجازية أي بنات قومي، أي البنات أطهر لكم إذ النبي يتنزل منزلة الأب لقومه. وفي قراءة ابن مسعود: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم» ويدل عليه: أنه فيما قيل: لم يكن له إلا بنتان، وهذا بلفظ الجمع، وأيضا فلا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه. وقيل: أشار إلى بنات نفسه، وندبهم إلى النكاح إذ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر. وقيل: (أحل وأطهر) ليس أفعل التفضيل إذ لا طهارة في إتيان الذكور. وَلا تُخْزُونِ تفضحوني، من الخزي، أو لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء فِي ضَيْفِي أضيافي، يطلق الضيف على الواحد والجمع رَشِيدٌ ذو رشد وعقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح مِنْ حَقٍّ من حاجة لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من إتيان الرجال.
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً طاقة، أي لو قويت بنفسي على دفعكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قوي أمتنع به عنكم، أو عشيرة تنصرني، لبطشت بكم لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ طائفة أو بقية من الليل، والسّرى: السير ليلا وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ولا يتخلف أو ولا ينظر إلى ورائه، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط، وسبب النهي ألا يرى عظيم ما ينزل بهم إِلَّا امْرَأَتَكَ فلا تسر بها إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ تعليل بطريقة الاستئناف، قيل: إنه لم يخرج بها، وقيل: خرجت والتفتت فقالت: وا قوماه، فجاءها حجر فقتلها. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنه علة الأمر بالإسراء، أو قد سألهم عن وقت هلاكهم، فأخبروه بذلك.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا أو أمرنا به جَعَلْنا عالِيَها أي قراهم سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض مِنْ سِجِّيلٍ طين طبخ بالنار، بدليل آية أخرى لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ
[الذاريات 51/ 33] أي طين متحجر.(12/113)
مَنْضُودٍ متتابع منظم ومعدّ لعذابهم مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب، أي لها علامة خاصة عند ربك أي في خزائنه وَما هِيَ الحجارة أو بلادهم مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي أهل مكة وأمثالهم، وهذا وعيد لكل ظالم،
روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سأل جبريل عليه السلام، فقال: يعني ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة.
المناسبة:
هذه هي القصّة الخامسة من القصص المذكورة في هذه السّورة، وهي قصة لوط عليه السّلام، وقوم لوط: أهل سدوم في الأردن. قال ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط (ابن أخي إبراهيم) وبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله.
التفسير والبيان:
ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا، بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم هذه الليلة، وكانوا في أجمل صورة بهيئة شباب حسان الوجوه، ابتلاء من الله، فساءه شأنهم ومجيئهم، وضاقت نفسه بسببهم لأنه ظنّ أنهم من الإنس، فخاف عليهم خبث قومه، وأن يعجزوا عن مقاومتهم، وقال: هذا يوم عصيب أي شديد البلاء.
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ.. وجاء لوطا قومه عند ما سمعوا بالضّيوف وقدومهم، بإخبار امرأته قومها، يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، لإتيان الفاحشة، وليس ذلك غريبا، فإنهم كانوا قبل مجيئهم يعملون السّيئات ويرتكبون الفواحش، فلم يزل هذا من سجيّتهم، حتى أخذوا وهم على تلك الحال، كما حكى الله عنهم: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت 29/ 29] أي ظلوا يقترفون الفاحشة إلى وقت الهلاك.(12/114)
قالَ: يا قَوْمِ، هؤُلاءِ.. قال لوط: يا قوم، هؤلاء البنات فتزوّجوهنّ، والمراد بنات القوم ونساؤهم فإن النّبي للأمّة بمنزلة الوالد، كما قال ابن عباس، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدّنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشّعراء 26/ 165- 166] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد: لم يكنّ بناته، ولكن كنّ من أمته، وكلّ نبي أبو أمته. وقال ابن جريج: أمرهم أن يتزوّجوا النّساء، لم يعرض عليهم سفاحا. وقال سعيد بن جبير: يعني نساءهم هنّ بناته، وهو أب لهم.
فَاتَّقُوا اللَّهَ.. أي فاخشوا الله، وأقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم، ولا تفضحوني أو لا تخجلوني في ضيوفي، فإن إهانتهم إهانة لي.
أليس منكم رجل فيه رشد وحكمة وعقل وخير يقبل ما آمر به ويترك ما أنهى عنه، ويهديكم إلى الطريق الأقوم.
قالوا: لقد علمت سابقا ألا حاجة لنا في النّساء ولا نشتهيهنّ، فلا فائدة فيما تقول، وليس لنا غرض إلا في الذّكور، وأنت تعلم ذلك منا، فأي فائدة في تكرار القول علينا في ذلك؟ والمراد أنهم صمموا على ما يريدون.
قال لوط لقومه متوعّدا: لو كان لدي قوة تقاتل معي، أو عشيرة تؤازرني وتنصرني عليكم، وتدفع الشّرّ عني، لكنت قاتلتكم وحلت بينكم وبين ما تريدون.
وبعد هذه المخاوف من الفضيحة التي أقلقت لوطا على ضيفانه، بشرته الملائكة بنجاته منهم وهلاكهم بالعذاب: قالُوا: يا لُوطُ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ..
أي قالت الملائكة للوط: إنا رسل ربّك أرسلنا لنجاتك من شرّهم، وإهلاكهم، لن يصلوا بسوء إليك ولا إلى ضيوفك، وحينئذ طمس الله أعينهم، فلم يعودوا(12/115)
يبصروا لوطا ومن معه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر 54/ 37] .
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ.. أي فاخرج من هذه القرية في جزء من الليل يكفي لتجاوز حدودها، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذّاريات 51/ 35- 36] .
وَلا يَلْتَفِتْ.. أي ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه أبدا، حتى لا يصيبه شيء من العذاب، أو يتعاطف معهم، وامضوا حيث تؤمرون.
إِلَّا امْرَأَتَكَ ... أي امض بأهلك إلا امرأتك فلا تأخذها معك، إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب لأنها كانت كافرة خائنة.
ثم ذكر علّة الإسراء ليلا، فقال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أي إن موعد عذابهم وبدءه هو الصّبح من طلوع الفجر إلى شروق الشّمس، كما قال تعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر 15/ 73] .
أليس موعد الصّبح بموعد قريب، وسبب اختيار هذا الوقت كونهم متجمعين في مساكنهم. روي أنهم لما قالوا للوط عليه السّلام: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال: أريد أعجل من ذلك، بل الساعة، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسّرون: إن لوطا عليه السّلام لما سمع هذا الكلام، خرج بأهله في الليل.
فلما جاء أمرنا بالعذاب، وكان ذلك عند طلوع الشّمس، ونفذ قضاؤنا، جعلنا عاليها وهي سدوم سافلها، وخسفنا بهم الأرض، وأمطرنا عليهم حجارة من طين متحجّر، منضّد بعضها فوق بعض وتتابع في النّزول عليهم، مسوّمة أي معلّمة للعذاب، عليها علامة خاصة عند ربّك أي في خزائنه، كقوله تعالى:(12/116)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. فَغَشَّاها ما غَشَّى [النّجم 53/ 53- 54] . فمن لم يمت حتى سقط للأرض، أمطر الله عليه، وهو تحت الأرض الحجارة، حجارة من سجيل، أي طين متحجّر قوي شديد.
وفي التّفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرّحمة.
ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة متوعّدا بها كلّ ظالم فقال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي وما هذه النّقمة أو تلك القرى التي وقعت فيها ممن تشبه بهم في ظلمهم كأهل مكة ببعيد عنه، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها.
قال أنس: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل عن هذا، فقال: يعني عن ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم، إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة.
وفي هذا عبرة للظالمين في كلّ زمان ومكان. وجاء بِبَعِيدٍ مذكّرا على معنى بمكان بعيد.
ونظير الآية: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات 37/ 137- 138] ، أي وإنكم لتمرّون على ديارهم في أسفاركم نهارا أو ليلا، أفلا تعقلون وتتدبّرون بما نزل بهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت قصة لوط عليه السّلام مع قومه على ما يأتي:
1- إنّ المؤمن يغار على حرمات الله، ويستبق وقوع الحوادث استعدادا للبلاء قبل نزوله، لذا استاء لوط عليه السّلام من مجيء وقد الملائكة (ملائكة العذاب الذين بشّروا إبراهيم بالولد) وضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وقال: هذا يوم شديد في الشّر.
لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، بصرت بنتا لوط- وهما تستقيان- بالملائكة، ورأتا هيئة حسنة(12/117)
فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية، قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ، وأشارتا إلى لوط فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم.
2- كان مجيء القوم مسرعين بقصد ارتكاب الفاحشة دليلا ماديا محسوسا للملائكة وغيرهم على استحقاقهم العذاب الأليم والعقاب السريع. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إنّ لوطا قد أضاف الليلة فتية، ما رئي مثلهم جمالا وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه.
ويذكر أن الرّسل لما وصلوا إلى بلد لوط، وجدوا لوطا في حرث (بستان) له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم.. إلخ ما ذكر سابقا.
3- كان قوم لوط يعملون السّيئات، أي كانت عادتهم إتيان الرّجال، فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: هؤلاء بناتي، أي أرشدهم إلى التّزوج بالنّساء، وإيثار البنات على الأضياف وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النّكاح، وكانت سنّتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنتا له من عقبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الرّبيع قبل البعثة والوحي، وكانا كافرين.
وقال جماعة من المفسّرين كمجاهد وسعيد بن جبير: أشار بقوله:
بَناتِي إلى النّساء جملة إذ نبيّ القوم أب لهم، ويؤيّد هذا أن في قراءة ابن مسعود: «النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم» ، والظاهر أن هذا هو أمثل الآراء وأقربها إلى الصحة.(12/118)
4- إن الكريم الشّهم الأبي هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه، لذا قال لوط: فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تهينوني ولا تذلّوني.
ثم وبّخهم بقوله: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟ أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو ذو رشد، أو راشد أو مرشد أي صالح أو مصلح. والرّشد والرّشاد: الهدي والاستقامة.
5- من ألف الفساد والفحش بعد عن الصّلاح والطّهر، لذا قال قوم لوط:
لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي ليس لنا إلى بناتك رغبة ولا هنّ نقصد، ولا لنا عادة نطلب ذلك، فإن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا أو طريقنا الذي نحن عليه، ولا حاجة لنا بالبنات، أو لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض لا جدّية فيه، فقوله: مِنْ حَقٍّ أي مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة.
ثم أعلنوا عن شهوتهم فقالوا: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ إشارة إلى الأضياف، والرّغبة في إتيان الذّكور، وما لهم فيه من الشّهوة.
6- لم يجد لوط عليه السّلام سبيلا للرّدع والإرهاب إلا التّهديد وإظهار الغضب والضّجر من موقف قومه، واستمرارهم في غيّهم، وضعفه عنهم وعجزه عن دفعهم، فتمنى لو وجد عونا على ردّهم، وقال على جهة التّفجع والاستكانة:
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي أنصارا وأعوانا، لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون، أو لو أجد ملجأ ألجأ وأنضوي إليه من قبيلة أو عشيرة تؤازرني ضدّ البغي والبغاة، والظّلم والظّالمين، والفسق والفاسقين. وهو دليل على أن لوطا كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حقّ أضيافه.(12/119)
7- لما رأت الملائكة حزن لوط عليه السّلام واضطرابه ومدافعته، عرّفوه بأنفسهم: قالُوا: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ فلما علم أنهم رسل، مكّن قومه من الدّخول، فأمر جبريل عليه السّلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفّت.
وطمأنوه بقولهم: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بمكروه، وكان كلام الملائكة متضمّنا أنواعا خمسة من البشارات هي: أنهم رسل الله، وأن الكفار لن يصلوا إلى ما همّوا به، وأنه تعالى يهلكهم، وأنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب، وأن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى.
8- اقتضت رحمة الله تعالى وعدله إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، وتلك معجزة للنّبي وتكريم لمن آمن معه، وردع للظّالمين وإرهاب للكافرين. فأنقذ الله لوطا وأهله وهم بنتاه إلا امرأته، وأهلك قومه.
9- كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس بقلب جبريل عليه السّلام قرى قوم لوط وجعل عاليها سافلها، وهي خمس: سدوم (وهي القرية العظمى) وعامورا، ودادوما، وضعوة، وقتم.
أي أن العذاب له وصفان: الأول: قوله تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض، والثاني قوله تعالى:
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
وكان هذا العمل معجزة قاهرة من وجهين:
أحدهما- أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادة.
والثاني- أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض، بحيث لم تتحرك(12/120)
سائر القرى المحيطة بها بتاتا أمر عجيب.
ثم إن عدم وصول الآفة إلى لوط عليه السّلام وأهله، مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا.
10- وصف الله تعالى الحجارة التي رمي بها قوم لوط بصفات ثلاث هي:
الأولى- كونها من سجّيل، أي الشّديد الكثير، أو الطين المتحجّر.
الثانية- قوله تعالى: مَنْضُودٍ أي متتابع، أو مصفوف بعضه على بعض، أو مرصوص.
الثالثة- مُسَوَّمَةً أي معلّمة، من السّيما وهي العلامة، أي كان عليها أمثال الخواتيم.
وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ قال الحسن: دليل على أنها ليست من حجارة الأرض.
وقوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني قوم لوط أي لم تكن تخطئهم، وهي أيضا عبرة لكلّ ظالم من أهل مكة وغيرهم.
روي عن النّبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرّجال، ونساؤهم بالنّساء، فإذا كان ذلك، فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجّيل» ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
11- دلّ قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ على أن من فعل فعل قوم لوط، حكمه الرّجم، كما تقدّم في سورة الأعراف.(12/121)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قصة شعيب عليه السّلام
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)(12/122)
الإعراب:
مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لمعنى عاملها: تَعْثَوْا.
أَنْ نَفْعَلَ في موضع نصب، معطوف على نَتْرُكَ أي: أن نترك عبادة آبائنا وفعل ما نشاء في أموالنا.
لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي فاعل، والضمير مفعول أول، والثاني: أَنْ يُصِيبَكُمْ.
ضَعِيفاً حال من كاف لَنَراكَ لأنه من رؤية العين، ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا.
مَنْ يَأْتِيهِ اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب بتعلمون.
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ جاء بالتاء هنا على الأصل، ولم يعتد بالفصل بالمفعول به بين الفعل والفاعل، وقد جاء القرآن بالوجهين، وكأنه جيء بالتاء هاهنا طلبا للمشاكلة لأن بعدها: كما بعدت ثمود، وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وذكر في قصة صالح على معنى الصياح.
البلاغة:
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ مجاز عقلي، أسند الإحاطة للزمان الذي هو اليوم، مع أنه ليس بجسم والعذاب فيه.
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر.(12/123)
المفردات اللغوية:
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين. والمراد أهل مدين، وهو بلد بناه مدين بن إبراهيم عليه السّلام، فسمي باسمه. اعْبُدُوا اللَّهَ وحدوه. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بثروة، وسعة في الرزق، ونعمة تغنيكم عن التطفيف، أو أراكم بنعمة من الله تعالى، حقها أن تقابل بغير ما تفعلون، أو أراكم بخير، فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ بكم، لا يشذ منه أحد منكم، يهلككم، ووصف اليوم به مجاز، لوقوعه فيه.
أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أوفوهما بالعدل، أمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء، ولو بزيادة لا يتأتى دونها. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوا من حقهم شيئا. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي تفسدوا، بنقص الحق أو القتل أو غيره كالسرقة والغارة، وكل من الجملتين الأخيرتين تعميم بعد تخصيص، فقوله: لا تَبْخَسُوا أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره. وقوله:
لا تَعْثَوْا يعمّ العثو تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد.
بَقِيَّتُ اللَّهِ رزقه الباقي لكم بعد إيفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم خَيْرٌ لَكُمْ من البخس ومما تجمعون بالتطفيف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، فإن ثواب الفعل الصالح والنجاة مشروط بالإيمان وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن القبائح، أو رقيب أحفظ عليكم أعمالكم، فأجازيكم عليها، وإنما أنا نذير ناصح مبلّغ، وقد أعذرت حين أنذرت.
قالُوا: يا شُعَيْبُ قالوا له استهزاء. أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أجابوا به بعد أن أمرهم بالتوحيد. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا معطوف على ما، أي: وأن نترك فعلنا ما نشاء بأموالنا، والمعنى: هذا أمر باطل لا يدعو إليه داع بخير، وقصدوا الاستهزاء بصلاته، وكان شعيب كثير الصلوات، فخصوا الصلاة بالذكر، وقالوا: إن دعوتك لا يؤيدها داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه من الصلاة. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا ذلك استهزاء، وتهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك. والحليم: العاقل المتأني، والرشيد: المستقيم على الهداية الراسخ فيها.
قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة.
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ضمير مِنْهُ عائد إلى الله، وذلك إشارة إلى ما آتاه الله من الحلال، فهل أشوبه بالحرام، من البخس والتطفيف. وجواب الشرط محذوف تقديره: فهل يعقل لي مع هذه السعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه؟! وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء. إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أذهب إلى ما نهيتكم(12/124)
عنه فأرتكبه. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بالعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أي وما قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت أمري إليه، فإنه القادر المتمكن من كل شيء، وما عداه عاجز في ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع، إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضا يفيد الحصر، بتقديم الصلة على الفعل.
وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق من الله تعالى، والاستعانة به في أموره كلها، والإقبال عليه، وحسم أطماع الكفار، وعدم المبالاة بمعاداتهم، وتهديهم بالرجوع إلى الله للجزاء.
لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنكم خلافي الشديد معكم ومعاداتي. ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ أي منازلهم أو زمن هلاكهم، أي مكانا أو زمانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم، فاعتبروا بهم. وإفراد بِبَعِيدٍ إما لأن المراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد، أو بزمان أو مكان بعيد.
إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بالمؤمنين، عظيم الرحمة بالتائبين. وَدُودٌ محب لهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل الصادق الود بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
قالُوا إيذانا بقلة المبالاة. ما نَفْقَهُ ما نفهم، والفقه: الفهم الدقيق المتعمق. مِمَّا تَقُولُ من التوحيد. ضَعِيفاً ذليلا رَهْطُكَ عشيرتك وقومك، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. لَرَجَمْناكَ بالحجارة. بِعَزِيزٍ أي كريم عن الرجم. وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد.
أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ فتتركوا قتلي لأجلهم، ولا تحفظوني لله. وَاتَّخَذْتُمُوهُ أي الله. وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا جعلتموه بشرككم كالشيء الملقى خلف الظهر، لا تراقبونه، أو كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به وإهانة رسوله. مُحِيطٌ علما بما تعملون، فيجازيكم لأنه لا يخفى عليه شيء منها.
عَلى مَكانَتِكُمْ حالتكم وتمكنكم في قوتكم. إِنِّي عامِلٌ على حالتي. سَوْفَ تَعْلَمُونَ الذي يعذبه الله تعالى. وَارْتَقِبُوا انتظروا عاقبة أمركم. رَقِيبٌ منتظر. وقد سبق مثله في سورة الأنعام بالفاء: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام 6/ 135 ومواضع أخرى] والفاء للتصريح بان الإصرار على الكفر سبب للعذاب، وحذفها هاهنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟
فهو أبلغ في التهويل.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم. الصَّيْحَةُ صاح بهم جبريل فهلكوا. جاثِمِينَ(12/125)
باركين على الرّكب ميتين. كَأَنْ مخففة أي كأنهم لَمْ يَغْنَوْا يقيموا. كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبههم بهم لأن عذابهم أيضا كان بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم، وصيحة مدين كانت من فوقهم.
المناسبة:
هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة، وقد تقدم ذكر هذه القصة في سورة الأعراف، وجيء بها في كل موضع لعظة وعبرة وأحكام مختلفة، مع اختلاف في الأسلوب والنظم.
وتضمنت القصة هنا تبليغ شعيب عليه السّلام دعوته، ومناقشة قومه له وردّه عليهم، وإنذار شعيب لهم بالعذاب، ثم وقوعه بالفعل، ونجاة المؤمنين.
ومدين: اسم مدينة بين الحجاز والشام قرب (معان) بناها مدين بن إبراهيم عليه السّلام.
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم في القبيلة شعيبا الذي كان من أشرفهم نسبا، فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فهذا أمر بالتوحيد الذي هو أصل الإيمان، ثم نهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان فقال: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، كما قال تعالى:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين 83/ 1- 3] والمطففون: المنقصون، ويُخْسِرُونَ: ينقصون.
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي إني أراكم بثروة وسعة في الرزق ورفاه في المعيشة، تغنيكم عن الطمع والدناءة في بخس الناس حقوقهم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله تعالى، وإني أخشى عليكم عذاب يوم يحيط بكم جميعا،(12/126)
فلا يترك أحدا منكم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، وإما عذاب الآخرة في جهنم.
ويا قوم وفّوا الكيل والوزن بالعدل، آخذين ومعطين، وهو أمر بالإيفاء بعد النهي عن البخس، للتأكيد والتنبيه على أنه لا يكفي الامتناع عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم الإيفاء ولو بزيادة قليلة.
ثم نهاهم عن النقص في كل الأشياء، فقال: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ والبخس: النقص في كل الأشياء، أي إياكم والظلم أو الجور في حقوق الناس.
وَلا تَعْثَوْا.. العثو: الفساد التام، أي لا تفسدوا شيئا من مصالح الدين والدنيا، وقد كانوا يقطعون الطريق، وأنتم تتعمدون الإفساد، فقوله تعالى:
وَلا تَعْثَوْا يشمل إنقاص الحقوق وغيره من أنواع الفساد الدنيوية والدينية، وقوله بعدها مُفْسِدِينَ معناه: حالة كونكم قاصدين الإفساد، فلا إثم في حال الخطأ أو إرادة الإصلاح.
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.. أي ما يبقى لكم من الربح الحلال بعد إيفاء المكيال والميزان خير لكم من الحرام، وأكثر بركة وأرجى عاقبة مما تأخذونه بطريق الحرام، بشرط أن تكونوا مؤمنين لأن جعل البقية خيرا لهم إنما هو متحقق في حال الإيمان، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال، ثم إن الإيمان حافز باعث على الطاعة، فإنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب، عملوا على تحصيل ما يؤدي إلى الثواب والنجاة من العقاب، وذلك خير من مسعاهم في أخذ الزائد القليل من الحرام في أثناء الكيل والوزن.
وما أنا عليكم برقيب على أعمالكم، ولا مستطيع منعكم من القبائح، وإنما أنا ناصح أمين، فافعلوا الحلال والواجب بدافع من أنفسكم لله عز وجل، ولا تفعلوه ليراكم الناس، ما علي إلا البلاغ، وعلى الله حساب الأقوال والأفعال.(12/127)
ثم ذكر الله تعالى ردّ أهل مدين على شعيب عليه السّلام في الأمر بعبادة الله وحده، وترك البخس أو عدم نقص الكيل والميزان.
أما الردّ على الأول وهو العبادة لله فقالوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ... أي هل صلاتك (أي الأعمال المخصوصة) - وكان شعيب كثير الصلاة- تأمرك بترك عبادة الآباء والأجداد وهي عبادة الأوثان والأصنام؟! قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، وأعلنوا التمسك بطريقة التقليد في التدين والإيمان، كما يقال اليوم لعالم الدين المصلح: هل علمك أو مشيختك دافع لك إلى ترك ما نحن عليه؟! وأما الرّد على الأمر الثاني وهو ترك البخس فقالوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا.. أي وهل صلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نريد فعله؟ والمقصود بيان أنهم أحرار في أموالهم يتصرفون فيها بما هو مصلحة لهم، ولا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون منها شيئا في سبيل الخير، وإنما يزيدونها بمختلف الوسائل، فما أمرتنا به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل، وأنه خير من الحرام الكثير، مناف لسياسة تنمية المال وتكثيره، وما ذلك إلا حجر على حريتنا الاقتصادية.
والخلاصة: أن ردهم على شعيب في الأمرين تضمن إمعانهم في التمسك بالتقليد، وفي الطمع المادي الذي لا يبالي فيه صاحبه بالحلال والحرام.
ثم أكدوا سخريتهم وهزءهم بقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أي إنك لصاحب الحلم والأناة والعقل والتروي، والرشد والاستقامة! وأرادوا وصفه بضد ذلك من الجهالة والطيش وسفاهة الرأي، وغواية الفعل، فعكسوا ليتهكموا به.
ثم حسم أطماع الكفر فقال: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.. أي أخبروني يا قوم إن كنت على بصيرة من ربي فيما أدعو إليه، ويقين تام وحجة واضحة فيما آمركم به(12/128)
وأنهاكم عنه، ورزقني من لدنه رزقا طيبا من النبوة والحكمة، أو رزقا حسنا حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف، أخبروني إن كنت على يقين من ربي، وكنت نبيا على الحقيقة، أيصح لي ألا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك، فجواب الكلام محذوف.
وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي لا أنهاكم عن الشيء، وأخالف أنا في السر، فأفعله خفية عنكم، والمراد لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، بل أنا متمسك به.
ثم أكد مهمته: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ... أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وأمري بالمعروف، ونهي عن المنكر، مدة استطاعتي للإصلاح، لا آلو جهدا في ذلك. وفيه إيماء إلى إثبات عقله ورشده، وإبطال تهكمكم.
وما توفيقي في إصابة الحق فيما أريده إلا بالله وهدايته وعونه، عليه توكلت في جميع أموري، ومنها تبليغ رسالتي، وإليه أنيب أي أرجع. وهذا يعني ثباته على المبدأ والدعوة، دون أن يخشى منهم سوءا.
ويا قوم، لا يحملنكم خلافي معكم، ولا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم ما أصاب غيركم وأمثالكم من العذاب والنقمة، مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، أو قوم هود من الريح الصرصر العاتية، أو قوم صالح من الرجفة.
وما حدث بقوم لوط من العذاب ليس ببعيد زمانا ولا مكانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم، فاعتبروا بهم.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.. أي اطلبوا المغفرة من ربكم على سالف الذنوب من(12/129)
عبادة الأوثان ونجس المكيال والميزان، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، وارجعوا إلى طاعته، فإن ربي رحيم بمن تاب إليه وأناب، كثير الود والمحبة، يحب من تاب، فهو عظيم الرحمة للتائبين، كثير المودة فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه من الإحسان. وهذا دليل على أن الاستغفار والتوبة عن الذنوب يسقطها، ويكون سببا لخيري الدنيا والآخرة.
وبعد أن فشلت المحاورات والمجادلات، لجأ القوم إلى الإهانة والتهديد وإلصاق التهم الباطلة بشعيب عليه السّلام، وعدم المبالاة به.
قالُوا: يا شُعَيْبُ، ما نَفْقَهُ.. قال أهل مدين: يا شعيب ما نفهم كثيرا من قولك، مع أنه كما قال الثوري: كان يقال له خطيب الأنبياء، وأنت واحد ضعيف، لا حول لك ولا قوة ولا قدرة على شيء من النفع والضر، ولولا جماعتك وعشيرتك الأقربون ومعزتهم علينا، لرجمناك بالحجارة، وليس عندنا لك معزة ولا تكريم، ولا حرمة ولا منزلة في الصدور. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، ورهط الرجل: عشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم. والمعنى أنك لما لم تكن علينا عزيزا، سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.
وكل ما ذكروه لا يبطل ما قرره شعيب عليه السّلام من الدلائل، بل هو مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة.
فوبخهم شعيب على سفاهتهم: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَهْطِي ... أي يا قومي وأهلي، أرهطي أعز وأكرم عليكم من الله، أتتركوني لأجل قومي؟
ولا تتركوني لأجل الله، والله تعالى أولى أن يتبع أمره، وقد اتخذتم جانب الله وراءكم ظهريا، أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه، ولا تخافون بأسه وعقابه إن أقدمتم على الإساءة لنبيه ورسوله. إن ربي محيط علمه بعملكم، عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيكم. وذلك تحذير وتهديد ووعيد.(12/130)
ولما يئس شعيب عليه السّلام من استجابتهم لدعوته أعلن موقف الحسم والفصل فيما بينه وبينهم: وَيا قَوْمِ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ.. أي يا قوم اعملوا على طريقتكم، واعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم على إلحاق الشر بي، فإني أيضا عامل على طريقتي بما آتاني الله من القدرة، أي أنتم باقون على الكفر والضلال، وأنا ثابت على الدعوة والثقة بقدرة الله تعالى، وهذا تهديد شديد.
سوف تعلمون من ينزل به عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة، ومن هو كاذب في قوله مني ومنكم، وانتظروا ما أقول لكم من إيقاع العذاب، إني معكم رقيب منتظر. وهذا تصريح منه بالوعيد، بعد الترك على ما هم عليه.
ثم جاء ما يؤيد صدقه: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ... أي ولما جاء أمرنا بعذابهم، ونفذ قضاؤنا فيهم، نجينا رسولنا شعيبا والمؤمنين معه، برحمة خاصة بهم، وأخذت الظالمين بظلمهم الصيحة: وهي صوت من السماء شديد مهلك مرجف، وفي سورة الأعراف: هي الرجفة، وفي الشعراء: عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، فأصبحوا قعودا ميتين لا يتحركون، وقد اختلف التعبير في كل سورة بما يناسب الإساءة، ففي الأعراف هددوا بإخراج شعيب ومن معه من قريتهم، فذكر هناك الرجفة، وهنا أساؤوا الأدب في مقالتهم مع نبيهم فذكر الصيحة التي أخمدتهم، وفي الشعراء طلبوا إسقاط كسف من السماء عليهم، فأخذهم عذاب يوم الظلة.
كأنهم لم يقيموا في بلادهم طويلا في رغد عيش، ولم يعيشوا فيها قبل ذلك، ألا بعدا من رحمة الله، وهلاكا لهم، كما بعدت وهلكت من قبلهم ثمود، وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار، وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا عربا مثلهم.
فكان عذابهم واحدا وهو الصاعقة ذات الصوت الشديد، التي زلزلت الأرض(12/131)
من شدتها ورجفت، فخروا ميتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة شعيب مع قومه على ما يأتي، ومجملة: إيقاع العذاب بعد الإعراض عن رسالة السماء:
1- اشتملت دعوة شعيب على جانبين: إصلاح العقيدة وإصلاح الحياة الاجتماعية، ففي الجانب الأول: دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي الجانب الثاني: أمرهم بإيفاء الكيل والميزان وترك البخس والنقص أو التطفيف، فإنهم كانوا مع كفرهم أهل بخس ونقص في حقوق الناس كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام، أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا عليه بما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء بالحق التام الكامل نهيا عن التطفيف، علما بأنهم كانوا بخير وفي سعة من الرزق وكثرة النعم، لكن الطمع والشره المادي أرادهم وجعل سمعتهم سيئة بين الناس.
2- كان عذاب أهل مدين عذاب استئصال في الدنيا، ودمار عام لقوله تعالى: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وصف اليوم بالإحاطة، أي الإحاطة بهم، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم، فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد أي شديد حره. وقيل: هو عذاب النار في الآخرة. جاء
في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء» .(12/132)
3- اكتفى شعيب بمرة واحدة بالدعوة إلى توحيد الإله، ولكنه كرر وأكد النهي عن بخس الحقوق بألوان مختلفة، فأمر بالإيفاء (أي الإتمام) بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا، ووصف الإيفاء بالقسط أي بالعدل والحق، لكي يصل كل ذي حق إلى حقه، وأراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصّنجات، ثم عمم بعد التخصيص عن بخس الناس أشياءهم، أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا، ثم نهى عن الإفساد في مصالح الدنيا والآخرة: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض.
وذكر أن البخس بطر وترف وطمع، فلم يكونوا بحاجة، وإنما كانوا بخير:
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي سعة في الرزق والمعيشة، وقال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم. وشرط للاستقامة وجود الإيمان:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة كون بقية الله خيرا إن كانوا مؤمنين.
وجعل رقابة الله في السر والعلن على كل تاجر هي الأساس والباعث على الخشية والطاعة وأداء الحقوق: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، فلا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق.
4- كانت ردود القوم المحجوجين بالأدلة والبينات في غاية الجهالة والسفاهة، فأعلنوا تمسكهم بالتقليد في عبادة الأوثان والأصنام، وادعاء حريتهم التجارية التي لا تقوم على العدل والحق، وسخروا من صلاته وعبادته التي كان يكثر منها، ونالوا من صفاته، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية:
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ؟ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ! أي أنت ذو سفاهة(12/133)
وطيش، وغواية وضلال، لا لشيء إلا لأن شعيبا عليه السّلام أمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم!! وإنما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الناس بصفة الحلم والرشد.
5- كان من قبائحهم قرض الدراهم لتنقيص قدرها، وكسرها لإفساد وصفها، قال المفسرون: كان مما ينهاهم عنه، وعذّبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدّا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن.
وتلك معاص ومفاسد تستحق العقاب، وتوجب ردّ الشهادة.
6- حسم شعيب عليه السّلام أطماع الكفار، سواء في العقيدة أو في صلاح التعامل، وأعلن ثباته على مبدئه بقوله: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا فعل الصلاح وإزالة الفساد، وهو أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، ولم يتزحزح عن موقفه في توحيد الله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وثقته به وتفويض أمره إليه ورجوعه إليه في جميع النوائب، واعتماده في الرشد والتوفيق عليه: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
وإذا كانت هذه صفاتي فاعلموا أن أمري بالتوحيد وترك إيذاء الناس هو دين حق، وأن مهمتي هي الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه.
ولم يتردد شعيب عليه السّلام لحظة واحدة في إيفاء الحقوق وإتمام الكيل والميزان: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السّلام كثير المال وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي ليس(12/134)
أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. وهكذا فإن فعل النبي مطابق لقوله لأنه الأسوة الحسنة، ولا يعقل غير ذلك.
والخلاصة: إنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية والجسمانية، وهي المال والرزق الحسن، فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه.
7- دلّ قوله: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته، وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى، والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله فإن شعيبا أراد القول لهم: فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أقرر دين الله، وأوضح شرائعه.
8- التهديد والإنذار بالعذاب قبل وقوعه رحمة بالناس ولطف بهم، لعلهم يرعوون ويرجعون من قريب إلى الله تعالى وإلى طاعته، وإلى توحيده، والتخلص من الشرك والوثنية. وقد أنذر شعيب عليه السّلام قومه أهل مدين بقوله: لا يكسبنكم معاداتي أن يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا، مثل ما حصل لقوم نوح عليه السّلام من الغرق، ولقوم هود من الريح العقيم، ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف، وكانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط.
9- الاستغفار والتوبة من الذنوب الماضية والتصميم على عدم العود إلى مثلها في المستقبل طريق النجاة والأمن من العذاب لأن الله عظيم الرحمة كثير الودّ والمحبة لعباده لينقذهم من العقاب.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء» .
10- بعد أن يئس الكفار أهل مدين من تحقيق مآربهم عن طريق التهكم(12/135)
والاستهزاء والسخرية من شعيب عليه السّلام، لجؤوا إلى التهديد والوعيد مظهرين أنه ضعيف لا سند له، وأنهم أعزة أقوياء، ولولا مجاملة عشيرته لقتلوه رجما بالحجارة، وما هو بعزيز عليهم ولا كريم، ولا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
وهذا شأن الكفار عادة، يعتمدون على القوة المادية، ويهملون النظر إلى تدبير الله وقوته وقهره وقدرته، لذا أراد شعيب أن يلفت نظرهم إلى ضرورة رعاية جانب الله تعالى، وليس مجرد رعاية جانب قومه، فقال: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله تعالى أولى أن يتبع أمره.
11- قابلهم شعيب عليه السّلام بتهديد ووعيد أشد وآكد وأوقع وأصدق، وقال لهم: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ سوف تعلمون الصادق من الكاذب، وسوف ترون من يأتيه عذاب يخزيه ويهلكه. وانتظروا العذاب والسخط، فإني منتظر النصر والرحمة.
12- كان عذاب أهل مدين كثمود بالصيحة، قيل: صاح بهم جبريل صيحة، فخرجت أرواحهم من أجسادهم، وصاروا ميتين، كأن لم يعيشوا في دارهم.
13- ينضم إلى العذاب الدعاء على الكفار وإعلان الطرد من رحمة الله تعالى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أي هلاكا لهم وبعدا عن رحمة الله، كما هلكت قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى.
14- من فضل الله ورحمته أنه نجى شعيبا ومن معه من المؤمنين، وهو تنبيه على أن كل ما يصل إلى العبد، لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، وأن الخلاص والنجاة والإيمان والطاعة والأعمال الصالحة لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى.(12/136)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وملئه
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
البلاغة:
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ استعارة مكنية، شبه النار بماء يورد، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الورود، وشبه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إلى الماء، للري من العطش.
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ تأكيد لما سبق لأن الورد يكون عادة لتسكين العطش، وفي النار إلهاب للعطش.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا أي بالمعجزات، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية 101] وسورة النمل [الآية 12] والمفصّلة في سورة الأعراف [الآية 133] . وَسُلْطانٍ مُبِينٍ السلطان: الدلائل والحجج القوية الظاهرة، والمبين: الظاهر الجلي. والفرق بين هذه الكلمات الثلاث: أن الآيات: اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن، وبين الدلائل التي تفيد اليقين. وأما السلطان: فهو اسم لما يفيد القطع واليقين، لكنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس، وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس. والسلطان المبين: هو الدليل القاطع الذي تأكد بالحس. ولما كانت معجزات موسى عليه السّلام هكذا، وصفها الله بأنها سلطان مبين.
وَمَلَائِهِ الملأ: أشراف القوم وزعماؤهم. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما شأنه وتصرفه بمرشد أو سديد أو بذي رشد وهدى، وإنما هو غيّ محض وضلال صريح.(12/137)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار، كما كان يتقدمهم في الدنيا إلى الضلال ويتبعونه في الحالين، يقال: قدم بمعنى تقدم. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أدخلهم فيها، ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، ونزل النار لهم منزلة الماء، فسمي إتيانها موردا. وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ هي، أي بئس المورد الذي وردوه، فإن المورد يراد عادة لتبريد الأكباد وتسكين العطش، والنار بالضد من ذلك. والآية كالدليل على قوله: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإن من هذه عاقبته لم يكن في أمره رشيدا.
وَأُتْبِعُوا ألحقوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً طردا من رحمة الله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون في الدنيا والآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان، أو العطاء المعطى.
والمخصوص بالذم محذوف، أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.
المناسبة:
هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وهي آخر قصة في هذه السورة، وقد ذكرت قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وملئه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، فذكرت في سورة الأعراف [104- 105] وفي سورة الشعراء [17- 28] وفي سورة طه [48- 55] وفي سورة القصص [38] وفي سورة غافر [36- 37] .
والعبرة منها واضحة وهي نجاة موسى ومن آمن معه، وهلاك فرعون وأشراف قومه، واللعنة عليهم في الدنيا والآخرة، مثل كفار أولئك الأقوام الظالمين الذين أعرضوا عن دعوة أنبيائهم، كما تقدم، ولكن عذاب فرعون وملئه وهو الغرق في البحر لم يعمّ جميع قومه.
التفسير والبيان:
تالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع ودلالاتنا الباهرة الدالة على توحيد الله إلى فرعون ملك القبط وملئه، وفيها السلطان الواضح الجلي أي الدلالة القاطعة المؤيدة بالحس المشاهد، على صدق نبوته.(12/138)
وقيل: المراد من الآيات: التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام.
وقيل: المراد بها الآيات التسع البينات وهي المعجزات، وهي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الثمرات والأنفس. ومنهم من أبدل بنقص الثمرات والأنفس إضلال الجبل، وفلق البحر.
وفي هذه الآيات سلطان مبين لموسى على صدق نبوته.
فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي تبع الملأ منهج فرعون ومسلكه وطريقته في الغيّ والضلال، من الكفر بموسى، وظلم بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم. وإنما خصّ الملأ بالذكر لأنهم القادة والرؤساء المستشارون والمنفذون وغيرهم تبع لهم.
وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما شأنه وتصرفه ومنهجه بصالح معقول، فليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال، وكفر وعناد، وظلم وفساد وجزاؤهم في الآخرة: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي يتقدم فرعون كبير قومه وقائدهم إلى نار جهنم يوم القيامة، فيدخلهم فيها لأنه كما اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدم يوم القيامة إلى النار، فأوردهم إياها، وله فيها الحظ الأوفر من العذاب الأكبر، كما قال تعالى:
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل 73/ 16] وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] وأخبر تعالى عن الكفرة أنهم يقولون في النار: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 68]
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار» .
وورد في القرآن أن آل فرعون يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء(12/139)
كل يوم، كما قال تعالى: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر 40/ 45- 46] .
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي وبئس المورد الذي يردونه النار وبئس المدخل المدخول فيه وهو النار لأن وارد الماء يرده للتبريد وإطفاء حرّ الظمأ، ووارد النار يزداد احتراقا بلهبها ويتلظى بسعيرها. والورد قد يكون بمعنى الورود مصدرا، وقد يكون بمعنى الوارد، والمورود: الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي ألحق الله بهم زيادة على عذاب النار لعنة عظيمة في الدنيا من الأمم الآتية بعدهم، وكذلك يوم القيامة يلعنهم أهل الموقف جميعا، وهم من المقبوحين، فعليهم لعنتان في الدنيا والآخرة فوق عذابهم، كما قال تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص 28/ 42] قال مجاهد: زيدوا لعنة يوم القيامة، فتلك لعنتان.
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان والعطاء المعطى هذه اللعنة اللاحقة بهم في الدنيا والآخرة، فقد سميت اللعنات رفدا تهكما بهم، والرفد: هو العطية. قال ابن عباس عن هذه الجملة: هو اللعنة بعد اللعنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات المذكورة من قصة موسى مع فرعون وقومه إلى العظات التالية:
1- تتابعت آيات الله من التوراة وما فيها من شرائع وأحكام، ومن المعجزات الدالة على وحدانية الله تعالى، إلى فرعون وقومه، فما أفادتهم الآيات، وعصوها، واتبعوا منهج فرعون ومسلكه في الغي والضلال.(12/140)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
2- ليس مسلك فرعون وغيره من الفراعنة المتألهين بسديد يؤدي إلى الصواب، ولا بمرشد إلى خير، وإنما هو غيّ وضلال، وكفر وفساد.
3- كل قائد إلى الضلال في الدنيا قائد إلى النار يوم القيامة، وله عذاب مضاعف.
4- لفرعون وآله فوق عذاب جهنم لعنتان: في الدنيا والآخرة، وهم معذبون في قبورهم عذابا شديدا، ويعرضون فيها على النار صباحا ومساء.
5- بئست عاقبة الكافرين، وبئس العطاء المعطى لهم وهو نار جهنم، الموصوفة في قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج 22/ 19- 22] .
العبرة من قصص الأمم الظالمة في الدنيا
[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 102]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
الإعراب:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ مبتدأ وخبر، أو على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، وذلك: يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر، أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك.
مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ جملة مستأنفة لا محل لها، أي بعضها باق وبعضها عافي الأثر كالزرع القائم على ساقه والذي حصد.(12/141)
وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى.
البلاغة:
مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ استعارة مكنية، شبه الباقي من آثار القرى بعد تدميرها بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما دمّر مع أهله بالزرع المحصود.
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بينهما طباق السلب.
إِذا أَخَذَ الْقُرى مجاز مرسل، أطلق المحل وأراد الحالّ وهو أهل القرى.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ النبأ المذكور سابقا. مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك يا محمد. مِنْها أي من تلك القرى. قائِمٌ باق كالزرع القائم، وهلك أهله دونه.
وَحَصِيدٌ أي ومن القرى زال أثره وهلك بأهله، فلا أثر له كالزرع المحصود بالمناجل.
وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكهم بغير ذنب. وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك الذي عرضوها به للعذاب. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم، بل ضرتهم. آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ التي يعبدون. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ شَيْءٍ من صلة زائدة. لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ حين جاءهم عذابه ونقمته. وَما زادُوهُمْ بعبادتهم لها. غَيْرَ تَتْبِيبٍ غير هلاك أو تخسير.
وَكَذلِكَ ومثل ذلك الأخذ. إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ بالذنوب، فلا يغني عنهم من أخذهم شي. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ووجيع غير مرجوّ الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
المناسبة:
المناسبة ظاهرة بين هذه الآيات وما قبلها من الآيات، فبعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء مع الأمم السابقة (وهي سبع قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليه السّلام) قال منبها إلى ما فيها من العظة والعبرة: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ.
فيتعلم منها الإنسان أسلوب الجدال ومقارعة الحجة بالحجة، وتأييد الأدلة(12/142)
العقلية بالقصص الواقعية، ويتهيأ السامع والقارئ للاستفادة من عبرها وعظاتها، فيلين قلبه، وترق نفسه، وتخشع جوارحه لذكر الله ويرهب عذابه للعصاة، ويعلم أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل فيها، والثواب الجزيل في الآخرة، وأن الكافر يخرج من الدنيا مع اللعن فيها، والعقاب في الآخرة.
وهي دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، لإخباره عن تلك القصص من غير مطالعة كتب، ولا مدارسة مع معلم، ولا تلمذة لأحد، وهي معجزة عظيمة تدل على النبوة، كما قال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.. [يوسف 12/ 111] «1» .
التفسير والبيان:
لما أخبر الله تعالى عن الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، وكيف أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي ذلك النبأ المذكور بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك يا محمد، لتخبر به الناس، ويتلوه المؤمنون إلى يوم القيامة تبليغا عنك. وقوله ذلِكَ إشارة إلى الغائب، والمراد به هنا الإشارة إلى القصص المتقدمة، وهي حاضرة، كما في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة 2/ 2] .
من تلك القرى ما له أثر باق كالزرع القائم على ساقه، كقوم صالح، ومنها ما عفا أثره ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود، مثل قرى قوم لوط.
وما ظلمناهم بإهلاكهم من غير ذنب، ولكن ظلموا أنفسهم بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم، وشركهم وإفسادهم في الأرض، وثقتهم أن آلهتهم المزعومة تدفع عنهم
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 55 [.....](12/143)
المخاوف والمخاطر والمحاذير. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ.. فما نفعتهم شيئا ولا دفعت عنهم بأس الله، بل ضرتهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها من دون الله أو غيره، فما نفعوهم ولا أنقذوهم بإهلاكهم. وفي قوله تعالى: الَّتِي يَدْعُونَ حذف، أي التي كانوا يدعون أي يعبدون. وقوله: وَما زادُوهُمْ فيه إضمار ومضاف محذوف أي ما زادتهم عبادة الأصنام.
وما زادوهم غير تخسير وهلاك لأن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة، فخسروا الدنيا والآخرة.
ومثل ذلك الأخذ بالعذاب، وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا، كذلك نفعل بأشباههم، فنأخذ القرى ونهلكها وهي في حالة الظلم الشديد، إن أخذه وجيع شديد لا يرجى منه الخلاص. وهو إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم. وفي قوله: وَهِيَ ظالِمَةٌ مضاف محذوف أي وأهلها ظالمون، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] . ومعنى: إن أخذه أليم شديد أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة.
ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية» .
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- فائدة القصص القرآني العظة والاعتبار، فإن كل من يشاهد آثار تلك القرى المهلكة، أو يعلم بما حدث لها من غير وجود أثر ظاهر، يأخذه الخوف والوجل والرهبة، ويخشى أن يتعرض لما تعرض له الأقدمون من عذاب مخيف.(12/144)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
2- إن الله تعالى كما أخذ الأمم المتقدمة كقوم نوح، وعاد وثمود، يأخذ جميع الظالمين على النحو ذاته، كما أفاده قوله: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ... ثم زاده تأكيدا وتقوية بقوله: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فوصف العذاب بالإيلام والشدة، والألم وشدته سبب المنغصة في الدنيا والآخرة. والآية تفيد أن كل من شارك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركهم في الأخذ الأليم 3- لم يكن عقاب تلك الأمم الظالمة إلا بما بدر منهم من ظلم وهو الكفر والمعاصي، وكان عقابهم عدلا وحكمة.
4- كل من أقدم على ظلم، يجب عليه أن يتدارك ظلمه بالتوبة والإنابة، لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد.
5- لم تنفع المشركين والكافرين آلهتهم المزعومة بل أضرت بهم، وما زادتهم عبادة الأصنام إلا خسارة ثواب الآخرة.
العبرة في قصص القرآن بجزاء الآخرة
[سورة هود (11) : الآيات 103 الى 109]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)(12/145)
الإعراب:
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مَجْمُوعٌ خبر المبتدأ أو نعت ليوم، وقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مبتدأ وخبر، والنَّاسُ مرفوع لمجموع، أي يجمع له الناس، لأن اسم المفعول بمنزلة اسم الفاعل في العمل لشبه الفعل.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ابتداء وخبر.
يَوْمَ يَأْتِ فيه ضمير يعود إلى قوله: يَوْمٌ مَشْهُودٌ. ولا تَكَلَّمُ إما صفة ليوم، أي يوم يأتي لا تكلّم نفس فيه، كقوله تعالى: يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة 2/ 48] أي فيه، وإما حال من ضمير يَأْتِ أي يوم يأتي اليوم المشهود غير متكلم فيه نفس، وتكلم: حذف منه إحدى التاءين. ويوم: منصوب بما دل عليه قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي شقي حينئذ من شقي، وسعد من سعد.
ما دامَتِ السَّماواتُ.. ما ظرفية زمانية مصدرية في موضع نصب، تقديره: مدة دوام السموات والأرض.
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ما في موضع نصب لأنه استثناء منقطع.
عَطاءً.. منصوب على المصدر المؤكد، أي أعطوا عطاء، أو منصوب على الحال من الْجَنَّةِ.
غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب.
البلاغة:
شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ بينهما طباق.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فيه لف ونشر مرتب.
المفردات اللغوية:
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من القصص أو ما نزل بالأمم الهالكة. لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي يعتبر بتلك القصص من خاف العذاب الأخروي، لعلمه بأن ما نزل بتلك الأقوام أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. ذلِكَ يَوْمٌ أي يوم القيامة، دل عليه عذاب الآخرة. يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس، واستعمل صيغة مَجْمُوعٌ للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه من شأنه لا محالة، وأن الناس لا ينفكون عنه، فهو أبلغ من قوله:
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن 64/ 9] ومعنى الجمع له: الجمع لما فيه من الحساب والجزاء.(12/146)
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده جميع الخلائق، والمعنى الأدق: مشهود فيه أهل السموات والأرضين، ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه، لبطل المقصود من تعظيم اليوم وتمييزه، فإن سائر الأيام كذلك.
وَما نُؤَخِّرُهُ أي اليوم. إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لوقت معلوم عند الله، فهو على حذف مضاف، أي إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية. يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم والجزاء. إِلَّا بِإِذْنِهِ بإذن الله تعالى. فَمِنْهُمْ أي من الخلق أهل الموقف. شَقِيٌّ وجبت له النار بمقتضى الوعيد، فالشقي: من استحق النار لإساءته. وَسَعِيدٌ وجبت له الجنة، بموجب الوعد، والسعيد: من استحق الجنة لعمله مع فضل الله ورحمته فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا في علم الله تعالى.
زَفِيرٌ صوت شديد. وَشَهِيقٌ صوت ضعيف، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم.
وأصل الزفير: إخراج النّفس، الشهيق: إدخال النفس مع السرعة والجهد.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة دوامهما في الدنيا، وليس المراد ارتباط دوامهم في النار بدوام السموات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم، وانقطاع دوامهما.
والمقصود التعبير عن التأبيد بما كانت العرب يعبرون به على سبيل التمثيل. والمفهوم لا يقاوم المنطوق. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ غير ما شاء الله من الزيادة على مدتها، مما لا منتهى له، والمعنى:
خالدين فيها أبدا. أو أن هذا استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فسّاق الموحدين يخرجون منها.
والخلاصة: إن خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار ثابت بنصوص القرآن العديدة، وأما الاستثناء بالمشيئة هنا، فيراد به الدلالة على الثبوت والاستمرار، وعبر بذلك لبيان أن هذه القضايا بمشيئة الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي من غير اعتراض أحد.
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع.
فَلا تَكُ يا محمد. فِي مِرْيَةٍ شك. مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من الأصنام، إنا نعذبهم، كما عذبنا من قبلهم، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم. كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ أي كعبادتهم، والاستثناء بقوله:
إِلَّا كَما يَعْبُدُ معناه تعليل النهي عن المرية، أي هم وآباؤهم سواء في الشرك. نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب. غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي تاما.
المناسبة:
الآيات متصلة بما قبلها من أجل بيان العبرة من قصص الأمم الظالمة، فبعد أن ذكر الله تعالى العبرة من إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا، ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة لكل من الأشقياء والسعداء، وهي إقامة الدليل على صدق الأنبياء وصدق(12/147)
وعد الله في الآخرة، والترهيب من عصيان الله والكفر به، لئلا يكون الإنسان من الأشقياء الذين يصلون النار، والترغيب بالإيمان وطاعة الله ليصير المؤمن الطائع مع السعداء الذين يتمتعون بالجنة.
التفسير والبيان:
إن في ذلك القصص المتقدم المتضمن إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين لدليلا واضحا وحجة قوية على صدق وعد الله في الآخرة، لمن يؤمن بها ويخاف عذابها، فيتقي الكفر والظلم والعصيان في الدنيا لأنه يعلم أن ما أخبر به الأنبياء من البعث والجزاء صدق لا شك فيه، وأن من عذب الظالمين في الدنيا قادر أن يعذبهم في الآخرة، وأن ما أصاب المجرمين في الدنيا ما هو إلا أنموذج لعذاب الآخرة.
قال الزمخشري: قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم وقوله: لَآيَةً أي لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدته، اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، ونحوه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات 79/ 26] «1» .
ذلك اليوم يوم عذاب الآخرة يجمع فيه الناس جميعا أولهم عن آخرهم، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يجازوا عليها، كقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 18/ 47] وذلك يوم مشهود، أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها.
__________
(1) الكشاف: 2/ 115(12/148)
والتصرف في الخلائق، سواء في الدنيا بإهلاك تلك الأمم وأمثالها، أو في الآخرة، إنما هو بإرادة الله واختياره لتربية الأمم، لا بالطبيعة كما يزعم الماديون الذين قالوا: إن الطوفان أو الغرق، والصاعقة، وخسف الأرض أو الزلازل أمور طبيعية غير إلهية. وأبسط رد عليهم أن تلك العقوبات حدثت بعد إنذار الرسل لأقوامهم، وحددوا لهم وقتا معلوما، كما قال صالح عليه السّلام: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] وقال لوط: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] .
ثم أخبر الله تعالى عن تأخير يوم القيامة وعذابه إلى أجل معين: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهي عمر الدنيا، لإعطاء الفرصة الكافية للناس لإصلاح أعمالهم، وتصحيح عقيدتهم، كقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ.. أي يوم يأتي يوم القيامة، لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى، فهو صاحب الأمر والنهي، ولا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه، كقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] وقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه 20/ 108] .
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ.. أي فمن أهل الجمع من الناس في ذلك اليوم شقي معذّب لكفره وعصيانه، ومنهم سعيد منعّم في الجنان لإيمانه واستقامته، كما أخبر تعالى:
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى 42/ 7] فمن أريد له الشر فعمل(12/149)
الشر فهو من أهل الشقاوة، ومن أريد له الخير فعمل الخير، فهو من أهل السعادة، وكل ميسر لما خلق له.
روى الترمذي والحافظ أبو يعلى في مسنده عن عمر قال: لما نزلت:
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، علام نعمل؟
على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: «على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسّر لما خلق له، وقرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل 92/ 5- 10] .
ثم بيّن الله تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال عن الفريق الأول:
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا.. أي فأما الأشقياء فهم في جهنم مستقرهم ومثواهم، بسبب اعتقادهم الفاسد وعملهم السيء، لهم من الهم والكرب وضيق الصدر زفير وشهيق، تنفسهم زفير، وإخراجهم النّفس، وشهيق، لما هم فيه من العذاب، كما ذكر ابن كثير، مع أن الزفير في العادة هو إخراج النّفس، والشهيق: ردّه.
خالِدِينَ فِيها.. أي ماكثين فيها على الدوام، مدة بقاء السموات والأرض، والمراد التأبيد ونفي الانقطاع، على سبيل التمثيل وقول العرب:
أفعل كذا أو لا أفعله ما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وما تغنّت حمامة. ويجوز أن يكون المراد سماء الآخرة وأرضها، وهي دائمة مخلوقة للأبد، والدليل على أن للآخرة سموات (ما هو فوق الخلائق) وأرض (ما هم مستقرون عليه) وقوله:
تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم 14/ 48] وقوله:
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر 39/ 74] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلّهم ويظلهم، وكل ما أظلك فهو سماء. قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء.(12/150)
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يراد بهذا الاستثناء الدلالة على الثبوت والاستمرار لأنه ثبت خلود أهل الجنة والنار فيهما إلى الأبد من غير استثناء، والمقصود بذلك بيان أن الخلود بمشيئة الله تعالى، ولا يخرج شيء في الدنيا والآخرة عن المشيئة الإلهية. وهو كقوله تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام 6/ 128] وقوله: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعراف 7/ 188] وقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى 87/ 6- 7] والمراد بذلك كله تقييد الأحكام بمشيئة الله تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها.
وهذا هو الظاهر الراجح. قال ابن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، وكذلك يقولون: هو باق ما اختلف الليل والنهار.
وللعلماء المفسرين أحد عشر قولا ذكرها القرطبي «1» ، قال الزمخشري: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، بما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله عليهم وإهانته إياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها، وأجلّ موقعا منهم وهو رضوان الله، ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة، مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «2» .
أي أنهم خالدون في كل من الجنة والنار إلا ما شاء ربك من تغيير هذا
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 99 وما بعدها، تفسير الرازي: 18/ 65 وما بعدها.
(2) الكشاف: 2/ 116(12/151)
النظام المعدّ، أو الإضافة أو النقص منه، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه، إن شاء أبقاه وإن شاء منعه.
وقال أبو حيان: والظاهر أن قوله إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ استثناء من الزمان الدال عليه قوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ والمعنى إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى، فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله بين الخلق يوم القيامة، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة.
وأما إن كان الاستثناء من الخلود، فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمان المستثنى هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار، ويدخلون الجنة، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها، وصاروا في الجنة. وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار إذ ليس منهم من يدخل الجنة، ثم لا يخلد فيها «1» .
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي يفعل ما يشاء، على وفق علمه ومقتضى حكمته، فهو يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له.
ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريق الثاني وهم السعداء: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا أي وأما أهل السعادة وهم أتباع الرسل، فمأواهم الجنة، خالدين فيها، أي ماكثين فيها أبدا، مدة دوام السماء والأرض، بمشيئة الله تعالى، عطاء غير منقطع ولا ممنوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، كقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق 84/ 25] .
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 263(12/152)
قال ابن كثير: معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم دائما، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النّفس» .
فكل من جزائي أهل النار وأهل الجنة دائم بمشيئة الله تعالى، فعذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته تعالى، وأنه بعدله وحكمته موافق لأعمالهم، وثواب أهل الجنة في الجنة بحسب مشيئته تعالى أيضا جزاء بما كانوا يعملون، إلا أنه تعالى أورد فرقا في ختام آية كل من الفريقين، فقال عقب بيان حال الأشقياء: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ كما قال: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء 21/ 23] وقال عقب بيان حال السعداء: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لتطييب القلوب، والإشارة إلى أن جزاء المؤمنين هبة منه تعالى وإحسان دائم،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» .
وجاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت»
وفي الصحيح أيضا: «فيقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا، فلا تيأسوا أبدا» .
وبعد ذكر أحوال الأشقياء والسعداء، أنذر الله تعالى أعداء النبي صلى الله عليه وسلّم بتعذيبهم كما عذب الأمم المهلكة المتقدمة، فقال: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي إذا علمت يا محمد كل ما ذكر، وعرفت سنة الله في عباده، فلا تك في شك في عاقبة
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 460(12/153)
ما يعبد المشركون، وفي نهايتهم، فكل ما يعبدون باطل وجهل وضلال، وعذابهم محقق لا شك فيه، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم ووعيد لقومه.
إنهم يعبدون الأوثان والأصنام مثلما يعبد آباؤهم، فهم مثلهم في الجهل، وهم مقلدون لهم، فليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات، وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء، فيعذبهم عذابا لا يعذبه أحدا، أما حسنات أعمالهم في الدنيا فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة تماما غير منقوص، فإذا كانوا محسنين فيها كبّر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء، وفعل الخير، فإن الله تعالى يوفيهم جزاءهم عليها في الدنيا بسعة الرزق والصحة، والسرور، ودفع الضرر، وهو جزاء عاجل زائل، وتمام غير نقص بمقتضى العدل الإلهي، فلا يغترن أحد بما يراه في الكفار أحيانا من نعمة ورخاء في الدنيا، فإن لهم الدنيا فقط، ويحرمون من نعيم الآخرة، وليس لهم فيها إلا العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- الأنبياء على صدق تام فيما أخبروا به من أخبار الماضين، ومغيبات المستقبل، سواء في عالم الدنيا، أو في عالم الآخرة، من وقوع العذاب والعقاب، والحشر والحساب: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي لعبرة وموعظة لمن يخشى عذاب القيامة. وقوله: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يدل على إثبات الحشر، فالجمع: الحشر، أي يحشرون ليوم القيامة. وهو يوم يشهده البر والفاجر، ويشهده أهل السماء.
2- البعث حق، ولكن اقتضت حكمة الله تأخير يومه لأجل معلوم معدود سبق به قضاؤه.(12/154)
3- السلطان المطلق في يوم القيامة لله عز وجل، فلا يتكلم فيه أحد بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه تعالى. قال قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف، في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام. وهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه.
4- الناس يوم القيامة صنفان: شقي وسعيد، الأشقياء في النار، والسعداء في الجنة، وكلاهما خالد مخلد فيما هم فيه، من العذاب أو الثواب، بمشيئة الله وإرادته.
وهذا الحكم من الله لا يتغير ولا يتبدل، فمن حكم الله عليه بحكم، وعلم منه عمله وأمره، امتنع أن يصير بخلافه، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا، وعلمه جهلا، وذلك محال، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا.
5- اتفق الجمهور الأعظم من الأمة على أن عذاب الكافر دائم لأن الخلود المذكور في الآية المرتبط بدوام السموات والأرض يقصد به الدوام، على نحو تعبير العرب الذين يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم: ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل. أو أن المراد سموات الآخرة وأرضها، وفي الآخرة سماء وأرض، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، وَالسَّماواتُ [إبراهيم 14/ 48] وقوله: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر 36/ 74] وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسموات.
6- قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يدل على أن خلود أهل النار فيها وخلود أهل الجنة فيها حاصل بمشيئة الله تعالى، ولا يخرج شيء في الدنيا والآخرة عن المشيئة الإلهية، والمراد بالآية الدلالة على الثبوت والاستمرار. واستدل الرازي(12/155)
بالآية على أنه تعالى يخرج الفساق المؤمنين من أهل الصلاة من النار، وهو المراد بهذا الاستثناء في ترجيحه المشابه له ترجيح أبي حيان، فالآية استثناء من الخلود، وهي في الذين زال حكم الخلود عنهم وهم عصاة المؤمنين.
وأما الاستثناء بالنسبة لأهل السعادة فيراد به في وجه ذكره الرازي رفع المنازل، فقد يرفع الله من الجنة إلى العرش، وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] .
7- نعيم أهل الجنة دائم غير منقطع ولا ممنوع، لقوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة 56/ 33] .
8- إن عبادة المشركين أوثانهم وأصنامهم لا دليل عليها من العقل والمنطق، وإنما صادرة عن محض الجهل وتقليد الآباء والأسلاف، كما قال تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ.. الآية، أي فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع، وأن الله عز وجل ما أمرهم بعبادتها، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم.
9- الله تعالى عادل أيضا في حق الكفار، فيوفيهم ثواب أعمالهم الحسنة، في الدنيا، ولا يكون لهم ثواب عليها في الآخرة لأن قبول الأعمال حينئذ منوط بالإيمان، ولقوله تعالى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية.
ويحتمل أن يكون المراد: ما وعدوا به من خير أو شر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أيضا إرادة أنه يوفيهم نصيبهم من العذاب، وربما كان الكل مرادا.(12/156)
أهداف القصة في القرآن:
قد يتكرر إيراد القصة الواحدة في القرآن بأساليب مختلفة، لمناسبات متعددة، وتأثير نفسي متفاوت، وإيحاء متنوع الهدف. ويظهر لنا من بيان قصص الأمم السابقة في هذه السورة وغيرها من السور المكية غالبا أنها تهدف إلى تحقيق أغراض معينة أهمها ما يأتي:
1- الإخبار عن تواريخ بعض الأمم الماضية، وإلقاء الأضواء على حوادث غيبية مهمة جدا، لم يكن يدري بها النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أحد من قومه ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف 12/ 102] ، فيكون ذلك دليلا على صدق نبوته، وأن هذا القرآن من عند الله، وليس افتراء منه، كما زعم المشركون إذ قالوا كما حكى القرآن الكريم:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «1» اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 4- 6] .
2- إخبار الناس جميعا عن جهود الأنبياء والرسل في سبيل نشر دعوتهم، وصراعهم مع أقوامهم، ومجادلاتهم ومناقشاتهم السديدة المتنوعة لإظهار الحق وإبطال الباطل، ومدى استجابة أقوامهم لهم وإعراضهم عنهم، وتسلية لنبيا صلى الله عليه وسلّم عما كان يؤلمه من صدود الناس عن الإيمان برسالته، كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود 11/ 120] وفيها بيان كونهم الأسوة الحسنة للجهاد والصبر
__________
(1) أساطير الأولين: القصص والأكاذيب القديمة، وكانت العرب لجهلها تزعم ذلك.(12/157)
الشديد على الدعوة: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف 46/ 35] .
3- إظهار كون الأنبياء متفقين في أصول رسالتهم، وتأييد بعضهم بعضا في الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالبعث والجزاء واليوم الآخر، وتبيان أصول الخير المشترك من الفضائل والأخلاق والقيم العليا: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف 12/ 111] .
4- القصة عنصر مشوق، جذاب محبب، مرغوب فيه في التربية والتعليم وإثبات البراهين العقلية بالوقائع الحسية، لا يختلف في التأثير بأسلوبها وحكاية عناصرها الكبار والشباب، والنساء والفتيات، وذلك يؤدي إلى غرس بذور الإيمان، والترغيب في الطاعة، والترهيب من المعصية، مما يجعل القصة مدرسة إلهية للمؤمنين، أساتذتها الأنبياء، وواقعها الأقوام، وتاريخها قديم عريق، وموضوعها إهلاك الظالمين، وغايتها التهذيب والإصلاح والتربية الحسنة.
5- تهدف القصة القرآنية في المرتبة الأولى إلى إثبات توحيد الله وتقرير وجوده، وإثبات النبوة، والبعث، ويتخللها أحكام تشريعية هادفة مفيدة للفرد والجماعة، وللأمة والدولة، ولكل الشعوب والحكام.
6- تبين القصة أن مهمة النبي مجرد تبليغ الوحي، وإعلام الناس بالإنذارات الإلهية بوقوع العذاب قريبا أم بعيدا، دون أن يكون لديه سلطان ما في التأخير والتغيير، والنفع والضر.
7- تظهر القصة أيضا مدى التماثل في طباع البشر، ومدى استعدادهم للإيمان والكفر، والخير والشر.(12/158)
8- في القصة إظهار سلطان الله وقدرته وقوته القاهرة في تعجيل العذاب، الذي هو أنموذج عن عذاب الآخرة.
9- تتضمن القصة التأييد الإلهي للرسل، وإظهار آيات الله ومعجزاته وحججه على الناس، مما يحمل على الإقناع بصحة الدعوة الإلهية، والإيمان بأصحابها الرسل.
10- كان لكل قصة مواعظ وعبر خاصة، تختلف باختلاف أصحابها، فقصة قوم نوح مثلا تمثل الغرور المستحكم والإصرار على الوثنية، وقصة قوم عاد تظهر مدى الاعتداد بالبطش والقوة والتجبر والعتو، وقصة قوم لوط تدل على انحطاط المستوى الإنساني، والشذوذ الجنسي، والفحش الأخلاقي، وقصة قوم شعيب مظهر من مظاهر الانحراف الاجتماعي أو الظلم الاجتماعي وأخذ حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، وقصة قوم فرعون مثل بارز للاعتماد على السلطان والثروة والجاه، تهز عروش وكيان المتفرعنين الجبابرة في كل زمان ومكان، وجميع تلك القصص لمقاومة الوثنية والفوضى في نظام المجتمع، فإن كل أولئك الأمم كانوا وثنيين عبدة أصنام، وكانت جهود الأنبياء المكثفة مركزة على تخليص الناس من عبادة الأوثان والأصنام.
11- القصة في الجملة عظة وعبرة، وعلاج للنفوس، واعتبار بما حل بالعصاة والكفار المتمردين، مما يذهل العقل، ويشيب الرأس، ويقطّع نياط القلب، ويجعل الإنسان في دهشة وخوف ورعب.
12- إن إخبار نبي أمي غير كاتب ولا قارئ، ولا راو ولا حافظ، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، عن تلك القصص، دليل قاطع على نبوته، وسمو رسالته، وحرصه على نشر العلوم والمعارف، وخفق ألوية الهدى والرشاد، ودليل قبل كل شيء على أن هذا القرآن كلام الله ودستوره لبني البشر إلى يوم القيامة.(12/159)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
13- تضمنت القصص صلابة كل نبي على مبدئه ودعوته، وإن تعرض للإساءة وتسفيه الرأي، والتصميم أحيانا على قتله أو إبعاده، والأمثلة كثيرة، منها: ما حكاه القرآن عن نوح عليه السّلام: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها، وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود 11/ 28] وتكرر مثل ذلك على لسان شعيب [هود 11/ 88] وغيره من الأنبياء.
ومنها ما حكاه عن هود: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ. قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 66- 67] .
ومنها ما قال قوم شعيب: قالُوا: يا شُعَيْبُ، ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود 11/ 91] .
14- تكرار القصة الواحدة في سور القرآن أكثر من مرة إنما هو لتحقيق مقاصد وأهداف ومعان كثيرة، لتكون ماثلة أمام الأعين في كل جيل. ولكن تكرارها لم يكن مملا وإنما كان بأساليب متنوعة تجتذب الأنظار، وتنبه العقول، وتطرد السامة والملل من نفس القارئ والسامع.
التذكير بعاقبة الاختلاف في التوراة
[سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)(12/160)
الإعراب:
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا.. إن بالتشديد هو الأصل فيها، وكُلًّا: اسمها المنصوب. ومن قرأ إِنَّ بالتخفيف، أعمل إن المخففة، كما أعملها مشددة، كما يعمل الفعل تاما ومخففا. وأما لَمَّا بالتشديد فهو مشكل، إذ ليست هنا بمعنى الزمان، ولا بمعنى إلا، ولا بمعنى لم، وقيل فيها بأوجه منها: أن الأصل فيها «لمن ما» ثم أدغم النون في الميم، فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الميم المكسورة، وتقديره: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. ومنها: أن تكون «ما» زائدة، وتحذف إحدى الميمات، وتقديره: لخلق ليوفينهم. ومن خفف الميم من «لما» جعل «ما» زائدة، أتى بها ليفصل بين اللام التي في خبر إِنَّ ولام القسم التي في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وقال الزمخشري: وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض من المضاف إليه، يعني وإن كلهم، وإن جميع المختلفين فيه. ولَيُوَفِّيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف واللام في لَمَّا موطئة للقسم، وما: مزيدة للفصل، والمعنى: وإن جميعهم والله ليوفينهم، ولام لَيُوَفِّيَنَّهُمْ للتأكيد.
البلاغة:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر.
المفردات اللغوية:
الْكِتابَ التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق والتكذيب فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف مشركو مكة في القرآن وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فيما اختلفوا فيه، بإنزال ما يستحقه المبطل، ليتميز به عن المحق وَإِنَّهُمْ وإن كفار مكة، أو المكذبين بالتوراة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ لفي شك في القرآن أو في التوراة، موقع في الريبة.
وَإِنَّ كُلًّا إن بالتشديد والتخفيف، أي وإن كل المختلفين، المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين: بدل المضاف إليه لَمَّا ما: زائدة، واللام موطئة لقسم محذوف مقدر، واللام الثانية التي في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ للتأكيد، أو بالعكس، وما: مزيدة للفصل بين اللامين. لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم ببواطن العمل كظواهره.
المناسبة:
بعد أن ذكّر الله تعالى مشركي مكة بمصير الأمم الهالكة لكفرهم، ذكّرهم هنا(12/161)
أيضا بقوم موسى الذين اختلفوا في التوراة، بين مؤمن وكافر، فعاقبهم الله وجازاهم بسوء أعمالهم. وهو يدل على أن سيرة الكفار الفاسدة مع كل الأنبياء واحدة، فكما أنكر كفار مكة التوحيد، أنكروا أيضا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وكذبوا بكتابه، شأنهم في ذلك شأن وعادة الكفار من قبلهم.
التفسير والبيان:
والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده، ظلما وبغيا، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية، فآمن به قوم وكفر به آخرون، مع أن الكتاب نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد، فلا تبال يا محمد باختلاف قومك في القرآن، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة، فلا تجزع لتكذيبهم.
ولولا كلمة من ربك أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى، لقضي بينهم في الدنيا، بإهلاك العصاة، وإنجاء المؤمنين، كما حدث لأمم آخرين.
وإن المكذبين لفي شك موقع في الريبة والقلق، والظاهر عود الضمير في قوله: وَإِنَّهُمْ وقوله: بَيْنَهُمْ على قوم موسى عليه السّلام إذ هم المختلفون في الكتاب، الشاكون في التوراة، كما قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى 42/ 14] والذين أورثوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والتوراة قد فقدت مع إحراق البابليين لهيكل سليمان، وقيل: يعود الضمير على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية: وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي. وهذه الجملة من جملة تسليته صلى الله عليه وسلّم «1» .
__________
(1) البحر المحيط لأبي حيان: 5/ 266(12/162)
وإن كلا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله ليوفينهم الله جزاء أعمالهم، وما وعدوا به من خير أو شر لأنه خبير بتلك الأعمال كلها، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا أيضا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وتهديد ووعيد لقومه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيتين ما يأتي:
1- عادة الناس واحدة مع كل الأنبياء، فمنهم من يقبل دعوتهم، ويؤمن برسالتهم، ومنهم من ينكرها، وكفار قوم موسى وغيرهم أنكروا التوحيد، وأصروا على إنكار النبوات، والتكذيب بالكتب السماوية، وكذلك كفار مكة وغيرهم من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم وغيرهم مثل من تقدمهم فيما ذكر، فيكون جزاؤهم واحدا.
2- الاختلاف في الكتاب الإلهي كالتوراة والقرآن، بأن يؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم الآخر، موجب للعقاب والعذاب في الآخرة.
3- حكم الله عز وجل أن يؤخر عقاب الكافرين كبني إسرائيل لانقسامهم بالنسبة للتوراة بين مكذب بها ومصدّق بها، إلى يوم القيامة، لما علم في حكم التأخير من الصلاح ولولا التأخير، لقضي بينهم أجلهم، بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر، وينزل عذاب الاستئصال عليهم، لكن المتقدم من قضاء الله أخر العذاب عنهم في دنياهم.
4- إن أولئك المختلفين في التوراة من اليهود لفي شك من كتاب موسى، وهم في شك أيضا من القرآن.
5- إن كل الأمم والأفراد، المؤمن منهم والكافر، يرون في الآخرة جزاء أعمالهم، سواء من أقوام الأنبياء السابقين أو من قوم محمد عليهم السلام، فمن(12/163)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
عجلت عقوبته ومن أخّرت، ومن صدّق الرسل ومن كذب، حالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، وهو مأخوذ من الآية لَيُوَفِّيَنَّهُمْ التي جمعت بين الوعد والوعيد، فإن إيفاء جزاء الطاعات وعد عظيم، وإيفاء جزاء المعاصي وعيد عظيم.
وتأكد الوعد والوعيد بقوله تعالى: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لأنه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات، كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي، وعالما بالقدر المناسب لكل عمل من الجزاء، فلا يضيع شيء عنده من الحقوق والجزاءات.
وأكد الله تعالى توفية الجزاءات على المستحقين في الآية المذكورة: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ بسبعة أنواع من المؤكدات: وهي إنّ، وكل، والام الداخلة على خبر إن، وحرف «ما» إذا جعلناه على قول الفراء موصولا، والقسم المضمر، فإن تقدير الكلام: وإن جميعهم والله ليوفينهم، واللام الثانية الداخلة على جواب القسم، والنون المؤكدة في قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ فكل هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد، تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ كما تقدم، وهو من أعظم المؤكدات «1» .
الاستقامة على أوامر الله تعالى
[سورة هود (11) : الآيات 112 الى 113]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 70(12/164)
الإعراب:
وَمَنْ تابَ مَعَكَ مرفوع بالعطف على ضمير فَاسْتَقِمْ وجاز العطف على الضمير المرفوع لأن الفصل بالظرف، وهو قوله تعالى: كَما أُمِرْتَ ينزّل منزلة التأكيد، فجاز العطف. ويجوز أن يكون وَمَنْ تابَ في موضع نصب لأنه مفعول معه.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواو للحال.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَقِمْ على العمل بأمر ربّك والدّعاء إليه، والاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد والأعمال، من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزلت، والقيام بوظائف العبادات من غير إفراط ولا تفريط. والاستقامة في غاية العسر، لذا
قال عليه الصّلاة والسّلام: «شيبتني سورة هود» .
وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي وليستقم من تاب معك، بأن تاب من الشرك والكفر وآمن معك.
وَلا تَطْغَوْا لا تجاوزوا حدود الله، والطغيان: مجاوزة الحدّ بالإفراط أو التفريط. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التّعليل للأمر والنّهي.
وَلا تَرْكَنُوا لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والرّكون: الميل اليسير. إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فتصيبكم النّار كونكم إليهم. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ أَوْلِياءَ مِنْ: زائدة، وأَوْلِياءَ مناصرون يحفظونكم منه، أو أنصار يمنعون العذاب عنكم. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ تمنعون من عذابه، ولا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم. وثُمَّ: لاستبعاد نصره إياهم بعد أن أوعدهم بالعذاب على فعلهم، وأوجبه.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أمر المختلفين في التّوحيد والنبّوة، وأطنب في بيان وعدهم ووعيدهم، أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثلما أمر بها غيره، وهي كلمة شاملة لكلّ ما ينعق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.
التفسير والبيان:
فالزم يا محمد ومن آمن معك طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال(12/165)
والأخلاق، دون إفراط ولا تفريط. فالاستقامة تقتضي توحيد الله في ذاته وصفاته، والإيمان بالغيب من جنّة ونار وبعث وحساب وجزاء، وملائكة وعرش، والتزام ما أمر به القرآن في نطاق العبادات والمعاملات. وهي درجة عليا وعسيرة إلا على من جاهد نفسه، وترفّع عن أهوائه وشهواته، وقد أمر بها موسى وهارون بقوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 89] ، وكان جزاؤها تطمين الملائكة بعدم الخوف والحزن، والتّبشير بالجنّة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت 41/ 30] ،
وأجاب النّبي صلى الله عليه وسلّم سائلا- هو سفيان الثقفي فيما رواه مسلّم- قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم» .
ولا يعني أمر الرّسول بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة، والمقصود بهذا الأمر الدّوام والاستمرار على ما هو عليه. فالله تعالى يأمر رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدّوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النّصر على الأعداء. وخطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بالاستقامة للتّثبيت على الاستقامة.
وفي الآية دليل على وجوب اتّباع النّصوص الشّرعية من غير تصرّف وانحراف، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح، ومن حاد عن منهج السّلف زاغ وضلّ، فكانوا كقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم 30/ 32] .
وطريق رفع الخلاف الرّد إلى القرآن والسّنة، فقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النّساء 4/ 59] .(12/166)
وبعد أن أمر الله تعالى بالاستقامة، نهى عن ضدّها وهو الطّغيان، أي البغي وتجاوز حدود الله، فإنه مزلقة إلى الهلاك، فقال تعالى: وَلا تَطْغَوْا.
ثمّ حذّر الله تعالى من المخالفة، فقال: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه تعالى بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء، فيجازي عليها.
والدّعوة إلى الاستقامة وتجنّب الطّغيان هو هدف القرآن الكريم المتكرر فيه، فقال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى 42/ 15] .
ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين، فقال: وَلا تَرْكَنُوا.. أي ولا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم، أو استعانة بهم، أو اعتماد عليهم، فتصيبكم النّار بركونكم إليهم، فالرّكون إلى الظّالمين ظلم، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم، ثم لا ينصركم الله، أي لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة لأنه تعالى لا ينصر الظّالمين:
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة 2/ 270] ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحجّ 22/ 71، فاطر 35/ 37] .
والآية تدلّ على عاقبة الرّكون، وعلى أن الميل إلى الظّالمين موقع عادة في الظّلم، ومزلقة تستدعي إقرارهم على ما يفعلون، والرّضى بما هم عليه من الظّلم، واستحسان طريقتهم، وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في أعمالهم الظّالمة. قال البيضاوي: ولعل الآية أبلغ ما يتصوّر في النّهي عن الظّلم والتّهديد عليه.
وإذا كان الرّكون إلى الظّلم موجبا عذاب النّار، فكيف يكون حال الظّالم في نفسه؟!(12/167)
فقه الحياة أو الأحكام:
تدلّ الآيتان على الأمر بالاستقامة والثّبات والدّوام عليها، وعلى تحريم ضدّها وهو الطّغيان، أي تجاوز حدود الله تعالى، وعدم الاعتماد على الظّلمة والرّضا بظلمهم.
والاستقامة: امتثال أمر الله، وليست تلك مهمة سهلة وإنما هي شاقّة عسيرة تستدعي الطّاعة الدّائمة، ومراقبة الإنسان نفسه، والحذر من المخالفة، قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ ولا أشقّ من هذه الآية عليه، ولذلك
قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشّيب! فقال:
«شيّبتني هود وأخواتها» .
وروي عن أبي علي السّري قال: رأيت النّبي صلى الله عليه وسلّم في المنام، فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: «شيّبتني هود» ، فقال:
«نعم» ، فقلت: ما الذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال:
«لا، ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» .
والاستقامة تقتضي اتّباع نصوص القرآن والسنّة، والبعد عن التّأويلات الباطلة، والعمل بالرّأي الفاسد المخالف روح الشّريعة ومبادئها العامة.
ثمّ حذّرت الآية من الاعتماد على الظّلمة، والرّضا بظلمهم، والاستعانة بهم، والتعاون معهم، وودّهم وإطاعتهم لأن ودّهم يستدعي إطراءهم وتملّقهم، وتزييف الحقائق، وكتمان الحقّ، والسّكوت عن المنكر، وعدم الأمر بالمعروف.
والظّلم: يشمل الشّرك وكلّ أنواع القبائح والمعاصي والمنكرات، والآية دالّة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصّحبة لا تكون إلا عن مودّة. أما صحبة الظّالم على التّقيّة، فهي مستثناة من النّهي بحال الاضطرار.
روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن أبي بكر أنه قام، فحمد الله،(12/168)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ألا وإن النّاس إذا رأوا الظّالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمّهم بعقابه، ألا وإنّي
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ النّاس إذا رأوا المنكر بينهم، فلم ينكروه، يوشك أن يعمّهم الله بعقابه» .
وقد تضمّنت الآية صراحة بيان عاقبة الرّكون إلى الظّلمة، وهي الإحراق بالنّار، بسبب مخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على ما هم عليه، وموافقتهم في أمورهم.
والظّلمة: هم أعداء المؤمنين، من المشركين، أو كلّ ظالم، سواء أكان كافرا أم مسلما، والرّأي الثّاني أصح لأن الأخذ بعموم الكلام أولى.
ويلاحظ من اختلاف التّعبيرين: فَاسْتَقِمْ ووَ لا تَرْكَنُوا أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنّبي صلى الله عليه وسلّم، وإن كانت عامة في المعنى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وقوله في الآية التالية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ، وَاصْبِرْ. أما المنهيّات فقد جمعت للأمة: وَلا تَطْغَوْا، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
الأمر بالصّلاة والصّبر
[سورة هود (11) : الآيات 114 الى 115]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
الإعراب:
طَرَفَيِ النَّهارِ منصوب على الظّرف لأنه مضاف إليه.(12/169)
البلاغة:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ بينهما طباق.
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ بينهما جناس اشتقاق.
لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن المضمر، ليكون كالبرهان على المقصود، ودليلا على أن الصّبر والصّلاة إحسان، وإيماء بأنه لا يعتدّ بهما دون الإخلاص.
المفردات اللغوية:
طَرَفَيِ النَّهارِ أي في الغداة والعشي، أي الصّبح والظّهر والعصر كما قال الحسن وقتادة والضّحاك، وطرف الشيء: الطّائفة منه من النّهاية والبداية. وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ جمع زلفة أي طائفة وجزء من أول الليل قريب من النّهار، وذلك يشمل صلاة المغرب وصلاة العشاء، كما قال الحسن البصري.
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها،
وفي الحديث الذي أخرجه أبو نعيم عن أنس: «الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر»
والحسنات كالصلوات الخمس وغيرها من أعمال البر، والسيئات: الذنوب الصغائر. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين.
وَاصْبِرْ على الطاعات وعن المعاصي. لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بالصبر على الطاعة.
سبب النزول:
روى الشيخان، وابن جرير، عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأخبره، فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فقال الرجل: إليّ هذه؟ قال:
لجميع أمتي كلهم.
وأخرج الترمذي وغيره عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا، فقلت:
في البيت أطيب منه، فدخلت معي البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فذكرت ذلك له، فقال: أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! وأطرق طويلا، حتى أوحى الله إليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إلى قوله: لِلذَّاكِرِينَ(12/170)
وروي ذلك من حديث أبي أمامة ومعاذ بن جبل وابن عباس وبريدة وغيرهم. ومنه يفهم أن ذنب الرجل لا حدّ فيه، وإنما هو ذنب يكفره العمل الصالح، من إقامة الصلاة وإحسان القول والعمل.
ورواية الترمذي عن ابن مسعود هي: قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها، وأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلا فدعاه، فتلا عليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: «لا، بل للناس كافة»
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بالاستقامة، وعدم تجاوز حدود الدين، وعدم الركون إلى ذوي الظلم، أردفه بالأمر بالصلاة والصبر، وهو يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة، ويليها الصبر، فإنه نصف الإيمان، فهما عدة الامتثال، والصلاة أساس العبادات، وعمود الدين.
التفسير والبيان:
موضوع هاتين الآيتين: الاستعانة بالصلاة والصبر، كما قال تعالى في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 153] .
أما بالنسبة للصلاة فالآية في تحديد أوقاتها، ومعناها: أدّ الصلاة تامة كاملة الأركان والشروط والأوصاف، باعتبارها صلة بين العبد والرب، مطهرة(12/171)
للنفس، مرضاة للرب، مانعة عن الفحشاء والمنكر، وأداؤها في جميع أجزاء اليوم، فقوله: طَرَفَيِ النَّهارِ يشمل ثلاث صلوات هي الصبح والظهر والعصر، وقوله: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يشمل صلاتي المغرب والعشاء.
فتكون الآية شاملة جميع أوقات الصلاة، كما جاء في آيات أخر هي:
1- أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 17/ 78] .
2- فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا، وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم 30/ 17- 18] فصلاة الصبح عند الإصباح، وبقية الصلوات تدخل تحت تعبير المساء لأنه يشمل ما بين الظهر والغروب فما بعده.
3- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ، لَعَلَّكَ تَرْضى [طه 20/ 130] والتسبيح يكون بالصلاة وغيرها.
ثم ذكر الله تعالى فائدة الصّلاة بقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ.. أي إنّ فعل الخيرات أو الأعمال الحسنة، ومنها الصّلوات الخمس، تكفّر الذّنوب السّالفة، والسّيئات الصّغائر، كما جاء
في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدّثني عنه أحد، استحلفته، فإذا حلف صدّقته، وحدّثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«ما من مسلم يذنب ذنبا، فيتوضأ، ويصلّي ركعتين، إلا غفر له» .
وفي الصّحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان: أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوضأ، وقال: «من(12/172)
توضأ وضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين، لا يحدّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدّم من ذنبه» .
والحسنات: جميع الأعمال الصّالحة، حتى ترك السّيئة، والسّيئات: الذّنوب الصّغائر لأن الكبائر لا يكفّرها إلا التّوبة لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النّساء 4/ 31] ، ولما رواه مسلم: «الصّلوات الخمس كفّارة لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر» .
وأمّا شروط التّوبة الصّادقة فهي أربعة: الإقلاع عن الذّنب، والنّدم عليه، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل، والعمل الصّالح الذي يساعد على محو أثر الذّنب، ومنه ردّ الحقوق لأصحابها، وطلب السّماح ممن آذاه.
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي إنّ النّصح السّابق بفعل الحسنات والاستقامة، وعدم تجاوز حدود الدّين، وعدم الرّكون إلى الظّلمة، عظة للمتّعظين الذي يعقلون الأحداث ويقدّرون مخاطرها ويخشون الله عزّ وجلّ.
وَاصْبِرْ.. أي الزم الصّبر على الطّاعة ومشاقّها، وعن المعصية ومغرياتها، وابتعد عن المنكر والمحرّمات، وفي حال الشّدائد والمصائب، فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا، الصّابرين على مراد الله وقدره. وهذا دليل على أن الصّبر إحسان وفضيلة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يأتي:
1- الأمر بالصّلوات المفروضة وإيجابها، وخصّت بالذّكر هنا لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النّوائب، وكان النّبي صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه «1» أمر، فزع إلى الصّلاة.
__________
(1) حزبه: نزل به مهمّ، أو أصابه غمّ.(12/173)
2- الآية دليل على قول أبي حنيفة رحمه الله في أنّ التّنوير بالفجر أفضل، وفي أنّ تأخير العصر أفضل لأنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على وجوب إقامة الصّلاة في طرفي النّهار، وطرفا النّهار: الزّمان الأوّل لطلوع الشّمس والزّمان الثاني لغروبها، وبما أنّ ظاهر الآية غير مراد بالإجماع، فوجب حمله على المجاز، وهو إقامة الصّلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النّهار لأنّ ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه. وإقامة صلاة الفجر عند التّنوير أقرب إلى وقت الطّلوع من إقامتها عند التّغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عند ما يصير ضلّ كلّ شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عند ما يصير ظلّ كلّ شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى.
3- أوضحت الآية أوقات الصّلوات الخمس المفروضة لأنّ طرفي النّهار يشملان صلاة الصّبح، وصلاة الظّهر والعصر، والزّلف من الليل يقتضي الأمر بإقامة صلاتي المغرب والعشاء. والزّلف: الساعات القريبة بعضها من بعض، وزلف الليل تشمل المغرب والعشاء.
4- الحسنات وهي الأعمال الصّالحة ومنها الصّلوات الخمس، وقول الرّجل:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والأولى حمل اللفظ على عمومه. وأما السّيئات فهي الذّنوب الصّغائر، للحديث المتقدّم: «ما اجتنبت الكبائر» .
5- دلّت الآية على أنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان لأنّ الإيمان أشرف الحسنات وأجلّها وأفضلها. وعلى أنّ الحسنات يذهبن السّيئات، فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة، يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان، فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل السّيئات درجة، كان أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكليّة، فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم.(12/174)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
6- دلّت الآية مع الأحاديث الواردة في سبب نزولها على أن القبلة واللّمس الحرام لا يجب فيهما الحدّ. واختار ابن المنذر أنه لا يجب فيهما أدب أو تعزير.
7- القرآن الكريم موعظة وتوبة لمن اتّعظ وتذكّر، وخصّ الذّاكرين بالذّكر لأنهم المنتفعون بالذّكرى.
8- الصّبر على الصّلاة كما قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه 20/ 132] ، والصّبر على الطّاعات، وعلى ما يلقاه المؤمن من أذى الأعداء، وعلى الشّدائد والمصائب، الصّبر على كلّ ذلك إحسان وفضيلة، وله ثواب عظيم،
وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان: «الصّبر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كلّه» إلا أنه ضعيف.
سبب إهلاك القرى والأمم السّالفة
[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
الإعراب:
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ ... منصوب لأنه استثناء منقطع، ويجوز فيه الرّفع على البدل من(12/175)
أُولُوا بَقِيَّةٍ كما جاز الرّفع في قوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس 10/ 98] وإن كان استثناء منقطعا، وهي لغة بني تميم.
وَاتَّبَعَ عطف على مضمر دلّ عليه الكلام إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد، واتّبع الذين ظلموا.
وَكانُوا مُجْرِمِينَ عطف على اتَّبَعَ أو جملة اعتراضية.
بِظُلْمٍ حال من الفاعل، أي واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها.
المفردات اللغوية:
فَلَوْلا فَلَوْلا: للتّحضيض والحثّ على الفعل، أي فهلا كان. مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن، وهو الجيل من الناس المقترنون في زمن واحد، وشاع تقديره بمئة سنة. أُولُوا بَقِيَّةٍ أولو عقل ورأي وبصر بالأمور، أو أولو فضل، والأصل في البقية: ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرا في الباقي الأصلح لإنفاق الأردأ عادة وإبقاء الأجود، وتلك قاعدة بقاء الأصلح، ومنه يقال: فلان من بقيّة القوم، أي من خيارهم. ويجوز أن يكون مصدرا كالتّقية، أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب.
ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي ما أنعموا فيه من الشهوات. وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي كافرين، وهو سبب استئصال الأمم، وهو فشو الظلم فيهم، واتّباعهم الهوى، وترك النّهي عن المنكرات مع الكفر. بِظُلْمٍ بشرك. وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا، وذلك لفرط رحمة الله ومسامحته في حقوقه، ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد على حقوق الله تعالى.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مسلمين كلّهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كلّ أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق، وبعضهم على الباطل، لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقا. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا أناسا هداهم الله من فضله، فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ والعمدة فيه. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ: إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي الصّيرورة، أو أن الضّمير يعود للنّاس وإلى الرّحمة. وإن كان الضّمير يعود لمن رحم، فإلى الرّحمة.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده وقضاؤه وأمره. مِنَ الْجِنَّةِ الجنّ، سمّوا بهذا لاستتارهم.
وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي من عصاتهما. أَجْمَعِينَ صفة للعصاة، أو منهما أجمعين لا من أحدهما.(12/176)
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما حلّ بالأمم السّابقة المكذّبة لرسلها، من عذاب الاستئصال في الدّنيا، واستحقاق النّار في الآخرة، ذكر هنا سبب العذاب وهو أمران: الأول- أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض، والثاني- أن الظّالمين اتّبعوا طلب الشّهوات واللّذات، واشتغلوا بتحصيل الرّياسات.
والظّالمون: هم تاركو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
التّفسير والبيان:
فهلا وجد من القرون، أي الأمم والأقوام الماضية الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم جماعة أولو عقل ورأي وبصيرة وأهل خير ينهون عما كان يقع بينهم من الشّرور والمنكرات والفساد في الأرض. وهذا توبيخ للكفار.
لكن قد وجد قليل من هؤلاء، وهم الذين أنجاهم الله تعالى عند حلول غضبه وفجأة نقمته، قد نهوا عن الفساد في الأرض. فهذا استثناء منقطع، ولا يمكن جعله استثناء متّصلا، وإلا كان القليل من النّاجين غير مرغّبين في النّهي عن الفساد.
واتّبع الظّالمون أنفسهم، وهم الأكثرية ما أترفوا فيه من نعيم وعزّة وسلطان.
والمترف: الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة. والمراد بالذين ظلموا: تاركو النّهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف: اشتغالهم بالشّهوات والمال واللّذات والرّياسات، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم، وإيثار الترف على الآخرة.
وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي والحال أنهم كانوا ظالمين. فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 11/ 101] ، وقال تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصّلت 41/ 46] .(12/177)
وفي الآية إيماء إلى أن التّرف مدعاة إلى الإسراف، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان، والظّلم والانحراف، وتلك عادة متّبعة كما قال تعالى:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء 17/ 16] .
ثمّ بيّن تعالى عدله وسنّته في المصلحين، فقال تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى، ظالما لها، وأهلها قوم مصلحون، تنزيها لذاته تعالى عن الظّلم، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظّلم. وقيل الظّلم: الشّرك، ومعناه: أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها، وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم، أو في أمورهم الاجتماعية، يتعاطون الحقّ فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، أي لا ينزل عذاب الاستئصال لأجل كون القوم مجرّد كونهم معتقدين للشّرك والكفر، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات، وسعوا في الإيذاء والظّلم، كما فعل قوم شعيب، وقوم هود، وقوم فرعون، وقوم لوط. ويؤيده أنّ الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظّلم.
ثم أخبر الله تعالى أنه قادر على جعل الناس أمة واحدة من إيمان أو كفر، فقال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ.. قال الزّمخشري معبّرا عن مذهب المعتزلة:
يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملّة واحدة، وهي ملّة الإسلام، كقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون 23/ 52] . فهم يحملون الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، والمراد نفي الاضطرار، وأنه لم يقهرهم على الاتّفاق على دين الحقّ، ولكنه مكّنهم من الاختيار الذي هو أساس التّكليف، فاختار بعضهم الحقّ، وبعضهم الباطل، فاختلفوا، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم، فاتّفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه.
ويرى أهل السّنّة: أن الآية بيان لقدرة الله تعالى على جعل الناس كلهم على(12/178)
منهج واحد من إيمان أو كفر، بخلقهم قابلين دينا واحدا، لكنه تعالى لم يشأ ذلك، مثل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] وإنما شاء أن يكون لهم دور اختياري في الاتّجاه إلى الحقّ والإيمان ونبذ الضّلالة والشّرك، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ استثناء منقطع، أي لكن من رحم ربّك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف.
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي في الأديان والاعتقادات والمذاهب والآراء، وقيل: في الهدى، أو في الرّزق يسخر بعضهم بعضا، قال ابن كثير: والمشهور الصّحيح الأول.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي المرحومين من أتباع الرّسل الذين تمسّكوا بما أمروا به من الدّين، الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى جاء خاتم الرّسل، ففاز من اتّبعه بسعادة الدّنيا والآخرة، فهم الفرقة النّاجية.
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الزّمخشري ممثلا رأي المعتزلة: لِذلِكَ: إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأول وتضمّنه، يعني: ولذلك المذكور من التّمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف، خلقهم، ليثيب مختار الحقّ بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره «1» .
ويرى أهل السّنة كما ذكر أبو حيان: أنّ اللام ليست للتّعليل، وإنما هي على التّحقيق لام الصّيرورة في ذلك المحذوف، أي ليس الاختلاف والرّحمة علّة الخلق، وإنما خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. مثل قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] . ولا يتعارض هذا مع قوله
__________
(1) الكشّاف: 2/ 120(12/179)
تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذّاريات 51/ 56] لأن معنى هذا الأمر بالعبادة «1» .
والإشارة في قوله تعالى: لِذلِكَ: إشارة إلى الاختلاف والرّحمة معا في رأي ابن عباس، واختاره الطّبري، وقال مجاهد وقتادة: لِذلِكَ: إشارة إلى الرّحمة التي تضمّنها قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ والضّمير في خَلَقَهُمْ عائد على المرحومين.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.. أي سبق في قضاء الله وقدره لعلمه التّام وحكمته النّافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنّة، ومنهم من يستحق النّار، وأنه لا بدّ أن يملأ جهنّم من هذين الثّقلين: الجنّ والإنس، وهم الذين لا يهتدون بما أرسل الله به الرّسل من الآيات والأحكام. قال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ مَنْ: لبيان الجنس، أي من جنس الجنّة وجنس النّاس.. وقوله تعالى: أَجْمَعِينَ تأكيد.
وفي الصّحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اختصمت الجنّة والنّار، فقالت الجنّة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء النّاس وسقطهم «2» ، وقالت النّار: أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، فقال الله عزّ وجلّ للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنّار: أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، فأما الجنّة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنّة، وأما النّار فلا تزال تقول: هل من مزيد، حتى يضع لها ربّ العزّة قدمه، فتقول: قط قط «3» ، وعزّتك» .
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 273
(2) السّقط: رديء المتاع.
(3) قط بمعنى حسب، وهو الاكتفاء. والقطّ: الكتاب والصّكّ بالجائزة، ومنه قوله تعالى:
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا.(12/180)
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- وجوب النّهي عن المنكر والفساد، والأمر بالمعروف، كما قال تعالى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران 3/ 104] ،
وفي الحديث الصّحيح: «إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيّروه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» .
2- المصلحون في كلّ زمان، النّاهون عن الفساد في الأرض كقوم يونس، وأتباع الأنبياء وأهل الحقّ ناجون من عذاب الله تعالى.
3- التّرف يدعو عادة إلى الإسراف المؤدّي إلى الفسوق والعصيان والظلم، والمترف: الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة.
4- الظّلم أو الاجرام كالشّرك والكفر وإلحاق الأذى والضّرر بالنّاس سبب موجب للعقاب في الدّنيا والآخرة، لكن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدّنيا من الشّرك، وإن كان عذاب الشّرك في الآخرة أصعب.
5- لم يكن الله ليهلك قوما بالكفر وحده، حتى ينضم إليه الفساد في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، كما أهلك الله قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط.
6- الله تعالى قادر على جعل النّاس كلّهم أمّة واحدة من إيمان أو كفر. قال الضّحّاك في آية: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ..: أهل دين واحد، أهل ضلالة، أو أهل هدى. وقال سعيد بن جبير: على ملّة الإسلام وحدها.
وأما قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ فقال مجاهد وقتادة: أي على أديان شتّى.(12/181)
وقوله تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن ومقاتل وعطاء: الإشارة إلى الاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضّحّاك: ولرحمته خلقهم. واختار الطّبري وتابعه القرطبي: الإشارة بذلك للاختلاف والرّحمة، وهو أولى في تقديري لأنه يعمّ، أي ولما ذكر خلقهم. ولام وَلِذلِكَ للعاقبة والصّيرورة كما بيّنا.
والقول بعموم إشارة وَلِذلِكَ أشار إليه مالك رحمه الله قال أشهب:
سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنّة، وفريق في السّعير، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرّحمة للرّحمة. وقال ابن عباس أيضا كما تقدّم: خلقهم فريقين: فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه.
7- استدلّ أهل السّنّة بآية: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى لأن تلك الرّحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرّسل، وإنزال الكتب، وإزالة العذر، فإن كلّ ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرّحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة «1» .
8- مما ثبت في الأزل وأخبر تعالى عنه وقدر أنه يملأ ناره، ويملأ جنّته، فقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ..،
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قال عن الجنّة والنّار: «ولكلّ واحدة ملؤها» .
__________
(1) تفسير الرّازي: 18/ 77- 78 [.....](12/182)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
الفائدة العملية من قصص الأنبياء والأمر بالعبادة والتوكل على الله تعالى
[سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
الإعراب:
وَكُلًّا منصوب على المصدر ب نَقُصُّ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل ما يحتاج إليه، وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك.
ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لقوله: وَكُلًّا أو بدل منه، أو مفعول به.
المفردات اللغوية:
وَكُلًّا وكل نبأ نَقُصُّ نخبرك به، والقص: تتبع أثر الشيء للإحاطة به، كما قال تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ.. [القصص 28/ 11] . مِنْ أَنْباءِ جمع نبأ: وهو الخبر المهم. نُثَبِّتُ بِهِ نقوّي ونطمئن. فُؤادَكَ قلبك، أي نجعله راسخا كالجبل، وهو المقصود من الاقتصاص، وهو زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، وثبات نفسه على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الأنباء أو الآيات الْحَقُّ ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى سائر فوائده العامة، وخصّ المؤمنون بالذكرى لانتفاعهم بها في الإيمان، بخلاف الكفار.
عَلى مَكانَتِكُمْ على حالتكم أو على تمكنكم واستطاعتكم. إِنَّا عامِلُونَ على حالتنا، وهو تهديد لهم. وَانْتَظِرُوا عاقبة أمركم. إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم.(12/183)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم ما غاب فيهما، لا يخفى عليه خافية مما فيهما.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي يرجع إليه أمرك وأمرهم، لا محالة، فينتقم ممن عصى.
فَاعْبُدْهُ وحده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثق به، فإنه كافيك. وتقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على ما هو الأنفع للعابد. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم، فيجازي كلّا ما يستحقه، وإنما يؤخرهم لوقتهم.
المناسبة:
بعد أن قص الله على نبيه أخبار الأنبياء مع أقوامهم، ذكر فائدة تلك القصص وحصرها في نوعين من الفائدة وهما: تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وبيان ما هو حق وعظة وعبرة وذكرى تذكر المؤمنين. ثم ختم السورة بما بدأها به وهو الأمر بالعبادة، والتوكل على الله، وعدم المبالاة بعداوة المشركين.
التفسير والبيان:
وكل خبر من الأخبار التي هي من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم نقصها عليك لفائدتين:
الأولى- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي ما به يقوى الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى لأن الأنبياء الذين من قبلك تحملوا في محاجة أقوامهم الأذى الكثير، فصبروا على ما كذبوا به، فنصرهم الله وخذل أعداءهم الكافرين، فلك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة.
الثانية- وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي وتبين لك في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء، أو في هذه الأنباء والآيات، ما هو الحق والصدق واليقين: وهو وحدانية الله وعبادته وحده، وإثبات البعث، وفضيلة التقوى والخلق الفاضل، وفي تلك الأنباء عظة وعبرة يرتدع بها(12/184)
الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون. وخصّ هذه السورة بالذكر لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار.
والحق: البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة.
والموعظة: التنفير من الاعتماد الكلي على الدنيا وما فيها من شقاوة، وإيثارها على الآخرة وما فيها من سعادة.
والذكرى: الإرشاد إلى الأعمال الصالحة الباقية.
وبعد هذا الإنذار والترهيب والترغيب أمر الله رسوله بقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون بما جئت به من ربك، على وجه التهديد: اعملوا على طريقتكم ومنهجكم وحالكم، وافعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشرّ، كما قال شعيب عليه السّلام لقومه، فنحن أيضا عاملون على طريقتنا ومنهجنا وما نقدر عليه من الدعوة إلى الخير، وانتظروا بنا نهاية أمرنا، إما بموت أو غيره مما تتأملون، إنا منتظرون عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من عقاب نزل بأمثالكم، إما من عند الله أو بأيدي المؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانتظروا الهلاك، فإنا منتظرون لكم العذاب.
والتهديد بقوله: اعْمَلُوا.. مثل قوله تعالى لإبليس: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ... [الإسراء 17/ 64] وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] .
وتمني انتهاء أمر النبي حكاه الله عن المشركين بقوله: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] .
وانتظار مصير الفريقين له شبيه في قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام 6/ 135] .(12/185)
ثم ختم الله تعالى السورة بخاتمة جامعة سامية، جمعت كل مطالب الخير، فقال: وَلِلَّهِ غَيْبُ.. أي أنه تعالى عالم غيب السموات والأرض في الماضي والحاضر والمستقبل، وعلمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات، والمعدومات والموجودات، والحاضرات والغائبات، ومرجع الكل ومصير الخلائق والكائنات إليه لأنه مصدر الكل ومبدأ الكل، وهو عظيم القدرة نافذ المشيئة، قهار للعبيد، وسيحاسب كل عامل بما عمل يوم الحساب، من صغير أو كبير.
وإذا كان الله هو المتصف بما ذكر، فاعبده وحده ومن معك من المؤمنين، وتوكل عليه في كل أمورك حق التوكل، وثق به تمام الثقة فيما تستطيع وما لا تستطيع، فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه، وما ربك بغافل عما تعملون، أي ليس بخفي عليه كل ما يعمل به المكذبون والمصدقون، وما عليه أحوالهم، وما تصدر عنه أقوالهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين، فلا تبال بهم.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الكيّس: من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- في إيراد قصص الأنبياء وما كابدوه من مشاق من أجل دعوتهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وتثبيت له على أداء الرسالة، والصبر على ما يناله فيها من الأذى.
وفيها بما تضمنته من بيان ما هو الحق واليقين عظة وعبرة وذكرى لكل مؤمن.
والموعظة: ما يتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية. والذكرى: تذكر المؤمنين(12/186)
ما نزل بمن هلك فيتوبون. وخصّ الله تعالى المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
2- فيها تهديد ووعيد الكافرين على أعمالهم، وندب لهم أن يفعلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلّم كل ما يقدرون عليه من الشر، فلن ينالوا منه شيئا. وفي هذا إعلان الثقة التامة بعصمة الله له، وتأكيد الإيمان بصحة عمله، والإنذار بسوء عاقبة المخالفين.
3- العلم بالغيب والشهادة في جميع السموات والأرض، في الحاضر والماضي والمستقبل مختص بالله تعالى.
4- المرجع والمآب في الدار الآخرة إلى الله تعالى، وليس لمخلوق أمر إلا بإذنه.
5- إيجاب العبادة بالإخلاص لله وحده، وإيجاب التوكل على الله في كل شيء، أي اللجوء إليه والثقة به وتفويض الأمور إليه.
6- الله مطلع على أحوال العباد وأقوالهم وأفعالهم، ويجازي كلّا بعمله، فلا يضيع طاعات المطيعين، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، والجزاء بإحضارهم في موقف القيامة، وحسابهم على الصغير والكبير، والعتاب على كل شيء. وتحصل عاقبة الأمر: فريق في الجنة وفريق في السعير.(12/187)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف عليه السّلام
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية.
تسميتها وسبب نزولها:
سميت سورة يوسف، لإيراد قصة النبي يوسف عليه السّلام فيها،
روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف فنزلت السورة.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- فيما رواه عنه الحاكم وغيره-: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف 12/ 3] و [الكهف 18/ 13] فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو حدثتنا فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 39/ 23] .
وقد نزلت بعد اشتداد الأزمة على النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة مع قريش، وبعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي زوجته الطاهرة خديجة، وعمه أبا طالب الذي كان نصيرا له.
روي في سبب نزولها أن كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في شأن محمد صلى الله عليه وسلّم، فقال لهم اليهود: سلوه، لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن قصة يوسف، فنزلت.
وبالرغم من أنها سورة مكية، فأسلوبها هادئ ممتع، مصطبغ بالأنس والرحمة، واللطف والسلاسة، لا يحمل طابع الإنذار والتهديد كما هو الشأن(12/188)
الغالب في السور المكية. قال عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتلو هذه السورة، أسلموا لموافقتها ما عندهم.
مناسبتها لما قبلها:
نزلت هذه السورة بعد سورة هود، وهي مناسبة لها، لما في كلّ من قصص الأنبياء، وإثبات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد تكررت قصة كل نبي في أكثر من سورة في القرآن، بأسلوب مختلف، ولمقاصد وأهداف متنوعة، بقصد العظة والاعتبار، إلا قصة يوسف عليه السّلام، فلم تذكر في غير هذه السورة، وإنما ذكرت جميع فصولها بنحو متتابع شامل، للإشارة إلى ما في القرآن من إعجاز، سواء في القصة الكاملة أو في فصل منها، وسواء في حالة الإجمال أو حالة التفصيل والبيان. قال العلماء: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن، وكرّرها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرّر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل «1» .
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة قصة يوسف عليه السّلام، بجميع فصولها المثيرة، المفرحة حينا والمحزنة حينا آخر، فبدأت ببيان منزلته عند أبيه يعقوب وصلته به، ثم علاقته بإخوته (مؤامرتهم عليه، وإلقاؤه في البئر، وبيعه لرئيس شرطة مصر، وشراؤهم الطعام منه في المرة الأولى ومنحهم إياه دون مقابل، ومنعهم شراء الطعام في المرة الثانية إن لم يأتوه بأخيهم (بنيامين) وإبقاء أخيه بنيامين لديه في
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 118(12/189)
حيلة مدروسة وسرقة مزعومة، حتى يأتوه بأخيهم لأبيهم، ثم تعريفه نفسه لإخوته) ، ومحنة يوسف وجماله الرائع، وقصة يوسف مع امرأة العزيز، وبراءته المطلقة، يوسف في غياهب السجون يدعو لدينه، بوادر الفرج وتعبير رؤيا الملك، توليته وزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم، إبصار يعقوب حين جاء البشير بقميص يوسف، لقاء يوسف في مصر مع أبويه وجميع أسرته.
ثم إيراد العبرة من هذه القصة، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وتسليته، وبشائر الفرج بعد الضيق، والأنس بعد الوحشة، فإن يوسف عليه السّلام انتقل من السجن إلى القصر، وجعل عزيزا في أرض مصر، وكل من صبر على البلاء فلا بد من أن يأتيه الفرج والنصر، وتحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم، والدروس والأخلاق المستفادة من قصة يوسف عليه السّلام، وأهمها نصر الرسل بعد الاستيئاس.
أضواء من التاريخ على قصة يوسف عليه السّلام «1» :
نسب يوسف:
هو يوسف بن يعقوب (إسرائيل الله) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر ذكرا الذين ولدوا في فدان آرام أثناء رعاية غنم خاله (لابان) مقابل تزوجه ابنتيه، إلا بنيامين فقد ولد في أرض كنعان بعد رحيله إليها.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم عن يوسف فيما أخرجه أحمد والبخاري عن ابن عمر: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» .
وكان يوسف رائع الجمال، محبوبا لدى أبيه، مما أثار حقد إخوته عليه وتآمرهم عليه. وقد رأى في منامه في صغره في سن السابعة عشرة سنة أو
__________
(1) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 120 وما بعدها(12/190)
الثانية عشرة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدوا له، فقصّ الرؤيا على أبيه، فبشره بالنبوة وتعبير الأحلام.
إلقاء يوسف في البئر:
أخذه إخوته معهم إلى البرية بقصد السياحة واللعب، ثم ألقوه في البئر، وأخبروا أباهم كذبا أن الذئب أكله، فلم يقتنع الأب الصالح بكلامهم، واتهمهم بمكيدة أوقعوها فيه، ثم أنقذه الله بتعلقه بحبل دلو أدلي في البئر، ثم باعه آخذوه في مصر بثمن نجس، وادعوا أنهم اشتروه من سيده، باعوه لرئيس الشرطة وهو العزيز في محافظة الشرقية قرب بحيرة المنزلة، واسمه (فوطيفار) أو (أطفير) فأحبه وقال لامرأته زليخا: أَكْرِمِي مَثْواهُ.. وجعله صاحب أمره ونهيه، ورئيس خدمه والمتصرف في بيته، وتولاه الله تعالى بالهداية والتربية والتوفيق.
محنة يوسف:
وكان جماله الرائع سبب محنته،
روى مسلم في صحيحة أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن»
فأحبته امرأة العزيز، وراودته عن نفسه، فأبى إيمانا بالله، وامتثالا لأمره، واجتنابا لمنهياته، وتقديرا لأفضال زوجها عليه: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وامتنع همّه بها لوجود البرهان عنده، وهو حرصه على الطاعة، والتمسك بآداب آبائه، لأنحرف امتناع لوجود، امتنع الهم لوجود البرهان، كما في قوله تعالى:
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص 28/ 10] أي امتنع إبداؤها بما في نفسها على ابنها، لوجود الربط على قلبها.
مكيدة امرأة العزيز:
ولما خابت في تحقيق رغبتها منه، حقدت عليه، كما هو شأن السادة عند ما(12/191)
يخالفهم أحد الأتباع. ولما رأت زوجها لدى الباب يريد الدخول، لفقت عليه التهمة، وأفهمته أنه يريدها بسوء، فكذبها يوسف الصّديق، فاحتكم الزوج العاقل إلى القرائن: إن كان قميصه مزّق من الأمام فهي الكاذبة، وإن مزق من الخلف فهو الصادق، لأن المقدم على المرأة يظهر أثر مقاومتها ودفاعها من الناحية الإمامية، والهارب من المرأة يظهر أثر لحاقها به من الخلف، فظهرت براءته، والتصقت التهمة بها، وأمر يوسف بكتمان الخبر، وأمرها بالاستغفار لذنبها.
ومع هذا، شاع خبر امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولامتها النساء، فأعدت لهن طعاما يحتاج إلى القطع بالسكين، وآتت كل واحدة سكينا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن، فبهرهن جماله، فقطعن أيديهن، وقلن: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فعذرنها، ثم هددته بالسجن إن لم يستجب لها، وفشا أمره بين الناس، فرأى سيده أن يزجه في السجن، ليحمي سمعة امرأته.
دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه:
وأدخل يوسف السجن، ودخل معه السجن فتيان: أحدهما: رئيس الخبازين عند الملك، والثاني: رئيس سقاته، فرأى الثاني في منامه أنه يعصر في كأس الملك خمرا، ورأى الأول أنه يحمل فوق رأسه خبزا وطيرا تأكل الناس منه، وطلبا من يوسف تعبير الرؤيا.
فأظهر يوسف مقدرته على تأويل الرؤيا، ولكنه قدم لذلك بدعوته السجناء إلى توحيد الله، قائلا لصاحبيه: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ وقال للساقي: إنه يسقي ربه خمرا، وقال للآخر: إنه سيصلب، فتأكل الطير من رأسه. وتأمل يوسف الفرج وقال لمن ظن أنه ناج منهما:
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.(12/192)
رؤيا الملك:
ثم رأى الملك أن سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنابل خضراء حسنة في ساق واحدة يأكلهن سبع يابسات، فدعا بالسحرة لسؤالهم عن تأويل المنام، فقالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
فتذكر ساقي الملك يوسف في السجن، فعرض الأمر على الملك، فوافق على أن يرسله إلى السجن ليأتي له بالتفسير الصحيح للمنام، فجاءه فيه، ثم عاد بالجواب إلى الملك، فقال الملك: ائتوني بيوسف، فأبى يوسف الخروج من السجن، حتى تظهر براءته وحقيقة أمره مع النساء، فأحضرهن الملك، وسألهن عنه، قلن: حاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأقرت امرأة العزيز (زليخا) ببراءته، وقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وآية: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ... من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف كما يذكر بعض المفسرين خطأ.
خروج يوسف من السجن إلى القصر:
وخرج يوسف من السجن بريئا من التهمة، وسأله الملك عن أي عمل يرضاه لنفسه؟ فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ فجعله على كل أرض مصر، وصاحب الأمر والنهي، ووزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم، وجعل خاتمه في يد يوسف الذي أصبح عمره ثلاثين سنة.
طلب إخوة يوسف الطعام منه:
ومرت السنوات السبع المخصبة، ثم جاءت السبع المجدبة، فباع يوسف المصريين من مخازن القمح التي كان قد ادخرها أثناء الخصب، ثم جاءه أهل(12/193)
فلسطين، وأرسل يعقوب أولاده مع الجمال والحمير لحمل الطعام من مصر، فلما قدموا عرفهم يوسف ولم يعرفوه، إذ أصبح في سن الأربعين، وطلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم مرة أخرى، وأعطاهم الطعام بلا ثمن، ليأتوه بأخيهم، دون أن يعلموا أنه ردّ عليهم الثمن، ووضع نقودهم في أوعيتهم لأنهم سيعودون بها إليه لأنهم لا يقبلون ما ليس لهم.
ولما اشتد القحط بأهل فلسطين، سمح يعقوب بسفر ابنه (بنيامين) مع إخوته، فلما قدموا أحسن يوسف ضيافتهم واستقبالهم في حفل غداء ظهرا، ولكنه لم يأكل معهم جريا على عادة المصريين الذين يعتبرون الأكل مع العبرانيين نجاسة، وأخبروا خادما ليوسف أنهم عادوا بالفضة ثمن الطعام سابقا، وبفضة أخرى لشراء القمح.
حيلة يوسف في إبقاء أخيه عنده:
أمر يوسف بتجهيز إخوته من الطعام، وأمر أن توضع فضة كل واحد في عدله، وأن يوضع صواع الملك في رحل أخيه بنيامين، وعند ما عزموا على المسير، نودوا بأنهم سرقوا سقاية الملك، وأن من سرقه فهو فداؤه في قانون الملك. ففتشت أعدالهم، ثم أخرج الصواع من عدل بنيامين، فتوسطوا لدى الملك واسترحموا أن يأخذ أحدهم بدلا عنه لأن له أبا شيخا كبيرا، فأبى، فقالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرها يوسف في نفسه، وقال لهم: أنتم شرّ مكانا من هذا السارق.
وسرقة يوسف المزعومة:
أن أمه ماتت وهو صغير، فكفلته عمته، ولما أراد أبوه أن يأخذه منها، ألبسته منطقة لإبراهيم كانت عندها، وأخفتها تحت ثيابه، ثم أظهرت أنها سرقت منها، ثم أخرجتها من تحت ثيابه، وطلبت بقاءه عندها يخدمها مدة، جزاء له بما صنع.(12/194)
فلما قدم إخوة يوسف على أبيهم يعقوب ما عدا أكبرهم وأصغرهم، أخبروه بما حدث، فازداد حزنا حتى ابيضت عيناه، وتذكر يوسف فقال: يا أسفا على يوسف.
تعارف الإخوة ولقاء الأسرة:
ثم جاء إخوة يوسف إلى مصر في المرة الثالثة، وطلبوا إمدادهم بالطعام، لما تعرضوا له من الضرّ (الجوع) قائلين: وجئنا ببضاعة مزجاة أي قليلة، كما طلبوا إطلاق سراح أخيهم، فذكرهم يوسف بإساءتهم القديمة قائلا: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ، إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فعرفوا أنه يوسف: قالُوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ: أَنَا يُوسُفُ، وَهذا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ...
وأعطاهم قميصه لإلقائه على وجه أبيهم، والإتيان بأهله أجمعين إليه، فلما وصلوا فلسطين ألقوا القميص على وجه يعقوب، فارتد بصيرا، وبشره البشير بسلامة يوسف وأخيه.
فجاء يعقوب وآله إلى مصر، فآوى يوسف إليه أبويه: يعقوب وزوجه خالة يوسف، لموت أمه وهو صغير، وسجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر سجود تحية وتعظيم، لا سجود عبادة، وتلك هي تأويل رؤياه السابقة بسجود أحد عشر كوكبا له مع الشمس والقمر، وكان هذا اللقاء فرحة كبري للأسرة برئاسة يعقوب، استوجبت من يوسف إعلان شكر الله تعالى على نعمه عليه، من العلم والملك، وطلب من الله تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة، وأن يتوفاه مسلما أي مطيعا لله، غير عاص، وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء.
العبر والعظات المستفادة من قصة يوسف:
يمكن استخلاص عبر كثيرة وعظات عديدة، وأخلاق وفضائل سامية من قصة يوسف عليه السّلام، منها:(12/195)
1- قد تؤدي النقمة إلى النعمة، فقد بدأت قصة يوسف بالأحزان والمفاجآت المدهشة، من الإلقاء به في البئر، ثم بيعه عبدا لرئيس شرطة مصر، ثم كانت محنته الشديدة مع النساء، فزجّ به في غياهب السجون، ثم آل الأمر به إلى أن يصبح حاكم مصر الفعلي.
2- قد توجد ضغائن وأحقاد بين الإخوة ربما تدفع إلى الموت أو الهلاك.
3- كانت نشأة يوسف في بيت النبوة نشأة صالحة، تربى فيها على الأخلاق الكريمة، والخصال الرفيعة، فشب على تلك الأوصاف الكاملة التي ورثها من آبائه وأجداده الأنبياء، وقد أفاده ذلك في مختلف الأحداث الكبرى التي مرا، وانتصر بها على المحن، وجاءه الفرج بعد الشدة، والعز والنصر بعد الذل والانكسار.
4- إن العفة والأمانة والاستقامة مصدر الخير كله، للرجال والنساء، على حدّ سواء، وإن الاستمساك بالدين والفضيلة مصدر الاحترام وحسن السمعة، وإن الحق وإن استتر زمنا لا بدّ من أن يظهر ولو بعد حين.
5- إن مثار الفتنة هو خلوة الرجل بالمرأة، لذا حرمها الإسلام، وحرم سفر المرأة لمسافة قصيرة بغير محرم، ولو بوسائط النقل السريعة الحديثة، لما يطرأ لها من عثرات ومضايقات ملحوظة ومشكلات تصاحب الأسفار، ثبت في الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» .
6- الإيمان بالمبدأ، وصلابة الاعتقاد سبيل لتخطي الصعاب، والترفع عن الدنايا، وذلك هو الذي جعل ليوسف نفسا كريمة، وروحا طاهرة، وعزيمة صماء لا تلين أمام الشهوات والمغريات.
7- الاعتصام بالله عند الشدة، واللجوء إليه عند الضيق، فلم يأبه يوسف(12/196)
عليه السّلام بتوعد امرأة العزيز له بالسجن، وإنما لجأ إلى الله قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
8- المحنة لا تثني المؤمن عن واجبه في الدعوة إلى الله تعالى، فإن يوسف عليه السّلام بالرغم من كونه في السجن، انتهز فرصة تأويل رؤيا سجينين معه، فبادر إلى الدعوة إلى التوحيد ودين الله، لعل الموجودين معه يؤمنون بدعوته، وقد أسلم فعلا الملك، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال.
9- الفطنة لاستغلال الأحداث والاتصاف بالإباء والشمم، فلم يبادر يوسف عليه السّلام إلى الخروج من السجن، حتى تعلن براءته، وتظهر طهارته، وشرف نفسه، حتى لا يوصف بأنه مجرم، أودع السجون بجرمه.
10- إظهار فضيلة الصبر، فقد كان يوسف متدرعا بدرع الصبر على الأذى، لاجتياز العقبات والصعاب والمصائب التي تعرّض لها وهي ما ذكر، والصبر مفتاح الفرج، ونصف الإيمان، وطريق تحقيق النصر، وقد نصره الله كما نصر باقي الرسل بعد الاستيئاس. وتوّج نصره بالعفو عن إخوته وكرمه في العفو الذي أصبح مضرب الأمثال، حتى قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ....
11- أسفرت قصة يوسف عن براءته المطلقة، كبراءة الذئب من دمه، فقد تضافرت شهادات عديدة على براءته، كما ذكر الرازي «1» :
أولها- شهادة رب العالمين: فقد شهد الله تعالى ببراءته عن الذنب بقوله:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهد تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات، بقوله: لِنَصْرِفَ.. واللام للتأكيد
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 116 وما بعدها.(12/197)
والمبالغة، وقوله: وَالْفَحْشاءَ وقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا وقوله:
الْمُخْلَصِينَ.
وثانيها- شهادة الشيطان ببراءته بقوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 38/ 82] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف من المخلصين، للآية السابقة.
وثالثها- شهادة يوسف عليه السّلام بقوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقوله: رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
ورابعها- شهادة امرأة العزيز: فإنها اعترفت ببراءته وطهارته، فقالت للنسوة: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَاسْتَعْصَمَ وقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
وخامسها- الشهود من أهل العزيز: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، فَكَذَبَتْ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ.. الآية.
وسادسها- شهادة النسوة اللائي قطّعن أيديهن بقولهن: ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ.
كل تلك الشهادات قاطعة ببراءة يوسف عليه السّلام، فمن أراد أن يتهمه بالهمّ على السوء- علما بأن الهمّ أمر نفسي لا عقاب عليه- فهو من دعاة السوء، وأهل الجهالة والغباوة، وأدنى من الشيطان الذي شهد كما أوضحنا بطهارة يوسف.
12- أرشدت قصة يوسف إلى أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدر الله تعالى، وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة، لم يمنعه عنه أحد ولو اجتمع العالم عليه.(12/198)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
13- دلت القصة على أن الحسد سبب للخذلان والخسران.
14- الصبر مفتاح الفرج، فإن يعقوب عليه السّلام لما صبر فاز بمقصوده، وكذلك يوسف عليه السّلام لما صبر فاز كما تقدم بيانه.
عربية القرآن ومنزلة القصص القرآني
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
الإعراب:
تِلْكَ آياتُ.. مبتدأ وخبر.
قُرْآناً حال من هاء. أَنْزَلْناهُ أي أنزلناه مجموعها. وكذلك عَرَبِيًّا حال أخرى.
أَحْسَنَ الْقَصَصِ أَحْسَنَ منصوب نصب المصدر لأنه مضاف إلى المصدر، وأفعل:
إنما يضاف إلى ما هو بعض له، فينزل منزلة المصدر، فصار بمنزلة قولهم: سرت أشدّ السير، وصمت أحسن الصيام. هذَا الْقُرْآنَ هذَا مفعول به، والْقُرْآنَ بدل أو عطف بيان أو نعت.
وَإِنْ كُنْتَ إن مخففة من الثقيلة، واللام: هي التي تفرق بينها وبين النافية، وضمير قَبْلِهِ راجع إلى قوله بِما أَوْحَيْنا والمعنى: وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه.(12/199)
البلاغة:
تِلْكَ آياتُ أشار إلى القرآن بالعبيد لبيان علو منزلته وبعد مرتبته في الكمال.
المفردات اللغوية:
الر البدء بالحروف المقطعة إشارة إلى إعجاز القرآن، فمن هذه الحروف العربية الأبجدية ونحوها التي تكونت منها لغة العرب، تألفت آيات الكتاب المعجز، كما بينا في أول سورة البقرة وآل عمران وغيرهما من السور المتقدمة.
تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة. الْكِتابِ الْمُبِينِ أي السورة، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو الواضحة معانيها لنزولها بلسان العرب، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله، لا من عند البشر.
والْمُبِينِ الموضّح المفصل ما يريد. أَنْزَلْناهُ أي الكتاب الذي فيه قصة يوسف. قُرْآناً عَرَبِيًّا مجموعا بلغة العرب، وسمي بعض القرآن قرآنا لأن القرآن اسم جنس، يقع على كله وبعضه، وصار علما للكل بالغلبة. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ علة لإنزاله بهذه الصفة، أي أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه.
الْقَصَصِ إما مصدر بمعنى الاقتصاص، وإما اسم مفعول بمعنى المقصوص من الخبر والأحاديث. وقص الخبر: حدثه على وجهه الصحيح. وأَحْسَنَ الْقَصَصِ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر.
بِما أَوْحَيْنا أي بإيحائنا إليك هذا القرآن، يعني السورة لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة، الجاهلين بها، فلم يكن لك فيها علم قط، ولا عرفت شيئا منها.
سبب النزول: نزول الآية (3) :
نَحْنُ نَقُصُّ: روى ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا:
يا رسول الله، لو قصصت علينا؟ فنزلت: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.
التفسير والبيان:
تشبه فاتحة هذه السورة فاتحة سورة يونس، لكن وصف القرآن هنا بالمبين(12/200)
وهناك بالحكيم، والسبب أن سورة يوسف تعبر عن أحداث جسام مرّ بها نبي كريم صبور فناسبها الوصف بالبيان، وأما سورة يونس فموضوعها إثبات أصول الدين من توحيد الله، وإثبات الوحي والنبوة، والبعث والجزاء، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.
والمعنى: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب، وهذا تفسير الزمخشري. وقال أبو حيان: والظاهر أن المراد بالكتاب: القرآن، والْمُبِينِ إما البيّن في نفسه، الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، وأما المبين الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وما يحتاج إليه من أمر الدين، أو المبين الهدى والرشد والبركة.
وعلى أي حال، فإن الكتاب اسم جنس يطلق على البعض وعلى الكل، فسواء قلنا: إن المراد به هذه السورة، أو كل القرآن، فالمقصود إثبات صفة القرآن، وصفاته لا تختلف بين السور جميعها، فكلها واضحة جلية تفصح عن أشياء مبهمة، وآياتها تبين وتفسر غوامض الأمور، وتوضح أحكام الشريعة، وترشد إلى ما هو خير في الدنيا والآخرة.
قال القرطبي وابن كثير: هذه آيات الكتاب وهو القرآن المبين، أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها، يعني بالكتاب المبين:
القرآن المبين، أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه، وهداه وبركته.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ.. أي إنا أنزلنا هذا القرآن على النبي محمد العربي، بلغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، لتتعلموا ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار، وآداب وأخلاق، وأحكام وتشريعات، ومناهج حياة سليمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد وشؤون الدولة، ولتتدبروا ما فيها من معان وأهداف،. تبني الفرد والجماعة على أقوم الأسس.(12/201)
قال ابن كثير: فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة، فكمل من كل الوجوه.
ولهذا قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ.. أي نحن نخبرك بأحسن الأخبار، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن، الذي جاء تاما كاملا مفصلا كل شيء، وجاءت قصة يوسف كاملة تامة مفصلة ذات أهداف سامية وعبر كثيرة. وإن كنت من قبل ما أوحينا أي من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عما عرفناك به، أي من الجاهلين به، فلا علم لك به قط، شأنك شأن قومك، لا يعلمون من قصص الماضين وأخبارهم شيئا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- القرآن الكريم كتاب مبين، أوضح الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والشرائع والأخلاق، ليكون هدى للعالمين، وبركة وخيرا للناس أجمعين، فهو معجزة بيّنة لمحمد صلى الله عليه وسلّم.
2- القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين، يقرأ بلغة العرب، فكان معشر العرب أولى الناس بالإيمان به، وفهم ما فيه، وتعلم معانيه.
3- القرآن بيان جلي متضمن أحسن القصص، وأثبت الأخبار، وأجدى الآثار وتواريخ الأمم الماضية. والمراد بأحسن القصص: أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب، أي أن المراد من الحسن حسن البيان وكون الألفاظ بالغة بالفصاحة حد الإعجاز.
4- قصة يوسف عليه السّلام أحسن القصص، والسبب في تسمية هذه(12/202)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص هو ما تضمنته هذه القصة من العبر والحكم، وما اشتملت عليه من التوحيد والفقه والسّير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجميل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجنّ والإنس، والأنعام والطير، وأخبار الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهّال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن.
فهي قصة جامعة شاملة للدين والدنيا والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية الملأى بالعبر والعظات، ولعل من أهمها الصبر على الأذى والعفو عند المقدرة.
الفصل الأول من قصة يوسف عليه السّلام رؤيا يوسف وتعبير يعقوب الرؤيا
[سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
الإعراب:
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ إِذْ في موضع نصب على الظرف، وعامله (الغافلين) وهو(12/203)
بدل اشتمال من أَحْسَنَ الْقَصَصِ لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، أو بإضمار «اذكر» .
ويُوسُفُ ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة، ووزنه يفعل، وليس في كلام العرب يفعل.
يا أَبَتِ من قرأ بكسر التاء، جعلها بدلا عن ياء الإضافة، ويوقف عليها بالهاء عند سيبويه لأنه ليس ثمّ «ياء» مقدرة. وذهب الفراء إلى أن الياء في النّية، والوقف عليها بالتاء، وعليه أكثر القراء اتباعا للمصحف.
ومن قرأ بفتح التاء ففيه وجهان: إما أصله «يا أبتي» فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف فصارت يا أَبَتِ. وإما أنه محمول على قول من قال: يا طلحة بفتح التاء، كأنه قد رخّم، ثم ردّ التاء وفتحها، تبعا لفتح الحاء، فقال:
يا طلحة.
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ أجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء لأن السجود من صفات من يعقل، فوصفها بصفات من يعقل. وساجِدِينَ حال من الهاء والميم في رَأَيْتُهُمْ.
فَيَكِيدُوا منصوب بأن مضمرة، وعدي باللام مع أنه متعد بنفسه، لتضمينه معنى فعل يتعدى باللام، للتأكيد والمبالغة في التخويف.
البلاغة:
إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. فيها استعارة لأن الكواكب والمذكور معها مما لا يعقل، فكان الأصل أن يقال: ساجدة، فلما وصفها بصفات العقلاء وهو السجود، أطلق عليها فعل من يعقل على طريق الاستعارة.
كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ أي ذكر، أو بدل من أَحْسَنَ الْقَصَصِ بدل اشتمال إن جعل أَحْسَنَ مفعولا به لِأَبِيهِ هو يعقوب،
روى أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» .
إِنِّي رَأَيْتُ في المنام من الرؤيا لا من الرؤية. أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً هم إخوة يوسف، وكانوا أحد عشر، والشمس والقمر: أبوه(12/204)
وأمه. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ إما تأكيد، أو استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرار.
وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم، وهو السجود الذي هو من صفات العقلاء. والسجود المراد هنا: هو الانحناء، مبالغة في الاحترام، وليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لا يكون إلا بنية التقرب لمن يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق السلطان المعتاد.
لا تقصص رؤياك قص الرؤيا: الإخبار بها، والرؤيا كالرؤية، غير أنها مختصة بما يكون في النوم، ففرق بينهما، بتاء التأنيث المربوطة، كالقربة والقربى. والرؤيا: انطباع الصورة المنحدرة من الخيال إلى الحس المشترك، فتصير مشاهدة. فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً يحتالون في هلاكك حسدا.
عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الاجتباء.
يَجْتَبِيكَ يختارك ويصطفيك، أي وكما اجتباك ربك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام. وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا: أي الإخبار بما يؤول إليه الشيء في الوجود، وسميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها، وتعبير الرؤيا يميز بين أحاديث الملك الصادقة وبين أحاديث النفس والشيطان الكاذبة.
وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة. وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي أهله وأولاده. والآل: خاص بمن لهم شرف وخطر. كَما أَتَمَّها بالنبوة. مِنْ قَبْلُ اي من قبلك أو من قبل هذا الوقت.
عَلِيمٌ بخلقه وبمن يستحق الاجتباء. حَكِيمٌ في صنعه بهم، يفعل الأشياء على ما ينبغي.
المناسبة:
هذا شروع في بيان أحسن القصص، وهذه بداية مثيرة مجملة في حلقات أو فصول قصة يوسف، تجتذب ذهن القارئ والسامع لتعرف ما هو المصير، وكيف يتم حل اللغز المبهم المبدوء بقصّ يوسف رؤياه الغريبة على أبيه وهو صغير، وما أجابه به، من إخفاء الرؤيا على إخوته حتى لا يحسدوه ويكيدوا له وهذا.
الأسلوب يحتذيه واضعو القصص، إذ يبدءون القصة بلغز أو نبأ مثير، ثم يتدرجون في حل اللغز وبيان أبعاد النبأ وحقيقته.
هل أبناء يعقوب أنبياء؟
يفسر بعض المفسرين الأسباط في آية قُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا(12/205)
وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ
[البقرة 2/ 136] بأنهم إخوة يوسف وأنهم أنبياء. والصحيح كما ذكر ابن كثير أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب، وإنما هم القبائل من ذرية يعقوب لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم: الأسباط، كما يقال للعرب قبائل، وللعجم شعوب «1» .
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لقومك قصة يوسف حين قال لأبيه يعقوب: إني رأيت في منامي أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر تسجد لي، سجود احترام وانحناء وخضوع وتواضع، لا سجود عبادة، وقد وصف فعل غير العاقل بوصف العاقل وهو السجود، للدلالة على أنها رؤيا إلهام، لا مجرد أضغاث أحلام. قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي. والرؤيا الصالحة جزء من النبوة، ونوع من الإخبار بالغيب إذ رآها صالح وتأولها عالم صالح. وتكون بارتسام الوقائع على الروح الصافية، وتظهر غالبا موافقة لحديث النفس.
والأحد عشر كوكبا هم إخوته الأحد عشر نفرا، والكواكب هم الإخوة، والشمس والقمر أبوه وأمه. وهذا رأي جماعة من المفسرين لأن الكواكب لا تسجد في الحقيقة، فيحمل الكلام على الرؤيا، ولقول يعقوب عليه السّلام:
لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ.
وذكر ابن جرير الطبري عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلّم رجل من يهود، يقال له: بستانة اليهودي، فقال له: يا محمد، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له، ما أسماؤها؟ قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم ساعة، فلم يجبه بشيء، ونزل عليه جبريل عليه السّلام، فأخبره بأسمائها، قال: فبعث
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 469- 470(12/206)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليه، فقال «هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟» فقال:
نعم، قال: «جريان، والطارق والذيال، وذو الكنفات، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، ودو الفرغ، والضياء والنور» فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها «1» .
قالَ: يا بُنَيَّ.. قال يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا المتضمنة خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه إجلالا واحتراما وإكراما:
لا تخبر إخوتك بما رأيت، حتى لا يحسدوك، ويحتالوا لك حيلة توقعك في مكروه، فإن الشيطان عدو لآدم وبنيه، ومن دأبه إيقاع الفتنة بين الناس، كما قال يوسف نفسه: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف 12/ 100] .
وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأى أحدكم ما يحب، فليحدّث به، وإذا رأى ما يكره، فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره» «2» .
وروى الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر، فإذا عبرت وقعت» .
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ.. أي كما اختارك ربك، وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، يختارك لنفسه ويصطفيك لنبوته على آلك وغيرهم، ويعلمك تعبير الرؤيا.
وتعبير الرؤيا: الإخبار بما تؤول إليه في الوجود. وتعليم الله يوسف التأويل:
__________
(1) ورواه البيهقي في الدلائل عن الحكم بن ظهير، والحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما، وابن أبي حاتم في تفسيره (تفسير ابن كثير: 2/ 468) لكن الحكم بن ظهير ضعيف.
(2) رواه البخاري عن أبي سلمة.(12/207)
إلهامه الصواب فيها، أو صدق الفراسة، كما قال يوسف لأبيه: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف 12/ 100] وقال لصاحبي السجن: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف 12/ 37] وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... أي بإرسالك والإيحاء إليك، وعلى آل يعقوب، أي أبيك وإخوتك وذريتهم، وآل الإنسان: أهله، وهو خاص بمن لهم مجد وشرف، كآل النبي صلى الله عليه وسلّم.
كَما أَتَمَّها.. أي كإتمام تلك النعمة من قبل هذا الوقت على جدك إسحاق، وجد أبيك إبراهيم، وقدم إبراهيم لأنه الأشرف، إن ربك عليم بخلقه وبمن يستحق الاجتباء والاصطفاء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، كما في آية أخرى، حكيم في صنعه وتدبيره، يفعل الأشياء على ما ينبغي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- رؤيا الأنبياء حق، ورؤيا الصالحين جزء من النبوة، والكواكب هي إخوة يوسف، والشمس والقمر أبوه وأمه، وهذا هو الأصح. قال الحكماء: إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين.
والرؤيا حالة شريفة ومنزلة رفيعة،
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «لم يبق بعدي من المبشّرات: الرؤيا الصالحة الصادقة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له»
وقال في رواية لحديث عند الشيخين عن أبي هريرة: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا»
وحكم صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة
، وهو أصح الروايات.
وإنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة لأن فيها ما يعجز ويمتنع، كالطيران،(12/208)
وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب. والرؤيا الصادقة من الله، وهي التي خلصت من الأضغاث «1» والأوهام،
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان» .
والتصديق بالرؤيا الصالحة حق.
أما رؤيا الكافر والفاجر والفاسق والكاذب، وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب، يكون خبره ذلك نبوة. ومن المعلوم أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك نادر وقليل، فكذلك رؤيا هؤلاء.
وحقيقة الرؤيا: هي إدراك حقيقة في أثناء النوم، وأكثر ما تكون في آخر الليل، لقلة غلبة النوم، وتسمى أحلام اليقظة، فيخلق الله للرائي علما ناشئا.
ولا يرى الرائي في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، فلا يرى المستحيل، وإنما يرى الجائزات المعتادات. ويمثل الله في الرؤيا للرائي صورة محسوسة، قد توافق الواقع، وقد تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين قد تكون مبشّرة أو منذرة.
2- لا تقص الرؤيا على غير عالم ولا محب ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها،
أخرج الترمذي حديثا: «الرؤيا معلّقة برجل طائر، ما لم يحدّث بها صاحبها، فإذا حدّث بها وقعت، فلا تحدّثوا بها إلا عاقلا أو محبّا أو ناصحا» .
3- يطلب كتمان النعمة أمام من تخشى غائلته حسدا وكيدا، حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث أخرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن عمر:
«استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود» .
__________
(1) سميت الرؤيا الكاذبة أو الحلم ضغثا لأن فيها أشياء متضادة، وهي من الشيطان.(12/209)
4- يباح أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة لأن يعقوب (إسرائيل) عليه السّلام قد حذّر يوسف عليه السّلام أن يقص رؤياه على إخوته، فيكيدوا له كيدا.
5- في الآية دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السّلام بتأويل الرؤيا، فإنه عرف أن يوسف سيظهر على إخوته، فسّره ذلك ودل على أن محبته له كانت مبنية على مقومات فيه، والرجل يودّ أن يكون ولده خيرا منه، أما الأخ فلا يودّ ذلك لأخيه.
ودلت الآية أيضا على أن يعقوب عليه السّلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه، فنهاه عن قص الرؤيا عليهم خوف المكيدة والحسد، والعمل على هلاكه. ودل هذا وفعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء لأن الأنبياء معصومون من الحسد الدنيوي، ومن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، وتآمر على قتله.
6- اشتمل كلام يعقوب مع ابنه يوسف على عدة بشائر، فأخبره أنه كما أكرمه الله بالرؤيا، فإن الله يجتبيه ويحسن إليه بتحقيق الرؤيا، بالسجود له.
والاجتباء: اختيار معالي الأمور للمجتبى، ويعلمه كيفية تعبير الرؤيا وتأويل أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، وهي إشارة إلى النبوة، ويتم نعمته عليه بالنبوة، كما أتم تلك النعمة على أجداده: إسحاق وإبراهيم، فجعل الله إبراهيم خليلا ونبيا ونجاه من النار، وجعل إسحاق نبيا أيضا، وفي قول غير راجح: إنه الذبيح، والنعمة: الذبح.
والخلاصة: إن القول الصحيح في تفسير النعمة على يوسف وغيره هي النبوة لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها. وإن يعقوب وعد يوسف بدرجات ثلاث: هي الاجتباء أو الاصطفاء، وتعبير الرؤيا أو تأويلها، والنبوة(12/210)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
الفصل الثاني من قصة يوسف يوسف وإخوته
- 1- اتفاقهم على إلقائه في البئر
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 10]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
الإعراب:
آياتٌ لِلسَّائِلِينَ آياتٌ جمع آية، وآية على وزن «فعلة» بكسر العين، فتقلب العين ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصير آية «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ» مبتدأ وخبر.
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ مبتدأ وخبر، والواو حالية.
أَرْضاً منصوب على أنه ظرف مكان، وتعدّى إليه. اطْرَحُوهُ وهو لازم لأنه ظرف مكان مبهم، وليس له حدود بحصره ولا نهاية تحيط به، لأنه نكرة، فنصبت كالظروف المبهمة. أو انتصب على إسقاط حرف الجر.
يَخْلُ لَكُمْ جواب الأمر. وَتَكُونُوا مجزوم بالعطف على يَخْلُ أو منصوب بإضمار أن.(12/211)
المفردات اللغوية:
فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في خبرهم وقصتهم، وهم أحد عشر وإخوته العشر هو: يهوذا، وروبيل، وشمعون، ولاوي، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر.
والسبعة الأولون كانوا من «ليا» بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سرّيّتين (أمتين) :
زلفة وبلهة، فلما توفيت «ليا» تزوج يعقوب أختها «راحيل» فولدت له بنيامين ويوسف «1» .
لآيات عبر، أو علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لمن سأل عنهم وعرف قصتهم، والظاهر أنها الدلالات على صدق الرسل. لِلسَّائِلِينَ عن خبرهم. إِذْ قالُوا اذكر حين قال بعض إخوة يوسف لبعضهم. وَأَخُوهُ بنيامين. عُصْبَةٌ جماعة رجال ما بين الواحد والعشرة. لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ خطأ بيّن، بإيثارهما علينا وتفضيله المفضول، أو لترك العدل في المحبة. روي أن يوسف كان أحب إلى أبيه، لما يرى فيه المخايل، وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، بحيث لم يصبر عنه، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له.
اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة المحكي بعد قوله: إذ قالوا، كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال: لا تقتلوا يوسف. أَرْضاً أي بأرض بعيدة من العمران. يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يصف لكم، فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم. مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف أو من بعد قتله أو طرحه.
صالِحِينَ تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم، بأن تتوبوا، أو صالحين مع أبيكم، أو في أمر دنياكم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا، وقيل: روبيل لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن القتل عظيم. وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ في قعره سمي به لغيبوبته عن أعين الناظرين. السَّيَّارَةِ المسافرين، الذين يسيرون في الأرض. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما أردتم من التفريق بينه وبين أبيه، أو فاعلين بمشورتي، فاكتفوا بذلك.
المناسبة:
هذه بداية قصة يوسف مع إخوته، بعد أن قدم الله تعالى لها بمقدمتين:
الأولى- وصف القرآن، وأنه تنزيل من عند الله بلسان عربي مبين، دال على رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم، ورتب عليه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. والثانية- الكلام على رؤيا يوسف وتأثيرها في نفس يعقوب، وبنى عليها العبرة منها وهي يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا.
__________
(1) الكشاف: 2/ 124(12/212)
التفسير والبيان:
تالله، لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه عبرة ومواعظ للسائلين الذين سألوا عنهم، دالة على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لكل سائل عن أحداث القصة، ودالة على صدق الرسول يوسف وغيره، وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها، حتى قام بحق الأمانة «1» . فذلك خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه.
إنه لعبرة حين قالوا: والله ليوسف وأخوه بنيامين شقيقه أحب إلى أبينا منا، فهو يفضلهما علينا في الحب، وهما صغيران، ونحن جماعة عشرة رجال.
حلفوا فيما يظنون، وأَحَبُّ أفعل تفضيل أي أكثر حبا منا. والعصبة:
ما بين الواحد إلى العشرة.
إن أبانا لفي خطأ واضح مجاف الصواب في ذلك، بإيثار يوسف وأخيه علينا بالمحبة، وتركه العدل والمساواة في المحبة، فكيف يفضّل صغيرين ضعيفين لا كفاية فيهما ولا منفعة، على رجال أشداء، نقوم بكل ما يحتاج إليه من منافع معاشية ودفاعية، وكيف يحب الاثنين أكثر من الجماعة؟! وهذا في الحقيقة خطأ منهم لا من أبيهم لأن يوسف وأخاه صغيران يتيمان ماتت أمهما، ولأنه كان يرى في يوسف إرهاصات النبوة والعقل والحكمة، وتأكد توقعه بما فهم من رؤياه.
ومع ذلك يطلب الاحتياط في معاملة الأولاد والتسوية بينهم في المحبة والمعاملة ولو في القبلة، وتجنب ما يثير التحاسد والتباغض بينهم، كما
أوصى النبي
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 282(12/213)
صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن النعمان بن بشير: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»
وما يرويه الطبراني عن النعمان بن بشير أيضا: «اعدلوا بين أولادكم في النّخل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف» .
ثم ذكر الله تعالى مؤامرتهم بقوله: اقْتُلُوا.. أي ومما قالوا، أي قال بعض إخوة يوسف لبعض: اقْتُلُوا يُوسُفَ حسما للمشكلة، أو انبذوه في أرض مجهولة عن العمران، فلا يستطيع الرجوع إلى أبيه، فإن فعلتم ذلك تستريحوا منه، ويصف لكم وجه أبيكم، وتخلوا أنتم مع أبيكم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، وتكونوا من بعد يوسف أو بعد قتله أو طرحه أرضا قوما تائبين إلى الله مما جنيتم عليه، أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه، أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده، بخلوّ وجه أبيكم، فيرضى عنكم ربكم وأبوكم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ... أي قال أكبرهم وهو يهوذا، وقيل: روبيل:
لا تقدموا على قتله، فإن القتل جريمة عظيمة، وهو أخوكم، ولكن ألقوه في أسفل البئر، يلتقطه بعض المسافرين الذين يسيرون في الأرض للتجارة، فتستريحوا منه بهذا، ويتحقق غرضكم وهو إبعاده عن أبيه، ولا حاجة إلى قتله، إن كنتم فاعلين، أي عازمين على ما تقولون، وفاعلين ما هو الصواب، فهذا هو الرأي.
وقوله: اقْتُلُوا يُوسُفَ فيه حذف، أي قال قائل منهم: اقتلوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- في قصة يوسف وإخوته دلالة على صدق الرسل، وعبرة تمخضت عنها(12/214)
وهي التنبيه على عاقبة البغي والحسد، وفضيلة ضبط النفس، والتصديق بتعبير الرؤيا وصحة تأويلها إن كانت من نبي أو عالم ناصح.
2- لقد دفع التباغض والتحاسد والغيرة إخوة يوسف على تدبير مؤامرة لقتله أو إلقائه في بادية بعيدة عن الناس حتى يهلك، أو يأخذه بعض التجار المسافرين ويتملكونه لأن خبر المنام بلغهم، فتآمروا على كيده، أو لمجرد الغيرة الشديدة من عاطفة أبيهم نحو يوسف وأخيه.
3- إن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد، ويورث الآفات، لكن يعقوب عليه السّلام العالم بذلك لم يفضل ولديه يوسف وأخيه إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر، فكان معذورا فيه، ولا لوم عليه.
4- دل قوله: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ أي تائبين، بأن تحدثوا توبة بعدئذ، فيقبلها الله منكم، وهو دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم، كما ذكر القرطبي «1» .
5- علق محمد بن إسحاق على مؤامرة أولاد يعقوب على أخيهم يوسف فقال فيما رواه ابن أبي حاتم: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه، على كبر سنه، ورقة عظمه، مع مكانه من الله، ممن أحبه طفلا صغيرا، وبين الأب وابنه على ضعف قوته، وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده، وسكونه إليه، يغفر الله لهم، وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 131
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 470(12/215)
6- أفعال إخوة يوسف المتقدمة تدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، لا أولا ولا آخرا لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. ومما يرد قول من قال إنهم أنبياء: أن الأنبياء معصومون من الكبائر. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء، ثم نبأهم الله «1» وقد سبق بيان الرأي الأصح في هذا عن ابن كثير وغيره.
حكم الالتقاط:
الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، ومنه اللقيط واللّقطة. أما اللقيط:
فالأصل فيه الحرية، لغلبة الأحرار على العبيد، فهو قضاء بالغالب، وهو مسلم أخذا بالغالب أيضا، فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون، قال ابن القاسم، يحكم بالأغلب فإن وجد عليه زيّ اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زيّ النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام.
وقال غير ابن القاسم: لو لم يكن في القرية إلا مسلم واحد، قضي للقيط بالإسلام، تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو، ولا يعلى عليه.
أما النفقة عليه: فقال أبو حنيفة: إذا أنفق الملتقط على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم.
وقال مالك: إذا أنفق عليه الملتقط، ثم أقام رجل البينة أنه ابنه، فإن الملتقط يرجع على الأب، إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه، ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة.
وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 133(12/216)
يكن ففيه قولان: أحدهما- يستقرض له في ذمته. والثاني- يقسط على المسلمين من غير عوض.
والخلاصة: اتفق العلماء على أنه إذا لم يكن للقيط مال: إن شاء تبرع الملتقط بالإنفاق عليه، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم، لينفق منه على حساب بيت المال المعدّ لحوائج المسلمين. وإن كان للقيط مال، بأن وجد معه مال، فتكون النفقة من مال اللقيط لأنه غير محتاج إليه.
ولو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه: فإن أنفق بإذن القاضي، فله أن يرجع على الملتقط بعد بلوغه، وإن أنفق بغير إذن القاضي، يكون متبرعا، ولا يرجع على اللقيط بشيء.
وأما اللقطة والضّوال- وهما بمعنى واحد على الأصح «1» - فأجمع العلماء على أنها ما لم تكن تافها يسيرا، أو شيئا لا بقاء لها، فإنها تعرّف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول، وأراد صاحبها أن يضمّنه، فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخيّر بين التضمين وبين الرضا بالثواب أو الأجر على التصدق بها، وليس لملتقطها التصدق بها أو التصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالّة الغنم المخوف عليها، له أكلها.
وللعلماء آراء في الأفضل من ترك اللقطة أو أخذها، فقال المالكية: إن شاء أخذها وإن شاء تركها، ونقل عن مالك وأحمد كراهة الالتقاط، ودليلهم حديث أصحاب الكتب الستة عن زيد بن خالد الجهني في الشاة: «هي لك أو
__________
(1) وقيل: إن الضالة لا تكون إلا في الحيوان، واللقطة في غير الحيوان، وأنكر أبو عبيد القاسم بن سلّام ذلك.(12/217)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
لأخيك، أو للذئب» ولا تلزم صاحبها بيّنة عندهم وعند الحنابلة، ويكفي بيان علاماتها، من وعاء ووكاء مثلا.
وذهب الحنفية، والشافعية في الأصح إلى أنه يجوز الالتقاط، لحفظ اللقطة لصاحبها، صيانة لأموال الناس، ومنعا من ضياعها ووقوعها في يد خائنة.
ولكن لا تدفع لصاحبها إلا إذا أقام البينة أنها له.
وكذلك للعلماء آراء في النفقة على الضوال، فقال المالكية: للملتقط الرجوع بالنفقة على صاحبها، سواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يرجع الملتقط بشيء من النفقة، لأنه متطوع.
وكذا قال الحنفية: إن أنفق الملتقط على اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع أو متطوع، وإن أنفق عليها بإذن الحاكم، كان ما ينفقه دينا على المالك، فيرجع عليه.
وأما تملك اللقطة بعد تعريفها سنة، فقال الحنفية: إذا كان الملتقط غنيا، لم يجز له أن ينتفع باللقطة، وإنما يتصدق بها على الفقراء، وإذا كان فقيرا فيجوز له الانتفاع بها بطريق التصدق،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البزار والدارقطني عن أبي هريرة: «فليتصدق به» .
وقال الجمهور: يجوز للملتقط أن يتملك اللقطة، وتكون كسائر أمواله، سواء أكان غنيا أم فقيرا، فإن عرف صاحبها في المستقبل ضمنها له.
- 2- تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم وتدليسهم الأمر على أبيهم
[سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 18]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)(12/218)
الإعراب:
تَأْمَنَّا: أصله: تأمننا، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، فاستثقلوا اجتماعهما فسكنوا الأول منهما وأدغموه في الثاني، وبقي الإشمام يدل على ضمة الأولى. والإشمام: ضم الشفتين من غير صوت، وهذا يدركه البصير دون الضرير.
يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ العين في يَرْتَعْ ساكنة للجزم على وزن «يفعل» ، ويقرأ بكسر العين، وأصله يرتعي على وزن يفتعل، من الرّعي، إلا أنه حذفت الياء للجزم.
أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ أن الأولى وصلتها: في تأويل مصدر فاعل لَيَحْزُنُنِي وأن الثانية وصلتها: في تأويل مصدر مفعول أَخافُ. والواو في قوله وَنَحْنُ عُصْبَةٌ للحال.
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ.. جواب «لما» محذوف، وتقديره: فلما ذهبوا به حفظناه.
عِشاءً أي ليلا، وهو ظرف في موضع الحال.
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ: إما مبتدأ وخبره محذوف، أي فصبر جميل أمثل من غيره، أو خبر مبتدأ محذوف، أي فصبري صبر.(12/219)
البلاغة:
بِدَمٍ كَذِبٍ الدم لا يوصف بالكذب، والمراد: بدم مكذوب فيه، وجيء بالمصدر على طريق المبالغة.
المفردات اللغوية:
لَناصِحُونَ لقائمون بمصالحه، والناصح: المشفق المحب للخير، أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير، أرادوا استنزاله عن رأيه في حفظه منهم، لما تنسم من حسدهم أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى البرية أو الصحراء، والغد: اليوم التالي ليومك يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ يرتع: يتسع في أكل الفواكه ونحوها، من الرتعة: وهي الخصب، والرتع: التوسع في الملاذ، والأكل من الفاكهة حيث شاء.
ويلعب: ينشط ويلعب بالاستباق والانتضال بالسهام لَحافِظُونَ أن يناله مكروه لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ذهابكم، لشدة مفارقته أو فراقه علي وقلة صبري عنه، والحزن: ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه. والخوف: ألم في نفس مما يتوقع من مكروه.
أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ المراد به الجنس، وكانت أرضهم مذأبة كثيرة الذئاب غافِلُونَ مشغولون عنه بالرتع واللعب، أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
لَئِنْ أَكَلَهُ اللام لا قسم، وجوابه إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. وَنَحْنُ عُصْبَةٌ جماعة لَخاسِرُونَ عاجزون أو ضعفاء مغبونون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار وَأَجْمَعُوا أي وعزموا على إلقائه في البئر: بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين، بأن نزعوا قميصه بعد ضربه وإهانته وإرادة قتله، وأدلوه إلى البئر، فلما وصل إلى نصف البئر، ألقوه ليموت، فسقط في الماء، ثم أوى إلى صخرة، فنادوه فأجابهم ظانا رحمتهم، فأرادوا رضخه بصخرة، فمنعهم يهوذا.
وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في البئر، أي ألهمناه، وله سبع عشرة سنة أو دونها تطمينا لقلبه لَتُنَبِّئَنَّهُمْ لتخبرنهم بعد اليوم بِأَمْرِهِمْ بصنيعهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بك حال الإنباء أنك يوسف، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم عِشاءً وقت المساء، آخر النهار يَبْكُونَ متباكين نَسْتَبِقُ نتسابق في العدو أو في الرمي مَتاعِنا ثيابنا بِمُؤْمِنٍ بمصدّق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي ولو ثبت صدقنا لا تهمتنا، فكيف وأنت تسيء الظن بنا؟! أو ولو صدقنا لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف.
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ محله نصب على الظرفية، أي فوقه بِدَمٍ كَذِبٍ أي ذي كذب، بمعنى مكذوب فيه، بأن ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وذهلوا عن شقه، وقالوا: إنه دمه قالَ(12/220)
أي يعقوب، لما علم كذبهم بَلْ سَوَّلَتْ زينت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ففعلتموه به فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا جزع فيه، وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ المطلوب منه العون عَلى ما تَصِفُونَ تذكرون من أمر يوسف أو من هذه المصيبة وهلاكه.
المناسبة:
الكلام مرتبط بما قبله، مبين مكيدة إخوة يوسف له، وخداعهم أباهم، وإظهارهم أنهم في غاية المحبة ليوسف والشفقة عليه، وهم يعلمون أن أباهم كان يحب يوسف محبة شديدة، ويحرص عليه، ويحب تطييب قلبه، فأرسله معهم، وهو غير مقتنع بكلامهم ويخافهم عليه.
التفسير والبيان:
لما تواطأ إخوة يوسف على أخذه وطرحه في البئر، كما أشار به عليهم أخوهم يهوذ أو روبيل، جاؤوا أباهم يعقوب عليه السّلام، فقالوا: ما بالك لا تأتمنا على يوسف، وتخافنا عليه، ونحن له ناصحون، أي نحبه، ونشفق عليه، ونريد الخير له، ونخلص له النصح؟ وهم يريدون خلاف ذلك، لحسدهم له، بعد ما علموا من رؤيا يوسف، وأدركوا حب أبيه له، لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة.
أرسله معنا، أي ابعثه معنا في الغد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى في الصحراء، يرتع أي يأكل ما يطيب له من الفاكهة والبقول، ويلعب أي ويسعى وينشط ويشاركنا في السباق بالسهام، وإنا له لحافظون من أي أذى ومكروه يصيبه، ونحفظه من أجلك. فأجابهم يعقوب بقوله: إني ليحزنني ويؤلمني ذهابكم به وفراقه لي على أي نحو، وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم، فيأتيه ذئب، فيأكله وأنتم غافلون عنه لا تحسون به.
وبه يتبين أنه اعتذر إليهم بشيئين: أن فراقه إياه مما يحزنه، وخوفه عليه(12/221)
من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم، لقلة اهتمامهم به، وكأنه لقنهم الحجة، وشدة الحذر دفعته لقول ذلك.
فأجابوه في الحال: والله لئن أكله الذئب، ونحن جماعة أشداء ندافع عن الحرمات، لكنا خاسرين، أي هالكين عاجزين لا خير فينا ولا نفع.
ثم بدؤوا تنفيذ المؤامرة بالفعل، فلما ذهبوا به من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك، صمموا على مرادهم، وعزموا عزما لا تردد فيه على إلقائه في قعر بئر وأسفله، وهو البئر المعروف لديهم، ليذهب حيث شاء، أو يهلك، فيستريحوا منه.
ولكنّ الله تعالى ذا القدرة الشاملة، والإرادة النافذة، والرحمة واللطف، وإنزاله اليسر بعد العسر، والفرج بعد الكرب، أوحى إليه وحي إلهام على الأظهر، مثل قوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل 16/ 68] وقوله:
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص 28/ 7] تطمينا لقلبه وتثبيتا له ألا تحزن مما أنت فيه، فإن لك فرجا ومخرجا، وسينصرك الله عليهم، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع السيء، وهم لا يعرفون ولا يشعرون بأنك يوسف. وهو وعد بالخلاص من هذه المحنة، والنصر عليهم، وصيرورتهم تحت سلطانه.
ثم جاء دور الاعتذار بالأعذار الكاذبة لأبيهم يعقوب عليه السّلام، فحينما رجعوا إليه في آخر اليوم وقت العشاء في ظلمة الليل، أخذوا يتباكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف، وقالوا معتذرين عما زعموا: إنا ذهبنا نتسابق ونترامى بالنبال، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأمتعتنا، حارسا لها، فأكله الذئب، وهذا الذي كان قد جزع منه وحذر عليه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا- والحالة هذه- لو كنا صادقين موثوقين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك؟! وأنت معذور في هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما حدث. والحاصل أنا(12/222)
وإن كنا صادقين، لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا في يوسف، لشدة محبتك إياه، ولظنك أنا قد كذبنا.
وهذا إيماء بعدم قناعتهم بما يقولون، وإحساسهم بالكذب ضمنا.
وزاد في التلبيس والتدليس أنهم جاؤوا بقميصه ملطّخا بدم مكذوب مفترى، أخذوه من دم سخلة ذبحوها، ولطخوا ثوب يوسف بدمها، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب، لذا قال: عَلى قَمِيصِهِ ولكن إرادة الله أبت إلا أن يظهر آثار جريمتهم، فنسوا أن يخرقوا الثوب ويشقّوه إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميص، فلم يصدقهم يعقوب وأعرض عنهم وعن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه، فقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أي بل زينت أو سهلت وهونت لكم أنفسكم السيئة أمرا منكرا غير ما تصفون وتذكرون، فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، وأستعين بالله حتى يفرج الكرب بعونه ولطفه، فالصبر الجميل أولى بي،
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن الصبر الجميل فقال: «هو الذي لا شكوى معه» .
والله المستعان على ما تذكرون من الكذب، وهو المعين على شر ما تصفون من الحدث الأليم.
روي أن يعقوب قال استهزاء: ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- نجح إخوة يوسف في حبك المؤامرة، وخداع أبيهم، والمؤمن غر كريم، وتلك حيلة يلجأ إليها الأولاد عادة لأن لعب الصبيان المباح وتنشيطهم مرغوب فيه، لا سيما وقد أظهروا شفقتهم عليه وحبهم له، وتعهدوا بحفظه ورعايته من المخاوف.(12/223)
2- كانت إجابة يعقوب لأولاده متضمنة بحكم العاطفة الأبوية المألوفة تحذيرا من التقصير، وتنبيها على شدة الصون والحفظ، وإشعارا بحب ابنه يوسف وعدم تحمله الصبر على فراقه، وهذا أمر طبيعي.
3- موّه إخوة يوسف على أبيهم الحقيقة، وأظهروا كاذبين أنهم حماة يصونون أخاهم، فهم عصبة أقوياء، وجماعة أشداء، يخشى الناس بأسهم، أفلا يقدرون على مطاردة ذئب يهاجم أخا لهم.
4- كان إخوة يوسف في أشد ما يكونون قسوة وشدة على أخ لهم من أبيهم، فرموه في البئر، ونزعوا عنه قميصه، ووجد عند كل واحد من الغيظ والحسد والظلم أشد مما عند الآخر.
5- إن رحمة الله ولطفه قريب من المحسنين، فلا يدع سبحانه مظلوما حتى ينصره، ولا مفجوعا حتى يسلي قلبه ويطمئنه، ويبشره بالسلامة، فألهم يوسف أنه سينجو مما هو فيه، وأنه سينصره عليهم، وأنه سيخبرهم بسوء ما يصنعون به ويوبخهم على ما صنعوا، وسيكونون تحت قهره وسلطانه، وهم لا يدرون أنه يوسف.
وهذا يدل على أن الوحي ليوسف بعد إلقائه في الجب كان تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة.
6- إنما جاؤوا عشاء، أي ليلا ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار.
7- ودلت آية يَبْكُونَ على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعا، فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر، وقد قيل: إن الدم المصنوع لا يخفى.(12/224)
8- الاستباق مباح في السهام أو الرمي، وعلى الفرس، وعلى الأقدام والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو لما له من فائدة في قتال الأعداء، ومطاردة الذئاب. قال ابن العربي: إن المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلّم بنفسه وبخيله
فروي أنه سابق عائشة فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم سابقها فسبقته، فقال لها: هذه بتلك «1» . وتسابق النبي أيضا مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبقهما.
وسابق سلمة بن الأكوع- فيما رواه مسلم- رجلا لما رجعوا من «ذي قرد» إلى المدينة، فسبقه سلمة.
وروى مالك عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سابق بين الخيل التي قد أضمرت «2» ، وسابق بين الخيل التي لم تضمّر
، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.
وكذلك المسابقة بالنّصال والإبل،
أخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا سبق «3» إلا في نصل أو خفّ أو حافر» .
وروى البخاري عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلّم ناقة تسمى العضباء، لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين حتى عرفه فقال: «حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» .
وأجمع المسلمون على أن السّبق على وجه الرهان المباح الآتي بيانه لا يجوز إلا في الخف والحافر والنصل. قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسّبق فيها قمار.
وقد زاد أبو البختري القاضي في الحديث السابق: «أو جناح» لإرضاء الرشيد،
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1063 وما بعدها. [.....]
(2) تضمير الخيل: هو علف الخيل حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف.
(3) السبق: ما يجعل للسابق على سبقه من المال، أي لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة. والسّبق بالسكون: مصدر. والصحيح رواية الفتح.(12/225)
فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته فلا يكتب العلماء حديثه بحال.
ولا يجوز السّبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، وكذلك الرمي لا يجوز السّبق فيه إلا بغاية معلومة، ورشق معلوم، ونوع من الإصابة.
والسبق الجائز اثنان: ما يخصصه الوالي أو غيره من ماله تطوعا، وما يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإلا بقي له.
والسبق غير الجائر أو الحرام: هو ما يكون من الطرفين المتسابقين، بأن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه.
ولا يجوز هذا الوجه إلا بمحلّل لا يأمنان أن يسبقهما، فإن سبق المحلّل أحرز السّبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين، أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه، ولا شيء للمحلّل فيه، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما.
وسمي محلّلا لأنه يحلل السّبق للمتسابقين أو: له.
واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلّل، واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه، أنه قمار، ولا يجوز.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أدخل فرسا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق، فليس بقمار، ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار»
وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلّل، فإن سبق أخذ السّبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء. وهذا قول الجمهور.
ولا يكون سباق الخيل والإبل إلا لمحتلم، أو لأربابها، وهو أولى.
9- استفاد أولاد يعقوب الحجة من قول أبيهم: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لأنه كان أظهر المخاوف عليه.(12/226)
10- لم يصدقهم يعقوب، لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه.
وأحسّوا هم بضعف حجتهم حينما قالوا: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا، ولا تتهمنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف.
11- دلسوا على أبيهم بالدم المكذوب فيه، فهو دم ظبية، كما قال قتادة، ولما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم، قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التمزيق المعتاد عند اعتداء الذئب على إنسان. قال ابن عباس: لما نظر إليه، قال: كذبتم لو كان الذئب أكله لخرق القميص.
حكى الماوردي أن في القميص- أي في جنسه- ثلاث آيات: حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قدّ قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه، فارتد بصيرا.
12- استدل الفقهاء بقصة القميص الملوث بالدم على جواز الاعتماد على الأمارات، في مسائل فقهية كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص وسلامته من التخرق. وهكذا على الناظر ملاحظة الأمارات والعلامات، ويقضي بالراجح منها.
13- الاعتصام بالصبر، والاستعانة بالله، على التزوير والظلم والكذب والمصيبة وفي المحنة والشدة، فذلك مؤذن بالفرج بعد الكرب، وباليسر بعد العسر، وهو دليل الإيمان بأن لهذا لكون ربا يفعل فيه ما يشاء.
14- الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه، وهو أن يعرف أن منزل البلاء(12/227)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
هو الله تعالى، ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه.
ولا يكون الصبر جميلا ما لم يكن فيه رضا بقضاء الله وقدره.
والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات: أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى، كان حسنا، وإلا فلا.
والجمع بين الصبر والاستعانة في كلام يعقوب دال على أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى، للتغلب على الجزع أو الحزن بسبب الدواعي القوية إليه.
الفصل الثالث من قصة يوسف نجاة يوسف وإكرامه في بيت العزيز
- 1- تعلق يوسف بالدلو ومسيره مع السيارة
[سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
الإعراب:
يا بُشْرى منادى مفرد، كأنه جعل بُشْرى اسم المنادي أي هذه آونتك كقولك:
يا زيد، ومن قرأ يا بشراي كان منادى مضافا.(12/228)
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً المراد بالواو: التجار، والمراد بالهاء: يوسف، أخفوه من الرفقة، وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في البئر، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء، لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس: أن الضمير لإخوة يوسف قالوا للتجار: هذا غلام لنا قد أبق، فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وذلك لأن يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم، فأتاه يومئذ، فلم يجده، فأخبر إخوته، فأتوا الرفقة، وساوموهم على بيعه لهم، فاشتروه منهم.
وبِضاعَةً منصوب على الحال من يوسف، ومعناه: مبضوعا، أي أخفوه متاعا للتجارة.
دَراهِمَ بدل من «ثمن» . ومِنَ الزَّاهِدِينَ في موضع نصب خبر كان. وفِيهِ متعلق بفعل دل عليه من الزَّاهِدِينَ، ولا يجوز أن يتعلق بالزاهدين لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي، وصلة الاسم الموصول لا يعمل فيما قبله.
المفردات اللغوية:
سَيَّارَةٌ جمع مسافرون معا، كالكشافة والتجار، وكانوا قوما مسافرين من مدين إلى مصر وارِدَهُمْ هو الرائد الذي يرد الماء أو يبحث عنه ليستقي للقوم، وهو مالك بن دعر الخزاعي من العرب العاربة. فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسل دلوه في الجب ليملأها، فتدلى بها يوسف، والدلو: إناء يستقى من البئر يا بُشْرى نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه، كأنه تعالى قال:
فهذا أوانك، كما تقول: يا هناي، ويكون هذا النداء مجازا، أي احضري فهذا وقتك.
وَأَسَرُّوهُ أخفوه وأخفوا أمره عن الرفاق بِضاعَةً أي أخفوه حال كونهم جاعليه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أي قطع وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه إسرارهم وَشَرَوْهُ باعوه لأن لفظ الشراء والبيع من ألفاظ الأضداد، فيقال: اشتراه أي ابتاعه، وشراه: باعه بَخْسٍ مبخوس أي ناقص ومعيب، ومنه قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ [الأعراف 7/ 85 وغيرها] والمراد بالبخس هنا قول الحرام أو الظلم لأنه بيع حر، والأصح أن المراد به الناقص عن ثمن المثل مَعْدُودَةٍ قليلة، قيل: كان عشرين درهما أو اثنين وعشرين وَكانُوا فِيهِ في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين عنه. والضمير إن كان للإخوة فظاهر، وإن كان للرفقه التجار، فزهدهم فيه لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به، مستعجل في بيعه. وباعته السيارة في مصر للذي اشتراه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما فعله إخوة يوسف بإلقائه في أعماق الجب (البئر)(12/229)
ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة عن طريق قافلة تجار ذاهبة إلى مصر، فأخذوه وباعوه فيها.
التفسير والبيان:
ومرّ بالبئر جماعة مسافرون مارّون من مدين إلى مصر، روي أنهم من العرب الإسماعيليين، بعد أن مكث يوسف في البئر ثلاثة أيام، كان يتردد عليه بالطعام أخوه يهوذا، وذكر محمد بن إسحاق أن إخوته بعد إلقائه في الجب، جلسوا قريبا من تلك البئر، فساق الله له سيارة، فأرسلوا واردهم (وهو الذي يبحث عن الماء ليسقي القوم فلما جاء إلى البئر، وأدلى دلوه فيها، تشبّث يوسف عليه السّلام بها، وخرج من البئر.
فقال مبشرا جماعته السيارة: يا بشرى هذا غلام، أي هذه أوان البشرى فاحضري، هذا غلام وسيم جميل صبوح ظريف، كما تقول: يا أسفا، ويا حسرتا. فاستبشروا به فهو غلام يباع.
وأخفوه عن الناس، ليكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر، والله عليم بما يعملون لا يخفى عليه شيء من أفعال هؤلاء وغيرهم، وعليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير الواقع ودفعه، ولكن له حكمة وقدر سابق، فترك الأمر ليمضي ما قدره وما قضاه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] .
والبائع: إما إخوة يوسف، كما روي عن ابن عباس، والتجار هم الذين اشتروه والذين أسرّوه بضاعة هم إخوة يوسف، لما استخرج من الجبّ. وإما أن البائع هم السّيارة، والمشتري: واحد من أهل مصر.
وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما كان يلقاه من أذى قومه المشركين، وإعلام له بأن الله عالم بأذى قومك لك، فإنه قادر على تغيير الأذى، ولكن(12/230)
اصبر كما صبر يوسف على كيد إخوته وأذاهم، وسأنصرك عليهم، كما نصرت يوسف على إخوته، وجعلته سيدا عليهم.
وَشَرَوْهُ أي باعه إخوة يوسف، قال ابن كثير: وهو الأقوى، أو باعته السيارة القافلة في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن المثل من الدراهم المعدودة عدا، لا وزنا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها، فباعوه بعشرين أو باثنين وعشرين درهما، فالمراد بالبخس هنا الناقص أو المعيب أو كلاهما، أي باعوه بأنقص الأثمان. وقيل: المراد به الظلم أو الحرام، لكونه بيع حر، والراجح هو المعنى الأول، كما ذكر ابن كثير لأن الحرام معلوم يعرفه كل أحد لأن ثمنه حرام على كل حال، وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي، ابن نبي، ابن خليل الرحمن، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم.
وكانوا في يوسف وبيعه من الزاهدين أي الراغبين عنه الذين يودون التخلص منه بأي حال دون أن يعلموا منزلته عند الله تعالى. وقد اشتراه عزيز مصر رئيس الشرطة وصار فيما بعد مسلما آمن بيوسف ومات في حياته.
والخلاصة: أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث: كونه بخسا، وبدراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن مجيء السيارة وإرسال الدلو في البئر تدبير خفي من الله، وتيسير ولطف بعبده يوسف، لإنقاذه من الموت أو الهلاك في البئر لأن الله عليم بكل شيء في هذا الكون، ومدبر ما يراه خيرا على وفق حكمته وإرادته.
2- كان بيع يوسف بثمن ناقص عن ثمن المثل، بدراهم معدودة هي عشرون(12/231)
درهما كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، فلم يستوف ثمنه الحقيقي بالقيمة لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه وإن كان الذين باعوه هم السيارة الواردة، فإنهم التقطوه، ومن أخذ شيئا بلا ثمن، باعه بأرخص الأسعار، فما يأخذونه فيه ربح كله.
3- في الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما.
4- الله تعالى عليم بأفعال الخلائق وأقوالهم، لا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيهم عليها.
وبمناسبة الكلام عن الدراهم، قال العلماء: أصل النقدين الوزن،
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الذهب بالذهب الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا»
ولكن جرى في النقود العدّ تخفيفا عن الخلق، لكثرة المعاملة، ومشقة الوزن.
وهل تتعين الدراهم والدنانير أو لا؟ رأيان: قال أبو حنيفة، ومالك في الظاهر من قوله: لا تتعين بالتعيين. وقال الشافعي: إنها تتعين. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا قال: بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم، فعلى الرأي الأول:
تعلقت الدنانير بذمه صاحبها، والدراهم بذمه صاحبها، فلو تلفت، ظل البيع صحيحا ولم يتأثر بتلف شيء من العوضين لأن مال الذمة لا يتلف.
وعلى الرأي الثاني: لو تلفت الدراهم والدنانير، لم يتعلق بذمة صاحبهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.(12/232)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
- 2- يوسف عند ملك مصر وإيتاؤه النبوة
[سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 22]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، واسمه قطفير أو أطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياته. روي أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وكان ابن ثلاثين، وآتاه الله الحكمة والعلم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين.
واختلف فيما اشتراه به، فقيل: عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان لِامْرَأَتِهِ زليخا أو راعيل أَكْرِمِي مَثْواهُ مقامه عندنا، أي اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا، والمعنى:
أحسني تعهده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في ضياعنا وأموالنا ونستعين به في مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبناه، وكان عقيما، لما تفرّس به من الرشد، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص 28/ 26] ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما.
وَكَذلِكَ كما نجيناه من القتل والبئر، وعطفنا عليه قلب العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ مكنا له في أرض مصر وجعلنا له مكانة رفيعة فيها، حتى صار رئيس حكومتها ووزير ماليتها وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا، وهو معطوف على محذوف مقدر متعلق(12/233)
بمكنا، أي لنملكه أو ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه، أو الواو زائدة وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي لا يعجزه شيء، فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد.
أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه وكمال قوته الجسمية والعقلية، وهو رشده، وهو سن ما بين الثلاثين والأربعين آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة، وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكما بين الناس، أو حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق وَعِلْماً يعني علم تأويل الأحاديث، وفقه الدين قبل أن يبعث نبيا وَكَذلِكَ كما جزيناه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لأنفسهم، وهو تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله واتقائه في عنفوان أمره.
المناسبة:
بعد مسيرة يوسف مع السيارة إلى مصر، أبان الله تعالى بداية قصة يوسف في بيت عزيز مصر الذي اشتراه، وإيتاءه النبوة والعلم والحكمة وتعبير الرؤيا وجعله من زمرة المحسنين.
التفسير والبيان:
بعد تلك المأساة الحزينة التي مرّ بها يوسف في البئر، ثم اعتباره كالعبيد يباع ويشترى، قيّض الله له الذي اشتراه من مصر، ولم يذكر هنا اسمه، وإنما وصفه النسوة بأنه عزيز مصر على خزائنها، وذكر في التاريخ أنه رئيس الشرطة والوزير بها، وكان اسمه «قطفير» أو أطفير بن روحيب وزير المالية، حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به، لما توسم فيه الخير والصلاح، فقال لامرأته زليخا أو راعيل بنت رعابيل: أكرمي مقام هذا الغلام ومنزله عندنا أي أحسني تعهده، لما تفرس فيه من الرشد.
روى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ والمرأة التي قالت لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ الآية [القصص 28/ 26] ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.(12/234)
وقيل: كان فرعون موسى الذي عاش أربع مائة سنة هو الذي اشترى يوسف، بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غافر 40/ 34] قال البيضاوي: والمشهور أن المشتري من أولاد فرعون، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.
ثم علل عزيز مصر طلبه من امرأته حسن تعهد يوسف بقوله كما قال الله:
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي لي رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة واستثمار أموالنا، أو مصالحنا العامة، أو نتبناه ولدا تقر به أعيننا لأنه كان عقيما لا يولد له ولد، وكان حصورا.
والآية تدل على على أن العزيز كان عقيما، وأنه كان صادق الفراسة.
ثم أبان الله تعالى أفضاله الأدبية المعنوية بعد أن قيض له من يعينه ماديا فقال: وكما أنعمنا عليه بالسلامة من الجبّ، وأنقذناه من إخوته، وهيأنا له المنزل والمثوى الطيب الكريم، عطّفنا عليه قلب العزيز، وجعلنا له مكانة عالية في أرض مصر، يملك الأمر والنهي وتدبير أمور المالية وشؤون الدولة والحكم، بسبب حدوث ما حدث له في بيت العزيز، ثم السجن، الذي كان سببا في التعرف على ساقي الملك، ثم الاتصال بالملك نفسه، حتى قال له الملك: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف 12/ 54] وقال يوسف للملك: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف 12/ 55] .
وتحقيق الكمال يكون بأمرين هما القدرة والعلم، أما تكميله في صفة القدرة فبقوله تعالى: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وأما تكميله في صفة العلم، فبقوله تعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وهو معطوف على مقدر متعلق بمكنا، أي لنملّكه ولنعلمه. وتأويل الأحاديث: تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الأمور، وكيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحكمته وجلاله.(12/235)
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ.. لا يعجزه شيء، فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد، إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب، وهو الفعال لما يشاء، كما قال سعيد بن جبير: «ولكن أكثر الناس لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد، ويأخذون بظواهر الأمور، كما ظن إخوة يوسف أنه لو أبعد خلالهم وجه أبيهم، وكانوا من بعده قوما صالحين» .
وقوله: أَكْثَرَ النَّاسِ دليل على أن الأقل يعلمون الحقائق كيعقوب عليه السّلام، الذي يعلم أن الله غالب على أمره.
ثم بيّن الله تعالى ما جازى به يوسف لما صبر على إساءة إخوته إليه، وعلى الشدائد والمحن التي مرّ بها، فمكنه الله تعالى في الأرض، وهو القدرة التي أشرنا إليها، ولما بلغ أشده آتاه الله النبوة التي عبر عنها بالحكم والعلم، وهي أكمل درجات العلم، فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ.. أي ولما استكمل يوسف قواه الجسمية والعقلية، آتيناه حكما وعلما، أي النبوة التي حباه بها بين أولئك الأقوام، كالجزاء على صبره على تلك المحن وعلى الأعمال الحسنة.
واكتمال الرشد وبلوغ الأشد: ما بين الثلاثين والأربعين، فقال جماعة:
ثلاث وثلاثون سنة، أو بضع وثلاثون، وقال الحسن: أربعون سنة. وقال عكرمة وهو تقدير الأطباء: خمس وعشرون سنة.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ومثل ذلك الجزاء، نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم أعمالهم. وهذا دليل على أن يوسف عليه السّلام كان محسنا في عمله، عاملا بطاعة الله تعالى، وأن ما آتاه الله من سلطان ونفوذ، وعلم وحكمة، ونبوة ورسالة كان جزاء على إحسانه في عمله، وتقواه في حال شبابه، إذ للإحسان تأثير في صفاء العقول، وللإساءة تأثير في تعكير النفوس وسوء فهم الأمور.(12/236)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما تفضل الله به على يوسف عليه السّلام جزاء صبره من نعم وفضائل مادية ومعنوية وهي ما يأتي:
1- تهيئة البيت الكريم، والمثوى والمقام المريح، والمطعم واللباس الحسن، والحفظ والرعاية المادية والأدبية في ظل بيت العزيز الذي كان وزيرا للمالية على خزائن مصر، وهو المنصب ذاته الذي تولاه يوسف عليه السّلام بعدئذ.
2- كان عزيز مصر صادق الفراسة، ثاقب الفكرة، أصاب فيما توقعه ليوسف من مكانة عالية في البلاد.
3- التمكين المادي ليوسف في أرض مصر، بأن عطف الله عليه قلب الملك، حتى تمكن من الأمر والنهي في بلد الملك نفسه، فصار وزيرا للمالية ورئيسا للحكومة.
4- التمكين المعنوي ليوسف ليوحي الله إليه بكلام منه، وليعلمه تأويل الكلام وتفسيره، وتعبير الرؤيا، والفطنة للأدلة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته.
5- إيتاؤه الحكم والعلم، أي النبوة بعد بلوغ الرشد واكتمال البنية الجسدية والقوى العقلية، فقوله: حُكْماً وَعِلْماً إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية.
6- جعله من المؤمنين المحسنين المطيعين أوامر ربه، المتجنب نواهيه، الصابرين على النوائب، حتى قال بعضهم: إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى، وشكر نعماء الله تعالى، وجد منصب الرسالة، بدليل أنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن، ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.(12/237)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
7- دل قوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن الله يعطيه تلك المناصب.
8- الله تعالى غالب على أمره، فعال لما يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، نافذ أمره في الخلائق، كما قال سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
9- أكثر الناس لا يعلمون حقائق الأمور الإلهية، ويكتفون بظواهر الأمور، والأقل كالأنبياء والمؤمنين الأتقياء هم الذين يدركون أن الله غالب على أمره.
الفصل الرابع من قصة يوسف يوسف وامرأة العزيز
[سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)(12/238)
الإعراب:
هَيْتَ لَكَ اسم لهلمّ، ولذلك كانت مبنية، وكان الأصل أن تبنى على السكون، إلا أنه لم يمكن أن تبنى على السكون لأنهم لا يجمعون بين ساكنين وهما الياء والتاء. ومنهم من بناها على الفتح لأنه أخف الحركات. ومنهم من بناها على الكسر لأنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين، ومنهم من بناها على الضم لحصول الغرض من زوال التقاء الساكنين.
ومن قرأ: هيئت لك بالهمز فمعناه: تهيأت لك، وتكون التاء مضمومة لأنها تاء المتكلم.
مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، يقال: عاذ يعوذ معاذا وعوذا وعياذا.
رَبِّي في موضع نصب على البدل من هاء إِنَّهُ وهي اسم إن.
أَحْسَنَ مَثْوايَ فعل ومفعول، ومن قرأ أحسن فهو خبر إنّ، أي إن ربي أحسن مثواي.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الهاء ضمير الشأن والحديث. وجملة لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ جملة فعلية خبر إن.
أَنْ رَأى..حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره. وأَنْ رَأى في موضع رفع لأنه مبتدأ. ولا يجوز إظهار خبره بعدلطول الكلام بجوابها، وقد حذف خبر المبتدأ هنا والجواب معا، والتقدير: لولا رؤية برهان ربه موجودة لهمّ بها. ولا يجوز أن يكون وَهَمَّ بِها جوابلأن جوابلا يتقدم عليه.
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ الكاف من كَذلِكَ يجوز أن تكون رفعا، بأن تكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: البراهين كذلك، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أي أريناه البراهين رؤية كذلك.(12/239)
البلاغة:
فَصَدَقَتْ وفَكَذَبَتْ والصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بين كلّ طباق.
مِنَ الْخاطِئِينَ من باب تغليب الذكور على الإناث.
المفردات اللغوية:
وَراوَدَتْهُ طلبت منه زليخا مواقعتها برفق ولين ومخادعة، ومنه قوله: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ [يوسف 12/ 61] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته، ليرسل أخاه بنيامين معنا، ومنه الرائد: الذاهب لطلب شيء. والمراد من آية وَراوَدَتْهُ تحايلت لمواقعته إياها، ولم تجد منه قبولا. وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أحكمت إغلاق أبواب البيت، قيل: كانت سبعة، والتشديد: للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. هَيْتَ لَكَ أي هلمّ وأقبل وبادر، أو تهيأت، وهي لغة عرب حوران والكلمة: اسم فعل مبني على الفتح، ولام لَكَ للتبيين، كالتي في «سقيا لك» .
قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله وأتحصن من الجهل والفسق. إِنَّهُ رَبِّي إن الذي اشتراني سيدي قطفير، أو إن الشأن أَحْسَنَ مَثْوايَ مقامي، أي أحسن تعهدي، إذ قال لك:
أَكْرِمِي مَثْواهُ فلا أخونه في أهله. وقيل: إن الضمير لله تعالى، أي إنه الذي خلقني وأحسن منزلتي بأن عطف عليّ قلب سيدي، فلا أعصيه. إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ المجازون الحسن بالسيء، وقيل: الزناة، فإن الزنى ظلم على الزاني والمزني بأهله.
هَمَّتْ بِهِ قصدت منه الجماع ومخالطته أو أن تبطش به لعصيانه أمرها، والهم بالشيء:
قصده والعزم عليه ومنه الهمام: وهو الذي إذا همّ بشيء أمضاه. وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا وجود النبوة، أو مراقبة الله تعالى وطاعته ورؤية ربه متجليا عليه، لقصد مخالطتها، والمفهوم منأنه لم يقصد ذلك أصلا، لوجود خشية الله في قلبه لأنحرف امتناع لوجود، فعند ما تقول: لولا إتيان ضيف إلى البارحة لجئت إليك، تعني تعذر المجيء لصاحبك بسبب مجيء ضيف يزورك، فالضيف مانع من حصول المجيء، وكذلك هنا: لولا برهان النبوة ومراقبة الله لهمّ بها.
كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه وأريناه البرهان. لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الخيانة وَالْفَحْشاءَ الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ المختارين الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته وعلى قراءة كسر اللام الْمُخْلَصِينَ يكون المراد: المخلصين في الطاعة.
وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار، أو ضمن الفعل معنى الابتدار، أي أسرع كل منهما نحو الباب، وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج،(12/240)
فمبادرته كانت للفرار، ومبادرتها كانت للتشبّث فيه، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها. وَقَدَّتْ شقت قميصه من دبر، أي من الخلف والقد: الشق طولا. وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ وجدا زوجها وصادفاه عند الباب. قالَتْ: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أي نزهت نفسها، وأو همت زوجها أنها فرّت منه تبرئه لساحتها عنده وإغراء به للانتقام من يوسف. وما نافية أو استفهامية، والمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن أي الحبس. أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بأن يضرب.
وتعبير وَاسْتَبَقَا الْبابَ من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة.
قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي قال يوسف: هي طالبتني بالمواتاة، دفاعا عن نفسه لما عرضت له من السجن أو العذاب، ولو لم تكذب عليه لما قال ذلك. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل:
ابن عمها، أو ابن خالها، وكان صبيا في المهد، أنطقه الله تعالى.
مِنْ قُبُلٍ من قدام أو أمام. مِنْ دُبُرٍ من خلف. فَلَمَّا رَأى زوجها قالَ: إِنَّهُ أي إن قولك: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَّ أي من حيلتكن أيها النساء، والخطاب لها ولأمثالها، أو لسائر النساء. إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي إن كيد النساء ألصق وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولا قدرة للرجال عليه ولا يفطنون لحيلهن.
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي ثم قال زوجها: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، ولا تذكره واكتمه لئلا يشيع الخبر بين الناس. وَاسْتَغْفِرِي يا زليخا. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أي الاثمين المذنبين، ولكن شاع الخبر واشتهر. والتذكير للتغليب.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به يوسف من المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة، ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة، حتى إنه آثر دخول السجن على ارتكاب الفاحشة، والتخلص من افتتان النساء به.
التفسير والبيان:
كان يوسف عليه السّلام في غاية الحسن والجمال، وقد أوصى عزيز مصر امرأته بإكرامه وحسن تعهده، فأحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه، فحملها(12/241)
ذلك على أن تجملت له، ودعته لمخالطتها، وتمحلت لمواقعته إياها، وأحكمت إغلاق الأبواب عليه قيل: كانت سبعة، وقالت: هيت لك، أي هلمّ أقبل وبادر، وتهيأت لك، وزيدت كلمة لَكَ لبيان المخاطب، مثل: سقيا لك ورعيا لك. وهذا أسلوب في غاية الاحتشام.
فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: أعوذ بالله معاذا، وألتجئ إليه وأعتصم به مما تريدين مني، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين إِنَّهُ (الضمير للشأن والحديث) ربي أي سيدي ومالكي (قطفير) أَحْسَنَ مَثْوايَ أي منزلي ومقامي وأحسن إلي، حين قال لك: أكرمي مثواه فلا أقابله بالخيانة، وإتيان الفاحشة في أهله، إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الإحسان بالإساءة، أو لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المجازون الإحسان بالسوء.
ولقد همّت بالانتقام منه والتنكيل به، لعصيانه أمرها، وعدم نزوله عند رغبتها، ومخالفته مرادها، وهي سيدته وهو عبدها، أو همت بمخالطته.
وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كثر كلام الناس وتعليقاتهم حول معنى هذه الآية، والأمر فيها سهل يسير، لا يصح تفسير كلمة وَهَمَّ بِها وحدها دون بقية الجملة، وإذا فسرت الجملة مع بعضها، تبين أنه لم يهمّ بها قط لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك، بدليل أنحرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها لأن قوله: وَهَمَّ بِها يدل عليه، كقولك: (هممت بقتله لولا أني خفت الله) معناه: (لولا أني خفت الله لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
ثم إن المراد بالهم: خطرات حديث النفس، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة(12/242)
البشرية، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا، فلا يقال: كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم
ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إذا همّ عبدي بحسنة، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها» .
والبرهان الذي رآه: هو برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، أو هو حجة الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.
وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة، وقيل: هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وجائز أن يراد كل هذه المعاني لأنها متقاربة غير متعارضة، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة الله عز وجل.
والخلاصة: لم يرتكب يوسف عليه السّلام المعصية قط، ولولا حفظ الله ورعايته وعصمته لهمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران: الأول- إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، فهو الذي منعه من الهمّ، والثاني- إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية، ورأى برهان الله وتذكره، مثل قوله تعالى:
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء 17/ 74] .
وبه تبين وجود الفارق بين الهمين: همها به وهمه، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به، شفاء لغيظها، أو همت بمخالطته، فكان همها المعصية، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه، والتخلص منها، حين رأى بوادر الإقدام عليه، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهم بالفرار من هذا المأزق، فكان همه النجاة منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر، وما هم بالسوء بها لما رأى برهان ربه لعصمة الأنبياء، قال تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ(12/243)
وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ
لذا أتبعه بقوله: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء: المنكر والمعصية وخيانة السيد، والفحشاء: الزنى والفجور.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص 38/ 47] .
وحدثت المفاجأة الغريبة المحرجة بقدوم زوجها، وهما يتسابقان إلى الباب، فقال تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي وتسابقا إلى الباب، بناء على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف 7/ 155] أو بناء على تضمين اسْتَبَقَا معنى: ابتدرا، والتسابق مختلف الغرض، فيوسف فرّ منها مسرعا يريد الباب ليخرج، وهي أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي لحقته في أثناء هربه، فأمسكت بقميصه من الخلف، فقطعته.
وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أي وحينئذ وجدا سيدها وهو زوجها عند الباب، فحاولت بمكرها وكيدها التنصل من جرمها وإلصاق التهمة بيوسف، فقالت: ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة إلا أن يحبس، أو عذاب مؤلم موجع، فيضرب ضربا شديدا. وكانت نساء مصر تلقب الزوج بالسيد، ولم يقل:
سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعي.(12/244)
وهنا ذكر الرازي علامات كثيرة دالة على أن يوسف عليه السّلام هو الصادق وهي «1» :
1- إن يوسف عليه السّلام كان في اعتبارهم عبدا، والعبد لا يتسلط على مولاه إلى هذا الحد.
2- شوهد يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، وطالب المرأة لا يفعل ذلك.
3- زيّنت المرأة نفسها على أكمل الوجوه، خلافا لما كان عليه حال يوسف.
4- لم تكن سيرة يوسف في المدة الطويلة دالة على حالة تناسب، هذا الفعل المنكر.
5- لم تصرح المرأة بنسبته إلى الفاحشة، بل أجملت كلامها، وأما يوسف فصرح بالأمر.
6- إن زوج المرأة كان عاجزا، فطلب الشهوة منها أولى.
لكل هذا لم تطلب عقوبة شديدة، وإنما أرادت أن يحبس يوما أو أقل، على سبيل التخفيف والتخويف لأن حبها الشديد ليوسف حملها على أن تشفق عليه، ولكنها من جانب آخر استحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بالسوء، وأرادت تصيّد عذر ما، وحماية سمعتها وكرامتها أمام زوجها.
ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه.
ثم جاء دور براءة يوسف: قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي.. قال يوسف بارّا صادقا مدافعا عن نفسه حينما اتهمته بقصد السوء: هي التي راودته عن نفسه،
__________
(1) المرجع السابق: 18/ 123(12/245)
فامتنع منها، وأنها تبعته وجذبته حتى قدت قميصه، ولم تترك حيلة إلا لجأت إليها لمواقعتها.
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. وللعلماء قولان في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير؟ وهل هو إنسان أو القميص؟، فصار في تعيين هذا الشاهد ثلاثة أقوال:
الأول- أنه كان ابن عم لها كبير، وكان رجلا حكيما عاقلا حصيف الرأي، فقال: إن كان «1» شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص، ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ.. أي من عملكن، ثم قال ليوسف: أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها: استغفري لذنبك. وهذا قول طائفة كبيرة من المفسرين.
والثاني- وهو قول ابن عباس وجماعة: أن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد.
روى ابن جرير حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم» .
والثالث- أن ذلك الشاهد هو القميص. قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا، ولا ينسب إلى الأهل.
ولما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به وظهر للقوم براءة يوسف عن هذا المنكر، قال العزيز أو الشاهد: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إن هذا
__________
(1) إن كان قميصه: كان في موضع جزم بالشرط، وفيه إشكال نحوي لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان، فقال المبرد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى: إن يكن، أي إن يعلم، والعلم لم يقع.(12/246)
الاتهام من جملة كيدكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي إن مكر المرأة وكيدها شديد التأثير في النفوس، غريب لا يفطن له الرجال، ولا قبل لهم به، ولا لحيلها وتدبيرها.
ويا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة واكتم خبرها عن الناس، ويا أيتها المرأة اطلبي المغفرة لذنبك، إنك كنت من زمرة الخاطئين أي المذنبين. وقوله هذا لأنه لم يكن غيورا، فكان ساكنا، أو لأن الله تعالى سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف، حتى كفي ما قد يبادر به وعفا عنها.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات بيان محنة يوسف، وإظهار براءته، واتهام زوجة العزيز، وتكون الآيات دالة على ما يأتي:
1- اتهام امرأة العزيز بمراودة يوسف عن نفسه، وذكر في الآية ثلاثة تصرفات تؤكد تهمتها وهي: المراودة، وإغلاق الأبواب، ودعوتها يوسف لنفسها قائلة: هَيْتَ «1» لَكَ وهي لغة أهل حوران جنوب سوريا، أي هلمّ أقبل وتعال.
2- دفاع يوسف عن نفسه، مستخدما في الجواب ثلاثة أشياء: مَعاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، استعاذ بالله واستجار به مما دعته إليه، وتذكر فضل سيده عليه إذ آواه وأحسن مثواه ومقامه وتعهده بالرعاية والحفظ، ونظر إلى المستقبل نظرة العاقل المتأمل الذي يصون
__________
(1) قال النحاس: فيها سبع قراءات: هيت وهيت وهيت (الهاء فيهن مفتوحة) وهيت لك بكسر الهاء وفتح التاء، وهيت لك بكسر الهاء والياء الساكنة والتاء المضمومة، وهئت لك، وهئت لك.(12/247)
مستقبله، وقرر أنه لا يظفر الظالمون الخائنون الذين يقابلون الإحسان بالإساءة.
3- هناك فرق واضح بين همّها به وهو المعصية من مخالطة وانتقام، وبين همّه بها وهو الفرار والنجاة منها لأن الأنبياء معصومون عن المعاصي.
وأدلة عصمة الأنبياء «1» :
الدليل الأول- إن الزنى من منكرات الكبائر، وكذلك الخيانة من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموقعة بالفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب، ثم إن إقدام الصبي الذي تربى في حجر إنسان على الإساءة إلى المنعم عليه من أقبح المنكرات والأعمال.
الدليل الثاني- إن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عن النبي، لقوله تعالى:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ثم إن الله تعالى جعل يوسف عليه السّلام من عباده المخلصين- بفتح اللام- الذين خلصهم الله من الأسواء، وبكسر اللام: من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السّلام الذين قال الله فيهم: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص 38/ 46- 47] .
الدليل الثالث- من المحال أن يصدر عن الأنبياء عليهم السلام زلة أو هفوة ثم لا يتبعونها بالتوبة والاستغفار.
الدليل الرابع- كل من كان له تعلق بتلك الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه السّلام من المعصية.
والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السّلام، وتلك المرأة وزوجها،
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 115 وما بعدها.(12/248)
والنسوة، والشهود، ورب العالمين، وإبليس، الكل شهدوا ببراءة يوسف عن الذنب والمعصية، كما تقدم سابقا.
4- قال العلماء: لما برّأت نفسها ولم تكن صادقة في حبه- لأن من شأن المحبّ إيثار المحبوب- قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه.
5- الشاهد من أهلها: إما طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح،
للحديث المتقدم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»
وذكر فيهم شاهد يوسف، وإما رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها.
6- في آية قدّ القميص مقبلا ومدبرا دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة لأن القميص إذا جبذ من خلف تمزّق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدّام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.
7- إذا كان الشاهد على براءة يوسف طفلا صغيرا، فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات وإذا كان رجلا صحّ الاعتماد على الأمارة، كالعلامة في اللقطة وغيرها فقال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة، فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة، فإن السلطان ينظر في ذلك، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال الحنفية وغيرهم: إذا اختلف الرجل والمرأة في متاع البيت: إن ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومة وأصل الاعتماد على الأمارات هذه الآية.
8- الحذر من فتنة النساء، فإن كيدهن عظيم لعظم فتنتهن، واحتيالهن في التخلص من ورطتهن،
ذكر مقاتل عن أبي هريرة قال: قال(12/249)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء 4/ 76] ، وقال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» .
الفصل الخامس من قصة يوسف انتشار الخبر بين نسوة المدينة ومؤامرة امرأة العزيز بهن وتقرير سجن يوسف
[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)(12/250)
الإعراب:
حُبًّا تمييز.
حاشَ لِلَّهِ حذف الألف للتخفيف، ومن قرأ: حاشى لله، أتى به على الأصل. وحاشى:
فعل في رأي الكوفيين، بدليل تعلق حرف الجر بها في قوله: حاشَ لِلَّهِ وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف. وهي حرف في رأي سيبويه وأكثر البصريين لأن ما بعدها يجيء مجرورا، يقال: حاش أبي ثوبان، ولو كان فعلا لما جاز أن يجيء ما بعده مجرورا. وأما تعلق حرف الجر بها في قوله لِلَّهِ فإن اللام في قوله: حاشَ لِلَّهِ زائدة لا تتعلق بشيء، مثل لام: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] وباء أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق 96/ 14] ثُمَّ بَدا لَهُمْ..
[يوسف 12/ 35] فاعل بدا: مصدر مقدر، دل عليه. بَدا أي ثم بدا لهم بداء، وهو الراجح، وقيل: دل عليه لَيَسْجُنُنَّهُ وقام مقامه، وقيل: الفاعل محذوف تقديره: ثم بدا لهم رأي.
واللام جواب ليمين مضمر، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث.
البلاغة:
سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ استعار المكر للغيبة لأنها تشبهه في الإخفاء.
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ استعار لفظ القطع للجرح أي جرحن أيديهن.
المفردات اللغوية:
نِسْوَةٌ اسم لجمع امرأة، وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي. فِي الْمَدِينَةِ مدينة مصر، وهو ظرف لقال، أي أشعن الحكاية في مصر، أو هو صفة نسوة، وكن خمسا: زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ فتاها:
عبدها، أي تطلب مواقعة غلامها إياها. والعزيز بلغة العرب: الملك. قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي دخل حبه شغاف قلبها. أي غلافه المحيط به حتى وصل إلى فؤادها. فِي ضَلالٍ في خطأ أي انحراف عن طريق الرشد ومقتضى العقل. مُبِينٍ أي بيّن واضح، بحبها إياه.
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن لها، وإنما سمي مكرا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، ولأنهن أردن إغضابها لتعرض عليهن يوسف، فيفزن بمشاهدته. وَأَعْتَدَتْ أعدّت وهيأت لهن. مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من الوسائد في مكان يجلسن فيه متكئين. وقيل: المتكأ: طعام يقطع السكين للاتكاء عنده، وهو الأترج. وَآتَتْ أعطت. وَقالَتِ ليوسف، أَكْبَرْنَهُ أعظمنه. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحن أيديهن بالسكاكين، ولم يشعرن بالألم لشغل قلبهن بيوسف، ودهشتهن من جماله الرائع.(12/251)
وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ تنزيها لله من صفات العجز، وتعجبا من قدرته على خلق مثله.
ما هذا بَشَراً أي ما يوسف من جنس البشر لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ما هذا إلا ملك، لما حواه من الحسن الفائق،
جاء في الحديث: «أنه أعطي شطر الحسن»
أو لما جمع الله له من الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة التي هي من خواص الملائكة.
قالَتْ امرأة العزيز، لما رأت ما حل بهن: فَذلِكُنَّ أي فهذا هو. الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في حبه والافتتان به قبل تصوره حق التصور، ولو تصورتنه بما عائنتن لعذرتنني، والمراد بيان عذرها. فَاسْتَعْصَمَ امتنع امتناعا شديدا، مأخوذ من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية. ما آمُرُهُ به. مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المهانين، فقلن له: أطع مولاتك. أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهن وأوافقهن على أهوائهن. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ وأصر من المذنبين، والقصد بذلك الدعاء.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه. السَّمِيعُ للقول ودعاء الملتجئ إليه. الْعَلِيمُ بالفعل والأحوال وما يصلحهم. بَدا ظهر لهم رأي جديد، وهو أن يسجنوه. الآيات الشواهد الدالة على براءة يوسف. لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي ليدخلنه السجن إلى زمن، ينقطع فيه كلام الناس، فسجن سبع سنين أو خمس سنين. والحين: الوقت غير المحدود من الزمن.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى محنة يوسف مع امرأة العزيز، ونجاته من تلك المحنة وقناعة زوجها ببراءته بناء على شهادة حكم شاهد من أقاربها بما رأى، أورد تعالى ما تمخضت عنه المحنة والمحاولة من نتائج طبيعية هي انتشار الخبر وشيوعه في مصر، ومحاولة امرأة العزيز تبرئة ساحتها أمام النساء بمكيدة محكمة وخطة مدروسة، واعترافها أمامهن بأنها التي راودته عن نفسه، فامتنع، وأنها ما تزال مصرة مصممة على ما تريد، وإلا أودع في قيعان السجون، وتم اتخاذ القرار بالسجن، وآثره يوسف ابتغاء مرضاة الله، بل دعا إليه ربه، فسجن سبع سنين أو خمس سنين.(12/252)
التفسير والبيان:
وقال جماعة من نساء الكبراء والأمراء في مدينة مصر، منكرات على امرأة العزيز وعائبات عليها ومتعجبات منها: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها، وما تزال محاولاتها مستمرة، بدلالة فعل تُراوِدُ الذي يفيد الاستمرار في الطلب في المستقبل، وما زال قلبها متعلقا به.
وأكدوا إنكارهم عليها بأمرين لأن المألوف أن المرأة مطلوبة لا طالبة، وهي امرأة الوزير الأول، وتطلب مخالطة عبدها وخادمها:
الأول- قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه المحيط به، ونفذ إلى سويدائه، فلم تعد تبالي بالعواقب وما يؤول إليه الحال.
والثاني- إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنا لنعتقد ونعلم أنها في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه لفي خطأ واضح وبعد عن الصواب وجهل يتنافى مع مكانتها. وأردن من هذا القول المكر والحيلة، ودفعها إلى دعوتهن والاقتناع بعذرها فيما فعلت. قال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف، فأحببن أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته.
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن، وسوء مقالتهن، وكلامهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، وسمي الاغتياب مكرا لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره، فكما أن الغيبة تذكر على سبيل الخفية، فكذلك المكر.
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي لما بلغها ما تقوله النساء عنها غيابيا، أرسلت إليهن، أي دعتهن إلى منزلها للضيافة، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الكراسي(12/253)
والوسائد والطعام الذي يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه، وأعطت كل واحدة من النساء سكينا لقطع اللحم والفاكهة. ونحوها، وذلك مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، فمكرت بهن كما مكرن بها.
وَقالَتِ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي وبيناهم في تناول الفاكهة والطعام، وكلّ تمسك بسكينها، أمرته بالخروج عليهن، بعد أن كانت قد خبأته في مكان آخر، وكانت ذكية ماهرة في اختيار الوقت المناسب وهو أن يفجأهن وقت انشغالهن بما يقطعنه ويأكلنه.
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.. أي فلما خرج ورأينه، أعظمنه، ودهشن لجماله الفائق وحسنه الكامل، وجعلن يقطعن أيديهن، اندهاشا برؤيته، فجرحن أيديهن، وهن يظنن أنهن يقطعن ما قدم لهن من طعام، وهكذا يفعل المدهوش الذي اجتذب نظره حادث مؤثر، أو منظر غريب، أو شيء مثير.
وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف للتخفيف واتباع المصحف، وقرأ أبو عمرو: وحاشا لله بإثبات الألف وهو الأصل، لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، وحاشا: كلمة تفيد معنى التنزيه، أي وقلن لها على الفور تنزيها لله تعالى عن العجز، وتعجبا حيث قدر على خلق جميل مثله: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا لأنهن لم يرين في البشر مثله، ولا قريبا منه، فإنه عليه السّلام قد أعطي شطر الحسن، كما
ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بيوسف عليه السّلام في السماء الثالثة، فقال: «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» .
ما هذا الذي رأيناه من جنس البشر، وما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر، والمقصود إثبات الحسن العظيم له لأنه استقر في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، وأن لا حي أقبح من الشيطان. فلما رأت النساء روعة(12/254)
جمال يوسف شبهنه بالملك، ونفين عنه البشرية، لغرابة جماله وروعة حسنه.
والأقرب عند الرازي: أن النسوة لما رأين عليه هيبة النبوة والرسالة، وعلامة التطهر والعفة، نفوا عنه آثار الشهوة البشرية والصفات الإنسانية، وأثبتوا له طهر الملائكة.
قالت، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الأخاذ: فذلكن هو الذي وجهتن اللوم إلي بسببه، وعبتنّ علي فعلي. وإنما قالت فَذلِكُنَّ ولم تقل «فهذا» بالرغم من أنه حاضر أمامهن، رفعا لمنزلته في الحسن، وجدارة حبه والافتتان به، واستبعادا لمحله السامي، أي فذلك يوسف البعيد السامي في الكمال والجمال، فأنا معذورة، فهو حقيق أن يحب لجماله وكماله.
وإذا كان هذا حالكن معه في لحظة، فماذا أفعل وهو معي دائما في المنزل، وإني أعترف وأقر أني والله لقد راودته عن نفسه، فامتنع بإباء وشمم عما أردته منه لأنه عفيف طاهر، ورث العفة عن أسلافه.
قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال.
ثم قالت متوعدة إياه بالعقاب: ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب، ليسجنن وليكونن من الذليلين المقهورين لأن زوجي لا يخالف أمري ورغبتي.
وهذا دليل على أن حبه استولى على مجامع نفسها، وأن السجن المؤكد الدائم سيكون عقابه، لا مجرد الحبس المؤقت الذي كانت قد أشارت به على زوجها، عند اكتشاف أمرها لدى الباب، وأنها بهذا التهديد واثقة بسطانها على زوجها، مع علمه بأمرها، واستنكاره سلوكها، فقد أصبح عشقها له، وحبها المتناهي أمرا علنيا لا تواري فيه، ولا تخشى أحدا من نقدها وتوجيه اللوم لها.(12/255)
فعندئذ استعاذ يوسف عليه السّلام من شرهن وكيدهن. والكيد: الاحتيال والاجتهاد، وقال: رَبِّ السِّجْنُ ... أي يا رب، أنت ملاذي وملجئي، إن السجن الذي توعدت به أحب إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية.
وكنى عن امرأة العزيز في قوله كَيْدَهُنَّ بخطاب الجمع، إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والأولى حمل اللفظ على العموم، أي كيد النساء، وليس كيد امرأة العزيز فقط.
وقد أسند الدعوة إلى النساء جميعا لأنهن زيّن له مطاوعتها ونصحنه بالاستجابة لرغبتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار.
وهو في دعائه هذا آثر المشقة على اللذة لأن العذاب المكروه وهو السجن مع البراءة أهون من الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فإن البريء المسجون يشعر بسعادة عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وقد اختار أهون الشرين وأخف الضررين: السجن والزنى، ففي السجن راحة بال وهدوء نفس وخروج عن بيئة الفساد، وتخلص من التحكم في أمره.
ثم أكد دعاءه مبينا عجزه وضعفه، ومفوضا أمره لمن له القدرة والقوة، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ.. أي وإن لم تبعد عني أثر كيدهن، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن، وأكن من الجاهلين السفهاء الذين تستهويهم الشهوات، والذين لا يعملون بما يعلمون لأن الحكيم لا يفعل القبيح، ولأن من لا ينتفع بعلمه فهو ومن لا يعلم سواء.
أي إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي منها قدرة، وإنما أعتصم وألجأ إلى حولك وقوتك، فأنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي. وهذا(12/256)
فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه من الصبر.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.. أي فأجاب ربه دعاءه المفهوم من قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي.. الذي فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف، فصرف عنه كيدهن، وعصمه عصمة عظيمة، وحماه من التورط في المعصية أو الجهل والسفه باتباع أهوائهن، إنه تعالى السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.
وهذا دليل على حراسة ربه له وعنايته به وتربيته تربية مثلي تليق بالأنبياء.
وقد ترفع مع شبابه وجماله وكماله عن مواقعة امرأة عزيز مصر التي كانت أيضا في غاية الجمال والأبهة، وأختار السجن خوفا من الله ورجاء ثوابه،
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يميه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» .
ثُمَّ بَدا لَهُمْ.. ثم ظهر من المصلحة والرأي للعزيز وامرأته والشاهد الذي شهد عليها من أهلها بعد شيوع الخبر، وبعد ما عرفوا براءته، وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم أن يسجنوه لأجل غير معلوم، إيهاما أنه راودها عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك، وتنفيذا لرغبة زوجة العزيز التي تبين أنها ذات سلطان على زوجها، وأنه فقد الغيرة عليها، وآثر رضاها بأى ثمن كان.(12/257)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- إن خبر السوء سرعان ما يشيع في أنحاء المجتمع، وأشد ما يكون شيوعا ما يكون النساء وراءه.
2- كان نقد أكابر النساء في المجتمع المصري لامرأة العزيز لأول وهلة، وبحكم العادة المألوفة، حقا وصوابا، إذ كيف تراود امرأة الوزير الأول عبدا لها وخادما عندها، وهذا مستعظم عادة، لترفع السادة وأنفتهن من مخالطة الخدم والأتباع.
لذا انتقدوا شدة حبها للغلام، ووجدوا أنها حائدة عن طريق الصواب.
3- قابلت امرأة العزيز المكر بمثله، فدعت نساء المدينة إلى وليمة، لتوقعهن فيما وقعت فيه، ولتبدي معذرتها أمامهن، فانبهرن ودهشن بجمال يوسف لحسن وجهه ورينته وما عليه، وجرحن أيديهن بالسكاكين التي كانت معهن لقطع ما يحتاج إلى تقطيع من الطعام، وكن يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ (وهو النارانج أو الكبّاد أو الكريفون وهو ثمر أكبر من الليمون الحامض يؤكل بعد إزالة قشرته) .
4- لم يملك النساء أنفسهن عن التعبير بما دهشن به عند رؤية يوسف، وقالوا: ليس هذا من النوع الإنساني، وإنما هو من جنس الملائكة، والمقصود منه إثبات الحسن الفائق والجمال الرائع، وأنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة، وقوله: حاشَ لِلَّهِ تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا.
5- لما رأت امرأة العزيز افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها:
فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي بحبه، واللوم: الوصف بالقبيح.(12/258)
6- آثر يوسف الصديق دخول السجن ابتغاء مرضاة الله، وأن السجن أحب أي أسهل عليه وأهون من الوقوع في المعصية، لا أنّ دخول السجن مما يحبّ حقيقة. حكي أن يوسف عليه السّلام لما قال: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أوحى الله إليه: «يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت: السجن أحبّ إلي، ولو قلت: العافية أحبّ إلي لعوفيت» .
7- جمع يوسف عليه السّلام في دعائه ليكون قدوة للبشر بين التأثر بالنوازع البشرية والميل الإنساني إلى النساء وبين جهاد النفس الذي استعان بالله عليه، وأوضح أن الوقوع في أهواء النساء جهل، وكون المنزلق من زمرة الجاهلين، أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال الذين يعملون بنقض ما يعلمون. ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.
8- استجاب الله تعالى دعاء يوسف، ولطف به، وعصمه عن الوقوع في الزنى لصبره والاستعاذة بالله من الكيد. وهو شأنه تعالى يستجيب دعاء كل ملهوف، مستعصم به، ممتنع عن المعاصي ابتغاء رضوان الله تعالى.
9- اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارا بسجن يوسف إلى مدة غير معلومة، كتمانا للقصة ألا تشيع بين الناس، بالرغم مما ثبت لهم من عفته ونزاهته، ورأوا الآيات، أي العلامات على براءته من قدّ القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحزّ الأيدي بالسكاكين، وقلة صبر النساء عن لقاء يوسف.
10- لم يرض يوسف عليه السلام بارتكاب الفاحشة لعظم منزلته وشريف قدره، بالرغم من إكراهه على ذلك بالسجن، وأقام خمسة أعوام. وبناء عليه قال العلماء: لو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا.
فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا،(12/259)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحدّه، فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يجعله بين بلاءين، فإنه من أعظم الحرج في الدين: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 22/ 78] .
الفصل السادس من قصة يوسف يوسف في السجن ودعوته إلى الدين الحق
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 40]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)(12/260)
الإعراب:
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ سمّى: يتعدى إلى مفعولين، يجوز حذف أحدهما، فالأول: ها في سَمَّيْتُمُوها والثاني: محذوف، وتقديره: سميتموها الهة. وأَنْتُمْ تأكيد تاء سميتموها، ليحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل فيها.
البلاغة:
أَعْصِرُ خَمْراً مجاز مرسل باعتبار ما سيكون، أي أعصر عنبا يؤول إلى خمر.
المفردات اللغوية:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي أدخل يوسف السجن، وصادف أن دخل معه غلامان آخران للملك، أحدهما: ساقيه، والآخر صاحب طعامه أي خبازه، فرأياه يعبر الرؤيا، فقالا:
لنختبرنه. قالَ أَحَدُهُما وهو الساقي. خَمْراً أي عنبا يكون خمرا. وَقالَ الْآخَرُ وهو صاحب الطعام الخباز. نَبِّئْنا خبرنا. بِتَأْوِيلِهِ بتعبيره. مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين.
قال لهما مخبرا أنه عالم بتعبير الرؤيا. تُرْزَقانِهِ في منامكما. نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ في اليقظة أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الواقع. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما تأويله ويتحقق المراد منه، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد، ويرشدهما إلى الطريق القويم، قبل أن يجيبهما على سؤالهما.
ذلِكُما أي ذلك التأويل مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالإلهام والوحي، وليس من قبيل التكهن أو التنجيم، وهذا أيضا فيه حثّ على إيمانهما ثم قواه بقوله: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ دين قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ هم: تأكيد كفرهم بالآخرة، وهذا تعليل لما قبله، أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ.. معطوف على تَرَكْتُ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق به. وهو دليل على أنه يجوز لغير المعروف أن يصف نفسه حتى يعرف، فيستفاد منه. ما كانَ لَنا أي ما كان ينبغي لنا أو ما صحّ لنا معشر الأنبياء. أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي شيء كان، لعصمتنا. ذلِكَ أي التوحيد. مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي. وَعَلَى النَّاسِ وعلى سائر الناس، ببعثتنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم، وهم الكفار لا يَشْكُرُونَ الله على هذا الفضل، فيشركون ويعرضون عنه.
ثم صرح يوسف بدعوتهما إلى الإيمان فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا ساكنيه أو(12/261)
يا صاحبيّ فيه. أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ.. استفهام تقرير. أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي هل الأرباب الشتى المتعددون خير أم الله الواحد المنفرد بالألوهية، الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره؟ مِنْ دُونِهِ أي غيره. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها أصناما. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ حجة وبرهان، أي فليست هي إلا أشياء ذات أسامي أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها، فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة، والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها.
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما القضاء في أمر العبادة إلا لله وحده لأنه المستحق لها بالذات، من حيث إنه الواجب لذاته، الموجد للكل، المالك لأمره. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أمر على لسان الأنبياء ألا تعبدوا إلا الذي دلت عليه الحجج. ذلِكَ التوحيد الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الحق، وأنتم لا تميزون المعوج من القويم. وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، فإنه عليه السّلام بين لهم:
أولا- رجحان التوحيد على تعدد الآلهة.
وثانيا- برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الألوهية، فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير، وكلا القسمين منتف عن تلك الآلهة.
وثالثا- نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دود.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار لا يَعْلَمُونَ فيخبطون في جهالاتهم، ولا يدرون ما يصيرون إليه من العذاب، فهم يشركون.
المناسبة:
بعد أن اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارهم بحبس يوسف، بالرغم من اقتناعهم بعفته ونزاهته وبراءته، ذكر الله تعالى هنا تنفيذهم ذلك القرار الذي عزموا عليه، من إدخاله السجن، وأنهم لما أرادوا حبسه حبسوه وحبسوا معه اثنين من عبيد الملك، وأن الله لطف بهم إذ علّمه تعبير الرؤيا، وكان ذلك طريقا لإنقاذه من السجن.(12/262)
التفسير والبيان:
لما أرادوا حبس يوسف حبسوه، وحبسوا معه غلامين من عبيد الملك، أحدهما: ساقيه، والآخر: خبازه لأنه رفع إليه أنهما تمالا على سمه في طعامه وشرابه، وليس ذلك مصادفة، ولكن تقدير العزيز العليم، وكان يوسف مشهورا في السجن بصدق الحديث وتعبير الرؤيا.
فرأيا رؤيا، فقال الساقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا يصير بعدئذ خمرا، وقال الخباز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، فقالا ليوسف: أخبرنا بتأويل وتفسير ما رأينا، فهل سيحدث حقا أو هو مجرد أضغاث أحلام؟ إِنَّا نَراكَ.. إنا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أي من المحسنين في علم التعبير لأنه متى عبّر لم يخطئ، كما قال: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أو من المحسنين الذين يريدون الخير والإحسان للناس.
فانتهز يوسف هذه الفرصة، وهي ثقة هذين الرجلين به وبعلمه وإخلاصه، فاندفع يدعوهما ومن معهما في السجن إلى توحيد الله الخالص، وترك الأوثان، فكان دخوله السجن لحكمة.
ومهد لدعوته بما يدل على المعجزة على صدقه، فقال لهما: لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما.
وهذا من تعليم الله إياي بوحي منه وإلهام، لا بكهانة ولا عرافة ونحوهما من علوم البشر. وهذا يدل على أن يوسف أوحي إليه، وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين والمذنبين، فهم أقرب إلى التصديق بدعوته من غيرهم.
وسبب الوحي أني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر وهم الكنعانيون وغيرهم من أهالي فلسطين، والمصريين الذين كانوا يعبدون آلهة متعددة كالشمس(12/263)
(رع) والعجل (أبيس) والفراعنة (حكام مصر) فهؤلاء لا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد، وهم كافرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الصحيح الذي دعا إليه الأنبياء، كالاعتقاد بأن الفراعنة يعودون إلى الآخرة بأجسامهم المحنطة، ويكون لهم فيها الحكم والسلطان، كما كانوا في الدنيا. وتكرير لفظ هُمْ للتأكيد وبيان اختصاصهم بالكفر، ولمبالغتهم في إنكار المعاد.
وقد هجرت طريق الكفر والشرك، وتركت ملة الكافرين الذين لا يصدقون بالله ولا يقرون بوحدانيته، وأنه خالق السموات والأرض، واتبعت ملة آبائي الأنبياء المرسلين: إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين يدعون إلى التوحيد الخالص. وتعبيره آبائِي مفيد أن الجد أب، وأنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه لإخباره بالمغيبات، ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله.
وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه، ويعلمه ما لم يكن يعلم، ويجعله إماما يقتدى به في الخير، وداعيا إلى سبيل الرشاد. وذلك ترغيب بالإيمان بالله وتوحيده.
ثم قرر منهج الأنبياء بصفة عامة، فقال: ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله، أي شيء كان، من ملك أو جني أو إنسي، فضلا عن أن شرك به صنما أو وثنا لا يسمع ولا يبصر.
ذلك التوحيد، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو من فضل الله علينا، إذ هدانا إلى الإقرار بوجوده وتوحيده في ربوبيته وألوهيته، وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننبههم إلى الصواب ونرشدهم إليه، ونبعدهم عن طريق الضلال، فهو فضل إلهي على الرسل وعلى المرسل إليهم.(12/264)
ولكن أكثر الناس المبعوث إليهم لا يشكرون فضل الله، فيشركون ولا يتنبهون، ولا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إبراهيم 14/ 28] .
وبعد أن أبطل يوسف عليه السّلام عبادة الشرك والمشركين، وأثبت النبوة، دعا إلى التوحيد الخالص القائم على الاعتراف بإله واحد ورب واحد، لا بآلهة متعددة، وهكذا مبدأ الأنبياء يهدمون عبادة الوثنية أولا، ثم يقيمون الأدلة العقلية على وجود الله ووحدانيته، فقال: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ ...
أي يا صاحبيّ في السجن، هل تعدد الآلهة وتشتت الأرباب المتفرقين في الذوات والصفات التي تدعو إلى النزاع والتصادم وفساد الكون خير لكما ولغيركما في طلب النفع ودفع الضر والإعانة في عالم الغيب، أو الله الواحد الأحد الذي لا يحتاج لغيره ولا ينازع في تصرفه وتدبيره، القهار بقدرته وإرادته، الذي ذل كل شيء لجلاله وعظمته؟! ثم بين حقيقة آلهتهم فقال: ما تَعْبُدُونَ ... أي إن تلك الآلهة التي تعبدونها وتسمونها آلهة إنما هي أسماء مجردة لمسميات وضعوها من تلقاء أنفسهم، ليس لها مقومات، ولا مستند من عند الله، وما أنزل الله بتسميتها أربابا حجة ولا برهانا، حتى تصح عبادتها ويطيعها الناس، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي.
ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله، وقد أمر عباده قاطبة ألا يعبدوا إلا إياه، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق الذي لا عوج فيه، فلهذا كان أكثرهم مشركين، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] .(12/265)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- قدّر الله تعالى مع سجن يوسف سجن اثنين آخرين من عبيد الملك، كانا سبب الإفراج عنه من السجن في المستقبل.
2- إن تعبير الأحلام يحتاج لعلم وصلاح وتقوى وإحسان، وإن الرؤيا قد تكون حقا،
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان عن أنس: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» .
3- كان يوسف بشهادة السجناء من زمرة المحسنين، وإحسانه: أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزّي الحزانى. وأنه كان من العالمين الذين أحسنوا العلم، فقولهم فيه يعني أنه عالم يؤثر الإحسان، ويأتي بمكارم الأخلاق، وجميع الأفعال الحميدة.
4- أعلن يوسف للسائلين اللذين سألاه عن تفسير رؤيا في المنام: أنه كان يخبرهما عن نوع الطعام وصفاته الذي يأتيهما من جهة الملك أو غيره، قبل الإتيان به، بوحي من الله عز وجل، لا تكهّنا وتنجيما، وهو إخبار بالغيب دال على نبوته، ومعجزة مثبتة لرسالته.
5- النبي المكلف بالدعوة ينتهز كل الفرص المناسبة للقيام بواجبه، وهذا ما فعله يوسف عليه السّلام، فإنه دعا إلى محاربة الشرك والوثنية، وإبطال عبادة المشركين، وإلى توحيد الله تعالى، متبعا ملة أجداده وآبائه الأنبياء:
إبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أنبياء على الحق، وفائدة ذكر هؤلاء الأنبياء أنه عليه السّلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب، قرن به كونه من أهل بيت النبوة.(12/266)
وليس من شأن الأنبياء الإشراك بالله أيا كان نوع الشرك.
وهذا من فضل الله على الرسول مما يشير إلى عصمته من الزنى، والمرسل إليهم هم المؤمنون الذين عصمهم الله من الشرك. وقوله مِنْ شَيْءٍ رد على كل أصناف الشرك كعبادة الأصنام، وعبادة النار، وعبادة الكواكب، وعبادة الطبيعة، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله.
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على نعمة الإيمان والتوحيد. وقوله مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله تعالى.
6- نفى يوسف بالدليل العقلي والنقلي تعدد الآلهة، وأثبت صحة القول بوحدانية الإله وربوبيته.
7- إن الآلهة المزعومة من الأصنام والأوثان وغيرها أسماء مخترعة من عند الناس أنفسهم، ليس لها من الألوهية شيء إلا الاسم لأنها جمادات، وأما مسمياتها فليست لها حقيقة موضوعية، ويرفضها العقل والنقل.
8- لا حكم إلا لله، لأنه خالق الكل، فهو المستحق العبادة وحده لا شريك له، لذا أمر ألا يعبد سواه.
9- الدعوة إلى توحيد الإله هو الدين المستقيم أو القويم الذي لا عوج فيه، ولكن أكثر الناس لا يدرون حقيقة الدين الصحيح.
10- أورد الرازي خمس حجج على بطلان تعدد الآلهة وهي بإيجاز وتصرف ما يأتي «1» :
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 140 وما بعدها.(12/267)
الأولى- أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم، وهو المراد بقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل والتنازع والصراع، أما توحيد الإله فيقتضي حصول النظام وحسن الترتيب.
الثانية- أن هذه الأصنام ونحوها من البشر والكواكب معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة.
الثالثة- أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته لأنه لو كان له ثان، لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك. وهذا دليل على فساد القول بعبادة الأوثان لأنها على فرض كونها نافعة ضارة لا نعلم حصول النفع ودفع الضرر من هذا الصنم، أو من ذاك، أو بالتعاون والاشتراك، فلا يعرف المستحق للعبادة، هو هذا أم ذاك.
الرابعة- لو فرض أن هذه الأصنام تنفع وتضر، على ما يزعم أصحاب الطلاسم، فإن ذلك في وقت مخصوص وواقعة مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات في كل الأوقات، فكان الاشتغال بعبادته أولى.
الخامسة- إن اتصاف الإله بصفة الْقَهَّارُ يقتضي ألا يقهره أحد سواه، وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه، وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا، ويجب أن يكون واحدا لا متعددا، إذ لو تعدد لما كان قاهرا لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا، وهذا لا ينطبق على الأفلاك والكواكب والنور والظلمة والطبيعة ونحوها من الآلهة المزعومة.
11- يستحسن للعالم إذا استفتاه أحد الجهال والفساق أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك.(12/268)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
12- إذا جهلت منزلة العالم فوصف نفسه بما هو ملائم المسألة، وكان غرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين، لم يكن ذلك من باب تزكية النفس المنهي عنها «1» : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم 53/ 32] .
الفصل السابع من قصة يوسف
- 1- تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن ووصيته للناجي منهما
[سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
المفردات اللغوية:
أَمَّا أَحَدُكُما أي الساقي فيخرج بعد ثلاث رَبَّهُ سيده خَمْراً يسقيه خمرا على عادته وَأَمَّا الْآخَرُ الخباز، فيخرج بعد ثلاث، فيصلب، فقالا: كذبنا وما رأينا شيئا، فقال:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي قطع الأمر الذي سألتما عنه، صدقتما أم كذبتما. والاستفتاء:
طلب الفتوى عن السؤال المشكل، والفتوى: جواب السؤال.
لِلَّذِي ظَنَّ أيقن أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الساقي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ سيدك، فقل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما فَأَنْساهُ أي الساقي ذِكْرَ يوسف فَلَبِثَ مكث يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع: من الثلاث إلى التسع، قيل: إنه مكث سبعا في السجن.
__________
(1) تفسير الكشاف: 2/ 137(12/269)
المناسبة:
بعد أن قرر يوسف عليه السّلام مسألة التوحيد وعبادة الله والنبوة، عاد إلى الإجابة عن السؤال، وتعبير الرؤيا.
التفسير والبيان:
قال يوسف: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا- ولكنه لم يعينه في خطابه لئلا يحزن- فيسقي سيده خمرا كما كان في عادته. وقوله: رَبِّهِ لم يقصد ربوبية العبودية، فإن ملك مصر في زمن يوسف لم يدّع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى عليه السّلام. روي أن يوسف قال له: ما أحسن ما رأيت، أما حسن العنبة فهو حسن حالك، وأما الأغصان:
فثلاثة أيام، يوجه إليك الملك عند انقضائهن، فيردك إلى عملك، فتصير كما كنت، بل أحسن «1» . وهذا دليل على أنه كان بريئا من تهمة المشاركة في تسميم الملك.
وأما الآخر: وهو الخباز الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه: فيصلب، فتأكل الطيور الجوارح كالنسر والعقاب والصقر والحدأة والرخمة من رأسه. روي أن يوسف قال له: بئسما رأيت، السلال الثلاث ثلاثة أيام، يوجه إليك الملك عند انقضائهن، فيصلبك، وتأكل الطير من رأسك، وهذا يدل على أن الخباز هو الذي اتهم بتسميم الملك وثبتت عليه التهمة. لكن تفاصيل هذه الرواية والتي قبلها تعارض ظاهر الآية.
ثم نقل في التفسير: أنهما قالا: ما رأينا شيئا فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي لا تناقشا فإن الأمر قد نفذ، وسبق الحكم الذي تسألان عنه.
والاستفتاء لغة: السؤال عن المشكل، والفتوى: جوابه.
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 142(12/270)
وهذا صحيح لأن يوسف أعلم الصاحبين أن هذا قد فرغ منه، وهو واقع لا محالة لأن الرؤيا على رجل طائر، ما لم تعبّر، فإذا عبرت وقعت.
روى الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت» .
وجواب يوسف ليس مجرد تعبير رؤيا مبني على الظن والحسبان، وإنما اعتمد على الوحي من الله تعالى، والوحي يفيد القطع واليقين، لا الظن والتخمين.
ثم أخبر يوسف عليه السّلام خفية لمن ظن أي تيقن أنه ناج وهو الساقي، دون علم الآخر، لئلا يشعره أنه المصلوب، وقال له: اذكر قصتي عند سيدك وهو الملك، لعله يخرجني من السجن بعد أن علم براءتي، وهذا من قبيل الأخذ بالأسباب الظاهرية المطلوبة عادة وشرعا، للنجاة والإنقاذ.
فأنسى الشيطان ذلك الناجي تذكير الملك بقصة يوسف، وكان النسيان من جملة مكايد الشيطان، لئلا يخرج نبي الله يوسف من السجن، فيدعو إلى توحيد الله وعبادته، ومقاومة الشرك، ومطاردة وساوس الشيطان.
فلبث يوسف في السجن منسيا مظلوما بضع سنين أي من الثلاث إلى التسع، قيل: إنه مكث سبعا، قال وهب بن منبّه: مكث أيوب في البلاء سبعا، ويوسف في السجن سبعا، وعذب بختنصّر سبعا. وقال مقاتل: مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا.
وقال ابن عباس: ثنتا عشرة سنة، وقال الضحاك: أربع عشرة سنة.
والرأي الأول أصح لأنه داخل في معنى البضع.
ومن المعلوم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن(12/271)
الأولى بالصدّيقين ألا يلجأوا إلا إلى الله في رفع الأسباب، فهو مسبب الأسباب ورافعها.
روي أن جبريل جاء إلى يوسف، وهو في السجن، معاتبا له إذ استغاث بالآدميين، فقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك؟! قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجبّ؟ قال: الله تعالى، قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟
قال: الله تعالى، قال: فكيف تركت ربك، فلم تسأله، ووثقت بمخلوق؟! قال: يا ربّ، كلمة زلّت مني، أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يلي:
1- إن تعبير الرؤيا يعتمد على العلم والصلاح والتقوى، فلا يفيد ذلك من العالم إلا الظن، وأما يوسف عليه السّلام فكان تعبيره الرؤيا مقترنا بالوحي من ربه، فيفيد اليقين.
2- من كذب في رؤياه، ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قال: العلماء:
لا يلزمه، وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، فأوجد الله تعالى ما أخبر به الرائي كما قال، تحقيقا لنبوته.
3- الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة، لا إنكار عليه،
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 195- 196(12/272)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
لكن الأمر بالنسبة ليوسف الصدّيق كان خلاف الأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
4- كان من جملة مكايد الشيطان إنساء الناجي من السجن تذكير مولاه الملك بقصة يوسف عليه السّلام، لئلا يطلع من السجن.
5- لبث يوسف في السجن بضع سنين، وهي إما خمس سنين، وإما سبع سنين، كما روي عن بعض المفسرين. وعلى أي حال فهي مدة طويلة، صبر فيها يوسف على مراد الله، وآثر السجن على الوقوع في معصية الزنى.
- 2- تأويل يوسف رؤيا الملك
[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)(12/273)
الإعراب:
لِلرُّءْيا اللام زائدة للبيان أو لتقوية العامل، كما في آية: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] لأنها تزاد في المفعول به إذا تقدم على الفعل، وقد جاء أيضا زيادتها معه، وليس بمتقدم، مثل قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النمل 27/ 72] لكن زيادتها مع التقديم أحسن. دَأَباً منصوب على المصدر، وقرئ بسكون الهمزة وفتحها.
البلاغة:
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ استعمل صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية بين كل من سِمانٍ..
وعِجافٌ وخُضْرٍ.. ويابِساتٍ طباق.
أَضْغاثُ أَحْلامٍ شبه اختلاط الأحلام المشتملة على المحبوب والمكروه، والسّار والمحزن باختلاط الحشيش المجموع من أصناف متنوعة.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ براعة استهلال تتضمن الاستعطاف بالثناء للوصول إلى الجواب.
يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ مجاز عقلي من قبيل الإسناد إلى الزمان والمراد به الناس لأن السنين لا تأكل، وإنما يأكل الناس ما ادخروه فيها.
لمفردات اللغوية:
وَقالَ الْمَلِكُ ملك مصر وهو الريان بن الوليد إِنِّي أَرى أي رأيت سِمانٍ جمع سمينة يَأْكُلُهُنَّ يبتلعهن عِجافٌ سبع من البقر هزيلة ضعيفة، جمع عجفاء وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ جمع سنبلة وهي التي تحمل الحب الذي انعقد، واليابسات: ما آن حصاده الْمَلَأُ أشراف القوم تَعْبُرُونَ تفسرون ببيان المعنى المراد أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ بينوا لي تعبيرها، وهو الانتقال من الصور الخيالية إلى الواقع الحسي المشاهد.
أَضْغاثُ أخلاط، واحدها ضغث: وهو حزمة النبات أو مجموعة الحشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة أَحْلامٍ جمع حلم بضم اللام وتسكينها: ما يرى في النوم، وهو قد يكون واضح المعنى كأفكار اليقظة، وقد يكون غامضا مضطربا يشبه مجموعة الحزم والحشائش التي لا تناسب بينها. وإنما جمعوا الأحلام للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان والكذب والزيف وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة، أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة، وهو مقدمة ثانية للاعتذار بالجهل بتأويله.(12/274)
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي من الفتيين وهو الساقي وَادَّكَرَ أي تذكر يوسف، وفيه أبدل التاء في الأصل دالا، ثم أدغم في الدال أصله «اذتكر» بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكر يوسف بعد طائفة من الزمن مجتمعة أي مدة. فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده علم أو إلى السجن، فأتى يوسف.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي يا يوسف الكثير الصدق أو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله، وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك وأصحابه أو إلى أهل البلد إذ قيل: إن السجن لم يكن فيه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما من الرجوع.
تَزْرَعُونَ ازرعوا دَأَباً متتابعة، على عادتكم المستمرة، وهي تأويل السبع السمان فَذَرُوهُ اتركوه وادخروه فِي سُنْبُلِهِ لئلا يفسد أو يسوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين، فادرسوه.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد السبع المخصبات سَبْعٌ شِدادٌ مجدبات صعاب، وهي تأويل السبع العجاف يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن، فأسند إلى السنين على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون وتدخرون للبذر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السبع المجدبات عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ بالمطر من الغوث والإغاثة من القحط وَفِيهِ يَعْصِرُونَ الأعناب وغيرها لخصوبته. وهذه بشارة، بعد أن أوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي، أو بما جرت به السنة الإلهية على أن يوسع على عباده، بعد ما ضيق عليهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن، ذكر تأويل رؤيا ملك مصر الذي كان من ملوك العرب المعروفين بالرعاة (الهكسوس) بعد أن أعلن الكهنة والعلماء وأهل الرأي عجزهم عن تأويلها، وقالوا: أضغاث أحلام، فكان هذا سببا في اتصال يوسف بالملك.
التفسير والبيان:
هذه رؤيا ملك مصر التي قدر الله أن تكون سببا لخروج يوسف عليه السّلام من السجن معززا مكرما، والقصة أن الملك هالته هذه الرؤيا وتعجب من(12/275)
أمرها، وكيفية تفسيرها، فجمع الكهنة وكبار رجال دولته وأمراءه، فقص عليهم ما رأى، وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك، واعتذروا عن تأويلها بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أخلاط أحلام.
والمعنى: وقال ملك مصر: إني رأيت في منامي رؤيا أدهشتني، وهي أن سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، أكلتهن سبع بقرات عجاف هزيلات، وسبع سنبلات خضر انعقد حبها، غلبتها سبع أخر يابسات آن حصادها، فالتوت عليها.
فقال للملأ من قومه وهم الكهنة والعلماء: عبّروا على هذه الرؤيا، إن كنتم تعلمون تعبير الرؤيا، وبيان معناها الخيالي، وترجمتها إلى الواقع الحقيقي.
فقالوا: هذه أحلام مختلطة من خواطر وخيالات تتراءى للنائم في دماغه، ولا معنى لها، وتنشأ من اضطراب الهضم، وتلبّك المعدة، وتعب النفس أحيانا، ولسنا عالمين بتأويل أمثالها، فلو كانت رؤيا صحيحة، لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها.
وحينئذ تذكر الذي نجا من الموت من صاحبي يوسف في السجن، وهو الساقي، وكان الشيطان قد أنساه ما أوصاه به يوسف، من عرض أمره للملك، وكان تذكره بعد مدة من الزمان أي بعد نسيان، فقال للملك والملأ الذين جمعهم حوله: أنا أخبركم بتأويل هذا المنام، فابعثوني (وهو خطاب للملك والجمع، أو للملك وحده على سبيل التعظيم) إلى يوسف الصديق الموجود حاليا في السجن.
فبعثوه فجاء فقال: يا يوسف، أيها الرجل كثير الصدق في أقوالك وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، أفتنا في منام رآه الملك، لعل الله يجعل لك فرجا ومخرجا بسبب تأويلك رؤياه.
فذكر له يوسف النبي عليه السّلام تعبيره من غير لوم وعتاب على نسيانه(12/276)
ما وصاه به، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك، فقال: مبينا لهم خطة أربع عشرة سنة: إنه يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات.
ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تكون سببا للثمرات والزروع، وهن السنبلات الخضر.
ثم أرشدهم إلى ما يفعلون في سني الخصب، فقال: مهما جنيتم في هذه السبع السنين الخصب من الغلال والزروع، فادخروه في سنبله، لئلا يأكله السوس، إلا المقدار القليل الذي تأكلونه، فادرسوه، ولا تسرفوا فيه لتنتفعوا بالباقي في السبع الشداد الصعاب، وهن السبع السنين الجدب التي تعقب هذه السنوات السبع المتواليات، وهن البقرات العجاف، اللاتي تأكل السمان لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب، وهن السنبلات اليابسات، ففي سني القحط لا تنبت الأرض شيئا، وما بذروه لا يرجع منه شيء، لهذا قال:
يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا.. أي إن أهلها يأكلون كل ما ادخرتم في تلك السنين السابقة لأجل السنين الجدباء، إلا قليلا مما تحزنون وتحرزون وتدخرون لبذور الزراعة. ويلاحظ أنه نسب الأكل للسنين وأراد به أهلها.
والخلاصة: تأول يوسف عليه السّلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين محصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة.
ثم بشرهم بمجيء عام يغاث فيه الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر، وتغل البلاد، ويعصر الناس فيه ما كانوا يعصرون عادة من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب التمر والعنب ونحوها.
وهذا الإخبار بمغيبات المستقبل من وحي الله وإلهامه، لا مجرد تعبير للرؤيا، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرؤيا بمجيء عام مبارك خصيب، كثير الخير، غزير النعم، وهو إخبار من جهة الوحي.(12/277)
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات تعبير رؤيا الملك الذي كان سببا في خروج يوسف من السجن، وقد دلت على الآتي:
1- لما دنا فرج يوسف عليه السّلام رأى الملك الأكبر: الرّيان بن الوليد رؤياه، فعرضها على الكهنة والعلماء، فاعتذروا عن تأويلها، وكان عجزهم عن التعبير سببا في إحالة الأمر إلى يوسف.
2- كانت رؤيا الملك في آخر الأمر بشرى ورحمة ليوسف.
3- الرؤيا نوعان: منها حق، ومنها أضغاث أحلام وهي الكاذبة، كما قال ابن عباس.
4- في الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أوّل ما تعبر لأن القوم قالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ ولم تقع كذلك فإن يوسف فسّرها على سنّي الجدب والخصب، فكان كما عبّر، وأما حديث أبي يعلى عن أنس مرفوعا:
«الرؤيا لأول عابر» فيظهر أنه ضعيف.
وفيها دليل أيضا على فساد أن الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت.
وأما الحديث المتقدم الذي رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ والمعنى فلم تثبت صحته.
5- إن تذكر الخير والإقدام على فعله بعد نسيان، كما حدث للناجي الذي نسي ذكر أمر يوسف للملك، مردّه إلى القضاء والقدر والتوفيق الإلهي.
6- كان ذهاب ساقي الملك إلى يوسف في سجنه سببا في معرفة مكانه في الفضل والعلم، فخرج من السجن، كما كان تأويل الرؤيا سببا في إنقاذ أهل مصر من المجاعة مدة سبع سنوات، وهكذا فإن الأنبياء والرسل عليهم السلام رحمة(12/278)
للناس جميعا، سواء في تصحيح العقيدة وتقويم الأخلاق، وتصحيح السلوك، أو في الحياة المعيشية والاقتصادية.
وقد استفيد من فعل يوسف سلامة الخطة ونجاح سياسة التخطيط، وتعليم الناس كيفية حفظ الحبوب من التسوس، وهو إرشاد زراعي رفيع المستوى.
7- قال القرطبي: آية تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ.. أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل، ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق «1» .
8- كان إخبار يوسف عليه السّلام عن عام الإنقاذ والخصب بعد أربع عشرة سنة وحيا من الله وإلهاما له، وتلك معجزة تدل على صدق نبوته.
9- دل قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي مما تحبسون أو تدخرون لتزرعوا، على أن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وهو يدل أيضا على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.
10- قال القرطبي أيضا: هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرّج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن فكيف إذا كانت آية لنبي، ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله وبين عباده «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 203
(2) المرجع السابق: 9/ 204(12/279)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
11- لم يكن لإخبار يوسف عليه السّلام عن عام الغوث إشارة في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله، وفيه تطمين لأهل مصر بشيوع الرخاء الاقتصادي، والرفاه المعيشي، واستقرار أحوال الناس بحسب عاداتهم القديمة بعصر الأعناب، واستخراج الأدهان، وحلب الألبان لكثرتها، وكثرة النبات، وذلك دليل على رحمة الإنسان والحيوان، وهو فضل من الله وإحسان.
الفصل الثامن من قصة يوسف
- 1- طلب الملك رؤية يوسف والأمر بإخراجه من السجن وامتناعه من الخروج حتى تثبت براءته
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
الإعراب:
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول، أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني، أو ظرف مكان أي بمكان الغيب.(12/280)
المفردات اللغوية:
وَقالَ الْمَلِكُ بعد ما جاءه الرسول بتعبير الرؤيا وأخبره بتأويلها ائْتُونِي بِهِ أي بالذي عبرها فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ أي لما جاء الرسول إلى يوسف وطلبه للخروج قالَ قاصدا إظهار براءته فَسْئَلْهُ اطلب منه أن يسأل ما بالُ النِّسْوَةِ.. أي ما حال النسوة الذي يشغل البال إِنَّ رَبِّي سيدي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي: أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه، وعلى أنه بريء مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن، فرجع فأخبر الملك فجمعهن. وإنما تريث يوسف في الخروج، وقدم سؤال النسوة ليظهر براءته، ويعلن أنه سجن ظلما، وهذا يدل على أنه ينبغي على المرء أن يجتهد في نفي التهم، ويتقي مواضعها. وإنما قال: فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ ولم يقل: فاسأله أن يفتش عن حالهن، إغراء له بالبحث وتحقيق الحال. وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب.
ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن وأمركن العظيم، والخطب: أمر يحق أن يخاطب به صاحبه إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا إليكن حاشَ لِلَّهِ تنزيه لله وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله مِنْ سُوءٍ ذنب حَصْحَصَ الْحَقُّ ظهر الحق وثبت واستقر وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: هي راودتني عن نفسي.
فأخبر يوسف بذلك فقال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أي طلب البراءة والتثبيت ليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ لم أخنه في أهله بظهر الغيب أي وراء الأستار والأبواب المغلقة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم، فأوقع فعل يَهْدِي على الكيد مبالغة. وفيه تعريض بامرأة العزيز: زليخا أو راعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته.
المناسبة:
بعد أن عاد الساقي إلى الملك يخبره بتعبير يوسف عليه السّلام للرؤيا، استحسنه، وطلب الملك رؤيته حتى يتحقق بنفسه صدق ما تشير إليه الرؤيا، إذ ليس الخبر كالعيان.
وهذا الطلب يدل على فضيلة العلم، وأن العلماء يستشارون في مهام الأمور، وأن العلم كان سببا لخلاص يوسف من المحنة الدنيوية، وهو أيضا سبب للخلاص من المحن الأخروية، لذا طلب يوسف التحقيق في التهمة المشهورة:
تهمة امرأة العزيز له.(12/281)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن موقف الملك الذي استراح لتعبير يوسف رؤياه، فعرف فضل يوسف وعلمه، وسعة اطلاعه، واهتمامه بأهل بلده ورعاياه، وأدرك أن تفسير الرؤيا بما سمع كلام خطير يدل على رجاحة عقل يوسف وقوة ذكائه، فهو جدير بمقابلته شخصيا ليسمع منه الأمر.
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي أخرجوه من السجن، وأحضروه لي، كي أستمع إلى كلامه، وأتلمس مصداق الرؤيا بنفسي، فلما جاءه الرسول بذلك، امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن كان ظلما وعدوانا.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلّم موقف يوسف عليه السّلام، ونبه على فضله وشرفه، وعلو قدره وصبره،
ففي مسند أحمد والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «.. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، لأجبت الداعي» .
قالَ: ارْجِعْ.. قال يوسف ردا على طلب مثوله أمام الملك: ارجع إلى سيدك، فاسأله عن حال النسوة اللاتي جرحن أيديهن إذ لا أحب أن آتيه وأنا متهم بمسألة سجنت من أجلها، واطلب من الملك أن يحقق في تلك القضية قبل أن آتيه، ليعرف حقيقة الأمر، إن ربي العالم بخفايا الأمور عليم بكيدهن وتدبيرهن وما دبرن لي من كيد.
فجمع الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطبا لهن كلهن، وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز: ما خطبكن أي ما شأنكن وخبركن حين راودتن يوسف عن نفسه يوم الضيافة، أو ما شأنكن الخطير حين دعوتن يوسف إلى ارتكاب الفاحشة؟!(12/282)
قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ.. أجبن الملك: معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء، وهو تعبير أريد به تبرئته والتعّجب من نزاهته وعفّته، أي حاشا لله أن يكون يوسف متّهما، والله ما علمنا عليه سوءا في تاريخه الطويل.
وحينئذ قالت امرأة العزيز: الآن تبيّن الحقّ وظهر، أنا راودت يوسف عن نفسه، لا هو، فإنه استعصم وامتنع أيّما امتناع، وإنه لصادق في قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقد أرادت بذلك مكافأة يوسف على صون سمعتها، وإخفاء أمرها، وإعراضه عن شأنها. وهو اعتراف صريح من امرأة العزيز ببراءة يوسف من الذّنوب والعيوب.
ثم قالت: ذلك الاعتراف منّي بالحقّ، ليعلم يوسف في سجنه أنّي لم أخنه أثناء غيبته، أو أطعن في شرفه وطهارته وعفّته. ويجوز كما رأى الزّمخشري أن يكون ذلك الكلام كلام يوسف عليه السّلام وهو متّصل بقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ والمعنى: ذلك الأمر الذي فعلته من ردّ الرّسول والتّثبت ومطالبة الملك بالتّحقيق في أمري، حتى تظهر براءتي أمام الملك والنّاس، وليتيقّن العزيز أنّي لم أخنه في زوجته أثناء غيابه، بل تعففت عنها «1» . وعقّب أبو حيان على ذلك فقال: ومن ذهب إلى أن قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ.. إلخ من كلام يوسف يحتاج إلى تكلّف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدلّ على أنه من كلام يوسف «2» . وقال الزّمخشري: كفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السّلام. والظاهر لي هو رأي أبي حيان.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وليعلم الجميع أن الله تعالى لا ينفذ ولا يسدّد كيد الخائنين، بل يبطله ويبدد أثره.
__________
(1) الكشاف: 2/ 142
(2) البحر المحيط: 5/ 317 [.....](12/283)
وإذا كان هذا من كلام يوسف فكأنه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانة زوجها، وتعريض بزوجها في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- دلّ رجوع الملك إلى يوسف عليه السّلام على فضيلة العلم والمعرفة التي تميّز بها يوسف عليه السّلام على جميع الكهنة والعلماء حول الملك في مصر.
2- العلم المقرون بالعمل الصالح سبب للخلاص من المحنة الدّنيوية والأخروية، فقد نجّى الله يوسف من السّجن، وجعله من المحسنين الذين اختارهم الله لديه في الآخرة.
3- لا بأس بانتهاز الفرصة لإثبات الحقّ والصّدق والبراءة، فقد تريّث يوسف وتمهّل عن إجابة طلب الملك له.
4- الاعتصام بالصّبر والحلم وعزّة النّفس وصون الكرامة من أصول أخلاق الأنبياء، فإنّ يوسف تذرّع بالصّبر وحرص على إعلان براءته وعفّته، وصون سمعته في المجتمع.
ورد في الصّحيحين مرفوعا: «ولو لبثت في السّجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي» .
وفي رواية: «يرحم الله أخي يوسف، لقد كان صابرا حليما، ولو لبثت في السّجن ما لبثه، أجبت الدّاعي، ولم ألتمس العذر» ،
وفي رواية أحمد: «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر»
،
وفي رواية الطّبري: «يرحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إليّ، لخرجت سريعا، أن كان لحليما ذا أناة» .
5- الواجب شرعا عدم المبادرة إلى الاتّهام بالسّوء والطّعن بالأعراض، فإن(12/284)
يوسف عفّ عن اتّهام النّساء بالسّوء حتى يتحقّق الملك ذاته من التّهمة. وقدّر جميل أو معروف سيدته امرأة العزيز، فلم يذكرها بسوء، وفاء لزوجها وبرّا له، ورحمة لها وسترا عليها، وعفّة القول أجدى في مستقبل الزّمان.
6- من الخصال الحسنة: الجرأة في إعلان الحقّ، والصّراحة في إظهار الحقائق، وعدم التّردد في إنصاف الأبرياء وتصديق الأتقياء، فإن امرأة العزيز أعلنت براءة يوسف في مجتمع النّسوة أثناء الضّيافة فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وكررت اعترافها بالحقّ بعد مضي سنوات على الحادث بعد أن زجّ بيوسف في قيعان السّجون، فقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ.. ثمّ أكدّت ذلك بقولها: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي أقررت بالصدق ليعلم أنّي لم أكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وترفّعت عن الخيانة.
7- المؤمن الصّادق هو الذي يؤثر مرضاة الله تعالى، وإعزاز دينه على أي شيء في هذا الوجود، فإن يوسف حرص على تمسّكه بدينه وبمرضاة ربّه في كلّ ظروف المحنة التي مرّ بها مع النّساء.
8- إن مصير الخيانة والكيد الفشل وعدم تحقيق النّتائج: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ومعناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم، وإنما يبطله، ولا يسدّده، ولا ينفذه، وتكون عاقبة الكيد الفضيحة والاضمحلال(12/285)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
[الجزء الثالث عشر]
[تتمة سورة يوسف]
[تتمة الفصل الثامن]
بسم الله الرحمن الرحيم
- 2- النّفس الأمّارة بالسّوء
[سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
البلاغة:
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أمّارة: من صيغ المبالغة، على وزن «فعّال» مبالغة في وصف النّفس بالاندفاع نحو المعاصي والمهالك.
المفردات اللغوية:
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الزّلل أو السّوء. إِنَّ النَّفْسَ جنس النّفس. لَأَمَّارَةٌ كثيرة الأمر، مائلة بالطبع إلى الشّهوات. إِلَّا ما بمعنى «من» . والمعنى إلّا من رحم ربّي من النّفوس فعصمه، أو إلا وقت رحمة ربّي، وقيل: إن الاستثناء منقطع، أي ولكن رحمة ربّي هي التي تصرف الإساءة.
والآية على الرّاجح حكاية قول امرأة العزيز: زليخا أو راعيل، والمستثنى نفس يوسف وأمثاله. وقيل: ذلك من قول يوسف، والمعنى: لا أنزهها، تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتّوفيق.
المناسبة:
هذه الآية من تتمة كلام امرأة العزيز، متّصلة بما قبلها، قال أبو حيان:
الظاهر أن هذا كلام امرأة العزيز، وهو داخل تحت قوله: قالَتِ والمعنى:
ذلك الإقرار والاعتراف بالحقّ، ليعلم يوسف أنّي لم أخنه في غيبته، والذّبّ عنه،(13/5)
وأرميه بذنب هو منه بريء، ثم اعتذرت عمّا وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشّهوات بقولها: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، والنّفوس مائلة إلى الشّهوات، أمّارة بالسّوء «1» . وكذلك قال ابن كثير: هذا القول أقوى وأظهر: لأن سياق الكلام كله من امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السّلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك «2» .
التفسير والبيان:
قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحقّ، وليعلم يوسف أنّي لم أخنه في غيبته، وهو سجين، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بيوسف، وأني لم أرتكب الفاحشة، فلم يحدث مني إلا مجرد المراودة أو المغازلة، فامتنع وأبى ولاذ بالفرار، ولا أنزّه نفسي من الزّلل والخطأ، إن النّفوس ميّالة بالطّبع إلى الشّهوات والأهواء.
إلا من رحمه الله الخالق، فصرف عنه السّوء والفحشاء كيوسف وأمثاله.
ولكني لا أيأس من رحمة الله، إنّ ربّي كثير المغفرة، رحيم بالعباد.
وفي قول مرجوح: إن هذه الآية حكاية لقول يوسف، بمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجه أثناء غيبته، وحال ثقته بي، وائتمانه على عرضه، وما أبرئ نفسي البشريّة من خواطر القلب، فكلّ نفس ميّالة بالطّبع للشّهوات والأهواء، إلا النّفس التي عصمها الله من الانزلاق في المعاصي، ووفقها للاستقامة، وتلك هي نفس الأنبياء، وسيرة الصّلحاء، إنّ ربّي غفّار لذنوب المخطئين، رحيم بهم إذا بادروا إلى التّوبة والإنابة والتّضرّع إلى الله، ليخلصهم من آثار الذّنوب، ويطهّر نفوسهم من شوائب المعاصي.
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 317
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 482(13/6)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على أنّ أكثر النّفوس نزّاعة للشّهوة، ميّالة للهوى، ذات نزعة شريرة، تحتاج إلى مجاهدة ومكافحة ومراقبة وتحذير.
جاء في الخبر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شرّ غاية، وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية؟! قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب في الأرض. قال: فو الذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم» .
واستدلّ أهل السّنّة بآية: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي على أن الطّاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله، وعلى أن انصراف النّفس من الشّر لا يكون إلا برحمته.
ودلّت الآية أيضا على مدى فضل الله وإحسانه فهو غفور لذنوب عباده، رحيم بهم إذا هم تابوا وأنابوا وأحسنوا العمل، أي يغفر للمستغفر لذنوبه، المعترف على نفسه، ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.
الفصل التّاسع من قصّة يوسف يوسف في رئاسة الحكم ووزارة الماليّة
[سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 57]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)(13/7)
المفردات اللغوية:
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصا لنفسي دون شريك. فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي فلما أتوا به فكلّمه، وشاهد منه الرّشد والدّهاء. مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة. أَمِينٌ مؤتمن على كلّ شيء.
خَزائِنِ الْأَرْضِ أرض مصر. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل: كاتب حاسب.
وَكَذلِكَ أي كإنعامنا عليه بالخلاص من السّجن. فِي الْأَرْضِ أرض مصر. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ينزل من بلاد مصر أي مكان أراد، فصار صاحب الأمر والحكم بعد الضّيق والحبس. وفي القصّة كما يقول السّيوطي: أن الملك توّجه وختّمه وولاه مكان العزيز، وعزله، ومات بعد، فزوّجه امرأته، فوجدها عذراء، وولدت له ولدين، وأقام العدل بمصر، ودانت له الرّقاب.
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدّنيا والآخرة. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفّي أجورهم عاجلا وآجلا. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدّنيا. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشّرك والفواحش، لعظمه ودوامه.
المناسبة:
بعد أن تحقق الملك الأكبر من أمر النّسوة بناء على طلب يوسف عليه السّلام، وظهرت له براءته وعفّته، طلب إحضاره إليه من السّجن، ليصطفيه لنفسه، فلما سمع منه تعبير رؤياه، أعجب به وبعلمه وحسن أدبه، وأعزّه وأنزله لديه مكانة عالية، وآمنه على نفسه، وائتمنه على كلّ شيء، وسلّمه مقاليد الحكم والسّلطة، وفوّض إليه تصريف وإدارة الأمور السياسيّة والماليّة في جميع أنحاء مصر.
التفسير والبيان:
المراد بالملك هنا: الملك الأكبر، وليس العزيز على الرّأي الرّاجح، لطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض، ولأنه كان قبل ذلك خالصا للعزيز، والآن يريد الملك الأكبر (الرّيان بن الوليد) استخلاصه لنفسه.(13/8)
والمعنى: وقال الملك: أحضروه إليّ من سجنه، أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي وموضع ثقتي، فلما خاطبه الملك وتعرّف عليه، ورأى فضله وعلمه وبراعته، وحسن أدبه، وسموّ أخلاقه، قال له: إنك عندنا اليوم وما بعده أصبحت ذا مكانة وعزّة وأمانة تؤتمن على كلّ شيء في أمور الحكم، وصاحب التّصرف التّام في شؤون البلاد.
روي أن يوسف لما خرج من السّجن اغتسل وتنظّف ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزّتك وقدرتك من شرّه، ثم سلّم عليه بالعربيّة، فقال الملك: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمي إسماعيل، ودعا له بالعبريّة، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي.
وكان إبراهيم وأولاده وحفدته من العرب القحطانيين، وكان ملوك مصر من العرب الذين يسمون بالرّعاة (الهكسوس) .
قال يوسف: اجعلني أيها الملك على خزائن الأرض: وهي الخزن التي تخزن فيها الغلال، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلّات لما يستقبلونه من السّنين التي أخبرهم بشأنها، أي ولّني عليها، لأشرف عليها، وأتصرّف فيها حتى أجعل توازنا اقتصاديا بين سنوات الخصب وسني القحط، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدد أهلها، بحسب الرؤيا التي رأيت لأني حفيظ عليم، أي خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وفي هذا إيماء لأهمية التّخطيط والتّنظيم المالي وإقامة التوازن بين الموارد الماليّة والنفقات.
فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزير المال والخزانة، وأطلق له سلطة التّصرف في شؤون الحكم، لما لمس لديه من رجاحة عقل، وخبرة وضبط وسياسة، وحسن تصرّف، وقدرة على إحكام النّظام.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا.. أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا على يوسف في(13/9)
تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السّجن، مكّنّا له في الأرض، أي أقدرناه على ما يريد، وجعلنا له مكانة ومنزلة في أرض مصر، فانتقل من كونه مملوكا إلى أن أصبح مالكا آمرا ناهيا، ذا نفوذ وسلطة، مطاعا بعد أن كان تابعا لغيره مطواعا، حرّا طليقا بعد أن كان سجينا أسيرا، وذلك لما تحلّى به من صبر، وإطاعة لله عزّ وجلّ، وعفّة وخلق وعقل حكيم، فإنه صبر على أذى إخوته، وفي الحبس بسبب امرأة العزيز، وعفّ عن السّوء والفحشاء، وامتنع من اقتراف المنكر، فأعقبه الله النّصر والتّأييد، وأصبح في منصب سيّده السّابق الذي اشتراه من مصر، العزيز زوج التي راودته، قال مجاهد: وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السّلام.
وما أضاعه ربّه ورحمه وصانه، والله تعالى يخصّ برحمته من يشاء ورحمته وسعت كل شيء، فيعطي الملك والغنى والصّحة ونحوها من يريد من عباده.
وقوله تعالى: بِرَحْمَتِنا أي بإحساننا، والرّحمة: النّعمة والإحسان.
وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي لا نضيع ثواب الذين يحسنون أعمالهم، فنمنحهم في الدّنيا سعادة وعزّا ومكانة، وفي الآخرة خلودا في الجنان.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ.. أي إنّ ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء، وهو التّنعم في الجنان خير وأعظم وأكثر من خير الدّنيا وما فيها من متاع العزّ والسّلطان، والجاه والملك، والمال والزّينة ونحو ذلك.
والله تعالى يخبر بهذا أن ما ادّخره لنبيّه يوسف عليه السّلام في الدّار الآخرة أعظم وأكثر وأجلّ مما أنعم عليه من التّصرّف والنّفوذ في الدّنيا، كقوله في حقّ سليمان عليه السّلام: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص 38/ 39- 40] .
ومن جمع له الله السّعادتين في الدّنيا والآخرة، كان فضل الله عليهم أكثر،(13/10)
وعطاؤه أتمّ، لقيامهم بواجب الطّاعة، واجتنابهم المعصية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يلي:
1- إنّ الحوار وسيلة التّعارف والتّعرف على فضائل الإنسان ومعارفه، وبه يزن العاقل مقادير الرّجال.
2- إن المقوّمات العالية من علم وخلق وأدب وحسن تصرّف تبوئ صاحبها المنزلة السّامية والمكانة الرّفيعة.
3- يجوز طلب الولاية وإظهار كون الشّخص مستعدّا لها، إذا كان من أجل التّعريف للمغمور غير المعروف، وكان الشّخص واثقا من نفسه ودينه وعلمه، وأهلا لما يطلب.
وأما النّهي عن طلب الإمارة في
قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرّحمن بن سمرة فيما أخرجه الشيخان: «لا تسأل الإمارة»
والنّهي عن مدح النّفس في قوله تعالى:
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم 53/ 32] فالمراد به في الحديث لمن لا يثق بنفسه من القيام بحقّ الولاية لضعفه وعجزه، أو لأغراض نفسه، والمراد بالآية تزكية النّفس حال العلم بكونها غير متزكية، وكل من المحذورين لا ينطبق على النّبي يوسف عليه السّلام وأمثاله الأنبياء، لأنه يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، ولأن السّعي في إيصال النّفع إلى المستحقين ودفع الضّرر عنهم أمر مستحسن في العقول، وعلم يوسف أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الحقوق إلى الفقراء، فرأى أن قيامه بهذه الأمور فرض متعيّن عليه، وقال يوسف عن نفسه: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه.(13/11)
4- يباح للرّجل الفاضل أن يعمل للرّجل الفاجر، والسّلطان الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحقّ وسياسة الخلق إلا بالاستعانة به، وكان مفوّضا في فعله لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء. وأما إذا كان عمله بحسب مراد الفاجر وهواه، فلا يجوز.
فإن كان المولّي ظالما فللعلماء قولان: أحدهما- جواز تولّي العمل له إذا عمل بالحقّ فيما تقلّده: لأن يوسف عليه السّلام ولّي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار بفعله لا بفعل غيره.
الثاني: أنه لا يجوز ذلك: لما فيه من إعانة الظّالم على ظلمه، وتزكيته ودعمه وتأييده بتقلّد أعماله. وأما فرعون يوسف فكان صالحا، وعن مجاهد: أن الملك أسلم على يده. وإنما الطّاغي فرعون موسى، ثم إنّ يوسف نظر في مصالح الأمة والبلاد وأملاك الملك دون أعماله، فزالت التّبعة عنه.
5- للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل إذا دعته الضرورة إليه، كالكسب المعيشي ونحوه.
6- قوله تعالى: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السّلام كان من المحسنين.
7- غمرت رحمة الله وفضله وإحسانه يوسف عليه السّلام لصبره وتقواه، وإنه سبحانه ما أضاع يوسف لصبره في الجبّ، وفي الرّقّ، وفي السّجن، وعلى أذى إخوته، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة.
8- إن ثواب الآخرة وعطاء الله فيها أجلّ وأعظم وأكثر من عطاء الدّنيا لمن كان مؤمنا تقيّا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدّنيا منقطع، وظاهر الآية:
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ... العموم في كلّ مؤمن متّق، وهي تدلّ دلالة خاصة على(13/12)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فضل الله على يوسف عليه السّلام، فإن ما سيعطيه الله له في الآخرة خير وأفضل مما أعطاه إيّاه في الدّنيا من الملك والسّلطان والمكانة والسّمو.
ودلّت هذه الآية بخصوصها على أن يوسف عليه السّلام من الذين آمنوا وكانوا يتّقون، وهذا تنصيص من الله عزّ وجلّ.
والخلاصة:
تضمّنت الآيات شهادتين من الله تعالى ليوسف عليه السّلام الأولى أنه كان من المحسنين، والثانية أنه كان من المؤمنين المتّقين. ودلّت آية أخرى وهي:
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ على أنه من المخلصين، فصارت الشّهادات من الله تعالى ليوسف ثلاثة: كونه من المتّقين، ومن المحسنين، ومن المخلصين. وسبب هذه الشّهادات الصّبر على مراد الله فيه، والطّاعة والتّقوى وإخلاص العمل وصفاء النّفس من الأحقاد والضّغائن.
الفصل العاشر من قصة يوسف أولاد يعقوب يشترون القمح من أخيهم يوسف ومطالبته إياهم بإحضار أخيهم
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)(13/13)
البلاغة:
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ بين عرف وأنكر: طباق.
المفردات اللغوية:
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وهم أحد عشر إلا بنيامين ليمتاروا لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الطعام بثمنه. فَعَرَفَهُمْ أنهم إخوته، والمعرفة وعرفان الشيء: التّفكّر في أثره. وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الإنكار: ضدّ المعرفة، أي أنهم لم يعرفوه لبعد عهدهم به وظنّهم هلاكه. جَهَّزَهُمْ أو في لهم كيلهم من القمح الذي جاؤوا لطلبه من عنده، أي جعله تاما وافيا. وجهاز السّفر: أهبته وحوائجه، وجهاز العروس: حوائج الزّفاف. بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أي بنيامين لأعلم صدقكم فيما قلتم. أُوفِي الْكَيْلَ أتمّه من غير بخس. الْمُنْزِلِينَ المضيفين الضيوف، وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.
فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي ميرة. وَلا تَقْرَبُونِ نهي أو عطف على محل: فَلا كَيْلَ أي تحرموا ولا تقربوا، أي فلا تقربوني ولا تدخلوا دياري. سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه، ونستميله لتحقيق هذه الرّغبة برفق. وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك لا نتوانى فيه. لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيالين، جمع فتى. بِضاعَتَهُمْ ثمن ما أتوا به من الطعام، وكانت دراهم فضة، وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضّلا عليهم وترفّعا من أن يأخذ ثمن الطّعام منهم. فِي رِحالِهِمْ أوعيتهم.
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلهم يعرفون حقّ ردّها، أو لكي يعرفوها. إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا ورجعوا إلى أهلهم، وفتحوا أوعيتهم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرّجوع.
أضواء من التّاريخ:
قال ابن عباس وغيره «1» : لما أصاب النّاس القحط والشدّة، ونزل ذلك بأرض كنعان، بعث يعقوب عليه السّلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السّلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدله وسيرته، وكان يوسف عليه السّلام حين نزلت الشّدّة بالنّاس يجلس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكلّ رأس وسقا «2» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 220
(2) الوسق: ستون صاعا، والصّاع (2751 غم) ، وعند الحنفيّة (3900 غم) .(13/14)
وذكر السّدّي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين: أن السّبب الذي من أجله أقدم إخوة يوسف بلاد مصر: أن يوسف عليه السّلام، لما باشر الوزارة بمصر، ومضت السّبع السّنين المخصبة، ثم تلتها السّبع السّنين المجدبة، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها، ووصل إلى بلاد كنعان: وهي التي فيها يعقوب عليه السّلام وأولاده، وحينئذ احتاط يوسف عليه السّلام للنّاس في غلّاتهم، وجمعها أحسن جمع، فحصل من ذلك مبلغ عظيم، وهدايا متعددة، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطي الرّجل أكثر من حمل بعير في السّنة، وكان عليه السّلام لا يشبع نفسه، ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النّهار، حتى يتكفأ الناس بما في أيديهم مدّة السّبع السنين، وكان رحمة من الله تعالى على أهل مصر «1» .
وغير هذه الرّوايات هي من الإسرائيليات.
التفسير والبيان:
وجاء إخوة يوسف عليه السّلام من أرض كنعان (فلسطين) إلى مصر، يطلبون شراء القمح، لأن القحط عمّ بلاد الشّام ومصر، لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه.
فلما دخلوا على يوسف، وهو في منصبه الرّفيع، عرفهم حين نظر إليهم، لأن ملامح الكبار لا تتغيّر كثيرا، وهم له منكرون، أي لا يعرفونه، لأنهم فارقوه، وهو صغير حدث، وباعوه للسّيّارة، والملامح في حال الصّغر تتغيّر كثيرا في حال الكبر، ولأنهم قدروا هلاكه، وما دار في خلدهم أنه سيصير إلى ما صار إليه، ولنسيانهم له بطول العهد.
وزاد في الأمر أنه- كما ذكر السّدّي- شرع يخاطبهم، فقال لهم كالمنكر
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 483(13/15)
عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا: أيّها العزيز، إنّا قدمنا للميرة، قال: فلعلكم عيون؟ قالوا: معاذ الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبيّ الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم، كنّا اثني عشر، فذهب أصغرنا هلك في البريّة، وكان أحبّنا إلى أبيه وبقي شقيقه، فاحتبسه أبوه ليتسلّى به عنه، فأمر بإنزالهم وإكرامهم.
لكن يبعد من يوسف عليه السّلام أن يتّهم إخوته وينسبهم إلى أنهم جواسيس وعيون، لأنه يعرف براءتهم عن هذه التّهمة. وعلى كل حال إنه سؤال لا يقتضي صحته.
ولما جهّزهم بجهازهم، أي لما أوفى لهم كيلهم، وحمل أحمالهم من القمح، وهي عشرة أحمال وزادهم حملين آخرين لأبيهم وأخيهم، قال: ائتوني في المرة القادمة بأخ لكم من أبيكم؟ وهو بنيامين، ألا ترون أني أتمّ لكم الكيل الذي تريدون دون بخس، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، المضيفين للضيوف، وكان أحسن ضيافتهم؟ وقصده من ذلك ترغيبهم في الرّجوع إليه، وكان السّبب في سؤال يوسف عن حال أخيهم أنهم ذكروا أن لهم أبا شيخا كبيرا وأخا بقي في خدمة أبيه، ولا بدّ لهما أيضا من شيء من الطعام، فجهّز لهما أيضا بعيرين آخرين من الطعام، فقال يوسف: فهذا يدلّ على أن حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم، فجيئوني به حتى أراه.
ثم أنذرهم بقوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ، فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي إن لم تقدموا به في المرة الثّانية فليس لكم عندي ميرة، وَلا تَقْرَبُونِ أي ولا تدخلون بلادي.
قالُوا: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه، ونحاول إقناعه بذلك برفق، وإنّا لفاعلون ذلك لا محالة، أي سنحرص على مجيئه إليك بكلّ إمكاناتنا ولا نبقي مجهودا نبذله، لتعلم صدقنا فيما قلناه.(13/16)
وقال لفتيانه أي لغلمانه، اجعلوا بضاعتهم في رحالهم أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام، وقدموا بها للميرة معاوضة، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون.
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها.. لعلهم يعرفون حقّ ردّها وحقّ إكرامنا لهم بإعادتها إليهم، لعلهم يرجعون إلينا، بعد عودتهم إلى أهلهم، وفتح متاعهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- قد لا يعرف الأخ أخاه بسبب طول العهد والمدّة، لا سيما إذا تبدل حال الأخ من أدنى درجات الحال إلى أعلاها، مما يبعد عن التّصور في الذّهن احتمال معرفته.
2- تحقيق الغايات قد يستعمل من أجله التّرغيب والتّرهيب معا، كما فعل يوسف من أجل إحضار أخيه بنيامين، فالتّرغيب هو قوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، والتّرهيب هو قوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ، فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده، كان ذلك نهاية التّرهيب والتّخويف.
3- اتّفق أكثر المفسّرين على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم.
4- السّبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم: هو ترغيبهم في العود إليه، والحرص على معاملته، حينما يعلمون أن بضاعتهم ردت إليهم، كرما من يوسف، وسخاء محضا.(13/17)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
5- استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه، لأنه يجوز أن يكون الله عزّ وجلّ أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثّواب، فاتّبع أمره فيه، وهذا هو الأظهر كما قال القرطبي. وربّما كان السّبب تنبيه أبيه على حاله، أو لتتضاعف المسرّة لأبيه برجوع ولديه عليه، أو إيثارا لأخيه بالاجتماع معه قبل إخوته، لميله إليه.
الفصل الحادي عشر من قصّة يوسف مفاوضة إخوة يوسف أباهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم في المرة القادمة
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 66]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
الإعراب:
خَيْرٌ حافِظاً وقرئ: حفظا: وهما منصوبان على التّمييز، مثل قولهم: لله درّه فارسا.
ما نَبْغِي: ما: استفهامية في موضع نصب، لأنها مفعول نَبْغِي وتقديره:
أي شيء نبغي. لَتَأْتُنَّنِي بِهِ اللام لام القسم.(13/18)
إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قال الزمخشري: هذا استثناء متّصل، مفعول له أي لأجله، والكلام المثبت الذي هو قوله: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ في تأويل المنفي، ومعناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أي لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة، وهي أن يحاط بكم.
المفردات اللغوية:
مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حكم بمنعه بعد هذا إن لم ترسل أخانا بنيامين. نَكْتَلْ نتمكن من اكتيال ما نحتاج إليه. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه. قالَ يعقوب لهم هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ أي ما آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه يوسف من قبل، وقد قلتم فيه: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ثم فعلتم به ما فعلتم.
فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فأتوكّل عليه وأفوض أمري إليه. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع عليّ مصيبتين. ما نَبْغِي ما: استفهامية، أي: أيّ شيء نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ وكانوا ذكروا له إكرامه لهم. هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا استئناف موضح لقوله: ما نَبْغِي.
وَنَمِيرُ أَهْلَنا نأتي بالميرة لهم وهي الطعام، وهو معطوف على محذوف، أي ردّت إلينا، فنستظهر بها، ونمير أهلنا بالرّجوع إلى الملك. وَنَحْفَظُ أَخانا من المخاوف في ذهابنا وإيابنا.
وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ لأخينا، أي مكيل بعير. ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ سهل على الملك لسخائه، أو سهل لا عسر فيه لتوافر الغلال لديه.
حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً حتى تعطوني عهدا. مِنَ اللَّهِ بأن تحلفوا به. إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ بأن تموتوا أو تغلبوا، فلا تطيقوا ذلك ولا تستطيعوا الإتيان به، وهو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، والتّقدير: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أعطوه عهدهم بذلك. قالَ: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإتيانه وَكِيلٌ شهيد، ورقيب مطّلع.
المناسبة:
الكلام وثيق الصّلة بما قبله، فبعد أن ذكر الله تعالى مطالبة يوسف عليه السّلام إخوته بإحضار أخيه بنيامين، ذكر هنا مفاوضتهم أباهم لإنجاز المطلوب، وإبداءه مخاوفه عليه كمخاوفه القديمة التي أظهرها عند ما تآمروا على أخذ يوسف عليه السّلام للصّحراء بقصد الرّتع واللعب.(13/19)
التفسير والبيان:
حينما رجع أولاد يعقوب إلى أبيهم قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم: إن عزيز مصر منع عنّا الكيل في المستقبل إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، فإن لم ترسله لا نكتل، فأرسله معنا نكتل من الطعام بقدر عددنا، وإنّا له لحافظون من كلّ مكروه وسوء في الذّهاب والإياب، فلا تخف عليه، فإنه سيرجع إليك.
قال يعقوب: هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيّبونه عنّي وتحولون بيني وبينه، وقد فرّطتم في يوسف، فكيف آمنكم على أخيه؟
فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً أي فإني أثق به وأتوكّل عليه وأفوض أمري إليه، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي هو أرحم الرّاحمين بي، وسيرحم كبري وضعفي وتعلّقي بولدي، وأرجو الله أن يرحمني بحفظه، وأن يردّه عليّ، ويجمع شملي به، إنه أرحم الرّاحمين.
وهذا دليل على موافقته على إرساله معهم، للحاجة الشّديدة إلى الطعام، وعدم ملاحظته وجود قرائن تدلّ على الحسد والحقد فيما بينهم وبين بنيامين، خلافا لحال يوسف.
ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وأوعية طعامهم، وجدوا فيها بضاعتهم أي ثمن الطعام، ردّت إليهم، وهي التي كان يوسف أمر غلمانه بوضعها في رحالهم.
فلما وجدوها في رواحلهم قالوا: يا أبانا، ماذا نريد زيادة على هذا الإكرام وإحسان الملك إلينا، كما حدثناك، هذه دراهمنا ردّها إلينا، وإذا ذهبنا بأخينا نزداد كيل بعير بسبب حضوره. وهذا إذا جعلت ما استفهامية، فإن كانت نافية كان المعنى: لا نبغي شيئا آخر، هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فهي كافية لثمن الطعام في الذّهاب الثّاني، ثم نفعل كذا وكذا من جلب الميرة وغيرها.(13/20)
إننا إذا ذهبنا مع أخينا في المرّة الثّانية وأرسلته معنا، نأتي بالميرة إلى أهلنا من مصر.
ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا، فلا تخف عليه.
ونزيد مكيال بعير لأجله، لأن عزيز مصر كان يعطي لكلّ رجل حمل بعير، دون زيادة ولا نقص، اقتصادا وحسن تدبير.
وذلك الحمل الزّائد أمر يسير قليل، أو سهل لا عسر فيه على هذا الرّجل السّخي الرّحيم في مقابلة أخذ أخينا.
قال يعقوب، وقد تذكّر ماضي يوسف: لن أرسل بنيامين معكم حتى تعاهدوني عهدا موثقا باليمين، لتعودنّ به على أي حال كنتم، إلا في حال يمتنع ذلك عنكم بأن تهلكوا وتموتوا أو تغلبوا على أمركم وتقهروا كلكم، ولا تقدرون على تخليصه. ويلاحظ أن العهد المؤكّد باليمين يسمّى يمينا، وإن أكّد ووثّق بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به بغير اليمين يسمّى ميثاقا.
فلما آتوه أي أعطوه موثقهم، أي عهدهم المؤكّد باليمين، قال يعقوب: الله على ما نقول جميعا وكيل، أي شهيد رقيب حفيظ مطّلع، وأفوض أمري إليه، وقد وافق على إرساله اضطرارا من أجل الميرة التي لا غنى لهم عنها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- كان أولاد يعقوب فيما أخبروا به أباهم من منع الكيل صادقين، حتى يرسل معهم أخاهم، كما وعدوا عزيز مصر.
2- تعهد أولاد يعقوب عليه السّلام بالمحافظة على أخيهم بنيامين، وكأنهم لم(13/21)
يريدوا تكرار مأساة يوسف عليه السّلام، لأنهم كانوا يحملون في صدورهم الحقد والحسد عليه، خلافا لحال بنيامين.
3- تعلّق إخوة يوسف بزيادة الكسب والرّبح، وطمحوا أن يأتوا مرة أخرى بطعام لهم من مصر من غير ثمن.
4- كان إكرام يوسف لإخوته وردّه ثمن الطعام إليهم عاملا مرغّبا قويّا في عودتهم إليه مرة أخرى، مصطحبين معهم أخاهم بنيامين.
5- إن يعقوب النّبي عليه السّلام كان في حديثه مع أولاده مطمئنا إلى حفظ الله ورحمته، فهو نعم الوكيل الحافظ، وهو أرحم الرّاحمين بعباده، لا سيّما حال الضّعفاء وكبار السّن أمثاله، فحفظ الله له خير من حفظكم إيّاه.
6- تشدّد يعقوب عليه السّلام هذه المرة مع أولاده أكثر مما حدث عند إذنه بإرسال يوسف عليه السّلام، بعد تلك التّجربة القاسيّة وما أعقبها من حزن شديد وألم، فطلب منهم الميثاق وهو العهد المؤكّد باليمين على إحضاره إليه إلا في حال العذر القاهر والإحاطة بهم، قال مجاهد معناها: إلا أن تهلكوا أو تموتوا.
وقد دلّ قوله تعالى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ.. على أنه أجابهم إلى إرساله معهم.
7- أراد أولاد يعقوب عليه السّلام تطييب نفس أبيهم بقولهم: ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا..؟ فهم حشدوا لإقناعه وتطييب نفسه كلّ الأسباب والبواعث المادية واستغلّوا حاجتهم الشديدة: أخذ الطعام دون ثمن، إعالة الأهل، إضافة حمل بعير، وضمّوا إلى ذلك كلّه التّعهد بالحفظ والرّعاية، فلم يجد بدّا من الموافقة على إرسال بنيامين معهم.
8- قوله تعالى: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ(13/22)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
دليل على جواز الكفالة (الحمالة) بالعين والوثيقة بالنّفس (كفالة النّفس) وللعلماء فيها رأيان: رأي الجمهور: هي جائزة إذا كان المكفول به مالا. ولا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص في رأي المذاهب الأربعة، وأجاز الشافعية الكفالة بالقصاص، والقذف، والتّعزير، لما فيها من حقّ العبد. وقال بعضهم: لا تجوز الكفالة بالنّفس، لتعذّر إحضار المكفول بنفسه، ولقوله تعالى على لسان العزيز في قصّة يوسف عليه السّلام: قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ.
الفصل الثاني عشر من قصة يوسف وصية يعقوب لأولاده بالدخول إلى مصر من أبواب متفرقة
[سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
الإعراب:
مِنْ شَيْءٍ إما مفعول وإما فاعل، والتقدير على المفعولية: ما كان يغني من قضاء الله شيئا، وعلى الفاعلية: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
البلاغة:
لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فيه طباق السلب، وفيه إطناب:
وهو زيادة اللفظ على المعنى، للتأكيد والتقرير وتمكين المعنى في النفس.(13/23)
المفردات اللغوية
لا تَدْخُلُوا مصر. وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالكرامة والحظوة عند العزيز، فخاف عليهم أن يدخلوا جماعة واحدة فتصيبهم العين.
ولعله لم يوصهم بذلك في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين حينئذ. وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما أدفع عنكم بقولي ذلك شيئا قدره الله عليكم وقضاه، وإنما ذلك شفقة، فإن الحذر لا يمنع القدر. ومن: صلة زائدة لتمكين النفي.
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم إلا لله وحده، يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء، ولا ينفعكم ذلك. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ به وثقت. فَلْيَتَوَكَّلِ الفاء لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم. والواو في قوله وَعَلَيْهِ للعطف، وقدم عَلَيْهِ في عطف الجملة على الجملة للاختصاص.
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من أبواب متفرقة في البلد. ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ما كان يفيد رأي يعقوب واتباعهم له مما قضاه الله عليهم شيئا، فحدث وضع الصواع في رحل بنيامين، وتضاعفت المصيبة على يعقوب.
إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها استثناء منقطع، أي ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم وحرصه على ألا يعانوا (تصيبهم العين) وقضاها أي أظهرها، ووصى بها. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ
إن يعقوب عليم بحقائق الأمور وأن العين لا توقع ضررا إلا بإذن الله، لتعليمنا إياه بالوحي وإقامة الحجج، ولذلك قال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ولم يغتر بتدبيره.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار. لا يَعْلَمُونَ سر القدر، وأنه لا يغني عنه الحذر، وأن الحكم لله. وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السّلام.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى موافقة يعقوب على إرسال بنيامين مع إخوته إلى مصر، ذكر هنا وصيته لأولاده لما عزموا على الخروج إلى مصر، وهي الدخول من أبواب متفرقة، ليروا مدى الاهتمام والاستقبال لكل واحد منهم حين رؤية بنيامين شقيق يوسف، أو لئلا يحسدهم الحساد، وتصيبهم العين جميعا.(13/24)
التفسير والبيان:
أمر يعقوب بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، لأنهم كانوا من أهل جمال وكمال، وذلك في رأي جمهور المفسرين لئلا تصيبهم العين، فإنه خاف من العين عليهم، والعين حق أي أنها سبب حق في الظاهر قد تؤدي إلى الضرر، ولكن بإذن الله وإرادته، بدليل قوله بعدئذ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. أو ليروا من العزيز فرق الاستقبال بينهم وبين أخيهم بنيامين.
وَما أُغْنِي.. أي وما أدفع عنكم بوصيتي وتدبيري من قضاء الله شيئا، إذ لا يغني حذر من قدر، أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع، ولكنا مأمورون باتخاذ وسائل الحيطة والحذر:
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء 4/ 102] أخذا بالأسباب العادية الظاهرية التي لا تؤثر في الواقع شيئا إلا بإذن الله، واستعانة بالله، وفرارا منه إليه، وليس دفعا للقدر، وتحديا للقضاء، فلا يملك الإنسان من أمره شيئا، فما أراد الله بكم سوءا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة.
وما إنفاذ الأحكام وتدبير الأمور إلا لله وحده، عليه وحده توكلت، وبه وثقت، وإليه فوضت أمري، دون حولي وقوتي، وعليه تعالى وحده فليتوكل المتوكلون، لا على أنفسهم ولا على أمثالهم من البشر.
ولما دخلوا أي أولاد يعقوب مصر، التي كان لها أربعة أبواب، من حيث أمرهم أبوهم، أي من أبواب متفرقة، ما كان رأي يعقوب ودخولهم على هذا النحو متفرقين يفيدهم شيئا قط، حيث أصابهم ما ساءهم، مع تفرقهم، من نسبة السرقة إليهم، وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم فداء لوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم.(13/25)
ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، أي مجرد شيء في نفسه أظهره، وهي شفقته عليهم، وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به.
وإنه أي يعقوب لذو علم بأن الحذر لا يمنع القدر، لتعليمنا إياه بالوحي.
وقال قتادة والثوري: لذو عمل بعلمه، وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السّلام.
ولكن أكثر الناس وهم المشركون أو الكفار لا يعلمون ذلك أي مثل ما علم يعقوب، أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم، فإنهم لا يعلمون كيف أرشد الله أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة. ومن تلك العلوم الأخذ بالأسباب الظاهرة وتفويض الأمر لله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- قول يعقوب لأولاده: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ دليل في رأي جمهور المفسرين على التحرز من العين، والعين في الظاهر حق، ومرد النتيجة في الحقيقة إلى الله وحده، وتكون العين مجرد سبب،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد بسند صحيح «العين حق»
أي شيء ذو أثر موجود عند الناس، وذكر النسفي: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر»
وكان صلّى الله عليه وسلم يتعوّذ فيقول: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة»
وكان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذ كما بكلمات الله التّامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة»
ويقول: وهكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله عليهم.
وروى عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أول النهار، فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار، فرأيته معافى، فقال: إن(13/26)
جبريل عليه السّلام أتاني فقال فيما أخرجه أحمد عن عائشة وعبادة. «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن كل عين وحاسد، الله يشفيك» .
وعلى كل مسلم أعجبه شيء أن يبرّك، فإنه إذا دعا بالبركة، صرف المحذور لا محالة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعامر: «ألا برّكت»
فدل على أن العين لا تضر إذا برّك العائن. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه.
ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار.
والعائن إذا أصاب بعينه ولم يبرّك، يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه، لأن الأمر على الوجوب، وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر بالرقية.
ومن عرف بالإصابة بالعين، منع من مداخلة الناس، دفعا لضرره.
2- دل قوله تعالى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ على أن الحذر لا ينفع مع القدر، فدخول أولاد يعقوب مصر من أبواب متفرقة ما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء. قال ابن عباس: ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمرا قدره الله.
3- الحكم لله، أي الأمر والقضاء لله وحده، وعلى المؤمن الاتكال على الله، أي الاعتماد عليه والثقة به وحده، لأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى.
4- إن وصية يعقوب لأولاده بالدخول من أبواب متفرقة مجرد خاطر خطر بقلبه،. وتحرز ظاهري، مع أنه عليم من طريق الوحي بأمر دينه، وأكثر الناس لا يعلمون ما يعلم يعقوب من أمر دينه. وقيل: المقصود بالعلم هنا العمل، أي لذو عمل بعلمه، فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه.(13/27)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
5- أفادت الآية أن على المسلم أن يحذّر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة، فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم.
الفصل الثالث عشر من قصة يوسف معرفة يوسف أخاه بنيامين واتخاذه التدابير لإبقائه لديه
[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
الإعراب:
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ جَزاؤُهُ مبتدأ، والهاء عائد للسّرق، وتقديره: جزاء(13/28)
السّرق أخذ من وجد في رحله. وقوله: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ جملة هي في موضع خبر المبتدأ، أي فالاستعباد جزاء السّرق، وفاء: فَهُوَ متضمنة معنى الشرط أو جواب له على أن مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ شرطية، والجملة الشرطية كما هي: خبر المبتدأ الاول: جَزاؤُهُ على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير، كأنه قيل: جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو، إلا أنه أقام الظاهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان.
فَهُوَ جَزاؤُهُ مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ مَنْ وُجِدَ الذي هو الاسم الموصول.
البلاغة:
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ فيه جناس الاشتقاق. أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ فيه أيضا جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل. فَلا تَبْتَئِسْ تحزن. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسد لنا، وأمره ألا يخبرهم، وتواطأ معه على أنه سيحتال على أن يبقيه عنده. جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أعد لهم الطعام بسرعة. السِّقايَةَ في الأصل: المشربة أو وعاء يسقى به، والمراد به هنا المكيال الذي كان يكال به الطعام للناس، وهو صواع الملك، فهو كان مشربة، ثم جعل صاعا يكال به، ويقدر بكيلة مصرية 12/ 1 من الإردب المصري، والإردب 198 لترا، أو 156 كغ. قيل: كان من فضة، وقيل: كان من ذهب. فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين.
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، أو أعلم وأخبر، وهو يفيد الكثرة والتكرار. أَيَّتُهَا الْعِيرُ القافلة أو الجمال التي تحمل الطعام، والمراد أصحابها. ماذا تَفْقِدُونَ أيّ شيء ضاع منكم، والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.
صُواعَ الْمَلِكِ صاعه أو مكياله. حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا له. وَأَنَا بِهِ بالحمل. زَعِيمٌ كفيل وضامن، أؤديه إلى من ردّه.
تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب. لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ.. استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم، لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم، مما يدل على فرط أمانتهم، مثل ردّ البضاعة التي جعلت في رحالهم.
قالُوا: فَما جَزاؤُهُ أي قال المؤذن وأصحابه، فما جزاء السارق. إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قولكم: ما كنا سارقين، ووجد فيكم. قالُوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي عقوبة السارق استعباد أو استرقاق من وجد في رحله. فَهُوَ جَزاؤُهُ تأكيد لما سبق أي فأخذ السارق جزاء(13/29)
المسروق لا غير، وكان ذلك سنة آل يعقوب. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين بالسرقة، وهذا تصريح منهم ليوسف بتفتيش أوعيتهم.
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ففتشها. قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لئلا يتهم. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع. كَذلِكَ كِدْنا أي مثل ذلك الكيد (أي التدبير الخفي) كدنا ليوسف، علمناه الحيلة في أخذ أخيه وأوحينا به إليه. ما كانَ يوسف.
لِيَأْخُذَ أَخاهُ رقيقا من السرقة. فِي دِينِ الْمَلِكِ في قانون أو نظام أو حكم أو شرع ملك مصر لأن جزاءه في ذلك النظام الضرب وتغريم مثلي المسروق، لا الاسترقاق. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، وهو أخذه بحكم أبيه، أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه سؤال إخوته، وجوابهم بنظامهم أو سنتهم. والاستثناء متصل من أعم الأحوال، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي لكن أخذه بمشيئة الله وإذنه.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم كيوسف. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من المخلوقين.
عَلِيمٌ أعلم منه، حتى ينتهي إلى الله تعالى.
المناسبة:
الربط بين الآيات هنا واضح، إذ هي تعرض أجزاء ومشاهد قصة واحدة ذات حلقات متسلسلة، فبعد أن اتجه أولاد يعقوب إلى مصر لجلب الميرة، مزودين بوصية والدهم، وصلوا إلى مكان وجود العزيز الذي يتولى بيع الطعام للناس، فلما دخلوا عرف أخاه وضمه إليه.
التفسير والبيان:
حينما دخل أولاد يعقوب على يوسف في مجلسه الخاص ومنزل ضيافته، ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، بعد أن كانوا دخلوا القصر من أبواب متفرقة، ضم إليه أخاه واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرّفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيتخذ تدبيرا يبقيه عنده معززا مكرما.
روي أنهم قالوا له: هذا أخونا، قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم(13/30)
وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يواكله، وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتا، وهذا لا ثاني له، فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه، ويشم رائحته، حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال: لي عشرة بنين، اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له:
أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل (أمهما) فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، وقال له: إني أنا أخوك يوسف، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا في الماضي، فإن الله قد أحسن إلينا، وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك «1» .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ.. فلما أعدّ لهم الطعام، وحمل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية (الصواع أو المكيال، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين، وقيل: من ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد.
ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ثم نادى مناد حينما عزموا على الخروج: أيتها العير أي يا أصحاب العير، إنكم قوم سارقون، فقفوا. فبهتوا وذهلوا.
فالتفتوا إلى المنادي وقالوا: أي: قال إخوة يوسف للمنادي ومن معه: أيّ شيء تفقدونه؟ فأجابوهم: نفقد صاع الملك الذي يكيل به، ولمن أتى به حمل بعير من القمح، وهذا يدل على أن عيرهم الإبل، وأنا به زعيم أي كفيل ضامن، وهذا من باب الجعالة والضمان والكفالة.
قال إخوة يوسف بعد اتهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا وجربتمونا في المرة الأولى وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا إليكم، وتحققتم منذ عرفتمونا، وشاهدتم
__________
(1) الكشاف: 2/ 147(13/31)
سيرتنا الحسنة أنا ما جئنا لنفسد في أرض بسرقة ولا غيرها من التعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا تقتضي هذه الصفة.
فقال لهم فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التهمة عنكم؟ أي أيّ عقاب للسارق في شرعكم إن وجدنا فيكم من أخذه، وأنتم تدّعون البراءة؟
فأجابوهم: جزاؤه أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقوا، وهكذا كانت شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: أن السارق يدفع إلى المسروق منه، فيصيرا عبدا له، وهذا هو ما أراده يوسف عليه السلام.
ولهذا بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتهم، ثم استخرج السقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ويحكمون به.
قوله: فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم السابق وتأكيد له، بعد تأكيد ثقتهم وبراءتهم بأنفسهم.
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل ذلك الكيد وهو التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبرنا له في الخفاء وأوحينا إليه أن يفعله. وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة. وهو دليل على جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بما ظاهره الحيلة إذا لم يخالف نصا تشريعيا أو حكما مقررا، فهي حيلة جائزة مشروعة، لا ممنوعة محظورة، لما يترتب عليها من الخير والمصلحة، دون إلحاق ضرر بأحد، مع اطمئنان بنيامين إلى البراءة، بسبب التواطؤ السابق بينه وبين أخيه يوسف.(13/32)
وسبب ذلك التدبير الخفي أن يوسف ما كان يتمكن من أخذ أخيه في حكم ملك مصر الذي لا يبيح استرقاق السارق، ولكن قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه وهو أن يستعبد السارق، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم، ولهذا مدحه الله تعالى بقوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم، كما قال تعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] .
وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال أي ما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله، فإنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، مما يدل على أن تلك الحيلة بإقرار الشرع، ووحي الله تعالى.
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي فوق كل عالم من هو أعلم منه، قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل. فإذا كان إخوة يوسف علماء فإن يوسف كان أعلم منهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- كانت فرحة غامرة من أفراح العمر لقاء الأخوين: يوسف وبنيامين، فضم يوسف أخاه إليه، وتعرّف عليه بعد فراق دام أكثر من ربع قرن، وتواطأ معه على خطة إبقائه لديه.
2- دل قول يوسف لأخيه فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ على التحلي بصفة العفو والتسامح، وإظهار الحب والود لإخوته، ونسيان الماضي وتجاوز أخطائهم معه في مقتبل العمر.
3- كان وضع الصواع في رحل بنيامين بأمر يوسف عليه السلام تعليما(13/33)
وإلهاما ووحيا من الله، وكان إبقاء أخيه لديه عملا بشريعة إبراهيم ويعقوب، وإلزاما لإخوته بما حكموا به.
4- لم يكن وصف أولاد يعقوب بأنهم سارقون كذبا من يوسف عليه السلام، وإنما المراد أيتها العير حالكم حال السّرّاق، والمعنى: إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. أو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، أو أنهم سارقون باعتبار ما كان منهم حينما أخذوا يوسف من أبيه، فألقوه في الجبّ.
5- دل قوله: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ على جواز الجعالة «1» وضمان الجعل قبل إنجاز العمل أو قبل إتمامه. وقد أجيز للضرورة، فجاز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره، وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع بالعمل وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعالة حضور المتعاقدين، كسائر العقود لقوله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ.. وبهذا كله قال الشافعي، وكذا المالكية والحنابلة، ولم يجز الحنفية الجعالة للجهالة.
ولم يكن قوله حِمْلُ بَعِيرٍ ضمان المجهول، لأن حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق (60 صاعا) فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال عن المسروق، وهو كفالة بما لم يجب، لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة، فلعله كان يصح في شرعهم، أو كان هذا جعالة.
__________
(1) الجعالة: التزام بعوض على شيء معلوم أو مجهول، وهو تصرف بإرادة منفردة، مثل الإعلان عن مكافأة أو جعل لمن يجد شيئا ضائعا، أو يكتشف علاجا لمرض معين، أو لمن يتفوق في قضية علمية أو اكتشاف علمي.(13/34)
6- دل قوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ على جواز الكفالة بنوعيها: الكفالة بالمال والكفالة بالنفس، وهذا مطابق للحديث النبوي الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حسان وصححه عن أبي أمامة الباهلي وغيره: «الزعيم غارم» وهو رأي المذاهب الأربعة، ولم يجز بعضهم الكفالة بالنفس لعجز الكفيل عن إحضار المكفول بنفسه.
وهل يلزم الكفيل بالنفس ضمان المال أو لا؟ قال الحنفية: لا يلزمه إن مات المكفول بنفسه: لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. وقال المالكية والليث والأوزاعي: يغرم المال، ويرجع به على المطلوب لأن الكفيل يعلم أن المضمون بنفسه إنما يطلب بمال، فإذا ضمن إحضاره ولم يأته به، فكأنه فوّته عليه، فلزمه المال.
وإذا انعقدت الكفالة جاز في رأي الجمهور للدائن المكفول له أن يطالب بالمال أو الدين من شاء من المدين الأصيل أو الكفيل. ورأي مالك الأخير: ألا يطالب الكفيل إلا أن يفلس الغريم (المدين) أو يغيب لأن البدء بمطالبة من عليه الحق أولى إلا أن يكون معدما، فيؤخذ الدين من الكفيل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة.
والكفالة لا تصح إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان الدين ثابتا مستقرا، أي لازما. فلا تصح الكفالة بنجوم (أقساط) الكتابة لأنها ليست بدين لازم أو ثابت مستقر. وأما الحقوق التي لا يمكن لأحد القيام بها عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها عند الأكثرين لأن درء هذه الحدود مطلوب ما أمكن، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره.
وأجاز أبو يوسف ومحمد الكفالة في الحدود والقصاص، لجواز الكفالة بالنفس.
وأجاز الشافعية كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير لأنها حق لآدمي، فصحت الكفالة، كسائر حقوق الآدميين المالية.(13/35)
7- كان استرقاق أو استعباد السارقين دين يعقوب عليه السلام وحكمه، وقد فهم هذا من جواب أولاده: جَزاؤُهُ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، فَهُوَ جَزاؤُهُ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع، فهذا جزاؤه لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله.
وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ.
وأما قطع يد السارق في شريعتنا فهو ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق.
8- يجوز التوصل إلى الأغراض أو الحقوق المشروعة إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا. وأجاز الحنفية والشافعية الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق، لفعل يوسف بوضع الصواع في رحل أخيه، ولفعل أيوب مع امرأته:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص 38/ 44] ولأمر النبي صلّى الله عليه وسلم ببيع التمر الرديء بالدراهم، ثم شراء التمر الجيد (الجنيب) بالدراهم.
واجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة، فإذا حال الحول لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرّق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق.
وقال مالك: إذا فوّت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه، لزمته الزكاة عند الحول، أخذا منه
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «خشية الصدقة» .
وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضرّه لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى
الحديث السابق: «خشية الصدقة» «1»
إلا حينئذ.
__________
(1) نص الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس: «ولا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة» (سبل السلام 3/ 591، ط بيروت) .(13/36)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
9- شاء الله أن يجري على ألسنة أولاد يعقوب حكم بني إسرائيل في استرقاق السارق، مع أنه كان حكم الملك الضرب والتغريم ضعفي المسروق.
10- لله في خلقه شؤون، يعزّ قوما ويذلّ آخرين، ويرفع من يشاء درجات بالعلم والإيمان. قال ابن عباس: يكون ذا أعلم من ذا، وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم. وقال أيضا: الله العليم، وهو فوق كل عالم. والآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات.
الفصل الرابع عشر من قصة يوسف نقاش حادّ بين أولاد يعقوب وبين يوسف وبين أبيهم حول السرقة المزعومة
[سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 87]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)(13/37)
الإعراب:
أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من أسرّها. مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، حذف فعله وأضيف إلى المفعول.
اسْتَيْأَسُوا استفعلوا من يئس ييأس نَجِيًّا حال من خَلَصُوا ونَجِيًّا لفظه لفظ المفرد، والمراد به الجمع، كعدو وصديق، فإنهما يوصف بهما الجمع على لفظ المفرد.
ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَمَّا إما مصدرية في موضع نصب بالعطف على قوله تعالى:
أَباكُمْ وتقديره: ألم تعلموا أن أباكم وتفريطكم، وإما أن تكون زائدة، أي ومن قبل فرطتم، مثل فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ أي فبرحمته.
يا أَسَفى في موضع نصب لأنه منادى مضاف، وأصله: يا آسفي، فأبدل من الكسرة فتحة، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار: يا أَسَفى. وعَلى يُوسُفَ في موضع نصب لأنه من صلة المصدر.(13/38)
البلاغة:
فَأَسَرَّها.. وَلَمْ يُبْدِها بينهما طباق. شَيْخاً كَبِيراً فيه إطناب للاستعطاف.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ مجاز مرسل علاقته المحلية أي أهل القرية. يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ بينهما جناس الاشتقاق. تَاللَّهِ تَفْتَؤُا إيجاز بالحذف، أي والله لا تفتأ.
وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ استعار الروح وهو تنسيم الريح الطيبة النسيم، للفرج بعد الكرب، واليسر بعد الشدة.
المفردات اللغوية:
إِنْ يَسْرِقْ بنيامين. فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قيل: ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام، وكانت تحضن يوسف وتحبه، فلما شبّ أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدت المنطقة على وسطه، ثم أظهرت ضياعها، فتفحص عنها، فوجدها محزومة عليه، فصارت أحق به في حكمهم. وقيل: كان لأبي أمه صنم من ذهب، فسرقه، وكسره، وألقاه في الجيف، لئلا يعبده.
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لم يظهرها لهم، والضمير يعود للكلمة أو الجملة التي في قوله:
قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً.
لَ
في نفسه. أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي شر منزلة من يوسف وأخيه، لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي والله عالم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة، وليس الأمر كما تذكرون من أمره، أو وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون.
إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن أو القدر، يحبه أكثر منا، ويتسلى به عن ولده الهالك، ويحزنه فراقه، وهذا استعطاف له عليه. فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ استعبده بدلا منه، فإن أباه مستأنس به. مِنَ الْمُحْسِنِينَ في أفعالك إلينا، فأتمم إحسانك، أو من المتعوّدين الإحسان، فلا تغير عادتك. مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله ونلجأ إليه. أَنْ نَأْخُذَ من أن نأخذ، ولم يقل:
من سرق، تحرزا من الكذب. إِنَّا إِذاً إن أخذنا غيره مكانه لَظالِمُونَ في مذهبكم، لو أخذنا غيره مكانه، كنا من الظلمة.
اسْتَيْأَسُوا يئسوا يأسا كثيرا من يوسف وإجابته إياهم، وزيادة السين والتاء للمبالغة.
خَلَصُوا انفردوا واعتزلوا الناس. نَجِيًّا متناجين متشاورين سرا، يناجي بعضهم بعضا، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنة المصدر، كما قيل: هم صديق، وجمعه أنجية كنديّ وأندية.
قالَ كَبِيرُهُمْ سنا: روبيل أو يهوذا، أو كبيرهم في الرأي وهو شمعون. مَوْثِقاً عهدا. مِنَ اللَّهِ في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا منه، لأنه بإذن منه وتأكيد من(13/39)
جهته. وَمِنْ قَبْلُ هذا. ما فَرَّطْتُمْ قصرتم في شأنه، وفَلَمَّا زائدة أو مصدرية في موضع نصب بالعطف على مفعول: تعلموا، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف، أو معطوف على اسم أن، وخبره: فِي يُوسُفَ. ويصح كونه مبتدأ وخبره: من قال قال البيضاوي: وفيه نظر: لأن قبل إذا كان خبرا، أو صلة، لا يقطع عن الإضافة، حتى لا ينقص. ويصح أن تكون موصولة، أي ما فرطتموه بمعنى: ما قدمتموه في حقه من الخيانة.
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ لن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي بالعودة أو الرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أو يقضي الله لي بخلاص أخي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أعدلهم لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وما شهدنا عليه إلا بما تيقنا من مشاهدة الصاع في رحله واستخراجه من وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ لما غاب عنا وهو باطن الحال، حين إعطاء الموثق حافِظِينَ أي فلا ندري أنه سرق، أو ما كنا للعواقب عالمين، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.. واسأل أهل مصر وَالْعِيرَ أصحاب الإبل الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وهم قوم من كنعان وَإِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا، فرجعوا إليه، وقالوا له ذلك سَوَّلَتْ زينت أَمْراً ففعلتموه، اتهمهم لما سبق منهم من أمر يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي صبري صبر جميل أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ يوسف وأخويه الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في صنعه.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أعرض عنهم تاركا خطابهم يا أَسَفى يا حزني وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ انمحق سوادهما وتبدل بياضا من بكائه مِنَ الْحُزْنِ عليه كَظِيمٌ مملوء غيظا، مغموم مكروب لا يظهر كربه تَاللَّهِ تَفْتَؤُا لا تفتأ أي لا تزال تذكره تفجعا عليه حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشرفا على الهلاك، لطول مرضك، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث الْهالِكِينَ الموتى.
لَ
يعقوب لهم ثِّي
هو عظيم الحزن الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الناس من.
البث: وهو النشر حُزْنِي إِلَى اللَّهِ
لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه، فخلوني وشكايتي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
من أن رؤيا يوسف صدق وهو حي، وأعلم من الله أي من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ اطلبوا خبرهما وَلا تَيْأَسُوا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ رحمته وفرجه.
المناسبة:
هزت السرقة أعماق نفوس أولاد يعقوب، فثار النقاش الحاد والحوار الشديد(13/40)
بين أولاد يعقوب أنفسهم، وبينهم وبين يوسف، وبينهم وبين أبيهم، لعودتهم إليه دون ولدين آخرين: وهما أكبر أولاده «روبيل أو يهوذا» وأصغر أولاده وهو بنيامين. ولم يجد أبناء يعقوب سبيلا للدفاع إلا الحجة الساذجة السطحية وهو تأكيد حادثة السرقة من أخيهم كما سرق أخوه يوسف من قبل، وقالوا:
هذه الواقعة عجيبة أن «راحيل» ولدت ولدت ولدين لصين، ثم قالوا: يا بني راحيل، ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين: ما أكثر البلاء علينا منكم، ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له: فكيف خرج الصواع من رحلك؟ فقال: وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم «1» .
التفسير والبيان
قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من وعاء بنيامين، بعد أن نفوا السرقة نفيا باتا، والتزموا على أنفسهم استعباد من وجد في رحله: إن يسرق بنيامين، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما من أصل واحد، ومرادهم التنصل إلى العزيز من التشبه بالأخوين، وتأنيب أخيهم على ما فعل.
وهذا يعني أن الطبائع والعادات والأخلاق تورث، وأن الحقد والكراهية والحسد عندهم ما يزال موجودا لديهم.
ونسبة السرقة إلى يوسف في أصح الروايات ما روى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال: سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته. وقال سعيد بن جبير عن قتادة: كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره.
وروى محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 183(13/41)
ما دخل على يوسف من البلاء- فيما بلغني- أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت عندها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان من اختبأها ممن وليها، كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته، وكان لها به وله، فلم تحب أحدا حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام، فأتاها، فقال: يا أخية، سلّمي إليّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فو الله، ما أنا بتاركته، ثم قالت: فدعه عندي أياما، أنظر إليه، وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه.
فلما خرج من عندها يعقوب، عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله، إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب، فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك، فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، قال:
فهو الذي يقول إخوة يوسف، حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي فأخفى في نفسه مقالتهم هذه، أو أخفى الجملة أو الكلمة التي بعدها وهي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ...
وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ أي لم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم.
قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي وقال لهم في نفسه دون إعلان لهم: أنتم شر مكانا ومنزلة ممن تتهمونه بالسرقة، إذا أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم، وطرحتموه في البئر، بقصد الهلاك والتخلص منه.(13/42)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي والله عالم بما تذكرون وما تصفونه به.
وهذا من قبيل الإضمار قبل الذكر، وهو كثير في اللغة والقرآن والحديث.
ثم استعطفوه واستشفعوا لديه لعله يأخذ أحدهم مكانه، فالفداء أو العفو أيضا جائز في شرعهم: قالُوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي قالوا: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا هرما متعلقا به، فهو يحبه حبا شديدا، ويتسلى به عن ولده الذي فقده، أو هو كبير القدر والمقام جدير بالرعاية والمجاملة والعناية.
فخذ أحدا منا بدله، يكون عندك عوضا عنه، إنا نراك من المحسنين لنا في ميرتنا وضيافتنا، أو من العادلين المنصفين، القابلين للخير، أو من عادتك الإحسان مطلقا، فأحسن إلينا.
فأجابهم: قالَ: مَعاذَ اللَّهِ.. أي نعوذ بالله معاذا أو نستعيذ بالله أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، كما قلتم واعترفتم، ولم يقل: إلا من سرق، تحاشيا للكذب، إنا إذا أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم، فهو أخذ بريء بمتهم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم. والمقصود الحقيقي من هذا الكلام بيان أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه، كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي. وهو رد قوي لهم، متضمن الاستعاذة من رأيهم، لأنه ظلم. ثم جاء دور حوارهم مع بعضهم.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا.. أي فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوا على ذلك، انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم ويتشاورون في أمرهم. قال كبيرهم في السن أو في العقل والرأي وهو روبيل أو يهوذا الذي أشار بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله: إن هذا الأمر عظيم، ألم تذكروا أخذ أبيكم موثقكم لتردّنه إليه، إلا أن يحاط بكم، وألم(13/43)
تعلموا أيضا تفريطكم في الماضي بأخيكم يوسف وإضاعته عن أبيكم، مما جعله رهين الحزن والأسى عليه؟! فَلَنْ أَبْرَحَ ... فلن أغادر أرض مصر أبدا، وأترك بنيامين فيها، حتى يأذن لي أبي في العودة إليه، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي أو بالخروج من مصر، وهو خير الحاكمين، فلا يحكم أبدا إلا بالحق والعدل.
هذا قراره الشخصي، وأما رأيه فيما يقولون لأبيهم فهو ارْجِعُوا.. أي عودوا إلى أبيكم وقولوا له: يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك، فاسترقه العزيز القائم بأمر الحكم في مصر، على وفق شريعتنا التي أخبرناه بها، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدنا من إخراج الصواع من وعاء بنيامين، وما كنا للغيب حافظين، أي وما علمنا أنه سيسرق ويسترق حين أعطيناك الموثق، أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف، وفي الجملة: حقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.. أي واسأل يا أبانا عما حدث أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، فقد اشتهر أمر هذه السرقة فيهم، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا. وهذا مبالغة منهم في إزالة التهمة عن أنفسهم، لأنهم مشكوك فيهم، وكانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام. ثم أكدوا صدقهم بقوله: وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به من أنه سرق، وأخذوه بسرقته، وهذا مقال كبيرهم، ثم ذكر تعالى مقال أبيهم:
قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ.. أجابهم أبوهم بما يدل على عدم تصديقهم فيما قالوا، كما أجابهم حين جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب: بَلْ سَوَّلَتْ..
بل زينت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه؟ وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم!(13/44)
فأمري الاعتصام بالصبر الجميل وهو الذي لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، وإنما أرضى بقضاء الله وقدره، وأشكو إلى الله وحده، ثم ترجى أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وبنيامين، وروبيل الذي أقام بمصر، ينتظر أمر الله فيه: إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.. أي لعل الله الذي أطلب منه إرجاع أولادي الثلاثة أن يعيدهم إلي جميعا، وقد كان ملهما أن يوسف لم يمت، إنه هو العليم بحالي من الكبر والحزن، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره، فما بعد الشدة إلا اليسر، وما بعد الكرب إلا الفرج.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ.. وأعرض يعقوب عن بنيه كارها لما قالوا ووصفوا، وقال متذكرا حزن يوسف القديم: يا حزني ويا أسفي على يوسف، والأسف: أشد الحزن والحسرة، فجدد له حزن الابنين الحزن الدفين. وهو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأن المصاب فيه دائم متجدد لم ينس مع تقادم العهد.
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ.. أي أصيبت عيناه بسبب الحزن بغشاوة بيضاء، حجبت البصر والرؤية فأصبح كظيما أي ساكتا لا يشكو أمره إلى مخلوق، كاظما غيظه على أولاده. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف، إلى حين لقائه، ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
والجزع البالغ والحزن الشديد أمر إنساني عند الشدائد والمصائب، وهو غير مذموم شرعا إذا اقترن بالصبر، وضبط النفس، حتى لا يخرج إلى مالا يحسن، ولقد
بكى رسول صلّى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال فيما رواه الشيخان: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» .
وإنما الجزع المذموم: ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور(13/45)
والوجوه، وتمزيق الثياب.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه بكى على ولد بعض بناته، وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح» .
وقال الحسن البصري حينما بكى على ولد أو غيره: «ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب» .
وعند ما شاهد أولاد يعقوب ما حدث لأبيهم، رقوا له، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تصير مريضا ضعيف القوة، أو تموت، أي إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف.
فأجابهم عما قالوا: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم حزني، إنما أشكو همّي الشديد وأسفي وما أنا فيه إلى الله وحده داعيا له وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير، لأني أعلم من صنعه وإحسانه ورحمته وحسن ظني به أن يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. روي أنه رأى ملك الموت في منامه، فسأله، هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله، هو حيّ فأطلبه. وقال ابن عباس في قوله تعالى: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ..
يعني رؤيا يوسف أنها صدق، وأن الله لا بد أن يظهرها.
يا بَنِيَّ، اذْهَبُوا.. يا أولادي اذهبوا إلى مصر، وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين. والتحسس يكون في الخير، والتجسس يكون في الشر، فهو قد ندبهم على الذهاب إلى مصر للتعرف على أخبار إخوتهم، وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله أي من فرجه وتنفيسه الكرب، ولا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون أي(13/46)
الذين يجحدون قدرته ورحمته، ويجهلون حكمة الله في عباده. أما المؤمنون فلا ييأسون من رحمة الله وتفريجه الكروب، وإزالته الشدائد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن المؤمن من الله على خير، يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- لم يتغير موقف أولاد يعقوب العشرة في حال الصغر والكبر معا، وظلوا على حقدهم وحسدهم وكراهيتهم لأخويهما: يوسف وبنيامين، وقد فهم هذا من محاولة تبرئة أنفسهم بأنهم على منهج وطريقة وسيرة تختلف عن منهج وسيرة أخويهم، فأخواهما مختصان بهذه الطريقة واحتراف السرقة، لأنهما من أم أخرى.
والحق أن سرقة يوسف كانت رضى لله، وكانت على ما يبدو في حال الصغر، والصغير غير مكلف، ولم يكن وضع الصواع في رحل بنيامين منه إنما كان من غيره.
2- لم يقابلهم يوسف بالإساءة والتصريح عما في نفسه، وإنما أسرّ في نفسه مقالتهم، وقولهم هو: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وقيل: إنه أسرّ في نفسه على طريقة الإضمار قبل الذكر قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ثم جهر فقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ.
3- استعطفوه لإطلاق سراح أخيهم بنيامين أو قبول الفداء عنه بأخذ أحدهم بدله، بحال أبيه الشيخ الكبير أي كبير القدر، ولم يريدوا كبير السن، لأن ذلك معروف من حال الشيخ، واستعطفوه أيضا بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم.(13/47)
وأما عرضهم أخذ البدل عنه فهو إما مجاز، لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل المتهم، وإنما هو مبالغة في استنزاله، كما تقول لمن تكره فعله:
اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله.
وإما أن يكون قولهم: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ حقيقة، من طريق الكفالة بالنفس، ليصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف جلّية الأمر، والكفالة بالنفس جائزة على التحقيق في المذاهب الإسلامية الأربعة، حتى عند الشافعي على الراجح.
وعلى كل حال كما أن الاستعباد للسارق في شرع إسحاق ويعقوب جائز، كذلك العفو وأخذ الفداء كان جائزا أيضا.
4- رفض يوسف عليه السلام أخذ البدل، ووصف ذلك بأنه ظلم.
5- تشاور أولاد يعقوب فيما يفعلون أمام الميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم مؤكدا باليمين بالله، وتذكروا تفريطهم السابق بيوسف، فقرر أكبرهم في السن أو في الرأي والعقل وهو شمعون أو يهوذا أو روبيل البقاء في مصر، حتى يأذن له أبوه بالرجوع إليه، لاستحيائه منه، أو يحكم الله له بالمضي مع أخيه إلى أبيهما.
وهذا دليل على أن التناجي والمشاورة في أمر ما مطلوب شرعا.
وقد ذكر القاضي عياض في «الشفا» أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه الآية:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. إذ أن هذه الجملة تضمنت معاني كثيرة، يعبر عنها اليوم بجمل كثيرة لعقد اجتماع سري، وتشاور فيه، ومداولة فيما يجابهون به أباهم، وكيفية بيان الحادث له.
6- اتفق أولاد يعقوب بمشورة كبيرهم الذي بقي في مصر على مصارحة أبيهم بما حدث من واقعة السرقة، وشهادتهم في الظاهر عليها، حيث أخرج الصواع(13/48)
من متاع بنيامين، وجهلهم بالمغيب، فلم يعلموا وقت أخذ الميثاق عليهم أنه يسرق، ويصير أمرهم إلى ما آل إليه، من الاستعباد أو الاسترقاق، عملا بما هو المقرر من جزاء في شريعتهم.
وعلى كل حال فإنهم لما تفكروا في الأصوب ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على نحو ما حدثت.
7- تضمنت آية وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فتصح شهادة المستمع والمعاين والأعمى والأخرس إذا فهمت إشارته، وكذلك تصح الشهادة على الخط إذا تيقن الشاهد أن الخط خط الكاتب أو خط فلان، فكل من حصل له العلم بشيء، جاز أن يشهد به، وإن لم يشهده المشهود عليه، قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف 43/ 86]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني: «ألا أخبركم بخير الشهداء: خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» .
وقد شهد أولاد يعقوب بما رأوه حين إخراج الصواع من رحل أخيهم، فغلب على ظنهم أنه هو الذي أخذ الصواع.
وأما شهادة المرور بأن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا، فالصحيح أنه إذا استوعب القول، جاز أداء الشهادة عليه.
وإذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره، ردّت، لأنه ادّعى باطلا، فأكذبه العيان ظاهرا.
والخلاصة: أن الشهادة تكون بالاعتماد على الحواس الظاهرة، أما حقيقة الغيب فلا يعلمها إلا الله تعالى.
8- استعان أولاد يعقوب لإقناع أبيهم بصدق قولهم بسؤال أناس من أهل(13/49)
مصر، وسؤال قوافل الطعام التي كانت معهم من قوم من الكنعانيين، وهذا يدل على أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم: أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد كلام، وقد فعل هذا نبينا صلّى الله عليه وسلم-
فيما رواه البخاري ومسلم- بقوله للرجلين اللذين مرّا، وهو مع صفية يردّها من المسجد: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» . فقالا: سبحان الله! وكبر عليهما، فقال: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
ثم إنهم بالغوا في التأكيد والتقرير فقالوا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة، أو لم تنسبنا إليها، فنحن صادقون.
9- الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين عليهم السلام. قال يعقوب في واقعتي يوسف وبنيامين: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إلا أنه قال في واقعة يوسف: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وقال في واقعة بنيامين: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.
10- قول يعقوب عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً صادر عن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بسؤال ملك الموت أن يوسف عليه السلام لم يمت، وإنما غاب عنه خبره. والذين تمنى إحضارهم ثلاثة: كبير أولاده ويوسف وبنيامين.
11- تجدد مصاب يعقوب وحزنه على يوسف بغياب ولدين آخرين هما أكبر أولاده وأصغرهم، فأسف أسفا شديدا، والأسف: شدة الحزن على ما فات، وعمي فلم يعد يبصر بعينيه ست سنين من البكاء، الذي كان سببه الحزن.(13/50)
ولكن الله العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة هيأ لجمع الأسرة كلها.
12- إن الحزن ليس بمحظور إذا اقترن بالصبر والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، فذلك من طبع الإنسان وعاطفته، وإنما المحظور هو السخط على القضاء والقدر، والولولة، وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» .
وبناء عليه لما سمع يعقوب عليه السلام كلام أبنائه، ضاق قلبه جدا، وأعرض عنهم، وفارقهم، ثم طلبهم أخيرا وعاد إليهم.
13- أشفق أولاد يعقوب على أبيهم، ورقوا، وذكروا له مخاطر الاستمرار في حال الحزن، وهي إما المرض المضعف القوة، وإما الهلاك والموت، وهذا أمر واقعي مطابق لأحوال الناس.
14- كانت شكاية يعقوب وحزنه ولجوءه بالدعاء إلى الله وحده، لا إلى أحد من الخلق، وهذا هو المطلوب شرعا في كل شاك حزين.
15- إن نبي الله يعقوب يعلم مالا يعلم غيره من الناس بما عند الله من رحمة وإحسان وتفريج كرب، ويعلم أيضا أن رؤيا يوسف صادقة، وأنه وزوجته وأبناؤه سيسجدون له، تصديقا لرؤياه السابقة وهو صغير.
16- تيقن يعقوب عليه السلام حياة ابنه يوسف إما بالرؤيا، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه، وهو أظهر، فعاد يكلم أولاده باللطف، وطلب منهم الذهاب إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه.
17- لا يقنط من فرج الله إلا القوم الكافرون، وهذا دليل على أن الكافر يقنط في حال الشدّة، وعلى أن القنوط من الكبائر، أما المؤمن فيرجو دائما فرج الله تعالى.(13/51)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قال الرازي: واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا «1» .
الفصل الخامس عشر من قصة يوسف تعرّف أولاد يعقوب على يوسف في المرة الثالثة واعترافهم بخطئهم وعفوه عنهم
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 199(13/52)
الإعراب:
لَأَنْتَ يُوسُفُ اللام: لام الابتداء، وأنت: مبتدأ، ويُوسُفُ: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: في موضع رفع خبر «إن» ويجوز أن تكون لَأَنْتَ ضمير فصل على قول البصريين، أو عمادا على قول الكوفيين.
مَنْ يَتَّقِ مَنَّ شرطية مبتدأ، وخبره: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وكان الأصل أن يقال: فإن الله لا يضيع أجرهم، ليعود من الجملة إلى المبتدأ ذكر، إلا أنه أقام المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء. أي يسبقه شيء. وهو كثير في كلام العرب. والجملة من المبتدأ والخبر خبر إن الأولى، والهاء فيها: ضمير الشأن والحديث.
ويَصْبِرْ: مجزوم بالعطف على يَتَّقِ. ومن قرأ «يتقي» على جعل من بمعنى «الذي» وإذا كانت بمعنى الذي، ففيها معنى الشرط، ولهذا تأتي الفاء في خبرها في الأكثر، مثل:
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين 63/ 10] .
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا: نافية للجنس، وتَثْرِيبَ: اسمها، وعَلَيْكُمُ متعلق بالخبر المحذوف، وتقديره: لا تثريب مستقر عليكم، واليوم منصوب بالخبر المحذوف. ولا يجوز أن يتعلق أحدهما بتثريب، لأنه لو كان متعلّقا به، لوجب أن يكون منونا، كقولهم: لا خيرا من زيد.
المفردات اللغوية:
الضُّرُّ أي شدة الجوع بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي بدراهم رديئة أو زيوف، يدفعها التجار، من أزجى الشيء: إذا دفعه برفق، كما في قوله تعالى: يُزْجِي سَحاباً [النور 24/ 43] .
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي فأتم لنا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة عن رداءة بضاعتنا، أو برد أخينا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يثيبهم أحسن الجزاء، والتصدق: التفضل مطلقا، ولكنه اختص عرفا بما يبتغى به ثواب من الله تعالى.
ثم قال لهم توبيخا: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من الضرب والبيع وغير ذلك وَأَخِيهِ فعلهم بأخيه: إفراده عن يوسف وإذلاله، حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز(13/53)
وذلة إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قبح أو عاقبة فعلكم، فأقدمتم عليه. وإنما قال ذلك تحريضا لهم على التوبة وشفقة عليهم، لما رأى من عجز هم وتمسكنهم، لا معاتبة وتثريبا.
قالُوا بعد أن عرفوه، لما ظهر من شمائله أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير وإثبات، وحقق بأن ودخول اللام عليه وَهذا أَخِي من أبي وأمي، ذكره تعريفا لنفسه به، وتفخيما لشأنه قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أنعم علينا بالاجتماع والسلامة والكرامة مَنْ يَتَّقِ يخف الله وَيَصْبِرْ على ما يناله من البليات، أو على الطاعات وعن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وضع الظاهر الْمُحْسِنِينَ موضع الضمير أجرهم للتنبيه على أن المحسن: من جمع بين التقوى والصبر.
آثَرَكَ فضلك، واختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة وبالملك والسلطة وغيرها وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ إن مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا، أي والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، وآثمين في أمرك. والخاطئ: الذي يتعمد الخطيئة، والمخطئ: الذي يريد الصواب فيخطئه ويصير إلى غيره. والخطء: الذنب.
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا لوم ولا تأنيب عليكم الْيَوْمَ خصه بالذكر، لأنه مظنة التثريب، فغيره أولى. وهو متعلق بالتثريب، أو بالخبر المحذوف وتقديره: لا تثريب كائن أو حاصل عليكم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ لأنه صفح عن جريمتهم التي اعترفوا بها حينئذ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنه يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هو قميص إبراهيم الذي لبسه، حين ألقي في النار، كان في عنقه في الجبّ، فهو القميص المتوارث، أو القميص الذي كان عليه. يَأْتِ بَصِيراً يصر مبصرا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي ائتوني أنتم وأبي وزوجته بنسائكم وذراريكم ومواليكم.
المناسبة:
الكلام مرتبط بما قبله، بتقدير محذوف، وهو أن يعقوب لما قال لبنيه:
اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ قبلوا من أبيهم هذه النصيحة، وعادوا إلى مصر للمرة الثالثة، يبحثون عن يوسف وأخيه، بلا يأس، وإنما بأمل وجدّ في البحث، فلما التقوا مع يوسف العزيز، ورق قلبه لاستعطافهم، عرّفهم بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر.(13/54)
التفسير والبيان:
فلما ذهبوا في المرة الثالثة، فدخلوا مصر، ودخلوا على يوسف عليه السلام، فقالوا مختبرين بذكر حالهم، واستعطافهم، وشكواهم إليه رقة الحال وقلة المال مما يرقق القلب: يا أيها العزيز- وكان أبوهم يرى أن هذا العزيز هو يوسف- قد أصابنا وأهلنا الضرر الشديد من الجدب والقحط والجوع وقلة الطعام، وأتينا إليك بثمن الطعام الذي نمتاره، وهو ثمن قليل أو رديء زيوف لا يروج بين التجار في الأسواق، فأتم لنا الكيل كما عودتنا من إحسانك، وتصدّق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة، وتسامح فيها بعد أن تتغاضى عن قلتها أو رداءتها، إن الله يجزي المتصدقين أحسن الجزاء، فيخلف لهم ما ينفقون، ويضاعف الثواب لهم.
وكان القصد من هذا الكلام الرقيق والتضرع والتذلل اختبار حال العزيز، هل يرق قلبه، ويظهر نفسه، ويعلن عن شخصه؟ بعد أن ذكروا له ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام، وما لدى أبيه من الحزن لفقد ولديه.
وقد نجحوا في هذا الاستعطاف، فأخذته رقة ورأفة ورحمة على أبيه وإخوته، وهو في حال الملك والتصرف والسعة، فأجابهم بقوله، مستفهما عن مدى استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين؟ حيث ألقيتم يوسف في الجبّ، وعرضتموه للهلاك، وفرقتم بينه وبين أخيه، وما عاملتم به أخاه من معاملة جافّة قاسية، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتموه، من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم والقرابة، وذلك كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ الآية [النحل 16/ 119] .
والمراد بهذا الاستفهام التقريع والتوبيخ، ومراد يوسف تعظيم الواقعة، أي ما أعظم ما ارتكبتم بيوسف، كما يقال: هل تدري من عصيت؟ والصحيح أنه(13/55)
قال جاهِلُونَ تأنيسا لقلوبهم وبيانا لعذرهم، كأنه قال: إنما دفعكم لهذا الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور، وكأنه لقنهم الحجة، كقوله تعالى:
ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار 82/ 6] «1» .
وهذا تذكير رقيق بذنوبهم، تمهيدا لتعريفهم بنفسه، لا معاتبة ولوما وتوبيخا، بعد أن حان الوقت في هذه المرة الثالثة من لقاء يوسف مع إخوته، وكان قد أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بتقدير الله وأمره، وهو مصداق قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف 12/ 15] .
فاغتنموا فرصة هذا التذكير وتساؤل العارف الخبير بأحوالهم، فسألوه سؤال المتعجب المستغرب المقرّر المثبت أنه أخوهم يوسف: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أي إنهم استفهموا استفهام تعجب من موقفه أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، ولكنهم في هذه المرة عرفوه بقولهم ذلك، وتوسموا أنه يوسف، واستفهموه استفهام استخبار، وقيل: استفهام تقرير، وهو أولى في تقديري، لأنهم كانوا عرفوه بعلامات.
قال ابن عباس: إن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ رفع التاج عنه، فعرفوه، فقالوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أي إنهم قالوا: من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف.
قالَ: أَنَا يُوسُفُ قال: نعم أنا يوسف المظلوم العاجز، الذي نصرني الله وقواني وصرت إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه،
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 341(13/56)
ومقصوده: أن هذا أيضا كان مظلوما كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون.
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي قد أنعم الله علينا بالاجتماع بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزنا في الدنيا والآخرة. وفيه إشارة إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخي.
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ.. أي إن كل من يتقي الله حق التقوى فيما أمر به ونهى، ويصبر على طاعة الله وعلى المحن التي يتعرض لها، فإن الله حسبه وكافيه من كل سوء، ومنجيه من كل مكروه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين.
قالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ.. أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل، والله لقد فضلك الله علينا، وآثرك بالعلم، والحلم، والخلق، والملك والسعة والتصرف، والنبوة أيضا، وأقروا له بأنهم أساؤوا إليه، وأخطئوا في حقه، وأعلنوا بأنهم المذنبون الخاطئون، الذين لا يعذرون.
وبعد اعتذارهم وإعلان توبتهم صفح عنهم فقال: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم، وكذا فيما قبله من الأيام، وخص اليوم بالذكر، لأنه مظنة التثريب والعتاب.
ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة، فقال: يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا.. لما عرف يوسف نفسه إخوته، سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره، أي عمي من كثرة البكاء، فقال لهم بما عرف بالوحي:
اذهبوا بقميصي هذا الذي على بدني، أو المتوارث عن أجدادي وآبائي إبراهيم(13/57)
وإسحاق ويعقوب، فألقوه على وجه أبي فور وصولكم إليه، يأت مبصرا (ذا بصر) كما كان، فإن الغشاوة التي ألمت به تزول بالفرح والبشرى، وذلك بفضل الله وكرمه، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنساء والأولاد، روي أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- جواز الشكوى عند الضّرّ، أي الجوع، بل يجب على الإنسان إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره، أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع، كما يجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه، ولا يكون ذلك معارضا التوكل:
وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط. ويظل الصبر والتجلّد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى، كما قال يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده.
أما الشكوى لمن لا يؤمل منه إزالتها فهو عبث وسفه، إلا أن يكون على وجه البثّ والتسلي.
2- جواز طلب الزيادة على الحق على سبيل الصدقة، والصدقة كما ذكر مجاهد لم تحرم إلا على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير أن سفيان بن عيينة سئل: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع قوله: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.(13/58)
3- استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع: لأن إخوة يوسف قالوا له: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ فكان يوسف هو الذي يكيل.
وكذلك الوزّان والعدّاد وغيرهم، لأن على البائع تسليم المبيع وتمييزه عما عداه، إلا إذا باع شيئا معينا أو ما لا يحتاج إلى الكيل أو الوزن أو العدد، ولأن البائع لا يستحق الثمن إلا بعد إيفاء الحق بالكيل أو الوزن.
وكذلك أجرة النقد (فحص الدراهم التي هي الثمن) على البائع أيضا، لأنه هو الذي يدّعي الرداءة، ولأن النفع يقع له، فصار الأجر عليه.
ويكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق عليّ، لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم، لا رب غيره.
4- استنباط الأحكام من فحوى الكلام وما يصحبه من إشارات، فإن يوسف وجّه لإخوته استفهاما بمعنى التذكير والتوبيخ بقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟ ففهموا منه أنه يوسف، فقالوا على سبيل استفهام التقرير والإثبات: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟.
ودل قوله إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، وليسوا أنبياء، لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته، ويدل على أنه حسنت حالهم الآن، أي فعلتم فعلكم إذ أنتم صغار جهال.
وتعرف إخوة يوسف عليه، فتجاوب معهم وعرفهم بنفسه قائلا: أَنَا يُوسُفُ أي أنا المظلوم.
قال ابن عباس: كتب يعقوب إلى يوسف بطلب ردّ ابنه، وفي الكتاب:
من يعقوب صفيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر:(13/59)
أما بعد، فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدّي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحبّ أولادي إلي، حتى كفّ بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا، والسّلام.
فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعرّ جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره، فباح بالسرّ.
وأعلن يوسف عن مزيد فضل الله عليه بقوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالاجتماع بعد الفرقة، وبالعز بعد الذل، وبالنجاة والملك.
5- إن من اتقى الله بالتزام ما أمر واجتناب ما نهى، وصبر على المصائب وعن المعاصي، فإن الله يدخر له ثواب إحسانه العمل، ولا يضيع منه شيئا.
6- الاعتراف بالذنب أو الخطأ سبيل الحظوة بالعفو والصفح، فإن قول إخوة يوسف: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أي مذنبين، متضمن سؤال العفو، وقد ظفروا به.
ولا مانع من العفو عن الخطأ وإن كان عمديا، فهو تجاوز للحق، أيا كانت صفته، وكل من اقترف ذنبا متجاوز لمنهاج الحق، واقع في الشبهة والمعصية.
7- شهد الله تعالى لنبيه يوسف عليه السّلام بصفات المتقين الصابرين المحسنين، وكفى بشهادة الحق فخرا، وهذا تعليم وتدريب ومثل عملي لنا.
8- كانت عبارة يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ مثلا رائعا في السماحة والعفو والصفح، فهو عفو لا لوم فيه ولا تعيير، وهو صفح في حال المقدرة على العقاب، وهو تنازل عن أي حق دون أي حقد أو كراهية، وأضيف إليه الدعاء بالمغفرة على الذنب والستر، والرحمة في عالم الآخرة بين يدي أرحم الراحمين. وهو لا يكون إلا عن وحي، فكان مرد الفضل في النهاية إلى الله تعالى.(13/60)
واحتذى نبينا عليه الصلاة والسّلام حذو أخيه يوسف عليه السّلام في هذا القول العظيم يوم فتح مكة بإعلان العفو عن قريش،
روى ابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: ماذا تظنون يا معشر قريش؟ قالوا:
خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فخرجوا كأنما نشروا من القبور» .
وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وقال يعقوب:
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
9- حدثت الفرحة الصغرى بعودة البصر إلى يعقوب حينما ألقي عليه قميص يوسف. وهو- في القول الأصح
المروي مرفوعا عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فيما ذكر القشيري- قميص إبراهيم الذي ألبسه الله أثناء إلقائه في النار من حرير الجنة
، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، ويعقوب علقه في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وهذا بإعلام الله يوسف به. وقيل: إنه قميص يوسف الذي خلعه من على بدنه، فإنه إذا ألقي على أبيه انشرح صدره، وحصل في قلبه الفرح الشديد، والفرح يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى الحسية، فيقوى بصره، ويزول عنه ما غشيه بسبب البكاء، والطب يؤيد ذلك.
10- تمت الفرحة الكبرى بطلب يوسف عليه السّلام من إخوته إحضار جميع أسرته إلى مصر لاتخاذها دارا، وكان عددهم سبعين أو ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة.(13/61)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
الفصل السادس عشر من قصة يوسف إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييده ببشارة البشير
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَأَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
الإعراب:
فَلَمَّا أَنْ جاءَ أن لتأكيد الربط بين شرط «لما» وهو جاءَ وجوابها وهو أَلْقاهُ.
البلاغة:
تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ هذا استنكار من القوم الحاضرين مجلس يعقوب الذين أخبرهم بأن يوسف حي، وأكدوا كلامه بمؤكدات ثلاثة: القسم وإنّ واللام.
المفردات اللغوية:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ انفصلت عن بلد مصر وجاوزت حدودها وخرجت من العريش قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره من ولد ولده ومن حوله من قومه إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لأحس برائحة يوسف، أشعره الله برائحة القميص حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخا «1» أي حملته إليه ريح الصبا بإذنه تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر تُفَنِّدُونِ تنسبوني إلى الفند: وهو ضعف العقل الحادث بسبب الهرم، أو الخرف، وجوابمحذوف، تقديره: لصدقتموني، أو لقلت: إنه قريب.
__________
(1) الفرسخ: 5544 م(13/62)
قالُوا أي الحاضرون لَفِي ضَلالِكَ خطئك، أو في إفراطك في حبه، وإكثار ذكره، وتوقع لقائه بعد طول العهد فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ يهوذا، روي أنه قال: كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه، فأفرحه بحمل هذا إليه، وأن: زائدة أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه السّلام. فَارْتَدَّ رجع بصيرا، لما انتعش فيه من القوة، بسبب الفرح والبهجة.
المناسبة:
عمت الفرحة أولاد يعقوب في أرجاء مصر، بعد تعارفهم، وانتقل أثر الفرح إلى أرض كنعان في أسعد عودة من رحلتهم الثالثة إلى مصر، وأظهر الله المعجزة على يد يعقوب عليه السّلام بإحساسه برائحة يوسف، وأيّد الله ذلك الشعور ببشارة البشير ابنه الأكبر الذي اعتصم في مصر، حتى يأذن له أبوه بالرجوع بعد بقاء أخيه بنيامين.
روى الواحدي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: أما قوله:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي، يَأْتِ بَصِيراً فإن نمروذ الجبار، لما ألقى إبراهيم في النار، نزل عليه جبريل عليه السّلام بقميص من الجنة، وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة، وقعد معه يحدثه، فكسا إبراهيم عليه السّلام ذلك القميص إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة، وعلقها في عنقه، فألقي في الجب، والقميص في عنقه.
التفسير والبيان:
ولما خرجت إبل أولاد يعقوب من حدود مصر عائدة إلى أرض كنعان (فلسطين) من بلاد الشام، قال يعقوب النبي عليه السّلام لمن حضره من حفدته وقومه: إني لأشم رائحة يوسف وقميصه، لولا أن تنسبوني إلى الفند (الخرف وضعف العقل) والكبر.(13/63)
أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: لما خرجت العير، هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، أَنْ تُفَنِّدُونِ فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام.
قال الرازي: والتحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات، لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ليعقوب عليه السّلام على الأظهر أو الأقرب «1» .
قالُوا: تَاللَّهِ.. قال الحاضرون في مجلس يعقوب له: والله، إنك لفي خطئك القديم الذي طال أمده بظنك أن يوسف حي يرزق يرجى لقاؤه. قال قتادة: أي من حب يوسف، لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه السّلام.
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ.. فحينما وصل البريد، وهو ابنه يهوذا يحمل قميص يوسف، مبشرا له ببقائه حيا هو وأخوه بنيامين، ألقاه على وجه يعقوب، فانقلب فورا بصيرا كما كان، من شدة الفرح قال السّدّي: إنما جاء به (أي يهوذا بن يعقوب) لأنه هو الذي جاء بالقميص، وهو ملطّخ بدم كذب، فأحبّ أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص، فألقاه على وجه أبيه، فرجع بصيرا.
قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ.. قال يعقوب لأولاده وحفدته ومن حوله: ألم أقل لكم حين طلبت منكم أثناء ذهابكم إلى مصر: ابحثوا عن يوسف، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته: إني أعلم من الله تعالى بوحي منه أشياء لا تعلمونها، وأعلم أن الله سيردّ يوسف إليّ. وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ كلام مستأنف مبتدأ لم يقع
__________
(1) تفسير الرازي: 18/ 208(13/64)
عليه القول، ويجوز إيقاع القول عليه وهو ما قاله لهم سابقا: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
وحين ذاك قالوا لأبيهم مترفّقين معظّمين متوسّلين: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، فإنّا كنّا مذنبين عاصين لله، فقد تبنا وأنبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا: يوسف وبنيامين.
أجابهم والدهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في المستقبل، لأنّ ربّي غفور ساتر للذّنوب، رحيم بالعباد.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- يمتاز الأنبياء عن غيرهم بأن الله تعالى يظهر على أيديهم معجزات خارقة للعادة، خارجة عن المألوف، وهذا هو الذي مكّن يعقوب من الإخبار برائحة يوسف وقميصه، قبل وصول أولاده إليه، حاملين البشارة بلقائهم الحارّ مع أخيهم يوسف عليه السّلام.
وقال ابن عباس: هاجت ريح، فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وعلى هذا القول أيضا يكون الإحساس بالرّائحة محتاجا إلى عناية ربّانيّة، وتأييد روحاني عميق الإدراك.
2- وظهرت معجزة أخرى بشفاء يعقوب عليه السّلام بوضع القميص على وجهه، بإرادة الله تعالى وعونه، فهو إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون.
3- كان كلام الحاضرين في مجلس يعقوب عليه السّلام مشوبا بالغلظة والتّهكّم، مما لا يليق توجيهه لنبيّ إطلاقا، وهو من بنيه زيادة في العقوق.
4- لم يجد يعقوب عليه السّلام عنده شيئا يعطيه مكافأة للبشير، وإنّما دعا(13/65)
له قائلا: هوّن الله عليك سكرات الموت. وهذا الدّعاء من أعظم الجوائز وأفضل العطايا والهبات. والآية دالّة على جواز البذل والهبات عند البشائر.
جاء في حديث كعب بن مالك: «فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني، نزعت ثوبيّ، فكسوتهما إيّاه ببشارته» .
وتدلّ الآية أيضا على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغمّ والتّرح، بتفريح الصّبيان وإطعام الطّعام ونحوهما، وقد نحر عمر بعد حفظه سورة البقرة جزورا.
5- نصر الله نبيّه يعقوب عليه السّلام على أولاده وكلّ من حوله، كما ينصر أنبياءه الكرام في نهاية المطاف وفي عاقبة الأمور، وتبيّن أنّ الناس مع الأنبياء كالأقزام مع العمالقة، فلم يجد أولاد يعقوب عليه السّلام بدّا من الاعتذار من أبيهم، وطلب الدّعاء منه أن يغفر الله لهم، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يرتفع الإثم عنه أو يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله وتسامحه وعفوه عنهم، كما عفا عنهم أخوهم يوسف.
وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له، فإنه يجب عليه أن يتحلّل منه ويطلب صفحة عنه ومسامحته عليه، ويخبره بالمظلمة وقدرها، والصّحيح أنه لا ينفعه التّحليل المطلق دون بيان السّبب، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال، ربّما لم تطب نفس المظلوم في التّحلل منها.
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيّئات صاحبه، فحمل عليه»
، فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أخذ منه بقدر مظلمته»
يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر، مشارا إليها مبيّنة «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 262 [.....](13/66)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
6- لم يستعجل يعقوب عليه السّلام بطلب المغفرة لأولاده والدّعاء لهم، وإنّما أخّر ذلك- كما قال ابن عباس- إلى السّحر، قال طاوس: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وهذا رأي الأكثرين.
وهذا الموقف من يعقوب يختلف عن موقف يوسف عليهما السّلام، لأنّ دعاء الأول كان مؤجّلا، ودعاء الثّاني كان في الحال. والسبب أن حال الأب حال المربّي، فهو يريد تعظيم الذّنب في أنفسهم، ولأنّ ذنبهم لم يكن موجّها إليه مباشرة، وإنما إلى يوسف عليه السّلام وأخيه، ولأن خطأهم ذنب كبير حدثت منه أضرار كثيرة، فيحتاج إلى توبة نصوح، وندم شديد، ولا يمحى بمجرد طلب الاستغفار، ثمّ إن يوسف عليه السّلام كان قادرا على عقابهم وهم ضعاف، فأراد المبادرة إلى تأمينهم من خوف الانتقام منهم، وتهدئة نفوسهم، وإظهارا للسّرور عقب المفاجأة بأنه أخوهم، وليرى الناس فضل العفو عند المقدرة، ويصبح للنّاس أسوة حسنة.
الفصل السابع عشر من قصة يوسف لقاء أسرة يعقوب عليه السّلام في مصر
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)(13/67)
الإعراب:
سُجَّداً جمع ساجد، كشهّد جمع شاهد، وهو حال من واو خَرُّوا وهي حال مقدّرة.
البلاغة:
إِنْ شاءَ اللَّهُ جملة دعائية للتّبرّك وجعل الأمان بمشيئة الله تعالى، وهي متقدّمة على قوله تعالى: آمِنِينَ، والتّقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً المراد بأبويه أبوه وأمه أو خالته من باب التّغليب للأب، والسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير، لكن قدّم الرّفع لفظا للاهتمام بتعظيمه أبويه.
المفردات اللغوية:
فَلَمَّا دَخَلُوا في الكلام حذف، تقديره: فرحل يعقوب عليه السّلام بأهله أجمعين، وساروا حتى تلقوا يوسف عليه السّلام. آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمّ إليه أباه وأمه، أو خالته، نزلت منزلة الأم تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله تعالى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة 2/ 133] وإسماعيل كان عمّا ليعقوب عليه السّلام.
وَقالَ يوسف عليه السّلام لهم. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ سرير الملك. وَخَرُّوا لَهُ أي أبواه وإخوته الأحد عشر. سُجَّداً سجود تحية وتكرمة له، وسجود انحناء لا سجود عبادة، ولا وضع جبهة على الأرض، فإن ذلك كان تحيتهم في زمانهم. تَأْوِيلُ رُءْيايَ مآلها وعاقبتها. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يقل من الجبّ تكرّما، لئلا يخجل إخوته. الْبَدْوِ البادية. نَزَغَ أفسد ووسوس، يقال: نزغ بين الناس: أفسد بينهم بالحثّ على الشّرّ، وأصل النّزغ: النّخس، يقال: نزغ الرّائض الدّابة: إذا نخسها وحملها على الجري، ونزغه الشيطان:
نخسه، ليحثّه على المعاصي. لَطِيفٌ لطيف التّدبير لما يشاء، إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته. الْعَلِيمُ بخلقه وبوجوه المصالح والتّدابير. الْحَكِيمُ في صنعه، الذي يفعل كلّ شيء في وقته، وعلى وجه يقتضي الحكمة.
المناسبة:
بعد أن طلب يوسف عليه السّلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين، أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان إلى مصر، فخرج يوسف عليه السّلام للقائهم، ومعه بأمر الملك أكابر دولته.(13/68)
فتمّ لقاء الأسرة في المرّة الرّابعة من رحلات أولاد يعقوب عليه السّلام إلى مصر، ورأوا يوسف عليه السّلام في عزّ وأبهة، وتحققت رؤيا يوسف عليه السّلام بسجود إخوته الأحد عشر مع أبيه وأمه أو خالته، فتمّ الاجتماع بعد الفرقة، والأنس بعد الكدر.
روي أن يوسف عليه السّلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة، ليتجهّز إليه بمن معه، وخرج يوسف عليه السّلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر للقاء يعقوب نبيّ الله عليه السّلام.
قيل: إن يعقوب وولده دخلوا مصر، وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون منهم ست مائة ألف وخمس مائة، وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشّيوخ.
وأقام يعقوب عليه السّلام عند ابنه يوسف عليه السّلام أربعا وعشرين سنة، أو سبع عشرة سنة، وكانت مدّة فراقه ثماني عشر، أو أربعين أو ثمانين سنة، وحضره الموت، فوصّى يوسف عليه السّلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه، فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وأقام بعده ثلاثا وعشرين سنة.
التّفسير والبيان:
بناء على طلب يوسف عليه السّلام من إخوته إحضار أهله أجمعين إليه من بلاد كنعان إلى مصر، للإقامة معه فيها، حضر أبوه وخالته وإخوته وأسرهم، فلما أخبر يوسف عليه السّلام باقترابهم، خرج لتلقّيهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف عليه السّلام، لتلقي نبيّ الله يعقوب عليه السّلام، فلما دخلوا على يوسف عليه السّلام في أبهة سلطانه، بعد أن استقبلهم في الطريق مع جموع غفيرة، ضمّ إليه أبويه وعانقهما: وهما أبوه وأمه على القول الذي رجّحه(13/69)
ابن جرير، بأنّها كانت حيّة، أو أبوه وخالته لأن أمه قد ماتت، فتزوّج أبوه خالته.
وقال لأسرته جميعا: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
ورفع أبويه على سرير ملكه بأن أجلسهما معه، تكريما لهما، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحيّة وإكرام له، لا سجود عبادة وتقديس، وكان سجود الانحناء هو تحيّة الملوك والعظماء في زمنهم.
ويلاحظ أن في الآية حذفا في مطلعها تقديره: فجاء يعقوب وأسرته حتى وصلوا إلى مصر، وفيها تقديم المشيئة إِنْ شاءَ اللَّهُ على قوله: آمِنِينَ لأن القصد اصطحاب الدّخول بالأمان والسّلامة والغنيمة، وكذلك فيها تقديم وتأخير بين الرّفع على العرش وبين السّجود، فالسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير الملكي، لكن قدّم الرّفع، اهتماما بتعظيم أبويه.
وحينئذ أعادت الذّاكرة إلى ذهن يوسف عليه السّلام رؤياه السابقة في عهد الصّغر، فقال لما رأى سجود أبويه وإخوته: يا أبت، هذا السّجود تأويل رؤياي القديمة حال صغري، وهي: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وتأويل رؤياي: ما آل إليه الأمر.
إن تلك الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة وصحيحة صدقا، فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت، كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده، صار سببا لوجوب ذلك الذّبح عليه في اليقظة، فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف عليه السّلام، وحكاها ليعقوب من قبل، سببا لوجوب ذلك السّجود.
وقد أحسن الله تعالى إليّ وأفاض عليّ من نعمه، إذ أطلق سراحي من(13/70)
السّجن، ورزقني الملك، وجاء بكم من البادية، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش، فنقلكم إلى الحضر وترف المدينة.
ولم يذكر إخراجه من البئر، ترفّعا عن لوم إخوته، وتكريما لهم، وحفاظا على حيائهم، ولأن السّجن كان آخر المحن، وأخطر من السّقوط في الجبّ لما فيه من اتّهام بالنّساء، ولأنه بعد خروجه من البئر صار عبدا لا ملكا، وصار بعد السّجن ملكا، فكان الإخراج منه أقرب إلى الإنعام الكامل.
حدث هذا كلّه من بعد أن نزغ الشّيطان، أي أفسد وأغوى بيني وبين إخوتي، وقد أضاف النّزغ إلى الشّيطان لأنه سبب الإفساد، وتكريما لإخوته.
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي إذا أراد أمرا قيّض له أسبابا وقدّره ويسّره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أقواله وأفعاله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن العاطفة بين الولد وأبويه طبيعية فطرية، لذا كان إكرام يوسف عليه السّلام لأبويه أشدّ من إكرام إخوته، فعانقهما وضمّهما إليه، وأجلسهما على سرير الملك معه، واكتفى بأن قال لجميع الأسرة: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
2- دلّ قوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ على تأمين الحاكم الدّاخلين إلى بلاده من قطر آخر، وهو أمان يشمل الأنفس والأهل والأموال.
والمراد بقوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ كما ذكر ابن عباس: أقيموا بها آمنين، سمّى الإقامة دخولا لاقتران أحدهما بالآخر.(13/71)
والأمان الحقيقي لا يكون إلا بمشيئة الله، لذا علقه بقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ مثل قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح 48/ 27] .
3- أجمع المفسّرون على أنّ سجود أسرة يوسف عليه السّلام له كان سجود تحيّة وانحناء على عادتهم المألوفة في التّحية، لا سجود عبادة ولا على الأرض. وقد نسخ الله تعالى ذلك كله في شرعنا.
وبالرّغم من نسخ الانحناء في التّحية، فإن بعض المسلمين مع الأسف، لا يتنبهون لذلك، وينحنون في التّحية والسّلام، كما يفعل الغربيون الآن.
روى ابن عبد البرّ في التّمهيد عن أنس بن مالك قال: قلنا: يا رسول الله، أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: «لا» ، قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال: «لا» ، قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال: «نعم» .
وأمّا القيام للقادم، كما أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة الأوس
بقوله في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود عن أبي سعيد: «قوموا إلى سيّدكم وخيركم»
يعني سعد بن معاذ، فهو جائز إذا لم يؤثّر ذلك في نفسه، فإن أثّر فيه، وأعجب به، ورأى لنفسه حظّا، لم يجز إعانته على ذلك،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يتمثّل له النّاس قياما، فليتبوأ مقعده من النّار» .
وتجوز الإشارة بالإصبع للبعيد عنك، دون الدّاني القريب، وإذا سلّم لا ينحني، ولا أن يقبّل مع السّلام يده، ولأن الانحناء على معنى التّواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم.
ولا بأس بالمصافحة، فقد صافح النّبي صلّى الله عليه وسلّم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها،
وقال فيما أخرجه ابن عدي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «تصافحوا يذهب الغلّ» .
وروى غالب التّمار عن الشّعبي أن أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا إذا التقوا تصافحوا،(13/72)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
4- عدّد يوسف عليه السّلام بعض النّعم عليه وعلى آله، منها الخروج من السّجن، ومجيء أهله من البادية في أرض كنعان، واللطف أو الرّفق الإلهي بالعباد حيث جمع الأسرة هذا الجمع الكريم الحافل السّارّ، بعد إيقاع الشّيطان الحسد بينه وبين إخوته، وتمّ ذلك كلّه بفعل الله تعالى وفضله.
5- تحققت رؤيا يوسف الّتي رآها في عهد الصّغر، واختلف العلماء في مقدار المدة بين تحقق الرؤيا وبين حدوثها، فقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون: إن تأويل الرؤيا إنّما صحّت بعد أربعين سنة.
6- إذا أراد الله تعالى شيئا هيّأ أسبابه ويسّرها، فحصول الاجتماع بين يوسف عليه السّلام وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة، وطيب العيش، وفراغ البال، كان في غاية البعد، إلا أنه تعالى لطيف بعباده، لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، وحكيم محكم في فعله، حاكم في قضائه، حكيم في أفعاله، مبرّأ عن العبث والباطل.
الفصل الثامن عشر من قصّة يوسف دعاء جامع يتضمّن تحدّث يوسف بنعم الله عليه وطلبه من ربّه حسن الخاتمة
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)(13/73)
الإعراب:
فاطِرَ السَّماواتِ.. منصوب على أنه صفة المنادي أو منادى مستقل.
المفردات اللغوية:
مِنَ الْمُلْكِ بعض الملك وهو ملك مصر. وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تأويل الكتب الإلهيّة، وتعبير الرؤيا، ومِنَ أيضا للتّبعيض لأنه لم يؤت كلّ التّأويل. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما. أَنْتَ وَلِيِّي ناصري أو متولّي أمري أو منعم عليّ.
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي، أو بعامة الصالحين في الرّتبة، فعاش بعد ذلك أسبوعا أو أكثر، ومات وله مائة وعشرون سنة، أو مائة وسبعة أعوام.
فتنازع المصريون في مدفنه، فجعلوه في صندوق من مرمر، ودفنوه في أعلى النّيل، لتعمّ البركة جانبيه، ثم نقله موسى عليه السّلام إلى مدفن آبائه في فلسطين. أما يعقوب عليه السّلام فأقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة، ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه، فذهب به، ودفنه ثمّة، وعاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة.
المناسبة:
بعد أن حمد يوسف عليه السّلام ربّه على لطفه ونعمه، باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منّ الله به عليه من النّبوة والملك، دعا هذا الدّعاء، وسأل ربّه عزّ وجلّ، كما أتمّ نعمته عليه في الدّنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة، وأن يتوفّاه مسلما، وأن يلحقه بالصّالحين.
التفسير والبيان:
قال يوسف بعد اجتماعه بأبويه وإخوته: ربّ قد أعطيتني ملك مصر، وجعلتني حاكما مطلق التّصرف فيها دون منازع ولا معارض ولا حاسد. روي أن يوسف عليه السّلام أخذ بيد يعقوب عليه السّلام، وطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الذهب والفضة، وخزائن الحلي، وخزائن الثياب، وخزائن السّلاح، فلما أدخله خزائن القراطيس، قال: يا بني ما أغفلك! عندك هذه(13/74)
القراطيس، وما كتبت إليّ على ثمان مراحل، قال: نهاني جبريل عليه السّلام عنه، قال: سله عن السّبب، قال: أنت أبسط إليه، فسأله، فقال جبريل عليه السّلام: أمرني الله تعالى بذلك، لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فهلا خفتني؟! وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي الكتب السّماوية وأسرار كلامك، وتعبير الرؤيا ومصداقيتها، فتقع كما ذكرت.
ومِنَ في قوله: مِنَ الْمُلْكِ، ومِنْ تَأْوِيلِ.. للتّبعيض، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدّنيا وهو ملك مصر، وبعض التّأويل.
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنت خالق السّموات والأرض ومبدعهما.
أَنْتَ وَلِيِّي.. أنت ناصري ومتولّي أموري وشأني كلّه في الدّنيا والآخرة، فإن نعمك غمرتني في الدّنيا، وأملي فيها في الآخرة.
تَوَفَّنِي مُسْلِماً أمتني على الإسلام منقادا خاضعا طائعا أوامرك. قال ابن عباس: «ما تمنّى نبيّ قط الموت قبل يوسف عليه السّلام» .
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ اجعلني ملحقا بالأنبياء والمرسلين، على العموم، وبآبائه على الخصوص وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر، ودفن في النّيل في صندوق من رخام، ثم نقل موسى عليه السّلام تابوته بعد أربع مائة سنة إلى بيت المقدس، فدفن مع آبائه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى أن سيرة الأنبياء عليهم السّلام مثل أعلى في القدوة، فإن نعم الله تعالى على يوسف عليه السّلام في الدّنيا من إيتاء الملك وتعبير الرؤيا، لم تحجبه عن طلب مرضاة الله تعالى في الآخرة، لأن العبرة بحسن الخاتمة،(13/75)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
وبما يلقاه المؤمن من نعيم خالد في الآخرة، ولأن الآخرة خير وأبقى. وبما أنه نبيّ لم يطلب أقلّ من مرتبة الأنبياء وكرامتهم، فسأل الله أن يجعله مع الصالحين، وهم الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم.
أما تمني الموت فلم يكن مطلقا، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفّني مسلما، وهذا قول الجمهور، فاللهم اجعل وفاتنا على الإيمان.
ولا يجوز في شريعتنا تمنّي الموت، بدليل ما
ثبت عند الإمام أحمد وفي الصّحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنّيا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي»
،
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» .
الفصل التّاسع عشر من قصّة يوسف إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم الإخبار عن المغيبات والإعراض عن التّأمل في الآيات ودعوة النّبي إلى التّوحيد
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 108]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)(13/76)
الإعراب:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ.. ذلِكَ: مبتدأ، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ، نُوحِيهِ إِلَيْكَ:
خبران له.
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ.. بِمُؤْمِنِينَ ما: نافية حجازية، وأَكْثَرُ: اسمها، وبِمُؤْمِنِينَ: متعلّق بخبرها. ووَ لَوْ حَرَصْتَ اعتراضية. بَغْتَةً منصوب على الحال، وأصله المصدر.
عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أَنَا: تأكيد للضمير المستتر في أَدْعُوا وفي عَلى بَصِيرَةٍ لأنه حال من أَدْعُوا ومَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه، يريد: أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتّبعني. ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ وخبره عَلى بَصِيرَةٍ خبر مقدّم، أي على حجة وبرهان، لا على هوى. هذِهِ سَبِيلِي مبتدأ وخبر.
البلاغة:
وَلَوْ حَرَصْتَ اعتراضية بين اسم ما الحجازية وخبرها، للدّلالة على أن الهداية بيد الله وحده.
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ على حذف مضاف، أي وما تسألهم على تبليغ القرآن الكريم من أجر.
مُعْرِضُونَ ومُشْرِكُونَ سجع: وهو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه السّلام، والخطاب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أخبار ما غاب عنك يا محمد. لَدَيْهِمْ لدى إخوة يوسف عليه السّلام. إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ في كيده، أي إلقائه في الجبّ، وأَجْمَعُوا: عزموا عليه. وَهُمْ يَمْكُرُونَ به، أي لم تحضرهم، فتعرف قصّتهم، فتخبر بها، وإنما ذلك من تعليم الله تعالى لك، وقوله: وَما كُنْتَ(13/77)
لَدَيْهِمْ..
إلخ الآية دليل على صدق الإخبار بالمغيب عنك، والمعنى: هذا النّبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي، لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه السّلام حين عزموا على ما همّوا به من أن يجعلوه في غيابة الجبّ، وهم يمكرون به وبأبيه، ليرسله معهم. ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك، فتعلّمته منه. وإنما حذف هذا الكلام استغناء بذكره في غير هذه القصة مثل:
ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود 11/ 49] .
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ أي أهل مكة. وَلَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات لهم. بِمُؤْمِنِينَ لعنادهم وتصميمهم على الكفر. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على الإنباء أو القرآن الكريم. مِنْ أَجْرٍ من جعل تأخذه كما يفعل حملة الأخبار. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ما هو أي القرآن الكريم إلا عظة للعالمين من الإنس والجنّ. وَكَأَيِّنْ وكم من آية، والمراد بها كثير من الآيات الدّالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده، فالآية هنا: دليل على وجود الصانع ووحدانيته. يَمُرُّونَ عَلَيْها يمرّون على الآيات، أي يشاهدونها. وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكّرون فيها، ولا يعتبرون بها.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ حيث يقرّون بوجوده وخالقيته، أي أنه الخالق الرّازق.
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ به بعبادة الأصنام، فكانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» ، أو يشركون باتّخاذ الأحبار أربابا من دون الله، ونسبة التّبنّي إليه، أو القول بالنور والظلمة. قيل: الآية في مشركي مكة، وقيل: في المنافقين، وقيل:
في أهل الكتاب، والأولى حملها على العموم.
غاشِيَةٌ نقمة تغشاهم أو عقوبة تحيط بهم وتعمّهم أو تشملهم. بَغْتَةً فجأة. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانها. هذِهِ سَبِيلِي طريقي. أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ إلى دين الله. عَلى بَصِيرَةٍ حجة واضحة ومعرفة تامة. وَمَنِ اتَّبَعَنِي ومن آمن بي. وَسُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عن الشّركاء. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وما أنا من جملة المشركين، وهو من جملة سبيله أيضا.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة يوسف عليه السّلام، أراد الحقّ تعالى أن يثبت بها نبوّة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، عن طريق أنها إخبار بالغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ولم يشاهده النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولا قومه، مما يدلّ على كون القرآن كلام الله تعالى، وكون نبوّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم حقّا وصدقا.
ثم ندّد الله تعالى بموقف المشركين من الإيمان بالله تعالى، فذكر أن هناك(13/78)
كثيرا من الآيات الدّالة على وجود الصانع ووحدانيته، ولكن لا يلتفت إليها أولئك المشركون، وإنّما يعرضون عنها.
وحسم الحقّ تعالى الموقف، فأبان أن سبيل دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو الدّعوة إلى التّوحيد، ورفض الشّرك بمختلف أشكاله وأنواعه.
التّفسير والبيان:
ذلك المذكور من قصة يوسف بدءا من رؤياه الرؤيا وإلقائه في الجبّ إلى أن أصبح حاكم مصر الفعلي، وبيان موقف إخوته منه، وحال أبيهم يعقوب عليه السّلام، هو من أخبار الغيب الّتي لم يطّلع عليها النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يرها هو وقومه، والخطاب له، وهي وحي من الله تعالى إليه، لتثبيت فؤاده، وصبره على أذى قومه وإعراضهم عن دعوته.
والمقصد الإخبار عن الغيب، فيكون معجزا، لأنه صلّى الله عليه وسلّم ما طالع الكتب، ولم يتتلمذ لأحد، ولم يكن حاضرا معهم، فإخباره بهذه القصة الطويلة من غير تحريف ولا غلط إعجاز.
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ.. بمثابة الدّليل على كونه من الغيب، أي وما كنت حاضرا عندهم، ولا مشاهدا لهم، حين عزموا على إلقائه في الجبّ، وهم يمكرون به وبأبيه، ولكنّا أعلمناك به وحيا إليك، وإنزالا عليك، كقوله تعالى في قصّة مريم: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:
3/ 44] ، وقوله سبحانه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إلى قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [القصص 28/ 44- 46] ، وقوله عزّ وجلّ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا [القصص 28/ 45] .(13/79)
وبالرّغم من هذه الأخبار المعجزة التي فيها عبرة وعظة لم يؤمن أكثر النّاس، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ.. أي وليس أكثر النّاس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك، ولو حرصت وتهالكت على إيمانهم، لتصميمهم على الكفر وعنادهم.
والمراد بالآية العموم، كقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرّعد 13/ 1] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أهل مكة. ووجه اتصال الآية بما قبلها على قول ابن عباس: أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التّعنّت، واعتقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا ذكرها، فربّما آمنوا، فلمّا ذكرها أصرّوا على كفرهم، فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] «1» .
ومعنى الحرص: طلب الشّيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد، وجواب لَوْ محذوف لأن جوابيكون مقدّما عليها، فلا يجوز أن يقال: قمت لو قمت.
ثم نفى تعالى أن يكون للمشركين عذر بعدم الإيمان بدعوتك فقال:
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.. أي ما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على هذا النّصح والدّعاء إلى الخير والرّشد من أجر، أي من جعل ولا أجرة، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه، فما عليهم إلا الاستجابة لدعوتك، لأنك لا تقصد إلا اتّباع أمر ربّك ونصحهم الخالص.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك إلا تذكير وموعظة لكلّ العالمين من الإنس والجنّ، به يتذكّرون وبه يهتدون، وينجون به في الدّنيا والآخرة. وهذا دلّ على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) تفسير الرّازي: 18/ 223(13/80)
والسّبب في أن أكثر النّاس لا يؤمنون أنهم في غفلة عن التّفكّر في الدّلائل الدّالّة على وجود الصانع وتوحيده، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ.. أي وكم من آية دالّة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته في السّموات والأرض من كواكب ثابتة وسيّارة وجبال وبحار، ونبات وشجر، وحيوان وحي وميت، وثمار متشابهة ومختلفة في الطّعوم والرّوائح والألوان والصّفات، يمرّ على تلك الآيات ويشاهدها أكثرهم، وهم غافلون عنها، لا يتفكّرون بما فيها من عبر وعظات، وكلّها تشهد على وجود الله تعالى ووحدانيته.
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد
والآية هنا: الدّليل على وجود الله تعالى وتوحيده.
وأما علماء الفضاء والفلك فدأبهم الرّصد المادي كرصد الحركة أو الثّبات، واستنباط القوانين العلمية، لكنهم لا يفكرون غالبا في الخالق الموجد، وفي عظمة المدبّر والمقدّر.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ.. أي وما يكاد يقرّ أكثر المشركين بوجود الله، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] إلا وتراهم يقعون في الشّرك، لإشراكهم مع الله الأصنام والأوثان في العبادة.
فكلّ عبادة أو تقديس وتعظيم لغير الله شرك،
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد: من(13/81)
كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشّركاء عن الشّرك» .
وروى التّرمذي وحسّنه ابن عمر: «من حلف بغير الله فقد أشرك»
أي حلف بغير الله قاصدا تعظيمه مثل الله فقد أشرك.
وروى أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر، قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:
الرّياء، يقول الله تعالى يوم القيامة: إذا جاز النّاس بأعمالهم، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدّنيا، فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟» .
وروى أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أيها النّاس، اتّقوا هذا الشّرك، فإنه أخفى من دبيب النّمل» ثم بيّن للصحابة كيف يتّقى الشّرك الخفي، فقال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه» .
ثم هدد الله تعالى المشركين بالعقاب فقال: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة، وهم لا يحسون ولا هم يشعرون بذلك، وهذا كالتأكيد لقوله:
بَغْتَةً.
ونظير الآية قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النّحل 16/ 45- 47] .
وقوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَ(13/82)
أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ
[الأعراف 7/ 97- 99] .
وإبهام السّاعة مبعث الهيبة والخوف من الله دون وازع مشاهد أو قريب.
ثم أبان الله تعالى بعد كل تلك الأدلة هدف دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وثقته بها، فقال: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي.. أي قل يا محمد للثقلين: الإنس والجن: إن هذه الطريقة التّي أتبعها، والدّعوة الّتي أدعو إليها وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أدعو إلى دين الله بها، على يقين، وحجة واضحة قاطعة، وبرهان، أدعو أنا، ويدعو إليها كل من اتبعني أي آمن بي وصدّق برسالتي.
وسبحان الله أي وأنزه الله وأجلّه وأعظمه وأقدسه من أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والدّ أو صاحبة أو وزير أو مشير، تبارك وتعالى وتقدس الله عن ذلك علوا كبيرا: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء 17/ 44] .
وبعد أن أثبت الوحدانية لله نفى الشّرك نفيا قاطعا للرّد على المشركين الذين كانوا يقرون بوجوده ثم يشركون به في العبادة إلها آخر فقال: وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي أنا بريء من جميع المشركين على مختلف أنواعهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- الإخبار بقصة يوسف وغيرها من قصص الأنبياء السّابقين مع أقوامهم من أنباء الغيب الدّالة على المعجزة: وهي كون القرآن كلام الله، وصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، فذلك معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(13/83)
2- نزلت آية وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، أي حتى ولو أخبرتهم بقصة يوسف، فلم يؤمنوا، أي لست تقدر على هداية من أردت هدايته.
3- مهمة كل نبي تبليغ الوحي المنزل عليه بإخلاص وقصد الثواب عند الله عز وجل، دون تكليف النّاس بشيء من الأجر أو المقابل.
4- القرآن والوحي عظة وتذكرة للعالمين قاطبة، لا للعرب خاصة، إنه تذكرة لهم في دلائل التّوحيد والعدل والنّبوة، والمعاد والقصص، والتّكاليف والعبادات، ففيه منافع عظيمة.
5- ما أكثر الآيات، أي الدّلائل الدّالة على وجود الله تعالى ووحدانيته، وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته، في السّموات والأرضين من نجوم وكواكب وبحار وأنهار وجبال ونباتات وأشجار، وصحار شاسعات، وأحياء وأموات، وحيوان وثمرات مختلفة الطعوم والرّوائح والألوان والصّفات. وهذه كلها أدلة محسوسة.
6- إيمان المشركين مزيف باطل، فهم يقرون بوجود الله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان. قال ابن عباس: نزلت في تلبية مشركي العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وعنه أيضا أنهم النّصارى. وعنه أيضا أنهم المشبّهة الذين يشبهون الله بخلقه، آمنوا مجملا وأشركوا مفصّلا. وقيل: نزلت في المنافقين، والأولى حملها على العموم، والمعنى كما قال الحسن وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه.
7- عذاب الله وعقابه، وإتيان السّاعة (يوم القيامة) يأتيان فجأة، من حيث لا يشعر النّاس بهما.
8- طريقة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وسنته ومنهاجه، ومنهاج أتباعه المؤمنين به الدّعوة(13/84)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
إلى ما يؤدي إلى الجنة، على يقين وحق، وشعار المؤمن دائما: سبحان الله وما أنا من المشركين، أي أنزه الله عن أي شريك، ولست من الذين يتخذون من دون الله أندادا أي نظراء لله.
وسمي الدّين سبيلا، لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، كما في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النّحل 16/ 125] .
الفصل العشرون من قصّة يوسف العبرة من القصص القرآني
[سورة يوسف (12) : الآيات 109 الى 111]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
الإعراب:
وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مبتدأ وخبر، وهذا إضافة الصّفة بعد حذف الموصوف، وتقديره:
ولدار السّاعة أو الحال الآخرة، وهذه الإضافة في نيّة الانفصال، ولهذا لا يستفيد المضاف التّعريف من المضاف إليه.(13/85)
حَتَّى إِذَا متعلّقة بمحذوف، دلّ عليه الكلام، كأنه قيل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النّصر.
وَلكِنْ تَصْدِيقَ خبر كان المقدرة، أي ولكن كان ذلك تصديق الذي بين يديه وتفصيلا، وهُدىً وَرَحْمَةً منصوبان بالعطف عليه.
المفردات اللغوية:
إِلَّا رِجالًا لا ملائكة. مِنْ أَهْلِ الْقُرى الأمصار لأنهم أعلم وأحلم، بخلاف أهل البوادي لجفائهم وجهلهم. أَفَلَمْ يَسِيرُوا أهل مكة. عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي آخر أمرهم من إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم. وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي ولدار الحال القادمة أو السّاعة الأخرى أو الحياة الآخرة وهي الجنة. اتَّقَوْا الله واتقوا الشّرك والمعاصي، أي خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. أَفَلا تَعْقِلُونَ أهل مكة، فيؤمنوا.
حَتَّى غاية محذوف، دلّ عليه الكلام، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فتراخى نصرهم. اسْتَيْأَسَ يئس، أي لا يغررهم تمادي أيامهم، فإن من قبلهم أمهلوا، حتى أيس الرّسل من النّصر عليهم في الدّنيا أو من إيمانهم، لانهماكهم في الكفر. وَظَنُّوا أيقنوا. كُذِبُوا أي ظنّ الأمم أنّ الرّسل أخلفوا ما وعدوا به من النّصر، وعلى قراءة التّشديد، أي وظنّ الرّسل أن القوم قد كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم. فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وهم النّبي والمؤمنون.
بَأْسُنا عذابنا. عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ المشركين. فِي قَصَصِهِمْ أي الرّسل. عِبْرَةٌ أي اعتبار من حال إلى حال. لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول. ما كانَ هذا القرآن.
يُفْتَرى يختلق. الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قبله من الكتب. وَتَفْصِيلَ تبيين. كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدّين. وَهُدىً من الضّلالة. وَرَحْمَةً ينال بها خير الدّارين. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقونه، خصّوا بالذّكر لانتفاعهم به دون غيرهم.
المناسبة:
بعد أن أثبت القرآن الكريم نبوّة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بدليل إخباره عن المغيبات، ردّ الله على منكري النّبوة، فقد كان من شبه منكري نبوّته صلّى الله عليه وسلّم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا، كما حكى القرآن عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت 41/ 14] .(13/86)
ثم أنذر الله كفار قريش وأمثالهم بالعقاب والعذاب إن لم يؤمنوا، فإن سنّة لله في عباده واحدة أنهم إن لم يؤمنوا، حلّ بهم العذاب.
ثم ذكر تعالى أن قصة يوسف عليه السّلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوي العقول والأفكار.
التّفسير والبيان:
ختمت سورة يوسف بهذه الخاتمة الدّالّة على وجوب الاتّعاظ والاعتبار بقصته المؤثرة الحادثة بين كنعان ومصر، وفي ألوان متعددة، تبتدئ بإلقائه في الجبّ، ثم صيرورته في بيت العزيز، ثم في السّجن، ثم في أعلى مناصب الحكم، وصف فيها كيد الإخوة وحسدهم، ومكر النّساء وكيدهنّ، وصبر يوسف عليه السّلام وحكمته ومهارته في إدارة الحكم، وأخلاقه وتسامحه مع إخوته، وتعظيمه أبويه.
والمعنى: وما أرسلنا يا محمّد من قبلك رسلا إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، وكانوا من أهل المدن لا من البوادي، وكنّا ننزل عليهم الوحي والتّشريع.
وهذا يدلّ على أن الله أرسل الرّسل من الرّجال، لا من النّساء، فلم تكن امرأة قط نبيّا ولا رسولا، وعلى اختيار الرّسل من أهل المدينة، فلم يبعث الله رسولا من أهل البادية، لتتبعهم المدن الأخرى، ولأن أهل البادية فيهم الجهل والجفاء، وأن أهلا لمدن أرق طباعا وألطف من أهل البوادي، ولهذا قال تعالى:
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التّوبة 9/ 97] .
قال ابن كثير: وزعم بعضهم أن سارّة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم بنت عمران أم عيسى نبيّات، واحتجّوا بأن الملائكة بشّرت سارّة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص 28/ 7] وبأنّ الملك جاء إلى مريم فبشّرها بعيسى عليه السّلام، وبقوله تعالى: وَإِذْ(13/87)
قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
[آل عمران 3/ 42- 43] وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكنّ نبيّات بذلك «1» .
ثم هدد الله المشركين على تكذيبهم بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم فقال متعجّبا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمّد في الأرض، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل، كيف دمّر الله عليهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وللكافرين أمثالها، فإن عاقبة الكافرين الهلاك، وعاقبة المؤمنين النّجاة.
ثم حضّ الله تعالى على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتّقاء المهلكات فقال: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي إن الدّار الآخرة خير للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه، فهي أفضل من هذه الدّار للمشركين المكذّبين بالرّسل، أي وكما نجّينا المؤمنين في الدّنيا، كذلك كتبنا لهم النّجاة في الدّار الآخرة، وهي خير لهم من الدّنيا بكثير فإن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدّنيا، وأبقى وأخلد.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أجهلتم؟ فلا تعقلون أيها المكذّبون بالآخرة، فإنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.
ثم بشر الله نبيّه بالنّصر بإخباره أن نصره تعالى ينزل على رسله عليهم السّلام عند ضيق الحال واشتداد الأزمة وانتظار الفرج من الله تعالى في أحرج الأوقات إليه، فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ.. فيه محذوف، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فبلغوا أقوامهم رسالتهم الدّاعية إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، فكذّبوهم وتمادى أقوامهم في الطغيان والكفر والعناد،
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 496(13/88)
فتراخى نصرهم، حتى أيس الرّسل من إيمانهم أو من النّصر عليهم، لانهماكهم في الكفر، وظنّت (أيقنت) الأمم أن الرّسل أخلفوا فيما وعدوهم به من النّصر، وكذّبوهم فيما أخبروهم به عن الله من وعد النّصر، فجاءهم نصرنا، أي أتاهم نصر الله فجأة، فنجّي من نشاء وهم النّبي والمؤمنون، وحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين، ولا يردّ بأسنا، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله وكذّبوا رسله.
والمعنى على قراءة كُذِبُوا بالتّشديد: وظنّ الرّسل أن القوم قد كذّبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم.
وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم لعدم إيمانهم بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وللآية نظائر كثيرة في القرآن الكريم منها ما اشتمل على وعد الله الرّسل بالنّصر: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر 40/ 51] ، وقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] ، ومنها استنجاز النّصر: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] .
ومنها بيان سبب العقاب وهو الظّلم والكفر: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التّوبة 9/ 70] .
ومنها تقرير سنّة الله الواحدة في عباده وإلحاق النّظائر والأشباه بأمثالها، وأنه لا ظلم فيها ولا محاباة، فكفار قريش مثل الكفار السّابقين في استحقاقهم العذاب لارتكابهم سببه وهو الكفر: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر 54/ 43] .
ونقل تفسير الآية على قراءة التّشديد: كُذِبُوا على النّحو السّابق عن(13/89)
عائشة، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لابن أختها عروة بن الزّبير، وهو يسألها عن قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ الآية:
«معاذ الله لم تكن الرّسل تظنّ ذلك بربّها، هم أتباع الرّسل الذين آمنوا بربّهم وصدّقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النّصر، حتى إذا استيأس الرّسل ممن كذّبهم من قومهم، وظنّت الرّسل أنّ أتباعهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك» . وأنكرت عائشة المعنى على قراءة التّخفيف. وقال الرّازي عن تأويل عائشة: وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية.
ونقل تفسير الآية على قراءة التّخفيف كُذِبُوا عن ابن عباس وابن مسعود، قال ابن عباس: «لما أيست الرّسل أن يستجيب لهم قومهم، وظنّ قومهم أن الرّسل قد كذبوهم، جاءهم النّصر على ذلك» ، وقال ابن مسعود في آية: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ: من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا، بالتخفيف. وهذا هو المشهور عن الجمهور «1» .
والخلاصة: على قراءة التّخفيف، الضمير في وَظَنُّوا عائد على المرسل إليهم، لتقدّمهم في الذّكر في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيكون الضّمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذّبي الرّسل، والظّن هاهنا بمعنى التّوهم والحسبان. والمعنى: وظنّ المرسل إليهم أنهم قد كذبهم الرّسل فيما ادّعوه من النّبوة وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب، وهذا مشهور قول ابن عباس وتأويل عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضّمائر في هذه القراءة على الرّسل لأنهم
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 497- 498، تفسير القرطبي: 9/ 275(13/90)
معصومون، فلا يمكن أن يظنّ أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله «1» .
وعلى قراءة التّشديد وجهان:
الأول- أنّ الظنّ بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم، فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال، وورود الظنّ بمعنى العلم كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة 2/ 46] ، أي يتيقنون ذلك.
والثاني- أن يكون الظنّ بمعنى الحسبان، والتّقدير: حتى إذا استيأس الرّسل من إيمان قومهم، فظنّ الرّسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم، وهذا التّأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها، قال الرّازي: وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية «2» .
وقال الزّمخشري في قراءة التّخفيف: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو وظنّوا أنهم قد كذبهم رجاؤهم كقولهم:
رجاء صادق ورجاء كاذب، والمعنى أن مدّة التّكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النّصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم، وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدّنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب «3» .
ثم ذكر الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن، فقال: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ أي لقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع قومهم، وكيف
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 354
(2) تفسير الرّازي: 18/ 226 وما بعدها.
(3) الكشّاف: 2/ 157(13/91)
نجّينا المؤمنين، وأهلكنا الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول والأفكار الصّحيحة. والاعتبار والعبرة: الانتقال والعبور من جهة إلى جهة. أما المهملون عقولهم فلا ينظرون في الأحداث ولا يستفيدون من دروس التّاريخ، فلا يفيدهم النّصح.
ثم ذكر الله تعالى مشتملات القرآن فقال: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان هذا القرآن الشّامل للقصة وغيرها، أو ما كان هذا القصص والحديث الذي اشتمل عليه القرآن حديثا يختلق ويكذب من دون الله، لأنه كلام أعجز رواة الأخبار وحملة الحديث، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل وتصديق ما تقدّمه من الكتب السّماوية كالتّوراة والإنجيل والزّبور، أي تصديق ما جاء فيها من الصّحيح والحقّ، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، فهو مصدّق أصولها الصّحيحة، لا كلّ ما جاء فيها بعد من حكايات وأساطير لا يتقبّلها العقل السّليم، وهو أيضا مهيمن عليها وحارس لها.
والقرآن أيضا فيه تفصيل كلّ شيء من الحلال والحرام والمحبوب والمكروه، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، وصفات الله الحسنى، وقصص الأنبياء على النّحو الثابت الواقع الذي لا تحريف فيه ولا تزويق. ونظير الآية قوله تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] .
والقرآن أيضا هدى للعالمين، ويهدي النّاس إلى طريق الاستقامة والسّداد، فيخرجهم من الظّلمات إلى النّور، وينقلهم من الغيّ إلى الرّشاد، ومن الضّلال إلى السّداد، ويرشدهم إلى الحقّ والخير والصّلاح في الدّنيا والدّين.
وهو كذلك رحمة عامّة من ربّ العالمين للمؤمنين في الدّنيا والآخرة(13/92)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمّنت الآيات الأحكام التّالية:
1- الأنبياء دائما من الرّجال، ولم يكن فيهم امرأة ولا جنّي ولا ملك. وهذا ردّ على ما
يروى عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في حديث غير ثابت: «إنّ في النّساء أربع نبيّات: حوّاء، وآسية، وأم موسى، ومريم» .
2- الأنبياء من أهل المدن، ولم يبعث الله نبيّا من أهل البادية، لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو، ولأن أهل الأمصار والقرى أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن البصري: لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية قط، ولا من النّساء، ولا من الجنّ. وقال العلماء: من شرط الرّسول: أن يكون رجلا آدميا مدنيا وإنما قالوا: آدميا، تحرّزا من قوله: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن 72/ 6] .
3- على النّاس قاطبة أن ينظروا بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائهم، فيعتبروا.
4- آية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا.. فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم.
والمعنى أو الحكم على قراءة التّخفيف كُذِبُوا في رأي الجمهور: ظنّ القوم أنّ الرّسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا. أو ظنّ الأمم أن الرّسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم.
والمعنى أو الحكم، على قراءة التّشديد كُذِبُوا أيقنوا أن قومهم كذبوهم، أو حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذّبوهم، لا أن القوم كذّبوا، ولكن الأنبياء ظنّوا وحسبوا أنهم يكذّبونهم ...(13/93)
5- في قصص الأمم الغابرة ومنها قصة يوسف عليه السّلام وأبيه وإخوته عبرة، أي فكرة وتذكرة وعظة، لأولي العقول.
6- ما كان القرآن حديثا يفتري ويختلق ويكذب من دون الله، فهو كلام معجز لا يستطيع بشر ولو كان نبيّا أن يأتي بمثله. وكذلك ما كانت قصّة يوسف حديثا يفتري من دون الله تعالى.
7- القرآن الكريم مصدّق لما تقدّمه من الكتب السّماوية من التّوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، ومهيمن عليها وحارس لها.
8- القرآن الكريم فيه تفصيل كل شيء مما يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام، والشّرائع والأحكام.
وهو أيضا هداية ورحمة من الله تعالى لعباده وللمؤمنين بالغيب، وإنقاذ للبشرية من الضّلالة إلى النّور، ومن الفساد إلى النّظام والصّلاح: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] .
9- يمكن توجيه الكلام إلى قصّة يوسف عليه السّلام وحدها، فيكون تعالى وصفها بصفات خمس هي:
أ- كونها عبرة لأولي الألباب.
ب- ما كان حديثا يفتري، أي ليس لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يفتري، لأنه لم يقرأ الكتب، ولم يتتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء، وليس يكذب في نفسه لأنه لا يصحّ الكذب منه، وأكّد تعالى كونه غير مفترى فقال: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التّوراة وسائر الكتب الإلهية.
ج- وتفصيل كلّ شيء من واقعة يوسف عليه السّلام مع أبيه وإخوته.(13/94)
د- كونها هدى في الدّنيا.
هـ- كونها سببا لحصول الرّحمة في القيامة لقوم يؤمنون. خصّهم بالذّكر لأنهم هم الذين انتفعوا به، كما في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] .(13/95)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
مدنية وهي ثلاث وأربعون آية.
تسميتها:
سمّيت سورة الرّعد، للكلام فيها عن الرّعد والبرق والصّواعق وإنزال المطر من السّحاب: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرّعد 13/ 12- 13] والمطر أو الماء سبب للحياة: حياة الأنفس البشريّة والحيوان والنّبات، والصّواعق قد تكون سببا للإفناء، وذلك مناقض للماء الذي هو رحمة، والجمع بين النّقيضين من العجائب.
مناسبتها لما قبلها:
هناك تناسب بين سورة الرّعد وسورة يوسف في الموضوع والمقاصد ووصف القرآن، أما الموضوع فكلاهما تضمّنتا الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف نجّى الله المؤمنين المتّقين وأهلك الكافرين، وأما المقاصد فكلّ من السّورتين لإثبات توحيد الإله ووجوده، ففي سورة يوسف: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. وفي سورة الرّعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. [2- 4] . قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ: اللَّهُ [16] ، وفيهما من الأدلّة على وجود الصّانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه ووحدانيته الشيء الكثير، ففي سورة يوسف: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وفي سورة الرّعد آيات دالّة على(13/96)
قدرة الله تعالى وألوهيّته مثل الآيات [2- 4] ، والآيات [8- 11] ، والآيات [12- 16] ، والآيتان [30 و33] .
وأما وصف القرآن فختمت به سورة يوسف: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وبدئت سورة الرّعد بقوله سبحانه: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
ما اشتملت عليه السّورة:
تحدثت سورة الرّعد عن مقاصد السّور المدنية التّي تشبه مقاصد السّور المكيّة، وهي التّوحيد وإثبات الرّسالة النّبوية، والبعث والجزاء، والرّد على شبهات المشركين. وأهم ما اشتملت عليه هو ما يأتي:
1- بدئت السّورة بإقامة الأدلّة على وجود الله تعالى ووحدانيته، من خلق السّموات والأرض، والشّمس والقمر، والليل والنّهار، والجبال والأنهار، والزّروع والثّمار المختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان، وأن الله تعالى منفرد بالخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والنّفع والضّر.
2- إثبات البعث والجزاء في عالم القيامة، وتقرير إيقاع العذاب بالكفار في الدّنيا.
3- الإخبار عن وجود ملائكة تحفظ الإنسان وتحرسه بأمر الله تعالى.
4- إيراد الأمثال للحقّ والباطل، ولمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام، بالسّيل والزّبد الذي لا فائدة فيه، وبالمعدن المذاب، فيبقي النّقي الصّافي ويطرح الخبث الذي يطفو.
5- تشبيه حال المتّقين أهل السّعادة الصّابرين المقيمي الصّلاة بالبصير،(13/97)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
حال العصاة الذين ينقضون العهد والميثاق، ويفسدون في الأرض بالأعمى.
6- البشارة بجنان عدن للمتّقين، والإنذار بالنّار لناقضي العهد المفسدين في الأرض.
7- بيان مهمّة الرّسول وهي الدّعوة إلى عبادة الله وحده، وعدم الشّرك به، وتحذيره من مجاملة المشركين في دعوتهم.
8- الرّسل بشر كغيرهم من النّاس، لهم أزواج وذريّة، وليست المعجزات رهن مشيئتهم، وإنما هي بإذن الله تعالى، ومهمّتهم مقصورة على التّبليغ، أما الجزاء فإلى الله تعالى.
9- إثبات ظاهرة التّغير في الدّنيا، مع ثبوت الأصل العام لمقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
10- الاعلام بأن الأرض ليست كاملة التّكوير، وإنما هي بيضاوية ناقصة في أحد جوانبها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها.
11- إحباط مكر الكافرين بأنبيائهم في كلّ زمان.
12- ختمت السّورة بشهادة الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالنّبوة والرّسالة، وكذا شهادة المؤمنين من أهل الكتاب بوجود أمارات النّبي صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم. وكان في السّورة بيان مدى فرح هؤلاء بما ينزل من القرآن مصدّقا لما عرفوه من اكتب الإلهية.
القرآن حق
[سورة الرعد (13) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)(13/98)
الإعراب:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مبتدأ وخبر.
وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ الْحَقُّ: مبتدأ مؤخّر، وَالَّذِي أُنْزِلَ خبر مقدّم، ويجوز أن يكون الَّذِي مبتدا وخبره الْحَقُّ. ويجوز أن يكون وَالَّذِي في موضع جر عطفا على الْكِتابِ أو وصفا للكتاب، والواو زائدة.
البلاغة:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إشارة بالبعيد عن القريب، للدّلالة على علوّ شأن الكتاب. وأل في الْكِتابِ للتّفخيم والتّعظيم، أي الكتاب الكامل في بيانه، السّامي في إعجازه.
المفردات اللغوية:
المر البدء بهذه الحروف الهجائية المقطّعة للتّنبيه على إعجاز القرآن الكريم وبيان أن نزوله من عند الله حق لا شكّ فيه، بالرّغم من كونه بلغة العرب ويتكون من حروف الكلمات التّي ينطقون بها.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ أي هذه الآيات آيات القرآن، والإضافة بمعنى من، أو أن الكتاب بمعنى السّورة، وتلك إشارة إلى آياتها، أي تلك الآيات آيات السّورة الكاملة. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن المنزل إليك من ربّك عطف عام على خاص، أو عطف صفة على صفة، أو مبتدأ، وخبره الْحَقُّ. الْحَقُّ لا شكّ فيه، والجملة كالحجّة على الجملة الأولى، وتعريف الْحَقُّ أعمّ من أن يكون المنزل صريحا أو ضمنا كالمثبت بالقياس وغيره مما أقرّ القرآن بحسن اتّباعه.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إما أهل مكّة، أو على العموم. لا يُؤْمِنُونَ بأنه من عند الله لإخلالهم بالنّظر والتّأمل فيه.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى القرآن في آخر سورة يوسف بخمس صفات، أصاف هنا صفة أخرى وهي كونه حقّا من عند الله تعالى.
التّفسير والبيان:
آيات هذه السّورة آيات القرآن البالغ حدّ الكمال، أو تلك الآيات العظام القدر والشّأن آيات الكتاب وهو القرآن الكريم.(13/99)
وكلّ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربّك حقّ لا شكّ فيه، وهو على التّفسير الأول بأن الآيات هي السّورة إجمال بعد تفصيل، أو عموم بعد خصوص، فبعد أن أثبت تعالى لهذه السّورة وصف الكمال والرّفعة، عمم هذا الحكم على القرآن جميعه.
ولكن أكثر النّاس لا يصدقون بالمنزل إليك من ربّك، ولا يقدرون ما في القرآن من سمو التّشريع والأحكام ورعاية المصالح المناسبة لكلّ عصر وزمان.
وهذا كقوله تعالى في سورة يوسف: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلَوْ حَرَصْتَ، بِمُؤْمِنِينَ [103] ، أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشّقاق والنّفاق والعناد.
وإذا كان واقع البشريّة اليوم أن أكثر سكان العالم لا يؤمنون بالقرآن الكريم، وأن المسلمين بالنسبة لغيرهم هم الخمس، فيكون ذلك معجزة للقرآن الكريم الذي أخبر عن حال أكثر النّاس في الماضي كأهل مكة، وفي مسيرة التّاريخ، وفي الوقت الحاضر والمستقبل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على أنّ آيات القرآن بالغة حدّ الكمال في الإعجاز والبيان، وأن القرآن الكريم حقّ منزل من عند الله تعالى لا شكّ فيه ولا ريب، باق على وجه الدهر، ولكن مع الأسف حجب العناد والكفر كثيرا من النّاس عن الإيمان بما جاء فيه من حكم بالغة، وأحكام رصينة، وتشريعات محكمة. وهذا ليس إقرارا لهم، وإنما هو على سبيل الزّجر والتّهديد.
وقد تمسّك نفاة القياس بهذه الآية، وقالوا: الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله تعالى، فهو ليس حقّا، لأنه لا حقّ إلا ما أنزله الله تعالى.(13/100)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
ومثبتو القياس أجابوا عن ذلك بأن الحكم الثابت بالقياس نازل أيضا من عند الله تعالى، لأنه تعالى لما أمر بالعمل بالقياس، كان الحكم الذي دلّ عليه القياس نازلا من عند الله تعالى. وقد بيّنا أن تعريف كلمة الْحَقُّ وإن دلّ على اختصاص المنزل بكونه حقّا، فهو أعمّ من المنزل صريحا أو ضمنا، كالمثبت بالقياس وغيره، مما نطق المنزل بحسن اتّباعه.
بعض مظاهر قدرة الله في السّموات والأرض
[سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 4]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
الإعراب:
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الباء متعلّقة برفع، أو ب تَرَوْنَها. وتَرَوْنَها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من السَّماواتِ، أي أنه ليس ثم عمد البتة، ويجوز أن تكون في موضع جر لأنها صفة ل عَمَدٍ أي أن ثمّ عمدا، ولكن لا ترى.
وَزَرْعٌ معطوف على جَنَّاتٌ، وتقديره: وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات(13/101)
وزرع ونخيل صنوان مجتمعة من أصل واحد، وَغَيْرُ صِنْوانٍ غير مجتمعة من أصل واحد، وعلى قراءة الجرّ. وَزَرْعٌ معطوف على أَعْنابٍ، فتجعل الجنّات من الزّرع، وهو قليل.
البلاغة:
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ شبّه إزالة نور النّهار بظلمة الليل بالغطاء الكثيف، واستعار لفظ يُغْشِي من الغطاء الحسي للأمور المعنوية.
المفردات اللغوية:
عَمَدٍ جمع عماد، وهو الأسطوانة، والآية تحتمل ألا عمد أصلا، أو هناك عمد غير مرئية.
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، أو المراد منه المجاز، أي بالحفظ والتّدبير. وَسَخَّرَ ذلّل بالحركة المستمرة والسّرعة المعينة ونحو ذلك. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى كل منهما يسير في فلكه إلى يوم القيامة. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يصرف الأمر على وجه الحكمة. يُفَصِّلُ الْآياتِ يبين دلالات قدرته، وهي الأدلة التّي تقدم ذكرها من الشّمس والقمر. لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم.
بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لتوقنوا وتتحققوا كمال قدرته بالبعث، فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء. واليقين: العلم الثابت الذي لا شكّ فيه.
مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولا وعرضا ليتمكّن الإنسان والحيوان من السّير عليها والانتفاع بمنافعها. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وخلق فيها جبالا ثوابت. وَأَنْهاراً عطفها على الجبال مباشرة لأنها أسباب تولدها ونبعها. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلّق بقوله تعالى: جَعَلَ فِيها. زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي جعل فيها من جميع أنواع الثّمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والذكر والأنثى.
يُغْشِي يغطي الليل بظلمته ضوء النّهار فيطمسه، ويصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله تعالى. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تلك الآيات وفي صنع الله تعالى، فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم، دبّر أمرها، وهيأ أسبابها.
قِطَعٌ أي بقاع مختلفة. مُتَجاوِراتٌ متلاصقات، فمنها طيب ومنها سبخ، ومنها رخو ومنها صلب، وبعضها صالح للزّرع دون الشّجر وبعضها بالعكس، وذلك التّخصيص مع التّجاور والطّبيعة الأرضيّة من دلائل قدرة الله تعالى. وَجَنَّاتٌ بساتين.
صِنْوانٌ جمع صنو، أي ونخلات يجمعها أصل واحد، وتتشعّب فروعها. وَغَيْرُ صِنْوانٍ آي ومتفرّقات مختلفة الأصول،
وفي الحديث الذي أخرجه التّرمذي «عمّ الرّجل صنو(13/102)
أبيه» .
يُسْقى أي الجنّات وما فيها. الْأُكُلِ ما يؤكل، فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها الثّمر ومنها الحبّ، وغير ذلك من الاختلاف شكلا وقدرا ورائحة وطعما، وهو من دلائل قدرته تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآياتٍ لدلالات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبّرون ويستعملون عقولهم بالتفكّر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن أكثر النّاس لا يؤمنون، أعقبه ببيان ما يدلّ على التّوحيد والمعاد، بالاستدلال بأحوال السّموات وأحوال الشّمس والقمر، وبأحوال الأرض: جبالها وأنهارها، وبأحوال النّبات من زروع وثمار وأشجار مختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان.
وبعد أن بيّن الله تعالى أن القرآن حقّ، بيّن أن من أنزله قادر على الكمال، فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته.
التّفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه: أنه الذي خلق السّموات بغير أعمدة، لا نشاهدها بالعين، فهي لا عمد لها أصلا، وقوله: تَرَوْنَها مؤكد معنى كونها بغير عمد، لأن المراد إثبات وجود الله تعالى وقدرته، فلو كان لها أعمدة، فلا يكون في الآية دلالة على وجود الله تعالى، فهي تقوم بقدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره، وتقوم في الفضاء بإبقائه تعالى، حتى ولو قيل بتوازن قانون الجاذبية بين النّجوم والكواكب، فإن ذلك بخلق الله تعالى.
ثم استوى الله تعالى على عرشه استواء يليق به، والعرش شيء مخلوق، نؤمن به كما أخبر القرآن، وهو أعظم من السّموات والأرض،
جاء في الحديث: «ما السّموات السّبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة»
،
وفي رواية: «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ» .(13/103)
وسخّر الشّمس والقمر، أي ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، من دوران وضياء، وظهور واختفاء، جاء في آيات أخرى ما يبيّن دورة الشّمس حول نفسها، وحركة القمر حول الأرض، فقال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 38- 40] .
وكلّ من الشّمس والقمر وغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمّى، أي لمدة معيّنة هي نهاية الدّنيا ومجيء القيامة، أو لمدة محددة يتمّ فيها دورانه، فالشّمس تتمّ دورتها في سنة، والقمر يتمّ دورته في شهر.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي إنّ الله تعالى يدبّر أمر الكون ويصرفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته، فيحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويغني ويفقر، ويهيء الأسباب للنّتائج والمسببات، ويسيّر الأفلاك في نظام دقيق ثابت لا يخطئ ولا يتغيّر.
يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يبيّن الدّلائل الدّالّة على وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته.
لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي يوضح الآيات والدّلالات الدّالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه قادر على أن يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه أولّ مرة، رجاء أن تتيقّنوا وتتحقّقوا، أو لتعلموا علم اليقين القاطع الذي لا شكّ فيه أنّ الله قادر على البعث والإعادة، والحساب والجزاء، وإحياء الموتى من القبور في أي مكان دفنوا في البرّ أو البحر أو في أجواف الحيوان.
فالذي قدر على خلق السّموات والأرض وما بينهما وما فيهما، ودبّر نظام الكون والحياة وأمور الخلق بدقة فائقة، لا يبعد عليه ولا يعجزه البعث الجديد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، ثم حساب أصحابها على ما قدّموا في دار الدّنيا.(13/104)
هذه هي الأدلّة السّماوية على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، أتبعها بالأدلّة الأرضيّة، وهي: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي والله تعالى هو الذي جعل الأرض متّسعة، منبسطة للحياة، ممتدة في الطول والعرض، ليتمكّن الإنسان والحيوان من التّنقل فيها بسهولة، والانتفاع بخيراتها النّباتية والمعدنية كقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النّبأ 78/ 6] . ولا يمنع انبساط الأرض للحياة في أجزائها أنها غير كروية أو مسطّحة في حجمها الكلي، فقد أشار القرآن الكريم لكرويتها في آيات أخرى منها: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزّمر 39/ 5] والتّكوير: اللف على الجسم المستدير، فهي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها.
وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، لسقاية ما فيها من الثّمرات المختلفة الألوان والأشكال والطّعوم والرّوائح.
وجعل فيها من كلّ صنف من أصناف الثّمار زوجين اثنين أي ذكرا وأنثى، فالشّجر والزّرع لا ينتجان الثّمر والحبّ إلا من عضوين: ذكر وأنثى، وجعل أيضا من كلّ ثمر صنفين، إما من حيث الطّعم كالحلو والحامض، أو من حيث اللون كالأسود والأبيض، أو الطّبيعة كالحار والبارد.
ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النّبأ 78/ 6- 8] .
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي الله ضوء النّهار بظلمة الليل، ويطرد ظلام الليل بنور النّهار، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النّبأ 78/ 9- 11] ، وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [النّمل 27/ 86] ، وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الرّوم 30/ 23] .(13/105)
ثم نبّه الله تعالى في ختام الآية إلى وجوب التّفكّر في تلك الآيات السّماوية والأرضية، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إن في مخلوقات الله وعجائب خلقه وآلائه وحكمه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها ويعتبر بعظمتها، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه، وإرادته، مما لا يوجد له مثيل في الكون، وذلك يستوجب تخصيصه بالعبادة، والخضوع لسلطانه، والتّزام أوامره.
ومن الآيات الأرضية اختلاف أجزاء الأرض بالطبيعة والماهية، وهي مع ذلك متجاورة فقال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ..، أي وفي الأرض أجزاء يجاور بعضها بعضا، ويقرب بعضها من بعض، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص، فمنها طيب ينبت ما ينفع النّاس، ومنها سبخة مالحة لا تنبت شيئا، ومنها صالح للزّرع دون الشّجر وبالعكس، ومنها الرّخوة ومنها الصّلبة، وتختلف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه صفراء، وهذه بيضاء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكلّ متجاورات، وهي مختلفة الصّفات، مما يدلّ على وجود الخالق المختار، الذي لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
وفيها بساتين من أعناب، وزروع متفاوتة من حبوب مختلفة لتوفير غذاء الإنسان والحيوان، ونخيل صنوان وغير صنوان، والصّنوان: ذو الأصول أو الجذوع المجتمعة في منبت واحد كالرّمان والتّين وبعض النّخيل، وغير الصّنوان:
ما كان على أصل أو جذع واحد كسائر الأشجار.
جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه التّرمذي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر: «أما شعرت أن عمّ الرّجل صنو أبيه» .
وقال البراء رضي الله عنه: الصّنوان هي النّخلات في أصل واحد، وغير لصّنوان: المتفرّقات.
ويظهر التّفاوت العجيب في بقاع الأرض وأصناف النّبات في أن الأرض(13/106)
المنبتة لها واحدة، وتسقى من ماء واحد، وتتفاوت طعومها، وتتفاضل مآكلها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي إن في هذا التّفاوت مع وجود مصادر التّشابه لأدلّة باهرة على وجود الله ووحدانيته، لقوم يتدبّرون ويفكّرون فيها، فهذا الاختلاف في أجناس الثّمرات والزّروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها، حلاوة وحموضة ومرارة وعذوبة وتلوّنا، وهذا الاختلاف في الأزهار في ألوانها وروائحها وإبداع ورقاتها وزهرها، مع أنها كلّها تستمد من طبيعة واحدة، وهو الماء والأرض، في كلّ ما ذكر آيات لمن كان واعيا، ومن أعظم الأدلّة على وجود الخالق الفاعل المختار القادر على كلّ شيء، ومن قدر على الإيجاد والخلق أول مرّة فهو قادر على الإعادة والتّكوين مرّة ثانية، بل هو أهون عليه.
وختم الآيات الثلاث بما ذكر: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دليل على وجوب استخدام النّظر والعقل والفكر، للتّوصل إلى الاقتناع الذّاتي الحرّ بوجود الخالق ووحدانيته، وهذا الإعمال للعقل من مقاصد الإسلام، وفرائض القرآن، وأصول الدّين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- من لطف الله بعباده ورحمته بهم وإرشاده لهم أنه أوضح لهم الأدلّة، ولفت نظرهم إلى ما يدلّ على وجوده وكمال قدرته، وعلمه، وإرادته، فتخصيص كلّ واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى.
2- الأدلّة متنوعة: سماوية وأرضية، فالسّماوية ثلاثة: رفع السّموات بغير أعمدة، والاستواء على العرش، وتسخير الشّمس والقمر وتذليلهما وتطويعهما(13/107)
لغايات معينة في مدّة معينة لمنافع الخلق ومصالح العباد ما داموا في الدّنيا وحتى تقوم السّاعة، يدبّر الله فيها الأمر، أي يصرفه على ما يريد بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، وإنزال الوحي وبعثة الرّسل وتكليف العباد، ويبيّن الآيات، فمن قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة، لذا قال:
لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وهذا إثبات للألوهيّة والرّبوبية والمعاد يوم القيامة، فمن كان يمكنه تدبير من فوق العرش إلى ما تحت الثّرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
وأمّا الأدلة الأرضية فهي ستّة: بسط الأرض بالنّسبة للنّاظر ليمكن العيش عليها، وتثبيتها بالجبال الرّاسيات الشّامخات، وإجراء الأنهار وتفجير الينابيع، وجعل الثّمار ذات وجهين اثنين، أي من صنفين متعارضين كالذّكر والأنثى، والحلو والحامض، والحار والبارد، والأبيض والأسود، وتغطية الليل النّهار، وتبديد ظلمة الليل بضوء النّهار، وتفاوت ما تنتجه الأرض من حبوب وزروع وثمار وأشجار، مجتمعة ذات جذوع متعددة من منبت واحد، ومتفرّقة ذات جذع مستقلّ بكلّ واحدة منها.
فكلّ ما ذكر يدلّ دلالة قطعيّة على أنّ الكلّ بتدبير الله الفاعل المؤثر المختار، لا بالطّبيعة ولا بالصّدفة.
3- لا يفهم من آية: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ، وآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النّازعات 79/ 30] أنّ الأرض غير كروية، فقد ثبتت كرويتها بالأدلّة العلمية العقلية والحسيّة، ودلّت أقمار الفضاء الدّائرة حول الأرض بما لا يقبل أي شكّ أو جدل على أن الأرض كروية، وقد صرح بكرويتها علماؤنا كالرّازي «1» ، فإن المقصود أن كل قطعة من الأرض تشاهد كالسّطح، وأما مجموعها
__________
(1) تفسير الرّازي: 19/ 2- 3(13/108)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
وحجمها العظيم فهو كرة بدليل تثبيتها في الآية هنا بالجبال الرّواسي، وكذلك في آية أخرى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النّبأ 78/ 7] . وبدليل تكوير الليل على النّهار، والنّهار على الليل، والتّكوير: اللف على الجسم المستدير.
4- قال القرطبي عن آية وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ: في هذا أدلّ دليل على وحدانيته تعالى وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضلّ عن معرفته فإنه سبحانه نبّه بقوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ على أن ذلك كلّه ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته، وهذا أدلّ دليل على بطلان القول بالطّبع (الطّبيعة) إذ لو كان ذلك بالماء والتّراب والفاعل له الطّبيعة، لما وقع الاختلاف «1» .
5- الدّعوة القويّة، بل الفريضة والإيجاب لإعمال الفكر والعقل، والاسترشاد بما في الكون من دلائل وعلامات واضحة على وجود الله تعالى، وكمال قدرته، وعلمه، ووحدانيته.
6- قال الحسن البصري في آية: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ:
المراد بهذه الآية المثل ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشّرّ والإيمان والكفر، كاختلاف الثّمار التي تسقى بماء واحد.
إنكار المشركين البعث واستعجالهم العذاب ومطالبتهم بإنزال آية مادية على النّبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 281(13/109)