قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
الألوهية الحقة والوحدانية الصمدانية، ثم انظر كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟!.
مناقشة النصارى في تأليه عيسى ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلو في الدين ولعنة بني إسرائيل لعدم النهي عن المنكر
[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
الإعراب:
أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أن وصلتها يجوز في موضعها النصب والرفع. فالنصب: إما على البدل من ما على أنها نكرة، وإما على حذف اللام، أي لأن سخط. والرفع: على البدل من ما في لَبِئْسَ ما على أنّ ما معرفة.(6/275)
البلاغة:
قُلْ: أَتَعْبُدُونَ استفهام للإنكار.
لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء أعمالهم وتعجب منه بالتوكيد والقسم.
المفردات اللغوية:
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى لا تَغْلُوا تجاوزوا الحدود، والغلو: نقيض التقصير، وهو الإفراط وتجاوز الحد فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي غلوا باطلا، بأن تضعوا عيسى أو ترفعوه فوق حقه أَهْواءَ قَوْمٍ آراء قوم مبعثها الهوى والشهوة دون الحجة والبرهان قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ بغلوهم وهم أسلافهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً من الناس وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ طريق الحق، والسواء في الأصل: الوسط.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اللعن: الطرد من الرحمة واللطف الإلهي عَلى لِسانِ داوُدَ بأن دعا عليهم فمسخوا قردة، وهم أصحاب أيلة وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير، وهم أصحاب المائدة ذلِكَ بِما عَصَوْا ذلك اللعن.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم عن بعض يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يوالونهم ويؤيدونهم، وهم أهل مكة بغضا لك. ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لآخرتهم.
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على أباطيل اليهود، ثم رد على أباطيل النصارى، وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، أنكر على كل من عبد غير الله من الأصنام والأنداد والأوثان، وأبان أنها لا تستحق شيئا من الألوهية، ثم خاطب مجموع الفريقين من اليهود والنصارى فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.
التفسير والبيان:
قل يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين عبدة الأوثان: أتعبدون غير الله الذي لا يقدر على دفع ضر عنكم، ولا جلب نفع(6/276)
لكم، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء، فلم تعدلون عن عبادته- وهو النافع الحق لكم- إلى عبادة بشر، أو جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم شيئا، ولا يملك البشر والحجر وغيرهما ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه.
فإن اليهود الذين عادوا المسيح لم يقدر على إلحاق الضرر بهم، بل حاولوا صلبه وقتله، ولم يتمكن هو بدفع ضررهم عن نفسه، وكذا لم يستطع تحقيق نفع دنيوي لأتباعه وأنصاره وصحبه، وقد تعرضوا للطرد والتعذيب، فكيف يعقل أن يكون إلها؟.
ثم أمر الله نبيه أن يقول أيضا لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : يا أهل الكتاب، لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تبالغوا في تعظيم العزير، ولا تعظيم عيسى، حتى تؤلّهوا أحدا منهما فتخرجوا عيسى من مقام النبوة إلى مقام الألوهية، وتجعلوا عزيرا ابن الله، ولا تبالغوا أيضا أيها اليهود في إهانة عيسى وأمه، وتنسبوها إلى الفاحشة.
ولا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم النابعة من شهواتهم، وهم شيوخ الضلال الذين ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من الناس، وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
ثم بيّن الله تعالى سبب ذلك: وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي أنه تعالى لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه، ولعن داود من اعتدى منهم يوم السبت ومن عصى الله، ولعن عيسى العصاة من بني إسرائيل بسبب تمردهم ومخالفتهم أوامر الله. قال ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل، وفي الزبور، وفي الفرقان. كان العالم منهم لا ينهى أحدا عن ارتكاب المآثم(6/277)
والمحارم، فلبئس الفعل فعلهم، وهذا تقبيح لسوء فعلهم، وتحذير من ارتكاب مثل ما ارتكبوه لأن شيوع المنكر يضر ضررا بليغا بالأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصون المجتمع من الرذيلة، ويذكر بالفضيلة والأخلاق، ويدفع إلى الخير ويحقق السعادة.
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم» .
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله: فاسِقُونَ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ثم لتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه «1» على الحق أطرا، ولتقسرنّه على الحق قسرا، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم» .
وأخرج الترمذي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم» .
ثم ذكر الله تعالى أحوال المعاصرين من أهل الكتاب لنزول الوحي فقال:
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ.. أي ترى يا محمد كثيرا من اليهود يتولون المشركين من أهل مكة، ويحالفونهم، ويحرضونهم على قتالك، ويتركون موالاة المؤمنين.
__________
(1) أي تعطفنّه. [.....](6/278)
روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة، وحرضوا المشركين على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوتهم، وخابت مساعيهم، ولم يتم لهم ما أرادوا.
فكان جزاؤهم تقبيح فعلهم وإنزال الغضب الإلهي عليهم وتخليدهم في العذاب، فقال تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ.. أي بئس شيئا قدمته أنفسهم لآخرتهم من الأعمال التي استوجبت سخط الله عليهم، وإنزال العذاب الأليم بهم، والحكم عليهم بالخلود في نار جهنم.
مع أنهم لو آمنوا بالله حق الإيمان وبالرسول والقرآن، لما والوا الكافرين في السر والباطن، وعادوا المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، ولكن الكثيرون منهم فاسقون أي خارجون عن حظيرة الدين، وعن طاعة الله ورسوله، متمردون في النفاق، مخالفون لحكم الله بموالاة المؤمنين ومناصرتهم، أمام أعداء الأديان كلها، وذلك إما لتحريفهم دينهم أو لنفاقهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
إن عبادة غير الله تدل على خرق العقل، وسفاهة الرأي، وضعف التفكير، وطيش الإنسان لأن المعبود هو الذي يرجى منه النفع، ويخاف من عذابه عند التقصير في حقه والمخالفة لأمره، وكل من عدا الله من الكواكب والملائكة والأوثان والأنداد والأنبياء وزعماء البشر والقادة المتفوقين المنتصرين في معركة حربية فاصلة، وإن تأمل الإنسان تحقيق النفع منهم، ودفع الضرر والشر بواسطتهم، فذلك نوع من الوهم والسخف، وانتكاس الفطرة الإنسانية، ومغالطة المعقول والتفكير السليم.(6/279)
فهذا عيسى الذي ظهرت المعجزات على يديه بإذن الله، لا يستطيع تجاوز ما أجرى الله على يديه من خوارق العادات، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وإذا أقررتم أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، وكان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟
ومن كان يدبر الكون قبل ولادته، ومن الذي يدبره بعد وفاته؟
فالحق يا أهل الكتاب أن تلتزموا الاعتدال، ولا تتبعوا الأهواء والعصبيات والتقليد الأعمى الموروث، ولا تنخدعوا بآراء شيوخ الفتنة والضلال وأصحاب المصالح المادية.
وإن تقصير علماء بني إسرائيل في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدى بهم إلى إنزال اللعنة الإلهية بهم في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فهل هناك أشد عقابا من ذلك؟
وليحذر المسلمون من تقليد من استحق اللعنة والطرد من رحمة الله. قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه.
وقال العلماء: ليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.
واقتضى قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي، ودلت الآية على النهي عن مجالسة المجرمين والأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله تعالى في الإنكار على اليهود: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين الذين ليسوا على دينهم، فلبئس ما سولت لهم أنفسهم وزينت.(6/280)
ودل قوله تعالى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ على أن من اتخذ كافرا وليا (ناصرا) فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله.
انتهى الجزء السادس ولله الحمد(6/281)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[الجزء السابع]
[تتمة سورة المائدة]
علاقة اليهود والنصارى بالمؤمنين عداوة اليهود وإيمان القساوسة والرهبان
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
الإعراب:
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من أَعْيُنَهُمْ لأن تَرى هاهنا من رؤية العين.
لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ: في موضع نصب على الحال من ضمير لَنا كقولهم: مالك قائما.
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها: بِما قالُوا:
ما مصدرية وهي مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، وتقديره: بقولهم. جَنَّاتٍ مفعول ثان لأثابهم تَجْرِي جملة فعلية في موضع نصب على الوصف لجنات. خالِدِينَ فِيها: حال من الهاء والميم في فَأَثابَهُمُ.(7/5)
البلاغة:
عَداوَةً ... ومَوَدَّةً بينهما طباق.
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ معناه: تمتلئ من الدمع حتى تفيض، استعار الفيض الذي هو الانصباب لامتلاء العين بالدمع حتى تفيض مبالغة لأن الفيض: أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء (الكشاف: 1/ 479) .
المفردات اللغوية:
النَّاسِ هم اليهود العرب ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل. عَداوَةً اعتداء وبغضاء، والعداوة ضد المسالمة والمحبة الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم الذين جعلوا مع الله إلها آخر كعبدة الأوثان من أهل مكة، وسبب عداوتهم للمؤمنين: هو زيادة كفرهم وجهلهم وإغراقهم في اتباع الهوى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ أي قرب مودتهم للمؤمنين بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ جمع قسّ وقسّيس، وهو أحد رؤساء النصارى، العالم بالدين والكتب فوق الشماس ودون الأسقف، والقسيسون: علماء النصارى وَرُهْباناً عبادا، جمع راهب: وهو العابد المتفرع للعبادة في دير أو صومعة. وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتباع الحق، كما يستكبر اليهود وأهل مكة.
ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ القرآن تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ تمتلئ دمعا حتى يتدفق من جوانبها، لكثرته آمَنَّا صدّقنا بنبيك وكتبك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المقربين الذين يشهدون بربوبيتك وألوهيتك وبتصديق نبيك.
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ لم لا نبادر إلى الإيمان مع وجود مقتضيه وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ القرآن أَنْ يُدْخِلَنا الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المؤمنين.
فَأَثابَهُمُ جازاهم بِما قالُوا أي بما أعلنوا من اعتقاد.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه(7/6)
كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين، ثم أمر جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً إلى قوله:
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي ثلاثين رجلا من خيار أصحابه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا وقالوا:
ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم الآية.
وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.. وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه «1» . قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به.
قال الطبري: والصواب في ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام، فأسلموا لما سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه «2» .
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال أهل الكتاب، فأوضح مخازي اليهود وعيوبهم، ومن أهمها قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [آل
__________
(1) أسباب النزول للسيوطي، أسباب النزول للواحدي.
(2) تفسير الطبري: 7/ 3.(7/7)
عمران 3/ 181] ، وأبان زيف عقيدة النصارى في التثليث وتأليه المسيح، ذكر هنا موقفهم في العداوة والمحبة من المؤمنين، ونبه على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، بل إنهم أشد عداوة من المشركين لتقديم ذكرهم على ذكر المشركين،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن مردويه عن أبي هريرة: «ما خلا يهودي بمسلم قط إلا همّ بقتله»
وذكر تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بذاته على أن أشد الناس المعاصرين للتنزيل عداوة للمؤمنين هم اليهود لأن كفرهم كفر عناد وجحود وهضم للحق، بل إن عداوتهم أشد من عداوة المشركين لتقديمهم في الذكر، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة، وسموه وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين، ثم يليهم في العداوة والبغضاء المشركون عبدة الأوثان لجهلهم بحقائق الدين، وبالإله الحق، وبالنبوات، والفريقان متشابهان في الكفر والعتو والبغي وغلبة الحياة المادية وحب الذات.
وأشد ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى، كان من يهود الحجاز، ومن مشركي العرب في الجزيرة، وخاصة أهل مكة والطائف.
ووالله إن أقرب الناس محبة ومودة للمؤمنين: الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أي قالوا: إنهم أتباع المسيح والإنجيل، فكان فيهم في الجملة مودة للإسلام وأهله، لما في قلوبهم على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد 57/ 37] وفي الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» .
وقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم من النصارى خيرا، فتلقى نصارى الحبشة المؤمنين(7/8)
المهاجرين إليها بالحماية والتكريم، هربا من أذى المشركين، ورد هرقل ملك الروم النصارى كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ردا حسنا، بعد أن حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام، وكان المقوقس عظيم القبط في مصر أحسن منه ردا، فأرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هدية، وبعد فتح مصر والشام أسلم كثير من النصارى في تلك البلاد، لما رأوا في الإسلام من مزايا، وأسلم أصحمة النجاشي ملك الحبشة مع بطانته، ولما مات صلّى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الجنازة على الغائب ونعاه للناس.
وكان سبب مودة النصارى للمؤمنين: أنه يوجد فيهم قسيسون (علماء) ورهبان (عبّاد) يدعون للإيمان والفضيلة والتواضع، والزهد والتقشف، ولا يستكبرون عن سماع الحق والإنصاف وينقادون له، فوصفهم الله بالعلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتّباعه، والإنصاف.
وإذا سمعوا شيئا من القرآن المنزل على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، بكوا بكاء حارا غزيرا تعاطفا مع كلام الله، وما عرفوا من الحق، مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يبادرون لقبول دعوة الإيمان قائلين: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، والمراد به إنشاء الإيمان والدخول فيه أي آمنا بك وبرسلك وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فاكتبنا مع من يشهد بصحة هذا المنزل على الأنبياء ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويشهد لك بالوحدانية. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة، كما قال تعالى في خصائص أمة المصطفى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] .
ثم أكدوا قولهم فقالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ.. إنكار استبعاد أي ولا مانع يمنعنا من الإيمان بالله، واتباع الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين أتباع هذا النبي الكريم الذين ثبت لنا صلاحهم وصحة إيمانهم.(7/9)
وهؤلاء الذين آمنوا من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران 3/ 200] وفي قوله تعالى أيضا:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 52- 55] .
لذا جازاهم الله على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، فقال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... أي جعل جزاءهم دخول الجنة دار النعيم، التي تجري من تحتها الأنهار، أي تسيل مياهها من تحت أشجارها، وهم ماكثون فيها أبدا، وهذا هو جزاء المحسنين: الذين أحسنوا في اتباعهم الحق وانقيادهم له مهما كان مصدره، ونعيم الآخرة يصعب علينا معرفته وتحديده، لقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] .
أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، أي جحدوا بها وخالفوها، وأنكروا وحدانية الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فأولئك هم أهل النار والداخلون فيها، والمقيمون إقامة دائمة فيها.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات مثل عال دقيق للإنصاف والحق والعدل، إذا أنها قسمت الناس إلى فريقين: فريق المؤمنين والموالين لهم وجزاؤهم جنات النعيم، وفريق المشركين والكفار الموالين لهم من اليهود وجزاؤهم نيران الجحيم.
إنه إنصاف من الناس لأنفسهم وإنصاف من الله تعالى لهم.
لقد أنصف جماعة من النصارى أنفسهم بسبب إذعانهم لدين الحق والتوحيد، فآمنوا بالله ورسوله وبالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يعلّمون الناس أصول الدين(7/10)
الصحيح من توحيد الله تعالى والتصديق بجميع الأنبياء والدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، وكانوا يتعبدون بإخلاص في الأديرة والصوامع ويخشعون لخالق الأرض والسماء، وليس لهم مطمع في مصالح دنيوية، أو رئاسة فارغة، ولم تعمهم العصبية لدين ما عن ولائهم لدين آخر، ولم تحجبهم عن إعلان إيمانهم بالله ورسله وبما أنزل الله. فتراهم بما استقر في جوانحهم من إيمان صحيح بالله وبالأنبياء يصغون إصغاء تدبر وإمعان وإنصاف للحقائق لما أنزل إلى الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتفيض أعينهم بالدموع، بسبب ما وجدوا من تطابق الحق الذي عرفوه وما سمعوه في القرآن الكريم، فسألوا الله أن يتقبل منهم، وجددوا إيمانهم بالله وبرسله، وطلبوا أن يكونوا من جملة الشاهدين بحق على صدق وصحة دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والشاهدين بالحق من قوله عز وجل، والشاهدين على سائر الأمم يوم القيامة بتبليغ أنبيائهم لهم رسالة الله الحقة.
وهذه أحوال العلماء العاملين المنصفين يذعنون للحق ويستجيبون للإيمان الصحيح، وتخشع جوارحهم لذكر الله، كما قال سبحانه وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] .
والخلاصة: لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وأن أقرب الناس مودة للمؤمنين هم نصارى ذلك الزمان.
ومن علائم إنصاف أولئك النصارى الذين آمنوا بدعوة الإسلام إيمانا جريئا عدا اعترافهم بصحة المنزل من القرآن في شأن عيسى عليه السلام وإثبات البعث(7/11)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
والحساب، هو إنكارهم عدم الإيمان بالحق حينما قالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ فدلّ ذلك على استبصارهم في الدين ومعرفتهم الحق، وانصياعهم له، دون عتو ولا استكبار ولا إعراض مثلما فعل اليهود والمشركون.
وكان الإنصاف من الله تعالى: أنه جازى أولئك المؤمنين بدينهم الحق وبدين الإسلام الحق المصدق له والمكمل له، كما قال سبحانه: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... وهذا دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالتهم، فأجاب الله سؤلهم وحقق طمعهم، وذلك عدل الله وفضله أنه يمنح رضوانه وجنته لمن آمن بإخلاص وعمل صالحا بصدق ويقين. وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة.
والعدل يقضي أيضا أن الذين كفروا من اليهود والنصارى والمشركين، وكذبوا بالدلائل الواضحة على وجود الله ووحدانيته وصدق أنبيائه، أولئك أصحاب الجحيم، أي النار الشديدة الاتقاد.
إباحة الطيبات
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الإعراب:
حَلالًا حال مما رزقكم الله، كما قال الزمخشري، أو مفعول به ل كُلُوا، ومِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حال منه، وسوغ مجيء الحال من النكرة تقدمها عليها.(7/12)
المفردات اللغوية:
لا تُحَرِّمُوا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم طَيِّباتِ ما تستطيبه الأنفس، وهي ما لذّ وطاب من الحلال وَلا تَعْتَدُوا تتجاوزوا أمر الله ولا تتخطوا الحدود المقررة شرعا، أو لا تسرفوا في تناول الطيبات، أو لا تعتدوا بتحريم الطيبات وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حَلالًا حال كون ما رزقكم الله من الحلال لا من الحرام طَيِّباً غير مستقذر ولا نجس.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، منهم عثمان بن مظعون، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني» .
وفي رواية السدي: أنهم كانوا عشرة، منهم ابن مظعون وعلي بن أبي طالب.
وأخرج بن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة، وقدامة تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية.
فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال: «إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا وأفطروا، فليس منا(7/13)
من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وعن ابن مسعود: أن رجلا قال: إني حرمت الفراش، فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك، وكفر عن يمينك.
والخلاصة: اتفقت الروايات على أن هذه الآية نزلت في قوم من الصحابة هموا أن يلازموا الصوم وقيام الليل، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفراش.
المناسبة:
بدئت سورة المائدة بالأمر بإيفاء العقود، وذلك يشمل التزام حدود الله وما أحله الله واجتناب ما حرمه، ثم نص تعالى على عدم إحلال ما حرم الله بقوله:
لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وهذه الآية لبيان النوع المقابل وهو تحريم ما أحل الله.
وهي أيضا مرتبطة بما قبلها، فبعد أن مدح الله النصارى بأنهم أقرب مودة للمؤمنين بسبب وجود قسيسين ورهبان منهم، فهم بعض المؤمنين بأن في هذا ترغيبا في الرهبانية وتحسينا للتقشف والزهد، وذلك بترك الطيّبات من الطعام واللباس والنساء. فنهاهم تعالى عن منع أنفسهم من الطيبات، كالذي فعله القسيسون والرهبان، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم، وساح في الأرض بعضهم «1» .
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون لا تحرموا على أنفسكم ولا تمنعوها من الطيبات: وهي ما تستلذه الأنفس، لما فيها من المنافع، بأن تتركوا التمتع بها تقربا إلى الله، ولا تتعدوا حدود ما أحل الله إلى ما حرم عليكم، أو: ولا تسرفوا في تناول
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 6(7/14)
الطيبات، أو: ولا تعتدوا بتحريم الطيبات، فكان الاعتداء شاملا أمرين:
الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه، كقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف 7/ 31] والاعتداء بتجاوزه إلى غيره من الخبائث.
وسبب النهي عما ذكر أن الله يبغض المعتدين ويعاقب المتجاوزين حدود شرعه، وتحريم حلاله ولو بقصد عبادته، سواء كان التحريم بيمين أو نذر أو بغيرهما.
وفي هذا انسجام مع مبدأ وسطية الإسلام واعتداله، فلا إسراف ولا تقتير، ولا امتناع عن المادية ولذائذ الحياة المشروعة، ولا رغبة في الرهبانية والزهد المؤدي إلى الكبت وتعذيب النفس وإضعاف الجسد وحرمانه، كما لا إغراق في الشهوات وانتهاب اللذات فوق القدر المعتاد المتوسط.
وبعد أن نهى تعالى عن منع النفس من طيبات الحياة، أمر بنحو إيجابي على سبيل الإباحة بالأكل مما أحلّ الله لكم وطاب، مما رزقكم الله من الحلال، لا من المحرّمات بنفسها كالميتة والدّم المسفوح ولحم الخنزير، ولا من الحرام بطريق الكسب كالرّبا والقمار والسرقة والسّحت وغير ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.
وهذا يدلّ على أنّ الرّزق يتناول الحلال والحرام، ووجود الحرام للاختبار ومعرفة مدى مجاهدة النفس بحملها على ما أحلّه الله، ومنعها مما حرّمه الله.
ثم وضع الله ظابطا ليس في العبادة وحدها، وإنما في الأمور المعاشية المعتادة أيضا، وهو الأمر بتقوى الله، والاعتصام بحدود الله، أي فاتّقوا الله الذي آمنتم به في كل شؤون المعيشة والحياة من أكل وشرب ولباس ونساء وغيرها، ولا تتجاوزوا المشروع في تحليل ولا تحريم.(7/15)
والأمر بالتقوى هنا إنما ذكر للحثّ على المحافظة على ما أوصى به الله، والمداومة عليه وإيراده عقب النّهي عن تحريم الطّيبات والأمر بالأكل من الرّزق الطيب الحلال: للدلالة على أنه لا منافاة ولا تغاير بين الاستمتاع بطيبات الرزق وبين التقوى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة 2/ 172] ، وقوله عزّ وجلّ: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة-: «إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون 23/ 51] ، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة 2/ 172] » .
والمراد بالطّيّبات: الحلال، كما قال النّووي.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية من أصول الإسلام الداعية إلى التّوسّط والاعتدال، والأخذ باليسر والسّماحة، والبعد عن التّنطّع في الدّين، وعن الأخذ بمشاق الأعمال المضنية للنّفس البشرية، ومراعاة متطلّبات الحياة، ودواعي الفطرة السليمة السوية من إيفاء حقّ الرّوح والجسد.
وفيها دليل على حرمة الرّهبانية، وقد صرّح القرآن بأنها مبتدعة،
وورد في السّنّة النّبويّة عنه عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الدارمي أنه قال: «إني لم أومر بالرّهبانية»
ورواية أحمد: «إن الرهبانية لم تكتب علينا» .
وعن أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منّي» .
وأخرج مسلم عن أنس أنّ نفرا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن(7/16)
عمله في السّر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .
وخرّجه البخاري عن أنس أيضا بلفظ آخر، قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، فقال أحدهم: أما أنا، فإنّي أصلّي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله، إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .
وهذا صريح في نبذ التّزمّت والتّشدّد والمبالغة في التّديّن، وهو صريح أيضا في أنّ الإسلام دين اليسر والسّماحة،
أخرج الإمام أحمد عن أنس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا الدّين متين، فأوغلوا فيه برفق» .
وأخرج أحمد أيضا عن أبي أمامة الباهلي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّي لم أبعث باليهوديّة ولا النّصرانية، ولكنّي بعثت بالحنيفية السّمحة» .
وقال علماء المالكية: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها ردّ على غلاة المتزهّدين، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين إذ كلّ فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه «1» قال الطّبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيّبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقّة، ولذلك ردّ
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 262(7/17)
النّبي صلّى الله عليه وسلّم التّبتّل على ابن مظعون «1» ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه لأمته، واتّبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان كذلك تبيّن خطأ من آثر لباس الشعر والصّوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حلّه، وآثر أكل الخشن من الطّعام، وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.
وتأكّد مفهوم أوّل الآية بآخرها: وَلا تَعْتَدُوا فقد تضمن ذلك النّهي عن أمرين: أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخّصوا فتحلّوا حراما، كما قال الحسن البصري.
وقال الإمام مالك: من حرّم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحلّ الله، فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة: إنّ من حرّم شيئا صار محرّما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة. قال القرطبي:
وهذا بعيد والآية تردّ عليه. وقال الشافعي وسعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال.
وقوله تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً يشتمل التّمتّع بالأكل والشرب واللّباس والرّكوب ونحو ذلك. وخصّ الأكل بالذّكر لأنّه أعظم المقصود وأخصّ الانتفاعات بالإنسان. أمّا التّمتّع بالكماليات والتّرفه بالفاكهة ونحوها، فرأى بعضهم صرف النفس عنها، حتى لا يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها، ورأى آخرون: أن تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها
__________
(1)
أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل، فنهاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.(7/18)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
ونشاطها بإدراك إرادتها، والحقّ التوسّط والاعتدال في ذلك لأن في إعطاء النفس مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين.
وكان طعام النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كاللحوم، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير مع الملح أو الزيت أو الخل، وأحيانا يجوع وأخرى يشبع، فكان في عادته قدوة للموسر والمعسر، أو الغني والفقير، وينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف، لقوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطّلاق 65/ 7] .
وكان يهتم بالشراب أكثر من الطّعام، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحلو البارد» .
اليمين اللغو واليمين المنعقدة وكفّارتها
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
الإعراب:
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يحتمل أن تكون «ما» مصدرية أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنّيّة، ويحتمل أن تكون اسم موصول.
مِنْ أَوْسَطِ متعلّق بمحذوف، صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط.
أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على إطعام، إما باعتبار أن الكسوة مصدر أو على إضمار مصدر.(7/19)
البلاغة:
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، والمراد عتق النفس.
المفردات اللغوية:
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو الكائن في اليمين: وهو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف، كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله. عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي قصدتم اليمين أو حلفتم عن قصد، وتعقيد اليمين: المبالغة في توكيدها. فَكَفَّارَتُهُ الكفارة من الكفر وهو السّتر والتّغطية، ثم صارت في الاصطلاح الشرعي اسما لما يزيل أثر اليمين من الذّنب والمؤاخذة عليه حال الحنث فيه.
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ لكل مسكين مدّ (675 غم) . مِنْ أَوْسَطِ الوسط في الطعام والغالب في أقوات الناس، لا الأعلى ولا الأدنى. أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي ما يسمى كسوة عرفا وعادة كقميص وعمامة ورداء وإزار، ولا يكفي في مذهب الشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد بل لا بدّ من التّعدّد: ثلاثة فأكثر. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عتق رقبة، ويشترط كونها عند الجمهور غير الحنفية مؤمنة كما في كفارة القتل والظهار، حملا للمطلق على المقيد. وهذه كفارة يمين الموسر.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا من خصال الكفارة المذكورة بأن كان معسرا معدما. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ كفارته، وظاهره أنه لا يشترط التتابع، وهو مذهب المالكية والشافعية، واشترط الحنفية والحنابلة التتابع لقراءة ابن مسعود «متتابعات» . وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس، كما تقدّم في سورة البقرة. كَذلِكَ أي مثل ما بيّن لكم ما ذكر.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكام شريعته. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروه على ذلك.
سبب النّزول:
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا النّساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها، فأنزل الله تعالى ذكره: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ الآية. علّق الطّبري على ذلك بقوله: فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 10(7/20)
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن يعلى بن مسلم قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية.. قال: اقرأ ما قبلها فقرأت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.. إلى قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.
المناسبة:
هذه متعلّقة بما قبلها لأن الله تعالى بعد أن نهى عن تحريم الطّيّبات بسبب قوم أرادوا الزّهد والتّقشّف والتّرهّب في الحياة تقرّبا إلى الله، سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عمّا يصنعون بأيمانهم التي حلفوها، فأجابهم الله عزّ وجلّ بإنزال حكم كفارة الأيمان.
التفسير والبيان:
لا مؤاخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد، ولا يتعلّق بها حكم، وهي اليمين اللغو: وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد،
قالت عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو كلام الرحل في بيته: لا والله، وبلى والله» .
وهذا مذهب الشافعي، وقال باقي الأئمة (الجمهور) : هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النّفي والإثبات. بدليل ما روي عن ابن عباس في لغو اليمين: أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، وهو مروي أيضا عن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء أنه كذلك، وليس كما ظنّ.
ولكن يؤاخذكم باليمين المنعقدة: وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وهناك نوع ثالث هي اليمين الغموس: وهي في رأي الحنفية: اليمين الكاذبة قصدا في الماضي أو في الحال. فتصير الأيمان ثلاثة أنواع: يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس. أخرج الطبري عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها، فأما اليمين التي تكفر: فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله، فعليه(7/21)
الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو «1» .
واليمين المنعقدة: هي التي يكون الحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت»
ولا تنعقد اليمين بالحلف بغير الله من المخلوقات كنبيّ أو وليّ، بل إنه حرام.
وقد اختلف الفقهاء في اليمين الغموس على رأيين، فقال الحنفية والمالكية:
لا كفارة فيها لأن جزاء الغموس الغمس في جهنم. وقال الشافعية وجماعة:
تجب الكفارة فيها لأن الله يقول: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ومن تعمد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به لأنه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله: فَكَفَّارَتُهُ.
ورأى الحنفية والمالكية أن المؤاخذة بما كسبت القلوب هو عقاب الآخرة، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران 3/ 77] ، فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة.
وروى البيهقي والحاكم عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة، تبوّأ مقعده من النار»
، ولم يذكر الكفارة.
وروى البخاري ومسلم وغيرهما (الجماعة) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين صبر «2» ، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان» .
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 11.
(2) اليمين الصبر: التي ألزم بها وأكره عليها، والصبّر: الإكراه.(7/22)
ثمّ بيّن الله تعالى نوع المؤاخذة على اليمين المنعقدة فقال: فَكَفَّارَتُهُ الضمير إما عائد على الحنث المفهوم من السياق، أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف، أي فكفارته نكثه. والحانث عليه الكفارة سواء أكان عامدا أم ساهيا وناسيا أم مخطئا، أم نائما ومغمى عليه ومجنونا أم مكرها.
والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال: إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين في رأي الجمهور مدّ طعام (قمح) والمدّ (675 غم) من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد، ليس بالأجود الأعلى، ولا بالأردإ الأدنى، وهو أكلة واحدة خبز ولحم، لقول الحسن البصري ومحمد بن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما. وقدّره الحنفية بما يجب في صدقة الفطر وهو نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير أو دقيق، أو قيمة هذه الأشياء (والصاع 2751 غم) . وهو أكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، لقول علي رضي الله عنه: يغديهم ويعشيهم.
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، يعطي لكلّ فقير رداء متوسطا مثل «الجلابية» أو قميصا أو سروالا أو عمامة في رأي الشافعية، ولم يجز الحنفية الكسوة بالسروال والعمامة، لأن أدنى الكسوة عندهم:
ما يستر عامة البدن.
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق نفس، إذ كان الرقيق موجودا، بشرط أن تكون في رأي الجمهور مؤمنة، مثل كفارة القتل الخطأ والظهار، حملا للمطلق على المقيد. ولم يشترط الحنفية كونها مؤمنة فيجزئ إعتاق الكافرة، عملا بإطلاق النّصّ الوارد هنا، ويجب إبقاء موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكلّ نصّ على حدة لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النّص.(7/23)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي من لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة، أو من لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة، فعليه صيام ثلاثة أيام، متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة، ولا يشترط التتابع في مذهب المالكية والشافعية.
ودليل الرأي الأول: ما أخرج الحاكم وابن جرير الطبري وغيرهم من طريق صحيح أن أبي بن كعب كان يقرأ هكذا «ثلاثة أيام متتابعات» ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وهو ثابت في مصحف الربيع، كما قال سفيان الثوري.
ورواه ابن مردويه عن ابن عباس: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» .
ورأى الفريق الثاني أن هذه قراءة شاذّة لا يحتجّ بها، وإنما يحتجّ بالمتواتر.
والاستطاعة: أن يكون مالكا ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة، وهذا ما اختاره ابن جرير: أنه الذي يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم، لزمه الإطعام وإلا صام.
ولا وقت للكفارة، وإنما يستحبّ تعجيلها، فإن مرض صام عند القدرة، فإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته. وللوارث أن يتبرع بالكفارة.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي هذه كفارة اليمين الشرعية إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه أو صفاته وحنثتم. وترك ذكر الحنث المعروف بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بالحلف نفسه، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند الحنفية، ويجوز بالمال إذا لم يعص الحانث عند الشافعي.
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي فبرّوا بها ولا تحنثوا. وقيل: وهو ما اختاره القرطبي: احفظوها بأن تكفّروها إذا حنثتم، قال ابن جرير: معناه لا تتركوها(7/24)
بغير تكفير. وأراد الأيمان التي يكون الحنث فيها معصية ومخالفة لما حدث القسم عليه.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي مثل ذلك البيان، يبيّن الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه، أي يوضحها ويفسّرها.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ليعدّكم بذلك إلى شكر نعمته فيها يعلمكم ويسهّل عليكم المخرج منه.
ويحرم الحنث في اليمين إذا كانت على فعل واجب أو ترك حرام، ويندب الوفاء ويكره الحنث إذا تمّ الحلف على فعل مندوب أو مباح، ويجب الحنث في اليمين والكفارة إذا حلف على معصية أو حرام،
لما رواه أصحاب الكتب الستة إلّا ابن ماجه عن عبد الرّحمن بن سمرة أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك»
،
ولحديث عائشة الذي رواه ابن ماجه: «من حلف في قطيعة رحم، أو فيما لا يصلح، فبرّه ألا يتمّ على ذلك»
أي ألا يوفي به، ولكن تجب عليه الكفارة.
وتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء أكانت في طاعة أم في معصية أم في مباح.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على حكم يمين اللغو واليمين المنعقدة.
أما يمين اللغو: وهي الجارية على اللسان دون قصد اليمين، فلا كفارة فيها، والحلف بها لا يحرّم شيئا، إذ لا مؤاخذة فيها بنصّ القرآن، وهو دليل الشافعي على أنّ هذه اليمين لا يتعلّق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو، مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر.
روي أن عبد الله بن(7/25)
رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل، فقال:
أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك فقال: لا، والله لا آكل الليلة فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل وقال أيتامه: ونحن لا نأكل فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال له: «أطعت الرّحمن وعصيت الشيطان» ، فنزلت الآية.
والأيمان في الشريعة بحسب المحلوف عليه نفيا وإثباتا على أربعة أقسام:
يمينان يكفّران: وهو أن يقول الرّجل: والله لا أفعل فيفعل، أو يقول: والله لأفعلنّ ثم لا يفعل، وهذان لا اختلاف فيهما بين العلماء ويمينان لا يكفّران:
وهو أن يقول الرّجل: والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت وما فعل، وهذان مختلف فيهما بين أهل العلم:
فقال الجمهور: إن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا وعند نفسه يرى أنه صادق على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه. وقال الشافعي: لا إثم عليه وعليه كفّارة.
واتّفق العلماء على أن يمين اللغو لغو فيما إذا قال الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير المنعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
وأما اليمين المنعقدة: وهي التي تحلف عن عمد وقصد وتصميم، فتوجب الكفارة بالحنث فيها.
وهل اليمين الغموس يمين منعقدة أو لا؟ يرى الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب، فلا تنعقد ولا كفارة فيها، وإنما فيها الإثم
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»
وهذا يدلّ على أن الكفارة إنما(7/26)
تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله.
وقال الشافعي: هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة.
ورجّح القول الأوّل، لأن الأخبار دالّة على أن اليمين التي يحلف بها الرّجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفّرها ما يكفّر اليمين. من هذه الأخبار عدا ما تقدم:
حديث البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر، قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: «التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب» .
وخرّج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل:
وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك» .
والمحلوف به: هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرّحمن والرّحيم والسّميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزّته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات.
وأما الحلف بحقّ الله وعظمة الله، وقدرة الله، وعلم الله، ولعمر الله، وايم الله، ففيه اختلاف، قال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي: في: وحقّ الله وجلال الله وعظمة الله، وقدرة الله: يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين لأنه يحتمل: وحقّ الله: واجب الله(7/27)
وقدرته النافذة، وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله: إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين.
وقال الحنفية: إذا قال: وعظمة الله وعزّة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله، فحنث، فعليه الكفارة.
والحلف بالقرآن أو المصحف يمين في المذاهب الأربعة لأن الحالف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه: وهو القرآن، فإنه ما بين دفّتي المصحف بإجماع المسلمين.
ولا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتمّ الإيمان إلا به، فتلزمه الكفارة، كما لو حلف بالله. ويرد عليه بما ثبت
في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت»
وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف منكم، فقال في حلفه باللات، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه:
تعال أقامرك فليتصدق» .
وقال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النّبي أو من القرآن، أو أشرك بالله، أو كفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفارة. ولا تلزم فيما إذا قال: واليهودية والنصرانية والنّبي والكعبة، وإن كانت على صيغة الأيمان.
وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين واختلفوا إذا قال:(7/28)
«أقسم، أو أشهد ليكونن كذا وكذا» ولم يقل: بالله، فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله، لم تكن أيمانا تكفّر.
وقال أبو حنيفة: هي أيمان في الموضعين.
وقال الشافعي: لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى.
وإذا قال: أقسمت عليك لتفعلنّ كذا، فإن أراد سؤاله، فلا كفّارة فيه، وليست بيمين، وإن أراد اليمين كان يمينا.
ومن حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة، كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته، لا شيء عليه لأنها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى.
أنواع الأيمان بحسب المحلوف عليه:
الأيمان باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أنواع:
1- يمين بالله تعالى، كقوله: والله لأفعلنّ كذا، حكمها أنها يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.
2- يمين بغير الله تعالى، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والملوك والآباء، حكمها أنها يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هي منهي عنها حرام، كما دلّت الأحاديث المتقدمة.
3- يمين في معنى الحلف بالله، يريد بها الحالف تعظيم الخالق، كالحلف بالنذر والحرام والطّلاق والعتاق، مثل: إن فعلت كذا فعليّ صوم شهر، أو الحجّ إلى بيت الله الحرام، أو الطّلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلته فامرأتي طالق أو عبدي حرّ، أو ما أملكه صدقة أو نحو ذلك، وحكمها الصحيح أنه يجزئه كفارة يمين في جميع ذلك، كما قال تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ،(7/29)
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح عنه: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»
وهو رأي الشافعي وأحمد. وأوجب مالك وأبو حنيفة تنفيذ المحلوف عليه في حالة اليمين بالمشي إلى مكة، فمن حلف على ذلك فعليه أن يفي به.
والأيمان في مذهب الحنفية مبنية على العرف والعادة، لا على المقاصد والنّيّات، فمن حلف لا يأكل لحما، لا يحنث بأكل السّمك إلا إن نواه لأنه لا يسمّى لحما عرفا. وفي مذهب المالكية والحنابلة: المعتبر هو النّيّة، وفي مذهب الشافعي: المعتبر صيغة اللفظ.
واتّفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوي تكون بحسب نيّة المستحلف
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «اليمين على نيّة المستحلف» .
وقال جمهور العلماء: إذا انعقدت اليمين حلّتها الكفارة أو الاستثناء، بشرط أن يكون متّصلا منطوقا به لفظا
لما روى النسائي وأبو داود عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف فاستثنى، فإن شاء مضى، وإن شاء ترك عن غير حنث»
فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه.
ولا خلاف أن الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله، فقال الشافعي وأبو حنيفة:
الاستثناء يقع في كلّ يمين كالطّلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى.
وأجاز جمهور الفقهاء تقديم الكفارة على الحنث
لما خرّجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنّي والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»
ولأن اليمين سبب الكفارة، لقوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا(7/30)
حَلَفْتُمْ
فأضاف الكفارة إلى اليمين، والمعاني تضاف إلى أسبابها، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البرّ فيجوز تقديمها قبل الحنث.
إلا أنّ الشافعي قال: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصّوم، لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته.
وقال الحنيفة: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث بوجه ما
لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حلف على يمين، ثم رأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير» زاد النسائي: «وليكفّر عن يمينه»
، ولأن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع، فلا معنى لفعلها قبل الحنث، ومعنى قوله تعالى: إِذا حَلَفْتُمْ أي إذا حلفتم وحنثتم، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ، اعتبارا بالصّلوات وسائر العبادات.
ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير بالنسبة للموسر، والطعام أفضل للبدء به، وكان هو الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم.
ولا بدّ في رأي الجمهور من تمليك المساكين ما يخرج لهم من الطعام، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرّفوا فيه لأنه أحد نوعي الكفارة، فلم يجز فيها إلا التمليك، كالكسوة.
وقال الحنفية: لو غداهم وعشاهم جاز لأن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك، والإطعام لغة: هو التمكين من الأخذ، لا التمليك، ولأن المسكنة هي الحاجة، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه.
ولا يجوز أن يطعم غنيّا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، ويجزئ في رأي مالك الإطعام لقريب لا تلزمه نفقته، ولكنه مكروه.(7/31)
ولا يجوز في مذهب مالك والشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد.
ولا يجوز عند الحنفية صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، أما إن صرفها إلى مسكين واحد عشرين يوما، جاز لأن المقصود قد حصل.
وأدنى الكسوة في رأي الحنفية: ما يستر جميع البدن، فيعطى لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء.
وتقدر الكسوة في مذهب الحنابلة، بما تجزئ الصلاة فيه.
ويجزئ عند المالكية ما يطلق عليه اسم الكسوة من قميص أو إزار أو رداء أو جبّة أو سراويل أو عمامة.
وتجزئ القيمة عند الحنفية كما تجزئ في الزكاة لأن الغرض سدّ الخلّة (الحاجة) ورفع الحاجة. ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة في رأي الجمهور، التزاما للنّص.
وأجاز الحنفية دفع الكفارة والنذور لا الزكاة إلى فقراء أهل الذّمّة لأنّ الذّمي الفقير يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. ولا يجوز ذلك عند الجمهور، كالزكاة.
واشترط الجمهور إعتاق رقبة مؤمنة كاملة، ليس فيها شرك لغيره لأنها قربة، فلا يكون الكافر محلّا لها كالزّكاة، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيّد في عتق الرّقبة في القتل الخطأ. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافرة، لأن مطلق اللفظ يقتضيها.
ومن أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف، كانت الكفارة عند المالكية باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزّكاة ليدفعه إلى الفقراء.
واختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف، فقال الشافعي وأبو ثور: كفارات(7/32)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث، وكذلك قال مالك: إن أوصى بها.
والمراعاة في اليسار والإعسار وقت التكفير، لا وقت الحنث، فمن حلف وهو موسر، فلم يكفّر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر، فلم يكفّر حتى أيسر، اعتبر وقت الكفارة.
والكفارة بصيام ثلاثة أيام للمعسر، لا الموسر، متتابعات عند الحنفية، ولا يشترط التتابع عند الجمهور، وإنما يستحبّ.
ومن أفطر في أيام الصيام ناسيا، فعليه القضاء عند مالك، ولا قضاء عليه عند الجمهور.
تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)(7/33)
البلاغة:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أريد بالاستفهام الأمر، أي انتهوا، وهو من أبلغ ما ينهى به، لما فيه من الحض على الانتهاء. قال أبو السعود في تفسيره (2/ 56) : ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد، حيث صدّرت الجملة ب إِنَّما وقرنا بالأصنام والأزلام، وسمّيا رجسا من عمل الشيطان، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعل ذلك سببا للفلاح، ثم ذكر ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟
إيذانا بأن الأمر في الزجر والتحذير قد بلغ الغاية القصوى.
والتعبير بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ أبلغ من التعبير بلفظ حرم لأنه يفيد التحريم وزيادة وهو التنفير والإبعاد عنه بالكلية، كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
[الحج 22/ 30] .
المفردات اللغوية:
الْخَمْرِ كل شراب مسكر يخامر العقل الْمَيْسِرِ القمار وَالْأَنْصابُ الأصنام وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها وَالْأَزْلامُ أي قداح الاستقسام: وهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية، تفاؤلا أو تشاؤما رِجْسٌ خبيث مستقذر حسا أو معنى، إما من جهة الطبع أو من جهة العقل، أو من جهة الشرع كالخمر والميسر، أو من كل تلك الاعتبارات كالميتة لأن النفس تعافها طبعا وعقلا، ويعافها الشرع مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه فَاجْتَنِبُوهُ أي تجنبوا فعل الرجس. الْعَداوَةَ تجاوز الحق إلى الأذى وَيَصُدَّكُمْ يمنعكم بالاشتغال بهما وَعَنِ الصَّلاةِ خصها بالذكر تعظيما لها فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عن إتيانها، أي انتهوا. وَاحْذَرُوا المعاصي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الطاعة الْبَلاغُ الْمُبِينُ الإبلاغ الواضح طَعِمُوا ذاقوا طعمه وتلذذوا بالأكل أو الشرب، والمراد أكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم. إِذا مَا اتَّقَوْا المحرمات ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثبتوا على التقوى والإيمان وَأَحْسَنُوا العمل وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم.
سبب النزول:
روى أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية
، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: إثم كبير،(7/34)
وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام، أمّ رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أشد منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] .
ثم نزلت آية أشد في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية.
وروى النسائي والبيهقي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع في هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان أخي بي رؤفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية.
فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية.
وروى ابن جرير عن جماعة قالوا: نزلت هذه الآية (آية تحريم الخمر) بسبب سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلحي جمل، ففزر أنفه أو جرحه، فنزلت فيهما.(7/35)
وروى ابن جرير أيضا وابن مردويه عن سعد أنه قال: صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعانا، فشربنا الخمر حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل (فك جزور) فضرب به أنف سعد، ففزره، فكان سعد أفزر الأنف، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. الآية «1» وروى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر هذا الصوت! قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرّمت، فقال: اذهب فأهرقها- وكان الخمر من الفضيخ «2» - قال: فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم:
قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية.
المناسبة:
لما نهى الله تعالى فيما تقدم: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وكان من جملة الأمور المستطابة:
الخمر والميسر، بيّن عز وجل أنهما غير داخلين في المحللات، بل في المحرمات «3» .
الحكمة في التدرج بتحريم الخمر: كان العرب في الجاهلية مدمنين الخمر، متعلقين بها أشد التعلق، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة، لم يقلع الكثير عنها، وإنما عرّض تعالى بالتحريم في سورة البقرة، ثم في سورة النساء في أوقات الصلاة، فامتنعوا عن شربها نهارا، وشربوها ليلا. روى ابن جرير عن
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 22
(2) الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده، من غير أن تمسه النار، والمفضوخ:
المشدوخ.
(3) تفسير الرازي: 12/ 79(7/36)
أبي الميسرة قال: قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة 2/ 219] فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] وكان منادي النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادي إذا حضرت الصلاة:
لا يقربن الصلاة السكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن عمر قال: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا، فتركها الناس.
التفسير والبيان:
نهى الله تعالى المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر، فقال: يا أيها المؤمنون، إن الخمر وكل شراب مسكر، والقمار بمختلف أنواعه، والأصنام التي تذبح القرابين عندها، والأزلام قداح الاستقسام تفاؤلا وشؤما: قذر سخطه الله وكرهه، وهو من عمل الشيطان أي تحسينه وتزيينه، فاتركوا هذا الرجس، رجاء أن تفوزوا وتفلحوا بتزكية أنفسكم، وسلامة أبدانكم، والتوادّ فيما بينكم.
والخمر: النّيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وهي تطلق في رأي الجمهور على كل شراب مسكر خامر العقل وغطاه، ويرى الحنفية: أن الخمر حرمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا لأن اللغة في رأيهم لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم(7/37)
تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر «1» . وهو رأي ابن عمر.
ويرى الجمهور أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه «2» ، فغير ماء العنب حرام بالنص: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وهذا رأي عمر، قال: إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة، والخمر: ما خامر العقل. وهو رأي ابن عباس أيضا،
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشر: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا»
وقال أيضا فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة: الخمر من هاتين الشجرتين:
النخلة والعنب.
وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عمر: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» .
ورتب الجمهور على رأيهم أن كل المسكرات نجسة بقوله تعالى: رِجْسٌ وأن فيها الحد، وكذلك يرى الحنفية أن المسكر غير المطبوخ وهو السّكر والفضيخ النيء، والباذق: أي النصف المطبوخ، ونقيع الزبيب والتمر غير المطبوخ نجس نجاسة مغلظة كالخمر وهو رأي أبي حنيفة في رواية راجحة عنه لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، فلا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم، وأما المطبوخ وهو المثلث العنبي أو الطلاء (وهو المطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه) والجمهوري وهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق فغير نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وحرّم محمد الأشربة المسكرة كلها وبرأيه يفتي عند الحنفية،
لقول صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن جابر: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
واتفق
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 462
(2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 150(7/38)
الحنفية على أنه لا حدّ بشرب الأشربة المسكرة غير الخمر إلا بالإسكار،
لحديث علي فيما رواه العقيلي: «حرمت الخمر بعينها، والسّكر من كل شراب»
إلا أنه حديث معلول، أو موقوف على ابن عباس.
وإذا صار النبيذ (نبيذ التمر والزبيب) مسكرا صار حراما، فإن لم يتخمر ولم يسكر كالخشاف الطبيعي بنقعه في فترة يومين مثلا فهو حلال.
والميسر حرام أيضا، وكل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز،
وورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: «الشطرنج من الميسر»
وكذا النرد إذا كان على مال، فإذا لم يكن الشطرنج أو النرد على مال فإن الجمهور حرموه أيضا لأنه موقع في العداوة والبغضاء، وصادّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وكره الشافعي الشطرنج لما فيه من إضاعة الوقت.
والأنصاب التي هي حجارة حول الكعبة رجس لأنهم كانوا يعظمونها ويذبحون عندها القرابين.
وكذا الأزلام رجس لأنهم كانوا يستقسمون بها، وقد تقدم شرحها في الآية (3) من سورة المائدة.
والرجس: القذر حسا ومعنى، عقلا وشرعا، والخمر وما ذكر بعدها موصوف بهذا الوصف، مما يقتضي التحريم، وتأكد ذلك بالأمر باجتناب الرجس، وبقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي راجين الفلاح بهذا الاجتناب.
وتحريم الخمر والميسر من عدة نواح: صدّرت الجملة بإنما المفيدة للحصر، وقرنا بالأصنام والأزلام وهي شنيعة قبيحة شرعا وعقلا، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، وأمر باجتناب أعيانهما وهو أشد تنفيرا من مجرد النهي أو لفظ التحريم، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، ثم بيّن الله مضار(7/39)
الخمر والميسر المعنوية: الشخصية والاجتماعية، فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ... لذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفا: «الخمر أم الخبائث»
وقال فيما رواه البزار عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «مدمن الخمر كعابد الوثن»
أي إن الشيطان لا يريد لكم من تعاطي الخمر والميسر إلا الإيقاع في العداوة بأن يعادي بعضكم بعضا بسبب الشراب، والبغضاء بأن يزرع الكراهية والحقد والنفرة من بعضكم، فيتحقق هدفه من التفريق والتشتيت بعد التأليف بالإيمان والجمع بأخوة الإسلام.
ويريد أيضا صرفكم بالسكر المذهب للعقل والاشتغال بالقمار عن ذكر الله الذي تطمئن به القلوب وتسعد به النفوس في الدنيا والآخرة، وعن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والتي تزكو بها النفوس، وتتطهر القلوب.
فالخمر إذا أذهبت العقل، هانت كرامة الإنسان على غيره، وفقد القدرة على إدراك الخير والبعد عن الشر، هذا فضلا عن أضرار الخمر الصحية في كل أعضاء جهاز الهضم والأعصاب، بل قد يمتد الضرر إلى الأولاد، فينشأ الواحد منهم معتوها ضعيف المدارك، وكثيرا ما أدت الخمر إلى الطلاق وتدمير الأسرة.
والميسر الذي يؤدي إلى الربح بلا عمل ولا تجارة، وخسارة الطرف الآخر يؤجج في النفس نار العداوة والبغضاء، وكثيرا ما تقاتل المتقامران وحدث بينهما السباب والشتم والضرب الشديد.
والخلاصة: للخمر مضار كثيرة: شخصية صحية، واجتماعية بزرع العداوة والبغضاء، ودينية بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومالية بتبديد الأموال في الضار غير النافع. وكذا للقمار أضرار نفسية عصبية بإحداث توتر في الأعصاب وقلق واضطراب، واجتماعية ودينية ومالية كالخمر تماما.
وقد نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ كما تقدم في قبيلتين من(7/40)
الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا، ورأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل الرجل يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل هذا بي، فحدثت بينهم الضغائن، فأنزل الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الآية. ولم يذكر في القرآن تعليل الأحكام الشرعية إلا بإيجاز، أما هنا فإنه فصل في بيان الحكمة أو العلة، فذكر ثلاث حكم، ودل على تحريم الخمر والميسر بأكثر من دلالة ليشير إلى ضررهما وخطرهما.
ثم آكد الله تعالى التحريم وشدد في الوعيد، فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَاحْذَرُوا أي أطيعوا كل ما جاء عن الله والرسول من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات، واحذروا ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة ووقوع في المهالك في الدنيا، وعذاب في الآخرة إذ لم يحرم الله شيئا إلا لضرره الواضح، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] .
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فإن أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به، فإن رسول الله بلغكم، فانقطعت حجتكم، ومن أنذر فقد أعذر، ولم يعد لكم مطمع في التعلل والاعتذار.
ثم أبان الله تعالى حكم الذين ماتوا قبل تحريم الخمر وهم يشربونها فقال:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... أي ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كمن مات قبل تحريم الخمر والميسر كحمزة، ولا على الأحياء الباقين في الحياة الذين شربوا الخمر وأكلوا الميسر قبل التحريم مثل عبد الله بن مسعود إثم ومؤاخذة إذ ليس للتشريع ولا للقانون أثر رجعي، إذا ما اتقوا الله، وآمنوا بما أنزل من الأحكام، وعملوا الصالحات التي شرعت فيما مضى كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعدئذ، وآمنوا بما أنزل، ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالح من الأفعال، والله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم وإخلاصهم وإتقانهم عملهم.(7/41)
وبهذا يظهر أن المراد بالتقوى والإيمان الأولين: تحصيل أصل التقوى وأصل الإيمان، والمراد بالآخرين منهما الثبات والدوام عليهما، والمقصود بالتقوى الثالثة: اتقاء ظلم العباد وإحسان الأعمال والإحسان إلى الناس بمواساتهم بما رزقهم الله من الطيبات. وتقييد رفع الجناح بالإيمان والتقوى لبيان الواقع، وهو الجواب عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم.
يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم فيما تناولوه من المطعومات والمشروبات المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، وهذا ثناء عليهم، كما أثنى على من مات قبل الصلاة إلى الكعبة في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة 2/ 143] .
وقد عرف مما تقدم أن هذه الآية عذر لمن مات وحجة على بقية الناس لأنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول الله، فكيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت.
وقد أراد عمر بعد هذه الآية إقامة الحد على قدامة بن مظعون الجمحي وهو ممن هاجر إلى الحبشة، حين شهد عليه الشهود بأنه شرب الخمر بعد التحريم بهذه الآية، روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، وأراد عمر أن يجلده، فقال قدامة: ليس لك ذلك لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله. وأجاب ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لمن غبر وحجة على الناس لأن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية، ثم قرأ الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر، فقال عمر: صدقت ماذا ترون، فرأى علي والصحابة حده، فجلد ثمانين جلدة.(7/42)
فقه الحياة أو الأحكام:
1- حدث تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد الهجرة بعد وقعة أحد التي حدثت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستظهر ابن حجر أنها حرمت سنة ثمان من الهجرة. وأما حد الخمر فثبت بالسنة النبوية، إما أربعون جلدة وهو رأي الشافعية، وإما ثمانون جلدة وهو رأي الجمهور،
روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين»
وروى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: «جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة، وهذا أحب إلي» .
2- تضمنت الآية تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار بأنواعه، والأنصاب وهي الأصنام أو النرد والشطرنج، والأزلام وهي قداح الاستقسام، يقال: كانت في البيت- أي البيت الحرام- عند سدنة البيت وخدّام الأصنام يأتي الرجل إذا أراد حاجة، فيقبض منها شيئا، فإن كان عليه «أمرني ربي» خرج إلى حاجته، على ما أحب أو كره. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل:
هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم.
3- تم تحريم الخمر على التدرج، كما عرفنا فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل 16/ 67] . ثم نزل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة 2/ 219] والمنافع:
هي في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس، وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء 4/ 43] فتركها بعض(7/43)
الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر.
وبه يتبين مع ما ذكر في أسباب النزول المتقدمة والأحاديث الواردة: أن شرب الخمر قبل هذه الآية كان مباحا معمولا به معروفا عندهم، بحيث لا ينكر ولا يغيّر، وأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أقر عليه، وهذا مالا خلاف فيه.
4- فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.
وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة، قال: ولو كانت نجسة، لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، كما
نهى عن التخلي في الطرق.
وأجاب القرطبي: بأن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب «1» ولا آبان يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم.
وأيضا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها.
وقوله تعالى: رِجْسٌ يدل على نجاستها فإن الرجس في اللسان العربي: النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت
__________
(1) السرب: حفيرة تحت الأرض. [.....](7/44)
الشريعة فإن النصوص فيها قليلة فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة «1» .
5- دل قوله: فَاجْتَنِبُوهُ على الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك.
بدليل الأحاديث الواردة، منها
ما رواه مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها» .
ومنها ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في التداوي بالخمر: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» ردا على طارق بن سويد الجعفي الذي قال: «إنما أصنعها للدواء» .
وهذا رأي الأطباء.
لكن أجاز الحنفية التداوي بالخمر والنجاسات والسموم إذا تعينت، وعلم يقينا أن فيها شفاء للضرورة لقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام 6/ 119] .
والحقيقة أنه ما أكثر الأدوية وشركات الدواء ومصانعه في عالم اليوم، فإنهم صنعوا لأكثر الأمراض علاجا، فلم يعد الشخص بحاجة أو ضرورة للتداوي بالخمر وغيرها مما حرم الله الانتفاع به وجعله نجسا،
روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
ولا يجوز لمسلم تملك الخمر ولا تمليكها من أحد لأن الشرع نهى عن الانتفاع بها، وأمر باجتنابها.
6- أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 288- 289(7/45)
العذرات وسائر النجاسات، وما لا يحل أكله، لذا كره مالك والشافعي وغيرهما بيع زبل الدواب.
7- إن تخللت الخمر بنفسها طهرت وجاز أكل الخل باتفاق الفقهاء، أما تخليل الخمر فلم يجزه جمهور الفقهاء لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم استؤذن في تخليل خمر ليتيم، فقال: «لا» ونهى عن ذلك، فأراقها وليه عثمان بن أبي العاص. وأباح الحنفية تخليلها وأكل ما تخلل منها بمعالجة، أي بإلقاء شيء فيها، كملح أو غيره لأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح.
8- قال القرطبي: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشطرنج، قمارا أو غير قمار، لقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فكل لهو دعا قليلة إلى كثيرة، وأوقع بينكم العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستوليد على القلب مكان السكر. سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر «1» .
9- حيثيات التحريم واضحة في الآية: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ... أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها ونهانا عنها. وسبب النزول المتقدم في عبث القبيلتين من الأنصار اللتين شربتا الخمر يؤكد هذا.
10- قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال الأمر، وكفّ عن المنهي عنه. فإن
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 291- 292(7/46)
خالفتم فما على الرسول إلا البلاغ في تحريم ما أمر بتحريمه، وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.
11- دلت آية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على أن من فعل ما أبيح له حتى مات على فعله، لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع، فلا حاجة للتخوف ولا للسؤال عن حال من مات، والخمر في بطنه وقت إباحتها. وهذه الآية نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى، فنزلت:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
12- دل حديث البخاري المتقدم عن أنس في سبب نزول هذه الآية المتضمن أن الخمر كان من الفضيخ (المتخذ من البسر) : على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره.
13- ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه، حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حدّ. فأما المستخرج من العنب، المسكر النيء: فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره، ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف أبو حنيفة وأبو يوسف في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار، وفي المطبوخ المستخرج من العنب، فأباحا القليل غير المسكر. والمعتمد في الفتوى هو رأي محمد رحمه الله بتحريم القليل والكثير من كل مسكر،
للحديث المتقدم الذي رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما عن ابن عمرو: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
واتفق الحنفية على أن الحد في غير الخمر لا يجب إلا بالإسكار.(7/47)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
14- قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات، فضله بأجر الإحسان.
الصيد في حالة الإحرام وجزاء صيد البر
[سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
الإعراب:
لَيَبْلُوَنَّكُمُ: يبلونّ: فعل مضارع مبني، وإنما بني لاتصاله بنون التأكيد لأنها أكّدت فيه الفعلية، فردّته إلى أصله، والأصل في الفعل البناء.
مِنَ الصَّيْدِ: من: إما للتبعيض لأن المحرّم صيد البر خاصة، أو لبيان الجنس لأنه لما قال: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ لم يعلم من أيّ جنس هو، فبيّن فقال: مِنَ الصَّيْدِ.
بِالْغَيْبِ حال أي غائبا.
مُتَعَمِّداً حال من الضمير المرفوع في قَتَلَهُ. فَجَزاءٌ: مبتدأ وخبره محذوف وتقديره: فعليه جزاء. مِنَ النَّعَمِ صفة جزاء، وتتعلق بالخبر المحذوف وهو فعليه ويجوز أن تتعلق ب يَحْكُمُ ويجوز أن تتعلق بالمصدر وهو فَجَزاءٌ وتعدّى بمن إلى النّعم. هَدْياً(7/48)
حال من هاء بِهِ والضمير يعود للجزاء. بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لهدي وهو نكرة لأن الإضافة فيه في نية الانفصال لأن التنوين فيه مقدر وتقديره: بالغا الكعبة.
أَوْ كَفَّارَةٌ: عطف على جزاء. طَعامُ مَساكِينَ إما بدل من كَفَّارَةٌ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: أو كفارة هي طعام.
صِياماً تمييز منصوب.
مَتاعاً لَكُمْ منصوب على المصدر لأن قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ بمعنى: أمتعتكم به إمتاعا، فأقيم متاعا مقامه لأنه في معناه.
المفردات اللغوية:
لَيَبْلُوَنَّكُمُ ليختبرنكم، والابتلاء: الاختبار. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ أي يكون في متناول اليد، وهو صغار الصيد. وَرِماحُكُمْ أي تصطاده الرماح وهو كبار الصيد، وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم، والمراد به كثرة الصيد وسهولة أخذه.
لِيَعْلَمَ اللَّهُ يظهر علمه. حُرُمٌ محرمون بحج أو عمرة. فَجَزاءٌ فعليه جزاء.
مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي شبهه في الخلقة، والنعم: الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ رجلان عادلان لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة، وابن عباس وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة، وحكم بالشاة أيضا ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها.
بالِغَ الْكَعْبَةِ أي يبلغ به الحرم، فيذبح فيه ويتصدق به على مساكين الحرم، ولا يجوز أن يذبح حيث كان.
أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أي، أو عليه كفارة غير الجزاء وإن وجده هي طَعامُ مَساكِينَ من غالب قوت البلد: ما يساوي قيمة الجزاء، لكل مسكين مد. أَوْ عَدْلُ مساو له مما يدرك بالعقل، وبكسر العين: مساو له مما يدرك بالحس.
وَبالَ أَمْرِهِ ثقل جزاء أمره الذي فعله، أي عاقبة أمره الثقيلة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد قبل تحريمه. عَزِيزٌ غالب على أمره. ذُو انْتِقامٍ أي ينتقم ممن عصاه.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أبيح لكم أيها الناس حلالا كنتم أو محرمين، وصيد البحر: ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة، والمراد بالبحر: الماء الكثير الذي يعيش فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها، أي أحل لكم أن تأكلوا صيد البحر، وهو ما لا يعيش إلا فيه كالسمك، بخلاف ما يعيش فيه(7/49)
وفي البر كالسرطان. وَطَعامُهُ ما قذف به ميتا إلى ساحله أو طفا على وجه الماء. مَتاعاً تمتيعا. لَكُمْ تأكلونه. وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين منكم يتزودونه، جمع سيار: وهو المسافر.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو ما يعيش في البر من الوحش المأكول، وحرم أن تصيدوه.
ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين، فلو صاده حلال، فللمحرم أكله في رأي جمهور العلماء، كما بينت السنة، إذا لم يصد له ولا من أجله. وأجاز الحنفية للمحرم أكل الصيد على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. تُحْشَرُونَ تجمعون وتساقون إليه يوم الحشر.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل: أنها نزلت في عمرة الحديبية، حيث ابتلاهم الله بالصيد، وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها، أخذا بأيديهم، وطعنا برماحهم، وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
وجه النظم والربط بين الآيات أنه تعالى قال: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ثم استثنى الخمر والميسر من ذلك، فصارا من المحرمات، لا من المحللات، ثم استثنى أيضا نوعا آخر وهو هذا النوع من الصيد: وهو صيد الإحرام، وبيّن جزاءه، فصار مستثنى مما أحل الله، داخلا فيما حرمه ومنعه على المؤمنين.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد، أو ببعض الصيد وهو صيد البر، تأخذونه بالأيدي أو تصطادونه بالرماح، وهو بيان لحكم صغار الصيد وكباره. وخص الأيدي والرماح لأن الصيد يكون بهما غالبا. وتنكير قوله: بِشَيْءٍ للتحقير. وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير(7/50)
تنبيها على أن من لم يثبت أمام هذه الأشياء، علما بأن الصيد طعام لذيذ شهي وخصوصا في الأسفار، فكيف يثبت عند شدائد المحن؟! والامتحان بترك ما ينال بسهولة، وهو طيب، أشق على النفس وأدل على التقوى والخوف من الله، من ترك ما لا ينال إلا بمشقة، وهو قليل الأهمية.
وكذلك يكون الصيد بالفخ والحبالة ونحوها من الوسائل، وما وقع فيها يكون لصاحبها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد كان صاحبها شريكه فيه.
ثم بيّن الله تعالى سبب الابتلاء أو الاختبار بقوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي يبتليكم الله حال إحرامكم ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته أنه حاصل منهم في حال الحياة، وأن صلابة الإيمان تظهر الخوف من الله تعالى في حال أسر والخفية كما في حال الجهر والعلانية. والخلاصة: إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر، وإن كان هو عالما به منذ الأزل، لتزكية النفوس وتطهيرها وصقلها.
فَمَنِ اعْتَدى ... أي فمن تجاوز حدود الله بعد هذا البيان الشافي في الصيد، فله عذاب شديد الألم في الآخرة إذ هو لم يبال باختبار الله له لأن المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة.
ثم حرم الله تعالى صيد البر حال الإحرام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وهذا النهي العام لكل مسلم ذكر وأنثى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة: لَيَبْلُوَنَّكُمُ.
فيا أيها الذين صدقوا بالله والرسول والقرآن، لا تقتلوا صيد البر- والقتل يشمل كل ما يزهق الروح- وأنتم محرمون بحج أو عمرة، لا بالمباشرة ولا بالتسبب كالإشارة والدلالة، ولا في حرم مكة والمدينة وإن لم تكونوا محرمين كما ثبت في(7/51)
السنة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لبعض أصحابه: هل أشرتم؟ هل دللتم؟ قالوا: لا، قال:
إذن فكلوا.
فهذه الآية تدل على أن المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه، وعلى أن الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم.
ويرى الجمهور أنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله
لما رواه النسائي والترمذي والدارقطني عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» .
ورأى الحنفية: أن أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم،
ولحديث البهزي- واسمه زيد بن كعب- في رواية مالك وغيره عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر، فقسمه في الرّفاق.
وحديث أبي قتادة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «إنما هي طعمة أطعمكموها الله» فقد أكل النّبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي.
والمراد بالصيد: المصيد، لقوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ واختلف العلماء في المراد بمدلوله، فذهب الحنفية إلى أن المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا، سواء أكان مأكولا أم غير مأكول لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه، وقد كانت العرب تصطاد، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم.
وخصه الشافعية بالمأكول لأنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن، وكونه ليس بصيد لأن الصيد: ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ(7/52)
الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً
هذا ما ذكره الفخر الرازي دليلا للشافعي، وهو في الواقع دليل ضعيف لأن هذه الآية إن دلت على شيء، فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول لأن قوله: مَتاعاً لَكُمْ أي نفعا أعم من أن يكون من طريق الأكل أو من طريق الحلية مثلا.
وذكر الرازي أيضا دليلا آخر للشافعي وهو
الحديث المشهور الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خمس فواسق ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور»
هذا اللفظ للبخاري،
وفي رواية «السبع الضاري»
وفي رواية مسلم: «يقتلن في الحل والحرم» . وفيها: «والغراب الأبقع»
والسبع الضاري نص في المسألة، ووصفت بكونها فواسق، وحكم بحل قتلها، وذكر هذا الحكم عقب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها، والفسق: الإيذاء، وهي موجودة في السباع، فوجب جواز قتلها «1» . ويناقش هذا الدليل بأنه لا يصلح حجة على الحنفية القائلين: إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول، لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق لأنها فواسق، لا لأنها ليست بصيد ولا لأنها غير مأكولة.
وبه يظهر أن ما أورده الرازي دليلا للشافعي من القرآن والخبر لا يصلح دليلا للدعوى، وإنما الذي يصلح دليلا أن يثبت أن الصيد خاص بالمأكول، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة للشافعية، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص.
وقوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ لفظ عام يشمل كل صيد بري وبحري،
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 87(7/53)
لكن جاء قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فأباح صيد البحر مطلقا.
ثم بيّن الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ ... أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم، متعمدا قتله، فعليه جزاء من الأنعام، مماثل لما قتله في الهيئة والصورة إن وجد، وإن لم يوجد المثيل فتجب القيمة.
والمماثل للنعامة بدنة (ناقة) ولحمار الوحش بقرة، وللظبي شاة، وفي الطير قيمته، إلا حمام مكة، فإن في الحمامة شاة، اتباعا للسلف في ذلك.
روى الدارقطني عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة «1» » .
ويلاحظ أن ظاهر الآية ترتيب الجزاء على القتل العمد، لكن يرى الجمهور غير أحمد أن الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا، سواء تعمد القاتل قتله أو أخطأ فيه، وسواء كان متذكرا إحرامه أم ناسيا، عملا بالثابت في السنة النبوية.
وإنما خص العمد بالبيان القرآني لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك، دون الخطأ. ويرى أحمد في رواية عنه: أنه لا شيء على المخطئ والناسي، لأنه لما خصّ تعالى المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه.
والمراد بالمثل في رأي ابن عباس ومالك والشافعي ومحمد بن الحسن والإمامية: هو النظير، لأن الله أوجب مثل المقتول مقيدا بكونه من النّعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات
__________
(1) العناق: الأنثى من ولد المعز قبل بلوغ السنة، والجفرة: الأنثى من ولد الضأن البالغة أربعة أشهر.(7/54)
التي تماثل المقتول، فلا تجب القيمة، لأنها ليست من النعم. وأوجب عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم من الصحابة في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، ونحو ذلك.
ورأى أبو حنيفة وأبو يوسف أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا، وتقدر القيمة في مكان الصيد وفي زمانه، لأن القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان، لأن الله أوجب مثل المقتول مطلقا، والنظير متعذر، فينتقل إلى المثل في المعنى، وقد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] والمراد من المثل: النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات.
والحيوانات من القيميات، فتجب قيمتها، والأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلفت أنواعه، وقد أهدر الشرع في ضمان المتلفات المماثلة في الصورة. ويؤيد الحنفية قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فإن اللجوء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف فيه الأنظار والخبرات، وذلك في القيمة.
ثم قال تعالى عن تقدير الجزاء: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي يحكم بالجزاء من النعم في المثل أو بالقيمة في غير المثل على رأي الجمهور رجلان مؤمنان عدلان، لأن تحديد المماثلة بين الصيد ومثيله يحتاج لتقدير خبيرين، لخفائه على أكثر الناس.
ويذبح المثل في الحرام المكي لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أي إن الجزاء يكون هديا (شاة أو كبشا مثلا) وأصلا إلى الكعبة، ويذبح في جوارها، ويوزع لحمه على مساكين الحرم. فالمراد بالاتفاق: وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرّق لحمه على مساكين الحرم.(7/55)
ثم رخص الشرع فخيّر بين ذبح الهدي أو إطعام المساكين أو الصيام، فقال تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي إن قاتل الصيد مخير بين الالتزام بمماثل من النعم، أو بإخراج كفارة هي طعام مساكين لكل مسكين مد بقدر قيمة الصيد. أو بما يعادل ذلك الطعام من الصيام. والقول بالتخيير هو المقرر في المذاهب الأربعة، لظاهر أَوْ التي هي للتخيير، لكن التخيير في رأي الحنفية محصور بالقيمة، فيخير المحكوم عليه بالقيمة: إن شاء اشترى بها هديا فذبح بمكة، وإن شاء اشترى بها طعاما، فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير، وإن شاء صام يوما عن كل من نصف صاع البر أو صاع التمر والشعير، والحكمان في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: يقدران قيمة الجزاء من هدي أو طعام أو صيام، وقاتل الصيد مخير بفعل أي خصلة. وقال محمد بن الحسن والشافعي: بل الخيار للحكمين، ومتى حكما بشيء التزمه القاتل.
والمراد من الكعبة: الحرم، وإنما خصت بالذكر للتعظيم، فلو ذبح الهدي في غير الحرم كان إطعاما، والإطعام يجوز في الحرم وفي غيره. ويرى الشافعي أن الإطعام يكون في الحرم كالهدي. وهذا لم تتعرض له الآية.
وعلل تعالى إيجاب الجزاء بقوله: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي شرعنا الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره أي ثقل فعله وسوء عاقبة أمره وهتكه لحرمة الإحرام.
والماضي معفو عنه: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي لم يجعل إثما فيما وقع منكم في الجاهلية أو قبل هذا التحريم من قتل الصيد في حال الإحرام، ولم يؤاخذكم عليه.
ولكن وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد هذا النهي، فإن الله ينتقم منه في الآخرة لإصراره على المخالفة والذنب.(7/56)
وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على أمره فلا يغلبه العاصي ذُو انْتِقامٍ يعاقب من اقترف الذنب بعد النهي عنه.
وأوجب الجمهور الكفارة على العائد، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل، لأن عذابه في الآخرة لا يمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا.
وتدل الآية على أن الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر استحق المذنب جزاء الدنيا (الكفارة) والآخرة (نار جهنم) .
وأما صيد البحر فحلال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ أي أبيح لكم صيد البحر، أي اصطياده، وطعامه الذي يلقيه، فيجوز للمحرم تناول ما صيد من البحر، سواء كان حيا أو ميتا، قذفه البحر أو طفا على وجه الماء، أو انحسر عنه الماء، فهو
كما أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة: «الطهور ماؤه، الحل ميتته» .
مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي أحللنا لكم ذلك لتنتفعوا به، مقيمين ومسافرين، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج، ومن كان مسافرا فليأكل من الطازج إن كان سفره في البحر، أو من المحفوظ أو المثلّج إن كان سفره في البّر، وصيود البحر فيها منفعة ومتعة في السفر والحضر، سواء بالأكل أو بالادخار، أو بالانتفاع بمنافع أخرى غير الأكل كاصطياد اللآلئ أو أخذ الزيت وما قد يفيد من العظم والسن والعنبر.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أما صيد البر من الوحش والطير:
وهو ما يكون توالده ومثواه في البر، مما هو متوحش بأصل خلقته، فحرام ذاته واصطياده منكم ما دمتم محرمين، لا ما صاده غيركم، فلا مانع من أكل ما صاده غيركم أو صدتموه وأنتم حلال في غير الإحرام. وقد عرفنا أن الجمهور يجيزون أكل المحرم الصيد البري إذا لم يصد له ولا من أجله،
للحديث المتقدم: «صيد البر لكم حلال(7/57)
ما لم تصيدوه، أو يصد لكم» .
وتوسع الحنفية فأجازوا أكل الصيد للمحرم على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد من أجله، عملا بظاهر الآية،
وبما رواه محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله: «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم نائم، فارتفعت أصواتنا، فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: فيم تتنازعون، فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم، فأمرنا بأكله»
وروى مسلم من حديث أبي قتادة قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجا، وخرجنا معه، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني، قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قيل:
يا رسول الله، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة، فإنه لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فأصاب منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، قال: فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون؟» إلخ القصة، وفيها: «أنهم استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء، قال: لا، قال: فكلوا» .
ثم ختم الله تعالى بيان حكم الصيد حال الإحرام بالأمر بالتقوى، كما هو الشأن الغالب في تبيان الأحكام، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي اتقوا فيما نهاكم عنه من الصيد ومن جميع المعاصي كالخمر والميسر، واخشوه واحذروه بطاعته فيما أمركم به من الفرائض، فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر، ومصيركم ومرجعكم إليه، فيحاسبكم حسابا عسيرا، يعاقب العاصي، ويثيب الطائع. وهذا تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، والتذكير بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- الدنيا كلها دار ابتلاء واختبار، وقد اختبر الله تعالى المؤمنين ليمتحن مدى صلابتهم في التمسك بأحكام دينهم وأصول شرعهم، اختبرهم بالصيد مع(7/58)
الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، ومصدر رزق ومتعة وتسلية، وذلك كما اختبر بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت، فاحتالوا يوم الجمعة على صيد السمك بإقامة حواجز أمام حركة الجزر البحري بعد المد الحامل للسمك، ثم أخذوا ما حجز يوم الأحد، أما المؤمنون فقد امتثلوا المنع والحظر.
2- الصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلّهم ومحرمهم، لقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة.
3- احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن الصيد للآخذ لا لمن أثاره (المثير) لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا.
4- كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ يعني أهل الإيمان، لأن صدر الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه الجمهور، لقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ والصيد عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب المالكية بأن الآية تضمنت أكل طعامهم، والصيد نوع أخر، فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه. لكن هذا الجواب ضعيف، لأن الصيد كان مشروعا عند أهل الكتاب، فيجوز لنا أكله، لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم كما ذكر القرطبي.
5- هل يجوز للمحرم ذبح الصيد؟ قال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ فصار المحرم ليس أهلا لذبح الصيد. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد جائز، لأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام، فأفاد مقصوده من حلّ الأكل، كذبح الحلال.(7/59)
6- هل تستثنى السباع من صيد البر؟ للعلماء آراء ثلاثة:
قال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها، فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. ولا بأس بقتل كل ما عدا ذلك على الناس في الأغلب، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديا» .
والخلاصة: أنه لا بأس بقتل المذكور في هذا الحديث ويقاس عليها السباع.
وأما قاتل الزّنبور والبرغوث والذباب والنمل ونحوه فيطعم قاتله شيئا في رأي مالك. وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما، وإن قتل غيره من السباع فداه، فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه. ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحداة، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم خص دوابّ بأعيانها، وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها. والخلاصة: لا بأس بقتل المذكور في الحديث، ولا يقاس عليها السباع.
أما الذئب فهو كالكلب.
وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه، فللمحرم أن يقتله، وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السّمع وهو المتولد بين الذئب والضبع. وليس في الرّخمة والخنافس والقردان والحلم (الصغيرة من القردان) وما لا يؤكل لحمه شيء، لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فدل أن الصيد الذي حرّم عليهم: ما كان قبل الإحرام حلالا. أما القملة فتفدى(7/60)
وإن كانت تؤذي، لأنها مثل الشعر والظفر ولبس المخيط، لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. والخلاصة: كل ما يؤذي مما ذكر في الحديث ونحوه من السباع، وكذا الخنافس والقردان لا شيء في قتله.
6- صيد الحرم المكي والمدني: أي حرم مكة وحرم المدينة، وزاد الشافعي حرم الطائف: لا يجوز قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك أثم ولا جزاء عليه في مذهبي مالك والشافعي، ودليل التحريم
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرّم المدينة مثل ما حرّم به مكة، ومثله معه، لا يختلى خلاها «1» ، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها»
ودليل عدم أخذ الجزاء: عموم
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو أوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا «2» »
فأرسل صلّى الله عليه وسلّم الوعيد الشديد، ولم يذكر كفارة.
وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرّم، وكذلك قطع شجرها،
لحديث سعد بن أبي وقاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها، فخذوا سلبه»
أي ما يكون معه من متاع وسلاح، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا
بحديث أنس: «ما فعل النّفير؟»
فلم ينكر صيده وإمساكه.
__________
(1) الخلى: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.
(2) عير: جبل بناحية المدينة. وأما ثور فهو جبل بمكة، وذكره هنا وهم من الراوي وخطأ.
والصرف: التوبة، والعدل: الفدية.(7/61)
قال القرطبي: وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السّلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم.
7- ذكر الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد، والمتعمد: هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، ولم يذكر المخطئ والناسي، والمخطئ: هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي: هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.
فاختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: منها قول الجمهور: يجب الجزاء على قتل صيد الإحرام مطلقا، ذاكرا أم ناسيا، وقد ثبت وجوب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة أي بما ورد من الآثار عن عمر وابن عمر، ولأن الله تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له،
ولأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الضّبع فقال: «هي صيد»
وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقوله: «متعمدا» خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.
وقال أحمد في رواية عنه والطبري: لا شيء على المخطي والناسي، عملا بالنص القرآني.
8- حالة العود أو التكرار: إن قتل المحرم في إحرامه شيئا من الصيد، ثم عاد إلى القتل مرة أخرى، فعليه في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم) الجزاء كلما قتل، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... الآية.. فالنهي دائم مستمر عليه، ما دام محرما، فمتى قتله، فالجزاء لأجل ذلك لازم له.
9- دل قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ على أن الواجب(7/62)
عليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النّعم. وهذا مؤيد لرأي الجمهور غير أبي حنيفة وأبي يوسف، كما تقدم في تفسير الآية.
والجزاء إنما يجب بقتل الصيد، لا بنفس أخذه، كما قال تعالى، فمن أخذ الصيد ثم حبسه بعد أن نتف ريشه أو قطع شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد، فلا شيء عليه في مذهب مالك.
10- جزاء الصيد شيئان: دواب وطير، فيجزى عند الشافعي ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة: بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش: بقرة، وفي الظبي: شاة، أي أن المثل في رأيه هو الأصل في الوجوب إن وجد، فإن عدم يقوم المثل وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء في المتلفات.
وأقل ما يجزئ عند مالك: ما استيسر من الهدي وكان أضحية، وذلك كالجذع من الضأن، والثّنيّ مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك، ففيه إطعام أو صيام، وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة، فإن في الحمامة منه شاة، اتباعا للسلف في ذلك.
وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوّم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري الصائد بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين، كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير أو تمر.
11- من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام، فماتت، فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره، وفي بيض النعامة عشر ثمن البدنة، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن الشاة. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة، بدليل
ما أخرج الدارقطني عن كعب بن عجرة أن النبي(7/63)
صلّى الله عليه وسلّم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه.
وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في كل بيضة نعام: صيام يوم أو إطعام مسكين» .
وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة: فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره، ولأن العلماء أجمعوا على اعتبار القيمة فيما لا مثل له.
12- قال الشافعي والحسن البصري: إذا اتفق الحكمان لزم الحكم، وإن اختلفا نظر في غيرهما، ولا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام، لأنه أمر قد لزم. وقال مالك: يخيّر الحكمان قاتل الصيد كما خيّره الله في أن يخرج هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خيّر في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.
13- هل يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين؟ فيه رأيان:
قال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، لأن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين، ولأنه قد يتهم في حكمه لنفسه.
وقال الشافعي وأحمد: يكون الجاني أحد الحكمين لعموم الآية، ولأن عمر فيما رواه ابن جرير حكّم معه جانيا محرما قتل ظبيا، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر.
14- إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد، فقال مالك وأبو حنيفة:
على كل واحد جزاء كامل، لأن قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً، فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد اتفاقا.(7/64)
وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة، لقضاء ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس بذلك، روى الدارقطني أن موالي لابن الزبير قتلوا ضبعا، فحكم عليهم ابن عمر بكبش.
15- قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم المكي، وكلهم محلّون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم، على كل واحد جزاء كامل. ودليله أن الجناية في الإحرام على العبادة قد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلّون صيدا في الحرم، فإنما أتلفوا دابة محرمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة، فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة.
وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام. قال ابن العربي:
وأبو حنيفة أقوى منا.
16- يرى المالكية أن الحكمين إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويرسل من الحلّ إلى مكة. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل، وإنما يبتاع في الحرم ويهدى فيه. واتفقوا على أنه ينحر في مكة ويتصدق به فيها، لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ولم يرد الكعبة بعينها، فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم.
أما الإطعام فيكون في رأي المالكية الراجح في الحرم وغيره، وفي مذهب الشافعي: في مكة لأنه بدل عن الهدي، وفي رأي أبي حنيفة: بموضع الإصابة مطلقا، اعتبارا بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع.
17- الكفارة بإطعام مساكين إنما هي عن الصيد لا عن الهدي، فيقوم الصيد، وينظركم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل(7/65)
مد يوما، ويخير الجاني في رأي جمهور الفقهاء بين الخصال الثلاث (الهدي أو الإطعام أو الصيام) سواء كان موسرا أو معسرا، لأن أَوْ للتخيير.
وقال الحنفية: يتصدق على كل مسكين بنصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو شعير، والتخيير محصور بالقيمة، يشتري بها هديا أو طعاما أو يصوم.
ووقت تقدير قيمة المتلف مختلف فيه، فقال قوم وهو الصحيح عند المالكية: يوم الإتلاف، وقال آخرون: يوم القضاء، وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. والأرجح الرأي الأول، لأنه الوقت الذي تعلق به حق المتلف عليه.
18- الصيام في رأي الجمهور: يصوم عن كل مدّ يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين (نصف صاع) يوما، اعتبارا بفدية الأذى.
19- صيد البحر حلال لكل محرم، للآية: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ والمراد بالصيد هنا المصيد، وأضيف إلى البحر، لأنه السبب، وأما طعام البحر فهو ما لفظه البحر أو ألقاه.
ويؤكل في رأي الجمهور كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، سواء اصطيد أو وجد ميتا أو كان طافيا،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر فيما رواه مالك والنسائي وغيرهما: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته»
وأصح ما في الموضوع من جهة الإسناد
حديث جابر في الحوت الذي يقال له «العنبر» خرجه الصحيحان، وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه، فأكله» .
وقال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي، ويؤكل ما سواه من السمك،(7/66)
ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك لعموم قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
ولما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا ما حسر «1» عنه البحر وما ألقاه، وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه»
قال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبد العزيز ضعيف لا يحتجّ به.
20- الحيوان البرمائي: اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر، هل يحل صيده للمحرم أم لا؟
قال مالك: كل ما يعيش في البر، وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه. ويجوز عنده أكل الضفادع والسلاحف والسرطان، وقال في المدونة: الضفادع من صيد البحر «2» .
ولا يجوز أكل الضفادع في بقية المذاهب، ويجوز عند الشافعي أكل خنزير الماء وكلب الماء، ولا يجوز عنده التمساح ولا القرش والدّلفين «3» ، وكل ماله ناب
لنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب.
21- أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، لعموم قوله تعالى:
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً
ولما رواه الأئمة عن الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان، فرده عليه، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما في وجهه من الكراهة قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» .
__________
(1) حسر ونضب وجزر: بمعنى واحد.
(2) تفسير القرطبي: 6/ 320
(3) القرش: دابة مفترسة من دواب البحر المالح، والدلفين بالضم: دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل.(7/67)
22- ما يأكله المحرم من الصيد البري: قال الجمهور: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله،
لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم»
قال الترمذي: هذا أحسن حديث في الباب. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه.
وقال الحنفية: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال سواء صيد من أجله أو لم يصد، لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي وبحديث أبي قتادة المتقدمين.
وقال علي وابن عباس وابن عمر: لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، لعموم قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً
قال ابن عباس: هي مبهمة، ولحديث الصعب بن جثّامة الليثي المتقدم. ووجه هذا الحديث في رأي الجمهور: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ظن أن هذا إنما صاده من أجله، فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة السابق ذكره «1» .
23- إذا أحرم شخص وبيده صيد أو في بيته عند أهله، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وجه القول بإرساله: قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وهذا عام في الملك والتصرف كله.
ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام، فلا يمنع من استدامة ملكه.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 103 وما بعدها.(7/68)
24- إن صاد الشخص الحلال صيدا في الحل، فأدخله الحرم، جاز له في مذهب المالكية التصرف فيه بكل نوع، من ذبحه، وأكل لحمه لأنه معنى يفعل في الصيد، فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء، ولا خلاف فيها. وقال أبو حنيفة: لا يجوز.
25- إذا دلّ المحرم حلالا على صيد، فقتله الحلال فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد: عليه الجزاء لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض، فيضمن بالدلالة كالوديع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة.
وإذا دل المحرم محرما آخر، فقال الحنفية وأشهب من المالكية: على كل واحد منهما جزاء،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي قتادة: «هل أشرتم أو أعنتم؟»
وهذا يدل على وجوب الجزاء.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم قاتل لقوله تعالى:
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم، كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. قال القرطبي: وهذا أصح.
26- إذا كانت شجرة نابتة في الحل، وفرعها في الحرم، فأصيب ما عليه من الصيد، ففيه الجزاء، لأنه أخذ في الحرم. وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل، ففيه قولان عند المالكية: الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع.(7/69)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
مكانة البيت الحرام والشهر الحرام وشأن الهدي والقلائد
[سورة المائدة (5) : آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
الإعراب:
الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك قِياماً مفعول جَعَلَ الثاني.
ذلِكَ لِتَعْلَمُوا: ذلِكَ إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك.
وإما منصوب على تقدير: فعل ذلك لتعلموا.
البلاغة:
الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ أي البدن ذوات القلائد، وهو عطف خاص على عام لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج معها أظهر، على حد تعبير الزمخشري (الكشاف: 1/ 485- 486) .
المفردات اللغوية:
جَعَلَ اللَّهُ إما جعلا تكوينيا خلقيا أو تشريعيا الْكَعْبَةَ هي البيت المربع المرتفع، الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما السلام، وسميت كعبة لعلوها وارتفاع شأنها وتربيعها، وأكثر بيوت العرب مدورة.
قِياماً لِلنَّاسِ ما يقوم به أمرهم ويصلح شأنهم من أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بتوفير الأمن فيه لداخله وعدم التعرض له، وجبي ثمرات كل شيء إليه. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، قياما لهم بأمنهم من القتال فيها وَالْهَدْيَ ما يهدي إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه وَالْقَلائِدَ أي ذوات القلائد من الهدي: وهي الأنعام التي كانوا يضعون القلادة على أعناقها إذا ساقوها هديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها. والهدي والقلائد قيام للناس بأمن صاحبهما من التعرض له ذلِكَ لِتَعْلَمُوا.. الجعل المذكور لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.(7/70)
المناسبة:
قال الرازي: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة «1» .
التفسير والبيان:
صيّر الله الكعبة التي هي البيت الحرام لتكون سببا لقوام الناس في إصلاح أمورهم دينا ودنيا، حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا، فيه يأمن الخائف وينجو اللاجئ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت 29/ 67] ، وبه يطعم البائس الفقير بجعل مناسك الحج سببا لعمارة واد غير ذي زرع، وإلا لما أقام فيه أحد، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا، والحسنات فيه مضاعفة لتشتد رغبة الناس فيه، كما أن اجتماع الناس من أقطار بعيدة فيه يحقق منافع دنيوية كثيرة لا تحققها المؤتمرات الحالية، وكذلك تحقق أعمال الحج منافع: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ دينية بالتجرد عن مظاهر الدنيا، والتقرب إلى الله، واتقاء محظوراته، والمبادرة إلى امتثال أمره، وتذكر أهوال المحشر بالتجرد والاجتماع، والوقوف بين يدي الله، فتشتد الخشية ويعظم الخوف، ويحظى الناس بالخير والسعادة، والراحة والطمأنينة. قال سعيد بن جبير: «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة، أصابه» .
وقال ابن زيد في هذه الآية التي جعل الله فيها هذه الأربعة قياما للناس:
كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 99، ط بيروت.(7/71)
بعض، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد، فلو لقي الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه، فلا يعرض له «1» .
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على الكعبة، أي وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس، أي فيه صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم، وتهدأ النفوس، وتخمد نار الحروب، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القربى، وتحصيل الأقوات كفاية العام.
وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ جعلهما الله أيضا قياما للناس فيذبح الهدي المسوق إلى الحرم، والإبل المقلدة بلحاء الشجر حتى لا يتعرض لها بسوء، فتكون نسكا لمن قدّمها تقوّم له دينه، وتكفر ذنبه، وتطهر نفسه وماله، وتجعله آمنا على نفسه، وتفرّق لحومها على الفقراء، فتكون سببا لغناهم ودفع غائلة الجوع والفقر عنهم لأن الله أوقع في قلوب الناس تعظيم البيت الحرام، فكل من قصده أصبح آمنا من جميع المخاوف.
وذلك الجعل المذكور والتدبير اللطيف بتشريع الحج وما فيه من مناسك ومنافع دليل على أن الله تعالى عالم بكل ما في السموات والأرض من أسرار وأوضاع حالية أو مستقبلية، وتشريع تلك التشريعات لحكم يعلمها الله، والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير، سرّ أو علن، باطن أو ظاهر.
والحق أن موسم الحج لو استفيد منه لحقق- فضلا عن تطهير النفوس وتزكيتها وغسل الذنوب والتخلص منها- منافع كثيرة جدا من الناحية العامة، فهو دعامة للإسلام، وسبب لتقوية أواصر الصلات، وتنمية الشعور بنعمة الأخوة الإسلامية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات 49/ 10] وإذكاء روح الدين
__________
(1) - تفسير الطبري: 7/ 50(7/72)
والتعاون بين جميع المسلمين دولا وشعوبا وأفرادا في المشارق والمغارب، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية.
فقه الحياة أو الأحكام:
لا بد في حياة الأمم والشعوب والأفراد من فترات راحة واستجمام، وإحساس بالأمن والاطمئنان والاستقرار، فكان من حكمة الله تعالى أن جعل البيت الحرام والحرم كله والشهر الحرام، وذبائح الهدي والقلائد قياما للناس، لصلاح أمر دينهم ودنياهم، وقد أوضحت أحوالها.
وذلك لأن الناس مخلوقون بغرائز، منها التحاسد والتنافس، والتقاطع والتدابر، وهي تحملهم على تسخين أجواء حياتهم إما بالتقاتل والتنازع الداخلي، وإما بالمعارك والحروب الخارجية، فكان لا بد من فترات فاصلة تذكرهم بضرورة العودة إلى التآلف والتوادد، والسلام والأمن، وردّ الظالم عن المظلوم، وهذا يحدث عادة وفي كل زمان بالمصالحات والمهادنات، وفي الماضي بفترات الأشهر الحرم، وقد نسخ ذلك، ولكن تعظيم البيت الحرام وجعله حرما آمنا ما يزال قائما. أما في الداخل فلا بد لهم من خليفة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة 2/ 30] ليحقق التناصف والعدل، ويقضي بين الخصوم، ويعاقب الجناة، وينشر السلم والأمن، ويرعى الحرمات ويدفع الخطر عن البلاد والعباد، روى ابن القاسم عن مالك: أن عثمان رضي الله عنه كان يقول: «ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن» .
فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، والله لطيف بالعباد.(7/73)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب
[سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 100]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
البلاغة:
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أطلق اسم المصدر وأراد به التبليغ للمبالغة، فهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ بينهما طباق. قال الزمخشري: وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديئهم.
المفردات اللغوية:
شَدِيدُ الْعِقابِ لأعدائه غَفُورٌ لأوليائه رَحِيمٌ بهم تُبْدُونَ تظهرون من العمل وَما تَكْتُمُونَ تخفون منه، فيجازيكم به الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الحلال والحرام والحسن والقبيح والجيد والرديء وَلَوْ أَعْجَبَكَ سرّك فَاتَّقُوا اللَّهَ في ترك الخبيث وفعل الطيب الْأَلْبابِ العقول تُفْلِحُونَ تفوزون.
سبب النزول: نزول الآية (100) :
قُلْ لا يَسْتَوِي:
أخرج الواحدي والأصبهاني في الترغيب عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر تحريم الخمر، فقام أعرابي فقال: إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاعتقبت منها مالا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله(7/74)
تعالى؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يقبل إلا الطيب، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وفي رواية أخرى: «إن الله عز وجل حرّم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب، إلا إن الخمر لعن شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها، فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله، إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاقتنيت من بيع الخمر مالا، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟
فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيّب» «1» .
المناسبة:
حذرنا الله تعالى في الآية السابقة من انتهاك حرمة أربعة أشياء ببيان سعة علم الله المحيط بكل شيء، ثم نبّه في هذه الآيات على عقوبة المخالفة، وأن الرسول لا يملك الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ، وأن الحكمة والعدل يقضيان بالتمييز بين الطيب والخبيث أو البر والفاجر.
التفسير والبيان:
اعلموا أيها الناس أن الله الذي لا تخفى عليه خافية، شديد العقاب لمن خالف أوامره فأشرك بالله وفسق وعصى ربه، وهو غفار لذنوب من أطاعه رحيم به، فلا يؤاخذه بما سبق إيمانه ولا بما عمل من سوء بجهالة ثم تاب وأصلح عمله.
وهذا يقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف، وأنه تعالى لم يخلقنا عبثا، بل لا بد من جزاء العاصي، وإثابة الطائع.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 120، وللسيوطي.(7/75)
وفي تقديم العقاب على الرحمة دلالة على أن جانب الرحمة أغلب لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث، لذا قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة 5/ 15] وقد ذكر الله في هذه الآية أمام العقاب وصفين من أوصاف الرحمة، وهو كونه غفورا رحيما، قال الرازي: وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة «1» .
وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة، ثم يؤول أمر الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية إلى الله خالق الخلق الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يظهره الإنسان وما يكتمه في جوانح نفسه، فإذا بلّغ الرسول بقي الأمر من جانبكم.
وهذا وعيد شديد مؤكد لما سبق في الآية [97] : ذلِكَ لِتَعْلَمُوا وتهديد لمن يخالف أوامر الله، وإبطال لمخاوف المشركين من معبوداتهم الباطلة.
ولما زجر الله تعالى عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم أتبعه بالتكليف بقوله: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
فليس من الحكمة والعدل التسوية بين الجيد والرديء، وبين البر والفاجر، كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] وقال عز وجل: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية 45/ 21] .
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 102 [.....](7/76)
قل لهم أيها الرسول: لا يستوي أبدا الرديء والجيد، والضار والنافع، والفاسد والصالح، والحرام والحلال، والظالم والعادل، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو المفسدين أو الأموال الحرام كالربا والرشوة والخيانة، وقلة الطيب من الصالحين والأبرار وأهل الاستقامة! فاتقوا الله يا أهل العقول، واحذروا تسلط الشيطان عليكم، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد أو كثرة المال الحرام، فإن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر، وتقوى الله هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة، وإحراز خيري الدنيا والآخرة.
والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق من الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآية أن مهمة التكليف تنتهي بمجرد تبليغ الأحكام الشرعية، ويبقى أمر التزامها والوقوف عند حدودها على الإنسان المكلف بحمل الأمانة.
وفي التزام الطاعة واجتناب المعصية تكمن الخطورة، وتظهر البطولة، ويعرف مدى الجهاد الذي جاهد به الإنسان نفسه ليحملها على الاستقامة، ويحجبها عن الانحراف، وتقديرا لهذه المخاطر والمواقف الصعبة لاختيار الحل الأفضل، رغب الله تعالى في الطاعة ونفر من المعصية في هذه الآيات في أربعة مواضع: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
قُلْ: لا يَسْتَوِي فَاتَّقُوا اللَّهَ.
فأين يفر الإنسان من رقابة الله له وعلمه الشامل المحيط بكل شيء، أظهره أو أخفاه في قلبه؟(7/77)
وقد نقلت أقوال في تفسير الخبيث والطيب، فقيل: الحلال والحرام، وقيل: المؤمن والكافر، وقيل: الرديء والجيد، والصحيح كما قال القرطبي: أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصّور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة. قال الله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف 7/ 58] .
وقد استنبط علماء المالكية حكما طريفا من الآية لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وهو أن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن أي ببيع المبيع إلى آخر، ويرد الثمن على المشتري إن كان قبضه البائع، وإن تلف في يده ضمنه لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد، ويؤيد ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
وتطبيقات هذا المبدأ كثيرة في الفقه، منها: إذا بنى الغاصب في البقعة المغصوبة أو غرس، فإنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس، لأنه خبيث، ثم ردّها على صاحبها خلافا لقول أبي حنيفة: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود عن عروة بن الزبير: «ليس لعرق ظالم حق»
والعرق الظالم: أن يغرس الرجل في أرض غيره، ليستحقها بذلك.
والخطاب في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته، فإن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعجبه الخبيث.(7/78)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
الإعراب:
عَنْ أَشْياءَ هي ممنوعة من الصرف لأن الألف في آخرها للتأنيث، وهي اسم للجمع، وليست بجمع شيء. وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كبيت وأبيات. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه جمع شيء. بالتخفيف مثل طبيب وأطباء، وشريف وشرفاء. فال ابن الأنباري: والمختار هو الأول.
المفردات اللغوية:
إِنْ تُبْدَ تظهر تَسُؤْكُمْ تزعجكم لما فيها من المشقة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها قد عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن مسألتكم فلا تعودوا قَدْ سَأَلَها أي الأشياء قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي سأل عنها جماعة سابقون أنبياءهم، فأجيبوا ببيان أحكامها ثُمَّ أَصْبَحُوا صاروا.
سبب النزول:
تعددت أسباب نزول هذه الآية، منها سؤال اختبار وتعجيز، وتعنت واستهزاء وسخف، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن تكرار بعض الفرائض. فمن الأول:
ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول عن أنس بن مالك قال: خطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.
وروي أيضا عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون(7/79)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته:
أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ حتى فرغ من الآية كلها. وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة.
وأخرج البخاري أيضا عن أنس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: «النار» فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: «أبوك حذافة» .
ومن الثاني:
ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم» .
وفي رواية: «فأنزل الله هذه الآية» .
ومثل ذلك
روى أحمد والترمذي والحاكم عن علي قال: «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ فسكت، قالوا:
يا رسول الله، في كل عام؟ قال: لا، ولو قلت: نعم، لوجبت، فأنزل الله:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» .
وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر: لا مانع أن تكون نزلت في الأمرين، وحديث ابن عباس في ذلك أصح إسنادا. وقال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه: من أبوه؟ ومسألة سائله إذ قال: إن الله فرض عليكم الحج، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل.(7/80)
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أن مهمة الرسول مجرد البلاغ، ومهمة المبلّغين هي تنفيذ التكاليف والانقياد له، دون أن يكثروا عليه السؤال عما لم يبلغه لهم، ناسب أن ينهاهم صراحة عن السؤال فيما لا تكليف فيه، لئلا يكون ذلك سببا للإلزام بتكاليف ثقيلة، ومطالب جديدة شديدة.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله: لا تسألوا عن أشياء غيبية أو خفية أو لا فائدة منها، أو عن أمور دقيقة في الدين، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة.
وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة والشائكة أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن، يظهرها الله لكم على لسان رسوله. وقال ابن كثير: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق،
وقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرّم من أجل مسألته»
ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة، فسألتم عن بيانها، بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.
أي أن المسؤول عنها إما التكاليف الصعبة المنهي عن السؤال فيها، أو عن غيرها مما فيه لكم حاجة وقد نزل بها الوحي.
وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل(7/81)
وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» ورواه مسلم أيضا عن أبي هريرة بلفظ آخر.
قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال» التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف.
يفهم من ذلك أن السؤال لإيضاح المجمل الغامض من القرآن مباح، مثل السؤال عن البيان الشافي في تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة. أما السؤال عما لا يفيد أو عن حكم مسألة لم تحرّم أو لم يكلف بها المسلمون، أو عما لا حاجة إلى السؤال فيه وكان في الإجابة عنه زيادة كلفة ومشقة، فهو حرام.
عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي عفا الله عما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا الله عنه وسكت عليه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب، حليم لا يعاجلكم بالعقوبة على ما فرطتم أو قصّرتم فيه.
روى الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» .
ثم بيّن الله تعالى حالة بعض الأقوام السابقين مثل قوم صالح الذين سألوا عن مسائل ثم أهملوا حكمها، فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم، فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي بسببها، والمعنى: أني بينت لهم، فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم» .(7/82)
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية تنهى وتحرم كل أنواع الأسئلة «1» ما عدا السؤال عما ينفعهم أو يحتاجون إليه أو عن توضيح المجمل في القرآن أثناء تنزل الوحي، وقد نزلت جوابا عن جميع الأسئلة التي سئل عنها النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إما امتحانا له، وإما استهزاء.
وقد التزم الصحابة بعدئذ هذا الأدب فامتنعوا عن السؤال، واقتصروا على ما يبلغهم إياه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة 2/ 217] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة 2/ 222] وشبهه، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
أما الأسئلة الشرعية اليوم فجائزة للعلم والبيان، قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم، ونفى الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العيّ السؤال ومن سأل متعنتا غير متفقة ولا متعلم، فهو الذي لا يحلّ قليل سؤاله ولا كثيره «2»
__________
(1) وهي السؤال عما لا ينفع في الدين مثل: من أبي؟ والسؤال الزائد عن الحاجة كالسؤال عن الحج: أكل عام؟ والسؤال عن صعاب المسائل كما جاء في النهي عن الأغلوطات، والسؤال عن علة الحكم في التعبدات كالسؤال عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، وسؤال التكلف والتشدد في الدين كسؤال بني إسرائيل عن أحوال البقرة، وسؤال التعنت والإفحام، والسؤال عن المتشابهات مثل السؤال عن استواء الله.
(2) تفسير القرطبي: 6/ 323(7/83)
ومن أمثلة الأسئلة عما كانوا بحاجة إليه: أنه تعالى بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يذكر عدة المرأة التي لا حيض لها ولا حامل، فسألوا عنها فنزل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق 65/ 4] فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، فأما ما مسّت الحاجة إليه فلا. وبهذا يوفق بين أول الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.. وبين الجملة التالية: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فأول الآية نهي عن السؤال، والجملة التالية تبيح السؤال، والمعنى: وإن تسألوا عن غيرها فيما مسّت الحاجة إليه. فحذف المضاف، ولا يصحّ حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في عَنْها ترجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون 23/ 12] يعني آدم، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً [المؤمنون 23/ 13] أي ابن آدم لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم، دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال. والمعنى:
وإن تسألوا عن أشياء مما أنزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مسّت حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم «1» .
وقد عفا الله عن الأسئلة التي سلفت منهم قبل هذا النهي، فضلا من الله ورحمة، وإن كرهها النّبي صلّى الله عليه وسلّم فلا تعودوا لأمثالها.
وتغلب المقارنة والتذكير والعبرة في آي القرآن وسرد أحكامه كما فعل هنا بقوله: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وقوم موسى رؤية الله جهرة، وأصحاب عيسى المائدة. وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم.
__________
(1) المرجع والمكان السابق.(7/84)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
والتوفيق بين ما ذكر من كراهية السؤال والنهي عنه وبين قوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] : أن النهي منصب على ما لم يتعبد الله به عباده ولم يذكره في كتابه، والأمر موجه لما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب العمل به.
ما حرّمه الجاهليون من الماشية والإبل
[سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
المفردات اللغوية:
ما جَعَلَ ما شرع شيئا من هذه الأحكام التي كان العرب يفعلها في الجاهلية، ولا أمر بالتبحير والتسبيب وغير ذلك، ولكنهم يفترون ويقلدون في تحريمها كبارهم.
البحيرة هي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها، أي يشقونها شقا واسعا، إذا نتجت خمسة أبطن إناثا آخرها أنثى وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها. فإن كان آخرها ذكرا نحروه تأكله الرجال والنساء. وقيل: غير ذلك بأن آخرها ذكر.
والسائبة الناقة التي كانت تسيّب بنذرها لآلهتهم الأصنام، فتعطى للسدنة، وترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف.
والوصيلة الشاة أو الناقة التي تصل أخاها، فإذا بكرت في أول النتاج بأنثى كانت لهم، وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: غير ذلك.
والحامي: الفحل الذي يضرب في مال صاحبه فيولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون: حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.(7/85)
روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى، ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه، فلا يحمل عليه شيء، وسموه الحامي.
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يختلقون الكذب في ذلك، وفي نسبته إلى الله. وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أن ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم. إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ أي إلى حكمه من تحليل ما حرمتم. حَسْبُنا كافينا. ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والشريعة. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ استفهام إنكاري. وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحق.
المناسبة:
كما نهى تعالى ومنع الناس من السؤال والبحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، وبيّن ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه بغير إذن ربهم، وأن ذلك باطل، وأن التقليد باطل أيضا مناف للعلم والدين.
التفسير والبيان:
ما شرع الله أصلا تحريم هذه الأشياء الأربعة، وما حرّم البحيرة ولا السائبة، ولا الوصيلة، ولا الحامي، ولكن أهل الجاهلية بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب، حيث ما كانوا يفعلون ما يفعلون، وينسبونه إلى شرع الله، وأكثرهم لا يفعلون أن ذلك افتراء على الله، وتعطيل للعقل والفكر، وكفر ووثنية وشرك، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده.
وكان أول من حرم هذه المحرمات، وشرع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن لحيّ الخزاعي، فهو الذي غيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة وحمى الحامي.(7/86)
روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجرّ قصبه- أمعاءه- وهو أول من سيّب السوائب» «1» .
وروى الطبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه- أمعاءه- في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكثم: أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا، إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غيّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي» «2» .
ثم ناقشهم القرآن بقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا.. أي إذا قيل للمشركين: تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين، وإلى الرسول المبلّغ لها والمبين لمجملها، أجابوا: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون، ونحن لهم تبع.
فردّ الله عليهم مستفهما استفهاما إنكاريا: أيكفيهم ذلك، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات، ويشرعون لأنفسهم بحسب أهوائهم، من وأد البنات، وشرب الخمور، وظلم الأيتام والنساء، وارتكاب الفواحش والمنكرات، وشن الحروب لأتفه الأسباب، وإثارة العداوة والبغضاء.
وهذا تنديد بالتقليد الأعمى والتعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك،
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 107.
(2) تفسير الطبري: 7/ 56، ابن كثير، المكان السابق.(7/87)
كما قال تعالى في آيات كثيرة منها: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً، وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة 2/ 170]
فقه الحياة أو الأحكام:
الله تعالى خالق الخلق هو مصدر الشرائع والأنظمة كلها للناس، وكل شرع لم يشرعه الله فهو مرفوض، وقد نفى الله تعالى في هذه الآيات تشريع أهل الضلال في الجاهلية، وأعلن لهم: ما سمّى الله، ولا سنّ ذلك حكما، ولا تعبّد به شرعا، وإن علم به وأوجده بقدرته وإرادته خلقا، فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضرّ، وطاعة ومعصية.
ولو عقل الجاهليون لما فعلوا أصل الكفر والوثنية والشرك، ولما ضللوا أنفسهم بتحريم ما حرموا، فأي هدف يرتجى، وأي نفع يؤمّل، وأي مصلحة تعود عليهم من عبادة حجر لا يضرّ ولا ينفع، ومن تحريم أشياء لا فائدة ولا جدوى من تعطيل منافعها، وحجرها للأصنام؟!! ولو عقلوا أيضا لنظروا وفكروا فيما ورثوه، فاختاروا الصالح، وأعرضوا عن الفاسد، ولكنه التقليد الأعمى للآباء والأسلاف من غير روية ولا إمعان، ولا دراية ولا تفكير، فالتقليد أمر ضار، مناف للعلم والدين، مناقض للعقل والمصلحة.
وفضلا عن ذلك إنهم يحرمون بأهوائهم ويقلدون آباءهم، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لإرضاء ربهم وإطاعة خالقهم، من دون دليل ولا برهان على ما يقولون، وإنما هو محض الكذب والافتراء على الله، كما قال تعالى: وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، افْتِراءً عَلَيْهِ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ.(7/88)
وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
[الأنعام 6/ 138- 139] حقا إنه تعالى حكيم عليم بالتحريم والتحليل، ولكن المشكلة تكمن في إهمال العقل وتعطيل الفكر، إنها آفة العقل المعطل لدى زعماء الجاهلية وأتباعها!! والخلاصة: لقد حرموا على أنفسهم من الأنعام ما لم يحرمه الله، اتباعا منهم خطوات الشيطان، فوبخهم الله تعالى بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال، فالحرام من كل شيء: ما حرمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بنص أو دليل، والحلال منه: ما أحله الله ورسوله كذلك.
وقد استدل أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في منعه الأحباس ورده الأوقاف، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة. غير أن هناك فرقا بيّنا بين الأوقاف الإسلامية للأراضي والدور ونحوها، وبين هذه الأحباس التي لا معنى لها، وقد عابهم الله أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، وعطلوا المنافع والمصالح للناس في تلك الإبل من غير فائدة.
لذا قرر جمهور العلماء القول بجواز الأحباس والأوقاف لما
روي أن ابن عمر في رواية النسائي استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن يتصدق بسهمه بخيبر، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احبس الأصل وسبّل الثمرة»
أي اجعلها وقفا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه، وهو حديث صحيح. وقد أجمع الصحابة على مشروعية الوقف، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وعائشة وفاطمة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قبل أن يرجع عن قول أبي حنيفة في ذلك قال(7/89)
لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز، فقال له مالك: هذه الأحباس أحباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه.
وأما قول شريح: «لا حبس عن فرائض الله» فليس الوقف حبسا عن الفرائض، قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته، على ما أذن الله به على لسان نبيه، وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم، ليس من الحبس عن فرائض الله، ولا حجة في قول شريح، ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق.
والمجيزون للوقف لا يجيزون أن ينتفع الواقف بوقفه لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو افتقر هو أو ورثته، فيجوز لهم الأكل منه كسائر الفقراء.
وهل حق التصرف في منافع الموقوف للواقف أو لغيره؟ قال الشافعي وأبو يوسف: يحرم على الواقف ملكه، إلا أنه يجوز له أن يتولى صدقته، فيفرّقها ويوزعها بين المستحقين لأن عمر رضي الله عنه لم يزل يلي صدقته، حتى قبضه الله عز وجل، وكذلك علي وفاطمة كانا يليان صدقاتهما.
وقال مالك: لا يتم الوقف حتى يتولاه غير الواقف، فيقبضه ويتصرف بمنافعه من كراء وقسمة بين المساكين المستحقين، ما عدا الخيل والسلاح.(7/90)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
التفويض إلى الله تعالى بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
الإعراب:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَنْفُسَكُمْ: منصوب على الإغراء، أي: احفظوا أنفسكم، كما تقول:
عليك زيدا. لا يَضُرُّكُمْ: في موضع الجزم، لأنه جواب: عَلَيْكُمْ. وكان ينبغي أن يفتح آخره، إلا أنه أتى به مضموما تبعا لضم ما قبله.
المفردات اللغوية:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي احفظوها وقوموا بصلاحها فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها.
سبب النزول:
ذكر الواحدي عن ابن عباس: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل هجر وعليهم منذر بن ساوى، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى، والصابئين والمجوس، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام، وكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية، فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية، فقال منافقو العرب: عجبا من محمد يزعم أن الله يبعثه(7/91)
ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما ردّ على مشركي العرب، فأنزل الله تعالى:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
يعني من ضل من أهل الكتاب «1» .
هذه رواية، وقيل: المراد غير أهل الكتاب،
لما روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، يوشك الله عزّ وجلّ أن يعمهم بعقابه»
قال: وسمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس: إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان.
وقد روى هذا الحديث أيضا أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحة وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصّديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره.
ولما روى الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قلت: قول الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله، لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما: الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون كعملكم» وزيد في رواية: «قيل: يا رسول الله،
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 121(7/92)
أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم»
ثم قال الترمذي:
هذا حديث حسن غريب صحيح.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أنواع التكاليف والشرائع والأحكام، ثم قال: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثم نعى على المشركين تقليدهم الآباء: قالُوا: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وندّد بإعراضهم عن الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، وبقوا مصرين على جهلهم مقيمين على ضلالهم، لما بيّن كل ذلك قال الله للمؤمنين: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالهم، بل أصلحوا أنفسكم، ونفذوا تكاليف الله، وأطيعوا أوامره ونواهيه.
والخلاصة: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب التحذير منه.
التفسير والبيان:
يأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ويخبرهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا.
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، احفظوا أنفسكم من المعاصي، وتقربوا إلى ربكم بخالص الأعمال، وخلّصوها من العقاب، ولا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم إلى الحق، وإلى الله رجوعكم، فيخبركم بأعمالكم، ويجازي كل عامل بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا، بل توجب الآية أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب(7/93)
العاصي، فهي تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية مثل قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر 74/ 38] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] .
فقه الحياة أو الأحكام:
ظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين، كما تقدم في سبب النزول.
وعلى كل حال يمكن فهم الآية بغير الرجوع إلى السنة، فهي تطالب المؤمن أولا ببناء الذات والتسلح بفضائل الأعمال والاعتماد على النفس في كل أنواع القربات، واجتناب المعاصي والسيئات.
وذلك لأن هناك آيات كثيرة تطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعارض بين الموضوعين، فهذه الآية في تكوين الشخصية والذات المسلمة، وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النطاق الاجتماعي فهي توجب التناصح والتعاون على الخير وإقرار الفضيلة، ومقاومة الشر ومحاربة الرذيلة والمنكر.
قال سعيد بن المسيب: معنى الآية: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما إن كانت الآية نازلة في حق غير المسلمين فلا إشكال والمعنى: عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعين متى وجد رجاء القبول، أو رد الظالم ولو بعنف، فإن خاف الآمر ضررا في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، أو الوقوع في التهلكة بأن يعلم يقينا أو يظن ظنا قويا بعدم جدوى نصحه إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، سقطت هذه الفريضة.(7/94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
ودلت الآية على توجيه إنذار عام إذ قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن مصير الخلائق جميعا واحد، مصير المؤمنين ومصير المخالفين، وهو تعالى يجازيكم بأعمالكم.
الشهادة على الوصية حين الموت
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
الإعراب:
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ مبتدأ، وإِذا حَضَرَ ظرف له ومعمول له، ولا يجوز أن يكون العامل فيه الْوَصِيَّةِ لوجهين: أحدهما- أنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.
والثاني- أنه مصدر، والمصدر لا يعمل فيما قبله.
حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من إِذا وقيل: العامل فيه حَضَرَ.
اثْنانِ خبر المبتدأ، وتقديره: شهادة بينكم شهادة اثنين، ولا بد من هذا التقدير لأن شهادة لا تكون هي الاثنين.(7/95)
أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ معطوف على قوله: اثْنانِ. تَحْبِسُونَهُما جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة آخَرانِ.
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ: اعتراض بين الصفة والموصوف، واستغنى عن جواب اثْنانِ بما تقدم من الكلام: لان معنى اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ في معنى الأمر، وإن كان لفظه لفظ الخبر. واستغنى عن جواب إِذا أيضا بما تقدم من الكلام وهو قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ لأن معناه: ينبغي أن يشهدوا إذا حضر أحدكم الموت. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ الفاء فيه لعطف جملة على جملة، ويجوز أن يكون جواب شرط لأن تَحْبِسُونَهُما في معنى الأمر، فهي جواب الأمر الذي دل عليه الكلام، كأنه قال: «إن حبستموهما أقسما» .
لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً جواب لقوله: فَيُقْسِمانِ لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم.
والهاء في مُصِيبَةُ تعود على الشهادة، إلا أنه عاد الضمير بالتذكير، لأنها في المعنى: قول، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
فَآخَرانِ: إما خبر مبتدأ مقدر وهو الأوليان، وتقديره: فالأوليان آخران. ويقومان:
صفة فَآخَرانِ. وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالشاهدان آخران، والْأَوْلَيانِ بدل من ضمير يَقُومانِ. وإما مبتدأ، ويَقُومانِ: صفة له، والْأَوْلَيانِ: خبره. ومعنى الْأَوْلَيانِ: الأقربان إلى الميت.
لَشَهادَتُنا اللام: جواب لقوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم.
أَنْ يَأْتُوا: في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: أدنى بأن يأتوا.
البلاغة:
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ جملة خبرية لفظا، إنشائية معنى، يراد بها الأمر، أي ليشهد بينكم.
المفردات اللغوية:
شَهادَةُ هي إخبار عن علم بواقعة بواسطة الحس البصري (المشاهدة) أو السمعي إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أسبابه، وقوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ... اثْنانِ خبر بمعنى الأمر اي ليشهد اثنان عدلان، وإضافة شهادة لبين على الاتساع أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي من غير ملتكم ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سافرتم لأن المسافر يضرب الأرض برجليه تَحْبِسُونَهُما توقفونهما، وهي صفة:
آخَرانِ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ صلاة العصر واعتبارها للتغليظ فَيُقْسِمانِ يحلفان إِنِ(7/96)
ارْتَبْتُمْ
شككتم فيهما أي في صدقهما فيما يقران به لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي ويقولان: لا نشتري بالله عوضا نأخذه بدله من الدنيا، بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله.
وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المقسم له أو المشهود له ذا قرابة منا. إِنَّا إِذاً إن كتمناها الْآثِمِينَ العاصين عُثِرَ اطلع بعد حلفهما اسْتَحَقَّا إِثْماً أي ارتكبا فعلا يوقع في الإثم من خيانة أو كذب في الشهادة، بأن وجد عندهما مثلا ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما في توجه اليمين عليهما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الوصية، وهم الورثة الْأَوْلَيانِ بالميت، أي الأقربان إليه لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ على خيانة الشاهدين ويقولان: لَشَهادَتُنا يميننا أَحَقُّ أصدق مِنْ شَهادَتِهِما يمينهما وَمَا اعْتَدَيْنا تجاوزنا الحق في اليمين.
ذلِكَ الحكم المذكور من رد اليمين على الورثة أَدْنى أقرب إلى أَنْ يَأْتُوا أي الشهود أو الأوصياء بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة، أو أقرب إلى ان يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ على الورثة المدعين، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا ويغرموا فلا يكذبوا وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الخيانة والكذب وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به سماع قبول الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعته. والله لا يهديهم إلى سبيل الخير.
سبب النزول:
روى البخاري والدارقطني والطبري وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان تميم الداري وعدي بن بدّاء رجلين نصرانيين، يتّجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النّبي صلّى الله عليه وسلّم حوّلا متجرهما إلى المدينة، فخرج بديل السهمي مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل، فكتب وصية بيده، ثم دسّها في متاعه وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا (إناء من فضة منقوشا بالذهب) ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله، فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا.(7/97)
فقالوا لهما: هذا كتابه بيده، قالوا: ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.. إلى قوله: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ.
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فأمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه.
ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكان يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء «1» .
والخلاصة: اتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية هو تميم الداري وأخوه عدي النصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة ومعهما بديل بن أبي مريم من بني سهم مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا.
المناسبة:
حكم سبحانه في الآية السابقة أن المرجع والمصير إليه بعد الموت، وأنه يحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم يوم القيامة، فناسب أن يذكر ما تتطلبه الوصية قبل الموت من إشهاد، حفاظا عليها وإثباتا لها لتنفيذها.
التفسير والبيان:
يا من صدقتم بالله ورسوله، ليشهد المحتضر على وصيته اثنين عدلين من
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 75(7/98)
الرجال المسلمين، فقوله مِنْكُمْ أي من المؤمنين وقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي اقترب منه وظهرت أمارات الموت، أو يشهد للضرورة اثنين آخرين من غير المؤمنين في حال السفر، وذلك يدل على تأكيد الوصية والإشهاد عليها.
وهناك في الكلام حذف تقديره: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم، ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما بعد الصلاة.
ووقت الشهادة: بعد صلاة العصر لأنها كانت معهودة للتحليف عندها وكان ذلك وقت القضاء وفصل الدعاوي، وكونها عقب الصلاة للتغليظ والتهويل لقوله تعالى: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي تقفونهما وتستوثقون منهما وتقدمونهما للحلف بعد العصر، كما فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم مع تميم وأخيه. وروي عن ابن عباس أن الشاهدين إذا كانا غير مسلمين، فالمراد بالصلاة: صلاة أهل دينهما. ورجح الطبري أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين لأن الله تعالى عرّف هذه الصلاة بالألف واللام، ولا يكون ذلك عند العرب إلا في معروف إما في جنسه أو عينه، وأما اليهود والنصارى فلهم صلوات عديدة غير واحدة، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك في عرف القضاء والناس.
وإن شككتم في صدق الشاهدين وإقرارهما فيحلفان بقولهما: لا نشتري بيمين الله عوضا نأخذه من الدنيا بأن نحلف به كذبا، والمراد بالثمن عند الأكثرين:
المثمون وضمير مُصِيبَةُ يعود إلى القسم المفهوم من فَيُقْسِمانِ والمعنى:
لا نستبدل بصدق القسم بالله وصحته عرضا من الدنيا، ولو كان المقسم له أو المشهود له من أقاربنا، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا منا، على معنى أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون(7/99)
تحت قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ «1» . أما الأمين فيصدق بلا يمين.
والخلاصة: أن يحلف الشاهد بأن يقول الحق، ويشهد بالعدل، ولا يتأثر بعوض مالي يأخذه عوضا عن يمينه، ولا بمراعاة قريب له إن كانت الشهادة له.
وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ.. أي ويقولون في يمينهما أيضا: لا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر بحفظها وإظهارها من وقت التحمل إلى الأداء، كما قال:
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ فإنا إن فعلنا ذلك، واشترينا بالقسم ثمنا أي عوضا أو راعينا به قريبا، أو كتمنا شهادة الله، كنّا من العاصين المتحملين إثما كبيرا نعاقب عليه.
فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع على أمارة كذبهما أو خيانتهما وكتمانهما وأنهما فعلا ما أوجب الإثم، فترد اليمين إلى الورثة، فيحلف رجلان يقومان مقام الشاهدين، الأوليان بالميت أي من أقاربه الذين هم أحق بالإرث إن لم يوجد مانع شرعي، فيحلفان بالله لشهادتنا أي يميننا أحق وأصدق من أيمانهما، وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين، أي المبطلين الكاذبين. فالمراد بقوله:
لَشَهادَتُنا اليمين، كما قال تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور 24/ 6] ، والمراد بقوله: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي من الذين استحقت عليهم الوصية أو استحق عليهم الإيصاء، والأوليان بالميت: الأقربان منه.
وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.
__________
(1) الكشاف: 1/ 488(7/100)
وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان: هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع، لقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى ... أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير، خوفا من عذاب الله، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد العصر، أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس، فيظهر كذبهم بين الناس، فيكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة.
ثم طوّق الله هذا التشديد على صدق الشهادة بباعث ذاتي دائم وهو تقوى الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا.. أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تأخذوا مالا عليها وأن تخونوا من ائتمنكم، واسمعوا سماع تدبر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها، وإلا كنتم من الفاسقين: المتمردين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه، المطرودين من هدايته، المستحقين لعقابه، والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أكثر المفسرين- كما قال الطبري- على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن ادعى النسخ فعليه البيان، ثم صوّب الطبري القول بالنسخ، لأن المعمول به بين أهل الإسلام قديما منذ بعثة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وما بعد ذلك: أن إثبات الحق يكون إما ببينة المدعي أو بيمين المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه، وأن من ادعى سلعة في يده أنها له اشتراها من المدعي: القول قول المدعي بيمينه، إذا لم يكن لمن هي في يده بيّنة تثبت مدعاه «1» .
وقد استنبط العلماء من هذه الآيات الثلاث ما يأتي من الأحكام:
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 81(7/101)
1- الحض على الوصية والاهتمام بأمرها في السفر والحضر.
2- الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها.
3- الأصل كون الشاهدين مسلمين عدلين.
4- جواز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة. وقد اختلف العلماء في هذا الحكم، فقال الجمهور من الفقهاء: قوله سبحانه: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ لقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة 2/ 282] ، وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من المؤمنين كما هو الظاهر [الطلاق 65/ 2] وآية الدين التي فيها: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ.. من آخر ما نزل، فهي ناسخة لما ذكر هنا، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت في الماضي شهادة أهل الكتاب، أما اليوم فوجد المسلمون في كل مكان، فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفسّاق لا تجوز، والكفار فسّاق فلا تجوز شهادتهم، فلا تجوز شهادة الكفار على المسلمين، ولا على بعضهم بعضا، للأدلة السابقة.
وقال أبو حنيفة: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين: لأن آيات الشهادة بحسب السياق في كلها هي في الكلام عن المسلمين، وأما فيما بينهم فتقبل شهادتهم لقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران 3/ 75] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، فيكون أمينا على قرابته وأهل ملته بالأولى. ولقوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال 8/ 73] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض، وهي أعلى رتبة من الشهادة.
وما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة زنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون» .
ثم إن أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة، وتقع بينهم(7/102)
الجنايات والاعتداءات، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم، ويتخاصمون إلى قضاة المسلمين، فإذا لم يحكم بينهم بشهودهم المرضيين عندهم، ضاعت حقوقهم، ووقع الظلم والفساد، فالحاجة ماسة إلى قبول شهادتهم بعضهم على بعض.
هذا هو الأرجح والمقبول عمليا. وكذلك في شهادة الكفار على المسلمين يؤخذ بقول الإمام أحمد: تجوز للضرورة حيث لا يوجد مسلم كالسفر لقوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ قال ابن تيمية: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع: هو ضرورة، يقتضي قبولها في كل ضرورة، حضرا وسفرا. ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون، لكان له وجه إذ قد يقرب أجل المسلم في الغربة، ولا يجد مسلما يشهده على نفسه، وربما وجبت عليه زكوات وكفارات، وربما كان عنده وودائع أو ديون في ذمته، فإذا لم يشهد غير المسلمين ضاعت عليه مهماته ومصالحه.
5- وآية تَحْبِسُونَهُما أصل في حبس من وجب عليه حق لأن التوثق للحقوق المالية إما بالرهن وإما بالكفالة، فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بالحبس حتى يحمله السجن على الوفاء بالحق، أو يتبين أنه معسر.
أما التوثق للحق البدني الذي لا يقبل البدل كالحدود والقصاص، فلا يمكن إلا بالسجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حبس رجلا في تهمة.
وروى أبو داود عن عمرو بن الشّريد عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»
عرضه:
يعزر بالتوبيخ، وعقوبته: حبسه.
6- دل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ على مشروعية اختيار الوقت الذي يؤثر في نفوس الشهود حالفي الأيمان رجاء أن يصدقوا في كلامهم. قال أكثر العلماء: يريد بالآية بعد صلاة العصر لأن أهل الأديان يعظمون ذلك(7/103)
الوقت، ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. جاء
في الحديث الصحيح «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر، لقي الله، وهو عليه غضبان» .
7- الآية أصل في التغليظ في الأيمان، بأن يقول الحالف ما يرجى ان يكون رادعا له عن الكذب.
والتغليظ يكون بأربعة أشياء:
أ- الزمان كما هو مذكور في الآية.
ب- المكان: كالمسجد والمنبر، خلافا للبخاري والحنفية حيث يقولون:
لا يجب استحلاف أحد عند منبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها.
وقال مالك والشافعي: أيمان القسامة بين الركن والمقام في مكة لمن كان فيها أو في توابعها، وعند المنبر النبوي لمن كان في المدينة وتوابعها. وتغلظ الأيمان في الدماء والطلاق والعتاق في رأي الشافعي.
ج- الحال: ذكر مظرّف وابن الماجشون وبعض الشافعية: أنه يحلف قائما مستقبل القبلة لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا.
د- التغليظ باللفظ: قالت طائفة: يحلف بالله لا يزيد عليه لقوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ وقوله: قُلْ: إِي وَرَبِّي وقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ.
وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي حق، وما ادّعاه علي باطل،
لما رواه أبو داود عن ابن عباس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل حلّفه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عندك شيء»
يعني للمدعي.(7/104)
وقال الحنفية: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي، غلظ عليه اليمين، فيحلفه «بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور» .
وزاد الشافعية: التغليظ بالمصحف. وقال أحمد: لا يكره ذلك.
8- قدر المال الذي يحلف به: قال مالك: لا تكون اليمين في أقل من ثلاثة دراهم، قياسا على حد القطع في السرقة. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد.
9- الأصل قبول أخبار الشهود وتصديقهم دون يمين لقول الله تعالى:
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وشرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، فإذا لم يكن الشاهدان عدلين وارتاب الحاكم بقولهما حلّفهما، بدليل قوله تعالى:
إِنِ ارْتَبْتُمْ ومتى لم يقع ريب فلا يمين. وأصبح تحليف الشهود السمة العامة في المحاكم الحالية. وسبب الريبة في الآية: هو الاحتياط لقبول شهادة الكافر بدلا عن شهادة المسلم للضرورة. وقد حلف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.
10- تجيز الآية شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم: وهذا مخالف للمقرر في الشريعة: أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وهو محض العدل، وقد أجاب الجمهور بأن حكم الآية هذا منسوخ.
وأما جواب القائلين بأن الآية محكمة غير منسوخة: فهو قبول يمين المدعي بسبب العثور على خيانة المدعى عليه واستحقاقه الإثم، وهذا موافق للأصول حيث يتقوى جانب المدعي بالشاهد، أو بنكول خصمه عن اليمين، أو قوة جانبه باللوث (القرينة على القتل) ، أو قوة جانبه بشهادة العرف في تداعى(7/105)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
الزوجين، ومنها العثور على الخيانة، فإن اليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة.
11- الآية تدل على مشروعية اليمين المردودة، أي رد اليمين من المدعى عليه إلى المدعي.
12- أولى الورثة المدعين بقبول اليمين منهم فيما يتعلق بالتركة: أقربهم إلى الميت لقوله تعالى: لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي يميننا أحق من يمينهما. وهذا يدل على أن الشهادة يصح أن تكون بمعنى اليمين، مثل قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور 24/ 6] .
سؤال الرسل يوم القيامة عن أثر دعوتهم
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
المفردات اللغوية:
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ هو يوم القيامة. فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ أي يقول هم توبيخا لقومهم: ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد. عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما غاب عن العباد وذهب عنهم علمه لشدة هول يوم القيامة وفزعهم.
المناسبة:
الآية استمرار في التهديد والتخويف والزجر، فبعد أن أمر الله بالتقوى.
وحذّر من إخفاء شيء من الوصية أو غيرها، أعقب ذلك بالتحذير من الحساب يوم القيامة، أي اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل. وعادة القرآن أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والأحكام والتكاليف، كما ذكر هنا، أتبعها إما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة، ليؤكد(7/106)
ما تقدم، وهنا أتبع الشرائع بوصف أحوال القيامة، ثم ذكر في الآية بعدها أحوال عيسى.
التفسير والبيان:
اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم، ويسألهم عما أجيبوا به من أممهم، يسألهم عن نوع الإجابة، أهي إجابة إيمان وإقرار، أم إجابة إنكار وإعراض؟ وذلك كما قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 6] وقال سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] وهذا سؤال للطرفين: للرسل وللمرسل إليهم.
وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير 81/ 8- 9] وهذا سؤال للشاهد دون المتهم للتوبيخ وإنكار الفعل.
وذلك يختلف باختلاف مواقف القيامة وأحوالها، فبعضها يسأل الله الرسل للشهادة على أممهم، وبعضها يسأل الأمم، وقد يسأل الخصم وقد يسأل الشهود، وقد يسأل الفريقان.
ويسألهم أيضا: ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا بعدكم؟ فأجابوا قائلين للربّ عز وجل: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، بطريق التأدب مع الله جلّ جلاله، أي لا علم لنا بالنسبة لعلمك المحيط بكل شيء، العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كعدم العلم، إنك أنت علام الغيوب، أي ما غاب عن الناس وذهب عنهم لشدة هول يوم القيامة، أو لسعة علم الله بظواهر الأمور وبواطنها.
وبهذا يجمع بين الرأيين في تفسير الآية وتوضيح الجواب، وهما ما يأتي:(7/107)
الأول- يراد به نقصان علمهم بالنسبة إلى علم الله تعالى، وهذا رأي ابن عباس، وهو الأصح، قالوا: لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا.
الثاني- انعدام علمهم بسبب ما يتعرضون له من هول ذلك اليوم وفزعهم ويذهلون عن الجواب. وهذا رأي الحسن البصري ومجاهد والسّدّي، جاء
في الخبر: «إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة، فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا جثا لركبتيه»
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني، فقلت:
يا جبريل، ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي: يا محمد:
لتشهدنّ من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة» .
فقه الحياة أو الأحكام:
الثابت في القرآن الكريم أن الله تعالى يسأل الرسل عن القيام بواجبهم في التبليغ، ويسأل أقوامهم عن مدى إجابتهم دعوة الرسل ونوع الإجابة أهي إجابة إقرار أم إجابة إنكار؟
والله في هذه الآية يوجّه السؤال للأنبياء بقوله مثلا: ماذا أجبتم في السرّ والعلانية؟ ليكون هذا توبيخا للكفار، فيقولون أي الرسل على سبيل النفي الحقيقي: لا علم لنا، فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها.
وقال ابن جريج: معنى قوله: ماذا أُجِبْتُمْ؟: ماذا عملوا بعدكم؟
قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب.
قال الماوردي: فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما- أنه سألهم ليعلّمهم- أي الرسل- ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني- أنه أراد أن يفضحهم- أي أقوامهم- بذلك على رؤوس الأشهاد، ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.(7/108)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
ودلت الآية كما قال الرازي على جواز إطلاق لفظ العلام على الله، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه. أما (العلامة) فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه، ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث.
التّذكير بمعجزات عيسى عليه السّلام
[سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
الإعراب:
في ضمير فَتَنْفُخُ فِيها وجهان: أحدهما- أن يعود على الهيئة، وهي مصدر في معنى «المهيّأ» لأن النّفخ إنما يكون في المهيأ لا في الهيئة. والثاني- أن يعود على الطير لأنها تؤنث.
ومن قرأ طائرا جاز أن يكون جمعا كالباقر والحامل، فيؤنث الضمير في فِيها لأنه يرجع إلى معنى الجماعة.
المفردات اللغوية:
أَيَّدْتُكَ قويتك. بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل عليه السّلام الذي يؤيّد به الله رسله(7/109)
بالتّعليم الإلهي والتّثبيت في مواطن الضّعف التي قد يتعرّض البشر لها. فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا في حالتي الطّفولة والكهولة أو الضعف والقوة. الْكِتابَ كلّ ما يكتب. وَالْحِكْمَةَ العلم النافع. وَالتَّوْراةَ الكتاب الذي أنزله الله على موسى، وفيه الشرائع والأحكام. وَالْإِنْجِيلَ الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، وفيه المواعظ والأخلاق.
وَإِذْ تَخْلُقُ تجعل الشيء بمقدار معين بإذن الله وإرادته، ويستعمل الخلق في إيجاد الله الأشياء بتقدير معين في علمه. كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ كصورته، والكاف: اسم بمعنى مثل، مفعول به.
بِإِذْنِي بإرادتي. الْأَكْمَهَ من ولد أعمى، وقد يطلق أيضا على من طرأ له العمى بعد الولادة. الْأَبْرَصَ البرص: بياض بقع في الجسد لعلّة مرضية. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ حين همّوا بقتلك. إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات. سِحْرٌ السّحر: هو تمويه وتخييل، به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أمرتهم على لسانه، والحواريون، خلصاء عيسى وصحبه المخلصون. أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي أي عيسى.
المناسبة:
كان المقصود من قوله تعالى للرّسل: ماذا أُجِبْتُمْ توبيخ من تمرّد من أممهم، وأشدّ الأمم حاجة إلى التّوبيخ واللّوم: النّصارى الذين ألّهوا عيسى عليه السّلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء، وأما النّصارى فتعدّى طعنهم إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتّخاذ الزّوجة والولد، لذا كانت هذه الآيات مذكّرة بأنواع النّعم على عيسى عليه السّلام، وهي بالتالي معجزات أيّده الله بها لإظهار صدقه، كما أيّد سائر الأنبياء بالمعجزات، والمقصود منه: توبيخ النّصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم، فإنّ كلّ واحدة من تلك النّعم تدلّ على أنّ عيسى بشر عبد الله وليس بإله.(7/110)
التفسير والبيان:
الآيات تذكير بالنّعم والمعجزات الباهرات وخوارق العادات التي أجراها الله على يدي عيسى عليه السّلام بإرادة قاطعة من الله وحده.
اذكر يا عيسى نعمتي عليك في خلقي إيّاك من أم بلا أب، وجعلي إيّاك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء.
ونعمتي على والدتك حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، إذ أنطقتك في المهد فشهدت ببراءة أمّك.
وأيّدتك بروح القدس وهو في الأصحّ جبريل عليه السّلام، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك.
وتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وتبرّؤ أمك من كلّ عيب وتهمة من الظلمة: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً [مريم 19/ 30- 31] .
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي الخط والفهم، فتقرأ الكتب وتفهم ما فيها من العلم النافع لك في الدّين والدّنيا. والحكمة تشمل العلوم النظرية والعلوم العملية. وعلّمتك التّوراة: (وهي المنزلة على موسى بن عمران كليم الله) والإنجيل (وهو ما أوحيته إليك من المواعظ والحكم) . وذكر هذان الكتابان بعد ذكر الكتب للتشريف والتعظيم.
وإذ تصنع الطيور، بأن تصوّر من الطّين وتشكّل على هيئة الطائر، بإذني وإرادتي لك في ذلك، ثم تنفخ فيها أي في تلك الصورة التي شكّلتها، فتكون طيرا بإذني لك في ذلك، وهو طائر ذو روح يطير بإذن الله وخلقه، فأنت تفعل التقدير والنفخ والله هو الذي يكوّن الطّير. ولم يكن ذلك مطلقا، وإنما في حالات فردية معدودة لا تقع إلا بإرادة الله.(7/111)
وتبرئ الأكمة الذي ولد أعمى، وتشفي الأبرص من المرض الجلدي، وتحيى الموتى، وكل ذلك بإذني وأمري، فأنت تدعوهم من قبورهم، فيقومون أحياء بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته.
وكففت عنك بني إسرائيل حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوّتك ورسالتك من الله، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر، وهمّوا بقتلك وصلبك، فنجّيتك منهم، ورفعتك إليّ، وكفيتك شرّهم.
وقد عبّر تعالى عن كل تلك النّعم التي امتنّ الله بها على عيسى بصيغة الماضي للدّلالة على وقوعه.
وإذ ألهمت الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي عيسى، فجعلت لك أصحابا وأنصارا، فقالوا: آمنّا بالله وبرسوله، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية.
ويلاحظ أن الوحي قد يأتي بمعنى الإلهام كما تقدّم بيانه، كما قال تعالى:
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص 28/ 7] وهو وحي إلهام بلا خلاف، وكما قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل 16/ 68] .
فقه الحياة أو الأحكام:
إن تذكير عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته، وإن كان لهما متذكرا لأمرين: أحدهما- ليتلو على الأمم ما خصّهما به من الكرامة، وميّزهما به من علو المنزلة. والثاني- ليؤكّد به حجّته، ويردّ به جاحده.
ثم عدّد تعالى نعمه على عيسى عليه السّلام وهي ثمان، منها معجزات أيّده الله بها: وهي الكلام في المهد، وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء(7/112)
الموتى، ومنع أذى اليهود عنه، فلم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن شبّه لهم.
والنّعم الثلاث الباقية تستلزمها عادة النّبوة والرّسالة: وهي التّأييد والتّقوية بجبريل روح القدس عليه السّلام، والتّعليم الإلهي بالكتابة والفهم والوحي وإنزال الإنجيل، ومعرفة ما أنزل على من تقدّمه مثل موسى الكليم عليه السّلام، وإلهام الحواريين الإيمان بالله وبعيسى عليه السّلام.
وكلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات تدلّ على صدق رسالة عيسى، وكلّها بمراد الله ومشيئته وقدرته.
ولم ينفرد عيسى بالمعجزات الدّالة على صدقه، فهذا هو الشأن المتّبع مع كلّ الأنبياء والرّسل لأن البشر لا يصدّقون عادة بنبوّة النّبي إلا بأشياء خارقة للعادة، وهي المسمّاة بالمعجزات، ولكلّ عصر ما يناسبه من المعجزة، فقد كان عصر عيسى مزدهرا بالطّب والعلوم والمعارف، فأجرى الله على يديه ما يفوق الطّب البشري والمعرفة والثقافة البشرية. وكان زمان موسى فيه السّحر والشّعوذة فأيّده الله تعالى بما يفوق سحر السّحرة، باليد والعصا وفلق البحر وتفجير الماء من الحجر ينابيع هي اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط (قبائل بني إسرائيل) . وزمان النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم اشتهر بالتّفوق البياني في الكلام شعرا ونثرا وخطابة، فأنزل الله عليه القرآن الكريم مشتملا على أرفع البيان وأسمى الفصاحة، وأبلغ البلاغة، فكان إعجاز القرآن البياني معجزة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبد الدّهر.
والغرض من إيراد معجزات عيسى عليه السّلام هو كما بيّنت تنبيه النّصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم بتأليه بشر عادي مولود كسائر البشر، يأكل ويشرب ويقضي حاجته كغيره من الناس.(7/113)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين
[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
الإعراب
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرئ بالتّاء والنّصب، والتقدير فيه: هل تستطيع سؤال ربّك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [يوسف 12/ 82] أي: أهل القرية وأهل العير.
عَلَيْها في موضع الحال.
لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لَنا بتكرار العامل.
المفردات اللغوية:
الْحَوارِيُّونَ أصحاب المسيح الخلّص. يَسْتَطِيعُ يفعل ويرضى ويجيبك إن سألته.
مائِدَةً المائدة: هي الخوان إذا كان عليه الطّعام. قال لهم عيسى. تَطْمَئِنَّ تسكن قلوبنا بزيادة اليقين. وَنَعْلَمَ نزداد علما. صَدَقْتَنا في ادّعاء النّبوة. اللَّهُمَّ أي يا الله. عِيداً يوما نفرح به ونعظّمه ونشرّفه. وَآيَةً مِنْكَ دليلا آخر أو علامة على قدرتك ونبوّتي.(7/114)
المناسبة:
هذه قصة المائدة التي لا يعرفها النصارى إلا من القرآن، وهي نعمة تاسعة ومعجزة بعد النّعم الثماني المتقدّمة، إذ تمّ إنزال المائدة بطلب عيسى عليه السّلام، علامة على قدرة الله وتصديق الناس بنبوّته، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد وقت قول الحواريين أصحاب عيسى المخلصين إذ قالوا لعيسى:
هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء.
والمقصود بكلمة الاستطاعة، مع أن الطلب صادر من الحواريين وهم مؤمنون يعلمون أن الله قادر على كلّ شيء: أنه هل يفعل ذلك، وهل يجيبك إلى مطلبك أو لا؟ فأرادوا علم المعاينة والمشاهدة والاطمئنان بعد توافر الاعتقاد والعلم بقدرة الله تعالى، كما قال إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة 2/ 260] ، لأن علم النّظر والخبر قد تدخله الشّبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة المحسوس لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا كما قال إبراهيم: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» [البقرة 2/ 260] قال السّدّي: هل يستطيع ربّك أي هل يطيعك ربّك إن سألته، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع، والسّين زائدة «2» .
وقال الطّبري: الأولى في المعنى عندي بالصّواب: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه «3» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 365
(2) تفسير الرازي: 12/ 129
(3) تفسير الطّبري: 7/ 84(7/115)
وقال بعضهم: في الآية محذوف على قراءة: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ وتقديره: هل تستطيع سؤال ربّك؟ فأجابهم عيسى: اتّقوا الله أن تطلبوا مثل هذا الطلب الذي يشبه ما طلبه الإسرائيليون من موسى عليه السّلام، إن كنتم مؤمنين أي إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة.
قالوا معتذرين عن سؤالهم: نريد أن نأكل منها فنحن بحاجة إلى الطّعام، وتزداد قلوبنا اطمئنانا ويقينا بقدرة الله وبصدق نبوّتك لأن علم الحسّ والمشاهدة أقوى دلالة على المطلوب من العلم النظري القائم على التسليم بالبراهين، ونكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية وبكمال القدرة، ولك بالنّبوة، فيكون ذلك سببا للإيمان أو ازدياد الإيمان.
وإنما سأل عيسى وأجيب، ليلزموا الحجّة بكمالها، ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا.
قال عيسى: يا ربّنا المالك أمرنا والمتولّي شؤوننا، أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء، وتكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها عيدا، قيل: هو يوم الأحد، ومن ثم اتّخذه النّصارى عيدا.
لأوّلنا وآخرنا، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا. وآية منك، أي علامة من لدنك تدلّ على كمال قدرتك وصدق نبوّتي.
وارزقنا منها ومن غيرها رزقا طيّبا نغذي به أجسامنا، وأنت خير الرّازقين، أي خير من أعطى ورزق لأنك الغني الحميد، الذي ترزق من تشاء بغير حساب. ويلاحظ أن عيسى أخّر بدعائه طلب فائدة المائدة عن طلب الفائدة الدّينية والاجتماعية، بعكس ما طلب الحواريون إذ قدّموا الأكل على غيره.(7/116)
قالَ اللَّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرّة أو مرارا، ووعده الحقّ وقوله الصدق، وقد نزلت.
لكن هذا الوعد مقرون بالجزاء حين المخالفة: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ..
أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة، فإني أعذّبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين: عالمي زمانهم لأنه لم يبق بعد هذا الدّليل الحسي عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته.
أما الطّعام فقيل: إنه خبز ولحم، أو خبز وسمك، قال الطّبري: والصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا، وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به «1» .
جاء في حديث ذكره السّيوطي: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد، فخانوا وادّخروا، فمسخوا قردة وخنازير،
فقه الحياة أو الأحكام:
قصة المائدة نعمة تاسعة من النّعم التي عدّدها الله وامتنّ بها على عيسى عليه السّلام وقومه، والذي عليه الجمهور وهو الحق: أنها نزلت فعلا، لقوله تعالى: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قيل: إنها نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية، فجعلوا الأحد عيدا.
وهي آية بيّنة على قدرة الله، وعلى إجابته دعاء المخلص من عباده، وعلى صدق نبوة عيسى، وأنه عبد لله ورسوله لأنه لو كان إلها لما كان بحاجة أن يطلب شيئا من أحد، فالدّعاء إلى الله منه، وإجابة الدّعاء من ربّه دليل آخر
__________
(1) تفسير الطّبري: 7/ 88(7/117)
على عبوديّته وبشريّته وفقره وحاجته إلى الله، وليعلم النّصارى بطلان قولهم وادّعائهم التّالية.
والذي دفع الحواريين إلى سؤال إنزال المائدة أربعة أسباب:
1- الحاجة الدّاعية إلى الأكل منها، لأن عيسى عليه السّلام كان إذا خرج اتّبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة، ولم يكن معهم نفقة، فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: قل لهم: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأخبر بذلك شمعون القوم، فقالوا له: قل له: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها الآية.
وقال الماوردي: نأكل منها، أي ننال بركتها، لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا إلى الطعام لم ينهوا عن السؤال.
2- اطمئنان القلب إلى أن الله تعالى بعث عيسى إليها نبيّا.
3- العلم بأن عيسى رسول الله، أي ازدياد الإيمان بك وعلما برسالتك.
4- الشهادة أنها آية من عند الله، ودلالة وحجّة على نبوّتك، وصدق ما جئت به. وبالرّغم من إنزال المائدة السّماوية، وامتنان الله على النّصارى بها، فإنّهم جحدوا تلك النّعمة وكفروا بعد نزولها، فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر: إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.(7/118)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
تبرئة عيسى من مزاعم النصارى ألوهيته وألوهية أمه
[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
الإعراب:
أَنِ اعْبُدُوا أَنِ: إما مفسرة بمعنى «أي» فلا يكون لها موضع من الإعراب. وإما مصدرية في موضع جرّ على البدل من ما في قوله تعالى: إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ.
ما دُمْتُ في موضع نصب على الظرف، والعامل فيه شَهِيداً. وما في «ما دام» : مصدرية ظرفية زمانية، وتقدير الآية: وكنت عليهم شهيدا مدّة دوامي فيهم.
هذا يَوْمُ يَنْفَعُ يَوْمُ بالرّفع: خبر المبتدأ الذي هو هذا. وهذا:
إشارة إلى يوم القيامة. والجملة من المبتدأ والخبر في موضع نصب بقال، وتحكى بعده الجملة. ويجوز(7/119)
أن يكون في موضع نصب، وهذا ضعيف كما قال الأنباري، لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى مبني كالفعل الماضي، أو أضيف إلى «إذ» كقوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود 11/ 66] .
ويَنْفَعُ فعل مضارع معرب، فلا يبنى الظرف لإضافته إليه، فلهذا كان هذا القول ضعيفا.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ: منصوب على الحال من الضمير المجرور في لَهُمْ.
وأَبَداً: منصوب، لأنه ظرف زمان.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ اللَّهُ اذكر إذ يقول له هذا يوم القيامة توبيخا لقومه. سُبْحانَكَ تنزيها لك عما لا يليق بك من شريك وغيره. ما يَكُونُ لِي ما ينبغي لي أن أتجاوز حقّي وقدري ومنزلتي، ولِي: للتّبيين. تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي أي تعلم سرّي وما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. شَهِيداً رقيبا كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به.
تَوَفَّيْتَنِي قبضتني ورفعتني إلى السماء. كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ الحفيظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم، تمنعهم من القول به، بما أقمت لهم من الأدلّة على ألوهيتك.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على الكفر والجحود. فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك، مكذّبين لأنبيائك، وأنت مالكهم تتصرّف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك. وَإِنْ تَغْفِرْ لمن آمن منهم. فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القوي القادر على الثواب والعقاب. الْحَكِيمُ في صنعه الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.
هذا أي يوم القيامة. الصَّادِقِينَ في الدّنيا كعيسى عليه السّلام. صِدْقُهُمْ ينفعهم صدقهم في هذا اليوم لأنه يوم الجزاء. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خزائن المطر والنّبات والرّزق وغيرها. وَما فِيهِنَّ أتى به للتغليب أي تغليب العاقل على غير العاقل. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الله قادر على كل شيء، ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب.
المناسبة:
بعد أن عدّد الله تعالى النّعم على عيسى عليه السّلام، ذكر أنه سيوجه له سؤالا خطيرا يوم القيامة توبيخا لقومه وتقريعا لهم على افترائهم، وتعريفا لهم بأنه سيتبرّأ من ذلك الإفك العظيم وهو القول بالتّثليث ثمّ التّأليه.(7/120)
التفسير والبيان:
هذه الآيات تصوّر مناقشة وسؤالا يتضمّن تهديد النّصارى وتوبيخهم وتقريعهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. والخطاب في ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلّم.
اذكر يا محمد للناس يوم الحشر الذي يوجّه الله فيه السؤال لعيسى قائلا له:
أأنت قلت للناس: اتّخذوني مع أمي إلهين من دون الله، أي متجاوزين بذلك توحيد الله إلى القول بالشرك: وهو اتّخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى، سواء اعتقد المشرك أن الشريك يضرّ وينفع مستقلّا بذلك، أو بإقدار الله إيّاه وتفويضه الأمر إليه، أو بالوساطة عند الله بماله من التّأثير والكرامة، كما قال تعالى حاكيا فعلهم: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] ، وقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر 39/ 3] .
وهذا السؤال ليس استفهاما وإن خرج مخرج الاستفهام، وإنما هو توبيخ لمن ادّعى ألوهيّة عيسى، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التّكذيب، وأشدّ في التوبيخ والتّقريع، أو لتعريفه أن قومه غيّروا بعده، وادّعوا عليه ما لم يقله.
والآية ترشد إلى أنهم اتّخذوا مريم وابنها إلهين، لعبادتهم لها، وتقديسهم إيّاها، ولقولهم: إنها لم تلد بشرا، وإنما ولدت إلها، فلأجل البعضية صارت بمثابة من ولدته، ويجعلها بعضهم أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والرّوح القدس.
فأجاب عيسى بتلقي الحجة من الله: سُبْحانَكَ أي أنزهك عما لا يليق بك، وعن أن يكون معك إله آخر، فأثبت له التّنزيه عن المشاركة في الذّات والصّفات وعما أضيف إليه، وأبان أنه خاضع لعزّته، خائف من سطوته.
ثم برّأ نفسه عن القول الباطل فقال: ليس من شأني ولا مما يصحّ أن يقع منّي أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله، ثم أكّد النّفي القاطع بأن ذلك القول إن كان قد(7/121)
صدر منّي فقد علمته لأن علمك محيط بكلّ شيء، فأنت تعلم سرّي وما أخفي في نفسي، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذّاتية في نفسك، إنك أنت المحيط بالغيبيات، ما كان منها وما هو كائن وما سيكون.
هذا جواب عيسى، لم يقل: بأني قلته أو ما قلته، وإنّما فوّض ذلك إلى علم الله المحيط بكلّ شيء، وإن قلته فأنت عالم به، وهذا مبالغة في الأدب، وفي إظهار الذّلّ والخضوع لله.
ثم حكى الله قول عيسى: ما قلت لهم في شأن الاعتقاد والعبادة إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله ربّي وربّكم، وأني عبد من عبادك مثلهم، وكنت المراقب على أحوالهم أشهد على ما يفعلون وأمنعهم من القول الباطل وأطالبهم بقول الحق، فلما توفيتني، أي قبضتني إليك، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم، الحافظ عليهم، وأنت الشهيد على كل شيء، فتشهد لي حين كنت فيهم. وفي هذا تعريف له بأفعال أتباعه وأقوالهم واعتقادهم.
وأغلب المفسرين على أن المراد بقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وفاة الرّفع إلى السماء، لقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ قال الحسن البصري: الوفاة في كتاب الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه:
وفاة الموت، وذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [المائدة 5/ 117] يعني وقت انقضاء أجلها.
ووفاة النوم قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] يعني الذي ينيمكم.
ووفاة الرّفع قال الله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران 3/ 55] .
ثم فوض عيسى الأمر كله إلى الله فقال: إن تعذب المسيء عدلت، وإن تغفر(7/122)
له مع كفره، فالملك ملكك ولا اعتراض لأحد عليك، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب.
وهنا تساؤل: كيف جاز لعيسى عليه السّلام أن يقول: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ والله لا يغفر الشرك؟
والجواب: أن المقصود من قوله تفويض الأمور كلها إلى الله، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وترك التّعرّض والاعتراض بالكليّة.
وأما قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فهو تقرير للواقع الذي دل عليه الدليل السمعي شرعا، وإن كان يجوز عقلا في رأي أهل السنة المغفرة للمسيء وتعذيب الطائع، بحسب الإرادة والمشيئة المطلقة. وأما المعتزلة فيقولون: إن العقاب حق الله على المذنب، وليس في إسقاطه مضرة على الله.
ودل كلام عيسى على أنه لا يتضمن شيئا من الشفاعة لأتباعه لأن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئا.
وختم الله تعالى السورة وهذا النقاش بقوله: قالَ اللَّهُ: هذا يَوْمُ أي إن هذا وهو يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا.
وجزاء الصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار أي من تحت غرفها وأشجارها، خالدين وماكثين فيها أبدا، ثوابا من عند الله، وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم به، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.
ثم ذكر تعالى ما يناسب دعوى النصارى أن عيسى إله، فأخبر تعالى أن(7/123)
ملك السموات والأرض له، دون عيسى ودون سائر المخلوقات، وأن كل ما فيهما ملك لله، وأن الله قادر قدرة مطلقة على كل شيء، والمملوك المقدور عليه من الله هو عبد لله، كائن بخلق الله وتكوينه، سواء عيسى ومريم وغيرهما، ولا معنى للعبودية إلا ذلك، فثبت بهذا أنهما عبدان مخلوقان لله لأن الملك والقدرة لله وحده لا شريك له.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات الصادرة بصورة سؤال وجواب تعليم وإرشاد، وتوبيخ وتقريع للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلها، وادعوا لأمه شيئا من القدسية والألوهية لأنها ولدت عيسى فهو بعض منها. فأول من يتبرأ من هذه الدعوى هو عيسى عليه السّلام نفسه فهو لا يدعي لنفسه ما ليس من حقها، بمعنى أنه مربوب وليس برب، وعابد بشر وليس بمعبود إله.
ولو ادعى لنفسه وأمه الألوهية، لكان الله أعلم بذلك: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ المعنى تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، أو تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، أي تعلم سرّي وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك.
ولم يقل إلا ما أمره الله به من عبادة الله وحده، والله هو صاحب المشيئة المطلقة والإرادة الكاملة في إثابة من شاء، وتعذيب من شاء.
وفي يوم القيامة لا ينتفع الناس إلا بصدقهم في الدنيا، بالعمل المخلص لله، وتركهم الكذب عليه وعلى رسله، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم، وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه.
وثواب الصادقين هو الخلود في جنات النعيم التي تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار.(7/124)
وملك السموات والأرض وما فيهن لله دون عيسى ودون سائر المخلوقات، مما يدل على أن عيسى عبد لله ومملوك لله ومخلوق منه، ولا معنى للعبودية إلا أن الإنسان كائن بتكوين الله.(7/125)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
مكية وهي مائة وخمس وستون آية، وهي السورة السادسة من القرآن الكريم.
تسميتها:
تسمى سورة الأنعام، لورود ذكر الأنعام فيها: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.. وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ.. [الآيتان: 138، 139] .
نزولها وفضلها:
نزلت جملة واحدة لاشتمالها على أصول الاعتقاد، قال ابن عباس: «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح»
وروى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد»
والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. ولكن لا مانع من أن يكون بعض آياتها مدنيا، ثم أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في موضعه من السورة.
مناسبتها لما قبلها:
تضمنت كل من سورتي المائدة والأنعام محاجة أهل الكتاب في مواقفهم(7/126)
وعقائدهم، كما ذكر فيهما أحكام المطعومات المحرّمة والذبائح، والرد على أهل الجاهلية بتحريم بعض الأنعام تقرّبا إلى الأوثان.
ما اشتملت عليه:
قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجّة المشركين، وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنّشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجّة، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلّمون أصول الدّين لأن فيها آيات بيّنات تردّ على القدريّة «1» .
هذه السّورة شأنها كشأن السّور المكيّة عنيت بأصول العقيدة والإيمان: وهي إثبات الألوهية، والوحي والرّسالة، والبعث والجزاء.
وتعتمد في ترسيخ العقيدة بهذه الأصول على أسلوبي التّقرير والتّلقين.
أما أسلوب التّقرير: فهو يعرض أدلة وجود الله وتوحيده في صورة المسلّمات البديهية، بالاعتماد على التصريح بالخلق لله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أو بضمير الغائب: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ...
وأما أسلوب التلقين: فهو إيراد الحجج بتعليمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتلقينها إياه لعرضها على الخصوم، وذلك بطريق السؤال والجواب، مثل: قُلْ: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلْ: لِلَّهِ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 383 [.....](7/127)
وَقالُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ...
ومجمل ما اشتملت عليه هذه السورة هو ما يأتي:
1- إثبات أصول الاعتقاد عن طريق الإقناع والتأثير والمناظرة والجدل، والجواب عن سؤال، كوجود الله وتوحيده وصفاته وآياته في الأنفس والآفاق، وتأثير العقيدة في العمل.
2- إثبات النبوة والرسالة والوحي والرد على شبهات المشركين بالأدلة العقلية والعلمية والحسية.
3- إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
4- تبيان أصول الدين والأخلاق والآداب الاجتماعية أو الوصايا العشر المقررة في كل رسالة إلهية.
5- الدين من عهد آدم إلى محمد عليهما السلام واحد في أصله ووسائله وغاياته، فتجزئته، والإيمان ببعضه وترك بعضه، وتفرقته بالمذاهب والآراء الشخصية مصادم لأصل الدين.
6- السعادة والشقاوة والجزاء الأخروي على الحسنات والسيئات منوطة بالأعمال البشرية.
7- الناس ضمن السنن الإلهية والأقدار عاملون بالإرادة والاختيار، فلا جبر ولا إكراه، ولا تعارض بين إرادة الله وما يكسبه الإنسان لأن قدر الله معناه ربط المسببات بالأسباب، على وفق علمه وحكمته.
8- العدل الإلهي يقتضي التفاوت بين الأمم والأفراد، فيهلك الله الظالمين، وينعم على الطائعين، ويمكّن للأصلح في إرث الحياة.(7/128)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
9- الله مصدر التشريع والتحليل والتحريم، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق الله في ذلك.
10- على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته.
11- الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار، ليعلم المفسد من المصلح، والجزاء ينتظر الجميع، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه، ورحمة الله وسعت كل شيء.
أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
الإعراب:
الظُّلُماتِ مفعول جَعَلَ وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ: مبتدأ مرفوع، ومُسَمًّى: صفته. وخبره: عِنْدَهُ. وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة لأنه وصفه بمسمى، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.(7/129)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ: كناية عن الأمر والشأن. واللَّهُ:
مبتدأ، وخبره: إما يَعْلَمُ، وتقديره: الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره فِي السَّماواتِ ويكون المعنى: هو المعبود في السموات.
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغة تفيد القصر، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله.
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ بينهما طباق.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة بِرَبِّهِمْ بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة.
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن، تعليما لأصول الإيمان والثناء.
والمدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل، والحمد أعم من الشكر لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك.
والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب: أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر: الموجد المبدع، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب: مشتمل على الأمرين «1» .
خَلَقَ الخلق: التقدير، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. وَجَعَلَ اي انشأ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ويشمل التشريع والتقنين، كما في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة 5/ 97] أي شرع، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان «2» . وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 142.
(2) مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف 7/ 189] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء 17/ 6] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام 6/ 1] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار.(7/130)
الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي أنشأ كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور، لأنها أسبق في الوجود، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 12] فهو أن السماء فاعل مؤثر، والأرض قابل متأثر، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر، واختلت مصالح العالم، أما الأرض فهي قابلة للأثر، والقابل الواحد كاف في القبول «1» . وهذا الخلق والإبداع، والإنشاء من دلائل وحدانية الله.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مع قيام هذا الدليل. يَعْدِلُونَ يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ بخلق أبيكم آدم منه. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم به، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه، والأجل: المدة المضروبة للشيء.
ثُمَّ أَنْتُمْ أيها الكفار. تَمْتَرُونَ تشكّون في البعث، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء، فهو أقدر على الإعادة.
وَهُوَ اللَّهُ مستحق للعبادة. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ما تسرون وما تجهرون به بينكم.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تعملون من خير وشر.
التفسير والبيان:
كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل: أحمد الله، لإفادة الثبوت والدوام، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 148(7/131)
لله تعالى، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا، أما إن قال: أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا.
والمراد بالسموات: العوالم العلوية التي نراها فوقنا، والمراد بالأرض:
الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا: اسم للجنس، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، وكذلك النور، ومثله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر 40/ 67] .
وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر، أما النور فهو واحد متعدد المصدر، ولكون النور أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ. وجعل هنا: بمعنى خلق، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين: ظلمة الليل، وبالنور: نور النهار، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين: هما النور وهو الخالق للخير، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري: المراد منهما الكفر والإيمان «1» .
وقال قتادة عن سبب التقديم: إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور، فقد وجدت مادة الكون أولا، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل 16/ 78] .
ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك، مع أنه غير خالق
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 386(7/132)
ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب، كما خلق سائر أحياء الأرض، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات لأن الدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى نبات الطين.
ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور، فصار قضاء الله أجلين: الأول: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ، وهو رأي الحسن.
وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت، والأجل المسمى هو أجل القيامة.
وكل أجل مسمى عند الله، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص، ولا يعلمه غيره، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا، فالمقصود من الأجلين:
أجل الدنيا والإنسان، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] .
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث.
تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين، وتكاثرت الذرية، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين، وهيأ له فيه ظروف الحياة، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء، فهو على الإعادة أقدر.(7/133)
وأقام الله تعالى دليلا آخر على وجوده ووحدانيته، فقال: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ.. أي أنه المدعو الله، القائم في السموات والأرض المعبود فيها، المعروف بالألوهية، يعبده ويوحده كل من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس، أي أنه المتصف بهذه الصفات المعروفة، المعترف له بها في السموات والأرض، ونظير هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف 43/ 84] أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض.
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تأكيد وتقرير لما قبله، يعلم السر والجهر، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة، أو حال.
وقيل: المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله: يَعْلَمُ متعلقا بقوله: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ تقديره:
وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا: أن قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها، ويجازيكم عليها.
فقه الحياة أو الأحكام:
المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار، وهو الله.
ويستنبط من الآيات ما يلي:(7/134)
1- الله تعالى هو المستحق لجميع أنواع المحامد على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.
2- إثبات الألوهية لأن الحمد كله لله فلا شريك له.
3- إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته، بإخباره عن خلق السموات والأرض، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع، والخلق يكون بمعنى الاختراع، ويكون بمعنى التقدير، وكلاهما مراد هنا، وذلك دليل على حدوثهما فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستوية من غير عوج، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين، وزينها بالنجوم، وأودعها السحاب والغيوم علامتين، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات، وبثّ فيها من كل دابة، وجعل فيها الجبال أوتادا، وسبلا فجاجا، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته.
وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات، وهي جعل الظلمات.
4- الكفار جاحدون نعمة الله عليهم، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين لأن معنى الآية: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبيّن، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم.
5- ابتداء خلق الإنسان من طين لأن المراد من قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ آدم عليه السّلام، والخلق نسله، والفرع يضاف إلى أصله.
وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض: بيان خلق العالم الكبير(7/135)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
بعد خلق العالم الصغير وهو الإنسان، وجعل فيه ما في العالم الكبير. وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون 23/ 12- 13] .
6- حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة، وأجل الإنسان بالموت والبعث، فلا يعلم الإنسان متى يموت، ومتى يبعث. فالمراد من قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت، وقوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل ابتداء القيامة والآخرة.
7- الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض، وهو المنفرد بالتدبير فيهما، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة: وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة.
والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر، والكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لا يقال لفعل الله: كسب.
سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)(7/136)
الإعراب:
كَمْ خبرية اسم للعدد، منصوب بأهلكنا، لا بفعل يَرَوْا لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
البلاغة:
مِنْ قَرْنٍ أي من أهل قرن، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال.
ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل، وعلاقته السببية لأن المطر ينزل من السماء.
المفردات اللغوية:
وَما تَأْتِيهِمْ أي أهل مكّة. مِنْ صلة زائدة لاستغراق الجنس. آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. مُعْرِضِينَ متولّين عنها، والإعراض: التولّي عن الشيء. بِالْحَقِّ القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل: الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. أَنْباءُ أخبار، والمراد هنا عواقب استهزائهم، والأنباء: ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة.
أَلَمْ يَرَوْا في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. مِنْ قَرْنٍ أمّة من الأمم الماضية، والقرن من الناس: القوم الذين يعيشون في زمان واحد، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. مَكَّنَّاهُمْ أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة، ومكّنه في الأرض أو في الشيء: جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له: أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [النور 24/ 55] ، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص 28/ 57] ، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر النازل من السماء. مِدْراراً متتابعا غزيرا. مِنْ تَحْتِهِمْ تحت مساكنهم. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء.
قَرْناً آخَرِينَ أمّة أو جماعة آخرين.
المناسبة:
تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد، وثانيا في المعاد(7/137)
والبعث، وثالثا فيما يثبت الأمرين بالدّلائل الواضحة، ثمّ ذكر هنا ما يتعلّق بالنّبوة، فأبان سبب إعراض الكفار عن آيات ربّهم بعد إتيان النّبي صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو إشراكهم بالله وتكذيبهم الرّسل، وأنذرهم عاقبة التّكذيب بالحقّ بدليل ما حلّ بالأمم قبلهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام، أعرضوا عنها، ولم ينظروا فيها، ولم يبالوا بها.
وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة، وكفل لهم رزقهم، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء، كما قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء 21/ 2] .
وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله.
وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله: تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء.
ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد، وقد تحقّق ذلك، فنزل بهم القحط، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.(7/138)
قال الرّازي: رتّب تعالى أحوال هؤلاء الكفار على مراتب ثلاث: إعراض عن التّأمّل في الدّلائل والتّفكّر في البيّنات، وكونهم مكذّبين بها، ثم كونهم مستهزئين بها، وكلّ مرتبة أشدّ مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذّبا به، بل يكون غافلا عنه، والمكذّب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء «1» .
ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين، فقال: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، الذين كذّبوا رسلهم، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك، ما لم نعطهم مثله. والقرن: الأمّة من الناس، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب.
امتازوا بالغنى عن كفار قريش، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم.
فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين، وجيلا جديدا يعمرون البلاد، ويكونون أجدر بشكر النّعمة.
أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان: تكذيب الرّسل، وكفران النّعم، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [عاصمتها] رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص 28/ 58- 59] .
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 157(7/139)
والغرض من هذا وعظ أهل مكّة وتحذيرهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدّنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السّالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها.
فقه الحياة أو الأحكام:
موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد، ويهمل العقل والفكر، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر.
من مظاهر هذا الموقف: تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما، سواء أكانت الآية قرآنية، أم معجزة من معجزات النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي أيّده الله بها، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به، كانشقاق القمر ونحوه، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك.
ومن مظاهر موقفهم أيضا: تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب، فأمر نبيّه بالصّبر، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة.
وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم، فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا ...
أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم، والمعنى: ألم يعرفوا ذلك، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة(7/140)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
والجنود، ووفرة الأمطار، وينابيع الأرض، وجريان الأنهار من تحت دورهم ومساكنهم، استدراجا وإملاء لهم، ثم أهلكهم الله بخطيئاتهم وسيّئاتهم التي اقترفوها وبكفرهم الذي لازموه.
ويفهم من ذلك أنّ الذّنوب سبب الانتقام وزوال النّعم، فليحذر هؤلاء وأمثالهم من الإهلاك والدّمار. والإنذار عامّ لكلّ زمان ومكان، فهذا إنذار لكفار قريش وكلّ الكفار أنه سينزل بهم من العذاب مثلما نزل بأمم سابقة جزاء استهزائهم بأنبيائهم.
عناد الكفار والرّدّ على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
المفردات اللغوية:
كِتاباً أي صحيفة مكتوبة ذات غرض واحد. قِرْطاسٍ ورق أو رقّ يكتب عليه.
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أبلغ من (عاينوه) لأنه أنفى للشّك. سِحْرٌ أي خداع وتمويه لا حقيقة له، ويقولون ذلك تعنتا وعنادا.
أُنْزِلَ هلا. لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لتّم أمر هلاكهم. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون لتوبة أن معذرة، كعادة الله فيمن قبلهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا.
وَلَوْ جَعَلْناهُ أي المنزل إليهم. لَجَعَلْناهُ أي الملك. رَجُلًا أي على صورة رجل، ليتمكّنوا من رؤيته، إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك. لَلَبَسْنا لسترنا وغطّينا، والمراد: جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم، بأن يقولوا: ما هذا إلا بشر مثلكم، فيلتبس الأمر عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنس، فلم يوقنوا أنه ملك ولم يصدّقوا به، وقالوا: ليس هذا ملكا، كما التبس على أنفسهم من حقيقة أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.(7/141)
سبب النزول:
نزول الآية (7) :
وَلَوْ نَزَّلْنا ... قال الكلبي: إن مشركي مكّة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنّك رسول الله، فنزلت هذه الآية.
وقال في رواية أخرى: نزلت في النّضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء 17/ 90] .
نزول الآية (8) :
وَقالُوا: أُنْزِلَ..:
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنّضر بن الحارث بن كلّدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
وإذا كانت قد أنزلت سور من القرآن تتضمن اقتراح المشركين إنزال ملك أو كتاب أو إنزال القرآن جملة واحدة، قبل هذه الآية، فلا مانع يمنع من تأكيد بيان هذا الاقتراح في مناسبة أخرى، إظهارا لعنادهم وتعنّتهم.
المناسبة:
ذكرت الآيات السابقة بعض المواقف من عناد المشركين، وتستمر الآيات هنا في بيان شبهات جحودهم وعنادهم ومكابرتهم للحقّ ومنازعتهم فيه، تلك(7/142)
الشّبهات الموجّهة إلى الوحي وبعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فصاروا منكرين أصول الدّين الثلاث: التّوحيد والبعث ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
يبيّن الله تعالى في هذه الآيات أسباب إعراض المشركين عن الإيمان، وتذرّعهم بشبهات واهية، ومطالبتهم إنزال صحيفة مكتوبة وإرسال ملك يؤيّد النّبي ويصدّقه، وهم في الحقيقة معرضون لا تؤثّر فيهم الحجج والبراهين، ولا يجديهم تنفيذ مقترحاتهم.
إن علّة تكذيبهم بالحقّ هي إعراضهم عن آيات الله وسدّ كلّ منافذ النّظر والفكر، وتعطيل كلّ طاقات الوعي والإدراك، فلو أنزلنا عليك يا محمد كتابا مدوّنا في ورق أو نحوه أو معلّقا بين السّماء والأرض، فعاينوه ورأوا نزوله ولمسوه بأيديهم، لقالوا: ما هذا إلا سحر مبين أي خداع وتمويه وتضليل لا حقيقة فيه.
وإنما قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لأن اللمس أقوى الدّلالات الحسيّة وأبعدها عن الخداع لأن البصر يخدع بالتخيّل. والتّعبير بقوله: نَزَّلْنا بالتّشديد، وقوله: كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وهو لا يكون إلا فيه، وقوله: فَلَمَسُوهُ للمبالغة وتأكيد النزول، ثم يعرضون عنه قائلين: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وهذا كما قال تعالى في مكابرتهم للمحسوسات: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [أي حبست ومنعت] بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14- 15] ، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً، يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور 52/ 44] .
هذا هو الرّدّ على اقتراحهم الأوّل وهو تنزيل كتاب من السّماء، ثم ردّ الله على اقتراحهم الثاني وهو إنزال ملك من السّماء يرونه ويكون مؤيّدا له، فقال تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل الله مع الرّسول ملكا(7/143)
يكون معه نذيرا ومؤيّدا له ونصيرا، كأنّهم فهموا أن الرّسالة السّماوية تتنافى مع البشرية، وهم يعلمون أنّ الرّسول بشر، كما قال تعالى: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون 23/ 33] ، وقال:
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان 25/ 7] ومضمون ردّ الاقتراح الثّاني من جهتين:
أوّلا- وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً.. أي ولو أنزل الله ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يمهلون ليؤمنوا، بل لجاءهم من الله العذاب، كما قال تعالى:
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الحجر 15/ 8] ، وقال:
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان 25/ 22] .
ثانيا- وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.. أي ولو أنزلنا مع الرّسول البشر ملكا، لكان متمثلا بصورة الرّجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ثم يعود الأمر كما كان ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه، الذي يلبسون على أنفسهم ويختلط الأمر عليهم باستنكار جعل الرّسول بشرا فإن هذا الرّجل سيقول لهم: إنّي رسول الله، كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس في الآية:
يقول: لو أتاهم ملك، ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور.
وقال قتادة: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: ما لبّس قوم على أنفسهم، إلا لبّس الله عليهم، واللّبس إنما هو من الناس.
فقه الحياة أو الأحكام:
إنّ إجابة المطالب المادية القائمة على التّعنّت والعناد، مثل إنزال المائدة على(7/144)
بني إسرائيل، وإنزال كتاب مكتوب في قرطاس أي صحيفة، وإنزال ملك من الملائكة لا تحقق الغرض، وسيظلّ الكافرون المشركون على موقفهم من الكفر والإعراض.
وهذا ما ردّ الله به على الاقتراح الأوّل للمشركين بإنزال كتاب، فلو أنزله وعاينوه ومسّوه باليد كما اقترحوا، لإزالة الرّيب والإشكال عنهم، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم. وهذه الآية جواب لقولهم: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء 17/ 93] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذّبوا به.
ثمّ ردّ الله على اقتراحهم الثاني بإنزال ملك: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته.
وقال الحسن البصري وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال لأن الله أجرى سنّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن، أهلكه الله في الحال.
وتكملة الرّدّ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلّا بعد التّجسيم بالأجسام الكثيفة لأن كلّ جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه فلو جعل الله تعالى الرّسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولخافوا منه ومن مكالمته، فلا تتحقق المصلحة ولو تمثّل بصورة بشر لقالوا: لست ملكا، وإنما أنت بشر، فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي.
أي إن هدفهم لا يتحقق فلو نزل بصورته الحقيقية لما أطاقوا رؤيته، ولو نزل بصورة رجل، التبس الأمر عليهم وقالوا: هذا ساحر مثلك.(7/145)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
عاقبة المستهزئين والمكذّبين
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
الأعراب:
فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ما كانُوا: في موضع رفع لأنه فاعل فَحاقَ وتقديره: حاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزئون. وما: مصدرية، أي عقاب استهزائهم.
ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عاقِبَةُ: اسم كان المرفوع. وكَيْفَ:
خبر كان المنصوب. وإنما قال: كان، ولم يقل كانت لوجهين:
أحدهما- لأن عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ في معنى: مصيرهم، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
والثاني- لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، فجاز تذكير فعلها، كقولهم: حسن دارك، واضطرم نارك.
البلاغة:
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ تنكير بِرُسُلٍ للتكثير والتّفخيم.
المفردات اللغوية:
اسْتُهْزِئَ الاستهزاء: السّخرية، والاستهزاء بشخص: احتقاره والتّهكّم عليه، ويتبعه الضّحك غالبا. فَحاقَ نزل وأحاط بهم فلم يكن لهم منه مفرّ. والمراد أحاط العذاب بالساخرين، فكذا بمن استهزأ بك. عاقِبَةُ مصير أو آخر الأمر، مثل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] والحيق: ما ألم بالإنسان من مكر أو سوء يعمله.
المناسبة:
كانت اقتراحات بعض كفار مكّة كإنزال ملك من الملائكة مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم(7/146)
أو إنزال ملك بالرّسالة، صادرة على سبيل الاستهزاء، وكان يضيق قلب الرّسول بسماع ذلك، فأنزل الله هاتين الآيتين للتّخفيف عما يلاقيه النّبي صلّى الله عليه وسلّم من سوء الأدب والهزء والسّخرية، وإنزال العذاب هو سنّة الله الثابتة في المكذّبين أنبياءهم.
فهذه تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذّبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدّنيا والآخرة.
التّفسير والبيان:
لقد استهزأ الأقوام الغابرون- وهذا تعبير بصيغة القسم من الله- بأنبيائهم الكرام، كما قال تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر 15/ 11] وذلك معاداة للإصلاح ودعوات الحقّ والتّوحيد والاستقامة، فليس كفار قريش منفردين بهذا الموقف، لكن كان جزاؤهم وجزاء أمثالهم من الساخرين إحاطة العذاب بهم.
وهذا إرشاد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان سنّة الله في المكذّبين، وتسلية له حتى لا يضيق قلبه ذرعا، وتبشير له بالنّصر وحسن العاقبة، وقد أهلك الله خمسة من رؤساء قريش في يوم واحد، وهذا ما امتنّ الله به على نبيّه بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] .
وقل يا محمد للمشركين: فكّروا في أنفسكم، وانظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية الذين كذّبوا رسله وعاندوهم، من العذاب والنّكال والعقوبة في الدّنيا، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وقوم لوط، انظروا واعتبروا، كيف كان عاقبة المكذّبين، مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجّى الله رسله وعباده المؤمنين.(7/147)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
فقه الحياة أو الأحكام:
الاستهزاء بالرّسل عادة قديمة معروفة، وكذلك نزول العذاب والهلاك بأولئك الأقوام المستهزئين بأنبيائهم أمر ثابت، وحق مقرر، وجزاء عادل.
والتاريخ أصدق شاهد، فلينظر كل ساخر ليعرف ما حلّ بالكفرة قبله من العقاب وأليم العذاب. والمكذّبون هنا: من كذّب الحقّ وأهله، لا من كذّب بالباطل.
ويؤخذ من الآية أن السّفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الدّيار.
أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)(7/148)
الإعراب:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام: لام جواب القسم، وهي جواب كَتَبَ لأنه بمعنى: أوجب، ففيه معنى القسم.
الَّذِينَ خَسِرُوا إما مبتدأ، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ودخلت الفاء في خبر الَّذِينَ لأن كل اسم موصول بجملة فعلية إذا وقع مبتدأ، فإنه يجوز دخول الفاء في خبره، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. وإما منصوب على البدل من الكاف والميم في لَيَجْمَعَنَّكُمْ وهو بدل الاشتمال، وإليه ذهب الأخفش، والوجه الأول أوجه.
وقال الزمخشري: إنه منصوب على الذم، أو مرفوع، أي أريد الذين خسروا أنفسهم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يُصْرَفْ مبني للمجهول، ونائب الفاعل مقدر تقديره: من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرئ مبنيا للمعلوم، وفاعله: الله تعالى، وحذف المفعول وتقديره:
من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه. والوجه الأول أوجه: لأنه أقل إضمارا، وكلما كان الإضمار أقل، كان أولى.
البلاغة:
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
كَتَبَ فرض وأوجب إيجاب تفضل وكرم لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليحشرنكم، والمقصود من الكلام: ليجازينكم بأعمالكم لا رَيْبَ فِيهِ لا شك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي تركوا ما يقتضيه العقل والعلم والمصلحة الحقيقية، وعرّضوا أنفسهم للعذاب. ما سَكَنَ ثبت. من السكون: ضد الحركة، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله، أي له ما سكن وما تحرك، مثل قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل 16/ 81] أي والبرد. والمقصود: له تعالى كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه.
وَلِيًّا ناصرا.
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُطْعِمُ يرزق.
وَلا يُطْعَمُ لا يرزق أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بعبادة غيره.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يبعد عنه العذاب.
رَحِمَهُ أي نجّاه من العذاب والأهوال، وأراد له الخير. الْفَوْزُ الْمُبِينُ النجاة الظاهرة.(7/149)
المناسبة:
هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة: إثبات وجود الصانع وتوحيده، وتقرير البعث والمعاد والجزاء، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب، وهذا نمط آخر في الإثبات، لترسيخ العقيدة في القلب، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل.
وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وثبت أنه تعالى الملك المطاع، والملك المطاع: من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد حينئذ من مبلّغ، والمبلّغ هو النبي، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة.
التفسير والبيان:
قل يا محمد للمشركين من قومك: لمن هذه السموات والأرض، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق، كما حكى تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] .
قُلْ: لِلَّهِ هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم، لأنهم مقرّون بذلك، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه.
ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته: صفة الرحمة، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة: الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة(7/150)
بالعباد، ولولا خوف العذاب يوم القيامة، لامتلأت الدنيا فسادا وفوضى وإجراما، ولضجّ العالم، واختل نظام المجتمع، فصار التهديد بهذا اليوم من مظاهر الرحمة.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لما خلق الخلق، كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»
أي لما أظهر قضاءه، وأبرزه لمن شاء، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه.
وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة وسبب الخسارة: أنهم لا يؤمنون، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم، والأمر على العكس.
والجواب كما ذكر الزمخشري: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون.
وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا.
ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات(7/151)
المخلوقات وأسرارهم، وكا ذلك مؤد إلى الرقابة الإلهية والتصرف التام بكل شيء.
ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له، فقال له: قل يا محمد: لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق، وهذا مثل قوله تعالى: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر 39/ 64] .
وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة، ثم فصلتا، وهذا فيه أيضا فطر وشق، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء 21/ 30] .
وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 56- 58] .
وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب، لا من أي مخلوق سواه، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده.
وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا، فقل لهم: إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.(7/152)
ثم أمر الله نبيه ببيان جزاء من خالف الأمر والنهي السابقين فقال له:
قُلْ: إِنِّي أَخافُ.. أي قل لهم: إني أخشى إن عصيت الله ربي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم، ويجازيهم على ما يستحقون. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا الإنذار موجها لنبي الله، فما بال الناس الآخرين؟! من يدفع عنه ذلك العذاب يومئذ، فقد رحمه الله ونجا، وذلك هو الفوز الساحق الظاهر الذي لا فوز أعظم منه، كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران 3/ 185] . والفوز: حصول الربح ونفي الخسارة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تثبت أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والبعث والجزاء، والنبوة، وهي أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين، وأولها انتزاع الاعتراف بالخالق، وهم يعترفون بذلك وأن خالق السموات والأرض هو الله. وإذا لم يعترفوا فالحجة قائمة عليهم.
وإذا ثبت أن لله ما في السموات والأرض، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ويبعثهم بعد الموت.
ولكنه تعالى كتب على نفسه الرحمة، أي وعد بها فضلا منه وكرما، فلذلك أمهل الناس حتى يعودوا لرشدهم، وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.(7/153)
ومن رحمته الإمهال إلى يوم القيامة، والاعلام بالجمع يوم القيامة، لإثابة الطائعين وتعذيب العاصين، وهذا الإنذار المسبق رحمة أيضا من الله بعباده لأنهم إذا علموا بأنه لا إفلات من الحساب، فكروا في أنفسهم، وأصلحوا أعمالهم، وصححوا إيمانهم.
ثم ذم الله تعالى الخاسرين أنفسهم بإهمالهم ما يقتضيه العقل والعلم من الإيمان الصحيح والاستقامة على دين الله وشرعه، وهؤلاء الخاسرون على الإطلاق لاختيارهم الكفر هم غير المؤمنين.
ومن الاحتجاج على المشركين: أن لله ما سكن وما تحرك في الكون. قال ابن عباس: نزلت الآية: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لأن كفار مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وترجع عما أنت عليه، فنزلت الآية «1» أي قال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني.
وإذ قامت الأدلة على الإله الحق فكل إنسان مأمور بعبادته واتخاذه وليا ناصرا له في تحقيق النفع ودفع الضرر، وإسلام الوجه له والانقياد لأوامره، فهو الرزاق المطعم، يرزق ولا يرزق، وكذلك كل إنسان منهي عن الشرك واتخاذ الأنداد والوسطاء.
وعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب الله يوم القيامة، فإنه عذاب شديد، ومن ينجو منه فقد شملته الرحمة والعناية الإلهية، وذلك أعظم فوز ونجاح للإنسان. اللهم اجعلني وذريتي وأبي وأمي وأهلي ومشايخي من الفائزين.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 122(7/154)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة
[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
الإعراب:
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي: استفهام في محل رفع مبتدأ، وأَكْبَرُ خبره، وشَهادَةً تمييز منصوب، وفَوْقَ منصوب على الظرف، لا في الكاف، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ: الْقاهِرُ كما تقول: زيد فوق عمرو في المنزلة، واللَّهُ شَهِيدٌ مبتدأ وخبر.
وَمَنْ بَلَغَ: في موضع نصب لأنه معطوف على الكاف والميم في لِأُنْذِرَكُمْ أي ولأنذر من بلغه القرآن، فحذف العائد، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي: بعثه الله.
وقال تعالى: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: أخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف 7/ 180] وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه 20/ 51] .
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصيبك، والمس أعم من اللمس، فيقال مسّه السوء أي أصابه.
بِضُرٍّ الضر: كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. بِخَيْرٍ الخير: كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل، كالعقل والعلم، والعدل، والمساواة والحرية، والصحة والغنى. والشر ضده: وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه.
الْقاهِرُ القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. الْحَكِيمُ في خلقه.(7/155)
سبب النزول: نزول مطلع الآية (19) :
قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقروم بن كعب، وبحري بن عمر، فقالوا:
يا محمد، ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله في قولهم: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الآية.
وقال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول، كما تزعم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن البصري وغيره: إن المشركين قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.
المناسبة:
بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع، ودفع الشر والضرر، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه.(7/156)
فيقول بما معناه: وإن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو حزن أو ذل ونحوه، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى لأنه القادر على كل شيء، وكذلك إن يحصل كل خير من صحة أو غنى أو عز ونحوه، فهو أيضا من الله، لكمال قدرته على كل شيء، ولأنّه القاهر الغالب صاحب العزة والسلطان والكبرياء، وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، ودانت له الخلائق، وقهر كل شيء، وهو الحكيم في جميع أفعاله، الخبير بمواضع الأشياء، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر 35/ 2] .
وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
أي الغني.
ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها، وأصحها وأصدقها:
وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، شهادة تدل على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتكشف حال أعدائه، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام: أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب: الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، أو الله شهيد بيني وبينكم، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له.
والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟
ثم أوضع الله مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا، فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ.. أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم، وكذا لأنذر(7/157)
وأبشر كل من بلغة القرآن من العرب والعجم، فهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] .
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» .
وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال: «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم» .
وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» .
وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلّى الله عليه وسلّم» . وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عز وجل فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.. وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله، وإني لا أشهد شهادتكم، كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام 6/ 150] .
وأصرح بأن الإله هو إله واحد، وهو الله عزّ وجلّ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها.
فقه الحياة أو الأحكام:
كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن(7/158)
وهو الخالق لكل شيء، فهو وحده القادر على جلب النفع لخلقه ودفع الضرر عن مخلوقاته، وأنت يا محمد وكل إنسان في الوجود إن تنزل بك شدة من فقر أو مرض فلا رافع ولا صارف له إلا هو وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة، فهو الكامل القدرة على كل شيء من الخير والضر.
والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده، ولكنه قهر بحكمة في أمره، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده.
والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته، كما قال تعالى:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلائِكَةُ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران 3/ 18] .
وشهد الله بصدق رسالة الرسول: بإخباره في قرآنه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح 48/ 29] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة 2/ 119] .
وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له، وبشرت الرسل المتقدمون به، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى.
كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة، وأدى الأمانة، وصدق القول، ونصح للأمة، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد.
والنّبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ القرآن والسنة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ(7/159)
بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
[المائدة 5/ 67] .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل: «من بلغه القرآن من الجن والإنس، فهو نذير له» .
ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به: أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود.
وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم، فإنه لا يشهد شهادتهم، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون.
وقد دل الكلام: قُلْ: لا أَشْهَدُ.. الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه:
أولها- قوله: قُلْ: لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.
وثانيها- قوله: قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.
وثالثها- قوله: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 179.(7/160)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
معرفة أهل الكتاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم والافتراء على الله وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
الإعراب:
الَّذِينَ خَسِرُوا إما نعت لقوله: الَّذِينَ قبله. وفاء: فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء جواب.
وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ مبتدأ مرفوع، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. وأَظْلَمُ: خبر المبتدأ، إلا أنه يفتقر إلى تمام، وتمامه: مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه، وهي بمعنى ابتداء الغاية. إِنَّهُ ضمير الشأن.
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ اسم تَكُنْ المرفوع، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا خبر تَكُنْ المنصوب، كأنه قال: لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب فِتْنَتُهُمْ، جعل اسم يكن أَنْ قالُوا كأنه قال: لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين: أحدهما- لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ، والثاني: لأن القول هو الفتنة في المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
وَاللَّهِ رَبِّنا رَبِّنا: وصف لقوله: وَاللَّهِ ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف، وتقديره: يا ربّنا. وما كُنَّا مُشْرِكِينَ جواب القسم، ورَبِّنا اعتراض وقع بين القسم وجوابه.
البلاغة:
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.(7/161)
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فيه إيجاز بالحذف، أي تزعمونهم شركاء.
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا تعجب من كذبهم الغريب.
المفردات اللغوية:
يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن. نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا توبيخا. كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء لله. فِتْنَتُهُمْ كفرهم، والمعنى المراد: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد: ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب.
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنهم. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفترونه على الله من الشركاء، يفترون ألوهيتها وشفاعتها.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟
فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله تعالى «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 179(7/162)
التفسير والبيان:
إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي وأنه خاتم الرسل، كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء فإن صفته في كتبهم واضحة، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته.
وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته.
لهذا كان السبب في إنكار نبوته: ما قاله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.. أي إن إنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناشئ من خسارتهم أنفسهم، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم، وتساووا مع بقية المسلمين.
هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة، ولضعف إرادتهم، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا آباؤنا، وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: والملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا، ولم يؤمنوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم خسارة للنفس، ثم أبان تعالى أن(7/163)
الافتراء على الله ظلم للنفس: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى.. أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ولا أحد أظلم لنفسه ممن زعم أن لله ولدا أو شريكا.
ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وعاقبة الظلم: عدم الفلاح، فلا يفلح المفتري ولا المكذب، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة- يوم الحساب والجزاء.
وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار، فقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.. أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما: أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، ويشفعون لكم عنده، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص 28/ 62] وقال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام 6/ 94] .
ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا، فيبادرون إلى إنكار الشرك. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ... أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو- كما صوب الطبري- لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة: ما كنا مشركين.(7/164)
وهنا تساؤل ذكره الزمخشري: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا نفع فيه؟ ثم أجاب: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما، حيرة ودهشة. وهناك حالة مماثلة: يقولون وهم يعذبون في النار: ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود ولم يشكّوا فيه.
ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر، توهما منهم أن ذلك ينفعهم، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك، كما قال تعالى: قالُوا: رَبَّنا، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
[النحل 16/ 86] وقال تعالى:
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء 4/ 42] .
سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقال: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا لنجحد: قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء 4/ 42] . أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك، فتارة يكذبون، وتارة يصدقون، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة.
وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس: هي الشرك في الدنيا، لكن على تقدير مضاف: هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب: وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة.
وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تأمل(7/165)
وتعجب من كذبهم الصريح، بإنكارهم الشرك، وكذبهم باليمين الفاجرة بإنكار ما صدر عنهم.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم.
ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا [غافر 40/ 73- 74] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار.
المشهد الأول- أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة أمره، وصدقه، ورسالته، ولكنهم قوم معاندون، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية.
المشهد الثاني- أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته.
ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.(7/166)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
مواقف من عناد المشركين حول القرآن الكريم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
الإعراب:
مَنْ يَسْتَمِعُ مَنْ: مبتدأ مرفوع، وخبره: مِنْهُمْ ووحد الفعل: يَسْتَمِعُ لأنه حمله على لفظ مَنْ. ولو حمل على المعنى لكان جائزا حسنا كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ.
أَنْ يَفْقَهُوهُ تقديره: كراهية أن يفقهوه، فحذف المضاف. وقيل: تقديره: لئلا يفقهوه. أَساطِيرُ قيل: واحدها أسطورة، وقيل: إسطارة، وقيل: هو جمع الجمع واحدة أسطار، وأسطار: جمع سطر بفتح الطاء، كجمل وأجمال، وجيل وأجيال.
البلاغة:
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً عبر بالأكنة في القلوب، والوقر في الآذان، وهو تمثيل بطريق الاستعارة، لإعراضهم عن القرآن.
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم.
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إذا قرأت. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان: وهو الغطاء، كأسنة وسنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ ألا يفهموا القرآن. وَقْراً صمما وثقل سمع، فلا يسمعونه سماع قبول.
آيَةٍ علامة دالة على صدق الرسول. يُجادِلُونَكَ يخاصمونك وينازعونك. أَنْ ما.
هذا القرآن. أَساطِيرُ أكاذيب وخرافات، جمع أسطورة. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون(7/167)
الناس عن اتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يتباعدون عنه ويعرضون، فلا يؤمنون به. وَإِنْ يُهْلِكُونَ ما يهلكون بالنأي عنه إلا أنفسهم لأن ضرره عليهم.
سبب النزول:
نزول الآية (25) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ: قال ابن عباس: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية، وأبيا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟
قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأول، وكان يحدث قريشا، فيستملحون حديثه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (26) :
وَهُمْ يَنْهَوْنَ ... : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتباعد عما جاء به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد أبي هلال قالت: نزلت في عمومة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر.
قال مقاتل بعد ذكر رواية الحاكم: وذلك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو طالب:(7/168)
والله، لا وصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك، ما عليك غضاضة ... وأبشر وقرّ بذاك منك عيبونا
وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبّة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فأنزل الله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ الآية «1» .
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أحوال الكفار في الآخرة وما يكونون عليه من اضطراب، فمرة ينكرون الشرك، وأخرى يقرون به، أتبعه هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم.
التفسير والبيان:
من هؤلاء الكفار فريق يجيء ليستمع إلى قراءتك القرآن، والحال أنه لا تجزي عنهم شيئا، ولا يستفيدون شيئا لأنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة 2/ 171] . أي إن إقامة الحواجز دون فهم القرآن وقبوله وتدبر معانيه، كان بسبب التقليد الأعمى وإعراضهم الناشئ عن تصميم وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل.
وهذا ما قررته الآية التالية: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها، فلا فهم
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 123(7/169)
عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 8/ 23] .
حتى إنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق وفي دعوتك قالوا:
ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم، وما هو إلا نوع من الترهات والخرافات والقصص الأسطورية التي تدون وتشغل أذهان العامة.
وهم بالإضافة إلى تكذيبهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانقياد للقرآن، ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع.
أو أن الآية نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤذى أو أن يقتل، ويتباعد عنه.
وعاقبة ذلك أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنون أنهم يضرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين، إما في ساحات القتال كبدر وغيرها، أو ببلاء ونقمة خاصة، وسيتبعها هلاك الآخرة. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عبرة وعظة بليغة تستوقف النظر والتأمل، إذ ما أصعب حجب الحقائق عن الإنسان وتركه يتيه في ظلمات الأهواء ويتردد في موج الضلالات.
فهؤلاء الكفار أذكياء وزعماء يسمعون ويفهمون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون(7/170)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم.
وقد أخبر الله تعالى عن أوضاع عنادهم وردهم الآيات بغير حجة لأنهم لمّا رأوا القمر منشقا قالوا: هذا سحر، ولمّا وجدوا القرآن معجزة سما ببلاغته عن فنون كلامهم وقولهم، قالوا: هذا أساطير الأولين.
وموقف الكفار يجمع كل فصول القبح والاستغراب والاستهجان، وقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ عام في جميع الكفار، ينهون عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وينأون عنه، فلا يكتفون بإعراضهم، وإنما يصدون الناس عن دعوة الإسلام، وهم بهذا ما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدّونهم.
أما موقف أبي طالب فالله أعلم به، والرواية المشهورة:
ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا تعيّرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] .
حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)(7/171)
الإعراب:
وَلا نُكَذِّبَ ... وَنَكُونَ النصب فيهما بتقدير أن، لتكون مع الفعل مصدرا، فتعطف بالواو مصدرا على مصدر، وتقديره: يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب وكونا من المؤمنين. والنصب على أنه جواب التمني لأن التمني ينزل منزلة الأمر والنهي والاستفهام في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة.
ويجوز فيهما الرفع: إما عطفا على نُرَدُّ فجعل كله مما يتمناه الكفار يوم القيامة، فيكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء وهي: أن يردوا، وألا يكونوا قد كذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين.
وإما الرفع على القطع والاستئناف، فإنه يجوز في جواب التمني الرفع على العطف والاستئناف، فلا يدخلان في التمني، وتقديره: يا ليتنا نرد، ونحن لا نكذب، ونحن نكون من المؤمنين.
ويجوز رفع نُكَذِّبَ ونصب نَكُونَ والرفع على ما تقدم من العطف على نُرَدُّ. والنصب يكون على جواب التمني على ما تقدم، فيكون داخلا في التمني.
البلاغة:
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تأكيد بمؤكدين هما: «إن» و «اللام» للإشارة إلى أن الكذب طبيعتهم.
المفردات اللغوية:
إِذْ وُقِفُوا عرضوا، يقال: وقف على الشيء: عرفه وتبينه وجواب لَوْ محذوف تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا أو عجبا أو مشقات ونحو ذلك. بَدا لَهُمْ ظهر لهم يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يكتمون، بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، بشهادة جوارحهم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الشرك وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في وعدهم بالإيمان وَقالُوا أي منكرو البعث إِنْ هِيَ ما هي بِمَبْعُوثِينَ بعث الموتى: نشرهم ليوم البعث، أي القيامة. ونشر الميّي: عاش بعد الموت.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته ويبتعد عنه، بأنهم يهلكون أنفسهم، شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية، وصدور بعض التمنيات منهم بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال، ولكن الله كذبهم فيما يقولون.(7/172)
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى حال الكفار إذا تبينوا يوم القيامة وعرفوا النار، وشاهدوا أهوالها وفظائعها، فلو رأيتهم أيها السامع وما بهم من هول وفزع لرأيت عجبا يصعب وصفه، حين تعرضهم ملائكة العذاب على النار، ثم يدخلونها ويعاينون شدتها، فيندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا قائلين: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ... أي يا ليتنا نرجع إلى الحياة الدنيا، ولا نكذب بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته وصدق رسله، ونؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، ونتوب من ذنوبنا، ونعمل صالحا يرضي الله سبحانه.
فرد الله عليهم بقوله بَلْ للإضراب الإبطالي لهذا التمني، وللإضراب عن إرادة الإيمان، فحالهم لم تتغير، وإنما ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، وتظهر حقيقتهم لأنهم كانوا يخفون الكفر ولا يبدونه، أما المؤمن الحقيقي فيعلن إيمانه ولا يكتمه، ويتحملون عاقبة كفرهم من العقاب الشديد، كما قال تعالى:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] فهي لا تخفى على أنفسهم ولا على ربهم، وقال تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر 39/ 47- 48] .
ثم كذّبهم الله صراحة في هذا الندم أو التمني، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا ... أي لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم الله عنه من الكفر والعناد والنفاق والمعاصي، فإن العصيان مستقر في أنفسهم، فديدنهم العناد، وطبعهم الكذب، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء، وأقروا بحياة الدنيا ولم يؤمنوا بالآخرة، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط، نعيش ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة، بل لا(7/173)
آخرة، وما نحن بمبعوثين، أي ما هذه إلا الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها.
وهؤلاء هم الماديون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقائق الإيمانية لا تتغير ولا تتبدل، ولا بد من حدوثها فإن وعد الله حق، والجنة حق، والنار حق، وسرعان ما تنكشف هذه الحقائق، ويفتضح الكفر والكفار، وينالون عذاب النار، فلو تراهم يعذبون في جهنم لرأيت أسوا حال، أو لرأيت منظرا رهيبا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا.
ولا يجدون مناصا أو مفردا من عذاب الله، ويتخبطون، ويتأملون، ويتمنون العودة إلى دار الدنيا لتصحيح العقيدة وإصلاح العمل، وترك التكذيب بآيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله، ليكونوا مع صف المؤمنين في الدنيا، وفي حال أحسن من حالهم في الآخرة، في جنان الله وروضاته. ولكنهم يتمنون هذا الشيء ضجرا وقلقا، مع علمهم باليأس من العودة، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لما كذبوا ولآمنوا، فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا من النار.
وهم أمام العذاب وفي وسط النار يظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه من الكفر والمعاصي، ولو ردّوا لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس رأس الكفر ما عاين من آيات الله ثم عاند.
ودل قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ على الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، كما دل على كذبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.(7/174)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
وأرشد قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا إلى ما قالوا في الدنيا، وإلى أنهم قوم ماديون، لا يؤمنون بالآخرة، ولو ردّوا لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال، فهم قوم معاندون، أبت نفوسهم الأمارة بالسوء إلا المكث على الضلال والنفاق، والمكر والكيد، والكفر والمعاصي.
ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر.
حال المشركين أمام ربهم في الآخرة وحقيقة الدنيا
[سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
الإعراب:
وَلَوْ تَرى ... : جواب لَوْ محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وتقديره: لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. وعَلى رَبِّهِمْ أي على سؤال ربهم، فحذف المضاف.
بَغْتَةً منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في فِيها تعود على ما لأنه يريد ب ما الأعمال، كأنه قال: على الأعمال التي فرطنا فيها.(7/175)
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: ما: نكرة في موضع نصب على التمييز بساء. وفي ساءَ: ضمير مرفوع يفسره ما بعده كنعم وبئس. وقيل: «ما» في موضع رفع بساء.
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الدار: مبتدأ، والْآخِرَةُ: صفة له، وخَيْرٌ: خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره: ولدار الساعة الآخرة خير، ولا بد من هذا التقدير لأن الشيء لا يضاف إلى صفته، فوجب تقدير موصوف محذوف، وهذه الإضافة في نية الانفصال.
البلاغة:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للتوبيخ.
المفردات اللغوية:
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرضوا على الله، لرأيت أمرا عظيما قالَ لهم على لسان الملائكة توبيخا أَلَيْسَ هذا البعث والحساب بَلى وَرَبِّنا إنه لحق تَكْفُرُونَ به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث حَتَّى غاية للتكذيب السَّاعَةُ القيامة: وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم، وبدء الحياة الأخرى بَغْتَةً فجأة يا حَسْرَتَنا هي شدة التألم والندم على ما فات، ونداؤها مجاز، أي هذا أو انك فاحضري عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا مع القدرة على الفعل فِيها أي الدنيا.
أَوْزارَهُمْ جمع وزر: وهو الحمل الثقيل، ويطلق شرعا على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره، والمراد بقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تحمل مسئولية أفعالهم، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فتركبهم أَلا ساءَ بئس ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم ذلك وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال بها لَعِبٌ عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا وَلَهْوٌ ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني، ولا يعقب منفعة دائمة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك أَفَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنوا.(7/176)
المناسبة:
لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة.
التفسير والبيان:
ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم، لوجدت هول أمرهم، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف.
وظاهر الآية غير مراد قطعا لأنه استعلاء على ذات الله تعالى، وهو باطل بالاتفاق، وإنما هذا من قبيل المجاز، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة، امتثالا لأمر الله فيهم، كما قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 37/ 24] . وعبر بهذا التعبير: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله، لا يتصرف فيهم غيره.
ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ أي أليس هذا المعاد بحق، وليس بباطل كما كنتم تظنون.
أجابوا: بلى وربنا، أي أنه الحق الذي لا شك فيه، وأكدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين.
فرد الله عليهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.
ثم أخبر تعالى بخبر عام: وهو خسارة من كذب بلقاء الله، وخيبته إذا(7/177)
جاءته الساعة بغتة، وندامته على ما فرط من العمل للآخرة، وما أسلف من قبيح القول. وسبب الخسارة: إنكار البعث والجزاء الذي يفسد الفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى الشر والإثم لأن هذا الإنكار يحصرهمّ الكافرين في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها، والتنافس في متاعها، والغرور بالمجد والاستعلاء والسلطة على الآخرين.
هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف 7/ 177] . قال ابن عباس: الأوزار: الآثام والخطايا. أما قوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ فمعناه:
بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه.
ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي: تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح، يحمله صاحبها يوم القيامة «1» .
ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وزوال، ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 114(7/178)
وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل.
وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله، أدركوا ألا فائدة من الإنكار، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد، أقسموا بالله أنه حق ثابت، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم، جزاء وفاقا على كفرهم.
والنقاش يحدث من قبل الملائكة، تقول لهم بأمر الله: أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: بَلى وَرَبِّنا إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة، والمراد بقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ: أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.
ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما- حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني- حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم.
والمراد من الخسران: فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله: فِيها أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، بدليل قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة 2/ 16] .(7/179)
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب الشديد، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران.
ودل قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين: أعمال لا خير فيها ولا نفع، وهي أمور الدنيا المحضة، وهي الغالبة في أعمال الناس، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة- وقال: حديث حسن غريب- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله، أو أدّى إلى ذكر الله، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيه» .
وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها» .
وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء» .
ودل قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه.
وأشارت هذه الآية: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.. إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها لأنها بإرادة الله وحكمته، وخلقه وإيجاده، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها، ولا يبقى منها(7/180)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
عند انقراض الحياة إلا الحسرة والندامة، كاللهو واللعب يلتذ به، ثم بعد انتهائه لا يبقى منه إلا الندامة.
وأومأ قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة.
ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى.
حزن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
الإعراب:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتشديد، أراد به: لا ينسبونك إلى الكذب لأنهم لا يعرفونك بذلك، وإنما يعرفونك بالصدق، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف، ومعناه: لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.(7/181)
مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره: ولقد جاءك مجيء من نبأ المرسلين، ويكون الفعل جاءَكَ دالا على المصدر المحذوف، وهذا مذهب سيبويه. والثاني- أن تكون زائدة، وتقديره: ولقد جاءك نبأ المرسلين، وهو مذهب الأخفش.
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إن: شرط، وجوابه محذوف، وتقديره: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك.
البلاغة:
كُذِّبَتْ رُسُلٌ نوّن كلمة رُسُلٌ للتكثير والتفخيم.
المفردات اللغوية:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ قد: للتحقيق، وإنه: الضمير للشأن لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في السر، لعلمهم أنك صادق، والتكذيب: الرمي بالكذب.
بِآياتِ اللَّهِ القرآن يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب، أو إثبات ما نفي فيه. لِكَلِماتِ اللَّهِ هي وعده ووعيده، وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالخذلان، كما قال تعالى في إنجاز الوعد: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 171- 173] وقال عز وجل في إنزال الوعيد: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر 54/ 44- 45] نَبَإِ النبأ: هو الخبر ذو الشأن العظيم كَبُرَ عظم وشق عليه وقعة إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، والمراد: إعراضهم عن الإسلام، وقد كبر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم إعراضهم لحرصه عليهم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب ما فيه كلفة ومشقة، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله، وفي الشر كابتغاء الفتنة نَفَقاً سربا في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج أَوْ سُلَّماً مصعدا أو مرقاة، مأخوذ من السلامة، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك، وتذكيره أفصح من تأنيثه. بِآيَةٍ معجزة مما اقترحوا.
المعنى: أنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى يحكم الله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ولكن لم يشأ ذلك، فلم يؤمنوا فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بذلك، الجهل هنا: ضد(7/182)
العلم، وليس كل جهل عيبا لأن الإنسان محدود العلم، وإنما العيب بجهل ما يجب عليه علمه، أو ما ينبغي عليه معرفته من الكمال في حقه.
سبب النزول: نزول الآية (33) :
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ: روى الترمذي والحاكم عن علي: أن أبا جهل قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة.
وقال السّدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، كان يكذب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
المناسبة:
الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام،
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 123، أسباب النزول للسيوطي.(7/183)
ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان ينكر رسالة البشر، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول، متهما إياه بالكذب في الظاهر، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.
التفسير والبيان:
يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وإيلامه بالإعراض عن دعوته، فيقول: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كما جاء في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] وباخِعٌ نَفْسَكَ أي مهلكها، وقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] .
ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر: هو العناد والجحود، كما قال تعالى:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع، فأنت الصادق الأمين في نظرهم، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون الحق، ويجحدون بآيات الله، ويردونها بصدودهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله، إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه،(7/184)
كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس.
لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين، كما نصر رسله الكرام السابقين.
ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل، فقال: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين، وكذا وعيده لا حق بالكافرين، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.
ونظير هذه قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر 35/ 4] وقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج 22/ 42] .
والآية تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 35] وقال أيضا: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل 73/ 10] .
وقد تحقق فعلا أثر الصبر، ونجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في المشارق والمغارب، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب، ويؤذن بالفرج: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح 94/ 5- 6] .(7/185)
ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] وقال أيضا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم 30/ 47] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج 22/ 40] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] .
وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، فقال له: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ ... أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض، فتسير فيه، أو سلّما في أجواء السماء، فترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بها، ولكنك مجرد رسول من عندنا، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عز وجل.
ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما:
تفجير ينبوع في الأرض، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 90- 93] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.(7/186)
كل ذلك مرهون بإرادة الله ومشيئته، فلو شاء الله تعالى هدايتهم، لهداهم، بأن يخلق فيهم الإيمان كالملائكة، أو بأن يخلقهم مستعدين للإذعان للحق والإقرار بهدايات الرسل وما جاؤوا به من خير للعالم، ولكن شاء الله اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم، كما قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] وقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ...
[هود 11/ 118- 119] .
قال ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.
وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صادق أمين، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي: ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي:
1- إنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة.(7/187)
2- إنهم لا يقولون: إنه كذاب لأنهم جربوه الدهر الطويل، وما وجدوا منه الكذب البتة، وسموه بالأمين، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة، واعتقدوا أنه تخيل كونه رسولا من عند الله.
3- إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه، كذبوه، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له.
4- إنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، ويقولون في كل معجزة: إنها سحر، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين «1» .
أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين.
ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين.
وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله، على سبيل الافتراض، فإنها فاشلة خائبة لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه، ولولا ذلك لما حدثت.
وأمر الهداية مرجعه إلى الله، فلو شاء لهدى الناس جميعا، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 204- 205(7/188)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
فلا تكونن أيها الرسول بحرصك على إسلام قومك، ومحاولة تلبية مطالبهم وتنفيذ مقترحاتهم من الجاهلين بسنن الله في خلقه، ولا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين.
ولا يشتد حزنك عليهم إذا كانوا لا يؤمنون لأنك لا تستطيع هدايتهم.
رفض المشركين دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومطالبتهم بتنزيل آية
[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوانُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
الإعراب:
وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: الْمَوْتى: في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه يَبْعَثُهُمُ وتقديره: يبعث الله الموتى يبعثهم، كقولهم، مررت بزيد وعمرا كلمته. أي وكلّمت عمرا كلمته، فتكون قد عطفت جملة فعلية على جملة فعلية، فيكون معطوفا على قوله: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ. ويجوز أن يكون الْمَوْتى في موضع رفع، كقولهم: مررت بزيد وعمرو كلمته، والوجه الأول وهو النصب أوجه.
البلاغة:
وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.
المفردات اللغوية:
يَسْتَجِيبُ دعاءك إلى الإيمان، يقال: أجاب الداعي واستجاب له، واستجاب دعاءه:
لبّاه وقام بما دعاه إليه تدريجيا، والفرق بين يستجيب ويجيب أن الأول فيه قبول لما دعي إليه والثاني قد يكون بالمخالفة. الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واعتبار وَالْمَوْتى أي الكفار، شبههم بهم في عدم السماع يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في الآخرة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يردون، فيجازيهم بأعمالهم.(7/189)
وَقالُوا أي كفار مكةهلا وهي تفيد الحث على حصول ما بعدها آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الآية: المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه كناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن نزولها بلاء عليهم لأنهم سيهلكون إن جحدوها.
المناسبة:
نزلت هذه الآية بعد وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، ولمّا بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن الناس صنفان متفاوتان في الاستعداد لقبول الهداية الإلهية: صنف يختار الهدى على الضلال، وصنف بالعكس، بيّن هنا أن الصنف الأول: هم الذين يسمعون الدلائل والبينات سماع تدبر وفهم، وأن الصنف الثاني: لا يفقهون ولا يسمعون، وإنما هم كالأموات.
التفسير والبيان:
لا يكبر عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك فإنه لا يستجيب لدعائك إلا الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر ووعي، فيصغون إلى الحق ويتبعون الرشاد.
أما الكفار المعرضون الذين تحرص على أن يصدقوك: فهم في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا لأنهم لا يتدبرون حجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون، فالسبب في عدم قبولهم الإيمان وعدم تركهم الكفر أنهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا فيما أنزل الله، فصاروا بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، أي إنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد.
والقصد من قوله: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ إيراد مثل لقدرته تعالى على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة، ثم إليه يرجعون للجزاء، فالله وحده القادر على إحيائهم بالإيمان، وأنت لا تقدر على هدايتهم.(7/190)
ومن مظاهر عنادهم: مطالبتهم بإنزال آية من ربهم خارقة للعادة، كالناقة والعصا والمائدة، وتفجير الينابيع، وإنشاء البساتين المخضرة المحفوفة بأشجار النخيل والعنب، وإسقاط السماء قطعا عليهم، والإتيان بوفد أو جماعة من الملائكة، وإيجاد بيت من زخرف، وإنزال كتاب من السماء.
فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ ... أي قل لهم أيها النبي: إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا، ولكن حكمته تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزلها على وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا، لعاجلهم بالعقوبة، كما فعل بالأمم السابقة، كما قال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء 17/ 59] وقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء 26/ 4] .
ومعنى قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ: أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، ولكن حكمته اقتضت صرفه عن إنزالها، وأكثر هؤلاء القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب، فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم، ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة، وحينئذ يعطيهم الله المطلوب على أكمل الوجوه، فإنزال آية مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا.
يعني أن طلبهم آية مادية مع وجود هذه الآيات البينات القرآنية إنما هو محاولة تعجيز الرسول، فلو فرض حدوثها لما آمنوا ولقالوا: إنها سحر، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] وقالوا: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر 54/ 2] .(7/191)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
فقه الحياة أو الأحكام:
الاستجابة لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون، فينتفعون به ويعملون.
أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس، فهم لا يسمعون سماع تدبر، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم، لا موتى أجساد، وهذا سبيل الكفار.
وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الإخبار بالمغيبات، وسلامته من التناقض، وسمو نظمه.
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته.
كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن
[سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 39]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)(7/192)
الإعراب:
ما مِنْ دَابَّةٍ وما ... مِنْ شَيْءٍ من في المكانين: صلة زائدة تفيد التأكيد.
البلاغة:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما، لدفع توهم المجاز، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. صُمٌّ وَبُكْمٌ تشبيه بليغ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.
المفردات اللغوية:
دَابَّةٍ الدابة: كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ: المشي الخفيف طائِرٍ الطائر: كل ذي جناح يطير في الهواء، وجمعه طير. أُمَمٌ جمع أمة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها ما فَرَّطْنا ما تركنا، التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت فِي الْكِتابِ هنا: اللوح المحفوظ يُحْشَرُونَ الحشر: الجمع والسّوق، وبعد الحشر يقضي الله بينهم، ويقتص للجماء من القرناء، ثم يقول لأنواع الحيوان: كونوا ترابا. بِآياتِنا القرآن صُمٌّ عن سماعها سماع قبول وَبُكْمٌ عن النطق بالحق فِي الظُّلُماتِ المراد هنا الكفر صِراطٍ طريق، والطريق المستقيم: هو دين الإسلام.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها، ذكر الدليل على ذلك: وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين.
التفسير والبيان:
لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها(7/193)
وطبائعها، والله تعالى يدبرها ويرعى شأنها ويحسن إليها.
وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [الشورى 42/ 29] .
ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب: وهو اللوح المحفوظ: (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] . والأظهر عند الرازي وجماعة: أن المراد بالكتاب: القرآن لأن اللام للعهد السابق، والمعهود السابق: هو القرآن.
ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة، ويجازي كلا منها، كما قال: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير 81/ 5] .
روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما» .
وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» .
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ 78/ 40] .(7/194)
أما الكافرون الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على الوحدانية وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم: وهو الذي لا يسمع، أبكم: وهو الذي لا يتكلم، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول:
ولا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في ظلمات: ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة عادات الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة 2/ 17- 18] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه.
والله هو المتصرف في خلقه بما شاء، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومن شاء هدايته لطف به، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة.
فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد، ومن هداه، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل، فلأنه نظر نظرة مستقلة، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الله قادر على كلّ شيء، رحيم بالمخلوقات، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية، في أن الله خلقهم، وتكفّل بأرزاقهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به، قال الزجاج في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص.
وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان، والاستفادة(7/195)
منها، فإن جميع ما في الأرض مخلوق لمصلحتنا ومنفعتنا.
ودل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة،
روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء- التي لا قرن لها- من الشاة القرناء» .
ودل قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم، وهم في ظلمات الكفر يتيهون.
وأرشد قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ... إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله، ولكن لم يأمره به، وإنما دعاه إلى الإيمان، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.
قال الرازي: وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات «1» ، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل.
وأما دلالة قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب، فعلى القول بأن المراد منه: الكتاب المحفوظ في
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 221، وانظر أيضا: 2/ 48- 53(7/196)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
العرش، تكون الآية دالة على إحاطة علم الله بجميع أحوال المخلوقات كلا وتفصيلا تاما، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وعلى القول الثاني الذي استظهره الرازي بأن المراد منه القرآن، تكون الآية دالة على كمال الشريعة وإحاطة القرآن بجميع أصول الأحكام ومبادئ الإسلام وأخلاق الدين.
اللجوء إلى الله وحده في الشدائد
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
الإعراب:
قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ التاء هنا: ضمير مرفوع متصل في موضع رفع فاعل، والكاف والميم لمجرد الخطاب، ولا موضع لهما من الإعراب.
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ: صلة زائدة.(7/197)
البلاغة:
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فيه قصر صفة على موصوف، أي لا تدعون غيره لكشف الضر.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَكُمْ أي أخبروني، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده السَّاعَةُ القيامة المشتملة على العذاب بغتة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه إِنْ شاءَ كشفه وَتَنْسَوْنَ تتركون ما تُشْرِكُونَ به من الأصنام فلا تدعونه. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فكذبوهم بِالْبَأْساءِ بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب وَالضَّرَّاءِ من الضر: ضد النفع، وهو المرض يَتَضَرَّعُونَ يتذللون، والتضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف مُبْلِسُونَ متحسرون يائسون من النجاة دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم الذي يكون في أدبارهم.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه، ولا يتمردون على طاعته، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء.
قل أيها الرسول للمشركين: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، مثل الذي نزل(7/198)
بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف، والريح الصرصر العاتية، والصاعقة، والطوفان، أو أتتكم القيامة بأهوالها وخزيها ونكالها، أتدعون غير الله لكشف ما نزل بكم من البلاء؟ أم تدعون آلهتكم الأصنام التي تفزعون إليها، إن كنتم صادقين في اتخاذكم آلهة معه؟
ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله: بَلْ للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله، كقوله عز وجل: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] وقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت 29/ 65] وقوله: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان 31/ 32] .
وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] .
ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده، ليرجعوا عن غيهم، ويعودوا إلى رشدهم فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ... أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله، فلم يستجيبوا لهم، فاختبرناهم بالبأساء والضراء، أي بالفقر وضيق العيش،(7/199)
والمرض والسقم والألم، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون إذ الشدائد تصقل النفوس، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق. وهذه الآية متصلة بما قبلها اتصال الحال بحال قريبة منها لأن المشركين سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم، فكانوا متعرضين لأن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم.
ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال: فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم، أي ما رقّت ولا خشعت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يعتبروا، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم.
ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته، فقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا «1» .. أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة، وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير.
فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا، فلم يبق منهم أحد، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.
__________
(1) ليس المراد به النسيان الغالب على الإنسان، وإنما بمعنى تركوا ما ذكّروا به. [.....](7/200)
روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» . ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ... الآية.
وفي رواية الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج» .
أما المؤمن فلا يغتر بالنعمة ويصبر عند النقمة،
روى مسلم عن صهيب مرفوعا: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» .
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية: قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ ... حجة دامغة للمشركين، وهي مثل بارع في محاجّتهم ومجادلتهم، فهم عند الشدائد يرجعون إلى الله، وسيرجعون إليه يوم القيامة أيضا، فلم هذا الإصرار على الشرك في حال الرفاهية؟! مع أنهم في وقت الشدة يتناسون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب، وهذا دليل على اعترافهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة، وأنه يؤدب عباده بالبأساء (المصائب في الأموال) والضّراء (المصائب في الأبدان) وبما شاء: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء 21/ 23] . من أجل أن يرجعوا عما هم عليه من كفر وعصيان، ويثوبوا إلى رشدهم.
ولكن العناد يصحب الكفر غالبا، لذا عاتب الله تعالى الكفار على ترك الدعاء، وأخبر عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب، وربما تضرعوا بغير إخلاص، أو حين مباشرة العذاب، وهو غير نافع لهم حينئذ.
ويفهم من ذلك أن الدعاء مأمور به في حال الرخاء والشدة، قال الله(7/201)
تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي- أي دعائي- سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] وهذا وعيد شديد.
وأما وجود العناد من الكفار فدل عليه قوله تعالى: وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية.
وهم في ذلك متأثرون بالشيطان: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.
والإنعام على عبد ليس دليل الرضا عليه، وإنما إذا وجدت النعمة مع البقاء على المعصية، كان ذلك استدراجا من الله تعالى، كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم 68/ 45] . قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية:
حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً. وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وقال الحسن البصري: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه، وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه» .
وإن تدمير الأقوام وإهلاك الأمم مأساة في عرفنا، ولكن في تقدير الله عبرة وعظة حتى لا يستشري الفساد. وتضمنت آية فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ ... على وجوب ترك الظلم لما يؤدي إليه من العذاب الدائم، وتضمنت أيضا وجوب حمد الله تعالى الذي يعاقب الظلمة، حتى لا يدوم الفساد، وينضب عنصر الخير.(7/202)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
من أدلّة القدرة الإلهية والوحدانيّة ومهام الرّسل المرسلين
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
الإعراب:
مَنْ إِلهٌ مَنْ: مبتدأ، وإِلهٌ خبره، وغَيْرُ صفة له. يَأْتِيكُمْ بِهِ الهاء تعود على معنى الفعل أي ما أخذ منكم.
فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَمَنْ: مبتدأ، وخبره: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لأن فَمَنْ اسم موصول بالفعل بمنزلة الذي، كما تقدّم.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتُمْ أخبروني. خَتَمَ طبع. نُصَرِّفُ نبين ونكرر على وجوه مختلفة.
الْآياتِ الدّلالات على وحدانيتنا. يَصْدِفُونَ يعرضون عنها فلا يؤمنون. بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ليلا أو نهارا. الظَّالِمُونَ الكافرون، أي ما يهلك إلا هم.
مُبَشِّرِينَ من آمن بالجنة. وَمُنْذِرِينَ من كفر بالنار. يَمَسُّهُمُ المسّ: اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب الإنسان بما يسيء غالبا من ضرّ أو شرّ. يَفْسُقُونَ يخرجون عن الطاعة.(7/203)
المناسبة:
الآيات متصلة بما قبلها في موضوع واحد، وهو إثبات القدرة الإلهية، وإقامة الدليل على وجود الله وتوحيده، وبيان مهام الرّسل أو وظائفهم، مما يؤدي إلى إبطال الشرك وعبادة الأصنام.
التفسير والبيان:
قل أيها الرّسول لهؤلاء المشركين المكذبين المعاندين: أخبروني عما أنتم فاعلون إن سلبكم الله نعمة السمع والبصر، والفؤاد، فالسمع مفتاح المعرفة والتّفاهم مع الآخرين، والبصر لرؤية الأشياء والتّحكّم فيها والسّيطرة عليها، والقلب أو الفؤاد محلّ الحياة والعقل والعلم، فلو تعطلت هذه القوى اختلّ أمر الإنسان وضاعت مصالحه في الدّنيا والدّين. وإذا كان الله هو المنعم بهذه النّعم، وجب أن لا يستحق التّعظيم والثّناء والعبوديّة إلا الله تعالى.
والختم على القلب: الطّبع عليه، بحيث يصبح غير قابل لنفاذ الهداية إليه، ولا لتعقل الأمور وإدراك النّفع والضّرر، والحقّ والباطل.
وقوله: يَأْتِيكُمْ بِهِ معناه يأتيكم بما أخذ منكم، أي لا إله غيره يأتيكم بما سلب منكم.
انظر كيف نبيّن الآيات، ونوضّحها، ونفسّرها، ونكررها بألوان مختلفة وأساليب متعدّدة، من إعذار وإنذار، وترغيب وترهيب، ونحو ذلك، دالّة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال، فلو كان ما تعبدونه آلهة تنفع أو تضرّ لردّت عليكم هذا، وإن كنتم تعلمون أنها لا تقدر على شيء، فلماذا تدعونها، والدّعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله الواحد القهّار.
وانظر كيف يصدفون أي يعرضون، وقل لهم أيها الرّسول: أخبروني إن(7/204)
أتاكم عذاب الله بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به، أو جهرة أي ظاهرا عيانا تعاينونه وتنظرون إليه، أخبروني ماذا أنتم فاعلون؟ ولا يهلك إلا الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك بالله، وأصرّوا على الكفر والعناد، أي إنما يحيط العذاب بالظالمين أنفسهم بالشّرك بالله، وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له.
ثم بيّن وظائف الرّسل فقال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ.. أي إنّ مهمة الرّسل محصورة ببشارة المؤمنين بالجنة والخيرات، وإنذار من كفر بالله بالنار والعقوبات، ثم بيّن مصير الفريقين:
فمن صدّق الرّسل وآمن بقلبه بما جاؤوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم فلا خوف عليهم في المستقبل من عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله، على ما فاتهم في الماضي، وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدّنيا لأن الله يحفظهم من كلّ فزع، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء 21/ 103] ، ولا يحزنون في الدّنيا مثل حزن المشركين في شدّته وطول مدّته، وإنما يصبرون على ما أصابهم، ويلتمسون الأجر عند الله، ويتأملون العوض منه، لأن الله تعالى أرشدهم للشكر عند النعمة والصبر عند النقمة، وتفويض الأمر للخالق، كما قال: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد 57/ 22- 23] .
ومن كذب بآيات الله التي أرسلنا بها الرّسل، ينالهم العذاب بما كفروا وجحدوا بما جاءت به الرّسل، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا المنهيّات المحظورات، وكان جزاء كفرهم وفسادهم في الدّنيا بأنواع النّقمة، وفي(7/205)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
الآخرة بألوان الغضب والسّخط في جهنم. أما خير الدّنيا الذي ينعم به الكافر فمتاع قليل، وشيء تافه حقير إذا قورن بخير الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الله الذي خلق الخلق، وزوّدهم بمفاتيح المعرفة من السّمع والبصر والعقل، قادر على أن يسلبهم إيّاها، وإذا سلبت من يستطيع تعويضهم عنها؟ لا أمل بغير الله. وإذا عذبوا فجأة أو عيانا ظاهرا بسبب كفرهم ومعاصيهم، فإن عدل الله يقتضي ألا يهلك إلا الظالمين أنفسهم بالشّرك بالله، وينجي المؤمنين الأتقياء من ذلك العذاب.
ووظائف الرّسل محصورة بالتبشير والإنذار، أي بالترغيب والترهيب، قال الحسن البصري: مبشرين بسعة الرّزق في الدّنيا والثواب في الآخرة يدلّ على ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف 7/ 96] .
والإنسان وحده هو الذي يسجّل لنفسه ما يستحق من نعمة أو نقمة، فإذا آمن بالله ربّا وأصلح عمله، حظي بالأمان والسعادة والسرور، وإذا كذّب بآيات الله المنزلة على رسله، مسّه العذاب بكفره وفسقه.
انحصار مصدر علم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي ومهمته في الإنذار وطرد الضعفاء
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)(7/206)
الإعراب:
جملة لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ حال من ضمير يُحْشَرُوا بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. بِالْغَداةِ إنما دخلت الألف واللام على «الغداة» لأنها نكرة عند جميع العرب. وأما غدوة فأكثر العرب يجعلها معرفة ويمنعها من الصّرف. ومنهم من يجعلها نكرة ويصرفها.
ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ من الأولى للتبعيض، ومن الثانية زائدة. وشَيْءٍ:
في موضع رفع لأنه اسم ما ومثله: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ.
فَتَطْرُدَهُمْ منصوب لأنه جواب النفي.
فَتَكُونَ جواب النّهي، وتقديره: ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فتكون من الظالمين، وما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم.
أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَهؤُلاءِ: في موضع نصب بفعل مقدر، يفسّره:
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كما تقول: أزيدا مررت به، فإن الاختيار فيه النّصب لأن الاستفهام يقتضي الفعل ويطلبه، وهو أولى به من الاسم.
البلاغة:
ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ في الجملتين ما يسمى ردّ الصدر على العجز.
المفردات اللغوية:
خَزائِنُ جمع خزانة وخزينة: وهي ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف(7/207)
فيه. وخَزائِنُ اللَّهِ: التي منها يرزق، والمراد: ليست أرزاق العباد بيدي. الْغَيْبَ ما غاب علمه عن جميع الخلق، واستأثر الله بعلمه. الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ المراد بهما هنا الكافر والمؤمن أو الضّال والمهتدي. وَأَنْذِرْ خوّف. بِهِ أي بالقرآن. لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ غيره.
وَلِيٌّ ناصر ينصرهم. وَلا شَفِيعٌ وسيط يتشفع لهم. والمراد بقوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ... المؤمنون العاصون. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الله بإقلاعهم عما هم فيه، وعمل الطاعات.
تَطْرُدِ الطرد: الإبعاد. بِالْغَداةِ أو الغدوة كالبكرة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وَالْعَشِيِّ آخر النهار، أو من المغرب إلى العشاء. والمراد جميع الأوقات.
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون بعبادتهم وجه الله تعالى أي ذاته، لا شيئا من أعراض الدّنيا، وهم الفقراء، وكان المشركون طعنوا فيهم، وطلبوا أن يطردهم ليجالسوه، وأراد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، طمعا في إسلامهم.
حِسابِهِمْ أي حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة.
فَتَنَّا ابتلينا واختبرنا. بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي الشريف بالوضيع، والغني بالفقير، بأن قدّمناه بالسّبق إلى الإيمان. لِيَقُولُوا أي الشّرفاء والأغنياء منكرين معترضين. مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، أهمها الهداية، أي لو كان ما هم عليه هدى، ما سبقونا إليه.
مِنْ بَيْنِنا أي من دوننا.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ له، فيهديهم؟ بلى.
سبب النزول: نزول الآية (52) :
وَلا تَطْرُدِ..: روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال:
لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اطردهم، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله، فأنزل الله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وسأذكر رواية أخرى لمسلم في الموضوع.
وروى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده خبّاب بن الأرتّ وصهيب وبلال وعمار،(7/208)
فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ لو طردت هؤلاء لاتّبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى قوله: سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» .
وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل «1» في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب، فقالوا له: لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إيّاه، فكلّم أبو طالب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ فأنزل الله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ... الآية إلى قوله:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ- وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالما مولى أبي حذيفة، وصالحا «2» مولى أسيد، وابن مسعود، والمقداد بن عمرو «3» ، وواقد بن عبد الله الحنظلي وأشباههم- فأقبل عمر، فاعتذر من مقالته، فنزل: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية.
ويلاحظ أن هذه الرّوايات مختلفة، فبعضها ذكر نزول الآية إلى نهاية الآية [53] ، وبعضها أدخل الآيتين [54- 55] . والرّواية الأولى ذكرت ابن مسعود مع أئمة قريش، والرّواية الأخيرة ذكرته مع المطلوب طردهم.
المناسبة:
هذه الآية تتمة لما قبلها: نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ومبيّنة لحدود وظائف الرّسل بكونهم مجرّد مبشرين ومنذرين، فالله يأمر رسوله بأن يقول
__________
(1) في رواية: والحارث بن عامر، وقرظة بن عبد عمر بن نوفل.
(2) وفي رواية: «وصبيحا» .
(3) وفي رواية: والمقدام بن عبد الله، وعمرو بن عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد.(7/209)
لهؤلاء الأقوام: إنما بعثت مبشرا ومنذرا، وليس لي أن أتحكّم على الله، ومأمور أن أنفي عن نفسي أمورا ثلاثة: ليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولست ملكا من الملائكة. والفائدة من نفي هذه الأحوال: إظهار الرّسول تواضعه لله وعبوديته له، ردّا على اعتقاد النصارى في عيسى عليه السّلام، وإظهار عجزه عن الإتيان بالمعجزات المادية القاهرة القوية، فهذا من قدرة الله اللائقة به، ويعني ذلك أنه لا يدعي الألوهية ولا الملكية.
التفسير والبيان:
كان المشركون يطلبون من النّبي صلّى الله عليه وسلّم معجزات ماديّة قاهرة، جهلا منهم بمهمّة الرّسول ورسالته، فأنزل الله: قل أيها الرّسول لهؤلاء: لست أملك خزائن الله ولا أقدر على قسمتها وتوزيعها والتّصرّف فيها، فهذا لله وحده يعطي منها لعباده ما يشاء على وفق الحكمة وضمن قيد الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج والمسببات.
ولا أقول لكم: إني أعلم الغيب، فذاك لله عزّ وجلّ، ولا أطّلع منه إلا ما أطلعني عليه، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] .
ولا أدّعي أني ملك من الملائكة، إنما أنا بشر من البشر، يوحى إليّ من الله عزّ وجلّ، فلا أستطيع أن آتي بما لا يقدر عليه البشر.
والمعنى في هذه الأمور الثلاثة: أني لست أدّعي الألوهية، ولا علم الغيب، ولا الملكيّة، حتى تطلبوا مني ما ليس في طاقتي وقدرتي، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ القرآن وبيانه، ولست في هذا مبتدعا، إنما سبقني إلى الرّسالة رسل كثيرون قبلي.(7/210)
ووظيفة الرّسول: اتّباع الوحي، وهذا معنى قوله تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه.
ثم وبّخهم الله على ضلالهم مبيّنا لهم أنه لا يستوي الضّال والمهتدي فقال:
قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي قل للمشركين المكذبين: هل يستوي من اتّبع الحق وهدي إليه، ومن ضلّ عنه وحاد عن الحقّ.
أفلا تتفكرون فتميّزوا بين ضلال الشّرك وهداية الإسلام، وتعقلوا ما في القرآن من أدلّة توحيد الله وإيجاب اتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد 13/ 19] .
وخلاصة ما سبق: إثبات قدرة الله المطلقة التي تنفي وجود مثلها لأحد، مما يدلّ على وجود الله ووحدانيته، وإثبات كون القرآن والمعجزات المؤيدة لصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هي من الله وحده لأنه لا يستطيع الرّسول التّصرف في شيء خارج الحالات المعتادة، ولا الإتيان بشيء مثل القرآن أو تنزيل الآيات الغريبة، وإجراء المعجزات الخارقة للعادة.
هذه حقيقة الرّسالة، ثم أمر الله نبيّه بإنذار المؤمنين سوء الحساب والجزاء فقال: وَأَنْذِرْ بِهِ.. أي وأنذر يا محمد بالوحي أو بالقرآن الذين يؤمنون بالله ويخافون من الحشر وأهواله وشدّة الحساب يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال، عند لقاء الله، ويعتقدون بأنه ليس لهم فيه وليّ ولا شفيع ولا حميم ولا نصير: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] ، لعلهم يتقون أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عزّ وجلّ، قال ابن عبّاس: معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدّنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي.(7/211)
فهؤلاء المؤمنون بالله وبالغيب وباليوم الآخر هم الذين ينتفعون بالقرآن.
أما المادّيون الذين لا يؤمنون بغير المادّة، فقد حجبوا عن أنفسهم نور الهداية الإلهية، فطبع الله على قلوبهم وأصمّهم وأعمى أبصارهم. وهذا مثل قوله تعالى:
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر 35/ 18] .
ثم منع الله نبيّه من تقريب كفار قريش وأشرافهم المترفين، ومن تنحية المؤمنين المستضعفين وطرد الضّعفاء من الناس، فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ...
أي لا تبعد عنك هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات، بل اجعلهم جلساءك وخلصاءك، وصفاتهم أنهم مؤمنون حقّ الإيمان، موحّدون ربّهم دون شائبة شرك، يدعون ربّهم بالغداة والعشي أي في الصّباح والمساء وجميع الأوقات، يخلصون في طاعتهم وعبادتهم، فلا يقصدون إلا إرضاء الله تعالى، ولا يريدون من عبادتهم إلا ذات الله وحقيقته لأنه المستحق للعبادة. ونظير الآية قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف 18/ 28] .
وموقف هؤلاء المشركين له شبيه بموقف قوم نوح حين قال أشرافهم له:
وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود 11/ 27] ، وقوله لهم: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ [هود 11/ 29] .
ثم حصر الله تعالى حساب هؤلاء بربّهم، كما قال تعالى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء 26/ 113] ، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بعد أن شهد الله لهم بالإخلاص(7/212)
وبإرادة وجه الله في أعمالهم. وإن كان الأمر كما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرض بأن كانوا غير مخلصين، فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك، لا يتعدّاك إليهم «1» ، كما قال تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] ، وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدّثر 74/ 38] ، وقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164، الإسراء 17/ 15، فاطر 35/ 18، الزمر 39/ 7] .
والجملتان وهما ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ بمنزلة جملة واحدة، ومؤدّاهما واحد، ولا بدّ منهما جميعا، كأنه قيل:
لا تؤاخذ أنت، ولا هم بحساب صاحبه.
فلماذا تطردهم؟ لأن الطّرد جزاء، والجزاء بعد الحساب والمحاكمة، والحساب على الله، وما عليك إلا البلاغ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] .
فإن طردتهم والحالة هذه، فتكون بطردهم من زمرة الظالمين أنفسهم، لأن الطّرد- كما ذكرت- لا يكون إلا بذنب، والحساب على الذّنب إلى الله، لا إليك.
والخلاصة: ذكر الله غير المتقين من المسلمين، وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم، وأمر الله نبيّه بتقريبهم وإكرامهم، وألا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك.
ثم أوضح الله تعالى أن مقال المشركين في شأن الضعفاء ابتلاء من الله واختبار فقال: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ابتلينا واختبرنا وامتحنّا بعضهم ببعض، لتكون العاقبة أن يقول الأقوياء من الكفار في حقّ الضعفاء من المؤمنين: أهؤلاء الصّعاليك من العبيد والموالي والفقراء خصّهم الله بهذه النّعمة
__________
(1) الكشّاف: 1/ 507(7/213)
العظمى من جملتنا؟ كقوله تعالى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر 54/ 25] ، وقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 46/ 11] . والمعنى: أنهم لما اختبروا بهذا، فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] .
وبعبارة أخرى: إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين: أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق، ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدّمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء؟! إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحقّ، ممنوعا عليهم من بينهم بالخير. وافتتانهم هو سبب هذا القول لأنه لا يقول مثل هذا القول إلا مخذول مفتون.
ثم ردّ الله عليهم قولهم الناشئ عن العتو والاستكبار، فقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر، فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره، فيخذله ويمنعه التوفيق.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام الاعتقادية المهمة جدّا وهي:
1- إن الرّسول ليس عنده خزائن الله، ولا يملك التّصرّف في الكون، فلا يستطيع إنزال ما اقترحوه من الآيات.
2- إنه لا يعلم الغيب مثل بقية البشر.
3- إنه ليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدلّ بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء، كما استدلوا بقوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 26- 27] .(7/214)
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6] .
وأما القائلون بتفضيل بني آدم على الملائكة فاستدلّوا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البيّنة 98/ 7] بالهمز:
من برأ الله الخلق،
وبقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما أخرجه أبو داود: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم»
وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل «1» .
4- إنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.
5- لا يعمل إلا بالوحي، أي لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. وبهذا تمسّك القائلون بأنه لم يكن للنّبي صلّى الله عليه وسلّم الاجتهاد، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النّجم 53/ 3- 4] ، وقال نفاة القياس: وإذا كان لا يعمل إلا بالوحي، فوجب ألا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النّازل عليه.
والصحيح لدى الأصوليين أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلّة الشرع. والأدلّة السابقة مخصوصة بالقرآن، للرّدّ على من زعم أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم يفتري القرآن من عند نفسه، ولإثبات كون القرآن منزلا عليه بالوحي الإلهي.
6- مهمّة الرّسول كغيره من الرّسل الموصوفين بكونهم مبشرين ومنذرين:
هي الإنذار لقوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا.
7- الرّسول بحكم كونه بشرا مال فترة بحسب اجتهاده إلى إبعاد الفقراء والعبيد من مجلسه، طمعا في إسلام الزعماء والقادة، وإسلام قومهم، ورأى أن
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 289، 6/ 430(7/215)
ذلك لا يفوّت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدر، فمال إليه، فأنزل الله الآية:
وَلا تَطْرُدِ.. فنهاه عما همّ به من الطّرد، لا أنه أوقع الطّرد. وقد روينا في سبب النزول قصّتهم، ويحسن ذكر رواية أخرى هي
ما رواه مسلم في صحيحة عن سعد بن أبي وقاص قال: كنّا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم ستّة نفر، فقال المشركون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترءون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
وهذا دليل آخر على كون القرآن من عند الله تعالى، إذا يستحيل عقلا أن يهمّ النّبيّ بشيء، ثم ينهى نفسه عنه، لو لم يكن النّهي عن الفعل من عند ربّه.
8- في قوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ إشارة إلى تبدل ميزان القوى ومراكز الناس فإن حالات التّفوّق والنّعم لن تدوم للكفار، وأحوال الضعف التي مرّ بها المؤمنون وصبروا عليها لا بدّ أن تتبدّل، وسيصبح الأقوياء أذلّة، والضّعفاء أعزّة بالإسلام، ويعلو الحقّ، وتتأيّد دولة الله في الأرض، ويصبح أتباعها هم الأئمة الوارثين، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم 14/ 7] ، وقال: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] .
9- وفي الآية: وَكَذلِكَ فَتَنَّا أيضا إيماء إلى أنّ ترك المشركين للإيمان لم يكن إلا عنادا وجحودا ناشئا عن الاستعلاء والاستكبار، لا عن حجّة وبرهان. وفيها كذلك أن كلّا من فريقي المؤمنين والكافرين مبتلى بصاحبه، فالكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على سبقهم في الإسلام(7/216)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
والظفر بالخير والنّعمة، وفقراء الصحابة كانوا يرون الكفار في سعة ورفاه، فيقولون: كيف حال هؤلاء الكفار، مع أنّا في هذه الشّدة والضيق؟!
بعض أحوال رحمة الله تعالى
[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
الإعراب:
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالفتح فيهما، تكون الأولى بدلا من الرَّحْمَةَ وهو بدل الشيء من الشيء، وهو هو، والرَّحْمَةَ: في موضع نصب بكتب. وتكون الثانية خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: فأمره أنه غفور رحيم. ويجوز أن يجعل مبتدأ، ويقدّر لها خبر، تقديره: فله أنه غفور رحيم، أي: فله غفران ربّه.
ومن قرأ بالكسر فيهما فمن وجهين: أحدهما- أن كَتَبَ تؤول إلى قال، وتقديره:
قال: إنه من عمل. والثاني- على الاستئناف. والكسر بعد الفاء أقيس لأن ما بعد الفاء يجوز أن يقع فيه الاسم والفعل.
وَلِتَسْتَبِينَ الواو: عطف على فعل مقدر، وتقديره: ليفهموا ولتستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين، إلا أن الثاني حذف لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي والبرد.
سَبِيلُ بالرفع فاعل. لِتَسْتَبِينَ ولا ضمير فيه، والتاء في الفعل لتأنيث السبيل لأنها مؤنثة، كما قال تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي. ومن قرأ بالياء جعل السبيل مذكّرا، كما قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ... ومن نصب سبيل كانت التاء للخطاب، وهو مفعول به.(7/217)
المفردات اللغوية:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلامة وبراءة من العيوب والآفات. والسّلام: من أسماء الله تعالى الدّالة على تنزيهه عما لا يليق به من النّقص والعجز والفناء. واستعمل السلام في التّحية، أي السلامة من كل ما يسوء وتأمينه من كلّ أذى، وهو شعار الإسلام، ودليل الودّ والصّفاء، وتحية الله تعالى وملائكته لأهل الجنة، وتحيتهم فيما بينهم.
كَتَبَ فرض وأوجب وقضى. أَنَّهُ ضمير الشأن. بِجَهالَةٍ سفه وخفة تقابل الحكمة والروية والتعقل. وَلِتَسْتَبِينَ تتضّح وتظهر. سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ طريق المجرمين الذين أجرموا في حقّ أنفسهم وارتكبوا الجرائم التي هي المخالفات الشرعية.
سبب النّزول:
قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، فكان إذا رآهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بدأهم بالسّلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» .
وقال ماهان الحنفي: أتى قوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا عظاما، فما إخاله ردّ عليهم بشيء، فلما ذهبوا وتولوا، نزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا
«1» .
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى رسوله عن طرد المستضعفين، طمعا في إسلام الكبراء من قومه، أمره بأن يكرم جميع المسلمين بهذا النوع من الإكرام، وهو التّحية والسّلام والقبول بأمان وإعزاز.
التفسير والبيان:
وإذا جاءك أيها الرّسول الذين يؤمنون بالله ورسله ويصدقون بكتبه،
__________
(1) أسباب النّزول للنّيسابوري 125، تفسير القرطبي: 6/ 435(7/218)
تصديقا في القلب والعمل، سائلين عن ذنوبهم، هل لهم منها توبة، فقل لهم:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أمان من الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة، وأكرمهم بتبليغ سلام الله إليهم، أو ابدأهم بالسّلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم، وبشّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم.
ولهذا ذكر الله علّة ما سبق، فقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجبها على نفسه الكريمة، تفضّلا منه وإحسانا وامتنانا.
وقد جمعت في تفسير الآية: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بين السّببين اللذين ذكرا في سبب نزولها كما تقدّم، قال بعضهم: نزلت في قوم أقدموا على ذنوب، ثم جاءوه صلّى الله عليه وسلّم مظهرين للندامة والأسف، فنزلت هذه الآية فيهم.
وقال بعضهم: نزلت في أهل الصّفّة الذين سأل المشركون الرّسول صلّى الله عليه وسلّم طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام.
قال الرّازي: والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها، فكلّ من آمن بالله، دخل تحت هذا التّشريف «1» .
ثم أبان الله تعالى طريق قبول التوبة فقال: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً أي إنه من ارتكب منكم ذنبا أو خطيئة بجهالة كغضب شديد أو شهوة جامحة أو سفه وخفة غير مقدر سوء العاقبة أو من غير قصد، ثم تاب مخلصا لله في توبته، ورجع عن ذلك الذّنب وندم، وأصرّ على عدم العودة إليه في المستقبل، وأصلح عمله، وأتبع السّيئة بالحسنة لمحو أثرها، فشأنه تعالى في معاملته أنه يغفر له ذنبه، لأنه واسع المغفرة والرّحمة. ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء 4/ 17] . قال بعض
__________
(1) تفسير الرّازي: 13/ 2(7/219)
السّلف: كلّ من عصى الله فهو جاهل. وقال الحكم بن أبان بن عكرمة: الدّنيا كلّها جهالة.
وخلاصة شروط التوبة الصادقة أربعة: النّدم الحقيقي على الذّنب، والعزم على عدم العود إليه مستقبلا، وردّ المظالم إلى أهلها، وإتباعها بالعمل الصالح.
ثم أبدى الله سبحانه وتعالى تفضّلا منه طريقه في البيان وهو تفصيل آيات القرآن لمعرفة مناهج الطاعة والبعد عن مسلك أهل الاجرام فقال: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ.
والمعنى: ومثل ذلك التّفصيل البيّن البديع لدلائل التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر، نفصّل آيات القرآن وحقائق الشريعة، وتقرير كلّ حقّ ينكره أهل الباطل، ليتّضح للمؤمنين طريق المجرمين، وإذا اتّضح سبيلهم كان كلّ ما عداه وما خالفه هو سبيل المؤمنين، وذكر أحد القسمين يدلّ على الثاني، كقوله تعالى:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل 16/ 81] ولم يذكر البرد، ولأن بيان خاصية أحد الضّدين يدلّ ضمنا على خاصية القسم الآخر، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة أهل الحقّ والإيمان أيضا لا محالة.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدلّ الآيتان على ما يلي:
1- إكرام الله للمستضعفين الذين نهى الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسّلام.
ويستفاد منه احترام الصّالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم، فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه.
2- إمكان قبول التوبة من الله على عباده الذين وقعوا في الذّنوب، ثمّ تابوا(7/220)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
وأصلحوا العمل في المستقبل، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه 20/ 82] ،
وقال صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد عن أبي هريرة: «أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال: «أتدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم» .
3- سعة رحمة الله بعباده، فقد أوجب الله تعالى على نفسه الرّحمة تفضّلا منه وإحسانا، وأخبر بذلك بخبره الصدق، ووعده الحقّ، ليعلم العباد مدى رحمة الله، كما قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 156] .
4- القرآن الكريم فصّلت فيه كلّ أحكام الدّين: فكما فصّل الله في هذه السّورة دلائله على وجوده ووحدانيته، فصّل أيضا الآيات لعباده في كلّ ما هم بحاجة إليه من أمر الدّين.
حسم الجدل بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
الإعراب:
أَنْ أَعْبُدَ أن وصلتها في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجرّ، وتقديره: نهيت أن أعبد.(7/221)
المفردات اللغوية:
نُهِيتُ منعت وزجرت وصرفت بما أودع في من أدلّة العقل وبما أوتيت من أدلّة السّمع.
والنّهي: المنع من الشيء والزّجر عنه. تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون غيره، هذا هو المراد، وأصل الدّعاء: النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضّرّ. لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أي لا أسير في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى في عبادة الأصنام، دون اتّباع الدّليل، وهو بيان سبب الضّلال الذي وقعوا فيه، وتنبيه لكلّ من أراد إصابة الحقّ ومجانبة الباطل. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضالّ، وما أنا من الهدى في شيء. بَيِّنَةٍ البيّنة: كلّ ما يتبيّن به الحقّ من الحجج العقلية أو الأدلّة الحسية، ومن ذلك سميت الشهادة بيّنة. يَقُصُّ الْحَقَّ يذكره، والقصص: ذكر الخبر أو تتبع الأثر. الْفاصِلِينَ الحاكمين، والفصل: القضاء والحكم.
سبب النزول: نزول الآية (57) :
قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ قال الكلبي: نزلت في النّضر بن الحارث ورؤساء قريش، كانوا يقولون: يا محمد، ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة ما يدلّ على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق ولتستبين سبيل المجرمين، ذكر في هذه الآية انه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم.
التفسير والبيان:
قل يا أيها الرّسول لهؤلاء المشركين: إنّي نهيت وزجرت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضّرّ، من صنم أو وثن أو عبد صالح مهما علا شأنه أو ملك من الملائكة، وقد صرفت عن هذا كله بأدلّة العقل والأدلّة الحسيّة وبالآيات القرآنية المانعة من عبادة ما تعبدون من دون الله. وفي هذا استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة.(7/222)
قل: لا أتّبع أهواءكم في سلوك طريقتكم القائمة على اتّباع الهوى دون اتّباع الدّليل، وإن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ، وما أنا من الحقّ والهدى على شيء. وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء.
فإن عبادة غير الله ضلال وشرك، يترفّع عنها العاقل الواعي، وعبادة الله تعالى يدلّ عليها الحجّة والبرهان، والفكر والمنطق الصحيح.
ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبّه على ما يجب اتّباعه بقوله: قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي قل لهم أيها الرّسول: إنّي فيما أخالفكم فيه على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليّ، وعلى حجّة عقلية واضحة،، وشاهد صدق، والحال أنكم كذبتم بالحقّ الذي جاءني من الله، أي كذبتم بالقرآن وجحدتم وجود الله حيث أشركتم به غيره، وكذبتم بالبيّنات، واتّبعتم الهوى والضلال، وسرتم على منهج التّقليد الأعمى الذي لا دليل فيه.
ما عندي الذي تستعجلون به وهو العذاب، فليس إنزاله بمقدور لي، وما الحكم إلا لله أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله، إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلّكم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرّعد 13/ 8] .
والله يقصّ الحقّ، أي يقصّ على رسوله القصص الحقّ في وعده ووعيده وجميع أخباره، وهو خير الفاصلين أي خير الحاكمين الذين يفصلون في القضايا بين عباده، وينفذ أمره متى شاء إصدار الحكم.
وكان عليه الصّلاة والسّلام يخوّف قومه بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... أي قل أيها الرّسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ(7/223)
عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
[الأنفال 8/ 32] : قل لهم: لو كان مرجع ذلك العذاب إليّ، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ولتمّ فصل القضاء بيني وبينكم، ولتخلّصت سريعا، وانقضى الأمر إلى آخره، والله أعلم بالظالمين الذين لا أمل في صلاحهم ورجوعهم إلى الإيمان والحقّ والعدل، لذا فإن إنزال العذاب بيده تعالى لا بيدي، والله أعلم كيف يعاقبهم، ومتى يعاقبهم، وعلى أي نحو يجازيهم: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً، وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف 7/ 34] .
وقد أثير اعتراض: وهو كيف يوفق بين هذه الآية: قُلْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وبين
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا» ؟
والجواب: أن هذه الآية عند سؤالهم العذاب، ففيها دلالة على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له، لأوقعه بهم وأما الحديث: فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين: وهما جبلا مكّة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم، وسأل الرّفق لهم بالرّغم من أنه عرض عليه عذابهم واستئصالهم.
وقصة الحديث: هي ما رواه الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السّلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلّم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله(7/224)
قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقّ والباطل لا يجتمعان لأن الحقّ قائم على الدّليل والعقل، والباطل منبعث من الأهواء والشهوات، لذا يستحيل على رسول الله أن يتّبع أهواء قومه في عبادة الأصنام والأوثان، فهم يعبدونها بمحض الهوى والتّقليد، لا على سبيل الحجّة والدّليل، وهم كانوا ينحتون الأصنام، ويقبح عقلا أن يعبد العامل الصانع معموله ومصنوعه.
وليس إيقاع العذاب بمقدور النّبي عليه الصّلاة والسّلام كغيره من البشر، وإنما الأمر والحكم في ذلك لله وحده.
ودلّ قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به، وكذلك في جميع الأفعال لأن نصّ الآية يفيد الحصر، بمعنى أنه لا حكم إلا لله.
وكذلك وقت عقوبة الظالمين ومقدارها لا يعلم به غير الله، فهو تعالى يعلم ذلك، ويؤخّره إلى وقته، ويقدره حسبما يشاء، يفعل كلّ ذلك بموجب الحكمة، وهو العالم بكلّ شيء، يعجّل ما تعجيله أصلح، ويؤخّر ما تأخيره أصلح.(7/225)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
كمال علم الله تعالى وقهره العباد
[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
الإعراب:
مِنْ وَرَقَةٍ: من زائدة من وجه، وغير زائدة من وجه، لأنها قد أفادت معنى العموم، ووَرَقَةٍ: في موضع رفع فاعل تَسْقُطُ.
وَلا حَبَّةٍ أي ولا تسقط من حبّة في ظلمات الأرض. فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ صفة لحبّة، وتقديره: كائنة في ظلمات الأرض.
إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ استثناء منقطع، وتقديره: إلا هو «كائن» في كتاب مبين. والجار والمجرور في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ.
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا التأنيث على تقدير: جماعة رسلنا. ومن قرأ: توفّاه رسلنا بالتّذكير، على تقدير: جمع رسلنا. كقولك: قامت الرجال وقام الرجال. وهكذا في كلّ جماعة يجوز تذكير الفعل وتأنيثه، فالتذكير على معنى الجمع، والتأنيث على معنى الجماعة.
مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مَوْلاهُمُ: في موضع جرّ على البدل من اسم الله تعالى، والْحَقِّ:
صفة لمولاهم. ويجوز نصب الْحَقِّ إما على المصدر، أو بتقدير: أعني.(7/226)
البلاغة:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ استعار المفاتح للأمور الغيبية كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات.
قال الزمخشري في الكشاف: 1/ 509: جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصّل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالإغلاق والأقفال، والمراد أن الله تعالى وحده هو العالم بالمغيبات، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ استعار توفي الموت للنوم لما بينهما من التشابه في زوال الإحساس والتمييز.
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ والليل والنهار بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَعِنْدَهُ أي الله تعالى. مَفاتِحُ جمع مفتح أي مخزن، أو مفتاح: وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، والمراد هنا: خزائن الغيب أو الطّرق الموصلة إليه. الْبَرِّ الأرض اليابسة.
الْبَحْرِ المكان المتّسع للماء الكثير. يَتَوَفَّاكُمْ التّوفي: الأخذ التّام الكامل، أو استيفاء الشيء أو إحصاء عدده، ثم أطلق التّوفي على الموت لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما، كما أطلق على النوم، وليس ذلك موتا حقيقة، بل هو قبض الأرواح عن التّصرّف بالنّوم كما يقبضها بالموت.
جَرَحْتُمْ عملتم وكسبتم بالجوارح، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشّرّ، والاجتراح: فعل الشّرّ خاصة، كما في قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
[الجاثية 45/ 21] .
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ يوقظكم من النوم في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليقضى: ينفذ، والأجل: هو أجل الحياة. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي بالبعث، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم به. حَفَظَةً ملائكة تحصي أعمالكم وهم الكرام الكتبة من الملائكة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار 82/ 10- 11] .
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا هم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ يقصّرون فيما يؤمرون به. ثُمَّ رُدُّوا أي الخلق. مَوْلاهُمُ مالكهم. الْحَقِّ الثابت العدل ليجازيهم.
لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فيهم. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدّنيا، لحديث وارد بذلك.
المناسبة:
الآيات متّصلة بما قبلها لأنه تعالى قال في الآية الأولى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ(7/227)
بِالظَّالِمِينَ
ثم ذكر هنا مدى سعة علمه وقدرته، فعنده مفاتح الغيب، وهو المتصرّف في الخلق أجمعين، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحافظ المتوفي، وهو المحاسب خلقه في أسرع وقت.
التفسير والبيان:
خزائن الغيب ومفاتيحها التي يتوصّل بها إلى علم الغيب عند الله، وهو المتصرّف فيها، وهو عالم الغيب والشهادة، ولا يعلم بالغيب أحد سواه، وينفذ منها ما يراه في الوقت المناسب لحكمته.
والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس،
روى البخاري عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [لقمان 31/ 34] .
وجاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل 27/ 65] .
وفي معناها أيضا قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] .
ويعلم سبحانه حديث النفس، ويعلم السر وأخفى، فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النمل 27/ 74- 75] وقال: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] .(7/228)
وجملة لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ توكيد للجملة السابقة.
ثم فصّل تعالى ما أجمل، وعدّد بعض نواحي العلم التي يحيط بها فقال:
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. أي يعلم الأشياء المشاهدة لكم، كما يعلم المغيبات، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر، فعلمه محيط بجميع الموجودات بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان، في البر والبحر، ويعلم الحركات حتى من الجمادات، وبالأولى الحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من الجن والإنس، ويعلم الأحوال المتعلقة بالذوات إذ سقوط الورق حال من الأحوال.
ويعلم ما تسقط من حبة في ظلمات الأرض، سواء بفعل الإنسان كالزارع، أو الحيوان كالنمل، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض، ويعلم ما يسقط من الثمار، رطبا ويابسا، حيا وميتا، وهكذا علم كل الكائنات مكنون ثابت في كتاب واضح لا يمحى هو اللوح المحفوظ، الذي سجل في كل شيء، وسجل عدده ووقت وجوده وفنائه. وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو موجود فيه، قبل أن يخلق الله الخلق، وهذا قول الزجاج، كما قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها
[الحديد 57/ 22] . واختار الرازي وصوب أن الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير «1» .
والخلاصة: أنه تعالى يعلم الغيب والشهادة، والظاهر والباطن، والرطب واليابس، والسر وأخفى وكل شيء في الكائنات، يعلم بالكليات وبالجزئيات.
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 11(7/229)
ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وتصرفه في الكون والمراحل التي يمر بها الإنسان في أحوال المعيشة والموت والبعث وعند الحساب في الدار الآخرة فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.. أي أن الله يتوفى عباده في منامهم بالليل أي بالنوم، وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر 39/ 42] فذكر في كل من هاتين الآيتين حكم الوفاتين: الصغرى، ثم الكبرى.
ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وحال حركتهم، كما قال تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد 13/ 10] .
ثم بعد هذا التوفي بالنوم والعلم بأعمالكم في النهار، يبعثكم في النهار أي يثيركم ويرسلكم فيه، على ما هو الأظهر الذي رجحه ابن كثير، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي.
هذا التقلب في الليل والنهار لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي في علمه تعالى لكل واحد منكم، فإن الآجال والأعمار محدودة ومقدرة مكتوبة سابقا.
ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال، ثم يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، ويجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والله هو القاهر فوق عباده أي هو الذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء، وهو القادر على البعث لأن من قدر على بعث من توفي بالنوم قادر على بعث من توفي بالموت، وهو المتصرف بعباده، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة.(7/230)
وهو الحافظ الذي يرسل حفظة من الملائكة ليلا ونهارا يحفظون بدن الإنسان، ويحصون أعماله، ولا يفرطون بشيء منها، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار 82/ 10- 12] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] . وفي معنى الآية قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمره [الرعد 13/ 11] .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» .
والحكمة في كتابة الحفظة الملائكة أعمال الإنسان مع أن الله أعلم بكل شيء:
هي الإتيان بدليل مادي محسوس لإقامة الحجة على الإنسان، ولان المرء إذا عرف تدوين أعماله انزجر عن الممنوعات، وأقدم على الطاعات، كما قال تعالى:
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] .
يرسل عليكم الحفظة الملائكة لإحصاء الأعمال، حتى إذا حان الأجل، قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، هؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت، كما قال تعالى: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة 32/ 11] قال ابن عباس وغيره: لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم.
والحال أن هؤلاء الملائكة الحفظة لا يفرطون أي لا يقصرون في حفظ روح(7/231)
المتوفى، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، عياذا بالله من ذلك.
ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرسل إلى الله، أي إلى حكمه وجزائه، إلى الله مولاهم، أي مالكهم الذي يلي أمورهم، الحق أي العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره، ولا يشغله حساب عن حساب،
جاء في الحديث: «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة» .
ونظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [النمل 27/ 78] وقوله: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد 13/ 41] وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر 39/ 46] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
1- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، كلا وجزءا، واختص بعلم خمسة أمور لا يعلمها إلا هو: وهي علم الساعة، ووقت تنزيل الغيث (المطر) ومقداره، وعلم ما يكنّ في الأرحام بأوصاف وطبائع معينة، وعلم المستقبل، وعلم آجال الناس.
وعلمه محيط بكل حركة وسكنة، وجماد وحيوان ونبات، وسرّ الإنسان وحديث النفس وخلجات القلب.
والله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، ولا يكون ذلك من(7/232)
إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران 3/ 179] وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] .
2- قال العلماء: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده، فمن قال: إنه ينزّل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النّوء «1» ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه، لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النّوء «2» .
والكهانة (ادعاء معرفة الماضي وعلم الغيب) والعرافة (ادعاء معرفة الماضي والمستقبل) كذب يتنافى كل منهما مع أصل معرفة الله الغيب وانحصار ذلك به،
جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن النّبي صلى الله عليه وآله قال: «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»
والعرّاف: هو الحازر والمنجّم الذي يدعي علم الغيب، ويستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها، وقد يستعين بالنجوم وغيرها، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا فن العيافة، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة.
قال ابن عبد البر: من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسّحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله.
__________
(1) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.
(2) تفسير القرطبي: 7/ 2(7/233)
3- الإشارة للكتاب المبين أي اللوح المحفوظ: لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك.
4- الله المتصرف في الإنسان بنومه وهو الموتة الصغرى، وبموته الحقيقي وهو الموتة الكبرى، والفرق بينهما أن النوم فيه قبض الروح عن التصرف، وأما الموت ففيه قبض نهائي للروح عن الحركة وسلخها من الجسد، ففي النوم تبقى الحياة، بدليل بقاء الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس.
5- إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم، فإنه أحصى كل شيء عددا، وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم.
وقد دلت الآية على الحشر والنشر بالبعث لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.
6- في تحديد الأجل المسمى للحياة والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من العذاب، وأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فمن نجا من الأول لم يسلم من الآخر.
والله في كل الأحوال هو القاهر فوق عباده فوقية مكانة ورتبة، لا فوقية مكان وجهة.
7- لله ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات، وهناك مهام أخرى للملائكة متعلقة بالبشر، منها قبض الأرواح، ولملك الموت أعوان يسلّون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها، قبضها ملك الموت.
والمتوفي على الحقيقة هو الله، لكن قد ينسب التوفي تارة إلى ملك الموت(7/234)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
الذي يأتمر بأمر الله مثل: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة 32/ 11] ، وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك، كما في هذه الآية: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وتارة إلى الله مثل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر 39/ 42] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الجاثية 45/ 26] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك 67/ 2] .
8- الحكم المطلق لله وحده يوم القيامة، أي القضاء والفصل، والله أسرع الحاسبين، أي لا يحتاج إلى فكرة وروية.
القدرة الإلهية على الإنجاء من الظلمات
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
الإعراب:
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إما منصوب على المصدر، أو منصوب على الحال لأن معناه: ذوي تضرع. لَئِنْ أَنْجانا اللام لام القسم.
المفردات اللغوية:
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الحسية كظلمة الليل والغيوم والمطر وما يصحبها من أخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار، والمعنوية كظلمة الجهل بالطرق، وفقد الدلائل، والمراد أهوالهما ومخاوفهما في أسفاركم. تَضَرُّعاً علانية ومبالغة في الضراعة: وهي الذل والخضوع، والمراد: ما صدر عن الحاجة الشديدة والإخلاص. وَخُفْيَةً خفاء وسرا. مِنْ هذِهِ الظلمات والشدائد. الشَّاكِرِينَ نعمة الله مع الانضمام لصف المؤمنين. وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غم شديد.
المناسبة:
بيّن سبحانه فيما سبق بعض الأدلة على ألوهيته من إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلائه على خلقه بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم، وأضاف هنا نوعا(7/235)
آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، وكمال الرحمة والفضل والإحسان.
التفسير والبيان:
يمتن الله تعالى على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر، أي الحائرين التائهين المتعرضين لأهوال المخاطر والمخاوف في البر والبحر.
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين غفلوا عن آيات التوحيد: من ينجيكم من أهوال الأسفار ومخاوفها إذا ضللتم في أنحاء الأرض البرية والبحرية؟ فحينئذ لا تجدون ملجأ غير الله تدعونه علانية وسرا، بخشوع وخوف واستغاثة وضراعة وتذلل، حال كونكم تقسمون: لئن أنجانا الله من هذه الشدائد والظلمات أو الضائقة التي وقعت بنا، لنكونن من شاكري النعمة، المقرين بتوحيد الله، المخلصين له العبادة، دون إشراك.
ونظير الآية كثير في القرآن مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس 10/ 22] .
ومثل: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] .
قل: الله هو الذي ينجيكم مرارا من هذه الأهوال، ومن كلّ كرب وغمّ، ثم مع ذلك أنتم بعدئذ تشركون بالله غيره، فتخلفون وعدكم بالإيمان، وتخونون العهد مع الله، وتحنثون بالقسم الذي حلفتموه.(7/236)
فقه الحياة أو الأحكام:
لا يثبت الإنسان غالبا على العهد، ولا يفي بالوعد، ولا يستقرّ على حال الاستقامة، فتراه بطبعه غدارا خائنا، يلجأ إلى الله وقت الشدة والخوف، وينسى الله بعد النجاة، ويعود إلى ضلالة وجهله. والواجب الذي يمليه العقل والوفاء بالجميل والإخلاص أن يستمر الإنسان على أصل العقيدة الصحيحة والإيمان الحق والعبادة لمن أنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها، لا سيما في أحوال الأزمات والمحن.
وهذه حال من الأحوال التي ذكرتها الآية: وهي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك ودعوتم الله، وأقسمتم: لئن أنجانا الله من هذه الشدائد، لنكونن من الطائعين المستقيمين.
وهذا توبيخ من الله لأولئك المشركين في دعائهم إياه عند الشدائد، ثم يدعون معه غيره في حالة الرخاء، كما قال: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ.
إنه مثل ضربه الله، بقصد التقريع والتوبيخ لمن تعهد بالإيمان ونبذ الشرك لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة، وحب الإخلاص، والمشركون قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك، فحسن أن يقرّعوا ويوبخوا على هذا المنهج، وإن كانوا مشركين قبل النجاة.
وفي الآية إيماء إلى أن من أشرك في عبادة الله تعالى غيره، فهو لم يعبده لأن شرط العبادة الإخلاص، والتوحيد أساس العبادة.
والآية صريحة بأنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في وقت المحنة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات إذ لا يقبل عقلا أن يأتي الإنسان بأمور(7/237)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
أربعة عند حصول الشدائد: وهي الدعاء، والتضرع، والإخلاص بالقلب، والتزام الاشتغال بالشكر، ثم يرتد على عقبيه، ويعمل بنقيض هذه الأمور بعد النجاة وإحراز السلامة من الله تعالى وحده الذي يهيئ الأسباب للإنجاء من المخاوف، أو يغمر عباده بواسع الرحمة والفضل، وبدقائق اللطف والإلهام.
القدرة الإلهية على تعذيب العصاة
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
الإعراب:
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً إما منصوب على المصدر أو على الحال.
البلاغة:
فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
مِنْ فَوْقِكُمْ أي من السماء كالحجارة والصيحة. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالخسف. أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم، من اللّبس، والمراد: يخلط عليكم أمركم خلط اضطراب واختلاف. وفيه حذف تقديره: يلبس عليكم أمركم. شِيَعاً جمع شيعة، أي يجعلكم فرقا مختلفة الأهواء. وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتال. نُصَرِّفُ الْآياتِ نبين لهم الدلالات على قدرتنا، ونحو لها من نوع من أنواع الكلام إلى آخر، ترسيخا للمعنى وتأكيدا له. لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعلمون أن ما هم عليه باطل، والفقه: فهم الشيء بدليله وعلته، فهما يؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ والعمل الأفضل.(7/238)
وَكَذَّبَ بِهِ بالقرآن. وَهُوَ الْحَقُّ الصدق. بِوَكِيلٍ هو الذي توكل أو تفوض إليه الأمور، والمراد: لست مفوضا في شأنكم، فأجازيكم، إنما أنا منذر، وأمركم إلى الله. نَبَإٍ خبر. مُسْتَقَرٌّ وقت يقع فيه ويستقر، ومنه عذابكم. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد لهم.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً.. الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف» قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدا: أن يقتل بعضنا بعضا، ونحن مسلمون، فنزلت: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ، وَهُوَ الْحَقُّ، قُلْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وروى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ إلخ، فقال: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» .
المناسبة:
بعد أن بيّن سبحانه أنه القادر على إنجاء المشركين وغيرهم من المخاوف والأهوال، بيّن كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من طرق مختلفة، ليعتبروا ويتعظوا، وهو نوع آخر من دلائل التوحيد، ممزوج بنوع من التخويف.
التفسير والبيان:
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين: الله هو القادر على إنزال العذاب عليكم بألوان مختلفة، تارة من فوقكم كالرجم بالحجارة كما حدث لقوم لوط(7/239)
وأصحاب الفيل، والصيحة وهي الصوت الشديد المهلك، كما حدث لثمود وهم أصحاب الحجر (واد بين المدينة والشام) ، والطوفان كما حدث لقوم نوح، وتارة من تحتكم كالزلزال والبركان والخسف المعهود فيما سبق كما حدث لقارون، وتارة أن يخلط عليكم أمركم ويجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. وعن ابن عباس: أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم، ومن تحت أرجلكم، أي عبيدكم وسفلتكم.
قال الطبري: وأولى التأويلين «1» في ذلك بالصواب عندي قول من قال:
عنى بالعذاب من فوقهم: الرجم، أو الطوفان، وما أشبه ذلك، مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم: الخسف وما أشبهه، وذلك وأن المعروف في كلام العرب من معنى: فوق وتحت الأرجل هو ذلك دون غيره، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك (التأويل الثاني) وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها «2» .
وإني أؤيد الطبري لأن ظاهر اللفظ يقضي بحمله على المعروف المشهور، وإن كان لا مانع من الأخذ بعموم اللفظ، مما يحدث في المستقبل لأن القرآن معجزة الدهر، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه. وقد شهد العصر الحديث ويلات رهيبة من مشاهد القتال، من الجو والبر والبحر، مما يشيب منه الإنسان.
__________
(1) التأويل الأول للعذاب من فوقهم: الرجم ومن تحتهم: الخسف، والتأويل الثاني للعذاب من فوقهم: أئمة السوء، ومن تحت أرجلهم: الخدم وسفلة الناس، وهذا مروي عن ابن عباس.
(2) تفسير الطبري: 7/ 142(7/240)
روى البخاري والنسائي عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية:
قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أعوذ بوجهك» . أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: «أعوذ بوجهك» . أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذه أهون- أو: أيسر» .
وإنما كان التفريق والاقتتال أهون لأن ما قبله أشد وهو عذاب الاستئصال.
وروى الإمام أحمد عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها» .
ويؤيده- مع بعض الفارق-
ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوت ربي عزّ وجلّ أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع الله عنهم اثنتين، وأبي علي أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين: القتل والهرج»
فجعل الأمرين الأخيرين اثنين، وفي رواية أحمد: واحدا.
وروى مسلم ما يؤيد رواية أحمد، وهي رواية أخرى لأحمد من حديث(7/241)
ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله زوي «1» لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة «2» ، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم «3» ، وإن ربي قال:
يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا» .
وقد تحقق خبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في اتساع أرجاء البلاد الإسلامية إلى المشارق والمغارب، وفي وقوع بأسهم بينهم بالتفرق والاقتتال. أما تسلط عدوهم عليهم فمرهون بوحدتهم واجتماع كلمتهم، وما حدث من زوال ملكهم عن بعض البلاد كالأندلس وفلسطين فكان بسبب تفرقهم وتشتت وحدتهم وتمزق صفوفهم وتفرق جمعهم، بدليل
ما روى أبو داود والبيهقي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل:
يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» .
ثم أمر الله تعالى بالنظر في الدلائل والبينات، فقال: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي انظر أيها الرسول كيف نبين ونوضح الدلائل بوجوه مختلفة، إما بطريقة الحس، وإما بطريقة العقل، وإما بالإخبار بالغيب، لعلهم يفهمون
__________
(1) زوي: جمع.
(2) السنة العامة: البلاء العام كالجماعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح العاتية. [.....]
(3) البيضة: العزة ومستقر الملك أو كيان البلاد واستقلالها.(7/242)
ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح أحوالهم.
ولكن قوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهم قريش كذبوا بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان أو بالعذاب الذي هدوا به، والحال أنه الحق الصدق أي الذي ليس وراءه حق، فالقرآن حق ثابت لا شك فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والعذاب لا بد أن ينزل بهم، فكل منهما يثبته الحس والعقل والوجدان.
ثم لا سبيل إلى إجبارهم على الإيمان، فقل لهم أيها الرسول: إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام 6/ 104] أي أحفظ عليكم أعمالكم، ولست بموكل بكم، كقوله: وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] وقوله: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] .
وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] أي إنما علي البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني شقي في الدنيا والآخرة.
وأخيرا جاء التهديد والوعيد على التكذيب بالقرآن أو بالعذاب، فقال تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ.. أي لكل خبر يخبر به وقت استقرار ووقوع وحصول لا بد منه ولو بعد حين، قال ابن عباس وغيره: «لكل نبأ حقيقة» أي لكل خبر وقوع ولو بعد زمن، كقوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص 38/ 88] وقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] . هذا تهديد ووعيد أكيد، أتبعه بتهديد آخر فقال:
وسوف تعلمون صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد، وعد رسوله بالنصر(7/243)
عليهم، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
قدرة الله تعالى شاملة لجانبي الرحمة والفضل، والعذاب والعقاب، فهو قادر على إمداد خلقه بمختلف أنواع السعة والرزق والسلامة والنجاة، كما أبان في الآيات السابقة، وهو قادر أيضا على إنزال مختلف أنواع العذاب كما ذكر في هذه الآيات، ومثل العذاب من فوق الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، ومثل العذاب من تحت الزلزال والبركان، والخسف والرجفة كما فعل بقارون وأصحاب مدين، ومثل العذاب الشديد الدائم: أن يخلط عليكم الأمر، فيفرق صفوفكم، ويجعلكم مختلفي الأهواء، ويفرق بين الأمراء على طلب الدنيا، وإيقاع الحرب والقتل في الفتنة.
والآية عامة في المسلمين والكفار، وقد تحقق كل ذلك في الوجود، فاستولى العدو على ديارنا وأنفسنا وأموالنا، واستولت الفتنة علينا بقتل بعضنا بعضا، واستباحة بعضنا أموال بعض. وما أسوأ حال العرب والمسلمين منذ تخلّوا عن تعاليم دينهم، وأصبحوا تبعا للأعداء، وجسّدوا فيما بينهم الفرقة والخلاف.
وأما مصير الذين كذبوا بالقرآن، وهو القصص الحق، فليس أمرهم منوطا بنبيّ الله، فما هو إلا منذر وقد بلّغ ما أمره به ربه، وإنما أمرهم راجع إلى الله، ولكل إنذار وقت، ولكل خبر حقيقة، ولكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدّم وتأخر. وهذا شامل للعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وهذا وعيد من الله تعالى للكفار، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث، ووعيد لهم في الدنيا، كما حدث لهم في بدر وغيرها من المعارك الحربية التي استأصلت الكفر والشرك من الحجاز.(7/244)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
ولا يفرحنّ المسلمون بهذا الوعيد فإنهم يستحقون العقاب أيضا إذا تخلوا عن قرآنهم لأن التخلي عنه قريب من التكذيب به، فيشملهم الوعيد والإنذار:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت 41/ 52- 53] .
الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن وعذابهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
الإعراب:
وَلكِنْ ذِكْرى يجوز فيها النصب والرفع، فالنصب على المصدر وتقديره: ذكّركم ذكرى. والرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: ولكن عليهم ذكرى.
أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ مفعول لأجله، وتقديره: لئلا تبسل أي لئلا تسلّم نفس للهلاك وترهن بسوء عملها.(7/245)
البلاغة:
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وضع الظاهر. مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ موضع الضمير. معهم لتسجيل شناعة ما ارتكبوا عليهم، حيث كذبوا واستهزءوا بدلا من التصديق والتعظيم. لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ فيه ما يعرف بالسجع.
المفردات اللغوية:
يَخُوضُونَ المراد به هنا الاسترسال في الحديث، وقد استعمله القرآن أيضا في المشاركة في الباطل مع أهله، وأصل الخوض: الدخول في الماء سيرا أو سباحة. يَخُوضُونَ فِي آياتِنا أي يتكلمون في القرآن استهزاء. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ انصرف عنهم ولا تجالسهم. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ أي ينسيك وجوب الإعراض عنهم، فقعدت معهم. بَعْدَ الذِّكْرى المراد هنا التذكر. وَلكِنْ ذِكْرى المراد هنا التذكير والموعظة. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الخوض.
وَذَرِ اترك ولا تتعرض لهم. لَعِباً وَلَهْواً باستهزائهم به. وَذَكِّرْ بِهِ عظ بالقرآن الناس. أَنْ تُبْسَلَ لئلا تبسل نفس، أي تسلّم إلى الهلاك، وتحبس في النار، وتمنع من الثواب. والبسل: حبس الشيء ومنعه بالقوة، ومنه شجاع باسل، أي يحمي نفسه ويمنعها. بِما كَسَبَتْ عملت. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. وَلِيٌّ ناصر. وَلا شَفِيعٌ يمنع عنها العذاب. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ تفد كل فداء. لا يُؤْخَذْ مِنْها ما تفدى به. شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ نهاية الحرارة، أي شديد الحرارة. وَعَذابٌ أَلِيمٌ شديد الألم أو مؤلم. بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بكفرهم.
سبب النزول:
روى الطبري عن السدي في آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... قال:
كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النّبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، فسبوه واستهزءوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل.
وروى الطبري أيضا عن سعيد بن جبير ومجاهد أنهما قالا في قوله تعالى:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... : الذين يكذبون بآياتنا «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 148، تفسير الرازي: 13/ 25(7/246)
وروى عن ابن عباس وابن سيرين: أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء.
ولما قال المسلمون: إن قمنا كلما خاضوا، لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف، فنزل: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ أي يتقون الله من حساب الخائضين من شيء أي إثم إذا جالسوهم. ومِنْ: صلة زائدة.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس عليه أن يكون حفيظا رقيبا على أعمال المكذبين بآيات الله، وإنما هو مبلّغ، وأن الزمان سيخبرهم بعاقبة تكذيبهم، أبان في هذه الآيات وجوب إعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عن مجالس المشركين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في القرآن والرسول.
التفسير والبيان:
وإذا رأيت يا محمد وكل سامع مسلم الذين يخوضون في آيات القرآن بالتكذيب والاستهزاء، فانصرف عنهم ولا تجالسهم، حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء والتكذيب. ومثلهم من يخوض في القرآن بتأويله تأويلا باطلا نابعا من البدع والأهواء والآراء الفاسدة، لا تجالسهم واتركهم. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وكذلك لا تجالس كل من يحرف القرآن ويؤول آياته لتكفير مسلم وتضليل مهتد.
فإذا خاضوا في حديث آخر، فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.(7/247)
وإن أنساك الشيطان أيها المسلم النهي والمنع، فجلست مع الخائضين ناسيا، فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.
والخطاب للرسول وكل سامع مسلم.
ويجوز وقوع النسيان على النبي بغير وسوسة الشيطان لقوله تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف 18/ 24] وقد وقع النسيان من آدم عليه السلام: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 20/ 115] ومن موسى عليه السلام: قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ [الكهف 18/ 73] وثبت في الكتب الستة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم سها في الصلاة وقال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني» .
أما في تبليغ الوحي والدين المنزل من الله، فإن الأنبياء معصومون عن نسيان شيء مما أمرهم الله بتبليغه من حلال أو حرام لقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة 75/ 16- 19] .
وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل التصرف فيه، والسلطان عليه لقوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل 16/ 99- 100] .
فإن تجنبوا مجالسة الخائضين، فلا يحاسبون على خوضهم، وبرئوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم. وقال آخرون (مجاهد والسدي وابن جريج) : بل معناه: وإن جلسوا معهم، فليس عليهم من حسابهم من شيء، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [4/ 140] .(7/248)
وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا وموعظة، لعلهم يتقون الخوض في آياتنا، ويذكرون الله.
وعلى التفسير الثاني لمجاهد ومن وافقه: يكون المراد هذه الآية: أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه، لعلهم يتقون ذلك، ولا يعودون إليه. وقال الزمخشري: ولكن عليهم أثناء مجالستهم أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم، لعلهم يجتنبون الخوض حياء، أو كراهة لمساءتهم. وروي أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، وأن نطوف، فرخص لهم.
ثم أكد الله تعالى ترك المستهزئين بقوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ..
أي دع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين وأعرض عن هؤلاء المشركين الذين يتلاعبون بدينهم بعبادة الأصنام، يصنعونها ثم يأكلونها، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد وهذا هو اللعب، وشغلوا أنفسهم عن العمل المفيد وهذا هو اللهو، وغرتهم الدنيا الفانية، وآثروها على الحياة الباقية، واشتغلوا بلذات الدنيا الحقيرة، فخاضوا في آيات الله بدلا عما كان يجب عليهم من فهمها وتدبرها وامتثالها. وهو كقوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر 15/ 3] .
وذكّر الناس بالقرآن وعظهم به لئلا تحبس عن الخير، وتمنع في جهنم نفس بما عملت، وتسلم إلى الهلاك، وترتهن بعملها الذي صدر منها في الدنيا، كقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر 74/ 38- 39] .
وقوله: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أي والحال لا قريب ولا أحد يشفع فيها، ولا ناصر ينصرها، كقوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ(7/249)
وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ
[غافر 40/ 18] وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] .
وكما لا تنفع الشفاعة والوساطة، لا ينفع بذل الفداء: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أي وإن بذلت كل فداء أو مبذول، ما قبل منها، كقوله تعالى:
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة 2/ 123] .
وهذا إبطال لمبدأ من مبادئ الوثنية: وهو رجاء النجاة في الآخرة كما في الدنيا بتقديم الفدية الى لله تعالى، أو بشفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء عند الله تعالى.
وهذا الإبسال والإهلاك والعذاب في النار كان بسوء صنعهم، قال تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا.. أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذبوا بسبب عملهم في الدنيا، وجزاؤهم شراب من حميم، أي ماء شديد الحرارة يحرق البطون ويقطع الأمعاء، كقوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد 47/ 15] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يلي:
1- وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن أو بالنبيّ أو بأحكام الإسلام، ومجالس المتأولين آيات القرآن بغير حق، وتحريفها عن مواضعها. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله، تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا.
2- إذا علم الرجل من الآخر منكرا، وعلم أنه لا يقبل منه وعظا(7/250)
ولا نصحا، فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه، كما قال القرطبي «1» .
3- قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل «2» .
ومنع المالكية الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودّتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم «3» .
4- لا يطرأ النسيان أصلا على الأنبياء فيما يجب عليهم تبليغه من أحكام الشرع، لعصمتهم عن ذلك، وإنما يمكن طروء النسيان عليهم في الأمور العادية كالسهو أثناء الصلاة ونحو ذلك.
وليس النسيان من قبيل وجود السلطة والتصرف من الشيطان على الإنسان، فتسلطه محصور في المشركين والكافرين، لا في المؤمنين.
5- الأظهر أن آية وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ ... ليست منسوخة، ومعناها الدائم: ليس عليكم شيء من حساب المشركين، وعليكم بتذكيرهم وزجرهم، فإن أبوا فحسابهم على الله.
6- الاستهزاء في الدين ليس مسوّغا في أي شرع أو ملة، والمستهزئون ما هم إلا لاعبون لاهون غرتهم الحياة الدنيا أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، وإن تأصل الكفر فيهم أفسد عليهم فطرتهم، فحجب عنهم كل خير.
7- القرآن خير مذكر للإنسان من تعريض نفسه للهلاك والعذاب في نار جهنم، والمسلم الحق: من اتخذ القرآن إماما وسنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم منهجا، لا من اغترّ بالأماني والأوهام.
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 12
(2) أحكام القرآن للقرطبي: 2/ 731
(3) تفسير القرطبي: 7/ 13(7/251)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
8- لا يقبل في الآخرة فداء ولا نصرة ناصر ولا شفاعة شفيع إلا بإذن الله وإرادته، لقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه 20/ 109] وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ..
[سبأ 34/ 23] وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] .
مزايا الإيمان بالله ومخازي الشرك
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
الإعراب:
حَيْرانَ حال من هاء اسْتَهْوَتْهُ وهو ممنوع من الصرف كعطشان، وهو لا ينصرف معرفة ولا نكرة لأن فعلان فعلى أشبه ما في آخره ألف التأنيث الممدودة، وما في آخره ألف التأنيث الممدودة لا ينصرف معرفة ولا نكرة، فكذلك ما كان على: فعلان فعلى. وجملة التشبيه حال من ضمير نُرَدُّ.
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: وبأن أقيموا.
وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ يَوْمَ: منصوب من أربعة أوجه: إما لأنه معطوف على(7/252)
السموات، أو على الهاء في وَاتَّقُوهُ، أو لأنه ظرف وقع خبرا عن المبتدأ وهو: قَوْلُهُ الْحَقُّ وتقديره: قوله الحق يوم يقول. وقَوْلُهُ: مبتدأ وبِالْحَقِّ: صفته، ويَوْمَ يَقُولُ: خبره أي مستقر يوم يقول، أو منصوب بتقدير فعل هو: واذكر يوم يقول. وكن فيكون، أي: فهو يكون، ولهذا كان مرفوعا.
يَوْمَ يُنْفَخُ في نصبه وجهان: إما بدل من قوله: يَوْمَ يَقُولُ، أو متعلق بقوله:
وَلَهُ الْمُلْكُ أي وثبت له الملك يوم ينفخ.
عالِمُ الْغَيْبِ مرفوع لأنه صفة الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أو على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب، أو حملا على المعنى، وتقديره: ينفخ فيه عالم الغيب، كأنه قال: يوم ينفخ. ويجوز الجرّ بدلا من هاء قَوْلُهُ.
البلاغة:
أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهام للإنكار. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عبر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الفعل وتشنيعه.
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ بينهما جناس اشتقاق.
ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وعالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
أَنَدْعُوا أنعبد. ما لا يَنْفَعُنا بعبادته. وَلا يَضُرُّنا بتركها وهو الأصنام.
وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا نرجع مشركين، والمقصود بهذا التعبير كل رجوع وتحول مذموم. اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أضلته وذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن، وأن الجن تظهر لهم في القفار وتتلون بألوان مختلفة وتذهب بالعقل، فيهيم على وجهه حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون تسمى الغيلان والأغوال والسعالى. حَيْرانَ متحيرا تائها لا يدري أين يذهب. لَهُ أَصْحابٌ رفقة. يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي ليهدوه الطريق، يقولون له:
ائْتِنا فلا يجيبهم فيهلك. هُدَى اللَّهِ هو الإسلام وما عداه ضلال. لِنُسْلِمَ بأن نسلم أو أمرنا كي نسلم، والإسلام: الإخلاص. وَأَنْ أي بأن أقيموا الصلاة. تُحْشَرُونَ تجمعون يوم القيامة للحساب. وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ هو يوم القيامة يقول للخلق: قوموا فيقوموا.
قَوْلُهُ الْحَقُّ الصدق الواقع لا محالة. الصُّورِ لغة: القرن وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون. والمراد هنا النفخة الثانية من(7/253)
إسرافيل. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما شوهد. الْحَكِيمُ في خلقه. الْخَبِيرُ ببواطن الأشياء كظواهرها.
سبب النزول:
قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فأنزل الله عز وجل: قُلْ: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا.
المناسبة:
المقصود من هذه الآية: قُلْ: أَنَدْعُوا ... الردّ على عبدة الأصنام، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك: قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
التفسير والبيان:
قل لهم أيها الرسول: أنعبد من دون الله النافع الضارّ ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا، ونرد على أعقابنا إلى الشرك والكفر، بعد أن أنقذنا الله منه، وهدانا للإسلام؟ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض وذهبت بعقله، وأصبح حيران تائها لا يدري كيف يسير؟ والحال أن له أصحابا على الجادة المستقيمة يدعونه إلى طريق الهدى، قائلين له: ائْتِنا.
ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل: إنه رجع إلى الخلف، ونكص على عقبيه، ورجع القهقرى. والسبب: أن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم، قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النحل 16/ 78] فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى، يقال له: ردّ على عقبيه.(7/254)
والمقصود بالآية ضرب مثل مفاده: أن من يرتد مشركا بعد الإيمان، كمن جعله الجنون هائما على وجهه، ضالا في الطرقات، حيران لا يهتدي، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم، وهم ينادونه: ائتنا، وعد إلينا، فإنا على الطريق الصحيح، فلا يستجيب لهم. فهذا مثل من يتبع آلهة الأصنام ويعبدها من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء، حتى يأتيه الموت، فلا يجد إلا الندامة والهلاك، علما بأن له صاحبا مخلصا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعوا إلى الطريق الحق وهو الإسلام.
قال الزمخشري: وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده أن الجن تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه، كقوله: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 2/ 275] فشبه الضال عن طريق الإسلام بالتابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الدين الحق، فلا يلتفت إليهم «1» .
وقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ أي أضلته في الأرض، والشياطين: هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها، وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد رمته في هلكة.
أدعهم أيها الرسول لدين الحق، وقل لهم: إن هدى الله في قرآنه هو الهدى، وطريق الإسلام هو الحق، وهو الصراط المستقيم، لا ما تدعون إليه من أهوائكم.
وقل لهم: وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين، أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له، فأسلمنا.
وأمرنا بأن أقيموا الصلاة، أي أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة: وهي الإتيان بها على الوجه الأكمل الذي شرعت من أجله، وهو تزكية النفس بمناجاة الله، والنهي عن الفحشاء والمنكر.
__________
(1) الكشاف: 1/ 512(7/255)
وأمرنا أيضا بالتقوى: وهي اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه، أي نحن مأمورون بأمور ثلاثة: هي الإخلاص لله دون إشراك، وإقامة الصلاة وعبادة الله وحده دون غيره، والتقوى في جميع الأحوال، سرا وعلنا، فهو الذي إليه تحشرون أي تجمعون يوم القيامة، وإليه وحده المرجع والمآب، فيحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليه، فليس من العقل ولا من الحكمة ولا من المصلحة أن يعبد غيره.
والله هو خالق السموات والأرض ومالكهما ومدبرهما ومن فيهما، وخلقه قائم على الحق والعدل والحكمة: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدّخان 44/ 38- 39] ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران 3/ 191] .
وقوله هو الحق أي قضاؤه هو الحق، حين يقول للشيء يوم القيامة:
كُنْ فَيَكُونُ وأمره كلمح البصر أو هو أقرب. ويوم يقول: منصوب إما عطفا على قوله: وَاتَّقُوهُ وتقديره: واتقوا يوم يقول: كُنْ فَيَكُونُ وإما على قوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي وخلق يوم يقول: كُنْ فَيَكُونُ.
وأمره التكويني: كُنْ وأمره التكليفي سواء: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف 7/ 54] . ومن كان أمره التكويني مطاعا، كان أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة، فالخلق حق، والأمر حق.
ولله الملك المطلق والتصرف التام في ملكه. وقوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ جملتان محلهما الجر، على أنهما صفتان لرب العالمين.
ويوم ينفخ في الصور يصعق كل من في السموات والأرض، ويهلك حتى(7/256)
الملك الذي نفخ فيه، ثم ينفخ فيه مرة أخرى، فإذا الكل قيام ينظرون، أي ينتظرون ما سيفعل بهم، فالنفخة الأولى للإماتة، والثانية للنشر والحشر.
وقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إما بدل من قوله: وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ ... يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وإما ظرف لقوله: وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] أي أن الملك يوم الحشر والنشر من القبور يوم النفخ في الصور لله تعالى وحده.
أما الصور فالمراد به ما جاء في الأخبار الصحيحة،
روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» .
وروى مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ» .
وقال ابن مسعود: «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه» .
والنفخات ثلاث كما جاء
في حديث الصور عن أبي هريرة: «ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة:
نفخة القيام لرب العالمين.» «1» .
ومن صفاته تعالى: أنه عالم الغيب (أي ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس الذي نراه) وعن ابن عباس: الغيب والشهادة: السرّ والعلانية. وهو الحكيم في خلقه، فلا يفعل ولا يشرع لعباده إلا ما فيه الحكمة والمصلحة، وهو الخبير بأحوالهم المطلع على سرائرهم أو نياتهم أو ضمائرهم، وأقوالهم.
وإذا كان الله هو المتصف بهذه الصفات: خالق السموات والأرض، وقوله الحق تكوينا وتكليفا، وله الملك وحده في الدنيا والآخرة يوم يحشر الخلائق،
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 146(7/257)
وهو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها، إذا كان كذلك فهو الأجدر بالعبادة، ولا ينبغي لعاقل أن يدعو أو يعبد غيره: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن 72/ 18] ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام 6/ 41] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- الثبات على الحق والهداية بعد معرفتهما، والبعد عن الضلال والشرك بعد تفنيد ما فيهما من زيغ وانحراف.
2- هدى الله في آيات قرآنه هو الهدى الحق، والمسلم مأمور بإخلاص العبادة لله صاحب الهدى ورب العوالم كلها من إنس وجن، وبإقامة الصلاة وإتمامها على وجهها الأكمل، وبالتقوى، أي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات المحظورات.
3- العبادة لا تكون إلا لمن يملك النفع والضر، وهو الله وحده، والله هو الخالق بالحق، والرازق، والآمر أمرا تكوينيا وتكليفيا، فأمره مطاع، وهو المالك ملكا مطلقا لكل تصرف في خلقه في الدنيا والآخرة، وهو عالم الغيب (ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس المشاهد) وهو الحكيم في خلقه، الخبير بأحوالهم الدقيقة والعظيمة.
قال أهل السنة في تفسير الحق: الله تعالى مالك لجميع المحدثات، مالك لكل الكائنات، وتصرف المالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق.
وقال المعتزلة: معنى كونه حقا: أنه واقع على وفق مصالح المكلفين، مطابق لمنافعهم.(7/258)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
4- دلّ قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ على سرعة الخلق والتكوين، وسرعة الحساب والبعث.
5- دلّت الآيات التي ذكرت أوصاف الله تعالى المتقدمة على أنه لا معبود بحق إلا الله وحده.
6- ثبت بالإجماع أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام، فهو النافخ، والله عزّ وجلّ يحيي النفوس. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. وقال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه.
الجدال بين إبراهيم عليه السلام وبين آزر وسبب ترك الشرك
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)(7/259)
الإعراب:
لِأَبِيهِ آزَرَ آزر: بدل مجرور من لِأَبِيهِ كأنه اسم له، وهو ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف، وهو أيضا على مثال (أفعل) نحو: أحمد، ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا وتقديره:
يا آزر أتتخذ أصناما آلهة استفهام توبيخ.
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ: وَلِيَكُونَ: معطوف على مقدر، تقديره: ليستدل وليكون من الموقنين، واللام تتعلق بفعل مقدر تقديره: ليستدل وليكون من الموقنين أريناه الملكوت.
بازِغَةً منصوب على الحال لأن رَأَى هنا بصرية من رؤية العين، لا قلبية.
البلاغة:
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ حكاية حال ماضية، أي أريناه.
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فيه تعريض بضلال قومه.
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
إِبْراهِيمُ خليل الرحمن، أبو الأنبياء، العاشر من أولاد سام، جد العرب، وأبو إسماعيل، المولود في بلدة «أور» أي النور من بلاد الكلدان، وهي المعروفة الآن باسم «أورفة» جنوب الحدود التركية المجاورة للحدود السورية. آزَرَ أبو إبراهيم، وهو لقبه واسمه تارح، أو تارخ، ومعناه متكاسل. أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ تعبدها، والاستفهام للتوبيخ.
إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ باتخاذها. فِي ضَلالٍ عن الحق، والضلال: العدول عن الطريق الموصل إلى الهدف. مُبِينٍ بيّن واضح. وَكَذلِكَ أي كما أريناه ضلال أبيه وقومه نري إبراهيم.
مَلَكُوتَ ملك وسلطان وعظمة، أراه الله عظمة السموات والأرض ليستدل بذلك على وحدانية الله. وجملة وَكَذلِكَ وما بعدها اعتراض وعطف على: قال.
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أظلم أو ستره بظلمته. رَأى كَوْكَباً نجما مضيئا، قيل: هو الزهرة أو المشتري. أَفَلَ غاب بعد ظهوره. لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أن أتخذهم أربابا لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال لأنهما من شأن الحوادث، فلم ينجع فيهم ذلك. بازِغاً طالعا، وبزوغ القمر: ابتداء طلوعه. يَهْدِنِي رَبِّي يثبتني على الهدى. مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ تعريض لقومه بأنهم على ضلال، فلم يؤثر فيهم ذلك. هذا أَكْبَرُ من الكوكب والقمر. إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث، فقالوا له: ما تعبد؟(7/260)
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قصدت بعبادتي وطلب حاجتي وجه الله وحده، مع إخلاص العبودية.
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أخرجهما إلى الوجود أو أبدعهما أو خلقهما لا على مثال سابق.
حَنِيفاً مائلا عن الضلال والشرك إلى الدين القيم.
المناسبة:
ذكر الله تعالى هنا قصة إبراهيم مع أبيه آزر في إبطال الوثنية، للاحتجاج على مشركي العرب، لأن جميع الطوائف والملل تعترف بفضله، فالمشركون يقرّون بأنهم من أولاده ويعترفون بفضله، ويدّعون أنهم من ملته، واليهود والنصارى كلهم معظمون له، معترفون بجلالة قدره، وإذا كان إبراهيم يجادل قومه ويناقشهم في عبادة الأوثان، مرة بعد مرة، فعلى العرب أحفاده أن يرجعوا عن غيهم، ويدركوا خطأهم في عبادة الأوثان.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة، تعبدها من دون الله؟! مع أن الله هو الذي خلقك وخلقها، فهو المستحق للعبادة دونها.
قال ابن كثير: والصواب أن اسم أبيه آزر.
إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام، أي السالكين مسلكك والسائرين على طريقتك، في ضلال واضح، أي تائهين، لا يهتدون إلى الطريق القويم الذي يسلكونه، بل هم في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بيّن واضح لكل ذي عقل سليم، وأي ضلال أوضح من عبادتكم صنما من حجر أو شجر أو معدن، تنحتونه بأيديكم، ثم تعبدونه وتقدسونه، كقوله تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ [الصافات 37/ 95- 96] وأنتم أسمى من الصنم شأنا، وأعلى مكانة، فأنتم تعقلون، والأصنام صماء لا تعقل ولا تدفع عن نفسها الضر، ثم تتخذونهم آلهة معبودة؟!(7/261)
والتعبير بالضلال المبين: معناه الانحراف عن طريق الاستقامة، كما قال تعالى لنبيه محمد: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى 93/ 7] .
وكما أرينا إبراهيم ضلال أبيه وقومه في عبادتهم الأصنام والأوثان، أريناه مرة بعد أخرى ملكوت السموات والأرض، أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الخلق والصنع، فاطلع على أسرار الكون وخفاياه من أرض وسماء، ليستدل بذلك على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وسعة علمنا: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل 27/ 88] .
نعرّف إبراهيم ذلك ونبصره ونوفقه، ونرشده بما شرحنا صدره وسددنا نظره، وهديناه لطريق الاستدلال، وليكون ممن أيقن تمام الإيقان أن شيئا من الأصنام والشمس والقمر والكواكب لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها، فتكون تلك الآيات دالة على الألوهية والربوبية، وحجة على المشركين الضالين. واليقين: علم قطعي يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل.
ثم أوضح الله تعالى ما رآه إبراهيم من ملكوت السموات والأرض، فقال: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً أي لما أظلم عليه الليل، رأى كوكبا عظيما متميزا عن سائر الكواكب بإشراقه ولمعانه، وهو كوكب المشتري أو الزهري، قال: هذا ربي، أي قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه، تمهيدا للإنكار عليهم ولإقامة الحجة عليهم، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم، ثم نقضه بالحس والعقل.
فلما غرب هذا الكوكب، قال إبراهيم: ما هذا بإله، ولا أحب ما يغيب ويختفي! لأن الإله له السيطرة على الكون، وهو السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل إذ كيف يغيب الإله ويستتر؟ قال تعالى لِمَ تَعْبُدُ(7/262)
ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم 19/ 42] . وهذا تعريض بجهل قومه في عبادة الكواكب، قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول.
ثم انتقل إبراهيم من إبطال ألوهية الكوكب إلى إبطال ألوهية القمر الأكثر إضاءة، فلما رآه بازغا طالعا قد عم ضوءه الكون، قال: هذا ربي، فلما غاب كذلك، كما غاب الكوكب في الليلة الماضية، قال إبراهيم مسمعا قومه: ما هذا أيضا بإله، ولئن لم يهدني ربي ويوفقني للإصابة الحق في توحيده، لأكوننّ من القوم الضالين، الذين اخطؤوا الطريق، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله.
وفي هذا تعريض قريب من التصريح بضلال قومه وتنبيه لهم على أن من اتخذ القمر إلها ضال أيضا، وإرشاد إلى توقف معرفة العقيدة على الوحي الإلهي، ثم صرح في المرة الثالثة بالبراءة من شرك قومه.
فلما رأى الشمس بازغة طالعة، وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا وإضاءة، قال إبراهيم: هذا «1» هو الآن ربي! هذا أكبر من الكواكب والقمر قدرا، وأعظم ضوءا ونورا، فهو أولى بالربوبية.
فلما غابت الشمس كما غاب غيرها، صرح إبراهيم بعقيدته، وتبرأ من شرك قومه، قائلا: أنا بريء من عبادة الكواكب وموالاتهن، إني توجهت في عبادتي لخالق الأرض والسماء «2» ، وخالق هذه الكواكب، مائلا عن الضلال إلى الحق والدين القيم، دين التوحيد، ولست من زمرة المشركين الذي يتخذون مع الله إلها آخر، وإنما أعبد خالق هذه الأشياء ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء،، وخالق كل شيء، وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى:
__________
(1) إنما قال: هذا عن الشمس وهي مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه.
(2) وقال: وجهت وجهي للذي فطر، ولم يقل: إلى الذي لأنه تعالى متعال عن الحيز والجهة، والمقصود: توجيه القلب لطاعته.(7/263)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] .
والظاهر مما تقدم أن قوم إبراهيم كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، والإله: هو المعبود، والرب: هو السيد المالك المربّي المدبر المتصرف. والعبادة: هي التوجه بالدعاء والتعظيم لخالق الخلق.
وليس للخلق إله ولا رب سوى الله.
وموقف إبراهيم كان موقف الممثل للمجادل البارع على سبيل الافتراض أنه غير مؤمن، أما في الحقيقة والواقع فلم يكن إبراهيم ناظرا في مقام إثبات الألوهية والربوبية لأن الله قال في حقه: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء 21/ 51- 52] وقال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل 16/ 120- 123] وقال تعالى: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 161] . وقد ثبت
في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة»
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: إني خلقت عبادي حنفاء»
وقال الله في قرآنه المجيد: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] .(7/264)
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة، قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، ناظرا في هذا المقام، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا شك ولا ريب.
ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا: قوله تعالى فيما يأتي: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ... «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
من أجل إثبات ألوهية الله وربوبيته ناظر إبراهيم وجادل، وأفحم بالحجة والبرهان، وله أربع مناظرات:
الأولى- مناظرته مع أبيه، حيث قال له: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم 19/ 42] وحكى القرآن خبر هذه المناظرة هنا، فقال: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ....
الثانية- مناظرته مع قومه، وهو قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ....
الثالثة- مناظرته مع ملك زمانه، فقال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة 2/ 258] .
الرابعة- مناظرته مع الكفار بالفعل، وهو قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ [الأنبياء 21/ 58] .
وهذا يدل على قوة إبراهيم ومقدرته في الجدل والمناظرة، وحضور البديهة لإفحام الخصم، وإثبات مراده بالبرهان القاطع.
وكان إبراهيم عليه السلام بارعا في هذا المقام، حيث أبطل عبادة الكواكب
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 151- 152(7/265)
والقمر والشمس لأنها تغيب وتختفي، وشأن الإله ألا يغيب ولا يستتر، ولا يتخلى عن إشرافه لملكوته، وقد تنازل مع خصمه بهذا الأسلوب على سبيل الافتراض، ثم نقض وجهة نظر الخصم وكان في كل ذلك- كما أوضحت- مناظرا لا ناظرا، فعقيدته مستقرة في قلبه بالفطرة والإلهام والإرشاد الإلهي والعقل والحس.
وأما قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي فمعناه: لئن لم يثبتني على الهداية، وقد كان مهتديا. وفي التنزيل: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] أي ثبتنا على الهداية.
وتدرج إبراهيم من اختبار نماذج ثلاثة لألوهية الكواكب إلى إثبات ألوهية الله الحق وربوبيته، بقوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وحده. وذكر الوجه لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. وكان تدرجه من التعريض بجهل قومه وبطلان الوثنية، إلى سلخ محبته عن الآفلين، إلى الإنذار بالضلال والحيرة، إلى التصريح بالبراءة من الشرك ومن المشركين، إلى إعلان عقيدته بعد هدم أساس الشرك.
قال الرازي: وليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين: أحدهما- حكيم يفعل الخير، والثاني- سفيه يفعل الشر. وأما الاشتغال بعبادة غير الله فهناك كثرة: منهم عبدة الكواكب، ومنهم قوم غلاة ينكرون الإله الصانع، وهم الدهرية الخالصة والنصارى يعبدون غير الله، إذ يعبدون المسيح، ومنهم عبدة الأصنام «1» .
ولا دين أقدم من دين عبادة الأصنام لأن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 35(7/266)
تاريخهم مفصلا هو نوح عليه السلام، وقد جاء بالرد على عبدة الأصنام «1» ، كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا: لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح 71/ 23] وسبب قولهم أن الإنسان البدائي توهم في صموت الصنم سرا يصلح أن يوصل إلى الله تعالى، أوتوهم في ظهور بعض مخلوقات الله من شجر أو شمس أو قمر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه من توجه إليها.
وأدرك قوم إبراهيم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وإنما قلدوا آباءهم، لذا اتخذوا الأصنام آلهة معبودة لا أربابا مدبرين، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لتأثيرها السبي في الأرض.
وقلد العرب آباءهم في عبادة الأصنام قائلين: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] .
ولا يسع المؤمن إلا التنديد بكل مظاهر الوثنية وأشكالها وطقوسها، وحصر العبادة بفاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل، كما أعلن إبراهيم عليه السلام الذي قال في التماثيل: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء 21/ 56] .
وجميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته لأنها محدثة ممكنة، وكل محدث ممكن هو محتاج إلى الصانع.
ودل قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ على أحكام ذكرها الرازي:
1- دلت هذه الآية على أن الله تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا أبدا، فكان آفلا أبدا.
__________
(1) المرجع والمكان السابق.(7/267)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
2- ودلت الآية على أنه تعالى ليس محلّا للصفات المحدثة، وإلا لكان متغيرا، وحينئذ يحصل معنى الأفول، وذلك محال.
3- ودلت أيضا على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل، لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.
4- ودلت كذلك على أن معارف الأنبياء بربهم قائمة على الاستدلال لا بالبداهة أو الضرورة، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال.
5- ودلت على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن معرفتها بطريق آخر، لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة «1» .
المحاجة بين إبراهيم وقومه
[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 83]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 55- 56(7/268)
الإعراب:
إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً: إِلَّا: استثناء منقطع شَيْئاً: منصوب على المصدر، كقولك: إلا أن يشاء مشيئة. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً: عِلْماً: منصوب على التمييز.
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ: الَّذِينَ: مبتدأ، وأُولئِكَ: بدل من الَّذِينَ أو مبتدأ ثان، والْأَمْنُ: مبتدأ ثالث أوثان.
ولَهُمُ: خبر الْأَمْنُ. والأمن وخبره: خبر أُولئِكَ. وأولئك وخبره: خبر الَّذِينَ.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ منصوب بنرفع على الظرف، أو بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره:
إلى درجات. ومن قرأ بغير تنوين، كان دَرَجاتٍ مفعولا به، والعامل فيه نَرْفَعُ وأضافها إلى مَنْ.
المفردات اللغوية:
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ جادلوه في دينه، وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها. والمحاجة:
المجادلة والمغالبة، وتطلق الحجة على ما يدلي به الخصم لإثبات دعواه أو الرد على دعوى خصمه، والحجة: إما دامغة لا تقبل النقض، أو داحضة واهية لا تثبت شيئا، فتسمى شبهة. أَتُحاجُّونِّي أي أتجادلونني. فِي اللَّهِ في وحدانية الله. وَقَدْ هَدانِ تعالى إليها.
وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي تشركونه به من الأصنام أن تصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء. إِلَّا لكن. أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من المكروه، يصيبني فيكون. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل شيء.
أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ هذا فتؤمنوا. وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ بالله، وهي لا تضر ولا تنفع. وَلا تَخافُونَ أنتم من الله. أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ في العبادة. ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ بعبادته. سُلْطاناً حجة وبرهانا، وهو القادر على كل شيء. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من الأحق بالأمن والسلامة، أنحن أم أنتم، أي وهو نحن فاتبعوه. وَلَمْ يَلْبِسُوا يخلطوا. إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ المراد به هنا الشرك في العقيدة أو العبادة، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، لأنه الظلم الأكبر. الْأَمْنُ من العذاب. وَتِلْكَ حُجَّتُنا التي احتج بها إبراهيم على وحدانية الله من أفول الكوكب ونحوه. آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه لها، حجة. عَلى قَوْمِهِ المشركين.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم والحكمة. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في صنعه. عَلِيمٌ بخلقه.(7/269)
سبب النزول: نزول الآية (82) :
الَّذِينَ آمَنُوا
أخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلا، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال: أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم، فضرب فرسه فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه، فقتل رجلا، ثم آخر، ثم آخر، ثم قتل، قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الآية.
المناسبة:
الآيات استمرار في مناظرات إبراهيم عليه السلام، وهي هنا جدال بينه وبين قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، ولما أفحمهم في المناظرة، تمسكوا بالتقليد، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا، وخوفوه بالآفات والبليات، لما طعن في ألوهية هذه الأصنام.
التفسير والبيان:
جادله قومه في مبدأ التوحيد، فهو حين أثبته لهم بالأدلة القاطعة في حدود مستواهم الفكري، وأثبت لهم وجوب عبادة الله وحده، حاجوه ببيان شبهاتهم في شركهم، فقالوا: إن تعدد الآلهة لا ينافي الإيمان بالله لأنهم شفعاء عنده، وتمسكوا بالتقليد للآباء وبنحو ذلك. فرد الله عليهم بقوله:
قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا الله، وقد بصرني وهداني إلى الحق، وأنا على بينة منه، فكيف ألتفت إلى مزاعمكم وضلالكم في شرككم وتقليدكم فيه أسلافكم من غير حجة؟(7/270)
ومن أدلة بطلان مذهبكم أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا، وأنا لا أخافها ولا أرهبها ولا أبالي بها لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تنصر ولا تشفع، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تمهلون، بل عاجلوني بذلك.
لا أخاف ما تشركون به أبدا إلا إذا شاء الله شيئا في إصابة مكروه لي، فإنه يقع حتما لأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل، وهو القادر على كل شيء.
ثم علل تعالى ما سبق فقال: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا تخفى عليه خافية، فلربما أنزل بي مكروها بسبب الدعوة إلى نبذها وتحطيمها.
أفلا تتذكرون هذا وما بينته لكم فتؤمنوا، أي أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذا شبيه بما احتج به هود عليه السلام على قومه عاد: قالُوا: يا هُودُ، ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود 11/ 53- 56] .
وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم، ما لم ينزل به حجة بيّنه بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟ وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الله واحد أحد فرد صمد، فإشراككم وافتئاتكم هو الذي ينبغي أن يخاف.
وفي كَيْفَ معنى الإنكار، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام، وهم(7/271)
لا يخافون الله عز وجل أي كيف أخاف ميتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء؟! قال ابن عباس وغيره عن قوله سُلْطاناً أي حجة، أي لا دليل يثبته، كقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 42/ 21] وقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم 53/ 23] .
وإذا كان هذا هو الحقيقة والواقع، فأي الفريقين: فريق الموحدين وفريق المشركين أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة، وأجدر بالأمن وعدم الخوف على نفسه في الدنيا من جراء عقيدته؟ أي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ والتصريح بالفريقين دون الاكتفاء بقول: (فأينا أحق بالأمن) للدلالة على أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، لا خاصة لهم، وللبعد عن تخطئتهم صراحة حتى لا ينفروا من الإصغاء، ويلجأوا إلى العناد.
إن كنتم تعلمون، أي إن كنتم على علم وبصيرة بهذا الأمر، فأخبروني بذاك، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق.
ثم أجاب الله تعالى عمن هو أحق بالأمن فقال: الَّذِينَ آمَنُوا ... أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانية، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئا، ولم يخطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال أصحابه: وأينا لهم يظلم نفسه، فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ هذه رواية البخاري. وأما
رواية الإمام أحمد: «لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك(7/272)
على الناس، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] إنما هو الشرك» .
وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله:
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَهُمْ مُهْتَدُونَ أرشدنا إليها إبراهيم ووفقناه لها، ليقنع قومه. وهذا يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى.
إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات في الدنيا في العلم والحكمة، وهي درجة الإيمان، ودرجة العلم، ودرجة الحكمة والتوفيق، درجة النبوة، ما لم يحظ بها غيرهم، كما قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة 2/ 253] وفي الآخرة بالجنة والثواب. والمراد من الآية: أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب ما آتاه من الحجة.
إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه، عليم بشؤون خلقه، وبمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . والله يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشهوة والمجازفة، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل.
ويلاحظ أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الأكمل الصحيح إلا عن طريق الوحي، وعلم الأنبياء بالوحي بدهي لا نظري، فقد علّمهم كل ما يحتاجون إليه من الأدلة العقلية والنقلية.(7/273)
فقه الحياة أو الأحكام:
علّم الله تعالى إبراهيم عليه السلام كل أنواع الحجج العقلية التي يفحم بها قومه، ويبطل شبهاتهم ومزاعمهم بدليل قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ.
منها أنهم خوفوه بالأصنام، فكان الرد عليهم بقوله: لا خوف منها أصلا لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر، والأصنام جمادات لا تقدر على شيء من نفع أو ضر.
وأما ما قد يصاب به الإنسان من المصائب، فإما أن يكون بسبب ذنب، فيعاقب عليه، وإما أن يكون ابتلاء واختبارا بمحن الدنيا، فيعرف الصبر عليها ومدى تماسك الإيمان وقت الشدة، وإما أن يكون تسليطا لبعض الظلمة على غيرهم، حتى يكون ظلمهم سببا لإهلاكهم.
أما قيام الأنبياء بواجباتهم في الدعوة لإثبات التوحيد وإبطال الشرك فلا يكون سببا لاستحقاق العقاب وإنزال العذاب، خلافا لما يتوهم المشركون عبدة الأوثان فإن الوثنية كلها نابعة من الوهم والخرفة.
والمحاجة والجدال محمود كل منهما إذا كانا بقصد تقرير الدين الحق، وهما مذمومان إذا كانا لتقرير الدين الباطل.
وإذا كان الشرك بالله مصدر المخاوف والأوهام، فلا غرابة في أن المشركين يعيشون دائما في قلق واضطراب وخوف من مغيبات القدر والمستقبل. أما المؤمنون الموحدون فلهم الأمن المطلق بشرط وجود الوصفين: وهما الإيمان، وهو كمال القوة النظرية، وعدم الإيمان بالظلم، وهو كمال القوة العملية. والمراد من الظلم هنا: هو الشرك لأنه الظلم الأكبر، ولقوله تعالى حكاية عن لقمان،(7/274)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
إذ قال لابنه وهو يعظه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والمراد هنا: الذين آمنوا بالله، ولم يثبتوا لله شريكا في العبادة.
أما الفاسق فيحتمل أن يعذبه الله، ويحتمل أن يعفو عنه.
ودل قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. ويؤكده قوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ أي أن الله تعالى هو الذي رفع درجات إبراهيم بسبب أنه آتاه الحجة.
إبراهيم أبو الأنبياء وخصائص رسالاتهم والاقتداء بهديهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)(7/275)
الإعراب:
كُلًّا منصوب بهدينا، وكذلك نُوحاً: منصوب بهدينا، وهو منصرف وإن كان قد اجتمع فيه العجمة والتعريف لخفة الوزن لأن خفة الوزن قام مقام أحد السببين، فكأنه بقي سبب واحد، والسبب الواحد لا يمنع الصرف، فانصرف. وهاء ذُرِّيَّتِهِ تعود على نوح، ولا يجوز أن تعود على إبراهيم لأن بعده لوطا، ولم يكن من ذرية إبراهيم، وإنما كان من ذرية نوح.
وداوُدَ وَسُلَيْمانَ: منصوبان بهدينا، وهما غير منصرفين للعجمة والتعريف.
وَالْيَسَعَ ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف.
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ الباء في بِها تتعلق بِكافِرِينَ، والباء في بِكافِرِينَ زائدة لتأكيد النفي، كأنه قال: ليسوا بها كافرين، وهو خبر (ليس) .
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ هاء اقْتَدِهْ: للسكت، ودخلت بيانا للحركة، وصيانة لها عن الحذف. ومن قرأ بكسر الهاء جعلها كناية عن المصدر، أي: اقتد الاقتداء.
المفردات اللغوية:
وَوَهَبْنا لَهُ لإبراهيم وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق كُلًّا منهما وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي نوح وَسُلَيْمانَ ابن داود وَيُوسُفَ ابن يعقوب وَإِلْياسَ ابن أخي هرون أخي موسى وَإِسْماعِيلَ ابن إبراهيم وَالْيَسَعَ السلام زائدة وَلُوطاً ابن هارون أخي إبراهيم وَكلًّا منهم فَضَّلْنا بالنبوة.
وَمِنْ آبائِهِمْ.. عطف على كلًّا أو على نُوحاً ومن: للتبعيض لأن بعضهم لم يكن له ولد، وبعضهم كان في ولده كافر وَاجْتَبَيْناهُمْ اخترناهم واصطفيناهم ذلِكَ الدين الذي هدوا إليه لَحَبِطَ لبطل عنهم عملهم الْكِتابَ أي الكتب وَالْحُكْمَ الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة: الكتب والحكمة والنبوة هؤُلاءِ أي أهل مكة. فَقَدْ وَكَّلْنا بِها هيأنا لها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ هم المهاجرون والأنصار.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها ودافع عنها، عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه وأولها- قوله:(7/276)
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ وثانيها- قوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وثالثها- قوله: وَوَهَبْنا لَهُ.. أي أنه جعله عزيزا في الدنيا لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة.
التفسير والبيان:
أكرم الله نبيه إبراهيم عليه السلام، فوهب له إسحاق، بعد أن كبر في السن، وأيس هو وامرأته «سارة» من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك وقالت: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود 11/ 72- 73] .
بشروهما أيضا بنبوته، وبأن له نسلا وعقبا، كما قال تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات 37/ 112] وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود 11/ 71] .
وكان هذا مجازاة ومكافأة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلاده ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه، على دينه، لتقرّبهم عينه، كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مريم 19/ 49] وقال هاهنا: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، كُلًّا هَدَيْنا أي جعلنا له إسحاق ويعقوب ولدين صالحين ومن الأنبياء، وهدينا كلا منهما كلا هدينا إبراهيم بالنبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.(7/277)
وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته «سارة» جزاء إيمانه وإحسانه، وكمال إسلامه وإخلاصه، بعد ابتلائه بذبح ولده «إسماعيل» الذي لم يكن له ولد سواه، على كبر سنّه، ومثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وهناك سبب آخر لذكر إسحاق دون إسماعيل: وهو أن المقصود بالذكر أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فليس من صلبه نبي إلا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وإبراهيم من سلالة نوح، وكما هداه الله، هدى جده نوحا قبله، فأتاه النبوة والحكمة، وهذه نعمة من أعظم النعم، فهو من سلالة نبي، وأولاده أنبياء، فجعل من ذريته داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، فهي ذرية طيبة: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران 3/ 34] .
وإنما ذكر نوحا لأنه جد إبراهيم، كما تقدم، مما يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه، فهو كريم الآباء، شريف الأبناء، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا، كما قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [الحديد 57/ 26] .
وهدى الله كذلك من ذرية إبراهيم إلى النبوة والحكمة زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا. وعود الضمير إلى إبراهيم لأنه الذي سبق الكلام من أجله، ويجوز عوده إلى نوح لأنه أقرب المذكورين.
وهدى أيضا من ذريته إسماعيل ابنه الصلبي وجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، واليسع، ويونس، ولوطا، وكلا منهم فضلناه على العالمين.
لكن يأتي إشكال هنا وهو أن لوط عليه السلام ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو ابن أخيه هاران بن آزر، اللهم إلا أن يقال: إنه دخل في الذرية تغليبا، كما(7/278)
في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ: إِبْراهِيمَ، وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِلهاً واحِداً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة 2/ 133] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا، وكما قال: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [الحجر 15/ 30، ص 38/ 73] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة لأنه كان متشبها بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وإلا فهو كان من الجن، وطبيعته من النار، والملائكة من النور.
وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم، أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام من طريق أمه «مريم» فإنه لا أب له. ومثل ذلك دخول الحسن والحسين رضي الله عنهما في ذرية النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهما أولاد فاطمة رضي الله عنها لما ثبت
في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»
فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
ويلاحظ أن الله تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء وهم: نوح، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، والمجموع ثمانية عشر.
والترتيب بينهم غير معتبر لأن حرف الواو لا يوجب الترتيب.
وحكمة جعل الأنبياء في الآية ثلاثة أقسام هي ما يأتي:
1- داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون: وهؤلاء جمعوا بين النبوة والرسالة وبين الملك والإمارة والحكم، فداود وسليمان كانا ملكين، وأيوب(7/279)
كان أميرا، ويوسف كان وزيرا وحاكما متصرفا، وموسى وهارون كانا حاكمين، ولم يكونا ملكين. وقد ذكرهم القرآن على طريقة الترقي في هدى الدين فأفضلهم موسى وهارون، ثم أيوب ويوسف، ثم داود وسليمان.
وقوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة، وبين هداية الدين وإرشاد الناس.
2- زكريا ويحيى وعيسى وإلياس: وهؤلاء امتازوا بالزهد في الدنيا، فوصفهم الله بالصالحين.
3- إسماعيل واليسع ويونس ولوط: وهؤلاء لم يكونوا ملوكا كالقسم الأول، ولا زهادا كالقسم الثاني، وإنما لهم أفضلية على العالمين في زمانهم، فالمنفرد منهم أفضل من قومه، والموجود منهم اثنان فأكثر أفضل من أقوامهم، وقد يكون أحدهم أفضل من الآخر، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وموسى أفضل من أخيه ووزيره هارون، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى عليهم السلام.
ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء، فقال: وَمِنْ آبائِهِمْ ... أي وهدينا بعض آبائهم، وذرياتهم، وإخوانهم، لا كلهم إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير، كأبي إبراهيم، وابن نوح، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد 57/ 26] .
ثم وصفهم الله بما خصهم به فقال: ولقد اجْتَبَيْناهُمْ ... أي ولقد اصطفيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة، وهديناهم إلى الصراط المستقيم:
وهو الدين الحق القويم.(7/280)
ذلك الهدى الذي هدى به هؤلاء الأنبياء والمرسلين لإصابة الدين الحق، هو هدى الله الخالص وتوفيقه، دون هداية من عداه. والهداية نوعان: إما هداية محضة من الله لا تنال بالسعي والكسب وهي النبوة، وهي المشار إليها في قوله تعالى لنبيه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى 93/ 7] . وإما هداية تنال بالسعي والكسب مع التوفيق الإلهي لنيل المراد.
ولو أشرك هؤلاء المهتدون بربهم، مع فضلهم ورفعتهم درجات، لبطل أجر عملهم كغيرهم في حبوط أعمالهم، وهو تشديد في أمر الشرك وتغليظ لشأنه، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.. [الزمر 39/ 65] وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف 43/ 81] وقوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء: 21/ 17] وقوله: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر 39/ 4] .
أولئك المذكورون، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد لله تعالى، وهم الذين آتيناهم الكتاب (أراد جنس الكتاب) : وهو ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وآتيناهم الحكم:
أي الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين، ويتفرع عنه الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات، والنبوة، أي جعلناهم أنبياء يوحى إليهم من الله حكمه وأمره ودينه، وبعضهم أوتي النبوة صبيا كيحيى وعيسى عليهما السلام، وبعضهم جمع العطايا الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشعراء 26/ 83] وقال حكاية عن موسى:
فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء 26/ 21] وقال عن داود: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ(7/281)
[ص 38/ 26] وقال في داود وسليمان: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء 21/ 79] .
ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين حكموا بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة، فقد وكلنا برعايتها وعنايتها، ووفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها، آمن بعضهم فورا، وسيؤمن بعضهم بعدئذ. أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يعني أهل مكة، يقول: إن يكفروا بالقرآن، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، يعني أهل المدينة والأنصار «1» .
والأصح أن المراد بالموكلين بها هم أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم مطلقا. ثم ربط الله تعالى بين هؤلاء الأنبياء وخاتم النبيين، فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ...
أي أولئك الأنبياء المذكورون الثمانية عشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، وما أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان هم أهل الهدى الكامل من الله، لا غيرهم، فبهداهم اقتده، أي اقتد واتبع هداهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والأخلاق الحميدة.
وإذا كان هذا أمرا للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به. قال البخاري عند هذه الآية بسنده عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي ص سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ إلى قوله:
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ثم قال: هو منهم.
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 175 [.....](7/282)
وقل أيها الرسول لمن أرسلناك إليهم: لا أطلب على تبليغ القرآن أجرا من مال ولا غيره من المنافع الخاصة، كما أن جميع الرسل قبلي لم يطلبوا أجرا على التبليغ والهدى، كما قال تعالى: قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى 42/ 23] .
وما هذا القرآن إلا تذكير وموعظة للعالمين، وإرشاد وهدى للمتقين. وهذا تصريح بعموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم للناس قاطبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أنعم الله على نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام بنعم كثيرة، ذكر في الآية السابقة منها اثنتين وهما قوة الجدل وإفحام الخصوم بالحجة البالغة، ورفع درجاته في الدنيا والآخرة، وذكر في هذه الآية أنه ابن نبي وأبو الأنبياء، فهو كريم الأصل شريف الفرع، وهو في أشرف الأنساب.
ودلت الآية كما ذكر سابقا على أن أولاد البنات داخلون في ذرية الإنسان، لذا قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة: كل ذي رحم محرم، ويسقط عنده ابن العمّ والعمة وابن الخال والخالة لأنهم ليسوا بمحرمين. وقال الشافعي: القرابة: كل ذي رحم محرم وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره.
وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات.
وذكر الله في هذه الآية ثمانية عشر نبيا، وهناك سبعة آخرون في القرآن وهم آدم أبو البشر، وإدريس، وهود، وذو الكفل، وصالح، وشعيب، ومحمد خاتم النبيين، فيصبح المجموع خمسة وعشرين نبيا تجب معرفتهم والإيمان بهم لأن الله(7/283)
تعالى نص على أسمائهم في القرآن الكريم، وهم كما ذكرت في تفسير الآية (163) من سورة النساء:
آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم «1» .
والآية تدل على أن أول رسول شرع الله له الأحكام من حلال وحرام هو نوح عليه السلام.
ودلت الآية على أن مهام الأنبياء متفاوتة، فمنهم من جمع الله له النبوة والملك والقضاء بين الناس، ومنهم من جمع الله له النبوة والحكم، ومنهم من قصره على النبوة فقط، كما تقدم. ومن هؤلاء الأنبياء من بقي له أتباع كأتباع الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلام، ومنهم من انقرض أتباعه وهم إسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط.
والأنبياء أفضل من الملائكة لقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام:
وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ والعالم: اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملائكة، فهذا القول يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين.
ودل قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة، فالآباء: هم الأصول، والذريات: هم الفروع، والإخوان: فروع الأصول. والمراد بالهداية: الهداية إلى الثواب والجنة، والهداية إلى الإيمان والمعرفة.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 585(7/284)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
وإذا تنكر قوم لرسالة نبي، فإن الله تعالى يهيء لها أقواما آخرين، كما هيأ أهل المدينة عوضا عن أهل مكة.
ودل قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ على إبطال الشرك وإثبات التوحيد، كما دل قوله: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ على وجوب اتباع هدي الأنبياء المشترك وهو أصل التوحيد وعبادة الله والفضائل والأخلاق الشريفة وجميع الصفات الحميدة.
واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلّى الله عليه وسلّم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام لأن الله أمره بأن يقتدي بهم بأسرهم.
إثبات النبوة وإنزال الكتب على الأنبياء ومهمة القرآن
[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
الإعراب:
إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.. الآية (91) : مِنْ زائدة للتأكيد والعموم، وشَيْءٍ: في موضع نصب بأنزل. ونُوراً منصوب على الحال من الكتاب أو(7/285)
من الضمير المجرور في بِهِ. وهُدىً عطف عليه. وكذلك تَجْعَلُونَهُ في موضع نصب على الحال. وقَراطِيسَ منصوب بتجعلونه، وتقديره: تجعلونه في قراطيس، إلا أنه لما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه.
فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يلعبون: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول في ذَرْهُمْ.
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى اللام: لام كي، تتعلق بفعل مقدر تقديره: ولتنذر أم القرى أنزلناه.
البلاغة:
ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل.
مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ استفهام للتوبيخ والتقريع.
أُمَّ الْقُرى مكة المكرمة، وفيه استعارة حيث شبهت بالأم لأنها أصل المدن والقرى.
المفردات اللغوية:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ أي ما عرفوا الله حق المعرفة، وما عظموه حق عظمته، والضمير عائد إلى اليهود أو إلى مشركي قريش إِذْ قالُوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وقد خاصموه في القرآن قَراطِيسَ واحدها قرطاس: وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره، والمراد: يكتبون الكتاب في دفاتر مقطعة تُبْدُونَها أي ما يحبون إبداءه منها وَتُخْفُونَ كَثِيراً مما فيها كنعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود في القرآن ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه.
قُلِ اللَّهُ أنزله إن لم يقولوه، لا جواب غيره فِي خَوْضِهِمْ أباطيلهم.
مُبارَكٌ فيه بركة، أي زيادة وسعة، بارك الله فيه بما امتاز به عما قبله من الكتب في النظم والمعنى مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قبله من الكتب وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى مكة، سميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى كلها، ولأنها مكان أول بيت وضع للناس، والفعل معطوف على معنى ما قبله، أي أنزلناه للبركة والتصديق، ولتنذر به أم القرى: مكة، ومن حولها، أي سائر الناس وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يصدّقون بالعاقبة ويخافونها يُؤْمِنُونَ بِهِ بهذا الكتاب، وذلك أن أصل الدين: خوف العاقبة، فمن خافها، لم يزل به الخوف حتى يؤمن وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ خوفا من عقاب الآخرة. وخص الصلاة لأنها عماد الدين، ومن حافظ عليها حافظ على أخواتها.(7/286)
سبب النزول: نزول الآية (91) :
وَما قَدَرُوا اللَّهَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصّيف، فخاصم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا، فغضب، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك، ولا على موسى، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية. وهو خبر مرسل، وأخرج ابن جرير الطبري نحوه عن عكرمة.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قالوا: والله، ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله تعالى: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ
ويؤيده قول الحسن وسعيد بن جبير: الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ هو أحد اليهود، قال: لم ينزل الله كتابا من السماء، وقال السدي: اسمه فنحاص.
وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف.
وقال محمد بن كعب القرظي: أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل أهل الكتاب عن امره، وكيف يجدونه في كتبهم، فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
وذكر عن ابن عباس في رواية أخرى: أن آية: إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني مشركي قريش. وهذا هو الراجح، كما سأبين.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 125 وما بعدها.(7/287)
المناسبة:
إن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، ولما حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد، وإبطال الشرك، وأبان الله تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة، شرع بعده في تقرير أمر النبوة، فقال:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حيث أنكروا النبوة والرسالة، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات «1» .
التفسير والبيان:
إن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله: وهم إما قريش أو طائفة من اليهود، كما ذكر في سبب النزول، ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم، وقالوا: ما أنزل الله كتابا من السماء.
قال ابن كثير: والأول (أي نزولها في قريش) أصح لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه من البشر «2» ، كما قال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس 10/ 2] وقال عز وجل:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء 17/ 94- 95] وقال هاهنا: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
والواقع أن من عرف الله حقيقة، وأدرك أنه القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، أيقن أن الإنسان بأشد الحاجة إلى الكتاب
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 72
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 156(7/288)
الإلهي، والاهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين، لإحراز السعادة الأبدية، وتحقيق الرقي الإنساني مادة ومعنى، فقد كان البشر البدائيون فوضى، والعالم يئن من الاضطراب والقلق، فكانت رسالة الرسل أداة تنظيم المجتمع، وواسطة الرقي، وسبيل الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، والحد من غطرسة الحاكم وظلم الفرد والجماعة، فمن أنكر رسالة الرسل ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدرة حق قدره.
ثم ذكر الله الدليل الحسي على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش، وأمر الله نبيه محمدا أن يقول لهم: من أنزل كتاب التوراة على موسى بن عمران، الذي كان نورا بدد الظلام، وهدى للناس الذين أخرجهم من الضلال إلى نور الحق، وصاروا خلقا آخر بسبب الاهتداء بهدي الله، وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ
[الأنعام 6/ 157] .
وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً هذا لليهود الذين أخفوا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرها من الأحكام، والمعنى: تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون منها ما تبدلون، وتقولون: هذا من عند الله، أي في كتابه المنزل، وما هو من عند الله.
وإذا جرينا على أن الأصح في سبب نزول هذه الآية وهو كونها في مشركي قريش، فيظهر إشكال، إذ كيف يكون الخطاب في أول الآية: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ لقريش، ونهايتها تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ لليهود؟
والجواب: إذا كان سبب النزول هو اليهود، فأول الآية وآخرها فيهم، وإذا كان سبب النزول هو مشركي قريش، فتأويل الآية: من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس، وقد كانت كذلك حتى غيروها وحرّفوها، ونسوا حظا كثيرا منها، وجعلوها قراطيس مقطعة، يبدونها عند الحاجة، فإذا استفتي أحد(7/289)
أحبارهم (علمائهم) في مسألة، أظهر منها ما يتفق مع هواه، وأخفى كثيرا من أحكام الكتاب، والسبب أن الكتاب محجور عليه بأيديهم، ولم يكن في أيدي العامة نسخ منه، وهذا الإخفاء محصور فيما تذكروه، لا ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس، وإجلاء اليهود إلى العراق، وهو ما أشار إليه تعالى بقوله: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة 5/ 13] ثم كرر ذلك في الآية التالية بعدها فقال: فَنَسُوا حَظًّا وقد كتموا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والبشارة به، وحكم الزنى وهو الرجم.
فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود أشد أعداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا المعنى منسجم مع قراءة يجعلونه بالياء، أما على قراءة تَجْعَلُونَهُ بالتاء، فيكون الله قد أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقرأ هذه الآية على اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.
قال مجاهد: قوله تعالى: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى خطاب للمشركين، وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ لليهود، وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ... للمسلمين.
قال القرطبي: وهذا يصح على قراءة من قرأ يجعلونه قراطيس بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا على وجه المنّ عليهم بإنزال التوراة.
والخلاصة: أن الآية قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ.. إن كانت واردة في حق قريش، فيمكن جعل أولها فيهم، وآخرها في اليهود، على قراءة الياء يجعلونه. وأما على قراءة التاء فلا تفهم إلا بجعلها كلها لليهود.
وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الخطاب: إما في حق العرب، كما قال مجاهد: هذا خطاب للعرب، وفي رواية عنه: للمسلمين، ومآلهم(7/290)
واحد، لأن ما علمه العرب نقلوه إلى سائر المسلمين. وكما قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب، والمعنى: وعلمكم الله بالقرآن من أخبار السابقين، وأنباء اللاحقين، ما لم تكونوا تعلمون ذلك، لا أنتم ولا آباؤكم. وفي ذلك امتنان من الله على الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بإنزال هذا القرآن عليهم لبيان أصول الاعتقاد مع الدليل، وإتمام مكارم الأخلاق، وتشريع العبادات لتزكية النفوس وتطهيرها، والمعاملات لنفع الأفراد والجماعات، وتقرير أصول الحياة كالحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بالعمل الصالح.
وقال الزمخشري وغيره: الخطاب في هذه الآية: وَعُلِّمْتُمْ.. لليهود، أي علمتم على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم مما أوحى الله إليه ما لم تعلموا أنتم مع أنكم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم، كقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل 27/ 76] . وأضاف الزمخشري بصيغة التضعيف قائلا: وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس 36/ 6] «1» .
وعلى رأي الزمخشري يكون المقصود المنّ على اليهود بإنزال التوراة فيهم.
ثم قال الله لنبيه: قُلِ: اللَّهُ أي قل يا محمد: الله أنزل الكتاب على موسى، وهذا الكتاب عليّ، أو قل: الله علمكم الكتاب، قال ابن عباس: أي قل: الله أنزله. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة.
ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم
__________
(1) الكشاف: 1/ 516(7/291)
يلعبون، حتى يأتيهم من الله اليقين (الموت) فسوف يعلمون، ألهم العاقبة، أم لعباد الله المتقين؟! ثم حدد تعالى مهمة القرآن فقال: وَهذا كِتابٌ.. أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه، يهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى، وقد جعلناه كثير البركة والخير، ومؤيدا لما تقدمه من الكتب، ومهيمنا عليها، يبشر بالجنة والثواب والمغفرة من أطاع الله، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله، ولينذر أهل أم القرى: مكة، ومن حولها من سائر الناس، أي من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، كما قال تعالى في آية أخرى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقال: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] وقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [آل عمران 3/ 20] وثبت
في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن:
«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
ولهذا قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي كل من آمن بالبعث والمعاد وقيام الساعة أو اليوم الآخر يؤمن ويصدق بصحة هذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن. هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.(7/292)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- تعظيم الله واجب، ومن مقتضى تعظيمه الاعتراف بإنزاله الكتب السماوية على أنبيائه، رحمة بعبادة، وإصلاحا لشأنهم.
2- الواجب على العالم إظهار جميع ما علمه من أحكام الله، ويحرم عليه إظهار بعضها، وإخفاء بعضها الآخر.
3- إن إيراد نبوة موسى عليه السلام لإلزام كفار قريش في قولهم:
ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
4- اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف أي بالواقعة التي ذكر فيها أن الله يبغض الحبر السمين، ثم يكون المراد: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولما كان كفار قريش واليهود والنصارى مشتركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة، وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى «1» .
5- القرآن الكريم كتاب مبارك كثير الخير والعطاء، مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأصلية الصحيحة، ومهيمن عليها، وناسخ لما خالفه منها، ومبشر المحسنين بالجنة والمغفرة، ومنذر الكافرين والفاسقين بالنار والعذاب فيها.
6- أفادت الآية كغيرها مما ذكر عموم بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم للجن والإنس، جميع
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 76(7/293)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
أجناس البشر والطوائف والأقوام، دون تفرقة ولا تمييز بين جنس وآخر، أو عنصر وآخر، أو زمن أو مكان دون غيره.
7- الإيمان بالآخرة أصل الدين، ومن آمن بها آمن بالقرآن. والصلاة عماد الدين، ومن أقامها أقام الدين كله، ومن هدمها هدم الدين كله.
افتراء الكذب على الله وعقابه
[سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
الإعراب:
وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الظالمين.
والهاء والميم في أَيْدِيهِمْ: تعود على الْمَلائِكَةُ.
وأَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ: جملة فعلية في موضع نصب بفعل مقدر، تقديره: يقولون:
أخرجوا أنفسكم، فحذف يقولون وحذف القول في كلامهم كثير. والْيَوْمَ منصوب بأخرجوا، وقيل: بتجزون.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى: فرادى: في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في جِئْتُمُونا ولا ينصرف لأن في آخره ألف التأنيث.(7/294)
والكاف في كَما في موضع نصب لأنها وصف لمصدر محذوف، تقديره: ولقد جئتمونا منفردين مثل حالكم أول مرة.
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ منصوب على الظرف، تقديره: لقد تقطع ما بينكم، على أن تكون «ما» نكرة موصوفة، ويكون بَيْنَكُمْ صفته، فحذف الموصوف، ولا تكون موصولة على مذهب البصريين، لأن الاسم الموصول لا يجوز حذفه، وأجازه الكوفيون.
البلاغة:
فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ: استعارة حيث شبه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الموت ولججه.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً اختلق الكذب وحكى عنه ما لم يقله، بادعاء النبوة مثلا ولم ينبأ، أو اتخاذ الأنداد والشركاء. وَمَنْ قالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وهم المستهزئون قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا وَلَوْ تَرى يا محمد فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ سكرات الموت، جمع غمرة وهي الشدة. وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ إليهم بالضرب والتعذيب، يقولون لهم تعنيفا: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ إلينا لنقبضها الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ المراد به هنا: يوم القيامة الذي يبعث فيه الناس للحساب والجزاء. وأصل اليوم: الزمن المحدود المعروف (24 ساعة) عَذابَ الْهُونِ الهوان وهو الذل، ومنه قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ [النحل 16/ 59] والهون بالفتح: اللين والرفق، ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان 25/ 63] . تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ بادعاء النبوة والإيحاء كذبا تَسْتَكْبِرُونَ تتكبرون عن الإيمان بها. وجواب وَلَوْ تَرى: لرأيت أمرا فظيعا.
فُرادى جمع فرد، أي منفردين عن الأهل والمال والولد كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي حفاة عراة غرلا خَوَّلْناكُمْ أعطيناكم ومنحناكم من الأموال، والخول: الخدم والحشم. وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم: يراد به عدم الانتفاع بالشيء، وتركه في الدنيا بغير اختياركم ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي الأصنام، يقال لهم ذلك توبيخا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي استحقاق عبادتكم لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بالضم أي وصلكم، أي تشتت جمعكم، وفي قراءة النصب: ظرف، أي وصلكم بينكم. والبين: الصلة، والمسافة بين شيئين أو أشياء، ويضاف إلى المثنى مثل: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات 49/ 10] وإلى الجمع مثل: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء 4/ 114] ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف 18/ 78] .(7/295)
وَضَلَّ عَنْكُمْ أي غاب عنكم ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ في الدنيا من شفاعتها.
سبب النزول:
نزول الآية (93) :
وَمَنْ أَظْلَمُ: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال: نزلت في مسيلمة. ومن قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ
قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فيملي عليه: عزيز حكيم فيكتب: غفور رحيم ثم يقرأ عليه، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.
وأخرج الطبري عن السدي نحوه، وزاد «قال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إلى، وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله، قال محمد:
سميعا عليما، فقلت أنا: عليما حكيما.
نزول الآية (94) :
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى: أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع إليّ اللات والعزى، فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى إلى قوله: شُرَكاءُ.
المناسبة:
الآيات استمرار في إثبات النبوة، فلما بيّن الله تعالى أن القرآن كتاب نازل من عند الله على محمد، وأنه مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى، وكل من النبيين بشر، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة، على سبيل الكذب والافتراء، فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأن نفي النبوة عن مدعيها(7/296)
إثبات لمن أعطيها حقا لأن محمدا عليه السلام مؤمن بالله واليوم الآخر، والمؤمن بذلك لا يعرّض نفسه للظلم الذي يوجب أشد العذاب، ففي ذلك شهادة ضمنية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث بيّن عاقبة الكذب على الله.
التفسير والبيان:
لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شريكا أو ولدا، أو ادعى النبوة والرسالة، ولم يرسله الله إلى الناس.
أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، والفرق بين هذا القول وبين ما قبله: أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه، وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه، ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام، ففيه جمع بين كذبين: وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود.
أو قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله، كمن قال من المشركين: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] .
هذا وعيد من صدر عنه أحد الأشياء الثلاثة، أما القولان الأولان (افتراء الكذب على الله، وادعاء الوحي) فالمراد بهما: من ادعى النبوة، مثل مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، والأسود العنسي في صنعاء باليمن، وطليحة الأسدي في بني أسد ونحوهم، وكان مسيلمة يقول: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة.
والقول الثالث أريد به ما قاله النضر بن الحارث الذي قال: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وكان يقول في القرآن: إنه من أساطير الأولين، وإنه شعر، لو نشاء لقلنا مثله.
ثم ذكر تعالى نوع وعيد الظالمين أمثال هؤلاء فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ(7/297)
الظَّالِمُونَ..
أي ولو تبصر أيها الرسول وكل سامع وقارئ حين يكون الظالمون في سكرات الموت وغمراته وكرباته أو شدائده وآلامه، لرأيت أمرا عجبا عظيما فظيعا لا سبيل إلى وصفه، والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها إليهم لقبض أرواحهم بالضرب ومنتهى الشدة والعنف، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [محمد 47/ 27] .
وتقول لهم الملائكة توبيخا وتأنيبا وتهكما حين قبض أرواحهم: أخرجوا أنفسكم وأرواحكم إلينا من أجسادكم، وهذا دليل العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير إمهال. وسبب ذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والجحيم وغضب الله، فتتفرق روحه في جسده وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ...
أي اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله، فلا تؤمنون بالآيات والرسل، وتفترون على الله غير الحق. والمراد باليوم: وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، ويجوز أن يراد به: الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون: الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه.
قال الزمخشري في قوله: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: هذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم (الدائن) المسلّط، يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخرج مالي عليك الساعة، ولا أريم (أبرح) مكاني حتى أنزعه من أحداقك «1» .
__________
(1) الكشاف: 1/ 517(7/298)
ثم يقول الله تعالى لهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ... أي ولقد أتيتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء والأولياء والشفعاء، وعن الخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أولا من بطون أمهاتكم حفاة عراة غرلا (غير مختونين) ، وتركتم ما أعطيناكم من مال وولد وخدم وأثاث وقصور وغيرها من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدنيا وراء ظهوركم، ولم تنتفعوا بها هنا، إذ أنها لم تغن عنكم شيئا.
ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة 2/ 174] لأن المراد: لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا. وتتمة الكلام تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم، فقال: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ ...
أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الأصنام الذين زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله.
لقد تقطع بينكم، أي لقد تقطع يوم القيامة ما كان بينكم من صلة الولاء والتعاطف والأسباب والوسائل، والصلات والصدقات، أي وقع التقطع بينكم، وانزاح الضلال، وغاب وذهب عنكم ما كنتم تفترونه من شفاعة الشفعاء، ونداء الأوثان والشركاء، ورجاء الأصنام، ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ [القصص 28/ 62] ويقال لهم:
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ [الشعراء 26/ 92- 93] .
والمراد بقوله: أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي في استعبادكم، واستحقاق عبادتكم، والعبادة لهم فيكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.
والمقصود من الكلام في الجملة: إن آمالكم خابت في كل ما تزعمون(7/299)
وتتوهمون، فلا فداء ولا شفاعة، ولا سبيل لدفع عذاب الله عنكم: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] .
فقه الحياة أو الأحكام:
إن أعظم الفرى أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، أو تفتري على الله كذبا فتدعي النبوة والوحي، أو تنفي النبوة عن النبي، كمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أو تزعم القدرة على إنزال مثل ما أنزل الله.
قال القرطبي: ومن هذا النمط: من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن، فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار، وخلوّها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامّة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص.
وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ويستدلون على هذا بالخضر، وأنه استغنى بما تجلّى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب فإنه يلزم منه هدّ الأحكام، وإثبات أنبياء بعد نبينا صلّى الله عليه وسلّم «1» .
ومما نحمد الله عليه أن أسطورة المتنبئين قد انتهت في بطون التاريخ، ولم يكتب لها البقاء إذ ليس لها مقومات الحياة.
ودلت الآية على أن قبض روح الكافر في منتهى الشدة والعنف، وأما قبض
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 39(7/300)
روح المؤمن فيكون في يسر وسهولة، كما دلت الأحاديث المتواترة عن أبي هريرة وغيره لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء الله، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهوانه، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والبيهقي عن أبي موسى الأشعري: «من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» .
ولا تنفع الأملاك والأموال ونعم الدنيا يوم الآخرة، ثبت
في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركة للناس» .
فالأموال التي اكتسبها، وأفنى عمره في تحصيلها تبقى وراء ظهره، وما يبقى وراء الظهر لا ينتفع به: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ.
كذلك لا نفع في الشركاء والأصنام المعبودين من دون الله، فكلها لا أثر لها في القيامة بين يدي الله والحساب: وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي ذهب ما تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث.
وروى مسلم أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله، ووا سوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 37] لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض» .(7/301)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قدرة الله الباهرة في الكون
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
الإعراب:
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً اللَّيْلَ: مفعول أول، وسَكَناً: مفعول ثان.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: عطف على اللَّيْلَ، وحُسْباناً، أي: ذا حساب هو مفعول ثان.
وقال السيوطي: هو حال من مقدار أي يجريان بحسبان، كما في آية الرحمن.
ومن قرأ: وجاعل الليل أضاف اسم الفاعل إلى الليل، ويكون سَكَناً منصوبا بتقدير فعل مقدر، تقديره: وجعل الليل سكنا. وكذلك يكون: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبين بتقدير جَعَلَ.
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ: مرفوعان بالابتداء، وخبرهما محذوف، وتقديره: فمنكم مستقر، ومنكم مستودع، مستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب.(7/302)
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ: أي فاستقر من النخل، ومِنْ طَلْعِها: بدل منه، أعني من النخل. وقِنْوانٌ: مرفوع بقوله: مِنْ طَلْعِها على قول من أعمل الثاني في نحو: قاما وقعد الزيدان، وهو مذهب البصريين. ومرفوع بقوله: وَمِنَ النَّخْلِ على قول من أعمل الأول في نحو: قام وقعدا الزيدان، وهو مذهب الكوفيين.
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب معطوف على قوله: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره: ولهم جنات. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ اسم جنس، جمع ثمرة، كشجرة وشجر. ومن قرأه بالضم «ثمره» جعله جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فجعله جمع الجمع.
البلاغة:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ بينهما طباق وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فيه رد العجز على الصدر.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان فَأَخْرَجْنا بِهِ فيه التفات عن الغيبة للاعتناء بشأن المخرج والإشارة إلى عظم النعم وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عطف خاص على عام لمزيد الشرف.
المفردات اللغوية:
فالِقُ شاق، والفلق والفرق والفتق بمعنى واحد: وهو الشق في الشيء مع الإبانة الْحَبِّ الحنطة ونحوها مما يكون في السنبل والأكمام النَّوى جمع نواة، وهي بزر التمر والزبيب ونحوهما، والمعنى: إن الله شاق الحب عن النبات والبزر عن النخل والكرمة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ النطفة والبيضة مِنَ الْحَيِّ. ذلِكُمُ الفالق المخرج هو اللَّهَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان.
فالِقُ الْإِصْباحِ أي شاق عمود ضوء الصبح (وهو أول ما يبدو من نور النهار) عن ظلمة الليل. والإصباح: مصدر بمعنى الصبح سَكَناً تسكن فيه الخلائق من التعب.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بالنصب عطفان على محل اللَّيْلَ. حُسْباناً حسابا للأوقات والحسبان والحساب: استعمال العدد في الأشياء والأوقات ذلِكَ المذكور تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في ملكه الْعَلِيمِ بخلقه.(7/303)
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في الأسفار قَدْ فَصَّلْنَا بينا الْآياتِ الدلالات على قدرتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون.
أَنْشَأَكُمْ خلقكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم فَمُسْتَقَرٌّ موضع قرار منكم في الرحم أو إقامة في الأرض، كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [البقرة 2/ 36، والأعراف 7/ 24] وَمُسْتَوْدَعٌ موضع الوديعة لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الفقه: فهم الشيء مع التعمق في التفكير فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء خَضِراً أي نباتا أخضر نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها مِنْ طَلْعِها الطلع: أول ما يبدوا ويظهر من زهر النخلة قبل أن ينشق عنه غلافه قِنْوانٌ عراجين، جمع قنو، وهو عذق الثمر، وهو من النخيل كالعنقود من العنب، والسنبلة من القمح دانِيَةٌ قريب بعضه من بعض، وقريب التناول جَنَّاتٍ بساتين مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي متشابها في بعض الصفات كالورق، وغير متشابه في بعض آخر كالثمر، أي متشابه الورق والثمر وغير متشابه. وَيَنْعِهِ نضجه، أي حين يينع ويبدو نضجه واكتماله، والمراد: انظروا أيها المخاطبون نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر (أول ما يبدو) كيف هو، وإلى نضجه إذا أدرك كيف يصبح إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها في الإيمان، بخلاف الكافرين.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد، وقرر أمر النبوة، وبعض أحوال البعث، عاد هنا إلى بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الصانع، وهي تتلخص في الخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والتقدير والتدبير لحركة الكواكب والنجوم وتقلب الليل والنهار.
التفسير والبيان:
عدّد الله تعالى في هذه الآيات بعض مظاهر قدرته الباهرة وحكمته البالغة، فبدأ بالنبات وأخبر أنه فالق الحب والنوى، أي يشقه بقدرته في التراب، فينبت منه الزرع على اختلاف أصنافه من الحبوب، والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، من النوى، لذا فسر قوله: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى بقوله:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج النبات الحي(7/304)
المتحرك من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت، عن طريق ربط الأسباب بمسبباتها، ببذر الحب والنوى في التراب، وإرواء التراب بالماء. وذلك يدل على كمال قدرته، وبديع حكمته.
فقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ معناه يخرج الزرع الأخضر والشجر النامي، من الميت الجامد، والمراد بالحياة هنا النمو والتغذية، والميت:
هو ما لا نماء فيه ولا يتغذى، مثل التراب والحب والنوى وغيرهما من البذور، والبيضة والنطفة. وإذا قيل في العلم الحديث: إن في النطفة والبيضة حياة فيراد بها الحياة النباتية أو الخلوية (حياة الخلية) . وأما المقصود هنا فهي الحياة الظاهرية الحركية. وقيل في التفسير العلمي الحديث: المراد بخروج الحيوان من الميت أي تكونه من الغذاء، فالحي ينمو بأكل أشياء ميتة، والغذاء ميت لا ينمو.
وقوله تعالى: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معناه مخرج الحب والنوى من النبات، والبيضة والنطفة من الحيوان. وقيل في التفسير العلمي الحديث: المراد بذلك الإفرازات مثل اللبن: وهو سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهي تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.
ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فاعل هذا هو المتصف بكمال القدرة وبالغ الحكمة، المحيي والمميت، وهو الله الخالق وحده لا شريك له، فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره، وتشركون به شريكا آخر لا يقدر على شيء من ذلك؟! والله فالق الإصباح وجعل الليل سكنا أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب(7/305)
الليل بسواده وظلامه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف 7/ 54] فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أي ساجيا هادئا مظلما لتسكن فيه الأشياء، ويستريح فيه المتعب من عمل النهار، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً «1» ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ 78/ 9- 11] .
ثم قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي ونظام الشمس والقمر للحساب وعدد الشهور والسنين، وكلاهما يجري بحساب دقيق، كما قال تعالى:
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن 55/ 5] أي يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] وقد جمع الله في هذه الآية ثلاث آيات سماوية، كما جمع في آية فالِقُ الْإِصْباحِ ... ثلاث آيات أرضية وهي: فلق الصبح والتذكير به للتأمل في صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، وجعل الليل ساكنا، نعمة من الله ليستريح الجسد، وتسكن النفس، وتهدأ من التعب العمل بالنهار، وجعل الشمس والقمر حسبانا، تحقيقا لحاجة الإنسان إلى معرفة حساب الأوقات من أجل العبادات، والمعاملات، والتواريخ.
ومن المعروف فلكيا أن للأرض دورتين: دورة تتم في أربع وعشرين ساعة لحساب الأيام، ودورة تتم في سنة ضمن فصول أربعة، لحساب السنة الشمسية.
__________
(1) أي قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم.(7/306)
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي الجميع حاصل بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، الغالب على أمره، العليم بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والمقدّر له بموجب الحكمة: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] . ويلاحظ أن الله تعالى يذكر كثيرا خلق الليل والنهار والشمس والقمر، ثم يختم الكلام بالعزة والعلم.
ثم أوضح تعالى فائدة النجوم، فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ..
أي أوجد النجوم وهي ما عدا الشمس والقمر من النّيرات للاهتداء بها في الأسفار، فيستدل بها الإنسان على الطرق، ويأمن من الضياع، وينجو من الخطأ والحيرة. والنجوم كما يذكر الفلكيون تعد بالملايين، وما اكتشف منها أقل بكثير مما لم يكتشف.
ونظرا لما في عالم السماء من العظمة والدقة في النظام وإبداع الصنع، ختم الله تعالى الآية بقوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي بينا لكم الآيات القرآنية والآيات التكوينية لأهل العلم والنظر الذين يدركون سر عظمة هذه الآيات، ويستدلون بها على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه، فإن كان المراد بالآيات آيات التنزيل فالمعنى أن هذه الآيات وأمثالها نوضحها لأهل الفكر والعلم والنظر، فيزدادون بها بحثا وعلما وإيمانا. وإن كان المراد بها آيات التكوين، فالمعنى أن هذه الآيات يبينها الله ليستدل بها العلماء على عظمة الله تعالى، ولا يدرك سر هذه الآيات غير العلماء كما قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر 59/ 2] .
وبعد بيان آيات الله في الأرض والسماء، ذكر تعالى آياته في الأنفس، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ... أي أن الله تعالى خلقكم في الأصل من نفس واحدة هي آدم عليه السلام وهو الإنسان الأول الذي تناسل منه سائر البشر(7/307)
بالتوالد والتزاوج، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء 4/ 1] .
وإنشاء جميع البشر من نفس واحدة يدل على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ووحدانيته، كما يوجب شكر النعمة، ويرشد إلى وحدة الأصل والنوع الإنساني، مما يقتضي وجوب التعارف والتعاون بين الناس لأنهم من أصل واحد وأب واحد، فهم إخوة، وما على الإخوة إلا التآلف، لا التناحر والتقاتل.
ثم بيّن الله تعالى كيفية تسلسل البشر والولادة في وقت معين لا يعلمه إلا الله فقال: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي لكم موضع استقرار في الأرحام، وموضع استيداع في الأصلاب، أو مستقر في الأرض، ومستودع تحتها، أو مستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع.
قد بينا آيات سنن الخلق الدالة على قدرتنا وإرادتنا، وعلمنا وحكمتنا، وفضلنا ورحمتنا، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم، ويعون كلام الله، ويدركون معناه ودقائقه.
وعبر بالعلم مع ذكر النجوم، وبالفقه مع ذكر إنشاء بني آدم، لأن استخلاص الحكمة من خلق البشر من نفس واحدة، وتصريفهم في أحوال مختلفة يحتاج إلى دقة نظر، وعمق فهم وفطنة، وهذا هو معنى الفقه، فكان ذلك مطابقا للحال. أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، فلا يتوقف على دقة النظر، وعمق الفكر، وإنما يكفي فيها وفي كل الأمور الفلكية شيء من المعرفة والخبرة والمشاهدة الظاهرية المعتمدة على الملاحظة والبصر.
ثم ذكر تعالى آية من آيات التكوين في النبات وهي إنزال الماء من السماء(7/308)
وجعله سببا للإنبات، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي أن الله هو الذي أنزل بقدرته وتصريفه وحكمته من السحاب ماء بقدر، مباركا، ورزقا للعباد، وإحياء وإغاثة للخلائق، رحمة من الله بخلقه، فأخرجنا بسبب هذا المطر أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره، كما قال تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد 13/ 4] وقال: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] .
وأخرجنا بالمطر زرعا وشجرا أخضر، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر، لهذا قال تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها. وهذا بيان لنوع من النبات لا ساق له، ثم عطف عليه ماله ساق من الشجر فقال: وَمِنَ النَّخْلِ..
أي ونخرج من طلع النخل عراجين أو عناقيد قريبة التناول، ونخرج أيضا من ذلك الخضر جنات من أعناب.
وأخص من نبات كل شيء بعد التمر والعنب غيرهما من الفواكه والثمار، وهو الزيتون والرمان، متشابها في الورق والشكل، قريبا بعضه من بعض، ومتخالفا في الثمار شكلا وطعما وطبعا، فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها المز، وكل ذلك دليل على قدرة الصانع.
انظروا نظرة اعتبار وإمعان إلى ثمر الشجر والنبات إذا أثمر كيف يكون، وإلى نضجه واكتماله كيف يصير، ويتحول من جفاف إلى ممتلئ ماء وخيرا وبركة، لكل ثمر طعم، وحجم، ولون، وقارنوا بين الثمار، وفكروا في قدرة الخالق من العدم إلى الوجود، بعد أن كان حطبا يابسا، صار غضا طريا رطبا، وغير ذلك من الألوان والأشكال والطعوم والروائح، كقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ(7/309)
صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ
[الرعد 13/ 4] .
إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته، يستفيد منها المؤمنون المصدقون بالله والمتبعون رسله.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات خمسة أنواع من الأدلة على وجود الله الصانع وعلمه وقدرته وحكمته وهي ما يلي:
النوع الأول- مأخوذ من دلالة أحوال النبات والحيوان: فالله خالق الحب والنوى، وشاق الحب والنوى لإنبات الزرع والشجر، ومخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي، كما قال: لزجاج، ويخرج البشر الحي من النطفة، والنطفة من البشر الحي كما قال المفسرون كالقرطبي، ويخرج المؤمن من الكافر، كما في حق إبراهيم عليه السلام، والكافر من المؤمن، كما في حق ولد نوح، والعاصي من المطيع، وبالعكس، كما قال ابن عباس.
ودل هذا على أن الحي أشرف من الميت، لذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل، وعن القسم الثاني بصيغة الاسم تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي.
والنوع الثاني- مأخوذ من الأحوال الفلكية، وهذا أدل على القدرة الإلهية لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. وتضمن هذا النوع ثلاث آيات فلكية لها صلة بالأرض وهي فلق نور الصبح، أي شاقّ الضياء عن الظلام وكاشفه، وخالق النور والظلمة، وجاعل الليل سكنا أي محلا للسكون، وجاعل الشمس والقمر آيتين للحساب(7/310)
الذي يتعلق به مصالح العباد، لأنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين، وكل ذلك دليل على كمال قدرة الله تعالى وكونه فضلا من الله ورحمة وإحسانا على الخلق.
والنوع الثالث- ظاهرة سماوية وهو أنه تعالى خلق النجوم لمنافع العباد، بالاهتداء بنورها إلى الطرق والمسالك، في ظلمات البر والبحر، حيث لا يرون شمسا ولا قمرا، وذلك من أدلة كمال القدرة والرحمة والحكمة. ويستدل بالنجوم والكواكب والشمس والقمر أيضا على معرفة القبلة، كما أن هذه الكواكب زينة للسماء: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات 37/ 6] وهي أيضا رجوم للشياطين: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 67/ 5] وهي كذلك مثار التفكير في عظمة السموات: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران 3/ 191] قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر «1» .
والنوع الرابع- الاستدلال بأحوال الإنسان، وخلق البشر من نفس واحدة هي آدم عليه السلام، وإيداع أصول البشرية في الأصلاب والأرحام، والتفكير في تكوين النفس: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 21] وهذا من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه.
والنوع الخامس- مأخوذ من طريقة الإنبات وتنوع النبات واختلاف أصناف الفواكه والثمار: وهو إنزال المطر من السماء (السحاب) وإخراج مختلف أنواع النباتات والزروع بالماء، وإيجاد الكثرة الهائلة من الثمار والفواكه
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 159(7/311)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
والأزهار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح، وذلك من أجلّ أنواع النعم والإحسان، ومن أعظم الدلائل على كمال القدرة الإلهية، وحقا ما ختمت به الآيات: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ آمنا بالله ربا، وعلمنا أنه الحق المبين، وفقهنا وأدركنا بإمعان عظمة هذا الإله وسعة علمه، وفضله وإحسانه ورحمته بالمخلوقات جميعا.
ويلاحظ أنه تعالى ذكر في هذا النوع أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان، وقدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه، لأن التمر غذاء العرب المهم، وذكر العنب عقب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه، للاستفادة منه بمجرد ظهوره حامضا ثم حصرما، ثم عنبا، ثم يدخر زبيبا سنة فأكثر ثم دبسا وخلا.
المزاعم المنسوبة إلى الله (الجن والولد والصاحبة) وكونه لا تدركه الأبصار
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)(7/312)
الإعراب:
شُرَكاءَ الْجِنَّ شُرَكاءَ: منصوب لأنه مفعول أول. والْجِنَّ: مفعول ثان.
واللام في لِلَّهِ تتعلق بشركاء. ويجوز أن نجعل الْجِنَّ بدلا من شُرَكاءَ، واللام في لِلَّهِ تتعلق ب (جعل) . أو قرئ الْجِنَّ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الجن.
المفردات اللغوية:
وَخَرَقُوا مثل اختلفوا، والخرق والاختلاق للكلام: ابتداع الكذب. وأما الخلق: فهو فعل الشيء بتدبير ورفق. وأما الإبداع فهو إنشاء الشيء بلا اقتداء بأحد، والبديع من أسمائه تعالى:
أي مبدع الأشياء ومحدثها على غير مثال سابق، ومنه البدعة في الدين لأنه لا نظير لها فيما سلف.
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي لا تراه، والإدراك: اللحاق والوصول إلى الشيء، والبصر: حاسة الرؤية، اللَّطِيفُ الرفيق بعباده وأوليائه الْخَبِيرُ بشؤون خلقه.
المناسبة:
بعد أن ذكر تعالى البراهين الخمسة على ثبوت الألوهية، وكمال القدرة والرحمة، ذكر عقب ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء من عالم الجن، أو من اختراع نسل له من البنين والبنات.
التفسير والبيان:
هذه الآيات رد على مشركي العرب الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن، فجعلوهم شركاء له في العبادة، وأما عبادتهم الأصنام فلم تكن إلا بطاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللَّهُ، وَقالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ(7/313)
خُسْراناً مُبِيناً، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً
[النساء 4/ 117- 120] .
ومعنى الآية: وجعل مشركو العرب شركاء من عالم الجن أطاعوهم فيما يأمرونهم به، والجن: هم الملائكة فقد عبدوهم، كما قال قتادة، أو الشياطين فقد أطاعوهم في الشرك والمعصية، كما قال الحسن البصري. وقال المجوس: إن للخير إلها وللشر إلها وهو إبليس، أي أنهم سموه ربا.
جعلوا لله الجن شركاء له حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان، والحال أنه خلقهم أي خلق المشركين وغيرهم، فهو الخالق وحده لا شريك له، فكيف يكون المخلوقون شركاءه، وكيف يعبدون معه غيره؟ كقول إبراهيم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 95- 96] .
وخلاصة المعنى: أنه تعالى هو المستقل بالخلق وحده، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.
واختلقوا لله بجهلهم وحمقهم بنين وبنات، والمراد بقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ: أنهم لا يعلمون حقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته، فإن مشركي العرب سموا الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزيز ابن الله، وقالت النصارى:
المسيح ابن الله.
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ أي تقدس وتنزه وتعاظم الله عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والشركاء لأنه الخالق المدبر لها، وليس كمثله شيء.
والله مبدع السموات والأرض وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، وكيف يكون له ولد، والحال أنه لم تكن له صاحبة؟ والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه(7/314)
لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد، وهو مبدع الكائنات في السماء والأرض، ومتسبب في إيجاد الذرية من طريق التوالد والتناسل.
وقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أوجده ولم يلده ولادة، كما تزعمون، فما اخترعتم له من الولد، فهو مخلوق له لا مولود منه، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه؟ وهو الذي لا نظير له. وهذه الجملة مؤكدة لما سبق من نفي الولد.
والله محيط علمه بكل الأشياء، وعلمه ذاتي له، ولا يعلم أحد مثل علمه، فلو كان له ولد لكان هو أعلم به، ولأرشد إليه، لكنه كذب وافتراء بلا دليل عقلي ولا وحي نقلي.
والخلاصة: نفى الله تعالى عن نفسه الولد لأنه مبدع السموات والأرض، وهي غير مولودة، ولأن الولد يأتي من ذكر وأنثى متجانسين، والله لا يجانسه ولا يماثله شيء، ولأن كل ما عدا الله لا يكافئه، فكيف يكون له ولد كفؤ له؟
وإذ ثبت أنه لا ولد له، فذلكم المتصف بما ذكر أيها المشركون هو الله ربّكم، الذي لا إله إلا هو، والذي خلق كل شيء، ولا ولد له ولا صاحبة، فما عليكم إلا أن تعبدوه وحده لا شريك له، وتقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له ولا والد، ولا صاحبة له ولا نظير، وكل من عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه.
وهو مع كل هاتيك الصفات حفيظ ورقيب على كل شيء، يدبر كل ما سواه، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.
أي لا حافظ إلا الله، ولا يقضي الحاجات إلا الله.
والله سبحانه لا تراه الأبصار رؤية إحاطة وشمول تعرف كنهه، كقوله:(7/315)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة 2/ 255] . وقال ابن عباس: لا تدركه الأبصار في الدنيا ويراه المؤمنون في الآخرة لإخبار الله بها في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] .
وهو تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة وشمول، فلا تخفى عليه طرفة عين، ولا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه، وإنما خص الْأَبْصارُ لتجنيس الكلام.
وهذه الآية إما مخصوصة بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] وبالحديث الآتي الدال على رؤية الله عز وجل.
أو يقال: إنه لا تنافي بين الآيتين لأن نفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء والإحاطة به لا يستلزم نفي رؤيته مطلقا.
وقد ثبت في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب»
فالمؤمنون يرون ربهم، وأما الكافرون فلا يرونه لقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين 83/ 15] . والله تعالى اللطيف أي الرفيق بعباده، الخبير بهم المطلع على جميع أحوالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
نزلت الآية: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ في مشركي العرب، ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل.
والآية توبيخ وتقريع ورد قاطع على المشركين الذين جعلوا الجن شركاء لله، ونسبوا لله البنين والبنات جهلا منهم بحقيقة الله. والمشركون أصناف:(7/316)
1- عبدة الأصنام القائلون: الأصنام شركاء لله في العبودية، ولكن لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين.
2- عبدة الكواكب وكانوا في عهد إبراهيم عليه السلام، وهم يقولون: إن الله فوض لها تدبير العالم الأسفل.
3- الثنوية أو المجوس القائلون بأن للعالم إلهين اثنين: أحدهما فاعل الخير، والثاني فاعل الشر.
والحق أن جميع المخلوقات محدثة مخلوقة، وكل محدث فله خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى.
والله تعالى مبدع السموات والأرض وخالقهما، فكيف يكون له ولد، والحال أنه لا صاحبة ولا زوجة له، فكيف يأتي الولد؟ وهو خالق كل شيء، وهو العليم بكل شيء، فكيف يتخذ الولد والصاحبة؟
والخالق المدبر وهو الله هو المستحق للعبادة، ولا يستحقها عاجز مخلوق.
ورؤية الله تعالى ثابتة للمؤمنين في عالم الآخرة، ولكن دون إحاطة ولا شمول ولا حصر ولا كيفية إذ لو لم يكن جائز الرؤية لما حصل المدح لعظمة الله بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لأن المعدوم لا تصح رؤيته.
والخلاصة: أن الآيات لنفي الشرك والشركاء وإبطال مزاعم المشركين على مختلف طوائفهم، إذ لا حاجة لله للشريك والولد بأدلة كثيرة هي: كونه مبدع السموات والأرض، والإبداع تكوين الشيء من غير مثال سبق، ولا صاحبة له، وخالق كل شيء، ومحيط علمه بكل شيء، ولا تتمكن الأبصار من الإحاطة برؤيته لأنه سبحانه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى: الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات.(7/317)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
ومن اتصف بهذه الصفات فهو المستحق للعبادة، لذا أمر الله بعبادته وحده لا شريك له.
وأما رؤية النّبي صلّى الله عليه وسلّم لربه في ليلة الإسراء في الدنيا فالصحيح أنها لم تحصل بالعين المجردة، وإنما رآه بقلبه ورأى جبريل على حقيقته. وعن ابن عباس أنه رآه بعينيه، وحجته قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم 53/ 11] .
مبصّرات الوحي وقدرة الله على منع الشرك
[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
الإعراب:
وَلِيَقُولُوا: دَرَسْتَ معطوف على فعل مقدر، والتقدير: نصرف الآيات ليجحدوا وليقولوا، أي ليصير عاقبة أمرهم إلى الجحود وإلى أن يقولوا هذا القول. وهذه اللام تسمى لام العاقبة عند البصريين، ولا الصيرورة عند الكوفيين، مثل اللام في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] وما التقطوه ليكون لهم عدوا، وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة التقاطهم إياه إلى العداوة والحزن.
البلاغة:
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ مجاز مرسل وعلاقته المسببية أي من باب تسمية المسبب باسم السبب، والمراد بالبصائر: الحجج والبراهين التي تبصرون بها الحقائق.(7/318)
أَبْصَرَ.. وعَمِيَ بينهما طباق.
بَصائِرُ وأَبْصَرَ بينهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
بَصائِرُ أي حجج بيّنات وآيات واضحات، وتطلق البصيرة على عدة معان: عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة يقينا، والعبرة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أي فمن أدركها فآمن فثواب إبصاره له بِحَفِيظٍ رقيب لأعمالكم، إنما أنا نذير.
وَكَذلِكَ كما بينا ما ذكر نُصَرِّفُ الْآياتِ نبينها ونأتي بها على وجوه مختلفة بما يناسب المقام، ليعتبروا وَلِيَقُولُوا أي الكفار في عاقبة الأمر، فإن اللام لام العاقبة أو الصيرورة دَرَسْتَ قرأت كثيرا حتى حفظته، أو درست كتب الماضين وجئت بهذا منها، وفي الحديث:
«كان يدارسه القرآن» يذاكره له حتى يحفظه، وفي المدارسة معنى التذليل بكثرة القراءة.
حَفِيظاً رقيبا فتجازيهم بأعمالهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ موكّل مفوض في أمرهم، فتجبرهم على الإيمان.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى الأدلة على توحيده وكمال قدرته وعلمه، عاد إلى تقرير أمر الدعوة الإسلامية والرسالة وتبليغ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وحي ربه.
التفسير والبيان:
قد جاءكم أيها الناس البصائر: وهي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول من البراهين العقلية والنقلية التي تثبت لكم العقيدة الحقة، وتبين منهاج الحياة الأقوم، ودستور النظام العام للجماعة، وأصول الأخلاق والآداب.
فمن أبصر الحق فآمن فلنفسه، ومن عمي عن الحق وضل وأعرض عن سبيله، فعلى نفسه جنى، كقوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ(7/319)
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها
[يونس 10/ 108] وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] .
ومعنى قوله: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أي إنما يعود وبالله عليه، كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] .
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب، بل إنما أنا مبلّغ ومنذر، والله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان لتوحيد وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن، لجهالة الجاهلين، وليؤول الأمر بأن يقول المشركون والكافرون المكذبون:
درست هذا وقرأته على غيرك، أو دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب، وتعلمت منهم، وليس وحيا من عند الله.
أي إن تصريف الآيات وتقليبها على وجوه مختلفة بحسب المقامات يستهدف:
1- أن يهتدي بها المستعدون للإيمان.
2- وأن يقول الجاحدون المعاندون: إنما درست هذا وقرأته على غيرك، وليس هذا بوحي كما تزعم، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي حداد أعجمي وليس بعربي، كان يصنع السيوف بمكة، اسمه «قيس» كما حكى تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل 16/ 103] .
3- وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق، فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه، فالبيان إنما يفيد أهل العلم المدركين الذين يستخدمون بصائرهم في مدلولات القرآن، فهم الذين يتبين لهم بالتأمل حقيقة القرآن ودلائله. أما الجاهلون الذين لم يفهموا آيات القرآن، فلا ينتفعون به.(7/320)
ثم يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومن اتبع طريقته باتباع الوحي وتجنب المشركين بقوله: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي اقتد به واقتف أثره واعمل به، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه لا إله إلا هو، واعف عن المشركين واصفح عنهم، واحتمل أذاهم واصبر عليهم حتى يفتح الله لك، وينصرك عليهم.
ولو شاء الله ما أشرك المشركون، بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، له الحكمة في بقائهم في الضلال، ولو شاء لهدى الناس جميعا، بأن يخلقهم مستعدين للإيمان، لكنه خلقهم مستعدين للكفر، وترك لهم حرية الاختيار في أعمالهم.
وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي وما جعلناك حافظا تحفظ أقوالهم وأعمالهم، وما أنت بموكل على أرزاقهم وأمورهم والتصرف في قضاياهم.
أي لست عليهم بمسيطر، وليس لك صفة الملوك القاهرين، بل أنت بشير ونذير، والله يجازيهم ويحاسبهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
آي القرآن المتقدمة حجج بيّنة ظاهرة تدل على صدق الرسالة ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومهمته التبليغ والإنذار، لا القسر والقهر والإكراه، ولا الرقابة على أعمال الناس، فمن أبصر الحق وآمن بدعوة الإسلام والقرآن فلنفسه أبصر، وإياها نفع، ومن عمي عنه فعلى نفسه الوبال وإياها ضر.
ومن فضله تعالى أنه كما صرف الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة، يصرف في غيرها على وجوه مختلفة للإقناع والعبرة والعظة، ولإلزام المشركين بالحجة وليقولوا: درست، أي وليصير قولهم: «درست»(7/321)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
صرّفناها، فهي لام الصيرورة، ولتبيان الحق لقوم يعلمون ويدركون معناها ويقدرون فحواها ومضمونها.
والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ الدعوة والرسالة الإلهية، والمقصود من هذا الأمر بعد اتهام الكفار له بالافتراء أو مدارسة أقوام هو تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حدث عنده بسبب هذا الاتهام، لئلا يصير قول الكفار سببا لفتوره في تبليغ الدعوة.
والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور أيضا بالإعراض عن المشركين بعد قيامه بواجب التبليغ، والله قادر على جعلهم مؤمنين موحدين غير مشركين، ولم يجعل من مهام النّبي صلّى الله عليه وسلّم الرقابة على أعمالهم، ولا التوكل بأمورهم ومصالحهم في دينهم ودنياهم، وإنما مهمته التبليغ، ليترك لهم حرية الاختيار والطواعية بقبول الإيمان، وكأنه تعالى يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: لا تلتفت إلى سفاهات الكفار، ولا يثقلن عليك كفرهم، فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت، ولكني تركتهم مع كفرهم، فلا تشغل قلبك بكلامهم.
ويحمل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا أي عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر والإلجاء، ويحمل مشيئة الله لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء «1» .
النهي عن سب الأصنام والأوثان
[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 138(7/322)
الإعراب:
وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ من قرأ أنها بالفتح، ففيه وجهان:
الأول- أن تكون «أن» بمعنى لعل، وتقديره: وما يشعركم إيمانهم، لعل الآيات إذا جاءت لا يؤمنون. وقد جاءت «أن» بمعنى لعل، قالوا: اذهب إلى السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك.
والثاني- أنها في موضع نصب بيشعركم، ولا: زائدة، وتقديره: وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت يؤمنون، وهي المفعول الثاني.
ومن قرأ «إنها» بالكسر، جعلها مبتدأ، ووقف على قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ وجعل «ما» استفهامية، وفي يُشْعِرُكُمْ ضمير يعود إلى «ما» ويقدر مفعولا ثانيا محذوفا، وتقديره:
وما يشعركم إيمانهم. ولا يجوز أن تكون «ما» نافية هاهنا على تقدير: وما يشعركم الله إيمانهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام 6/ 111] . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَنَذَرُهُمْ عطف على لا يؤمنون، داخل في حكم: وَما يُشْعِرُكُمْ.
كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ: منصوب لأنه ظرف زمان، والمراد بأول مرة:
الدنيا.
المفردات اللغوية:
يَدْعُونَ يدعونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام، وعبّر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين مجاراة لمعتقد الكفرة فيها.
عَدْواً اعتداء وظلما بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جهلا منهم بالله كَذلِكَ كما زينا لهؤلاء ما هم(7/323)
عليه زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير والشر، فأتوه مَرْجِعُهُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فيجازيهم به.
وَأَقْسَمُوا أي كفار مكة بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي غاية اجتهادهم فيها آيَةٌ مما اقترحوا وَما يُشْعِرُكُمْ يدريكم بإيمانهم إذا جاءت أي أنتم لا تدرون ذلك لا يُؤْمِنُونَ لما سبق في علمي.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ نحول قلوبهم عن الحق، فلا يفهمونه وَأَبْصارَهُمْ عنه، فلا يبصرونه ولا يؤمنون كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما أنزل من الآيات وَنَذَرُهُمْ نتركهم فِي طُغْيانِهِمْ ضلالهم يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين.
سبب النزول:
نزول الآية (108) :
وَلا تَسُبُّوا: قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسبوا- أي الكفار- الله، فأنزل الله:
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وعبارة الواحدي عن قتادة: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة، لا علم لهم بالله.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك، فنهى الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوا بغير علم.
نزول الآية (109) :
وَأَقْسَمُوا:
أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: «كلّم رسول الله قريشا، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم الناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا، قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، فقام رسول الله(7/324)
يدعو، فجاءه جبريل، فقال له: إن شئت أصبح ذهبا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب الاستئصال) ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله: يَجْهَلُونَ» .
المناسبة:
الآية متعلقة بما قبلها من قول المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلّم: إنما جمعت هذا من مدارسة الناس ومذاكرتهم، وحينئذ لا يبعد أن يغضب بعض المسلمين لسماع ذلك، فيسبوا آلهة الكفار على سبيل المعارضة، فنهى الله تعالى عن هذا الصنع، لأنه متى شتمت آلهتهم، فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى رسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كما قال ابن عباس.
لا تسبوا أيها المسلمون آلهة المشركين التي يدعونها من دون الله إذ ربما نشأ عن ذلك سبّهم لله عز وجل عدوانا، أي ظلما وتجاوزا منهم للحدّ في السباب والمشاتمة، لإغاظة المؤمنين، جهلا منهم بقدر الله تعالى وعظمته. وهذا يدل على أن الطاعة أو المصلحة إن أدت إلى معصية أو مفسدة تترك، وقد أمر الله موسى وهارون باللطف في مخاطبة فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] .
وكما زينا لهؤلاء القوم حب الأصنام والانتصار لها، زينا لكل أمة من الأمم سوء عملهم من الكفر والضلال، أي أن هذه سنة الله في خلقه، يستحسنون(7/325)
عاداتهم وتقاليدهم التي ساروا عليهم عن تقليد وجهل، أو عن معرفة وعناد، والله يتركهم وشأنهم.
وهذا التزيين أثر لاختيارهم دون جبر أو إكراه، لا أن الله خلق في قلوبهم تزيينا للكفر والشر، كما زين في قلوب آخرين الإيمان والخير، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر غريزة، تعد الدعوة إلى الإصلاح بعدها نوعا من العبث، والله منزه عنه، وكان الثواب والعقاب وإرسال الرسل وإنزال الكتب لا معنى له ولا عدل فيه.
وبعد تركهم وشأنهم في الدنيا يكون معادهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث إلى ربهم ومالك أمرهم، لا إلى غيره، فيجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا إنذار وتهديد.
وهؤلاء المشركون حلفوا أيمانا مؤكدة بالله: لئن جاءتهم معجزة مادية وخارقة للعادة من الآيات الكونية التي يقترحونها، ليصدقن بها أنها من عند الله، وأنك رسول الله. وفي هذا إشارة إلى أنهم قوم معاندون لأنهم لم يروا أن هذا القرآن من جنس المعجزات أصلا، وليس من هدفهم إلا التحكم في طلب المعجزات.
قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتا وعنادا وكفرا، لا على سبيل الهدى والاسترشاد: إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، وهو القادر عليها، إن شاء جاءكم بها، وإن شاء ترككم فلا ينزلها إلا على موجب الحكمة، كما قال: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [غافر 40/ 78] .
ثم خاطب الله نبيه والمؤمنين الذين تمنوا مجيء آية مما اقترحوا ليؤمنوا:
وما يدريكم إيمانهم؟ أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات، فهم لا يؤمنون إذا جاءتهم(7/326)
الآية، لسبق علم الله بعدم إيمانهم، فأنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ.. أي وما يشعركم أنا نحوّل قلوبهم عن إدراك الحق والإيمان وأبصارهم عن إبصاره، ونحول بينهم وبينه، فلا يدركونه، ولو جاءتهم كل آية. فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة حين أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره لتمام إعراضهم عن إدراك الحقائق، كما قال تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14- 15] .
والحقيقة أن من لم يقنعه ما ورد في القرآن من الأدلة العقلية والبراهين العلمية، لا تقنعه الآيات الحسية التي يشاهدها.
وما يشعركم أيضا أنا نذرهم في طغيانهم، أي نخليهم وشأنهم، لا نكفهم عن الطغيان أي تجاوز الحد، ونتركهم يترددون في طغيانهم متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، أهو الحق المبين أم السحر الخادع؟
فقه الحياة أو الأحكام:
المؤمنون منهيون عن مجاراة الكفار ومبادلتهم السباب والشتم والقبائح، سدا لذرائع الفساد، ومنعا من الوقوع في المفسدة، وإن كانت هناك مصلحة مرتجاة، وقصد ثواب، فذلك مرجوح وقليل أمام الجرم الأعظم وهو سب الله، والمفسدة الأغلب. وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه.
وحكم الآية- كما ذكر العلماء- باق في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين، وخيف أن يسبّ الإسلام أو النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم(7/327)
ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية.
وهذا نوع من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسدّ الذرائع، وفي الآية دليل أيضا على أن المحقّ قد يكف عن حق له إذا أدّى إلى ضرر يكون في الدّين.
ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال، وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول «1» .
ويؤكد مدلول الآية:
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو: «لعن الله الرجل يسبّ أبويه، قيل: يا رسول الله وكيف يسبّ أبويه؟ قال: يسبّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه»
قال ابن العربي: فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور. وبهذا تمسك المالكية في سد الذرائع: وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور.
وأما المعاندون مشركون أو غيرهم فلن يؤمنوا مهما جاءتهم الآيات، وقد طلب مشركو قريش من الرسول معجزات مادية، وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا، فبيّن الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك، فالله تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا.
__________
(1) أحكام القرآن: 2/ 735(7/328)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
[الجزء الثامن]
[تتمة سورة الانعام]
من مظاهر تعنّت المشركين والإياس من إيمانهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
الإعراب:
كُلَّ مفعول حَشَرْنا. قُبُلًا حال من كُلَّ شَيْءٍ. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن وصلتها في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. شَياطِينَ منصوب إما لأنه بدل من عَدُوًّا أو لأنه مفعول ثان لجعلنا. غُرُوراً منصوب إما لأنه مصدر في موضع الحال، أو بدل من قوله زُخْرُفَ الذي هو مفعول يوحي، أو لأنه مفعول لأجله، أي لغرور.
وَلِتَصْغى معطوف على فعل مقدر دلّ عليه قوله تعالى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وتقديره: ليغروه ولتصغى إليه، فحمل على المعنى. وقيل: اللام لام قسم، وتقديره: ولتصغين إليه أفئدة الذين، فلما كسرت اللام حذفت النون.
البلاغة:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ربط المشيئة بالرّبوبية، والإضافة إلى الضمير العائد إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لتشريف مقامه، والعناية به، وتطييب خاطره وتسليته عليه الصّلاة والسّلام.(8/5)
المفردات اللغوية:
وَحَشَرْنا جمعنا. قُبُلًا أي مواجهة ومقابلة ومعاينة. عَدُوًّا العدو: ضد الصّديق، ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والمؤنث. شَياطِينَ جمع شيطان، والشياطين:
المردة، قال ابن عباس: كلّ عات متمرّد من الجنّ والإنس فهو شيطان. يُوحِي يوسوس به الشّيطان، والإيحاء: الاعلام مع الخفاء والسّرعة كالإيماء. زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي الكلام المزين الذي يبدّل الحقائق أوهاما، ويطلق لفظ الزخرف على كلّ زينة، كالذهب للنّساء، والورود والأزهار للرّياض وغيرها. غُرُوراً خداعا باطلا. فَذَرْهُمْ دع الكفار. وَما يَفْتَرُونَ من الكفر وغيره مما زين لهم. وَلِتَصْغى تميل، يقال: صغي إليه: مال. ومضارعه: يصغي، مثل رضي يرضى، وصغي فلان وصغوه: أي ميله وهواه. إِلَيْهِ الزخرف. أَفْئِدَةُ قلوب.
وَلِيَقْتَرِفُوا يكتسبوا، يقال: اقترف المال: اكتسبه، واقترف الذّنب: اجترحه.
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها فقالوا له: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم، أحقّ ما تقول أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت الآية.
المناسبة:
هذا تفصيل لما ذكر على سبيل الإجمال بقوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ فبيّن تعالى أنه لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة، وإحياء الموتى حتى يكلّموهم، بل لو زاد في ذلك بأن يحشر عليهم كلّ شيء قبلا يشهد بصدق الرّسول، ما كانوا ليؤمنوا لتأصّلهم في الضّلال إلا أن يشاء الله.
التفسير والبيان:
قال ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ..: وهم أهل الشقاوة، ثم قال: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه تعالى أن يدخلوا في الإيمان «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 2- 3(8/6)
والمعنى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، فنزلنا عليهم الملائكة، تخبرهم بالرّسالة من الله، بتصديق الرّسل كما سألوا، فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 92] وقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام 6/ 124] ما آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن.
وبعبارة أخرى: لو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة، فرأوهم بأعينهم مرة بعد أخرى، وسمعوا شهادتهم لك بالرّسالة ولو كلّمهم الموتى بأن نحييهم، فيخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرّسل كما طلبوا: فَأْتُوا بِآبائِنا [الدّخان 44/ 36] ، وحشرنا، أي وجمعنا كلّ شيء من الآيات والدّلائل معاينة ومواجهة، فيخبرونهم بصدق الرّسل فيما جاؤوا به، وقيل: قُبُلًا كفلاء بصحّة ما بشّرنا به وأنذرنا، أو جماعات تعرض عليهم كلّ جماعة بعد أخرى، ما كان شأنهم به يؤمنوا، وليس عندهم الاستعداد أن يصدّقوا لأنهم لا ينظرون في الآيات نظر تأمّل وهداية وعظة، وإنما ينظرون إليها نظر معاداة واستهزاء، لا يؤمنون إلا بمشيئة الله، أي لا يؤمنون ما داموا على صفاتهم، إلّا أن يزيلها الله تعالى إن شاء، فالهداية مقدور عليها من الله، ولكنه تعالى يتركهم وشأنهم بعد أن بصّرهم بطرق الخير والانتفاع بهدي القرآن.
فالمراد بقوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار، والمراد من قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هو الإيمان الاختياري، وليس الإيمان الاضطراري، كما قال الرّازي لأن المستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه، والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري «1» .
__________
(1) تفسير الرّازي: 13/ 150- 152 [.....](8/7)
ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا كفروا، وليس ذلك كما يظنون، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرّشد فأضللته. هذا ما يراه الطبري «1» وهو الظاهر الرّاجح.
ويرى الزّمخشري: ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم الله، فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة «2» . يعني أن المعتزلة يرون أن المستثنى هو الإيمان الاضطراري، وأن الضمير في قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ عائد في رأي الزمخشري إلى المسلمين لا إلى الكفار، والمعتزلة يقولون:
المراد: أنهم أي المشركون جهلوا أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآيات التي طلبوها، والمعجزات التي اقترحوها، وكان أكثرهم يظنون ذلك. وأهل السّنّة يقولون: المراد: يجهلون بأنّ الكلّ من الله وبقضائه وقدره «3» .
قال ابن عباس: المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاصي بن وائل السّهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة، أتوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في رهط من أهل مكة، وقالوا له: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث موتانا حتى نسألهم، أحقّ ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، أي كفيلا على ما تدّعيه، فنزلت الآية «4» .
ثمّ أراد الله تعالى التّخفيف على نبيّه ومواساته وتسليته، فأبان أنّ سنّته في الخلق أن يكون للأنبياء عدوّ من الجنّ والإنس، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا ...
__________
(1) تفسير الطّبري: 8/ 2
(2) الكشّاف: 1/ 524
(3) تفسير الرّازي: 13/ 152
(4) المرجع السابق: 13/ 149- 150(8/8)
أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جعلنا لكلّ نبيّ من قبلك أيضا أعداء، فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام 6/ 34] ، وقال تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان 25/ 31] ، وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم: «إنه لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي» أي أنّ سنّة الله جرت على أن يكون بعض الناس أعداء للأنبياء وورثتهم، وكلّ أصحاب دعوات الإصلاح في الأمور الدّينيّة والاجتماعيّة، وهذا ما يعبّر عنه بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، كما قال تعالى:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرّعد 13/ 17] .
والعداوة سواء من شياطين الإنس والجنّ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن البصري: من الجنّ شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض.
وقال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يوما يصلّي، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم:
«تعوّذ يا أبا ذرّ من شياطين الإنس والجنّ» فقال: أو إن من الإنس شياطين؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» «1» .
وجاء في سورة البقرة: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ [14] .
ثم ذكر تعالى أثر عداوة الشّياطين للأنبياء، وهو مقاومتهم دعوة الله وهدايته، فقال: يُوحِي بَعْضُهُمْ.. أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيّن المزخرف، وهو المزوّق الذي يغتّر سامعه من الجهلة بأمره، وينخدع ويميل إلى رأي القائل، ويتأثّر بإغراء الشياطين بالمعاصي. والوحي: الإيماء والقول السريع، والزّخرف: الذي يكون باطنه باطلا، وظاهره مزيّنا خادعا.
__________
(1) ذكره الطبري وابن كثير، ثم قال الأخير: وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذرّ، وقد روي من وجه آخر عن أبي ذرّ رضي الله عنه (تفسير الطّبري: 8/ 5، تفسير ابن كثير: 2/ 166) .(8/9)
ولو شاء ربّك ألا يفعلوا هذا التغرير، ما فعلوه، ولكنه لم يشأ أن يجبرهم على الهداية، بل شاء أن يكون الناس مختارين سلوك أي الطريقين: طريق الخير وطريق الشّرّ، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] هذا ما يراه المعتزلة.
وقال أهل السّنّة في قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ: وذلك كلّه بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكلّ نبيّ عدوّ من الشياطين.
فدعهم وما يفترون أي يكذبون، أي دع مجابتهم واتركهم يخوضون في إفكهم وكذبهم، ولا تأبه لهم، وامض في تبليغ دعوتك وتأدية رسالتك، وتوكّل على الله، فإن الله كافيك وناصرك عليهم، وعليك البلاغ، وعلينا الحساب والجزاء.
وقوله: وَلِتَصْغى.. معطوف على فعل مقدر مفهوم مما سبقه، وتقديره: يوحي هؤلاء الشياطين إلى بعضهم زخرف القول والمموه أو المزيّن منه، ليغروا المؤمنين أتباع الأنبياء، ولتميل إليه قلوب الكفار والفسّاق الذين لا يؤمنون بالآخرة لأنه الموافق لأهوائهم. أمّا المؤمنون الواعون الذين ينظرون في عواقب الأمور، فلا ينخدعون بأباطيل الأقوال، ولا تغرّنّهم الزّخارف. وضمير إِلَيْهِ وضمير فَعَلُوهُ راجع إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين.
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي وليرضوه لأنفسهم، وليترتب على ذلك أن يكتسبوا ما هم مكتسبون من المعاصي والآثام بغرورهم به ورضاهم عنه.
فقه الحياة أو الأحكام:
لن يؤمن الكفار كما سبق في علم الله تعالى، ولو جاءتهم المعجزات العجيبة والآيات البليغة القاطعة الدّالّة على صدق الرّسل. فلو فرض أن الله تعالى أجابهم إلى ما اقترحوه، فأنزل الملائكة إليهم، وعاد الموتى إلى الحياة فكلّموهم، وجمعت لهم(8/10)
كلّ الآيات معاينة ومواجهة، فإنهم لن يؤمنوا، لتأصّلهم في الكفر، وفقد استعدادهم للإذعان بالحقّ، فأكثر المشركين يجهلون الحقّ ولا يعرفونه.
ومن سنّته تعالى في الخلق ظهور أعداء من الإنس والجنّ للأنبياء وأتباعهم، لأنّ الحقّ يعرف بضدّه من الباطل.
وأهل الباطل يصغون أسماعهم لما يوسوس به شياطين الجنّ وشياطين الإنس، ويقتنعون بالقول المزيّن المغشوش الذي لا مصداقيّة له ولا صحّة، ولا بقاء ولا استقرار.
قال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ، وذلك أنّي إذا تعوّذت بالله، ذهب عنّي شيطان الجنّ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانا.
والله قادر على تحويل المشركين إلى مؤمنين، ولكن حكمته ومشيئته وإرادته اقتضت ترك الاختيار إليهم، ليكون الجزاء عدلا مطابقا للواقع.
ودلّ قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان، فهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم.
ومآل القول المزخرف المزيّن وهو الباطل وعاقبته أنه يستمع إليه ويميل إليه غير المؤمنين بالآخرة، ويرضون به، ويؤدي بهم إلى اكتساب المعاصي واقتراف السّيئات واجتراح الذّنوب.
وهكذا فإن عقاب العصاة بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، وليس لله حاجة في تعذيبهم والتّنكيل بهم، وإنّما العقاب أمر يقتضيه العدل المطلق للتّمييز بين المحسنين الأبرار وبين المسيئين الأشرار، فلا يعقل التّسوية بين من لازم الطاعة، فعمل والتزم أوامر الله، وبين من قارف المعصية، فأعرض واستكبر، وعتا(8/11)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وعاند، وتنكّر لأوامر الله ولم يأبه بما حظره الله ومنعه، وأهمل نداء الحقّ والخير.
القرآن الكريم دليل صدق رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
الإعراب:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأبتغي. حَكَماً إما منصوب على الحال، أو على التّمييز.
مُنَزَّلٌ نائب الفاعل له ضمير مستتر يعود على الكتاب. مِنْ رَبِّكَ في موضع نصب لأنه يتعلّق بمنزّل. بِالْحَقِّ حال من ضمير مُنَزَّلٌ.
صِدْقاً وَعَدْلًا منصوبان على المصدر، وقيل: يجوز كونهما مصدرين في موضع الحال، بمعنى صادقة وعادلة.
البلاغة:
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الخطاب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم على طريق إثارة الحماسة وإلهاب المشاعر، أو التّهييج والإلهاب، كقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 14] .
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، أي تمّ كلامه ووحيه.
المفردات اللغوية:
أَبْتَغِي أطلب. حَكَماً قاضيا بيني وبينكم، والحكم: من يحكم بالحقّ فقط، فهو أبلغ من الحاكم إذ لا يستحق التّسمية بحكم إلا من يحكم بالحقّ لأنها صفة تعظيم في مدح، أما الحاكم(8/12)
فهو صفة جارية على الفعل، فقد يسمّى بها من يحكم بغير الحقّ. مُفَصَّلًا مبيّنا فيه الحقّ والباطل، والحلال والحرام. الْمُمْتَرِينَ المترددين الشّاكين.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ المراد بالتّمام هنا: أن كلمة الله وافية في الإعجاز، والدّلالة على صدق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالكلمة هنا: القرآن. وأصل معنى تمام الشيء: انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه. صِدْقاً الصدق يكون في الأخبار ومنها المواعيد. وَعَدْلًا العدل يكون في الأحكام. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ التّبديل: التّغيير بالبدل، والمعنى: لا مبدّل لكلمات الله بنقض أو خلف.
المناسبة:
بعد أن ندّد الله تعالى بالكفار الذين أقسموا بالله ليؤمنن بالآيات إذا جاءتهم، وأبان أنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرّين على كفرهم، أبان هنا أنّ الدّليل الدّال على نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم قد حصل من وجهين:
الأول- أنه أنزل إليه الكتاب المفصّل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة، وقد عجز الخلق عن معارضته، مما يدلّ على صدق نبوّته.
والثاني- اشتمال التّوراة والإنجيل على الآيات الدّالة على أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول حقّ، وعلى أنّ القرآن كتاب حقّ من عند الله، وهو المراد بقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ.
والوجهان مذكوران في قوله تعالى: قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد 13/ 43] .
وبعد أن بيّن تعالى أنّ القرآن معجز، ذكر أنّه تمّت كلمة ربّك، أي القرآن، والمراد: تمّ القرآن في كونه معجزا دالّا على صدق محمد عليه الصّلاة والسّلام.
التّفسير والبيان:
يأمر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره:(8/13)
ليس لي أن أطلب قاضيا بيني وبينكم لأنه لا حكم أعدل من حكم الله، ولا قائل أصدق من قوله، وهو الذي أنزل إليكم القرآن مبيّنا فيه حكم كلّ شيء، من العقائد والشّرائع والآداب، وقد جاوزت سنّ الأربعين، ولم يصدر عنّي مثله في العلوم والمعارف، والأخبار الماضية والمستقبلة، ولا في الفصاحة والبلاغة، كما قال تعالى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يونس 10/ 16] ، أي: أفغير الله أطلب لكم حاكما، وهو الذي كفاكم مؤنة المسألة، في الآيات، بما أنزله إليكم من الكتاب المفصّل، أي المبين.
وبعبارة أخرى: لا فائدة من طلبكم دليلا على صدق نبوّتي، فهناك دليلان واضحان يؤيّدان رسالتي، وهما الآية الكبرى وهي القرآن المعجز الدّال بإعجازه على أنّه كلام الله، واشتمال التّوراة والإنجيل على ما يدلّ على أنّي رسول الله حقّا وأنّ القرآن كتاب حقّ من عند الله تعالى.
وإن أنكر هؤلاء المشركون أحقيّة القرآن وكذّبوا به، فإن اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربّك بالحقّ، بما ورد عندهم من البشارات بك، على لسان الأنبياء المتقدّمين، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] .
فلا تكونن يا محمد من المترددين الشّاكين، وهذا على أسلوب التّهييج والإلهاب، أو على طريق التّعريض، كقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يونس 10/ 105] ، وقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس 10/ 94] .
وليس هذا النّهي مؤذنا بوقوع الشّك من النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه شرط، والشّرط(8/14)
لا يقتضي وقوعه، لذا
قال عليه الصّلاة والسّلام: «لا أشكّ ولا أسأل» .
وتمّ كلام الله وهو القرآن، فلا يحتاج إلى إضافة شيء فيه، وأصبح كافيا وافيا بإعجازه وشموله، ودلالته على الصدق، فهو صادق فيما يقول، عدل فيما يحكم، صدقا في الإخبار عن الغيب، وعدلا في الطلب، فكلّ ما أخبر به فهو حقّ لا مرية فيه ولا شكّ، وكلّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكلّ ما نهى عنه فباطل، فإنه لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن مفسدة وشرّ، كما قال تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف 7/ 157] .
وكلّ ما ورد في القرآن من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وقصص وخبر لا تغيير فيه ولا تبديل لكلمات الله، وليس أحد يعقب حكمه تعالى، لا في الدّنيا ولا في الآخرة.
وهو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كلّ عامل بعمله.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية الأولى بتّ قاطع في مسألة التّحكيم الذي طالب به المشركون بينهم وبين النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي ردّ مفحم عليهم بأنّه قد قام الدّليل القاطع على إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم من ناحيتين:
الأولى- تأييده بالقرآن الكريم وهو المعجزة الدائمة الخالدة الدّالة على النّبوة.
الثانية- معرفة أهل الكتاب وبشارات أنبيائهم به وبصدقه وبصدق القرآن.
ودلّت الآية الثانية: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ على وجوب اتّباع دلالات(8/15)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
القرآن لأنّه حقّ لا يمكن تبديله بما يناقضه لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها.
والكلمات كما قال قتادة: هي القرآن لا مبدّل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.
ضلالات المشركين والمنع من أكل ذبائحهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 121]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
الإعراب:
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر دلّ عليه أَعْلَمُ وتقديره: يعلم من يضل عن سبيله. ولا يجوز أن يكون في موضع جر لأنه يستحيل المعنى، ويصير التقدير: إن ربك هو أعلم بالضالين لأن أفعل إنما تضاف إلى ما هو بعض له، وذلك كفر محال. مثل قوله(8/16)
تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] حيث: في موضع نصب بفعل مقدر، دلّ عليه: أعلم لأن حيث هاهنا اسم محض، وتقديره: يعلم حيث يجعل رسالته، ولا يجوز أن تكون حيث في موضع جر لأنها بمعنى مكان، فيكون التقدير: الله أعلم أمكنة رسالاته، وهذا أيضا كفر.
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا: أن في موضع نصب بحذف حرف الجر. وما استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها، وتقديره: وأي شيء لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.
البلاغة:
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يوجد طباق بين لفظ ظاهِرَ و «باطن» .
المفردات اللغوية:
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي الكفار. سَبِيلِ اللَّهِ دينه. إِنْ ما. يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في مجادلتهم لك في أمر الميتة، إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم.
يَخْرُصُونَ يحدسون ويقدرون ويكذبون في ذلك. والخرص: الحدس والتخمين. أَعْلَمُ أي عالم. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي ذبح على اسم الله. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح. وَقَدْ فَصَّلَ بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرّمات. هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحلال إلى الحرام.
وَذَرُوا اتركوا. ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ علانيته وسره، والإثم: القبيح، وشرعا:
ما حرمه الله من كل معصية كالزنى والسرقة ونحوهما. سَيُجْزَوْنَ في الآخرة. يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن مات أو ذبح على اسم غيره، وإلا فما ذبحه المسلم ولم يسم فيه عمدا أو نسيانا فهو حلال، كما قال ابن عباس، وأخذ به الشافعي. وَإِنَّهُ أي الأكل منه لَفِسْقٌ معصية وخروج عن دائرة الدين إلى ما لا يحل. لَيُوحُونَ يوسوسون. إِلى أَوْلِيائِهِمْ أعوانهم الكفار. لِيُجادِلُوكُمْ في تحليل الميتة.
سبب النزول:
نزول الآية (118) :
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس(8/17)
قال: أتى ناس النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... إلى قوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
وأخرج أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عباس في قوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ.. قال: قالوا: ما ذبح الله لا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم تأكلون؟ فأنزل الله الآية.
نزول الآية (121) :
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ..: قال المشركون: يا محمد، أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: الله قتلها، قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا، فقولوا له:
ما تذبح أنت بيدك بسكّين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب، يعني الميتة، فهو حرام، فنزلت هذه الآية: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم قريش.
وعبارة عكرمة في ذلك هي: إن المجوس من أهل فارس، لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش، وكانوا أولياءهم في الجاهلية، وكانت بينهم مكاتبة: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبح الله فهو حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: 128(8/18)
المناسبة:
بعد أن أجاب الله تعالى عن شبهات الكفار، وأثبت صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الجهال لأنهم يسلكون سبيل الضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة، وهذا المنهج بالتعبير الحديث تحييد لأهل الإسلام، وتوفير لاستقلال شخصيتهم، وإبراز ذاتيتهم، بالرغم من أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا بسبب غلبة الشرك على عقائدهم.
التفسير والبيان:
لا يلتفت في شرعة الحق والقرآن إلى مسالك أهل الضلال والشرك لاتباعهم الظنون الفاسدة، وإن تطع يا محمد وكل من تبعك أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين في أمور الدين، وتخالف ما أنزل الله عليك، يضلون عن دين الله ومنهجه وسبيله، سبيل الحق والعدل والاستقامة إذ هم لا يتبعون إلا الأهواء والظنون الباطلة أو الكاذبة، ولا يقيمون وزنا للبراهين الإلهية، والأدلة العقلية، وإن هم إلا يحزرون ويحدسون أو يخمنون تخمينا عاريا عن الصحة والحقيقة كخارص ثمر النخل والعنب وغيرهما، فاعتقادهم قائم على الحدس والتخمين، لا على البرهان والدليل.
وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا في الاعتقاد فلازموا الشرك، وفي النبوات فأنكروها، وفي الأحكام التشريعية كإحلال الميتة والدم والخمر وتحريم المواشي البحائر والسوائب والوصائل. وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات 37/ 71] وقوله: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] .
وإن ربك يعلم بالضالين عن سبيله القويم، ويعلم أيضا بالمهتدين السالكين سبيل الاستقامة، وليس كما يزعم المشركون. وهذا تحذير مؤكد لما سبق من(8/19)
ضرورة رفض منهج أهل الضلال، ومسلك أهل الشرك والأهواء.
ولما كان المشركون يعتبرون الذبائح لغير الله من أصول الشرك، وكان حال أكثر الناس الضلالة والكفر، أمر الله المؤمنين بما هو من أصول الاعتقاد بالله، وهو الأكل مما ذكر اسم الله عليه وذبح باسم الله، فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. أي احذروا بما ذبح للأصنام والأوثان ولغير الله، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره، إن كنتم بآيات الله الدالة على الهدى والنور والعقيدة الصحيحة مؤمنين مصدقين بها، مكذبين بما يناقضها من الشرك والوثنية والضلال.
فهذه إباحة واضحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا ما ذكر عليه اسمه، ترسيخا لأصل الاعتقاد بالله، وردا على مشركي العرب وغيرهم الذين كانوا يجعلون الذبائح من أمور العبادات وأصول الدين والاعتقاد، فيتقربون بالذبائح لآلهتهم.
ومفهوم الآية أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها.
وجمهور المفسرين على أن في هذه الآية حصرا مستفادا من جهتين: الأولى- مما ذكر في الآية السالفة من عدم اتباع المضلين، والثانية- من الشرط في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فيكون المعنى: اجعلوا أكلهم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، ولا تتعدوه إلى الميتة.
ثم ندب تعالى إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأنكر أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه، من البحائر والسوائب وغيرها، فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وفي ذلك إشارة إلى ضرورة رفض عوائد الجاهلية واعتراضاتهم وشبهاتهم الواهية.(8/20)
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ.. أي ليس هناك ما يمنعكم، أو أي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، والحال أنه قد بين لكم المحرم عليكم في قوله: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام 6/ 145] ومعنى الأخير: ما ذكر عليه اسم غير الله كالأصنام والأنبياء والصالحين، فبقي ما عدا ذلك على الحل.
ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرم عليكم، فإنه يباح لكم ما وجدتم حال الضرورة. ومن هذه الآية وأمثالها أخذت القاعدة الشرعية: «الضرورات تبيح المحظورات» وقاعدة: «الضرورة تقدر بقدرها» .
ثم بيّن الله تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلاهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى، فقال: وَإِنَّ كَثِيراً ... أي إن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، بأهوائهم وشهواتهم الباطلة، وبغير علم أصلا، إنما هو محض الهوى، والله أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم، وسيجازيهم على هذا الاعتداء والتجاوز، ولا محالة، مثل عمرو بن لحيّ وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وأحلوا أكل الميتة، وما أهل به لغير الله بذكر اسم نبي أو وثن أو صنم.
ثم أمر تعالى بترك جميع الآثام والمعاصي، فقال: وَذَرُوا ظاهِرَ ... أي اتركوا جميع المعاصي والمحرمات ما أعلنتم وما أسررتم، قليله وكثيره، سواء ما تعلق بأفعال الجوارح والأعضاء كالزنى مع البغايا وأفعال القلوب كالحقد والحسد والكبر والمكيدة، والزنى مع الخليلة والصديقة والأخدان، ومن المعاصي تجاوز المضطر حدّ الضرورة المبين في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ، فَإِنَّ رَبَّكَ(8/21)
غَفُورٌ رَحِيمٌ
[الأنعام 6/ 145] وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة 5/ 3] .
والإثم لغة: ما قبح، وشرعا: ما حرمه الله، ولم يحرم الله شيئا إلا لضرره.
والصحيح- كما قال ابن كثير- أن الآية عامة في ذلك كله، وهو ما ذكر، وهي كقوله تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف 7/ 33] ولهذا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي سواء كان ظاهرا أو خفيا، فإن الله سيجزيهم عليه، أي أنه لا بد من أنه سيجازي مرتكب المعاصي على عصيانهم إذا ماتوا ولم يتوبوا. وجاء تعريف الإثم في حديث النواس بمن سمعان فيما أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن:
«الإثم: ما حاك في النفس وتردد في الصدر» وفي رواية مسلم: «الإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس» .
أما من تاب توبة صحيحة صادقة، وندم على ما فرط، فإن الله يغفر له ما بدر منه من الذنوب لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 116] وكذلك فعل الحسنة عقب السيئة يمحوها، لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] . وورد
في حديث أبي ذر جندب بن جنادة ومعاذ بن جبل فيما أخرجه الترمذي: «واتبع السيئة الحسنة تمحها» .
ثم صرح الله تعالى بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق، وهو قوله:
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فقال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات ولم يذبح ولم يذكر اسم الله عليه، ولا ما ذبح لغير الله وهو ما كان يذبحه المشركون لأوثانهم، والذبح لغير الله والأكل من المذبوح فسق ومعصية، قال عطاء في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ(8/22)
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس.
والمتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله.
ثم ردّ الله تعالى على مجادلات المشركين في إباحة الميتات فقال: وَإِنَّ الشَّياطِينَ ... أي إن شياطين الإنس والجن ليوسوسون إلى أوليائهم وأعوانهم من المشركين ليجادلوا محمدا وصحبه في أكل الميتة، كما تقدم، وإن أطعتموهم فيما يزعمون من استحلال الميتة، إنكم لمشركون مثلهم لأنكم عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، وهذا هو الشرك كقوله تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31]
وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله، ما عبدوهم؟
فقال: «بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» .
قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحلّ شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى، فهو مشرك لأنه أثبت مشرّعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه.
وقوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ... على تقدير القسم، وحذف اللام الموطئة للقسم، أي ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون، فيكون جواب القسم أغنى عن جواب الشرط.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:(8/23)
1- إباحة ما ذبحه المسلم وذكر اسم الله عليه.
2- الأمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم.
3- إن الإيمان بأحكام الله والأخذ بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.
4- عدم إباحة ما لم يذكر اسم الله عليه كالميتات وما ذبح على النصب (الحجارة حول الكعبة) وغيرها.
5- إباحة المحرّمات حال الضرورة الشرعية بقدر ما تقتضيه الضرورة.
6- عدم الالتفات لآراء المشركين الزائفة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
7- تحريم ارتكاب جميع المعاصي، سواء في السرّ أو في العلن، وسواء أفعال الجوارح كاليد والرجل، وأفعال القلوب كالحسد والحقد.
8- الجزاء أمر محتم واقع يوم القيامة على كل معصية، والعصاة معذبون يجازيهم الله تعالى لا محالة.
9- كل من استحل حراما أو حرم حلالا، واتبع غير أحكام الله في شرعه ودينه، فهو كافر ومشرك لأنه أشرك بالله غيره، وأثبت مشرّعا سوى الله، بل آثر حكمه على حكم الله.
أما ما يذبح عند استقبال الحاكم أو الحاج فهو في رأي الحنفية حرام أكله، لأنه مما أهلّ به لغير الله. ورأى بعض الشافعية أن المقصود من الذبح الاستبشار بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، وهذا لا يوجب التحريم، وهذا هو المعقول.(8/24)
لكن لو كان الذبح بين رجلي القادم أو مرّ عليه من فوقه، فلا يؤكل لأنه ذبح أهل لغير الله به، أي ذكر اسم غير الله عليه.
10- استدل بعض العلماء بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما. وهذه مسألة متروك التسمية عمدا أو سهوا، وقد اختلف فيها العلماء:
أ- فقال داود الظاهري: لا تؤكل ذبيحة المسلم إن تعمد ترك التسمية أو نسي التسمية، لظاهر هذه الآية الكريمة.
ب- وقال الشافعية: متروك التسمية حلال مطلقا لقوله تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة 5/ 3] فأباح المذكى ولم يذكر التسمية، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة، فإن الذكاة لغة: الشق والفتح، وقد وجدا، واستدلوا أيضا
بحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية، يأتون بلحمان، لا ندري اذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، فنأكل منها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سموا وكلوا»
:
وروى أبو داود حديثا مرسلا عن الصلت السدوسي: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر» .
وروى الدارقطني عن البراء بن عازب: «اسم الله على قلب كل مؤمن، سمّى أو لم يسمّ» .
لكن التسمية سنة مستحبة عند أكل كل طعام وشراب.
والمراد من الآية: ما ذبح للأصنام لأن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، وقد قال الله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ولأن الله تعالى وصف من أكل ذبيحة الأصنام ورضي بها بالشرك، ولأن قوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوص بما أهل به لغير الله، بدليل آية أخرى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام 6/ 145] .(8/25)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
ج- وذهب الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) إلى أن متروك التسمية عمدا حرام لا يؤكل وهو ميتة، ويحل أكل متروك التسمية سهوا، أو كان الذابح المسلم أخرس أو مستكرها.
وأضاف الحنابلة: من ترك التسمية على الصيد ولو سهوا، لم يؤكل، أي أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو، وعلى الصيد لا تسقط.
ودليل الجمهور: قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل»
وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تسمية الله في قلب كل مسلم»
والناسي ليس بتارك للتسمية، بل هي في قلبه، فيكون متروك التسمية عمدا حراما، ومتروك التسمية سهوا ليس مما لم يذكر اسم الله عليه، ولم يلحق العامد بالناسي لأنه بترك التسمية عمدا كأنه نفى ما في قلبه.
مثل المؤمن المهتدي والكافر الضال
[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
الإعراب:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فيه مضاف محذوف تقديره: أو مثل من كان ميتا، بدليل: كَمَنْ(8/26)
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ
. ومَنْ اسم موصول مبتدأ، والكاف في كَمَنْ خبره، واسم كان ضمير يعود إلى مَنْ ومَيْتاً خبرها، والجملة من الفعل واسمه وخبره صلة مَنْ.
لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في قوله: فِي الظُّلُماتِ.
مُجْرِمِيها مفعول أول لجعلنا، وأَكابِرَ مفعول ثان مقدم. لِيَمْكُرُوا اللام: لام كي.
البلاغة:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ نُوراً ... فِي الظُّلُماتِ الموت والحياة، والنور والظلمات:
استعارة، فقد استعار الموت للكفر، والحياة للإيمان، والنور للهدى، والظلمات للضلال.
المفردات اللغوية:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً بالكفر. فَأَحْيَيْناهُ بالهدى. وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان. كَمَنْ مَثَلُهُ مثل: زائدة أي كمن هو، والمثل:
الصفة والنعت. فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وهو الكافر. كَذلِكَ زين للمؤمنين الإيمان كما زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي.
وَكَذلِكَ كما جعلنا فساق مكة أكابرها. جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها الأكابر:
الرؤساء، جمع كبير أو أكبر، والمجرمون: مرتكبو الاجرام، والاجرام: هو الإفساد والإضرار من الأفعال والأقوال، والقرية: البلد الذي يجمع فيه الناس، وقد تطلق على الشعب أو الأمة.
لِيَمْكُرُوا فِيها بالصدّ عن الإيمان. وَما يَمْكُرُونَ المكر: التدبير الخفي لصرف الغير عما يريده بحيلة أو خديعة أو تدليس قولي. إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله عليهم.
سبب النزول: نزول الآية (122) :
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً: أخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس في قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قال: نزلت في عمر وأبي جهل. وأخرج ابن جرير الطبري عن الضحاك مثله، وذكر أبو بكر(8/27)
لحارثي عن زيد بن أسلم مثله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً قال: عمر بن الخطاب كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ قال: أبو جهل بن هشام.
وذكر الواحدي النيسابوري عن ابن عباس قال: قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفرث، وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به، سفّه عقولنا، وسبّ آلهتنا، وخالف آباءنا؟ قال حمزة: ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
اتفقت الروايات على أن الكافر الضال هو أبو جهل، وأما المؤمن المهتدي فقيل: حمزة، وقيل: عمر رضي الله عنهما، والصحيح كما قال ابن كثير والقرطبي: أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر «2» .
المناسبة:
ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظنون الزائفة والتخمينات، وأن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله، ثم ذكر هنا مثلا يوضح حال المؤمن المهتدي وحال الكافر الضال، فأبان أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا، فجعل حيا بعد ذلك، وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها، لا خلاص له منها، فيكون متحيرا على الدوام.
__________
(1) أسباب النزول: 128
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 172، تفسير القرطبي: 7/ 78(8/28)
التفسير والبيان:
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا، أي في الضلالة، هالكا حائرا، فأحياه الله، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له، ومثل ضربه الله للكافر المنغمس في الظلمات أي الجهالات والأهواء والضلالات.
هذه مقارنة أو موازنة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، أفمن كان ميتا بالكفر والجهل، فأحييناه بالإيمان، وجعلنا له نورا يضيء له طريقه بين الناس، وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان؟ وهو أيضا نور الهدى والإيمان؟
كمن مثله مثل السائر في الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وهو ليس بخارج منها، أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه.
وفي المقارنة بين المؤمن والكافر وردت آيات كثيرة، منها: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك 67/ 22] .
ومنها: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود 11/ 24] ومنها: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر 35/ 19- 23] .
وإذا كان الاهتداء إلى الإيمان والانغماس في ظلمات الكفر والضلال بسبب من الإنسان واختيار منه، فإن الله تعالى يزيد المؤمنين توفيقا إلى الخير، ويترك الكافرين سائرين في متاهات الكفر، لذا ختم الله الآية بقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي كما زين الإيمان للمؤمنين، زين للكافرين الكفر والمعاصي، أي حسّن لكل فريق عمله، فحسّن الإيمان في أنظار المؤمنين، وحسّن الكفر والجهالة والضلالة في أعين الكافرين، كعداوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وذبح القرابين(8/29)
لغير الله، وتحريم ما لم يحرمه الله، وتحليل ما حرمه.
وقال ابن كثير: حسّن لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة، قدرا من الله وحكمة بالغة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأورد حديثا في المقارنة المتقدمة بين المؤمن والكافر،
رواه الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه ضلّ» «1» .
ثم أورد الله تعالى ما يدلّ على سنته الثابتة في البشر، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ.. أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم، وجعلهم الله أكابرها مع أنهم فسّاقها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها رؤساءها ودعاتها إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله، ليمكروا فيها بالصدّ عن سبيل الله لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس بحكم نفوذهم وسيادتهم وسيطرتهم.
وهكذا سنة الله في المجتمعات البشرية، يثور النزاع بين الحق والباطل، ويشتد الصراع بين الإيمان والكفر، ولكل اتجاه أعوانه وأنصاره، وسادته وكبراؤه، والأنبياء وأتباعهم من المصلحين يوجدون في هذا الوسط المتصارع، فيتبعهم الضعفاء، ويكفر بهم الأشراف، وينصرهم الأوساط، ويقاوم دعوتهم الأكابر المجرمون الذي يعادون حركة الإصلاح والتقدم، والبناء والتحضر، في كل بيئة ومجتمع.
ولكن العاقبة والنصر للمتقين المصلحين، والهزيمة أو الانقراض والخذلان للكافرين المفسدين، وما يمكر هؤلاء الأكابر المجرمون المعادون للرسل إلا بأنفسهم لأن وبال مكرهم عليهم، وعاقبة إفسادهم تلحق بهم، لكنهم عديمو النظر للمستقبل والواقع، والاعتبار بالماضي، وعديمو الشعور والإحساس،
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 172(8/30)
وما يشعرون شعورا صادقا صحيحا بمدى أعمالهم.
وهذا مؤيد للقاعدة الاجتماعية الشهيرة وهي تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، كما قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد 13/ 17] .
وقد ساد هذا وصار سنة متبعة أيضا في الماضين الأولين، فقال تعالى:
وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل 27/ 50- 51] أي أن الذين مكروا حفاظا على نفوذهم ومراكزهم، لم يشعروا بأن عاقبة مكرهم تحقيق بهم، لجهلهم بسنن الله في خلقه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
1- المؤمن المهتدي كمن كان ميتا فأحياه الله، فهو الذي ينعم بحق بالحياة الصحيحة السوية المتكاملة المطمئنة لأنه على بصيرة تامة بواقعة وعمله وسيرته، وعلى معرفة دقيقة بدينه وما ينتظره من مستقبل حافل بالآمال العذبة، والخيرات المغدقة، والنعيم الخالد.
والكافر الضال يعيش في الواقع في ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمة الكفر، وظلمة المنهج والطريق، وظلمة المستقبل الغامض، المحفّل بشتى ألوان العذاب والضيق والحيرة والقلق والاضطراب.
2- سنة الله في الاجتماع البشري أن يكون النفوذ والسيطرة لأكابر المجرمين، وقادة الفسق والعصيان، وأهل الانحراف الذين يعادون الرسل، ويقاومون حركة الإصلاح في كل زمان.(8/31)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
ولكن العاقبة والفوز والفلاح في النهاية لأهل الحق والإيمان والاستقامة، والخسارة والدمار ووبال المكر لأهل الكفر والضلال. وهذا من الله عز وجل وهو الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم، والحال أنهم لا يشعرون الآن، لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم.
وقد أثار المفسرون بمناسبة قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مسألة الجبر والقدر، فقال أهل السنة: ذلك المزين هو الله تعالى لأن كل فعل يتوقف على باعث له كائن بخلق الله تعالى، والباعث أو الداعي له: عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن بأن الفعل مشتمل على نفع وصلاح، وهذا الباعث هو التزيين، فإذا كان موجد هذا الباعث أو الداعي هو الله تعالى، كان المزين لا محالة هو الله تعالى كما قال: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل 27/ 4] .
وقالت المعتزلة: ذلك المزين هو الشيطان، الذي أقسم: لأغوينهم أجمعين. وهذا الرأي غريب وضعيف لأن الله تعالى صرح بأنه هو المزين، ولا مزين آخر سواه «1» .
تعنت المشركين ومطالبتهم بالنبوة
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 171(8/32)
الإعراب:
اللَّهُ أَعْلَمُ جملة من مبتدأ وخبر، وهو كلام مستأنف للإنكار عليهم، والإخبار بألا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم.
صَغارٌ فاعل مرفوع لفعل: يصيب.
المفردات اللغوية:
وَإِذا جاءَتْهُمْ أي أهل مكة. آيَةٌ أمارة وحجة ودليل قاطع على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من الرسالة والوحي إلينا، لأننا أكثر مالا وأكبر سنا.
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ مفعول به لفعل دلّ عليه أعلم، أي يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه، فيضعها، وهؤلاء ليسوا أهلا لها. أَجْرَمُوا ارتكبوا جرما بقولهم ذلك. صَغارٌ ذل وهوان، بسبب الكفر والطغيان. وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من الأسر والقتل، وعذاب النار.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها من محمد لأني أكبر منه سنا، وأكثر منه مالا وولدا «1» .
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى سنته في البشر بأن يكون في كل بلد أو جماعة زعماء مجرمون يقاومون دعوة الرسل والإصلاح، أوضح أن هذه السنة موجودة في زعماء مكة الذين دفعهم المكر والحسد إلى أنه متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله.
التفسير والبيان:
إذا جاءتهم، أي المشركين، آية وبرهان وحجة قاطعة من القرآن تتضمن
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 80(8/33)
صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تبليغه وحي ربه، قالوا حسدا منهم وتعنتا وغرورا وظنا منهم أن النبوة منصب دنيوي: لن نؤمن حتى يكون لنا مثل محمد منصب عند الله، وتظهر على أيدينا آية كونية أو معجزة مثلما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى لأنهم أكثر مالا وأولادا وأعز جانبا ورفعة بين الناس.
وقال ابن كثير: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة، كما تأتي إلى الرسل، كقوله جلّ وعلا: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان 25/ 21] .
وهكذا يظهر أن مشركي مكة أكابر قريش طمحوا أن تكون النبوة في بعضهم، كما حكى تعالى عنهم: وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف 43/ 32] والقريتان: مكة والطائف. وفي آية أخرى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر 74/ 52] .
فردّ الله عليهم بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه. فالرسالة منصب ديني له مقومات خاصة، وفضل من الله يمنحه من يشاء من عباده، لا ينالها أحد بكسب أو جهد، أو بسبب أو نسب، أو بخصائص دنيوية عادية كالمال والولد والزعامة والنفوذ، وإنما تؤتى من هو أهل لها لسلامة فطرته، وطهارة قلبه وقوة روحه، وحسن سيرته، وحبه الخير والحق.
ثم أوعد الله المتخلفين عن الإيمان بدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ... أي سيلحق المجرمين يوم القيامة ذل وهوان دائمان، ويدركهم العذاب المؤلم الشديد، جزاء بما كانوا يمكرون، وعقوبة لتكبرهم عن(8/34)
اتباع الرسل، والانقياد لهم فيما جاؤوا به، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] أي صاغرين ذليلين حقيرين.
ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] .
ومعنى كون العذاب من عند الله: أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، كما قال تعالى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر 39/ 25- 26] .
فقه الحياة أو الأحكام:
النبوة أو الرسالة تمنح لمن هو مأمون عليها وموضع لها، وأقدر على تحمل أعبائها، وليست هي مثل مناصب الدنيا التي تعتمد على النفوذ والسلطة أو المال والجاه، أو النسب، أو كثرة الأعوان والأولاد.
وما على الناس إلا الإيمان بما جاء به الأنبياء لأن نبوتهم تثبت بدليل قاطع، وبمعجزة خارقة للعادة.
فإن لم يؤمنوا أصابهم أمران: صغار وذل وهوان، وعذاب الله الشديد في الآخرة، بسبب إجرامهم ومكرهم، وحسدهم وحقدهم، وهذا حق وعدل، تمييزا بين الطائعين وبين العصاة، وإنما قدم الصغار على ذكر الضرر، لأن القوم إنما تمردوا على طاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم طلبا للعز والكرامة، فقابلهم الله بضد مطلوبهم.
والمشهور في تفسير الآية أن زعماء مكة أرادوا أن تحصل لهم النبوة والرسالة،(8/35)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين.
ولكن الله تعالى أبان لهم أنهم غير أهل للنبوة، وأنهم أيضا سيتعرضون للهوان والذل، والإلقاء في جهنم، وهذا عقاب المعرضين عن اتباع الأنبياء، استكبارا وعتوا وعلوا في الأرض.
سنّة الله في المستعدّين للإيمان وغير المستعدّين وجزاء الفريقين بعد بيان الحق ومنهجه
[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 128]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
الإعراب:
ضَيِّقاً مفعول ثان ل يَجْعَلْ. حَرَجاً من قرأ بفتح الرّاء جعله مصدرا، ومن قرأ بكسرها جعله اسم فاعل، وهو صفة منصوب لقوله ضَيِّقاً. كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ في موضع الحال من الضمير في حرج وضيق.(8/36)
مُسْتَقِيماً منصوب على الحال المؤكّدة من: صِراطُ، وإنّما كانت مؤكّدة لأن صراط الله تعالى لا يكون مستقيما.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَوْمَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر يوم نحشرهم.
وجَمِيعاً: منصوب على الحال من الهاء والميم في نحشرهم.
النَّارُ مَثْواكُمْ يجوز أن يكون المثوى مصدرا بمعنى الثواء وهو الإقامة، ويجوز أن يكون مكانا أي مكانا للإقامة، فإذا كان مصدرا كان هو العامل في الحال: خالِدِينَ فِيها، وإذا كان مكانا كان العامل في الحال معنى الإضافة لأن معناه المضامّة والمماسّة، مثل قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر 15/ 47] ، وقوله تعالى: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر 15/ 66] وليس في التّنزيل حال عمل فيها الإضافة إلا هذه المواضع الثلاثة.
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ما: في موضع النصب على الاستثناء المنقطع، فإن جعلت ما لمن يعقل لم يكن منقطعا.
البلاغة:
قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ فيه إيجاز بالحذف أي أفرطتم في إضلال وإغواء الإنس. ومثله اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي استمتع بعض الإنس ببعض الجنّ، وبعض الجنّ ببعض الإنس.
النَّارُ مَثْواكُمْ تعريف الكلمتين لإفادة الحصر.
المفردات اللغوية:
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يوسّعه لقبول الإيمان والخير، أو يقذف في قلبه نورا، فينفسخ له ويقبله، كما ورد في حديث، والمراد جعل النفس مهيأة لقبول الحقّ فيها. ضَيِّقاً ضدّ الواسع.
حَرَجاً بفتح الرّاء وكسرها: شديد الضيق، من الحرجة: وهي الشّجر الكثير الملتف بحيث يصعب الدّخول فيه. يَصَّعَّدُ أو يصّاعد أي يتصاعد في السماء، ويسبح في الفضاء، وكأنّما يزاول أمرا غير ممكن إذا كلف الإيمان، لشدّته عليه. كَذلِكَ الجعل. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي يسلط الله العذاب أو الشيطان، وأصل الرّجس: كل ما يستقذر حسّا أو شرعا أو عقلا.
وَهذا منهج محمد ودينه. صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه لخلقه. مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ. قَدْ فَصَّلْنَا بيّنا. لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي يتّعظون، وخصّوا بالذّكر لأنهم المنتفعون.
لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي دار السّلامة، وهي الجنّة. وَلِيُّهُمْ متولّي أمورهم وكافيهم ما يهمّهم. يا مَعْشَرَ المعشر: القوم والرّهط وهو الجمع من الرجال فحسب. قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ(8/37)
الْإِنْسِ
اسْتَكْثَرْتُمْ أخذتم الكثير بإغوائكم. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ الذين أطاعوهم في وسوستهم.
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشّهوات، والجنّ بطاعة الإنس لهم.
وَبَلَغْنا أَجَلَنَا وصلنا يوم البعث والجزاء أو الموت. خالِدِينَ فِيها الخلود: المكث الطويل غير المحدد بوقت.
النَّارُ مَثْواكُمْ مأواكم. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من الأوقات التي يخرجون فيها لشرب الحميم، فإنه خارجها، كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات 37/ 68] أو ينقلون من عذاب النار إلى عذاب الزّمهرير. حَكِيمٌ في صنعه. عَلِيمٌ بخلقه.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في مناقشة مواقف تعنّت المشركين والرّدّ عليهم وتفنيد حججهم وشبهاتهم، وهي الآن تحسم الأمر، فتوضح أنهم ليسوا أهلا للإيمان، وغير مستعدّين لقبوله، كما أوضح في الآية السابقة أنهم غير أهل للنّبوة. وعلى كلّ حال: طريق الحقّ قد بان لكلّ ذي بصيرة، ومنهج الاستقامة الذي يرضي الله قد تجلّى لكلّ البشريّة، فمن قبله فله دار السّلامة، ومن أعرض عنه فله عذاب النار. وقبل هذا الجزاء يوجد الحشر والحساب، وإقامة الحجّة على الكفار.
التفسير والبيان:
عرف من الآية السابقة أن المشركين سيلقون جزاء عنادهم وغرورهم، وهنا كلمة الفصل: وهي أن الأمر كله لله، فلا يهتمن أحد، ولا يحزن على إعراض المشركين عن دعوة الإسلام، فمن يرد الله أن يوفقه للحقّ والخير والإسلام، ومن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة القرآن، فإنه يشرح صدره له، وييسره وينشطه ويسهله لذلك، كقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزّمر 39/ 22] ، وقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/ 7] .
قال ابن عباس في آية يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ: يقول تعالى: يوسّع(8/38)
قلبه للتوحيد والإيمان به. وهو تفسير ظاهر مقبول.
وجاء في حديث رواه عبد الرزاق عن أبي جعفر: وسئل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه، فينشرح له وينفسح» قالوا:
فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن أبي جعفر أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت» «1» .
وإلقاء هذا النور يكون في موضعه: في النفس التي حسنت فطرتها، وطهرت، وكان فيها استعداد للخير، وميل إلى اتباع الحق.
ومن فسدت فطرته بالشرك، وتدنست بالآثام يجد في صدره ضيقا شديدا عازلا له عن الإيمان، كاتما له عن نفاذ الخير إليه، مثله كمثل من يصعد إلى السماء في طبقات الجو العليا حيث يشعر بضيق شديد في التنفس، وكأنما يزاول أمرا غير ممكن، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة.
وكما يجعل الله صدر من أراد إضلاله لفقد استعداده للإيمان ضيقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصده عن سبيل الله سبيل الحقّ «2» . والرجس: كما قال مجاهد: كل
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 20
(2) المرجع السابق: 8/ 24(8/39)
مالا خير فيه، أو كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: العذاب باعتبار أنه الفعل المؤدي إلى الرجس، من الارتجاس وهو الاضطراب. وقال الزمخشري: الرجس يعني الخذلان ومنع التوفيق.
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً أي وهذا الإسلام الذي يشرح له صدر من يريد هدايته، هو طريق ربك الذي ارتضاه للناس واقتضته الحكمة، وأكد ذلك بقوله: مُسْتَقِيماً أي طريقا سويا لا اعوجاج فيه لأن صراط الله تعالى لا يكون إلا مستقيما، وغيره من السبل معوج منحرف، كما
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أحمد والترمذي عن علي في وصف القرآن: «هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين» .
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي قد وضحناها وبيناها وفسرناها لقوم لهم فهم ووعي يعقلون عن الله ورسوله.
ولهؤلاء القوم الملتزمين طريق الاستقامة دار السلامة والطمأنينة وهي الجنة لأنهم التزموا منهج الأنبياء عِنْدَ رَبِّهِمْ أي يوم القيامة. والله وليهم أي متولي أمورهم وكافيهم، جزاء على صالح أعمالهم.
واذكر يا محمد فيما نقصه عليك وتنذرهم به يوم نحشر الإنس والجن جميعا، ونقول: يا جماعة الجن قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس 36/ 62] . ويقول الذين أطاعوا الجن واستمعوا إلى وسوستهم وتولوهم، من الإنس، في جواب الله تعالى: انتفع كل منا بالآخر، انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم.
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي الموت، أو أنهم يعنون يوم البعث. وهذا(8/40)
الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين، واتباع الهوى، والتكذيب بالبعث، أي أن المقصود من الكلام: أننا في هذا اليوم الرهيب وهو يوم البعث والجزاء، اعترفنا بذنوبنا، فاحكم فينا بما تشاء، وأنت أحكم الحاكمين، ولقد أظهرنا الحسرة والندامة على ما كان منا من تفريط في الدنيا.
فأجابهم الحق تعالى: النار مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم، وأنتم ماكثون فيها مكثا مخلدا الأبد كله، إلا ما شاء الله من الخروج خارج النار لشرب الحميم أو الانتقال من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، وكل من الحالين انتقال من عذاب إلى عذاب، روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون، ويطلبون الرد إلى الجحيم. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يجازي به الناس عَلِيمٌ بما يستحقه كل فريق.
وهي نظير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود 11/ 107] .
ويحسن الأخذ في تفسير هذه الآية وما هنا بما رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس قال: «إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا» «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
آية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ... تدل على إثبات الإرادة لله عز وجل في هداية الإنسان وتوفيقه للإيمان والحق والخير.
وتمسك أهل السنة بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى، أي بخلقه وإيجاده، بمعنى أن العبد قادر على الإيمان، وقادر على الكفر، فقدرته
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 26 [.....](8/41)
بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية، لكن هذه القدرة منوطة بحصول باعث في النفس، وداعية في القلب تدعو إما إلى الإيمان، وإما إلى الكفر، وذلك الباعث أو الداعية هو علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة أو ضرر، فإن تكوّن في قلبه الميل إلى المصلحة أو المنفعة، فعل الشيء، وإن تكوّن في قلبه الميل إلى الضرر أو المفسدة، ترك الشيء، وحصول هذه الميول أو الدواعي لا يكون إلا من الله تعالى، ومجموع القدرة البشرية مع الداعي الإلهي يوجب الفعل.
وعلى هذا لا يصدر الإيمان عن العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة أي تكوين القناعة الذاتية، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد، مال القلب، ورغب في تحصيله، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان «1» .
وهذا متفق مع ما ذكرت في تفسير الآية من
حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر إذ قال: «هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح» .
وقد ضرب الله تعالى مثلا في هذه الآية: وهو تشبيه المتلكئ عن الإيمان، المتثاقل عن الإسلام بمنزلة من يصّعد في السماء، فقد شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يطاق، أو أن الكافر إذا طولب بالإيمان تضايق وكان حاله كحال الصاعد في السماء، كلما ارتفع وخف الضغط الجوي عليه، ضاق نفسه، وهذه نظرية علمية حديثة معروفة الآن فقط، وقد أشار إليها القرآن.
ومثل جعل صدر الكافر شديد الضيق، كذلك يلقي الله العذاب
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 177- 178(8/42)
والخذلان، أو اللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة على الذين لا يؤمنون بآيات الله تعالى.
والثابت المقرر المقطوع به: أن ما أنت عليه يا محمد والمؤمنون بك هو صراط الله المستقيم أي دين ربك لا اعوجاج فيه.
وللمتذكرين آيات الله، والمتدبرين براهينه بعقولهم، والمؤمنين المعتبرين المنتفعين بالآيات: دار السلام أي الجنة، التي يسلم فيها المؤمن من الآفات، كما سلم من الاعوجاج في الدنيا، ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنها مضمونة لهم عنده، يوصلهم إليها بفضله، والله هو وليهم أي ناصرهم ومعينهم.
وفي يوم الحساب تتبدد وتتقطع صلات الوصل والمنافع بين الإنس والجن الذين ينتفع كل منهم بالآخر، فاستمتاع الجن من الإنس: أنهم تلذذوا بطاعة الإنس وإياهم، واستمتاع الإنس من الجن: قبولهم وساوس الشياطين وإطاعتهم لهم حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. ومعنى الآية هنا: تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين.
وأما خلود الكفار في النار فمرجعه إلى مشيئة الله، هذا ما أرجحه، أي أن خلودهم بمشيئة الله. وقد قيل في استثناء إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أقوال كثيرة، رجح الزجاج والطبري منها: استثناء أوقات المحاسبة لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار، لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم، ومقدار مدتهم في الحساب، فالاستثناء منقطع.
والقول الثاني- المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد، فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر جهنم.(8/43)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
والقول الثالث لابن عباس: الاستثناء لأهل الإيمان، استثنى الله تعالى قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا القول يجب أن تكون ما بمعنى «من» ولا يكون الاستثناء منقطعا.
تولية الظلمة على بعضهم وتقريع الكافرين على عدم إيمانهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
الإعراب:
ُصُّونَ
ونْذِرُونَكُمْ
: كل منهما جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لرسل.
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر ذلك. وأَنْ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأن لم يكن ربك، فلما حذف حرف الجر انتصب، فاللام مقدرة، وأن مخففة من الثقيلة أي لأنه.
البلاغة:
لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
استفهام توبيخ وتقريع.
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ أي لكل من العاملين، فالتنوين عوض عن محذوف لهم.(8/44)
المفردات اللغوية:
وَكَذلِكَ أي كما متعنا عصاة الإنس والجن بعضهم ببعض نُوَلِّي من الولاية والإمارة، أو نجعل بعضهم أنصار بعض بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي على بعض بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
أي من مجموعكم، ويصدق ذلك على بعض الإنس: لأن الرسل من الإنس، ولم يكن من الجن رسول، فهذا من باب التغليب، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 22] وإنما يخرجان من البحر المالح لا العذب. قُصُّونَ عَلَيْكُمْ
يخبرونكم بها مع التوضيح والتبيان.
ِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أن قد بلّغنا غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أي خدعتهم الدنيا بزخارفها فلم يؤمنوا.
ذلِكَ أي إرسال الرسل وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يرسل إليهم رسول يبين لهم.
وَلِكُلٍّ من العاملين دَرَجاتٌ مراتب جزاء على وفق أعمالهم مِمَّا عَمِلُوا من خير أو شر.
المناسبة:
لما حكى الله تعالى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا، بيّن أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه، فقال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي مثل ما ذكر من استمتاع الجن والإنس ببعضهم في الدنيا، لتماثلهم في الاتجاه والوسائل والغايات والأعمال، نولي بعض الظالمين ولاية بعض، فنجعلهم أمراء عليهم، أو أنصارا لهم.
التفسير والبيان:
مثل تولي الجن والإنس بعضهم لبعض نولي الظالمين بعضهم ببعض، بأن نجعل بعضهم أنصار بعض بمقتضى التقدير والسنة الكونية، كما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة 9/ 71] وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال 8/ 73] .(8/45)
قال قتادة في تفسير الآية: إنما يولي الله الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان، وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره الطبري، ويكون معنى الآية: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض، يستمتع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور، بما كانوا يكسبون من معاصي الله ويعملون «1» .
وقال السيوطي في الإكليل: الآية في معنى
حديث «كما تكونوا يولّى عليكم» «2»
وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم، فقف وانظر متعجبا. وروى أبو الشيخ ابن حيان عن منصور بن أبي الأسود، قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم، أي أن الولاية والإمارة تكون لأشرارهم، كما قال تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء 17/ 16] .
أي أن التولية بين الظالمين إما بالتعاطف والتناصر فيما بينهم، وإما بتسلط بعضهم على بعض وتأمّرهم عليهم، فما من ظالم إلا سيبلى بأظلم منه. والظلم عام يشمل الظالمين لأنفسهم، والظالمين للناس من الحكام وغيرهم، فكل فريق يتولى شبهه في الخلق والعمل، وينصره على غيره. قال ابن عباس: «إذا رضي الله على قوم ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم» .
وهذا تهديد عام لكل ظالم في الحكم والسلطة أو غير ذلك.
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 26، تفسير ابن كثير: 2/ 176
(2) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة، ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا، وهو حديث ضعيف.(8/46)
وتابع الله تقريع الظالمين وتهديد كافري الجن والإنس، وبيان حالهم يوم القيامة، حيث يسألهم، وهو أعلم، هل بلّغتهم الرسل رسالاته، وهذا استفهام تقرير وتقريع وتوبيخ، فقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ ...
أي يا جماعة الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم؟ أي من جملتكم، والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما قرر جمهور السلف والخلف، وقد عبر بذلك من باب التغليب، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 22] واللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان في عرف المتقدمين من المالح، لا من الحلو، ثم ثبت أن بعض الأنهار الحلوة الماء قد استخرج منها اللؤلؤ.
ويمكن أن يكون المراد رسل الإنس المعروفين، ورسل الجن: وهم الذين كانوا يستمعون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يذهبون لإنذار قومهم بما سمعوا: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف 46/ 29] قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ... [الجن 72/ 1] .
ومهمة هؤلاء الرسل: أنهم يتلون على أقوامهم آيات الإيمان والأحكام والآداب، وينذرونهم لقاء يوم الحشر وما فيه من الحساب والجزاء لمن يكفر بها ويجحدها.
فأجابوا عن السؤال، وقالوا يوم القيامة: أقررنا بأن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة، ونظير الآية قوله تعالى: قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك 67/ 9] .
وخدعتهم الحياة الدنيا بزينتها ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطة ورفعة الجاه، ففرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، وإنكار المعجزات، كبرا وعنادا.(8/47)
وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين في الدنيا، بما جاءتهم به الرسل عليهم السلام.
ذلك أي إرسال الرسل وإنذارهم الناس، وإنزال الكتب، بسبب أن من سنة الله ألا يؤاخذ أحد بظلمه إذا لم تبلغه الدعوة، وألا تهلك الأمم بعذاب الاستئصال، إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] وقال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقال عزّ وجلّ:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] .
وقوله تعالى: بِظُلْمٍ يحتمل- كما ذكر الطبري- وجهين: الأول- بشرك ونحوه، أي أن الظلم فعل للكفار. والثاني- لا يكون الهلاك ظلما بغير حق دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبرة، أي أن ذلك عائد إلى فعل الله تعالى والوجه الأول أقوى، كما قال الطبري «1» والرازي وغيرهما، والخلاصة: إن الله لا يظلم أحدا من خلقه، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فكل ما نزل وينزل بالمسلمين إنما هو لسوء أعمالهم، وتركهم دينهم، والعيب فيهم لا في نظام شرعهم.
ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله، يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والله مطلع على كل الأعمال، فما من عمل لهم إلا يعلمه، وهو محصيه ومثبته لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه، ومعادهم إليه.
وهذا دليل على أن مناط السعادة والشقاء: هو عمل الإنسان ومشيئته، أو كسبه وإرادته واختياره.
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 28(8/48)
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل آية: وَكَذلِكَ نُوَلِّي.. على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا التخلص من ذلك الأمير الظالم، فليتركوا الظلم.
وتدل الآية أيضا على أنه لا بد للناس من أمير وحاكم لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم، فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح، كان أولى.
قال علي رضي الله عنه: «لا يصلح للناس إلا أمير عادل، أو جائر» فلما أنكروا قوله: «أو جائر» قال: نعم يؤمن السبيل، ويمكن من إقامة الصلوات، وحج البيت» .
وتذكر الآية سنة من سنن الله في الناس، وهي أنه لما كان تعالى ولي المؤمنين أي حافظهم وحارسهم ومعينهم وناصرهم وأن لهم دار السلام، أبان أن أهل النار بعضهم أولياء بعض، أي أن نصراءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال.
ومهمة الرسل عليهم السلام: تلاوة الآيات الإلهية وتأويلها وتوضيحها، وإنذار الناس وتخويفهم عذاب يوم القيامة.
ولم يجد الكفار بدا من الاعتراف بذلك، ولكن الحياة الدنيا خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا، واعترفوا بكفرهم.
والله عادل أتم العدل وأكمله، لذا فإن عذاب الكفار عدل وحق وواجب، فلا يعذبهم إلا بعد بيان وإنذار، ولا يعاقبهم إلا بعد بعثة الأنبياء والرسل إليهم.
وإرسال الرسل أمر حتمي ضروري، لأن من خصائص الله وصفاته أنه لا يهلك أهل القرى بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم، فيقولوا: ما جاءنا من بشير ونذير.(8/49)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
ولكل العاملين لمن الجن والإنس مراتب بحسب أعمالهم، فلمن عمل بطاعة الله درجات في الثواب، ولمن عمل بمعصيته دركات في العقاب، والله ليس بغافل ولا لاه ولا ساه عن كل عمل، قليل أو كثير.
ودلت آية: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ على أنه لا تكليف ولا إيجاب قبل ورود الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على التكليف والإيجاب أصلا.
التهديد بعذاب الاستئصال والإنذار بعذاب القيامة
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
الإعراب:
إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ما اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب اسم إِنَّ.
وتُوعَدُونَ صلة، والعائد إليه محذوف، تقديره: إن الذي توعدونه لآت، مثل قوله تعالى:
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه.
مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ مَنْ إما استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبره، والجملة في موضع نصب بتعلمون، وإما أن تكون بمعنى «الذي» خبرا، فتكون في موضع نصب تعلمون.
البلاغة:
إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ عبر بالفعل المضارع المفيد للاستقبال، للدلالة على الاستمرار المتجدد. والجملة مؤكدة بمؤكدين: إن، واللام، للرد على منكري البعث.(8/50)
المفردات اللغوية:
يُذْهِبْكُمْ يهلككم يا أهل مكة وَيَسْتَخْلِفْ أي ينشئ الخلف وهو الذرية والنسل كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أذهبهم ولكنه أبقاكم رحمة لكم، وقوله مِنْ ذُرِّيَّةِ أي من نسل قوم وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين عذابنا، فالله قادر غير عاجز على إدراككم.
مَكانَتِكُمْ حالتكم عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة أو عاقبة الخير في الدار الآخرة، إذ لا اعتداد بعاقبة الشر لأن الله جعل الدنيا مزرعة الآخرة. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ يسعد الظَّالِمُونَ الكافرون.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعصية، وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة، بيّن أنّه غير محتاج إلى طاعة المطيعين، ولا ينتقص بمعصية المذنبين، فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ولكنه أيضا ذو رحمة عامة كاملة، ثم بيّن أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق، أو في خلق جديد بديل عنهم، ثم فوض الأمر إلى خلقه على سبيل التهديد.
التفسير والبيان:
وربك يا محمد هو الغني عن جميع خلقه وعن عبادتهم من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو مع ذلك ذو الرحمة الشاملة بهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحج 22/ 65] وقال في بيان غناه:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر 35/ 15] .
وجملة وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ تفيد الحصر، بمعنى أنه لا غني إلا هو، ولا رحمة إلا منه، لأنه واجب الوجود لذاته، وغيره ممكن لذاته، والممكن محتاج، فثبت أنه لا غني إلا هو، وكل ما سوى الله منه، فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق، فكل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه، ومحتاج إلى الأسباب التي هي قوام وجوده وحياته.(8/51)
إن يشأ يذهبكم أيها الكافرون المعاندون كأهل مكة، كما أهلك من عاند الرسل كعاد وثمود، ويأت بخلق جديد غيركم أفضل منكم وأطوع، فهو قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين، أي أنه قادر على الإهلاك والإنشاء معا، وقد حق ذلك، فأهلك زعماء الشرك المعاندين، واستخلف من بعدهم قوما آخرين وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم الذين كانوا مظهر رحمة الله للبشر في سلمهم وحربهم، حتى قال غوستاب لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب» .
وبعد أن وجه لهم هذا الإنذار بالإهلاك في الدنيا، أتبعه إنذارا آخر في الآخرة، فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ.. أي أخبرهم يا محمد أن الذي توعدون به من الجزاء الأخروي كائن لا محالة، وما أنتم بمعجزين، أي لا تعجزون بهرب ولا امتناع مما يريد، فهو القادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما، وهو القاهر فوق عباده.
روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون، فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، إنما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين» .
ثم أردف الله تعالى ذلك بتهديد آخر شديد ووعيد أكيد فقال: قُلْ: يا قَوْمِ، اعْمَلُوا ... أي أخبرهم يا محمد بقولك: استمروا على طريقتكم وحالتكم التي أنتم عليها إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كقوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود 11/ 121- 122] .
قال الزمخشري في قوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ: يحتمل وجهين: اعملوا على تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم، وإمكانكم أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، إني عامل على مكانتي التي أنا عليها، والمعنى: اثبتوا على كفركم(8/52)
وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم «1» .
فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة، أنحن أم أنتم؟ وعاقبة الدار:
العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها.
وهذا- كما قال الزمخشري- طريق من الإنذار، لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال، وأدب حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأن المنذر محق، والمنذر مبطل. وهو على طريقة قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ 34/ 24] .
وهو دليل على أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
إنه لا يفلح الظالمون أي لا يسعد ولا ينجح الظالمون أنفسهم بالكفر بنعم الله، واتخاذ الشركاء له في ألوهيته، وذلك مثل قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم 14/ 14] .
ومما نحمد الله عليه أن أنجز الله موعده لرسوله، فمكّنه في البلاد، ونصره على مشركي العرب، ودانت له الجزيرة العربية واليمن والبحرين في حياته، ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب، وتعاقبت دول الإسلام قوية عزيزة منيعة عدة قرون من الزمان، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر 40/ 51- 52] .
__________
(1) الكشاف: 1/ 529(8/53)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على صفات عظيمة لله عز وجل وهي الغنى المطلق عن خلقه وعن أعمالهم، والرحمة الشاملة لعباده، ولا سيما أولياؤه وأهل طاعته، والقدرة الكاملة على الإماتة والاستئصال بالعذاب، والإحياء والإنشاء واستخلاف خلق آخر أمثل وأطوع.
وقال المعتزلة: هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده.
ودلت الآيات أيضا على أن وعد الله محقق منجز، وأن الإيعاد بعذاب الآخر كائن حتما لا محالة، والجزاء أمر لازم لأهل الخير والشر.
وتضمنت الآيات إنذارين: إنذارا في الدنيا لتصحيح الأعمال بالتهديد بعذاب الاستئصال، وإنذارا في الآخرة للرهبة من الحساب وعذاب النار.
ولا شك بأن المصير مختلف بين أهل الطاعة وأهل المعصية، فالعاقبة الحسنة المحمودة لمن آمن بالإسلام وأطاع الله، والمصير المشؤوم لمن كفر بالله وعصاه ورفض أوامره وتحدى رسله.
شريعة الجاهلية في الزروع والثمار والأنعام وقتل الأولاد
[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)(8/54)
الإعراب:
ساءَ ما يَحْكُمُونَ مِمَّا في موضع رفع لأنه فاعل ساءَ.
زَيَّنَ فعل مبني لمعلوم، وفاعله: شُرَكاؤُهُمْ وقَتْلَ مفعول به وهو مصدر أضيف إلى المفعول. وقرئ زين بالبناء للمجهول، وقتل بالضم نائب الفاعل، وشُرَكاؤُهُمْ فاعل مرفوع بفعل مقدر دل عليه زَيَّنَ كأنه قيل: لما قيل: زين لهم قتل أولادهم: من زينه؟ فقيل: زينه لهم شركاؤهم. وقرأ ابن عامر بنصب: أولادهم، وجر:
شركائهم بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ولا يضر كما قال السيوطي، وهو وجه سائغ لغة، بدليل أنها قراءة متواترة.
مَنْ نَشاءُ مَنْ فاعل مرفوع لفعل: يطعم.(8/55)
ما فِي بُطُونِ ما اسم موصول، بمعنى الذي مبتدأ مرفوع، وفِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ صلته. وخالِصَةٌ خبر المبتدأ، وأنث خالصة، حملا على معنى ما لأن المراد بما في بطون هذه الأنعام: الأجنة، وذكّر: مُحَرَّمٌ حملا على لفظ ما ويجوز أن يكون خالِصَةٌ بدلا مرفوعا من ما بدل بعض من كل، ولِذُكُورِنا الخبر. ومن قرأ خالصة بالنصب كان منصوبا على الحال من الضمير المرفوع في قوله فِي بُطُونِ. وخبر المبتدأ الذي هو ما: لِذُكُورِنا.
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً اسم يَكُنْ ضمير مضمر فيها، ومَيْتَةً خبرها. ويَكُنْ محمول على لفظ ما وتقديره: وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. ومن رفع ميتة فلأن تأنيث الميتة ليس بحقيقي. ومن قرأ: تكن بالتاء، وجعل كان تامة بمعنى: حدث ووقع، ورفع ميتة لأنه فاعل، كقوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً [النساء 4/ 40] في قراءة الرفع. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ منصوب بنزع الخافض أي بوصفهم. سَفَهاً إما منصوب على المصدر، وإما على أنه مفعول لأجله.
البلاغة:
ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ إظهار لفظ الجلالة الثاني، لبيان كمال عتوهم وضلالهم.
المفردات اللغوية:
وَجَعَلُوا أي كفار مكة ذَرَأَ خلق وأبدع الْحَرْثِ الزرع، جعلوا لله نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، كما قال تعالى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي لجهته وهي سدنة الآلهة وخدمها. ساءَ بئس ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا.
قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد شُرَكاؤُهُمْ من الجن لِيُرْدُوهُمْ يهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا يخلطوا حِجْرٌ أي حرام ممنوع، والحجر: أصله المنع، ومنه سمي العقل حجرا لمنعه صاحبه إِلَّا مَنْ نَشاءُ من خدمة الأوثان وغيرهم بِزَعْمِهِمْ أي لا حجة لهم فيه وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها فلا تركب، كالسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عند ذبحها بل يذكرون اسم أصنامهم، ونسبوا ذلك إلى الله ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ المحرمة وهي السوائب والبحائر خالِصَةٌ حلال أَزْواجِنا النساء وَصْفَهُمْ أي سيجزيهم جزاء وصفهم ذلك بالتحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ في صنعه عَلِيمٌ بخلقه سَفَهاً جهلا.(8/56)
المناسبة:
بعد أن ندد الله تعالى بفساد عقائد المشركين، ومنها إنكار القيامة والبعث والجزاء، ذكر هنا أنواعا وصورا من جهالاتهم وأحكامهم المفتراة في تحليل وتحريم بعض الزروع والثمار والأنعام، ووأد البنات.
التفسير والبيان:
هذه ألوان من شرائع الجاهلية العربية قبل الإسلام التي ابتدعها المشركون، واخترعوها بأهوائهم وآرائهم الفاسدة، وتأثرا بوساوس الشيطان.
النوع الأول:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ... أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من الزرع والثمار والأنعام، وخصصوا له جزءا وقسما من الغلة والثمرة والنتاج، وجعلوا نصيبا آخر لشركاء لله المزعومين من الأوثان والأصنام.
وقالوا في النصيب الأول: هذا لِلَّهِ، نتقرب به إليه، وفي النصيب الثاني: هذا لِشُرَكائِنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها.
وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها، وأطاعوها طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم مما هو من خصائص الله تعالى. وقوله: بِزَعْمِهِمْ أي بتقولهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله، فيزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، والقربة يجب أن تكون خالصة له وحده، وبإذنه لأنه دين، والدين لله ومن الله وحده.
ونصيب الله كانوا يجعلونه للضيوف وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وخدمها ومصالحها.(8/57)
وما عينوه لشركائهم لا يصرف منه شيء إلى الوجوه التي جعلوها لله، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان وذبح القرابين.
وما جعلوه لله فقد يصرف للتقرب به إلى الأوثان.
ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الحكم الذي يحكمون أو يقسمون ويصنعون، بإيثارهم المخلوق العاجز على الخالق القادر على كل شيء، فهي قسمة جائرة لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وحينما قسموا جاروا فلم يصرفوا له حقوقه، أو جعلوا له الصنف الأضعف، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، سُبْحانَهُ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ [النحل 16/ 57] وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف 43/ 15] وقال عز وجل:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 21- 22] .
إنهم بهذا الصنع القبيح اعتدوا على حق الله في التشريع، وأشركوا به غيره وعبدوا معه إلها آخر، وفضلوه ورجحوه عليه بجعل ما لله لشركائهم، ولم يستندوا في حكمهم على سند صحيح من عقل أو هداية من شرع إلهي.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان، حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصّمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا، جعلوه لله، جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله، فسقى ما سمي للوثن، تركوه للوثن.
وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فيجعلونه(8/58)
للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى» .
النوع الثاني:
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... أي ومثل ذلك التزيين بقسمة الحرث والأنعام بين الله والأوثان، زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم (سدنة الآلهة وخدمها) أن يقتلوا أولادهم، وقال مجاهد: شركاؤهم: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العلية (الفقر) وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات، إما ليردوهم فيهلكوهم، وإما ليلبسوا عليهم دينهم، أي فيخلطوا عليهم دينهم.
وسبب هذا التزيين: أن الشياطين خوفوهم الفقر في الحال أو في المستقبل، كما وصف تعالى ونهى عن فعله فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء 17/ 31] .
وخوفوهم العار، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير كفء، وقد سنح الله تعالى عليهم بقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير 81/ 8] .
وأوهموهم أن قتل الأولاد يقربهم إلى الله، كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله،
وأشار إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أنا ابن الذبيحين» .
وذكر تعالى علة تزيين المنكرات فقال: لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي زيّن هؤلاء الشياطين لهم هذه المنكرات، ومنها قتل أولادهم، ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء، ويفسدوا عليهم فطرتهم، وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدّعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم.
ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا، وكل هذا واقع بمشيئة الله تعالى وإرادته(8/59)
واختياره لذلك بمقتضى الحكمة التامة، قال أهل السنة: إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون، فهو بمشيئة الله تعالى.
وقالت المعتزلة: إنه محمول على مشيئة الإلجاء، أي إن مشيئة الله تعالى أن يتركهم واختيارهم، فيأخذوا بما يرونه دون جبر ولا قهر، علما بأن الله قادر على أن يجعلهم مؤمنين، بأن يخلقهم مطبوعين على الاستعداد للإيمان كالملائكة، أو يخلق فيهم بواعث الإيمان ودواعيه، فينقادوا لدعوة الإيمان عند ظهورها، وبمجرد مجيء الرسول الذي يقنعهم بضرورة الإيمان، والإقرار بوجود الله ووحدانيته.
فاتركهم أيها الرسول وما يدينون، وما عليك إلا التبليغ.
النوع الثالث:
وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ... أي إنهم لشركهم وجاهليتهم المشوهة قسموا أنعامهم وزروعهم ثلاثة أقسام:
1- أنعام وأقوات ممنوعة الانتفاع على أحد، ومخصصة لمعبوداتهم وأوثانهم، ويقولون: هي حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم، ويقولون: لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا خدم الأوثان، والرجال دون النساء. وذلك قول صادر عن زعمهم الخالي من الحجة والبرهان.
2- أنعام حرّمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحائر والسوائب والحوامي، التي تقدم ذكرها وتفسيرها في سورة المائدة: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ.. [103] .
3- أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، ولا ينتفعون بها حتى في الحج.(8/60)
وقد قسموا تلك القسمة مفترين على الله، كاذبين عليه، فهو لم يشرعه لهم، وما كان لهم أن يحللوا أو يحرموا شيئا لم يأذن الله به، كما قال تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس 10/ 59] .
والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون. وهذا وعيد وتهديد لهم.
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من التحليل والتحريم بزعمهم وسخفهم فقال:
وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ.. أي إن أجنة وألبان هذه البحائر (أي المشقوقة الآذان) والسوائب المسيّبة للآلهة فلا يتعرض لها أحد: هو حلال خاص برجالنا، ومحرم على إناثنا، فلبنها للذكور ومحرم على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا ولدت أنثى تركت للنتاج فلم تذبح، وإذا كان المولود ميتا اشترك فيه الذكور والإناث.
سيجزيهم جزاء وصفهم أي قولهم الكذب في ذلك، كما قال تعالى:
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل 16/ 116] .
ثم ندد الله بوأد البنات وتحريم ما أحل الله فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ ... أي خسر الذين قتلوا أولادهم، فوأدوا البنات خسرانا مبينا، وحرموا ما رزقهم الله من الطيبات.
إنهم قتلوا أولادهم سفها أي خفة مذمومة، وحماقة مفضوحة، خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر، وجهلا بما ينفع ويضر ويحسن ويقبح، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح، وحرموا الطيبات افتراء وكذبا على الله، ولقد ضلوا ضلالا مبينا لعدم توصلهم إلى مصالح الدنيا والدين، ولم يكونوا مهتدين إلى شيء(8/61)
من الحق والصواب، وفائدة قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لبيان أنه لم يحصل منهم اهتداء قط.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً إلى قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة، ويغذو كلبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
تلك شرائع العرب في جاهليتهم الجهلاء، مصدرها وهم وسخف، وقصور عقل، وهوى فاسد، روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم، ووفور أحلامكم، عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها.
هذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلهم أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبئس الحكم حكمهم.
قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما الله، ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله.
إنهم لم يعدلوا في قسمتهم الزروع والثمار والأنعام، فما جعلوه لله بزعمهم صرفوه لأوثانهم، وما جعلوه لأوثانهم قدموه لها.
وقد ارتكبوا ظلما عظيما بوأد البنات: وهو دفن البنت حية مخافة السّباء والحاجة، ولعدم ما حرمن من النصرة، أي أنهم لا يستطيعون الغزو والقتال.
وشركاؤهم وهم الذين كانوا يخدمون الأوثان، أو الغواة من الناس أو(8/62)
الشياطين هم الذين زينوا لهم قتل أولادهم ليهلكوهم، وليخلطوا عليهم دينهم الذي ارتضى لهم، أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل.
وقد صنفوا أموالهم وأقواتهم ثلاثة أصناف، صنف لمعبوداتهم وأوثانهم، وصنف حرّمت ظهورها، وصنف لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، افتراء وكذبا على الله بما لم يشرعه، وسيلقون جزاء افترائهم.
وخصصوا ألبان الأنعام وذكورها لذكورهم الرجال، وحرموها على الإناث، وجعلوا الميتة شركة بين الذكور والإناث، وتركوا الأنثى للنتاج، سيجزيهم الله وصفهم، أي كذبهم وافتراءهم، أي يعذبهم على ذلك.
وكان أشد أنواع عاداتهم وأحكامهم ظلما وجرما قتلهم الأولاد أي البنات وتحريم ما أحل الله، بدليل أنه كرر الله توبيخهم عليه في هذه الآيات، وحكم عليهم بسبعة أمور «1» :
1- الخسران: لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد.
2- السفاهة: وهي الخفة المذمومة لأن قتل الولد لخوف الفقر، والفقر وإن كان ضررا، إلا أن القتل أعظم منه ضررا، والفقر موهوم والقتل ضرر حتمي.
3- الجهل وعدم العلم: لأن هذه السفاهة تولدت من عدم العلم، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح.
4- تحريم ما أحل الله لهم، وهو من أعظم أنواع الحماقة، لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات.
__________
(1) تفسير الرازي: 13/ 209(8/63)
5- الافتراء على الله: ومن المعلوم أن الجرأة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب والكبائر.
6- الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا.
7- إنهم ما كانوا مهتدين، وهو وصف لازم دائم لهم.
روي أن رجلا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «مالك تكون محزونا؟» فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله لي، وإن أسلمت! فقال له: «أخبرني عن ذنبك» فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت، فتشفّعت إليّ امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها فدخلتني الحميّة ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلّي، وأخذت على المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر، فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: أيش تريد أن تفعل بي! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحميّة، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمّي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني.
فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقال: لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 97(8/64)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
الأدلة الواضحة على قدرة الله تعالى
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
الإعراب:
وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ معطوف بالنصب على جَنَّاتٍ، وجَنَّاتٍ: منصوب بأنشأ مُخْتَلِفاً حال مقدرة، أي سيكون كذلك، لأنها في أول ما تخرج لا أكل فيها، وإنما توصف باختلاف الأكل وقت إطعامها.
حَمُولَةً وَفَرْشاً منصوب بالعطف على جَنَّاتٍ، وتقديره: وأنشأ من من الأنعام حمولة وفرشا.(8/65)
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ منصوب من خمسة أوجه: إما بفعل مقدر، أي وأنشأ ثمانية أزواج، وإما بفعل تقديره: كلوا لحم ثمانية، أو بدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً أو بدل من مِمَّا في قوله: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، أو بدل من ما في قوله: وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي حرموا ثمانية أزواج.
ومِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ بدل من ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي اثنتين من الضأن، واثنتين من المعز، واثنتين من الإبل، واثنتين من البقر.
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ منصوب بحرم، والْأُنْثَيَيْنِ معطوف على آلذَّكَرَيْنِ. وأَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ: معطوف على الْأُنْثَيَيْنِ.
البلاغة:
حَمُولَةً وَفَرْشاً بينهما طباق، لأن الأولى كبار، والثانية صغار خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة للتحذير من طاعة الشيطان.
المفردات اللغوية:
أَنْشَأَ خلق وأوجد بالتدريج جَنَّاتٍ بساتين مزدانة بالأشجار وسميت جنات لأنها تجن الأرض، أي تسترها مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على العرائش والدعائم لتمتد عليها الأغصان كالكروم، يقال: سقف البيت: عرشه وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ متروكات على وجه الأرض لم تعرش أو مستغنية بسوقها وأغصانها عن التعريش مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي يختلف ثمره وحبه في الهيئة والطعم مُتَشابِهاً في النظر وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطعم وَآتُوا حَقَّهُ زكاته يوم حصاده أي قطافه من العشر أو نصفه وَلا تُسْرِفُوا بإعطاء كله، فلا يبقى لعيالكم شيء الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين ما حد لهم.
حَمُولَةً هي الكبار التي تطيق الحمل والعمل، وتصلح لهما، كالإبل والبقر الكبار وغيرها وَفَرْشاً هي الصغار التي لا تصلح للحمل والعمل، كصغار الإبل وغيرها وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرائقه من التحريم والتحليل، ومعنى الخطوة: المسافة بين القدمين عَدُوٌّ مُبِينٌ أي بيّن العداوة.
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أصناف مِنَ الضَّأْنِ الضَّأْنِ الغنم ذوات الصوف، والْمَعْزِ ذوات الأشعار اثْنَيْنِ زوجين اثنين: ذكر وأنثى آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ قل يا محمد لمن حرم ذكور(8/66)
الأنعام تارة وإناثها أخرى، ونسب ذلك إلى الله: آلذكرين حرم الله عليكم أم حرم الأنثيين منهما والاستفهام للإنكار. أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ هي الأجنة. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أخبروني عن كيفية تحريم ذلك، إن كنتم صادقين فيه، فمن أين جاء التحريم؟ فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام، وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام، وإن كان مما اشتملت عليه الأرحام فهي تشتمل على الصنفين: الذكر والأنثى، فمن أين جاء التخصيص؟
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حضورا إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم، فاعتمدتم ذلك، لا، بل أنتم كاذبون فيه فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد.
سبب النزول: نزول الآية (141) :
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ: أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، فنزلت هذه الآية:
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وروي عنه أنه قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا سوى الزكاة، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فقال الله: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
وأخرج الطبري أيضا عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس: جذ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى، وليست له ثمرة، فقال الله: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «1» .
المناسبة:
عرف مما سبق أن مدار القرآن الكريم على إثبات أصول الدين وهي التوحيد والنبوة، والبعث (المعاد) والقضاء والقدر. وقد أثبتها تعالى، وندد بمن أنكر شيئا منها، ولما أتم المطلوب منها، عاد إلى المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير توحيد الله، بإثبات الألوهية والربوبية له، وإفراده بالعبادة وحق
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 45(8/67)
التشريع، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا خالق عداه، ولا مشرّع في عبادة وتحليل وتحريم غيره، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ.
وفي ثنايا إبراز مظاهر القدرة الإلهية امتن الله على المشركين وغيرهم بما يسره لهم من الرزق، وندد بما افتروه على الله من الكذب من الشرك وعدم الإيمان بالقضاء والقدر.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار، والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسموها، فجعلوا منها حراما وحلالا، فقال:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ....
أي إن الله هو الذي أوجد البساتين والكروم المشجرة، سواء منها المعروش أي الذي يحمل على العرش: وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها، وغير المعروش: وهو الملقى على وجه الأرض، أو المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش كبقية أشجار الفاكهة، حتى بعض كروم العنب نفسها، منها المعروش وغير المعروش. وخلق أيضا النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل. وأفرد النخل بالذكر لكثرته عند العرب، ولجماله، ولما له من منافع كثيرة بكل أجزائه، ولبقاء ورقه دون سقوط في مختلف الفصول، حتى شبّه المؤمن في الحديث النبوي به.
وأنشأ سبحانه الزرع المختلف الأنواع والأكل: وهو الثمر المأكول، والذي به حياة بني آدم، وهو يشمل كل ما يزرع صيفا وشتاء، وأفرده الله بالذكر كالنخل، كما فيهما من الفضيلة.
وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هي الغذاء الأساسي.(8/68)
وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم والأكل.
وكل هذه الأنواع يسقي بماء واحد وفي تربة واحدة، ولكن كل نوع يختلف عن الآخر طعما ولونا ورائحة ووقت نضج يتناسب مع حاجة الإنسان في زمن البرد والحر والاعتدال، مما يدل على قدرة الخالق عليها، وإبداع المنشئ المكون لأصنافها، وذلك هو الله الواحد الأحد المتفرد بإمداد الرزق وبالتشريع المناسب.
وقد أباحها الله الإنسان وامتن بإنعامه بها عليه، فقال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أي كلوا من ثمرات ما أنبت الله إذا أثمر ولو لم ينضج، وفائدة التقييد بقوله: إِذا أَثْمَرَ الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو الزكاة.
ثم جاء التكليف الواجب فيها وهو الزكاة المفروضة، فقال تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أي وأخرجوا الزكاة المفروضة فيه يوم الحصاد: وهو وقت قطعه بعد تمام نضجه، ويتبعه زمن الدوس، لفصل الحب عن التبن، ويدخل في الحصاد: جني العنب وصرم النخل وقطف الفاكهة. والحق المفروض: هو العشر فيما سقي بالمطر، ونصف العشر فيما سقي بالنهر والبئر ونحوهما من الينابيع. ويعطى الحق المقرر شرعا للمستحقين وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.
وللعلماء رأيان في الحق الواجب في الثمر، فقال ابن عباس: إنه الزكاة المفروضة، وهي العشر أو نصفه.
وروي عن ابن عباس أيضا وهو قول سعيد بن جبير: إنه ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد. وكان ذلك واجبا من غير تعيين المقدار لأن هذه(8/69)
الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فنسخ هذا الواجب بافتراض العشر ونصف العشر، وهو الزكاة.
وقيل: إن الآية مدنية، والحق أن المراد بها هو الزكاة المفروضة، والمعنى:
واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
ثم نبّه القرآن إلى منهجه المعروف وهو الوسطية والتوسط في الأمور والاعتدال في كل شيء، فقال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ... أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف في الأكل، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف 7/ 31] ولا تسرفوا أيضا في الصدقة، كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة، ففرق ثمرها كله، ولم يدخل شيئا إلى منزله، كما قال تعالى: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] .
وقال الزّهري: المعنى: لا تنفقوا في معصية الله، وروي نحوه عن مجاهد فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال: لو كان أبو قبيس- جبل بمكة- ذهبا، فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى، لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. ومن هذا الاتجاه قول بعض الحكماء: لا سرف في الخير، ولا خير في السّرف.
والحق: أن الإسراف في كل شيء خيرا كان أو غيره خطأ، سواء في الأكل أو التّصدق لأن على الإنسان واجب الإنفاق على نفسه وعلى أهله وذويه وأولاده، حتى إنه إن لم يكن له أولاد، فادّخار شيء من دخله أمر محمود، لإنفاقه في حوائج المستقبل، وحتى لا يصبح عالة على الآخرين، ولذا يحجر على السّفيه المبذر شرعا، ولو كان الإنفاق في سبل الخير. جاء في صحيح البخاري تعليقا:
«كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» .(8/70)
ومن تمام فضل الله ونعمته ورحمته أنه أنشأ لكم أيها الناس من الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) كبارا صالحة للحمل، وصغارا كالفصلان، والغنم والمعز، هي كالفرش المفروش عليها، تفرش على الأرض للذّبح، ويتّخذ من شعرها ووبرها الفرش واللباس. وهذا مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس 36/ 71- 72] ، وقوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ [النحل 16/ 66] .
ثم كرر الله تعالى إباحة الأكل من الأنعام كإباحته من الزّرع، فقال: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا من هذه الأنعام، كما تأكلون من الثمار والزّروع، فكلها خلقها الله، وجعلها رزقا لكم، وانتفعوا بها بسائر أنواع الانتفاع المباحة شرعا.
ولا تتبعوا خطوات الشّيطان، أي طريقه وأوامره، كما اتّبعها المشركون الذين حرّموا ما رزقهم الله من الثّمار والزّروع والأنعام، افتراء على الله، وإيّاكم أن تحرّموا ما لم يحرّمه الله عليكم، فذلك إغواء من الشّيطان، والله قد أباحها لكم، والله مصدر التّشريع والتّحريم والتّحليل لأنه هو الخالق المبدع لجميع الكائنات، وهو المتصرّف فيها، فليس لغيره أن يحرّم أو يحلّل برأيه.
إن الشّيطان لكم أيها الناس عدوّ مبين، أي بيّن ظاهر العداوة، لا يأمر إلا بالسّوء والفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر 35/ 6] ، وقال:
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 169] .
والأنعام التي هي حمولة وفرش ثمانية أصناف، فإنّ الحمولة: إما إبل وإما بقر، والفرش: إما ضأن وإما معز، وكلّ قسم من هذه الأربعة: إما ذكر وإما(8/71)
أنثى، وقد أنشأ الله من الضّأن زوجين اثنين: الكبش والنّعجة، ومن المعز زوجين اثنين: التّيس والعنزة، ومن الإبل اثنين: الجمل والنّاقة، ومن البقر اثنين: الثّور والبقرة.
قال لمشركي العرب أيّها الرّسول إنكارا لصنعهم بتقسيم الأنعام إلى بحيرة وسائبة ووصيلة وحام وغير ذلك مما ابتدعوا فيها: أحرم الله الذّكرين من الكبش والتّيس؟ أم حرّم الأنثيين من النّعجة والعنز؟ أم حرّم ما حملت إناث النّوعين؟
يعني هل يشتمل الرّحم إلا على ذكر أو أنثى، فلم تحرمون بعضا وتحلّون بعضا؟
أخبروني عن يقين، كيف حرّم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك؟ أخبروني ببيّنة تدلّ على هذا التّحريم من كتاب الله، أو خبر نبي من الأنبياء إن كنتم صادقين في ادّعاء التّحريم.
والحقيقة أنه لا منطق في تقسيم العرب في الجاهلية قبل الإسلام لأنواع الأنعام، فمنها الحرام ومنها الحلال، فإن كان المحرّم منها الذّكر، وجب أن يكون كلّ ذكورها حراما، وإن كان المحرّم منها الأنثى، وجب أن يكون كلّ إناثها حراما، وإن كان المحرّم منها ما حملته الأجنّة في بطون الإناث، وهي تشتمل على الذّكر والأنثى، وجب تحريم الأولاد كلّها.
والله تعالى ما حرّم عليهم شيئا من هذه الأنواع، وإنهم لكاذبون في دعوى التّحريم، ولا أحد في الدّنيا أظلم ممن يفتري الكذب على الله، فيدّعي أنه حرّم شيئا ولم يحرّمه، ونسب إليه تحريم ما لم يحرم، من أجل إضلال النّاس، وهو عمرو بن لحيّ بن قمعة الذي بحر البحائر، وسيّب السّوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وغيّر دين الأنبياء، إن الله لا يهدي إلى الحقّ والخير القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، فشرعوا ما لم يشرع الله تعالى.
ثمّ شدّد الله تعالى الإنكار عليهم والتّهكم بهم فقال: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ..(8/72)
أي هل كنتم حضورا شاهدتم ربّكم، فوصّاكم بهذا التّحريم؟ وأمركم فيما ابتدعتموه وافتريتموه من تحريم ما لم يحرّمه الله، وإنما هو محض الافتراء والكذب على الله، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، بقصد الإضلال عن جهل تام، والله تعالى، جزاء لهذا الظلم، لا يوفق للرّشاد من افترى عليه الكذب، ولا يهديه إلى الحقّ والعدل، بل يحجبه عن إدراك الصواب وما فيه المصلحة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الله تعالى خالق الكائنات هو مصدر شيئين أساسيين في هذه الحياة: فهو مصدر بقاء الناس بإمدادهم بالنّعم الكثيرة الوفيرة، ومصدر التّشريع الصالح لكل زمان ومكان، إبقاء على النظام الأصلح، وحفاظا على مصالح البشر، أفرادا وجماعات.
والمقصود من ذلك تقرير التّوحيد، وإثبات الألوهيّة والرّبوبيّة لله عزّ وجلّ، فإن في آية: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ.. ثلاثة أدلّة:
أحدها- أن المتغيّرات لا بدّ لها من مغيّر.
الثاني- المنّة من الله سبحانه علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيّب الطّعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك في ابتداء الخلق لأنه لا يجب عليه شيء.
الثالث- إظهار القدرة الإلهيّة في أشياء كثيرة، منها صعود الماء (النسغ) في الشّجر من الأدنى إلى الأعلى، مع أن من شأن الماء الانحدار والهبوط، ومنها تعدّد أنواع الثّمار والأشجار والزّروع، وتنوّع أصنافها وألوانها وطعومها وأشكالها.
ودلّت آية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ على وجوب الزّكاة المفروضة في الزّروع والثّمار: العشر ونصف العشر.
وقال جماعة: هو حقّ في المال سوى الزّكاة، أمر الله به ندبا.(8/73)
وقد تمسّك أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم
الحديث النّبوي الذي رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر: «فيما سقت السّماء العشر، وفيما سقي بنضح «1» أو دالية «2» نصف العشر»
في إيجاب الزّكاة في كلّ ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره، إلا الحطب والحشيش والقضب (البرسيم) والتين، والسّعف «3» وقصب الذريرة «4» ، وقصب السّكر.
ورأى الجمهور أن الحديث لا يدلّ على ذلك، وإنّما المقصود منه بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر.
قال ابن عبد البر: لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أنّ الزّكاة واجبة في الحنطة والشعير والتّمر والزّبيب.
فيكون للعلماء رأيان في زكاة ما تخرجه الأرض:
الرّأي الأول لأبي حنيفة: تجب الزّكاة في قليل ما أخرجته الأرض إلا ما استثني سابقا، ودليله ظاهر الآية والحديث المتقدّم.
الرّأي الثاني للجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة: لا تجب زكاة الزّروع والثّمار إلا فيما يقبل الاقتيات والادّخار، وعند الحنابلة: فيما ييبس ويبقى ويكال، ولم يوجب الشّافعي الزّكاة في الثّمار غير العنب والتّمر
لأن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أخذ الزّكاة منهما
،
ولا زكاة في الخضروات والفواكه لأنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عفا عنها وقال فيما رواه التّرمذي عن معاذ في الخضروات: «ليس فيها شيء»
، ولا بدّ من بلوغ
__________
(1) النّضح: سقي الزّرع وغيره بالسّانية: وهي النّاقة التي يستقى عليها.
(2) الدّالية: النّاعورة يديرها الماء، والأرض التي تسقى بدلو أو بناعورة.
(3) السّعف: جريد النّخل، واحدها سعفة.
(4) الذريرة: قصب يجاء به من الهند.(8/74)
النّاتج خمسة أوسق (653 كغ)
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم عن جابر: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» .
وإنما لا يشترط مضي الحول (العام الزّكوي) في زكاة النّاتج من الأرض لأنه يكمل نماؤه باستحصاده، لا ببقائه، واشترط الحول في غيره من الزّكوات لأنه مظنّة لكمال النّماء في سائر الأموال.
والصّحيح وهو رأي أبي حنيفة وجوب الزّكاة وقت الجذاذ، لقوله تعالى:
يَوْمَ حَصادِهِ والمشهور من مذهب المالكية يوم الطّيب لأن ما قبل الطّيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به، وجب الحق الذي أمر الله به.
والمعتمد عند الشافعية والحنابلة: وجوب الزّكاة في الثّمار: ببدو صلاح الثّمر لأنه حينئذ ثمرة كاملة، وهو قبل ذلك حصرم وبلح، وفي الحبوب: ببدو اشتداد الحبّ لأنه كما قال المالكية حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل.
لكن خرص الثّمار أي تخمينها وتقديرها يكون بعد الطيب
لحديث عائشة فيما أخرجه الدّارقطني قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث ابن رواحة إلى اليهود، فيخرص عليهم النّخل حين تطيب أوّل الثمرة، قبل أن يؤكل منها، ثم يخيّر يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه.
وإنما كان أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخرص لكي تحصى الزّكاة، قبل أن تؤكل الثّمار وتفرّق.
ودلّت آية وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً على مقدار نعمة الله بتسخير الأنعام للإنسان للرّكوب والحمل والعمل، وللاستفادة من لحومها وأوبارها وأصوافها وأشعارها. والأنعام كما قال أحمد بن يحيى وهو الأصحّ: كلّ ما أحلّه الله عزّ وجلّ(8/75)
من الحيوان لقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة 5/ 1] .
ومن أجل بقاء نوع الحيوان جعل فيه كالإنسان صنفي الذّكر والأنثى، للتّوالد والتّكاثر والتّكامل، لذا كان تحريم الذّكور دون الإناث أو بالعكس معارضا لحكمة الشّرع.
وآية ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.. احتجاج على المشركين فيما حرّموه اعتباطا من البحائر والسّوائب والوصائل والحام وغيرها، كما قالوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام 6/ 139] .
وذلك دليل على إثبات المناظرة في العلم لأن الله تعالى أمر نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأن يناظرهم، ويبيّن لهم فساد قولهم.
وفي هذه الآية أيضا إثبات القول بالنظر والقياس.
وفيها دليل على أنّ القياس إذا ورد به النّص بطل القول به، ويروى: «إذا ورد عليه النّقض» لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصّحيحة، وأمرهم بأن تكون علّة القياس مطّردة في جميع الأشباه والنّظائر. وهذا مستفاد من معنى الآية: قل لهم: إن كان الله حرّم الذّكور فكلّ ذكر حرام، وإن كان حرّم الإناث فكلّ أنثى حرام، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضّأن والمعز، فكلّ مولود حرام، ذكرا كان أو أنثى، لأن كلها مولود، فكلّها إذن حرام، لوجود العلّة فيها، فبيّن تعالى بهذه المناظرة أو المناقشة ورود الانتقاض عليهم وفساد قولهم، لأن ما فعلوه من ذلك افتراء على الله، فمن أين هذا التحريم المزعوم؟ ولا علم عندهم لأنهم لا يقرءون الكتب، وهل شاهدتم الله قد حرّم هذا. ولما لزمتهم الحجّة أخذوا في الافتراء، فقالوا: كذا أمر الله، فردّ الله(8/76)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
عليهم: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وهو دليل على أنهم كذبوا، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل.
المطعوم المحرّم على المسلمين والمحرّم على اليهود
[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
الإعراب:
طاعِمٍ اسم فاعل من طعم يطعم، وأكثر ما يجيء اسم الفاعل من فعل يفعل إذا كان لازما على فعل، ويجيء على فاعل إذا كان متعدّيا كعلم يعلم فهو عالم. ويَطْعَمُهُ مضارع طعم. مَيْتَةً خبر يَكُونَ، واسمها ضمير مستتر، وتقديره: إلا أن يكون المأكول ميتة، ومن قرأ بالرّفع جعل يَكُونَ تامّة، ومَيْتَةً فاعل مرفوع بها، ولا تفتقر إلى خبر.
أَوِ الْحَوايا إما مرفوع عطفا على قوله: ظُهُورُهُما، وإما منصوب عطفا على شُحُومَهُما في قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ. وشُحُومَهُما في موضع نصب على الاستثناء من الشحوم، وهو استثناء من موجب، أو منصوب عطفا على قوله: شُحُومَهُما وتقديره: حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ذلِكَ: في موضع نصب، لأنه مفعول ثان لجزيناهم، وتقديره:
جزيناهم ذلك ببغيهم.(8/77)
البلاغة:
غَفُورٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة، أي كثير المغفرة والرّحمة.
رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فرّق بين الجملتين، فجعل الأولى جملة اسميّة لأنها أبلغ من الفعليّة، ليناسب وصف الرّحمة، وجعل الثانية فعليّة: وَلا يُرَدُّ لتكون أقل في الإخبار عن وصف العقاب.
المفردات اللغوية:
مُحَرَّماً شيئا محظورا أو ممنوعا. طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أكل يأكله. مَيْتَةً بهيمة ماتت حتف أنفها. أَوْ دَماً مَسْفُوحاً سائلا يجري ويتدفّق من المذبوح، بخلاف غيره كالكبد والطّحال. رِجْسٌ قذر قبيح حرام نجس. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ذبح على غير اسم الله، للأصنام، والإهلال: رفع الصّوت. فَمَنِ اضْطُرَّ أي دعته ضرورة إلى تناول شيء منه كجوع شديد أو عطش شديد أو غصص. غَيْرَ باغٍ أي غير قاصد له. وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة.
الَّذِينَ هادُوا اليهود، لقولهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف 7/ 156] أي رجعنا وتبنا. كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنّعام، والظفر للإنسان وغيره مما لا يصيد، والمخلب: لما يصيد. شُحُومَهُما الشّحم: ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من الدّهن. إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي علقت بها. أَوِ الْحَوايا أي حملته الأمعاء، جمع حاوية وحاوياء.
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ منه أي من الشّحم، وهو شحم الألية، فإنه أحل لهم. ذلِكَ التحريم. جَزَيْناهُمْ به. بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ في أخبارنا ومواعيدنا. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما جئت به فَقُلْ لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، وفيه تلطّف بدعوتهم إلى الإيمان. وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عذابه إذا جاء.
سبب النزول: نزول الآية (145) :
قُلْ: لا أَجِدُ..: أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء، ويستحلّون أشياء، فنزلت: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية.(8/78)
المناسبة:
ردّ الله تعالى في الآيات السابقة على المشركين الذين كانوا يحرّمون ويحلّلون من الأنعام بحسب أهوائهم، وأبان أن التّحريم والتّحليل لا يثبت إلا بالوحي، ثم أوضح هنا أنّ المطعومات المحرّمات على الآكلين هي أربعة فقط: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير فإنه رجس، والفسق: وهو الذي أهل به لغير الله.
التفسير والبيان:
بيّن الله تعالى في هذه السّورة المكيّة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة، وأتى بها بصيغة الحصر، مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة، وأكّد ذلك في سورة النّحل فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النّحل 16/ 115] .
وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، فدلّت آيتان مكيّتان على حصر المحرّمات في هذه الأربعة، وكذلك دلّت آية مدنيّة في سورة البقرة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة 2/ 173] ، وكلمة إِنَّما التي تفيد الحصر مطابقة لقوله: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً.
ثم ذكر الله تعالى في سورة المائدة قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة 5/ 1] ، وأجمع المفسّرون على أن المراد بقوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل، وهو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ، إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وكل هذه الأشياء من أنواع الميتة، وأنه تعالى إنما أعادها بالذّكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتّحليل، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.(8/79)
والقصد هو الرّد على مشركي العرب لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات والمحللات إلا بالوحي، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصّلاة والسّلام، ولم ينزل في الموضوع غير هذه الآية ونظائرها، كان هذا مبالغة في بيان انحصار التّحريم في هذه الأربعة فقط.
المعنى: يقول الله تعالى آمرا رسوله: قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما رزقهم الله، افتراء على الله: لا أجد محرّما على آكل يأكله سوى هذه الأمور الأربعة وهي ما يلي:
الميتة:
وهي التي ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي، وذلك يشمل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ونحوها. وتحريمها لمضرّتها، وانحباس الدم فيها، مما يؤدي إلى تسممها، وتفسّخ لحمها، وإيذاء من تناول شيئا منها.
والدّم المسفوح:
أي الدّم المهراق السائل الذي يجري ويتدفق من عروق المذبوح. وهذا يدلّ على أنّ المحرّم من الدّم ما كان سائلا، قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذّبح، فلا يدخل فيه الدّم الجامد كالكبد والطّحال لجمودهما، ولا الدّم المختلط باللحم في المذبح، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدّم، فإن ذلك كله ليس بسائل. وقال عكرمة في قوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً: لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود.
وجاء في الحديث الذي يرويه البيهقي في سننه والحاكم عن ابن عمر: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد- أو السمك والجراد- وأما الدّمان: فالكبد والطحال» .
وسبب تحريم الدّم المسفوح: اشتماله على أنواع الجراثيم والميكروبات لأن الدّم بيئة صالحة لتفريخ الميكروبات ومباءة للجراثيم.
ولحم الخنزير:
ومثله شحمه وسائر أجزاء جسده، ومثله أيضا الكلب،(8/80)
فكلّ ذلك كالميتة والدّم رجس وقذر، تعافه النفوس الطيبة والطباع السليمة، وهو ضار بالبدن.
واستدلّ الشافعية بقوله تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير، بناء على عود الضمير إليه لأنه أقرب مذكور.
والفسق:
وهو ما أهل لغير الله أي ما ذبح لغير الله ولم يذكر عليه اسم الله، أي ما يتقرب به إلى غير الله تعبّدا، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه، وهو المذبوح على النّصب وعند الأوثان، أو بعد المقاسمة عليه بالأزلام أي القمار.
ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة، فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ.. أي فمن كان في حال ضرورة الجوع الملجئة بسبب فقدان الحلال، مما دعاه إلى أكل شيء من هذه المحرّمات، حال كونه غير قاصد له، ولا متجاوز حدّ الضرورة، فإن الله يغفر له ويرحمه حفاظا على حقّ الحياة، فلا يؤاخذه بأكل ما يسدّ به الرّمق، ويدفع عنه ضرر الهلاك.
والخلاصة: إنّ الغرض من هذه الآية الكريمة الرّد على المشركين الذين ابتدعوا تحريم المحرّمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرّم، وإنّما حرّم أربعة أشياء هي: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به، لما فيها من الضّرر المادي أو المعنوي الذي يمسّ العقيدة وعبادة الله، ولأن لحومها خبيثة، ومن مهام هذا النّبي إباحة الطّيبات وتحريم الخبائث: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف 7/ 157] .
لكن الحصر المستفاد من هذه الآية وأمثالها أمر نسبي لا مطلق، وهذه الآية مخصوصة بالآيات والأخبار الدّالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة، مثل قوله(8/81)
تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فهو يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة كالنّجاسات وهو أم الأرض، ومثل
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية»
،
وما روياه عن أبي ثعلبة الخشني: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السّباع»
، وفي رواية ابن عباس: «وأكل كل ذي مخلب من الطّير» ،
وما روياه عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس فواسق من الدّواب كلّهن فاسق، يقتلن في الحلّ والحرام: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأر، والكلب العقور»
، ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ، لأن القتل إنما يكون بغير ذبح شرعي، فثبت أنها غير مأكولة، ولأن ما يؤكل لا ينهى عن قتله.
وخصّص الشافعية الآية أيضا بما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «واستخبثته العرب، فهو حرام»
، ومضمون رأيهم أن الحيوان الذي لم يرد فيه نص بخصوصه بالتّحليل أو التّحريم، ولم يؤمر بقتله، ولم ينه عن قتله، فإن استطابته العرب، فهو حلال، وإن استخبثته العرب فهو حرام. ودليلهم قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف 7/ 157] ، وقوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة 5/ 4] ، قالوا:
وليس المراد بالطّيب هنا: الحلال إذ لا معنى له، لأن تقديره: أحلّ لكم الحلال، وإنما المراد بالطّيّبات: ما يستطيبه العرب. والمراد بالخبائث:
ما يستخبثونه، ويراعى في ذلك عاداتهم العامة في الاستيطاب والاستخباث، ولا ينظر إلى الأعراف الخاصة لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام.
واحتجّ كثير من السّلف بظاهر الآية، فأباحوا ما عدا المذكور فيها، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ، فقرأ الآية.(8/82)
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن أكل كل ذي ناب من السّباع ومخلب من الطّير، قالت: قُلْ: لا أَجِدُ ... إلخ.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدّواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه: قُلْ: لا أَجِدُ الآية. واستدلّ بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرّم من الميتة ما يأتي فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه، وقد فهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم من النّظم الكريم ذلك، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة،
وفي رواية: لميمونة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها- جلدها-» ، فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما قال الله تعالى: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً وإنّكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به» .
ثم أخبر الله سبحانه عما حرّمه على بني إسرائيل خاصة، عقوبة لهم، على سبيل المقارنة بما شرعه القرآن للمسلمين، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا.. أي وحرّمنا على اليهود دون غيرهم كل ذي ظفر: وهو كلّ ما ليس منفرج الأصابع، أو مشقوق الأصابع من البهائم والطير، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير.
وحرّمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة، لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، وهي ما على الكرش والكلى فقط، أما شحوم الظّهر والذّيل فحلال لقوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وإلا الْحَوايا: ما حملته الأنعام، وإلا مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فكل هذه الشحوم أحللناه لهم.(8/83)
ذلك التّحريم الذي حرّمناه عليهم بسبب بغيهم، وعقوبة لهم، لقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وصدّهم عن سبيل الله، وأخذهم الرّبا، واستحلالهم أموال النّاس بالباطل.
وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم: إن الله لم يحرّم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرّمه إسرائيل على نفسه.
ولما كان هذا إخبارا عمّا حكم الله به على اليهود في الماضي، ولم يكن لأحد به علم، وردّا على قولهم: لم يحرّم علينا شيء، قال تعالى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ قال الطبّري: أي لصادقون في إخبارنا بهذه الأخبار من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا، من أن إسرائيل هو الذي حرّمه على نفسه، ومن أصدق من الله حديثا، وقال ابن كثير: أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به.
فإن كذّبوك يا محمد بعد هذا أي اليهود، كما قال مجاهد والسّدي، أو مشركو مكة، والصواب: فإن كذّبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود وأشباههم في ادّعاء النّبوة والرّسالة، وفي تبليغ الأحكام فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتّباع رسوله، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي لا يردّ عذابه عن كلّ مجرم، وهذا ترهيب لهم من مخالفتهم الرّسول خاتم النّبيين صلّى الله عليه وسلّم.
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين التّرغيب والتّرهيب في القرآن، كما قال تعالى في آخر هذه السّورة إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت آية: قُلْ: لا أَجِدُ.. على تحريم أربعة أشياء، هي: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير، والمذبوح للأصنام تعبّدا، وبما أن الآية مكية فمعناها وما يستفاد منها مقصور على هذه الأربعة، أي قُلْ يا محمد،(8/84)
لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ إلا هذه الأشياء، لا ما تحرّمونه بشهوتكم، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرّم غير هذه الأشياء، كما قال القرطبي، ثم نزلت سورة [المائدة] بالمدينة. وزيد في المحرّمات من أصناف الميتة المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة ونحوها، كما زيد تحريم الخمر.
وحرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السّباع وكلّ ذي مخلب من الطّير.
وأكثر أهل العلم أن كل محرّم حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو جاء في القرآن مضموما إلى هذه المحرّمات، فهو زيادة حكم من الله عزّ وجلّ على لسان نبيّه عليه الصّلاة والسّلام. مثل زواج المرأة على عمّتها وعلى خالتها، مع قوله تعالى:
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] ، وحكمه عليه الصّلاة والسّلام باليمين مع الشاهد مع قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [البقرة 2/ 282] . وآية: قُلْ: لا أَجِدُ ... هي جواب لمن سأل عن شيء بعينه، فوقع الجواب مخصوصا.
وقال مالك: لا حرام بيّن إلا ما ذكر في هذه الآية، ولهذا قال بعض المالكية: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح.
ودلّت الآية أيضا على حكم استثنائي وهو حال الضرورة، فعند الاضطرار يزول تحريم المحرمات، لدفع خطر الهلاك، وحفاظا على حقّ الحياة.
وأما آية: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا فتدلّ على أنّ الله تعالى حرّم على اليهود عقوبة لهم أشياء أخرى سوى هذه الأربعة المذكورة في الآية السابقة، وهي نوعان، ولم يحرمهما على المسلمين.
النّوع الأوّل- كل ذي ظفر غير مشقوق الأصابع، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط.(8/85)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
والنّوع الثاني- شحوم البقر والغنم: وهي الشحوم الرقيقة التي تكون على الكرش والكلى. واستثنى الله تعالى من الشحوم ثلاثة أنواع لم يحرمها عليهم وهي: ما علق بالظهر ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما، والْحَوايا: قال الواحدي: وهي المباعر والمصارين، والمختلط بالعظم مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ:
وهو شحم الألية في قول جميع المفسّرين. قال ابن جريج: حرّم عليهم كلّ شحم غير مختلط بعظم أو على عظم، وأحلّ لهم شحم الجنب والألية لأنه على العصعص.
وقد احتجّ الشافعي بهذه الآية في أن من حلف ألّا يأكل الشحم، حنث بأكل شحم الظّهور لاستثناء الله عزّ وجلّ ما على ظهورهما من جملة الشّحم.
والصحيح مذهب عامة العلماء: أن اليهود لو ذبحوا أنعامهم، فأكلوا ما أحلّ الله لهم في التّوراة، وتركوا ما حرّم عليهم، لم يكن عليهم بأس فإنها محلّلة لنا لأن الله عزّ وجلّ رفع ذلك التّحريم بالإسلام، واعتقادهم فيه لا يؤثر لأنه اعتقاد فاسد، ويؤيده
أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أقرّ عبد الله بن مغفّل على الأكل من جراب شحم أصابه يوم خيبر.
وقيل في رواية عن مالك: هي محرّمة لأنهم يدينون بتحريمها، ولا يقصدونها عند الذّكاة (الذّبح الشّرعي) فكانت محرّمة كالدّم. وهو مذهب كبراء أصحاب مالك.
نسبة المشركين الشرك والتحريم إلى الله تعالى وإقامة الحجة عليهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)(8/86)
الإعراب:
هَلُمَّ اسم فعل أمر بمعنى هاتوا، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وبنو تميم تؤنث وتجمع.
البلاغة:
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وضع الظاهر موضع المضمر بأن يقال: ولا تتبع أهواءهم، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره، فهو متبع للهوى لا غير لأنه لو اتبع الدليل، لم يكن إلا مصدّقا بالآيات، موحدا لله تعالى.
المفردات اللغوية:
ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ أي أن إشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله، فهو راض به. كَذلِكَ كما كذب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم. بَأْسَنا عذابنا. هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ بأن الله راض بذلك. فَتُخْرِجُوهُ لَنا أي لا علم عندكم. إِنْ ما.
تَتَّبِعُونَ في ذلك. تَخْرُصُونَ تكذبون، وأصل معنى الخرص: الحزر والتخمين.
الْحُجَّةُ الدليل المبين الحق. الْبالِغَةُ التامة.
هَلُمَّ أحضروا. يَعْدِلُونَ يتخذون له عدلا مساويا، والمراد: يشركون.
المناسبة:
لما حكى الله تعالى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل، حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من أنواع الكفر أو الشرك،(8/87)
فيقولون: لو شاء الله منا ألا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر، وحيث لم يمنعنا عنه، ثبت أنه مريد لذلك، فإذا أراد الله ذلك منا، امتنع منا تركه، فكنا معذورين فيه.
وهذا حكاية عن لسان حالهم أو عما سيقولونه لأن الله محيط علمه بكل شيء سيقولونه، فهو من إخباره بالمغيبات قبل وقوعها.
التفسير والبيان:
هذه شبهة تشبّث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك، والتحريم لما حرموه، فأخبر بما سوف يقولونه.
إنهم يقولون: إن شركهم، وشرك آبائهم، وتحريمهم ما أحل الله من الحرث والأنعام، هو بمشيئة الله وإرادته، ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب الجبرية بعينه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل 16/ 35] وقوله عز وجل: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف 43/ 20] .
فردّ الله عليهم شبهتهم بقوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ ... أي مثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركي العرب وأهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى، وقصر التشريع والتحليل والتحريم عليه، وإبطال الشرك، كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم والعقل.
وذلك لأنهم كذبوا ما جاءت به الرسل، ولم ينظروا فيها، وإنما أعرضوا(8/88)
عنها، ولأن قولهم لو كان صحيحا لما عاقبهم الله تعالى على كفرهم لأن الله عادل، فلو كانت أعمالهم المكفّرة صادرة عنهم بإجبار أو إكراه وقهر، لما استحقوا العقاب عليها، ولما كرر تعالى قوله في القرآن مثلا: أخذناهم بذنوبهم، وأهلكناهم بظلمهم وكفرهم.
وهو معنى قوله: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم، مما يدل على أن كفرهم وتحليلهم وتحريمهم كان باختيارهم وإرادتهم، وإن كان الله تعالى قادرا على تغيير موقفهم، بأن يلهمهم الإيمان، ويحول بينهم وبين الكفر، وأن ذلك الموقف هو أيضا بإرادة الله لأنه لا يقع شيء في الكون بدون مشيئة الله وإرادته.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يطالبهم بالبرهان على ما زعموا فقال: قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ... أي هل لديكم أمر معلوم وبرهان واضح يصح الاحتجاج به فيما قلتم، فتخرجوه لنا أي تظهرونه وتبينونه لنا لنفهمه؟ وهذا الاستفهام تهكم وإظهار بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة، وتوبيخ لهم على ما يزعمون.
وحقيقة حالهم هي ما قال تعالى: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ... أي لا حجة ولا برهان على ما تقولون، وما تتبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد، وما أنتم إلا تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
ثم أثبت الله تعالى لذاته الإتيان بالدليل الساطع المبين للدين الحق فقال:
قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ.. أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الجاهلين بعد إفلاسهم وعجزهم عن الإتيان بدليل مقنع: لله تعالى الحجة التامة الكاملة على ما أراد من إثبات الحقائق وإبطال الباطل، وتقرير أصول الاعتقاد، وتشريع الأحكام الصائبة، وإلغاء ما تذهبون إليه بالآيات الكثيرة والمعجزات التي أيد بها الرسل.(8/89)
ولو شاء تعالى أن يهديكم وغيركم وجميع الناس بغير التعليم والإرشاد والنظر والاستدلال، لفعل، فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة، فلا يكون لكم دور في الاختيار، والإرادة، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، ويكون موقف مخالفيكم أيضا بمشيئة الله، فلا يصح أن تعادوهم، وعليكم أن توافقوهم ولا تخالفوهم لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام 6/ 35] وقوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 99] .
ثم أمر الله رسوله بمطالبة المشركين بأن يأتوا بشهود يشهدون على صحة ما يدعونه من تحريم الله هذه المحرمات، فقال: قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ ... أي أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم عن عيان أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه وكذبتم وافتريتم على الله فيه.
فإن شهدوا على سبيل الفرض، فلا تصدقهم، ولا تسلم لهم، ولا تقبل لهم شهادة إذ لو سلم لهم، فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم، وكان واحدا منهم، لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا، فهم شهود زور كاذبون. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله الدالة على وحدانيته وربوبيته ومنها حقه في التشريع والتحليل والتحريم، ولا تتبع هؤلاء الجاهلين المتبعين لأهوائهم الذين لا يوقنون بمجيء الآخرة، حتى يحملهم الإيمان على سماع الدليل إذا ذكر لهم، وهم يشركون بربهم، ويجعلون له عديلا يشاركه في جلب الخير ودفع الضر، والحساب والجزاء.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:(8/90)
1- إن اعتذار الكافرين عن كفرهم بما يشبه قول الجبرية: لو شاء الله منا ألا نشرك لم نشرك اعتذار مرفوض لم يقبله الله تعالى لأنه سبحانه أعطاهم عقولا كاملة، وأفهاما وافية، وأقدرهم على الخير والشر، وأزال الموانع بالكلية عنهم، فإن شاؤوا عملوا الخيرات، وإن شاؤوا عملوا المعاصي والمنكرات.
وقد أعانهم الله على حسن الاختيار بإنزاله الكتب، وإرساله الرسل والأنبياء، وإرشاده إلى التوحيد لله بالنظر في المخلوقات، وتأييده الرسل بالمعجزات، وتلك هي الحجة البالغة على أن الله واحد لا شريك له.
فأما علم الله تعالى وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه الإنسان إلا من ارتضى من رسول.
ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه، ولا مانع يمنعه، فهو مستطيع الإيمان، قادر على نبذ الكفر.
ولو كان الإنسان مجبرا على الكفر والمعصية كالريشة في مهب الرياح كما يزعم الجبرية، لما اقتضى العدل الإلهي تكليفه بشيء، وإثابته وعقابه في الآخرة.
وقد تبين بهذا بطلان شبهات الكافرين، ودحض حججهم أمام الحجج الإلهية القاطعة. فإن شهد بعضهم لبعض على صحة ما يقولون، فلا تصدق شهادتهم إلا من كتاب إلهي أو على لسان نبي، وليس معهم شيء من ذلك، وما هم إلا شهود كاذبون مبطلون فيما يخبرون.
والمطلوب الإتيان بشهود الحق لا شهود الزور والباطل، فإن قيل: كيف أمر الله نبيه باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ أجيب: أمره باستحضارهم، وهم شهداء بالباطل، ليلزمهم الحجة، ويظهر زيف شهادتهم، فيحق الحق، ويبطل الباطل.(8/91)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
المحرّمات العشر أو الوصايا العشر
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
الإعراب:
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ما اسم موصول بمعنى الذي، مفعول أَتْلُ، وحَرَّمَ رَبُّكُمْ: صلته، والعائد محذوف، وتقديره: حرّمه ربكم، فحذف الهاء العائدة للتخفيف. ويكون أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بدلا منصوبا من الهاء أو من ما.
وأَلَّا زائدة، وتقديره: حرّم أن تشركوا. ويجوز أن تكون أَلَّا تُشْرِكُوا خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو ألا تشركوا. ويجوز أن تكون «أن» بمعنى أي، و «لا» نهي، وتقديره:
أي لا تشركوا. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بحرّم، وتقديره: أي شيء حرم ربكم؟ ويجوز الوقوف على قوله: رَبُّكُمْ. ثم تبتدئ وتقرأ: عليكم ألا تشركوا، أي عليكم ترك الإشراك، فيكون أَلَّا تُشْرِكُوا في موضع نصب على الإغراء بعليكم.
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً أَنَّ في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ول. ن هذا صراطي. ويجوز قراءة أن مخفة من الثقلية. ويحوز قراءة إن بالكسر، على الابتداء، ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة من صِراطِي لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيما.(8/92)
البلاغة:
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فيه استعارة السبل للبدع والضلالات.
لا نُكَلِّفُ نَفْساً
التنكير لإفادة العموم.
وَبِعَهْدِ اللَّهِ
الإضافة للتشريف والتعظيم.
ظَهَرَ وبَطَنَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
تَعالَوْا أقبلوا. أَتْلُ أقرأ وأقص. «أن» مفسرة. إِمْلاقٍ أي فقر.
الْفَواحِشَ الكبائر، أي ما عظم جرمه وذنبه كالزنى. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي علانيتها وسرها. إِلَّا بِالْحَقِّ كالقود (القصاص) وحدّ الردة، ورجم المحصن. تَعْقِلُونَ تتدبرون.
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي ما فيه صلاحه. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
بأن يحتلم أو يكبر، وأَشُدَّهُ
: كمال رجولته ومعرفته. بِالْقِسْطِ
بالعدل وترك البخس. إِلَّا وُسْعَها
طاقتها في ذلك، فإن أخطأ في الكيل والوزن، والله يعلم نيته، فلا مؤاخذة عليه، كما ورد في الحديث. وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
أي إذا قلتم في حكم أو غيره فاعدلوا في القول. وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة. تَذَكَّرُونَ
تتعظون. السُّبُلَ الطرق المخالفة له. فَتَفَرَّقَ تميل. عَنْ سَبِيلِهِ دينه.
المناسبة:
بعد أنّ بيّن الله تعالى المحرّمات من المطعومات، ردّا على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، أردفه ببيان أصول المحرمات المعنوية (الأدبية) والمادية قولا وفعلا.
قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي عليها خاتمة، فليقرأ هؤلاء الآيات: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ إلى قوله:
تَتَّقُونَ. وقال ابن عباس: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ:
قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآيات.
وروى الحاكم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم يبايعني على ثلاث؟» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حتى فرغ من(8/93)
الآيات، ثم قال: «فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا، كانت عقوبته، ومن أخّر إلى الآخرة، فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه»
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
التفسير والبيان:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وحرموا وحللوا لأنفسهم بأهوائهم ووسوسة الشياطين لهم: هلموا وأقبلوا أقرأ وأقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم حقا وفعلا، ووحيا وأمرا من عنده، لا تخرصا وظنا، فلله وحده حق التشريع والتحريم، وأنا رسوله المبلغ عنه ما أنزل، وهي الوصايا العشر: خمسة بصيغة النهي، وخمسة بصيغة الأمر.
وخص التحريم بالذكر، مع أن الوصايا أعم لأن بيان المحرمات يستلزم حلّ ما عداها. وقد بدأها بالشرك بالله لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إثما.
وتلك الوصايا هي ما يأتي:
1- نبذ الشرك بالله:
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً: في الكلام محذوف وتقديره: وأوصاكم «1» ألا تشركوا به شيئا من الأشياء، وإن عظم خلقا كالشمس والقمر والكواكب، أو قدرا ومكانة كالملائكة والنبيين والصالحين، فكل ذلك مخلوق لله وعبيد له:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] .
فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم، وتتركوا ما شرعتم من العبادة بالأهواء.
__________
(1) دلّ على هذا التقدير قوله تعالى في آخر الآية: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.(8/94)
2- الإحسان إلى الوالدين:
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا صادرا من القلب.
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين حظر الشرك وطاعته وبرّ الوالدين، لأن الله تعالى مصدر الخلق والرزق، والأبوان واسطة، يقومان بعبء التربية ودفع الأذى والضرر عن الولد، قال تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] وقال عز وجل: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان 31/ 14- 15] لذا كان عقوق الوالدين من الكبائر، وبرّهما والإحسان إليهما من أفضل الأعمال،
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أيّ العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: برّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» .
وروى الحافظ ابن مردويه عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت، كل منهما يقول: أوصاني خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل» «1» .
والإحسان إلى الوالدين: معاملتهما معاملة كريمة نابعة من العطف والمحبة، لا من الخوف والرهبة. وكما يفعل الولد مع والديه يفعل أولاده معه ولو بعد حين،
روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم» .
3- تحريم وأد البنات:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ: لما أوصى تعالى ببرّ الوالدين والأجداد،
__________
(1) قال ابن كثير: ولكن في إسناديهما ضعف. [.....](8/95)
عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فذكر: ومما أوصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم خشية فقر يحل بكم، فإن الله يرزقكم وإياهم، أي يرزقهم تبعا لكم، فلا تخافوا الفقر الحاضر، ولا تخشوا الفقر المتوقع، فإن الله تعالى تكفل برزق العباد، ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً [الإسراء 17/ 31] . والفرق بين التعبيرين: أن تعبير سورة الأنعام يراد به: لا تقتلوهم من فقركم الحاصل، فبدأ برزق الآباء لأنه الأهم بسبب وجود الفقر الحاصل، وأما تعبير سورة الإسراء فيراد: لا تقتلوهم خوفا من الفقر في الآجل المستقبل، فبدأ برزق الأولاد للاهتمام بهم، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم، فهو على الله. وفي هذا إيماء إلى ضرورة الحفاظ على النوع الإنساني، بتحريم إيذاء الأصول (الآباء) والفروع (الأنباء) ورعاية كل منهما، ثم تحريم قتل النفس الإنسانية مطلقا المنصوص عليه في الوصية الخامسة.
4- تحريم اقتراف الفواحش:
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ: أي إياكم من الاقتراب من الفواحش وهي كل ما عظم جرمه وإثمه وقبحه من الأقوال والأفعال، كالزنى وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، سواء في الظاهر المعلن أو الباطن السري، وكان العرب في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنى سرا، ويعدون الزنى علانية قبيحا، فحرم الله النوعين، وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 33] .
وورد في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن»
وقال سعد بن عبادة فيما رواه الشيخان: لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح «1» ، فبلغ ذلك
__________
(1) المصفح: الممال، جاء
في الحديث: «قلب المؤمن مصفح على الحق»
أي ممال عليه.(8/96)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ فو الله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» .
وقيل: الظاهر: ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن: ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد. روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة:
قال: ما ظهر منها: ظلم الناس، وما بطن منها: الزنى والسرقة، أي لأن الناس يأتونهما في الخفاء.
5- منع قتل النفس بغير الحق:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ خصص النهي عن القتل تأكيدا واهتماما به، بالرغم من أنه داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أي حرم الله عليكم قتل النفس التي حرم الاعتداء عليها بالإسلام، أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام بعهد وأمان.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» .
وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا» .
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» .
وأما القتل بحق فله ثلاث حالات ورد بيانها
في حديث الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا(8/97)
بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» وفي لفظ: «كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» .
وما ذلك التحريم للقتل إلا لأنه جريمة كبري في حق الإنسانية، واعتداء على صنع الخالق، الذي أوجد وأتقن كل شيء خلقه.
ذلكم المحرم مما ذكر وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أوامره ونواهيه، أي ليعدكم لأن تعقلوا الخير والمصلحة في فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. والوصية:
أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر.
وتذييل الآية بهذه الخاتمة يدلّ على أن ما هم عليه من الشرك وتحريم بعض الأنعام مما لا تعقل له فائدة.
6- المحافظة علي مال اليتيم:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي لا تأخذوا شيئا من مال الأيتام الذين تتولون الإشراف عليهم، إلا بما فيه مصلحة ونفع لهم، في حفظ المال وتنميته، وحمايته من المخاطر، والإنفاق منه بحسب الحاجة، وذلك كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء 4/ 10] .
والنهي عن القرب عن الشيء أبلغ من النهي عن الشيء نفسه: لأن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هي مظنّة التأويل، كأن يأكل شيئا من ماله أثناء أداء عمل له فيه ربح. وقد نهى الله تعالى عن الأكل من مال اليتيم إلا لضرورة أو حاجة، فقال: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء 4/ 6] .(8/98)
وتسلّم الأموال إلى اليتامى حين بلوغهم سن الرشد، لذا قال تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
أي لا تقربوا مال اليتيم حتى يبلغ مبلغ الرجال في الحنكة والقوة واكتمال الملكات والمدارك العقلية، وذلك كما قال الشعبي ومالك وجماعة من السلف: حتى يحتلم، والاحتلام يكون عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة:
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 6] . والمراد من الآية:
حفظ مال اليتيم وعدم تبذيره أو إضاعته حتى البلوغ.
7 و8- إيفاء الكيل والميزان بالقسط:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
أي أتموا الكيل إذا كلتم للناس، ولا تزيدوا فيه إذا اكتلتم لأنفسكم، وأتموا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تشترون أو لغيركم فيما تبيعون، فلا يكون فيه زيادة ولا نقص، وإنما تمام بالعدل، من غير تطفيف، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «1» الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين 83/ 1- 3] أي أن إيفاء الحق يكون في الحالتين: البيع والشراء. وقوله: بِالْقِسْطِ
يوجب تحري العدل حال البيع والشراء بقدر المستطاع، لذا قال:
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أي لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فعله، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج أي بقدر الطاقة والجهد، فإذا أخطأ الشخص بدون قصد فلا مؤاخذة،
روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
: «من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ، وذلك تأويل: وسعها»
وهو حديث مرسل غريب.
__________
(1) التطفيف: البخس في الكيل والميزان، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم، كما هو مفسر في تتمة الآية.(8/99)
وعاقبة تطفيف الكيل والميزان وخيمة جدا ومنذرة بعقاب أليم، كما حكى الله تعالى عن قوم شعيب عليه السلام: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ الآيات [هود 11/ 85] .
9- العدل في القول أو الحكم:
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
أي فاعدلوا في القول في الشهادة أو الحكم، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم إذ بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد، وهو أساس الملك، وركن العمران، وقاعدة الحكم، كما قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء 4/ 135] وهذا عدل بالقول، كالعدل المطلوب سابقا في الفعل كالكيل والوزن.
10- الوفاء بالعهد:
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أي وأوفوا بعهد الله، وذلك بإنجازه وتنفيذه، وإطاعة الله فيما أمر ونهى، والعمل بكتاب الله وسنة رسوله. وهو يشمل:
ما عهده الله إلى الناس على ألسنة الرسل، وما آتاهم الله من العقل والفطرة السليمة كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس 36/ 60] ، وما عاهده الناس عليه، كما قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل 16/ 91] ، وما تعاهد عليه الناس مع بعضهم بعضا، كما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة 2/ 177] .
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أي وصاكم الله بهذا رجاء أن تتعظوا وتنتهوا عما كنتم فيه قبل هذا، وليذكر بعضكم بعضا في التعليم والتواصي الذي أمر الله به: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر 103/ 3] .(8/100)
ثم ختم الله تعالى هذه الوصايا ببيان أن هذا هو منهج الحق وطريق الاستقامة، فقال: وَأَنَّ هذا صِراطِي ... أي ولأن هذا هو الطريق المستقيم، فاتبعوه ولا تتبعوا الطرق المختلفة ذات المذاهب والأهواء والبدع والضلالات، فيؤدي بكم إلى التفرق والاختلاف، والانحراف عن دين الله الحق، ومنهجه الأمثل. قال ابن عباس في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله.
وأوضح النّبي صلّى الله عليه وسلّم الصراط المستقيم،
روى الإمام أحمد، والنسائي وأبو الشيخ ابن حيان والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطأ بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه وشماله، ثم قال:
«هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.
وروى أحمد والترمذي والنسائي عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضرب الله مثلا: صراطا مستقيما، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول:
يا أيها الناس، هلّم ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد إنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه. فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم» .(8/101)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات أمر من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله، ويجب على من بعده من العلماء أن يبلّغوا الناس ويبينوا لهم ما حرّم الله عليهم مما أحلّ، قال الله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران 3/ 187] .
وقد تضمنت الوصايا العشر: خمسة منها بصيغة النهي، وخمسة بصيغة الأمر، ولما وردت الأوامر مع النواهي، وتقدّمهن جميعا فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها: وهي الإقرار بوجود الله وتوحيده، والإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث عهد الله ... إلخ.
قال كعب الأحبار: هذه الآية مفتتح التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم.
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآية.
وقال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة (الأنعام) أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملّة. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى.
أما الشرك بالله: فهو وكر الخرافات والأباطيل، ومبعث الأهواء والشهوات، وهو مصادم لمقتضيات العقل السليم والفكر الصحيح.
وأما الإحسان إلى الوالدين: فواجب تقتضيه الفطرة لأنهما كانا سبب وجود الإنسان، وقد ربياه وأحسنا إليه صغيرا وكبيرا، ومحبتهما جزاء ومكافأة لهما، وعقوقهما مفسد تكوين الأولاد، ومساعد على الغلظة والشذوذ في كل مسالك الحياة.(8/102)
وقد جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى، ويتلوها نعمة الوالدين لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه، وفي الظاهر هو الأبوان، ونعم الوالدين على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر.
وقتل الأولاد: مسبّة وعار، وقسوة وغلظة، وانحدار في مستوى الإنسانية، ولون من ألوان الهمجية، ومصادمة لإرادة الله تعالى.
وقد استدل الظاهرية بآية: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ على منع العزل لأن وأد الأولاد يرفع الموجود والنّسل والعزل بإلقاء الماء خارج المحل منع أصل النسل، فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا.
لكن جمهور العلماء أباحوه،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر» «1»
أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا.
واشترط مالك والشافعي كون العزل عن الحرة بإذنها، فلا يجوز بغير إذنها، لأن الإنزال من تمام لذتها، ومن حقها في الولد.
وتحريم الفواحش ذاتها وتحريم وسائلها وأسبابها: ضرورة صحية وإنسانية واجتماعية، فما من فاحشة أو حرام أو منكر إلا وهو ضار ضررا محضا بصحة الإنسان، ومهدد لوجوده، ومفسد للمجتمع في جميع أحواله ونظامه وتطلعاته. والنهي عن اقتراف الفواحش في الآية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي.
وقتل النفس مؤمنة كانت أو معاهدة بغير مسوغ شرعي أو إلا بالحق الذي يوجب قتلها: جريمة كبري، واعتداء شنيع على صنع الخالق. والعاصم من القتل: الإسلام، والسلام أو الأمان، والعهد. والمسوغ الشرعي أو القتل بالحق
__________
(1) الحديث صحيح (راجع سبل السلام 3/ 1036) ط دار الجيل- بيروت.(8/103)
مثل منع الزكاة وترك الصلاة، والدفاع عن النفس، والمحاربة (قطع الطريق) ، والقصاص، والردة، وزنى المحصن. وأجاز بعضهم القتل بسبب اللواط عملا
بما روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
وأكل مال اليتامى: ظلم واعتداء على حقوق الضعفاء، واستغلال لحاجتهم وصغرهم. لكن يجوز الأخذ من مال اليتيم بالتي هي أحسن، أي بما فيه صلاحه وتنميته، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، بالاتجار فيه ونحوه من وسائل التنمية.
ويدفع المال إلى اليتيم ببلوغ سن الرشد وهو توافر الخبرة المالية، وذهب أبو حنيفة إلى أن أقصى مدة لمنع المال عن اليتيم هي خمس وعشرون سنة. وقد فسّر بلوغ الأشد أي القوة وهي قوة البدن والمعرفة باية أخرى في سورة النساء وهي: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [6] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد.
وإيفاء الكيل والميزان بالقسط أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء: فيه حفاظ على الحقوق المالية.
والقول بالعدل في الأحكام والشهادات ولو على النفس والأقارب: فيه إنصاف للحق، وإظهار له، ومن المعلوم أن الإسلام هو دين الحق والعدل.
والوفاء بعهد الله، أي بجميع ما عهده الله إلى عباده، ويشمل جميع ما انعقد بين إنسانين: أمر يوجبه شكر المنعم الخالق، وتقتضيه المدنية، وتقره الأعراف السليمة لأنه فيما يمس الوعود والعقود بين الناس يوفر الخير والعطاء للجماعة(8/104)
كلها، ويحقق معنى النظام واحترام الوقت. وأضيف العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به.
والسبب في جعل خاتمة الآية الأولى بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وخاتمة الآية الثانية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
: هو كما أوضح الرازي أن المحرّمات الخمسة المذكورة في الآية الأولى (وهي الشرك، وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أمور ظاهرة جلية القبح، فنهاهم الله عنها، لعلهم يعقلون قبحها، فيتركوها. وأما التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الثانية (وهي حفظ مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان، والعدل في القول في الأحكام والشهادات، والوفاء بالعهد) فهي أمور خفية غامضة، وكانوا يفعلونها ويفتخرون بالاتصاف بها، فأمر الله تعالى بها لعلهم يذكرون إن نسوها، وليجتهدوا ويفكروا فيها ليقفوا على موضع الاعتدال.
وقال أبو حيان: كرر الوصية على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد أمر الله سبحانه باتباعه، ونهى عن اتباع غيره من الطرق، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، وحصل على السعادة السرمدية «1» .
قال ابن عطية: ومن حيث كانت المحرّمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله، جاءت العبارة: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والمحرّمات الأخر شهوات، وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر، فجاءت العبارة: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
. وركوب الجادة تتضمن فعل الفضائل، وتلك درجة التقوى، فجاءت العبارة: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وأما آية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فأرشدت إلى أن كل ما بيّنه
__________
(1) البحر المحيط: 4/ 254(8/105)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دين الإسلام هو المنهج القويم، والصراط المستقيم. وأرشدت أيضا إلى وجوب الاتحاد بين المؤمنين والتلاقي بينهم على ما أمر الله به، والتحذير من الاختلاف والفرقة، واتباع غير سبيل الله، وأن الله أهلك الأمم السابقة بالمراء والخصومات، ودلت الآية أيضا على أن كل ما كان حقا فهو واحد.
السبب في إنزال التوراة والقرآن
[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
الإعراب:
تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تَماماً منصوب على المصدر أو على أنه مفعول لأجله.
وأَحْسَنَ فعل ماض صلة الَّذِي، وفيه ضمير مقدر يعود على الَّذِي وتقديره: تماما على المحسن هو. ومن قرأ أحسن بالرفع كان خبر مبتدأ محذوف وتقديره: على الذي هو أحسن. والجملة من المبتدأ والخبر صلة الَّذِي.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ جملة فعلية في موضع رفع صفة كِتابٌ، ومُبارَكٌ وصف ثان.
أَنْ تَقُولُوا متعلق بأنزلناه، وتقديره: كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا. وَإِنْ(8/106)
كُنَّا
: إن مخففة من الثقيلة عند البصريين واسمها محذوف، وتقديره: وإنا كنا، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى «ما» واللام بمعنى: إلا، وتقديره: وما كنا عن دراستهم إلا غافلين.
البلاغة:
يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وضع الظاهر موضع الضمير: عنها لتبيان قباحة طغيانهم.
المفردات اللغوية:
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة، وثُمَّ لترتيب الأخبار. تَماماً للنعمة.
عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ بالقيام به. وَتَفْصِيلًا بيانا. لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين.
لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل. بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث. وَهذا القرآن. فَاتَّبِعُوهُ يا أهل مكة بالعمل بما فيه. وَاتَّقُوا الكفر. أَنْ تَقُولُوا لئلا تقولوا. طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا هم اليهود والنصارى. وَإِنْ كُنَّا إن: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنا كنا، والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن. عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم وعلمهم أي لم نعرف مثل دراستهم. لَغافِلِينَ لعدم معرفتنا لها إذ ليست بلغتنا.
لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب، ووقائعها. وخطبها، وأشعارها، وأسجاعها، على أنا أميون. بَيِّنَةٌ البيان والبيّنة: ما به يظهر الحق. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لمن اتبعه. فَمَنْ أي لا أحد. وَصَدَفَ عَنْها أعرض ومنع الناس عنها. سُوءَ الْعَذابِ أي أشده.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله الوصايا العشر، أخبر عن الغاية من إنزال التوراة على موسى عليه السلام لاشتهارها عند مشركي العرب وسماعهم أخبارها، ثم ذكر مكانة القرآن وكونه كتاب هداية، وأعمل بوجوب اتباعه، ورد على عذر المشركين بعدم الانقياد له، مما لا يصلح عذرا بعد جعل القرآن مباركا كثير الخير والفضل.
التفسير والبيان:
في الكلام شيء محذوف تقديره: لفظ «قل» أي قل يا محمد الرسول لهؤلاء(8/107)
الناس: إنا آتينا موسى الكتاب، وهو معطوف على بداية الكلام عن الوصايا العشر، بكلمة ثُمَّ أي ثم قل: إن آتينا موسى الكتاب، ويصبح مجموع الكلام المقول للمشركين: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا، ثم قل لهم وأعلمهم: أننا آتينا موسى الكتاب.. إلخ أي أخبرهم بما أوحي إليك، وبما آتينا موسى.
وقد تكرر ذكر التوراة في القرآن لأنها أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور، لاشتمالها على جميع الأحكام التشريعية، فكل منهما شريعة كاملة، بعكس الإنجيل والزبور، فإن الإنجيل كتاب عظات وأمثال وتاريخ، والزبور كتاب ثناء ومناجاة وتراتيل. وكان كثير من عقلاء العرب يتمنى أن يكون لهم كتاب كالتوراة، وأنه لو جاءهم لكانوا أهدى من اليهود وأعظم انتفاعا به، لامتيازهم بحدة الذكاء وحصافة العقل والفهم.
ولما أخبر الله عن القرآن بقوله: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ عطف عليه الكلام بمدح التوراة ورسولها، فقال: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ.
وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر التوراة والقرآن كما بينت، كقوله تعالى:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا [الأحقاف 46/ 12] وقوله أول هذه السورة: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.
والوصايا العشر التي ذكرت في الآيات الثلاث، والتي لها نظير في سورة الإسراء، كانت أول ما نزل بمكة قبل تشريع أحكام العبادات والمعاملات، وكانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، وهي أيضا أصول الأديان على ألسنة الرسل لقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(8/108)
[الشورى 42/ 13] والقدر المشترك من الدين الذي أوصى به جميع الرسل: هو التوحيد، ومكارم الأخلاق، والبعد عن الفواحش والمنكرات.
تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن في اتباعه والاهتداء به، كما قال تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء 21/ 73] .
ويجوز أن يكون المعنى: وآتينا موسى الكتاب تماما أي تاما كاملا جامعا لكل ما يحتاجه الناس من التشريع، وعلى أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن. لكن يضعف هذا المعنى ما يأتى بعده وهو:
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي وآتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه في شريعته، كقوله تعالى عن موسى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف 7/ 145] .
وَهُدىً وَرَحْمَةً أي وهو كتاب هداية إلى الحق، وسبب رحمة لمن اهتدى به واتبعه، وقال الرازي: معنى رَحْمَةً: أنه نعمة في الدين.
لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي آتيناه الكتاب بمشتملاته المذكورة، لكي يؤمن قومه بلقاء ربهم، أي لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب، وإذا آمنوا بذلك آمنوا بالله وحده لا شريك له.
ثم انتقل إلى وصف القرآن الكريم فقال: وَهذا كِتابٌ ... أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، كثير الخير والنفع في الدين والدنيا، ثابت لا ينسخ، جامع لأسباب الهداية الدائمة والنجاة والفلاح، فاتبعوا ما هداكم إليه، واتقوا النار والكفر بما نهاكم عنه ومنعكموه، لتظفروا برحمة الله الواسعة في الدنيا والآخرة.
وفي هذا دعوة صريحة إلى اتباع القرآن، من طريق التدبر بآياته. والعمل(8/109)
هذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا وهو خطاب لأهل مكة: إنما اقتصر إنزال الكتاب على من قبلنا من اليهود والنصارى، أي لينقطع عذركم، ولئلا تقولوا:
إنا كنا عن معرفة الكتب السابقة غافلين، لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا، ولأننا قوم أميون لا نعرف ما يعرفه ويدرسه غيرنا.
ولئلا تقولوا أيضا لو أنزل علينا ما أنزل عليهم، لكنا أهدى منهم فيما أوتوه لأننا أكثر ذكاء وفهما، وأعمق بصيرة، وأمضى عزيمة، كقوله تعالى:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [فاطر 35/ 42] أي أهدى من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب.
فرد الله عليهم بما يقطع كل تعلل واعتذار بقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ..
أي فقد جاءكم على لسان رسولنا النبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب، ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه، ويقتفون ما فيه، وهو يشتمل على الحق المؤيد بالحجج والبراهين في العقيدة والآداب والأحكام.
ثم أبان الله سوء عاقبة من كذب بالقرآن، فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ.. أي لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله، بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك، وأعرض عنها، ومنع الناس عن التفكير فيها، كما كان يفعل زعماء مكة، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الأنعام 6/ 26] .
ثم أتبع الله ذلك بالتهديد والوعيد والعقاب لكل معرض عن القرآن، كما هو الشأن الغالب بعد بيان أسباب الهداية، فقال: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ..
أي سنجازي المعرضين عن آياتنا أشد العذاب بسبب حجب عقولهم ونفوسهم وغيرهم عن هداية الله، والإعراض عنها لأنهم يتحملون وزرهم ووزر من(8/110)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
منعوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين هداية الله، كقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] أي زدناهم عذابا غير عذابهم بسبب إفسادهم وصدهم عن سبيل الحق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن القرآن مثل التوراة في أصولها الصحيحة الأولى التي فقدت وضاعت، ثم كتب عنها بديل محرّف مشوّه، مما لم يبق منهجا للبشرية وكتابا للإنسانية غير القرآن الكريم، ففيه الهداية الكاملة، والبيان الواضح المؤيد بالبراهين والأدلة العقلية، والنقلية (السمعية) ، ولم يبق لأحد عذر بعد مجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتأييده بالمعجزة الخالدة الباقية من غير تبديل ولا تحريف، فإن كذب به أحد، فلا أظلم منه، وسيلقى جزاء إعراضه وتكذيبه. ودل قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها على تعظيم كفر من كذب بآيات الله، ومنع عنها نفسه وغيره من الإيمان بها لأن الأول ضلال، والثاني منع عن الحق وإضلال.
إنذار أخير للكفار بسوء العذاب
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
الإعراب:
لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ جملة: لَمْ تَكُنْ صفة النفس.(8/111)
البلاغة:
هَلْ يَنْظُرُونَ معنى الاستفهام: النفي.
قُلِ: انْتَظِرُوا أمر تهديد ووعيد.
لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها.. قال أحمد الإسكندري في حاشية الكشاف: 1/ 537: اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف، وأصل الكلام: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل: إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل: ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لفّ الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا بلاغة واختصارا وإعجازا. ومبدأ أهل السنة: لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإن نفع الإيمان المتقدم في السلامة من الخلود في النار.
المفردات اللغوية:
هَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون أي ما ينتظر المكذبون. إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم. أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي أمره، بمعنى عذابه. أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي علاماته الدالة على الساعة. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهي طلوع الشمس من مغربها، كما في حديث الصحيحين. أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها أي: أو نفسا لم تكن كسبت في إيمانها طاعة، أي لا تنفعها توبتها، كما في الحديث.
المناسبة:
هذه الآية إنذار للكفار بعد إنذار بسوء العذاب، فلما بيّن الله تعالى أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، بيّن أنهم لا يؤمنون البتة، أي لا أمل في إيمانهم.
التفسير والبيان:
يتوعد الله تعالى الكافرين والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله، فهم ما ينتظرون ولا يؤمنون إلا إذا جاءهم أحد أمور ثلاثة: وهي مجيء الملائكة، أو مجيء الرب، أو مجيء الآيات القاهرة من الله تعالى.(8/112)
ومعنى مجيء الملائكة هو مجيئهم لقبض أرواحهم. ومعنى إتيان الله: إتيان ما وعد به من نصر أنصاره وأوعد به من تعذيب أعدائه في الدنيا، والمراد من مجيء بعض آيات الله: حدوث بعض الحوادث القاهرة الموجبة للإيمان الاضطراري.
وكان مشركو مكة قد طلبوا نزول الملائكة وإتيان الله أو رؤيته، كما حكى القرآن: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان 25/ 21] . أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 92] وطلبوا أيضا إنزال بعض آيات الله مثل أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء 17/ 92] .
وقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله؟
أجيب بأن هذا حكاية عن الكفار، واعتقاد الكافر ليس بحجة، أو أن هذا مجاز، مثل قوله تعالى. فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل 16/ 26] وذلك لقيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال.
وفي هذه الآية إيماء إلى تماديهم في تكذيب آيات الله، وعدم الاعتداد بها.
ثم وجّه الحق تعالى إنذارا أخيرا لهم بقوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ... أي يوم تأتي الآيات الملجئة للإيمان الاضطراري لا ينفع حينئذ الإيمان مثل إيمان فرعون حينما أحدق به الغرق، كما لا ينفعها توبة لم تكن حدثت في وقت السعة قبل الغرغرة.
وبعض هذه الآيات قد يحدث قبل خروج الروح، أو قبيل يوم القيامة حين ظهور أمارات الساعة وأشراطها، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية،
فيما أخرجه هو والجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال(8/113)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» . وفي لفظ: «فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثم قرأ هذه الآية.
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .
قُلِ: انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أي قل لهم يا محمد: انتظروا ما تتوقعون حدوثه من دحر الإسلام، وقتل النبي، وزوال الدين، إنا منتظرون وعد ربنا الصادق لنا بالنصر ووعيده المتحقق لأعدائنا، مثل قوله تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس 10/ 102] .
وهذا تهديد شديد للكافرين ووعيد اكيد لمن أرجأ إيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 84- 85] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أمور ثلاثة:
الأول- إنه لا أمل في إيمان الكفار المعاندين، لتماديهم في تكذيب آيات الله.
الثاني- لا ينفع الإيمان الاضطراري عند رؤية العذاب في الدنيا، أو عند مجيء بعض علامات القيامة.(8/114)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
الثالث- وعيد الكفار وتهديدهم وإنذارهم بإنزال العذاب عليهم إذا لم يؤمنوا.
عاقبة الاختلاف في الدين
[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ باختلافهم فيه، فأخذوا بعضه وتركوا بعضه. وفي قراءة:
فارقوا: أي تركوا دينهم الذي أمروا به، وهم اليهود والنصارى. وَكانُوا شِيَعاً فرقا في ذلك.
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي فلا تتعرض لهم. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولاه. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يخبرهم في الآخرة عن أفعالهم، فيجازيهم عليها.
المناسبة:
بعد أن أوعد الله الكفار وأنذرهم بسوء العذاب، وبما ينتظر من الحوادث الرهيبة في آخر الزمان، حذّر الله المؤمنين من التفرق في الدين، كما يفعل أهل البدع والشبهات، وحث على توحيد كلمة المسلمين.
التفسير والبيان:
روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة.
وهذا ما قاله مجاهد. وقال أبو أمامة في قوله: وَكانُوا شِيَعاً هم الخوارج.
وقيل عن جماعة (قتادة والضحاك والسدي) : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى، فجعلوه أديانا مختلفة ومذاهب شتى.(8/115)
وقيل: الآية عامّة في جميع الكفار، قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفا له «1» . وهذا ما صوبه بعض المحدثين، مثل صاحب تفسير المنار «2» ، فقال: والصواب هو الجمع بين الرأيين، فإن الله تعالى، بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة، وأبطل شبهات الشرك، ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق، كما تفرق من قبلهم، كما جاء في سورة آل عمران: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [105] .
والمعنى: إن الذين فرقوا دينهم، فآمنوا ببعض وأخذوا به، وتركوا بعضه الآخر، وتأولوا نصوصه على وفق أهوائهم، وصاروا فرقا، كل فرقة تأخذ برأي وتتعصب لمذهب، لا تتعرض لهم يا محمد ودعهم وشأنهم ولا تقاتلهم، وإنما عليك تبليغ الرسالة، ومناصرة شعائر الدين الحق، أنت بريء منهم ومن أفعالهم، وبعيد من أقوالهم ومذاهبهم، والله يتولى أمرهم وحسابهم، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم على تجزئة الدين. قال الرازي: المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وألا يتفرقوا في الدين، ولا يبتدعوا البدع «3» .
وقد استنكر الله تعالى في موضع آخر هذه التجزئة، فقال عن أهل الكتاب: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة 2/ 85] .
وحذر النّبي صلّى الله عليه وسلّم من تفرق المسلمين،
روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة (أي فرقة) وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 196
(2) راجع 8/ 214
(3) تفسير الرازي: 14/ 8(8/116)
الجماعة» «1»
وروى أبو داود، والترمذي- واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين، والنصارى مثل ذلك. وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» «2»
فيكون المراد من قوله: فَرَّقُوا دِينَهُمْ اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وقيل: فرقوا دينهم، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
وأسباب الاختلاف والتفرق كثيرة، من أهمها: حب السيطرة والسلطة، والتعصب للجنس والقوم، أو للرأي والهوى، والإصغاء لدسائس أعداء الدين ومكائدهم، والجهل والتخلف، واتباع الآخرين في العادات والتقاليد، وتخلي بعض الدول أو أكثرها عن الدين في الفكر والاعتقاد، والسياسة والمنهج، والنظام والقانون.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن شرع الله واحد وكل لا يتجزأ، فلا يصح أخذ بعضه، وترك بعضه، وتعطيل حكم أو ادعاء عدم صلاحيته للعصر، فمن اعتقد ذلك فهو كافر.
والتفرق في الدين، والابتداع واتباع الشبهات والشهوات خطر عظيم وجرم كبير وضلال مبين.
وما على الأمة إلا جمع كلمتها، وتوحيد رأيها، والحذر من الانزلاق في مهاوي الابتداع مما لم يأذن به الله ورسوله في العبادة والأخلاق والتشريع.
وإن هجر تشريع الله بدأ بالتخلي عن بعض أحكامه تدريجيا، حتى أصبح منعزلا عن الحياة.
__________
(1) جامع الأصول لابن الأثير: 10/ 407
(2) المرجع السابق: 10/ 408(8/117)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
بل إنه مع الأسف امتد التجزؤ والتجميد إلى بعض نصوص القرآن، فلا يقرأ بعضها في الإذاعات.
والآية عامة في كل من فارق الدين وكان مخالفا له، سواء أكان من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من المسلمين (أهل البدع والشبهات) .
روى بقيّة بن الوليد بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة: «إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا: إنما هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة، إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة، وأنا بريء منهم، وهم منا برآء» .
جزاء الحسنة والسيئة
[سورة الأنعام (6) : آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
الإعراب:
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها: من قرأ بالتنوين عَشْرُ كان عَشْرُ مبتدأ، وأَمْثالِها صفة له، وفَلَهُ خبر مبتدأ مقدم عليه. ومن قرأ بالإضافة كان في حذف الهاء من عَشْرُ وهو مذكر ثلاثة أوجه ذكرها ابن الأنباري 1/ 350:
الأول- أن يكون التقدير فيه: عشر حسنات أمثالها، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
وهذا مذهب سيبويه. وهذا أوجه الوجوه.
والثاني- أنه حمل أَمْثالِها على المعنى لأن الأمثال في معنى حسنات، فكأنه قال: عشر حسنات.
والثالث- أن يكون اكتسى المضاف التأنيث من المضاف إليه، كقوله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف 12/ 10] في قراءة التاء، وكقولهم: ذهبت بعض أصابعه.(8/118)
البلاغة:
بِالْحَسَنَةِ وبِالسَّيِّئَةِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي جزاء عشر حسنات. إِلَّا مِثْلَها أي جزاء واحد مماثلا لها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقصون من جزائهم شيئا.
قال بعضهم: الحسنة: قول: لا إله إلا الله، والسيئة: هي الشرك. قال الرازي: وهذا بعيد، بل يجب أن يكون محمولا على العموم «1» .
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى في السورة أصول الإيمان، وألزم باتباع الوصايا العشر في الفضائل والآداب. وندد بالكفار وأهل البدع، أوضح هنا الجزاء على العمل، سواء أكان من الحسنات: وهي الإيمان والأعمال الصالحة، أم من السيئات: وهي الكفر والمعاصي أو الفواحش.
التفسير والبيان:
من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة والفعلة الطيبة من الطاعات، فله جزاؤها عشر حسنات أمثالها، وهذا من قبيل العدل والفضل المحدود، ولكن قد تضاعف الحسنة بعد ذلك إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 261] . وقال عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة 2/ 245] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن 64/ 17] .
__________
(1) تفسير الرازي: 14/ 8(8/119)
وهذا التفاوت مرده إلى الله تعالى، وإلى اقتران العمل بما يرفعه عند الله، كالإخلاص في النية، واحتساب الأجر عند الله، وإخفاء الفعل الطيب، وإبداؤه أحيانا للاقتداء به، وتحري منفعة الأمة.
ومن ارتكب سيئة أو اقترف ذنبا، فله عقوبة سيئة مماثلة لها.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي كل من المحسن والمسيء لا ينقص من عمله شيء، فلا ينقص من ثواب المحسنين، ولا يزاد على عقاب المسيئين.
وجاء الحديث النبوي موضحا معيار التفاضل في الحسنات، وطريق الجزاء على السيئات،
روى أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إن ربكم عز وجل رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له واحدة، أو يمحوها الله عز وجل، ولا يهلك على الله إلا هالك»
والكتابة تكون بواسطة الملائكة، بأمر الله لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا التفاوت بين جزاء الحسنة وجزاء السيئة بفضل من الله ورحمة منه لأن الثواب- في رأي أهل السنة- تفضل من الله تعالى في الحقيقة، فمن فعل حسنة طيبة، كان له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. وتجوز المضاعفة إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة، حسبما تقتضي الإرادة والمشيئة والحكمة الإلهية، وبقدر ما يقترن به العمل الصالح من قصد حسن وإخلاص لله تعالى.
ومن اقترف فعلة سيئة، لم يكن له من الجزاء إلا ما يساويها ويوازيها.
روى أبو ذر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى قال: الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو عفو، فالويل لمن غلب آحاده أعشاره»
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم: «يقول الله:(8/120)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
إذا همّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، وإن لم يعملها، فإن عملها فعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلا تكتبوها، وإن عملها فسيئة واحدة» .
وفصل العلماء في شأن تارك السيئة فقالوا:
تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام:
1- تارة يتركها لله: فهذا تكتب له حسنة، لكفّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء: أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح:
«فإنما تركها من جرائي» أي من أجلي.
2- وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها: فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيرا ولا فعل شرا.
3- وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها، كما
جاء في الحديث الصحيح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» «1» .
اتباع ملة إبراهيم في التوحيد والعبادة والتبعة الشخصية
[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 164]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 196 وما بعدها.(8/121)
الإعراب:
دِيناً منصوب بفعل مقدر دل عليه: هَدانِي، وتقديره: هداني دينا. وقال الزمخشري: نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ لأن معناه: هداني صراطا، بدليل قوله:
وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح 48/ 20] ، وقِيَماً صفة دِيناً أي دينا ذا استقامة، وقرئ: قيما بالتشديد من قام كسيّد من ساد، وهو أبلغ من القائم.
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان وحَنِيفاً حال من إبراهيم.
مَحْيايَ بفتح الياء، عملا بالأصل وهو أن من حق الياء أن تكون متحركة مفتوحة، أو حركت لاجتماع ساكنين. ومن قرأ بسكون الياء فلأن حرف العلة يستثقل عليه حركات البناء.
أَغَيْرَ اللَّهِ غير: منصوب لأنه مفعول أَبْغِي ورَبًّا تمييز منصوب، والتقدير:
أأبغي غير الله من ربّ، فحذف من، فانتصب على التمييز.
البلاغة:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: استعار أثقال الحمل على الظهور لأثقال الذنوب والآثام.
المفردات اللغوية:
دِيناً قِيَماً مصدر بمعنى القيام، أي ذا استقامة، أي أنه قائم مستقيم لا عوج فيه، وقرئ قِيَماً بالتشديد، أي مستقيما، ودين القيّمة بالتأنيث: أي دين الملة الحنيفية، وكل ذلك يعني انه دين يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة، وهو منهاج مستقيم.
حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق وهو دين الإسلام.
وَنُسُكِي عبادتي من حج وغيره مَحْيايَ وَمَماتِي أي ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، كله لله رب العالمين.
أَبْغِي رَبًّا لا أطلب غيره وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ مالكه وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ذنبا(8/122)
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تتحمل نفس بريئة حمل نفس مذنبة آثمة أخرى، فقوله:
تَزِرُ تحمل، والوزر: الحمل الثقيل.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في هذه السورة دلائل التوحيد، والرد على المشركين ونفاة القضاء والقدر، ختم الكلام بأن الدين القيّم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم القائمة على التوحيد وعبادة الله، ومسئولية كل شخص عن نفسه لا عن غيره، وأن الهداية لا تحصل إلا بالله، وأن الجزاء عند الله على الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فهي دليل سعادته أو شقاوته.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم الله عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهو ملّة أبيه إبراهيم الخليل عليه السلام.
قل أيها الرسول للناس قاطبة ومنهم قومك: إن ربي أرشدني ووفقني إلى طريق مستقيم لا عوج فيه، وهو الدين القيّم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، القائم بالحق، الثابت الأصول، وهو المراد في مناجاة الله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
وهو ملة إبراهيم الخليل، فالتزموه، لكونه كان مائلا عن جميع أنواع الشرك والضلالة إلى الدين الحق: دين التوحيد. كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة 2/ 130] وقال: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً، قانِتاً لِلَّهِ، حَنِيفاً، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل 16/ 120- 123] .(8/123)
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي وما كان إبراهيم من المشركين أبدا، وإنما كان مؤمنا بالله، موحدا إياه، مخلصا له عبادته.
فأما من يعتقد أن الملائكة بنات الله، أو عزيز ابن الله، أو عيسى المسيح ابن الله، فهؤلاء هم المشركون البعيدون عن ملة إبراهيم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء 4/ 125] .
هذا هو الدين الحق دين الإخلاص والعبادة لله وحده، وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل، وهذا مخالف لما كان عليه مشركو العرب وزعماء قريش الذين يلقبون أنفسهم «الحنفاء» مدّعين أنهم على ملة إبراهيم، وهو أيضا مخالف لما عليه أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين يدعون أنهم أتباع ملة إبراهيم وأتباع موسى وعيسى، وذلك بدليل رد الله تعالى عليهم بقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 3/ 67] .
لذا فإن دعوة الإسلام هي ملتقى جميع الأنبياء، وهو الدين المقبول عند الله كما قال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ
[آل عمران 3/ 85] .
ثم يأمر الله نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه: بأنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسم الله وحده لا شريك له، مثل قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر 108/ 2] أي أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله بمخالفتهم، وإخلاص القصد والنية والعزم والعمل لله تعالى.(8/124)
قُلْ: إِنَّ صَلاتِي ... أي إن كل أنواع صلاتي وعبادتي ودعائي ونسكي أي عبادتي- وقد كثر استعمال النسك في الذبح وأداء شعائر الحج والعمرة وغيرهما- وكل ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح هو لله عز وجل، أي أن كل أعمالي ومقاصدي محصورة في طاعة الله ورضوانه، فهي آية جامعة لكل الأعمال الصالحة، وعلى المسلم أن يكون قصده وعمله وكل ما يقدمه من عمل هو وجه الله تعالى، سواء في أثناء حياته، أو ما يعقبه من عمل صالح بعد مماته، هو لله، وإلى الله، وفي سبيل الله، ولطاعة الله تعالى.
وخصص الصلاة بالذكر، مع كونها داخلة في النسك، لكونها روح العبادة التي قد تتلوث بمفاسد الشرك.
والله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ولا في ربوبيته، فله العبادة وحده، والتشريع منه وحده، بذلك أمرني ربي، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وهذا إثبات لتوحيد الألوهية، أعقبه بتوحيد الربوبية، فقال: قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ... أي أغير الله أطلب ربا سواه، مع أنه هو مالك كل شيء، خلقه ودبره، وهو مصدر النفع ومنع الضر، فكيف أجعل مخلوقا آخر ربّا لي؟! وما من عمل يكسبه الإنسان إلا عليه جزاؤه دون غيره، ولا تتحمل نفس بريئة أبدا ذنب نفس أخرى، فكل إنسان مجزي بعمله: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة 2/ 286] .
وبما أن كل إنسان مسئول عن عمله، صالحا كان أو سيئا، فإنه سيجزي عنه، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. والرجوع في نهاية المصير من الذين يلقبون أنفسهم «الحنفاء» لله وحده دون غيره، فهو الذي يخبركم باختلافكم في(8/125)
الأديان، ويجازيكم عليه بحسب علمه وإرادته، كما قال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران 3/ 55] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تتقابل في أغلب نواحي الحياة واجهتان متعاكستان: التفرق والاتحاد، ولم يسلم دين الله من تأثره بهاتين الواجهتين، فلمّا بيّن تعالى أن الكفار تفرقوا، بين أن الله هدى الأنبياء وخاتمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الدين المستقيم، وهو دين إبراهيم عليهم السلام.
والدين الحق القيم يتطلب تسخير كل الطاقات الدينية الإنسانية لله عز وجل، فله وحده يتوجه العبد بصلاته وعبادته ومناسكه وذبائحه وجميع قرباته وأعماله في حياته وما أوصى به بعد وفاته، لأنه سبحانه خالق الكون ومدبره ورب جميع العوالم والكائنات. وكل إنسان عاقل يفرده تعالى بالتقرب بأعماله وطاعاته إليه، دون غيره لأنه إله يستحق العبادة لذاته، وهو مصدر خير الإنسان ونفعه ومنع الضرر عنه.
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى قوله:
قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأنزله في كتابه.
وفي حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان إذا افتتح الصلاة قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- إلى قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.
وروى مسلم أيضا هذا الحديث عن علي. وجاء فيه بعد قوله: وأنا من المسلمين: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني(8/126)
لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» .
وأخرجه الدارقطني أيضا وقال في آخره: بلغنا عن النّضر بن شميل، وكان من العلماء باللغة وغيرها قال: معنى قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والشر ليس إليك»
: الشر ليس مما يتقرب به إليك.
ولم ير الإمام مالك إيجاب التوجه في الصلاة على الناس، ولا قول:
«سبحانك اللهم وبحمدك» والواجب عليهم التكبير ثم القراءة، بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي الذي علّمه الصلاة: «إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ»
ولم يقل له:
سبّح، كما يقول أبو حنيفة، ولا قل: وجهت وجهي، كما يقول الشافعي.
وقال لأبيّ: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟» قال: قلت: الله أكبر، الحمد لله رب العالمين.
فلم يذكر توجها ولا تسبيحا.
ويلاحظ أنه ليس أحد بأول المسلمين إلا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. فإن قيل: أوليس إبراهيم والنبيون قبله؟ أجاب القرطبي بثلاثة أجوبة:
الأول- أنه أول الخلق أجمع معنى، كما
في حديث أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة»
وفي حديث حذيفة: «نحن الآخرون من أهل الدنيا، الأوّلون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق» .
الثاني- أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ
قال قتادة: إن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه ابن سعد: «كنت أول الناس في الخلق، وآخرهم في البعث»
فلذلك وقع ذكره هنا مقدّما قبل نوح وغيره.(8/127)
الثالث- أول المسلمين من أهل ملّته، كما قال قتادة وابن العربي وغيرهما «1» .
وأما قوله تعالى: قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فسبب نزوله أن الكفار قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفّل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ.
ودل قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها على أنه لا يؤاخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها.
واستدل الشافعي بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح.
ورد المالكية على ذلك فقالوا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا، بدليل قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
وبيع الفضولي موقوف عند المالكية والحنفية على إجازة المالك، فإن أجازه جاز، بدليل
أن عروة البارقي قد باع للنّبي صلّى الله عليه وسلّم واشترى وتصرف بغير أمره، فأجازه النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي هذا الحديث دلالة على جواز الوكالة المتفق عليها بين العلماء، وعلى أن الوكيل لو اشترى بالثمن المدفوع له كدينار أو درهم أكثر من المقدار المسمى، كرطل لحم، فاشترى به أربعة أرطال من تلك الصفة، فإن الجميع يلزم الموكل إذا وافق الصفة ومن جنسها لأنه محسن، وهو قول المالكية والصاحبين من الحنفية. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وحديث عروة حجة عليه.
ودل قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى على تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية، وهي مفخرة من مفاخر الإسلام الكبرى، وللآية نظائر
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 155(8/128)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
كثيرة مثل: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر 74/ 38] قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] . وهذا المبدأ المقرر في هذه الآيات رد على ما كان عليه العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بجريرة أبيه وابنه وحليفه.
ويؤيد ذلك
ما رواه أبو داود عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ابنك هذا؟» قال: إي وربّ الكعبة، قال: «حقا» قال: أشهد به، قال: فتبسّم النّبي صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا من ثبت (استقرار) شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي، ثم قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه» وقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
أما قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] فهو مبيّن في الآية الأخرى في قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] أي أن المضل يتحمّل أيضا إثم أتباعه في الضلالة، فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها وتبعه الناس عليها، فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضلّ شيء.
الاستخلاف في الأرض
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)(8/129)
الإعراب:
وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ دَرَجاتٍ مفعول رَفَعَ، بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ورفع بعضكم فوق بعض إلى درجات، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به، فنصبه.
المفردات اللغوية:
خَلائِفَ الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا فيها وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ بالمال والجاه وغير ذلك. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم فِي ما آتاكُمْ أعطاكم، ليظهر المطيع منكم والعاصي. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ للمؤمنين رَحِيمٌ بهم.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى أن مصير جميع الناس إلى الله للحساب والجزاء، ختم السورة بخاتمة رائعة هي أنهم يخلف بعضهم بعضا، لتستمر الحياة، ويتنافس الناس في الأعمال النافعة.
التفسير والبيان:
جعل الله الناس خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضا فيها، بأن أهلك من قبلهم من القرون والأمم الخالية، واستخلفهم لعمارة الأرض بعدهم، وجعلهم أيضا خلفاء أرضه يملكونها ويتصرفون فيها: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد 57/ 7] .
ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الغنى والفقر، والشرف والجاه، والعلم والجهل، والخلق والشكل، والعقل والرزق. وهذا التفاوت ليس ما عجزا وجهلا وإنما لأجل الابتلاء والاختبار فيما أعطاكم، بأن يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك، فيختبر الغني مثلا في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره، ويسأله عن صبره.(8/130)
ثم يكون الجزاء على العمل، فقد يكون الإنسان مقصرا فيما كلف به، أو قائما به، فيأتي الجزاء تابعا للأعمال. ونظير الآية كثير في القرآن مثل:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» .
وأمام الناس بعد هذا الابتلاء إما العقاب وإما الثواب: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وفيه ترهيب وترغيب، فإن حساب الله وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله، وهو أيضا شديد العذاب، لا يهمل وإن أمهل.
ووصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب، والعقاب إما في الدنيا بإلحاق الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال، وإما في الآخرة بعذاب جهنم، وقد يكون الأمران معا.
وهو تعالى غفور للتائبين رحيم بالمحسنين المؤمنين الذين اتبعوا الرسل فيما جاؤوا به من تكاليف إذ رحمته سبقت غضبه، ووسعت كل شيء، فجعل الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعفها أضعافا كثيرة لمن يشاء، والسيئة بسيئة مثلها، وقد يغفرها لمن تاب منها، ويسترها في الدنيا فضلا وكرما وحلما.
قال ابن كثير: وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين:
المغفرة والعذاب، كقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد 13/ 6] وقوله: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] إلى غير ذلك من(8/131)
الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة، والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ثلاثة أحكام:
الأول- الناس خلفاء الأرض، يخلف بعضهم بعضا، فكل جيل يخلف من قبله من الأمم الماضية والقرون السالفة.
الثاني- الناس في الدنيا درجات في الخلق والرزق، والقوة، والضعف، والبسطة والفضل، والعلم، من أجل الابتلاء أي الاختبار، فيظهر من الناس ما يكون غايته الثواب والعقاب، ويختبر الموسر بالغنى ويطلب منه الشكر، ويختبر المعسر بالفقر ويطلب منه الصبر.
الثالث- الله تعالى سريع العقاب، شديد العذاب للكفار والعصاة، غفور رحيم بالطائعين التائبين. وهذا ترهيب وتحذير من ارتكاب الخطيئة، وترغيب في الطاعة والإنابة والتوبة.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط أحد من الجنة، خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها، وعند الله تسعة وتسعون»
وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 200(8/132)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
مكية وهي مائتان وست آيات.
تسميتها:
سميت بسورة الأعراف لورود اسم الأعراف فيها، وهو سور بين الجنة والنار، قال ابن جرير الطبري: الأعراف جمع عرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه. روى ابن جرير الطبري عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف، فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلفت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.
صفة نزولها:
هي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ.
موضوعها:
نزلت هذه السورة لتفصيل قصص الأنبياء وبيان أصول العقيدة، وهي كسورة الأنعام بل كالبيان لها، لإثبات توحيد الله عزّ وجلّ، وتقرير البعث والجزاء، وإثبات الوحي والرسالة، ولا سيما عموم بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم.(8/133)
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت سورة الأعراف التي هي من أطول السور المكية ما يلي من مبادئ العقيدة الإسلامية:
1- القرآن كلام الله: افتتحت السورة بالتنويه بالقرآن العظيم معجزة الرسول الخالدة، وأنه نعمة من الله، وأنه يجب اتباع تعاليمه.
2- أبوّة آدم عليه السلام: الناس جميعا من أب واحد، أمر الله الملائكة بالسجود له سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة وتقديس، والشيطان عدو الإنسان.
وقد أعيد التذكير بقصة آدم مع إبليس، وخروجه من الجنة، وهبوطه إلى الأرض، بسبب وسوسة الشيطان رمز الشر والباطل وصراعه مع الإنسان الذي يدعو إلى عبادة الله وإلى الخير والحق، تأكيدا لما ذكر في سورة البقرة.
3- إثبات التوحيد: وهو الإقرار بوحدانية الله، وعبادته وحده، وإخلاص الدين له، والاعتراف بحقه وحده في التشريع والتحليل والتحريم:
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ.
4- الوحي والرسالة: الوحي ثابت يتضمن هنا إنزال القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجوهره التكليف بالرسالة الإلهية، وبعثة الرسل إلى الناس:
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي.
5- تقرير البعث والجزاء في عالم الآخرة: تضمنت السورة الكلام عن البعث والإعادة يوم القيامة: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ والجزاء والحساب وانقسام الناس بسببه إلى فرق ثلاث: فرقة المؤمنين الناجين أهل الجنة، وفرقة الكافرين الهالكين أهل النار، وأصحاب الأعراف وهو سور بين الجنة والنار.(8/134)
6- أدلة وجود الله: أقام الله تعالى الأدلة الكثيرة على وجوده مثل خلق السموات والأرض في ستة أيام، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمر الله، وإخراج الثمرات من الأرض 7- التهديد بالإهلاك: أهلك الله الأمم الظالمة عبرة لغيرها، وأنذر الناس بإنزال العذاب المماثل، ورغب بالإيمان والعمل الصالح لإفاضته الخيرات والبركات من السماء والأرض على الأمة: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] وكذا لإرث الأرض والاستخلاف على الآخرين: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] .
8- قصص الأنبياء: أورد الله تعالى مجموعة من قصص الأنبياء: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، للتذكير بأحوال المكذبين أنبياءهم، وللعظة والعبرة، ومن أدلّها قصة موسى مع الطاغية فرعون، وعقاب بني إسرائيل بالمسخ قردة وخنازير لما خالفوا أمر الله. وتشبيه عالم السوء بالكلب: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف 7/ 176] .
9- التنديد بعبادة الأصنام، والتهكم بمن عبد ما لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، من أحجار وهياكل، وذلك كله لتقرير مبدأ التوحيد الذي ختمت به لسورة كما بدئت به.(8/135)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
اتباع القرآن الكريم
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
الإعراب:
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ كِتابٌ إما خبر المص على قول من جعله مبتدأ، أي أنا الله أفصل، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا كتاب، والثاني أولى.
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اللام متعلقة بأنزل، وتقديره: كتاب أنزل إليك لتنذر به، وفصل بينهما بقوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. وَذِكْرى إما مرفوع عطفا على كِتابٌ، أو خبر مبتدأ تقديره: هذه ذكرى وإما منصوب عطفا على موضع لِتُنْذِرَ بِهِ أي إنذارا وذكرى، أو عطفا على موضع هاء بِهِ وإما مجرور عطفا على لِتُنْذِرَ بمعنى:
للإنذار والذكرى.
قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قَلِيلًا منصوب بفعل تَذَكَّرُونَ، وما زائدة، وتقدير النصب من وجهين: إما لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره: تذكرون تذكرا قليلا، أو لأنه صفة لظرف زمان محذوف، تقديره: زمانا قليلا.
البلاغة:
حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه، ففيه حذف مضاف.
مِنْ رَبِّكُمْ وصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين فيه إشعار بمزيد اللطف بهم، وترغيب في امتثال الأوامر.
المفردات اللغوية:
المص تقرأ كما تقرأ الحروف الأبجدية، أي ألف، لام، ميم، صاد، وقد ذكرت في أول سورة البقرة ومثلها آل عمران: أن هذه الحروف المقطعة يراد من افتتاح السور بها الإشارة إلى أن القرآن الكريم مركب من هذه الحروف العربية وأمثالها، فهل يستطيع العرب المعروفون بالفصاحة(8/136)
والبلاغة الإتيان بمثله، وبما أنهم قد عجزوا، فيدل ذلك على أنه كلام الله، فحكمتها بيان إعجاز القرآن، وتنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه من أحكام.
والغالب أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب مثل: «مريم والعنكبوت والروم وص ون» هي سور مكية لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحي. وأما السور المدنية التي بدئت بها كالبقرة وآل عمران (الزهراوين) فالدعوة فيها موجهة إلى أهل الكتاب.
حَرَجٌ ضيق مِنْهُ من تبليغه، مخافة أن يكذبك الناس لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل أي للإنذار به وَذِكْرى تذكرة نافعة وموعظة حسنة مؤثرة. قَلِيلًا ما ما حرف يؤكد معنى القلة تَذَكَّرُونَ أصله: تتذكرون.
التفسير والبيان:
بدأ الله تعالى هذه السورة المكية بالحروف الأبجدية المقطعة كغيرها من السور التي نزلت بمكة لإثبات النبوة والوحي.
هذا القرآن كتاب عظيم الشأن، أنزل إليك يا محمد من عند ربك، بقصد الهداية والخير، ووصفه بالإنزال للدلالة على عظيم قدره وقدر من أنزل عليه. فلا يكن في صدرك ضيق من الإنذار به وتبليغه للناس، وتذكير أهل الإيمان به ذكرى تنفعهم وتؤثر فيهم.
ومن المعلوم أن كل نبي ومصلح يلقى عادة إيذاء ومقاومة لدعوته، وصدودا وإعراضا عن رسالته، وما على الداعية إلا الصبر والمثابرة ومتابعة الطريق:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 35] . لذا كان المراد من هذا النهي شد العزيمة والاجتهاد في مقاومة الصعاب، وتحمل الشدائد، انتظارا لما عند الله على ذلك من وعد بالخير والفضل.
وبما أن هذا الكتاب ذو مهام خطيرة، فقد خاطب الله تعالى العالم بقوله:
اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره وراعيه، فهو وحده صاحب الحق في التشريع وفرض العبادات والتحليل(8/137)
والتحريم لأنه العليم بما هو مصلحة، الخبير بما هو مضرة لكم، فلا يشرع إلا الخير والسداد.
ولا تتبعوا من دون الله أولياء، كأنفسكم أو الشياطين التي توسوس لكم بما فيه الضرر والخطر، والضلال والفساد، والشر والسوء، والإيهام بأن الأصنام شركاء ذات تأثير عند الله، مع أنها أحجار لا تضر ولا تنفع، أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن الحق إلى الضلال، وعن حكم الله إلى حكم الشيطان والأهواء. ولكنكم تتذكرون قليلا، وتنسون الواجب عليكم نحو ربكم، وهذا مثل قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والعقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولأنه كلام معجز لا يصدر عن بشر ولأن الأحداث ومرور الأزمنة تثبت تفوقه وصلاحه لكل الأوقات، وهذا لا يمكن أن يتصف به تشريع وضعي.
2- واجب النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر الأنبياء تبليغ الوحي المنزل، وأما النتائج والآثار وانتصار الدعوات الإلهية فمردها إلى الله تعالى. وقد سرّى الله عن نبيه فنهاه عن أن يضيق صدره لعدم الإيمان به، فإنما عليه البلاغ، وليس عليه سوى الإنذار به، من شيء من إيمانهم أو كفرهم، كقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف 18/ 6] وقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 3] .(8/138)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
3- المقصود بالقرآن إنذار الكافرين والعصاة بسبب إعراضهم عنه، وتذكير المؤمنين به لأنهم المنتفعون به.
4- الأمر العام لجميع الناس باتباع ملة الإسلام والقرآن، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم داخل في ذلك لأن الله تعالى أمرنا باتباعه وطاعته بقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 16/ 44] فدلت الآية على وجوب اتباع الكتاب والسنة.
5- تحريم اتباع أحد من الخلق في الدين، كما فعل أهل الكتاب في طاعة رهبانهم: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] .
6- ترك اتباع الآراء الشخصية أو الاجتهادية مع وجود النص الشرعي.
7- المنع من عبادة أحد مع الله، واتخاذ من عدل عن دين الله وليا، علما بأن كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه.
عاقبة تكذيب الرسل في الدنيا
[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
الإعراب:
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ... كَمْ مبتدأ، وجملة: أَهْلَكْناها صفة لقرية.
وفَجاءَها بَأْسُنا خبر المبتدأ، ومعنى: أَهْلَكْناها: قارب إهلاكنا إياها. حتى لا يكون تكرار مع قوله: فَجاءَها بَأْسُنا. ويجوز أن تكون كَمْ في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه: فَجاءَها بَأْسُنا، لا أهلكنا لأن أهلكنا صفة، والصفة لا تعمل في الموصوف.(8/139)
وبَياتاً منصوب على المصدر في موضع الحال.
أَوْ هُمْ قائِلُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من أهل القرية.
البلاغة:
فَجاءَها على حذف مضاف تقديره: فجاء أهلها، لقوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ ولا حاجة لتقدير المضاف الذي هو الأهل قبل قَرْيَةٍ أو قبل الضمير في أَهْلَكْناها لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها.
بَياتاً ... وقائِلُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَكَمْ اسم يفيد التكثير، وهي خبرية قَرْيَةٍ مكان اجتماع الناس، أو الناس أنفسهم أَهْلَكْناها أردنا إهلاكها أو قاربنا إهلاكها. بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا، البينات:
الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرّة قائِلُونَ نائمون بالظهيرة، من القيلولة: وهي استراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم، أي مرة جاءها ليلا، ومرة جاءها نهارا.
دَعْواهُمْ قولهم ودعاؤهم.
المناسبة:
لما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ، وأمر القوم بالقبول والاتباع، ذكر في هذه الآية ما يترتب على المخالفة من عقاب ووعيد، من طريق التذكير بإهلاك الأمم السابقة، لمخالفتهم الرسل وتكذيبهم.
التفسير والبيان:
كثير من القرى وأهلها أهلكناهم بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فجاءهم العذاب أو الهلاك مرة ليلا كقوم لوط، ومرة نهارا كقوم شعيب، أتاهم العذاب على غرّة أو حين القيلولة: وهي الاستراحة وسط النهار، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ(8/140)
أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى، وَهُمْ يَلْعَبُونَ
[الأعراف 7/ 97- 98] وقال:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
[النحل 16/ 45- 47] .
فما كان قولهم عند مجيء العذاب، إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا، أي لم يصدقوا بشيء عند الإهلاك إلا بالإقرار بأنهم كانوا ظالمين.
قال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قوله: «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى الآتي:
1- إن عصيان أوامر الرسل وتكذيبهم موجب للخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. وعذاب الدنيا يأتي في وقت الغفلة واللهو، إما ليلا أو حين القيلولة نهارا.
2- كل مذنب حين توقيع العقاب الدنيوي عليه يعترف بجرمه، ويندم على ما فرط منه.
3- المقصود بالآية الإنذار والتخويف والعبرة بما حل بالأمم السابقة، فيحملهم الخوف على إصلاح أمورهم، والإقلاع عن معاصيهم: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد 13/ 11] .
4- الجزاء أو العقاب الإلهي في الدنيا حق وعدل ومطابق للواقع، ولا يجيء العذاب إلا بعد العصيان وإعذار الناس من أنفسهم.(8/141)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
عاقبة الكفر في الآخرة والحساب الدقيق على الأعمال
[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 9]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
الإعراب:
اللام في فَلَنَسْئَلَنَّ وفَلَنَقُصَّنَّ لام القسم، المراد بها التوكيد.
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ: الْوَزْنُ مبتدأ، ويَوْمَئِذٍ خبره.
والحق: مرفوع من ثلاثة أوجه: إما لأنه صفة للوزن، أو لأنه بدل من الضمير المرفوع في الظرف الذي هو خبر للمبتدأ، أو لأنه خبر عن المبتدأ، ويَوْمَئِذٍ: ظرف ملغى منصوب بالوزن.
البلاغة:
ثَقُلَتْ وخَفَّتْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي الأمم عن إجابتهم الرسل، وعملهم فيما بلغهم وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عن الإبلاغ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ لنخبرنهم عن علم بما فعلوه وَما كُنَّا غائِبِينَ عن إبلاغ الرسل، والأمم الخالية فيما عملوا.
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ للأعمال يوم القيامة الْحَقُّ العدل، صفة الوزن فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بالحسنات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بالسيئات فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتصييرها إلى النار يَظْلِمُونَ يجحدون آيات الله.
المناسبة:
بعد أن أنذر الله تعالى المخالفين رسلهم بعذاب الاستئصال في الدنيا، أتبعه(8/142)
بالتهديد بعذاب آخر يوم القيامة، وأبان أنه يسأل جميع الناس عن أعمالهم، سواء أهل العقاب وأهل الثواب. ولما بيّن في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة:
السؤال والحساب، بيّن أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال.
التفسير والبيان:
يسأل الله تعالى الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ الرسالات.
فيسأل الله كل فرد من أفراد الأمم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل الرسل عن تبليغهم وعن مدى إجابة أقوامهم لهم، وعما صدر منهم من إيمان أو كفر، فهي مسئولية تضامنية عامة كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ، فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص 28/ 65] وقال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 5/ 109] وقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟
[الأنعام 6/ 130] ويوضح هذه المسؤولية بين الراعي والرعية
ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» .
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلّغوا.(8/143)
والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم، فلما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير.
والتوفيق أو الجمع بين قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] وقوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص 28/ 78] : هو أن ليوم القيامة مواقف وأحوالا متعددة، فقد يكون السؤال والجواب في بعضها دون بعض، وقد يكون السؤال لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة.
وقال الرازي: إن القوم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها، ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها «1» ، أي الموانع التي حالت بينهم وبين التزام الأحكام الشرعية.
فلنخبرن عن علم ومعرفة وإحاطة تامة الرسل وأقوامهم بكل ما حدث منهم، فلا يغيب عنا شيء قليل أو كثير، وإن كان مثقال ذرة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض. قال ابن عباس في آية: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ:
يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كان يعملون.
وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم في وقت أو حال، بل كنا معهم نسمع قولهم، ونبصر فعلهم، ونعلم ما يسرون وما يعلنون، ونخبر العباد يوم القيامة بمنا قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، كما قال: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ
__________
(1) تفسير الرازي: 14/ 23 [.....](8/144)
الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] فقوله: وَما كُنَّا غائِبِينَ يعني كنا شاهدين لأعمالهم.
وهذا دليل على أن السؤال ليس للاستعلام والاستفهام عن شيء مجهول عن الله تعالى، بل للإخبار بما حدث منهم توبيخا وتقريعا على تقصيرهم وإهمالهم.
والمخبر به هو المحاسب عنه، وهو الذي يعقبه الجزاء. ثم بيّن تعالى قانون الحساب والجزاء فقال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ....
أي وزن الأعمال للرسل وأقوامهم والتمييز بين راجحها وخفيفها يوم القيامة يكون على أساس من الحق والعدل التام، فلا يظلم تعالى أحدا، كقوله:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40] .
فمن ثقلت موازينه، أي رجحت موازين أعماله بالإيمان والحسنات على السيئات، فأولئك هم الفائزون بالجنة، الناجون من العذاب. والموازين جمع ميزان أو موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم.
ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة سيئاته، فأولئك الذين خسروا أنفسهم، إذ حرموها السعادة والفوز بالنعيم الأبدي، وصيروها إلى عذاب النار.
والفريق الأول وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، وإن عذاب بعضهم بقدر ذنوبه، والفريق الثاني وهم الكافرون على تفاوت دركاتهم هم الخاسرون حقا.(8/145)
وهذا المعنى مكرر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ: نارٌ حامِيَةٌ [القارعة 101/ 6- 11] .
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة: هو الأعمال، وهي وإن كانت أعراضا معنوية إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما، كما يروى عن ابن عباس.
جاء في حديث البراء في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح»
وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة عن ابن مسعود: يتمثل المال الذي لم تؤدّ زكاته لصاحبه بصورة ثعبان شجاع أقرع له زبيبتان، ثم يأخذ بلهزمتيه ويقول:
أنا مالك، أنا كنزك، ونصه: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوّق به عنقه، ثم قرأ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران 3/ 180] الآية.
والدليل على أن الأعمال هي التي توزن:
ما أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة، دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة، دخل النار، قيل: ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال:
أولئك أصحاب الأعراف» .
ونقل القرطبي عن ابن عمر أن التي توزن: صحائف أعمال العباد. وعقب عليه بقوله: وهذا هو الصحيح، وهو الذي
ورد به الخبر وهو: «أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات، فيوضع فيه رقّ مكتوب فيه: لا إله إلا الله، فيثقل»
فدل على وزن ما كتب فيه الأعمال، لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفّف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفّتيه من الصحف التي فيها الأعمال.(8/146)
وهل هناك ميزان حقيقة؟ اختلف العلماء، فقال مجاهد والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل كما تقول: هذا الكتاب في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه، وإن لم يكن هناك وزن، أي أن المراد ظهور العدل التام في تقدير الجزاء على الأعمال.
وقال الجمهور: هناك وزن حقيقي وميزان، لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وجزائهم عليها. قال الزجّاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفّتان، ويميل بالأعمال.
والأولى في الغيبيات أن نؤمن بها كما وردت في القرآن والسنة، ونترك البحث عن صورتها وكيفيتها إلى الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى: فَلَنَسْئَلَنَّ ... على أن الكفار يحاسبون، جاء في التنزيل: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية 88/ 26] بل إن المسؤولية أو الحساب شيء عام لجميع العباد حتى الرسل: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح أي عن جواب القوم لهم، وهو معنى قوله: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب 33/ 8] وسؤال القوم سؤال تقرير وتوبيخ وإفضاح، فهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم.
وأما قوله تعالى في سورة القصص: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [78] فهو إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب، وموطن لا يسألون فيه.
وقوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول: إنه لا علم لله قول باطل.(8/147)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
وقوله تعالى: وَما كُنَّا غائِبِينَ يدل على وجود المراقبة والمشاهدة الإلهية لأعمال الخلائق.
والخلاصة: هذه الآية تثبت وجود السؤال والحساب لكل العباد يوم القيامة.
وأرشدت الآية الثانية إلى وزن أعمال العباد بالميزان، وهو الحق لخبر جابر المتقدم، وقيل: وزن صحائف أعمال العباد، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح.
والمراد من الميزان في قول مجاهد والضحاك والأعمش: العدل والقضاء، والمراد به في رأي الجمهور: الميزان الحقيقي لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله في حسابهم وجزائهم عليها، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من الناجين، ومن رجحت سيئاته على حسناته، فهو من الهالكين المعذبين. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفّتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فيخف وزنه حتى يقع في النار.
كثرة نعم الله على عباده
[سورة الأعراف (7) : آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
الإعراب:
مَعايِشَ مفعول جَعَلْنا وهي جمع معيشة، وأصلها معيشة على وزن مفعلة، إلا أنه نقلت كسرة الياء إلى العين، ولا يجوز همزها لأن الياء فيها أصلية، وأصلها في الواحد أن تكون متحركة. فإن كانت زائدة أصلها في الواحد السكون، نحو كتيبة على فعلية، همزت في الجمع، فيقال: كتائب، ونحو مدائن وصحائف وبصائر. وقد قرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج «معائش» بالهمز على تشبيه الأصلية بالزائدة، وهي قراءة ضعيفة قياسا.(8/148)
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ يا بني آدم، أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها مَعايِشَ جمع معيشة، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب وغيرها قَلِيلًا ما ما لتأكيد القلة تَشْكُرُونَ تلك النعم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم، ثم خوفهم بعذاب الدنيا: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وبعذاب الآخرة من وجهين: السؤال والحساب: فَلَنَسْئَلَنَّ.. ووزن الأعمال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ رغبهم في هذه الآية بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام عن طريق التذكير بكثرة نعم الله عليهم، وكثرة النعم توجب الطاعة.
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ ليظهر امتنانه على عبيده بكثرة إنعامه عليهم، بأن جعل الأرض لهم مكانا وقرارا، وسلطهم أو أقدرهم على التصرف فيها، وأباح لهم منافعها، وسخر لهم السحاب والمطر لإخراج أرزاقهم منها، وجعل فيها رواسي وأنهارا.
وجعل لهم فيها معايش من وجهين: إما بخلق الله تعالى ابتداء كخلق الثمار وغيرها، أو بطريق العمل والاكتساب واتخاذ الأسباب والاتجار فيها، وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى، وكثرة النعم لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد.
ولكن أكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم 14/ 34] وقال:(8/149)
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] .
وشكر النعمة: يكون بمعرفة الله المنعم معرفة تامة، وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت من أجله، بأداء حقوق الله تعالى، واستعمال أعضاء الإنسان في مناحي الخير ورضوان الله وصرفها عن وجوه الشر والمعاصي، وبالشكر بهذا المعنى تدوم النعم ويسعد الإنسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
التذكير بنعم الله تعالى موجب للطاعة والانقياد عند أهل الإيمان، لذا قلّ الشاكرون، وكثر الجاحدون.
ومن أجلّ النعم تمكين الإنسان من الاستقرار في الأرض والتصرف بما فيها من خيرات، والانتفاع بمنافعها الكثيرة، وقد أثبتت رحلات الطيران والفضاء، وصعود الإنسان إلى القمر وبعض الكواكب الأخرى في العصر العلمي الحديث مدى تعلق الإنسان بالأرض وحبّه لها وحنينه إليها عند بعده عنها.
ومن هذه النعم: تهيئة أسباب المعيشة في الأرض وتوفير ما يعاش به من ألوان المطاعم والمشارب وغيرها كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 2/ 29] .
وهذا يدل على أنه لم تخلق هذه النعم إلا لخير الإنسان، والحفاظ على الحياة البشرية، فردا أو جماعة، فأحرى بنا أن تكون هذه الحياة الجسدية أو المادية سببا أو عونا على تزكية الحياة الروحية وتطهير النفس، وإعدادها للحياة الأخروية الأبدية.
فما أسعد أهل الإيمان والطاعة بالتزام الأوامر الإلهية، واجتناب المعاصي والموبقات لأنه بالإيمان تطمئن النفس وبالطاعة تحفظ الأعضاء والطاقة الجسدية، والكرامة الإنسانية.(8/150)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
وما أشقى أهل الكفر والفسوق والعصيان لأن الكفر يلازمه القلق والحيرة والاضطراب، ولأن الفسق والمعصية يدمران الإنسان ماديا ومعنويا، فيصبح حائر النفس، ذليلا مهينا على الناس.
تكريم البشرية بالسجود لآدم وإغواء الشيطان وطرده من الجنة
[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
الإعراب:
ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ما استفهامية مبتدأ، مَنَعَكَ جملة فعلية خبر المبتدأ، وأَلَّا تَسْجُدَ في موضع نصب بمنعك، وأَلَّا صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد، كما في آية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 38/ 75] وتزاد كثيرا في كلام العرب. وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه. صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ منصوب بفعل لَأَقْعُدَنَّ على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأقعدن لهم على صراطك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه.
اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذءوما: حال من الضمير المرفوع في اخْرُجْ.(8/151)
البلاغة:
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ على حذف مضاف، أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم. ما مَنَعَكَ السؤال مع علمه تعالى بما منعه من السجود للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم.
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ استعار الصراط لطريق الهداية الموصل إلى الجنة.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أوجدنا أباكم آدم بتقدير حكيم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي صورناه وأنتم ذرأت في ظهره اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية واحترام إِلَّا إِبْلِيسَ أبا الجن الذي كان بين الملائكة أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة لتأكيد السجود إِذْ أَمَرْتُكَ حين الأمر فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة، وقيل: من السموات، والهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها أَنْ تَتَكَبَّرَ أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين من الصغار: وهو الذل والهوان.
أَنْظِرْنِي أخرني وأمهلني مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخرين، وفي آية أخرى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي يوم النفخة الأولى فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإيقاع في الغواية: وهي ضد الرشاد، والباء للقسم، وجوابه: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لبني آدم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي على الطريق الموصل إليك.
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من كل جهة، فأمنعهم من سلوكه، قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. مَذْؤُماً معيبا أو ممقوتا، من ذأم: عاب. مَدْحُوراً مبعدا مطرودا عن الرحمة لَمَنْ تَبِعَكَ من الناس، واللام: للابتداء أو موطئة للقسم وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي منك بذريتك ومن الناس، وفيه تغليب الحاضر على الغائب. وفي الجملة معنى جزاء لَمَنْ الشرطية أي من تبعك أعذبه.
المناسبة:
رغّب الله تعالى في الآيات السابقة بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام، بالتخويف أولا، ثم بالترغيب ثانيا بالتنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق،(8/152)
ثم أتبعه ببيان أنه خلق أبانا آدم وكرّمه بأمر الملائكة بالسجود له، والإنعام على الأب إنعام على الابن، لكن قد يتعرض الناس لوسوسة الشيطان وإغوائه، ولا يليق بهم مع هذه النعم العظيمة التمرد والجحود.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في سبعة مواضع في القرآن: في البقرة، والأعراف (هذه السورة) والحجر، وبني إسرائيل (الإسراء) والكهف، وسورة طه، وسورة ص.
ومضمون القصة هنا: التنبيه على تكريم آدم، وبيان عداوة إبليس لذريته، وحسده لهم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، وليشكروا الله على نعمه العظيمة.
والمعنى: لقد خلقنا أيها الناس أباكم آدم من الماء والطين اللازب، ثم صورناه بشرا سويا، ونفخنا فيه من روحنا، ثم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية.
وظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلق ذريته وتصويرهم، وليس الأمر كذلك، لذا تأول المفسرون الآية تأويلات أربعة، اختار منها الرازي القول الأول وهو: خلقنا أباكم آدم وصورناه، وبعد خلقه وتصويره أمرنا الملائكة بالسجود له، ولم يتأخر هذا الأمر عن خلقنا وتصويرنا، وذلك لأن آدم أصل البشر، فالخطاب لنا من باب الكناية، مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة 2/ 93] أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة 2/ 49] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة 2/ 72] ، والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 14/ 30(8/153)
فالمراد بذلك كله آدم عليه السلام، وهو اختيار ابن جرير الطبري أيضا «1» .
قال ابن كثير: وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر.
وروى الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أنه قال: «خلقوا في أصلاب الرجال، وصوروا في أرحام النساء» وقال أي الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. فيكون معنى الآية: ولقد خلقناكم في ظهر آدم عليه السلام أمثال الذّر، ثم صورناكم أي في الأرحام.
قال القرطبي: الصحيح من الأقوال ما يعضده التنزيل، قال الله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون 23/ 12] يعني آدم. وقال:
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء 4/ 1] ثم قال: جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله وذريته نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون 23/ 13] فآدم خلق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود، وذريته صوّروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء «2» . وهذا موافق لرأي الرازي والطبري، ومبيّن تصوير بني آدم، وهو جمع حسن بين الخلقين.
وأما السجود لآدم فمتفق عليه لقوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ أي وبعد إتمام خلق آدم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم له ولذريته لا سجود عبادة إذ لا معبود إلا الله وحده، وذلك حتى يعرفوا نعم الله عليهم، فيشكروها، وليحذروا إبليس ووساوسه بعد ما فعله قديما.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس الذي كان من الجن لا من الملائكة أبى واستكبر، ولم يكن مع الساجدين.
فسأله الله: ما منعك ألا تسجد؟ أي ما منعك وحال بينك وبين السجود؟
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 94
(2) تفسير القرطبي: 7/ 169(8/154)
ولا هنا زائدة للتأكيد بدليل اية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص 38/ 75] .
فأجاب معتذرا متعللا: إني أنا خير منه، خلقتني من النار، وخلقته من الطين، والنار بما فيها من خاصية الارتفاع والعلو والنور أشرف من الطين الذي يتسم بالركود والخمود والذبول، والشريف لا يعظّم من دونه، وإن خالف أمر ربه. هذا قياس إبليس، وهو أول قياس، لكنه باطل، إذ لا يستدل على الخيرية بالطبيعة المادية، وإنما تكون الخيرية بالمعاني والخصائص المفيدة فائدة أكثر، وقد حبا الله آدم من العلوم والمعارف والتكريم ما لا يجهله إبليس نفسه.
وهذا كله مبني على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار أو سؤال وجواب بين الله وإبليس، وما علينا إلا الإيمان بما دل عليه ظاهر الكتاب، وندع أمر الغيب والحقيقة لله عزّ وجلّ.
وكان جزاء المخالفة وعصيان الأمر الإلهي أنه تعالى أمر إبليس بالهبوط من الجنة التي خلقه الله فيها، وكانت على مرتفع من الأرض لأن الجنة مكان المخلصين المتواضعين، لا مكان المتمردين المتجبرين، لذا قال تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي فما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الجنة المعدة للكرامة والإسعاد، لا للتكبر والشقاء والعصيان.
فاخرج من هذا المكان، إنك من الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض مقصوده، ومكافأة لمراده بضده.
فاستدرك اللعين وسأل الإمهال إلى يوم الدين، قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته، فأكون معهم حال الحياة للأخذ بالثأر من طريق الإغواء، وأشهد انقراضهم وبعثهم.
فأجابه الله إلى مطلبه، فقال له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤجلين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق، وهي نفخة الفزع لقوله تعالى:(8/155)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل 27/ 87] وتسمى أيضا نفخة الصعق لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزّمر 39/ 68] .
أي إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى، كما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 13- 14] .
ولما أنظر إبليس إلى يوم البعث واستوثق بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: فَبِما أَغْوَيْتَنِي.. أي كما أغويتني أو أضللتني. لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية آدم على طريق الحق وسبيل النجاة والسعادة، ولأضلنهم عنها، لئلا يعبدوك ولا يوحدوك، بسبب إضلالك إياي، وذلك بأن أزيّن لهم طرقا أخرى كلها ضلال وانحراف.
ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع (اليمين والشمال والأمام والخلف) إلا أتيتهم منها، مترصدا لهم كما يترصد قاطع الطريق للمارّة.
ولا تجد أكثرهم شاكرين لك نعمتك، ولا مطيعين أوامرك، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، وأصاب ما هو حاصل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ 34/ 20- 21] .
ثم أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي اخرج من الجنة معيبا ممقوتا، مبعدا مطرودا من رحمة الله.(8/156)
وأقسم الله على أن من تبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفسوق والمعصية، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك أجمعين. وذلك كما في آية أخرى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص 38/ 85] وآية: قالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء 17/ 63- 65] .
واستثنى الله تعالى من إغوائه عباده المخلصين، فقال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر 15/ 42] وقال أيضا: قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 38/ 82- 83] .
والمراد من كل هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان، واختيارهما في أعمالهما.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- تكريم النوع الإنساني بسجود الملائكة لأصل الإنسان وهو آدم أبو البشر.
2- الخلق والتصوير لله وحده، ولا يستطيع أحد من البشر فعل شيء منهما.
والخلق لغة: التقدير، وتقدير الله: عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين. والتصوير: عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ.
3- رفض إبليس أمر الله بالسجود لآدم، تكبرا منه واستعلاء لأنه رأى أن النار المخلوق منها أشرف من الطين الذي خلق منه آدم، لعلوها وصعودها(8/157)
وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن البصري وابن سيرين:
أول من قاس إبليس، فأخطأ القياس، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس. وقال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس أي المقاييس الفاسدة التي منها تفضيل النار على الطين، وهو خطأ، لما يأتي:
أما جوهر الطين ففيه الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر، وهذا ما دعا آدم عليه السلام إلى التوبة والتواضع والتضرع.
والنار سبب للعذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببا للعذاب. وذلك يدل على أن التراب أفضل من النار.
إن قياس إبليس هو القياس الفاسد المصادم للنص، أما القياس الصحيح الموافق للنص فيجب العمل به شرعا لانسجامه مع النصوص. قال الطبري:
الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وإجماع الأمة، هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة.
4- إن جزاء الرفض لأمر الله من إبليس استوجب طرده من الجنة، ذليلا معيبا ممقوتا مطرودا مبعدا من رحمته،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم عن أبي هريرة: «من تواضع لله رفعه الله»
وقال أيضا فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من تكبر وضعه الله»
وقال بعضهم: لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار.
5- سأل إبليس النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب، وطلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فأنظره الله إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية، حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه. لكن إنظار الله تعالى إبليس إلى يوم القيامة(8/158)
لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق، سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك، فلم يكن ذلك الاعلام موجبا إغراءه بالقبيح.
6- للشيطان دور في إغواء بعض الناس من طريق الوسوسة لهم، والإغواء: إيقاع الغي في القلب، والغي: هو الاعتقاد الباطل. ودل قوله تعالى: فَبِما أَغْوَيْتَنِي على أن الله تعالى أضلّ إبليس وخلق فيه الكفر، لذا نسب الإغواء إلى الله تعالى، وهو الحقيقة ومذهب أهل السنة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى.
7- المراد من قوله تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ: أن الشيطان يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها. وتدل هذه الآية على أن إبليس كان عالما بالدين الحق، والمنهج الصحيح لأن صراطك الله المستقيم هو دينه الحق.
8- محاولات إغواء الشياطين لا تقتصر على وجه واحد، وإنما تأتي من كل أوجه الحياة، فينبغي الحذر من الشيطان، لذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها،
كما روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي»
أي من الخسف.
9- دلت آية: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ.. على أن التابع والمتبوع تملأ جهنم منهما، وهذا يشمل الكافر والفاسق، مما يدل قطعا على دخول الفاسق النار، والمذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه، وليس في الآية أن كل من تبعه يدخل جهنم. وتدل الآية أيضا على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأنهم كلهم تابعون لإبليس.(8/159)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
قصة آدم في الجنة وخروجه منها
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
الإعراب:
ما نَهاكُما لَهُمَا نافية عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ الشَّجَرَةِ صفة لهذه، وهي اسم جنس، وأسماء الإشارة توصف بالأجناس.
إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ لَكُما متعلق بمحذوف، وتقديره: ناصح لكما لمن الناصحين. ولا يجوز أن يكون متعلقا بالناصحين لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول، واسم الفاعل صلة له، والصلة لا تعمل في الموصول، ولا فيما قبله. فإن جعلت الألف واللام للتعريف، لا بمعنى الذين، جاز أن يتعلق بالناصحين، وهو قول أبي عثمان المازني. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَمْ:
تردّ الفعل المستقبل إلى معنى الماضي، ودخلت إن الشرطية على لَمْ لتردّ الفعل إلى أصله وهو الاستقبال لأن إِنْ الشرطية ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صار لفظ الفعل المستقبل بعد لَمْ بمعنى الماضي، ردّتها إلى الاستقبال لأنها ترد الماضي إلى الاستقبال.(8/160)
البلاغة:
وَيا آدَمُ فيه إيجاز بالحذف، أي وقلنا: يا آدم.
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ عبر عن الأكل بالقرب مبالغة في النهي عن الأكل منها.
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما أكد الخبر بالقسم وبأنّ واللام لدفع شبهة الكذب.
فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
اسْكُنْ أَنْتَ تأكيد للضمير في اسْكُنْ ليعطف عليه وَزَوْجُكَ هي حواء وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل منها، وهي الحنطة. فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، والمراد منها هنا: ما يجده البشر في أنفسهم من الخواطر التي تزين ما يضر وُورِيَ من المواراة أي ما غطّي وستر مِنْ سَوْآتِهِما السوءة: ما يسوء الإنسان ويؤلمه، وسوأة الإنسان:
عورته لأنه يسوؤه ظهورها، قال العلماء: في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور.
وأنه مستهجن طبعا وعرفا أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي الذين لا يموتون أبدا لأن الخلود لازم عن الأكل منها، كما في آية أخرى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ، وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه 20/ 120] .
وَقاسَمَهُما أقسم لهما بالله بكل تأكيد على ذلك حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله.
قال الألوسي: وإنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجدّ فيه.
فَدَلَّاهُما حطهما عن منزلتهما في الجنة بِغُرُورٍ بخداع منه بالباطل ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهر لكل منهما قبله ودبره، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه، كما ذكر وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما يلزقان ويرقعان من ورق الجنة ورقة فوق ورقة ليستترا به عَدُوٌّ مُبِينٌ بين العداوة. والاستفهام بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُما للتقرير.
المناسبة:
الآيات استمرار في الكلام عن النشأة الأولى للبشر ودور شياطين الجن في إغواء الناس. والقصد من القصة إرشاد الناس إلى طرق الهداية، وتحذيرهم من وساوس الشياطين، فإن الشيطان بسبب حسده لآدم وحواء سعى في المكر(8/161)
والوسوسة والخديعة، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن. وقد ذكرت هذه القصة في القرآن في سبعة مواضع، كما بينت في الآيات السابقة.
وكيف وسوس الشيطان لآدم، الذي كان في الجنة، وإبليس أخرج منها؟
قال الحسن البصري: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى فيه.
التفسير والبيان:
أباح الله تعالى لآدم عليه السلام وزوجه حواء المخلوقة منه سكنى الجنة، وأن يأكلا من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة، فالأمر هنا أمر إباحة لا أمر تكليف.
وتلك الجنة في رأي الجمهور هي جنة الخلد، وقيل: جنة من جنان السماء، أو جنة من جنان الأرض.
وخاطب الله آدم أولا بطريق الوحي، ثم خاطبه مع زوجته، لتساويهما في الأكل من ثمار الجنة.
وما روي في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج»
من باب التمثيل المراد به المنع من تقويم المرأة بالشدة والغلظة في المعاملة.
وأباح الله بقوله: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لهما الأكل من مختلف ثمار الجنة، ونهاهما عن الأكل من شجرة خاصة لم يعينها لنا في كتابه، وقد علل النهي بأنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لأنفسهما، بفعلهما ما يعاقبان عليه.
وهذا امتحان من الله في إباحة الكثير وتحريم القليل.
فحسدهما الشيطان، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، فزيّن لهما ما يضرهما ويسوؤهما، بأن تمثّل لهما(8/162)
وكلّمهما، لتنكشف عورتهما التي يؤثران سترها، أي لتكون عاقبة ذلك ظهور العورة. قال الحسن البصري: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له. وهذا هو الرد على أن إبليس أخرج من الجنة وكان آدم فيها.
وقال كذبا وافتراء: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين: أن تكونا ملكين أو خالدين هاهنا لا تموتان وتبقيان في الجنة ساكنين، أي لئلا تكونا ملكين «1» أو خالدين في الجنة، ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلك كقوله: قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه 20/ 120] . وقال الزمخشري: إلا كراهة أن تكونا ملكين.
والسبب في اختيار هاتين الخاصتين: أن للملائكة مزايا وخصائص كالقوة والبطش، وطول البقاء، وعدم التأثر بأحوال الكون، وأن الخلود في الجنة بدون موت البتة هو أمل الإنسان. أي أن إبليس أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة:
إما ليتصف الآكل بصفات الملائكة، أو لتحقيق الخلود في الحياة.
وفي هذه إشارة إلى تفضيل الملائكة على آدم.
ثم حلف لهما بالله وأقسم قسما مؤكدا: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فإني من قبلكما هاهنا وأعلم بهذا المكان.
وقوله: قاسَمَهُما من باب المفاعلة المراد بها أحد الطرفين، بقصد المبالغة وتغليظ القسم، فإنه حلف لهما بالله على ذلك، حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله.
__________
(1) وهذا مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلوا، وقوله: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل 16/ 15 ولقمان 31/ 10] أي لئلا تميد بكم.(8/163)
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي ما زال يخدعهما ويغريهما بالترغيب في الأكل من الشجرة، وبالوعد، وبالقسم بالأيمان المغلّظة، حتى نسيا أن الله أخبرهما أنه عدو لهما، وتمكن من زحزحتهما وإسقاطهما من منزلتهما عند الله بسبب طاعتهما، بما غرهما به من اليمين وزيّن لهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 20/ 115] . ومعنى فَدَلَّاهُما فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله.
فلما ذاقا ثمرة الشجرة، ظهرت عوراتهما، وزال النور عنهما، وشرعا يجعلان ورقة على ورقة من ورق أشجار الجنة العريض لستر العورة.
وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبخا بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي ألم أنهكما من الاقتراب من هذه الشجرة والأكل منها، وأقل لكما: إن الشيطان ظاهر العداوة لكما، فإن أطعتماه أخرجكما من دار النعيم وهي الجنة إلى دار الدنيا وهي دار الشقاء والتعب في الحياة، فاحذروا الشيطان كما قال: فَقُلْنا: يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى [طه 20/ 117] .
قالا: رَبَّنا ظَلَمْنا.. أي قالا: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بمخالفة أمرك وطاعة الشيطان عدوك وعدونا، وإن لم تستر ذنبنا وترض عنا وتقبل توبتنا، لنكونن من الذين خسروا الدنيا والآخرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 37] .
ثم خاطب الله آدم وحواء وإبليس بقوله: قالَ: اهْبِطُوا.. أي أنزلوا من هذه الجنة، بعضكم عدو لبعض، يعني أن العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول البتة، فإبليس يعاديهما أي آدم وحواء وهما يعاديانه. فعلى الإنسان أن يحذر من وساوس الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر 35/ 6] .(8/164)
والإخراج من الجنة كان هو العقاب على تلك المعصية، أما العقاب الأخروي فقد عفا الله عنه بالتوبة التي أذهبت أثره وقبلها الله تعالى، كما قال: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه 20/ 121- 122] .
ثم أبان تعالى أجل الإنسان في الدنيا فقال: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ..
أي لكم قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول، فيها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم، وفيها تموتون حين انتهاء الأجل، ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء بعد الموت حينما يريد الله: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه 20/ 55] .
فقه الحياة أو الأحكام:
بعد إخراج إبليس من موضعه في السماء، قال الله لآدم: اسكن أنت وحواء الجنة، وهو أمر تعبد، أو أمر إباحة وإطلاق، من حيث إنه لا مشقة فيه، فليس هو أمرا تكليفيا، ولا يتعلق به تكليف.
وهذا دليل على أن سكنى آدم في الجنة كانت في مبدأ حياتهما، ثم أمرا بالنزول إلى الأرض، بسبب كيد الشيطان وحسده ووسوسته، وكان أخطر سلاح استخدمه هو تغريرهما بالحلف المؤكد بالله، فانخدعا، وقد يخدع المؤمن بالله.
وقد فهم من آية: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ تفضيل الملائكة على البشر، كما في آيات كثيرة منها: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام 6/ 50] ومنها:
لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء 4/ 172] وقال الكلبي: فضلوا- أي المؤمنون- على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت لأنهم من جملة رسل الله.(8/165)
واختار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة.
وأما هذه الآية أو الواقعة: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فكانت قبل النبوة.
ودلت آية: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما على أن كشف العورة من المنكرات، وأنه لم يزل مستهجنا في الطباع، مستقبحا في العقول، وأن الله أوجب ستر العورة، ولذلك ابتدر آدم وحواء إلى سترها، فمن دعا إلى كشف العورات سواء عند الرجال أو النساء فقد هتك ستر الحياء، وأعاد الإنسان إلى البدائية الهمجية، وجعل المرأة سلعة للمتعة والتسلية ولم يرع صون العرض الذي أمر به الدين واقتضته الفطرة السليمة، وكان صنيعه مثل الشيطان:
يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما.
وكان ترغيب إبليس لآدم في مجموع الأمرين: الاتصاف بصفات الملائكة، والخلود من غير موت البتة.
وكانت عقوبة آدم وحواء على المخالفة هي الهبوط إلى الأرض، أما عقاب الآخرة فقد أسقطه الله تعالى بالعفو عنهما وبقبول توبتهما. وقد اختار الرازي أن هذا الذنب إنما صدر عن آدم قبل النبوة.
وأما آية: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. فدلت على أمرين:
1- وجود العداوة الدائمة بين الإنسان والشيطان، ولما كانت العمدة في العداوة آدم وإبليس، قال تعالى في سورة طه: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [123] .
2- توقيت بقاء الإنسان في الدنيا، بحسب الأجل من الميلاد إلى الوفاة، وفي الأرض يعيش الإنسان وذلك نعمة عظمي، لأنها موضع قرار واستقرار، واستمتاع بزخارف الحياة، وتنعم بمختلف نعم الحياة، ثم يأتي الموت، ثم يأتي البعث والإخراج من القبور، ثم يكون الحساب والجزاء في عالم الآخرة.(8/166)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
ومغزى هذه القصة كما أشرت في المناسبة: هو إرشادنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكر الله وطاعته، وتنفيذ أوامره، واجتناب معاصيه، والحذر من وساوس الشيطان.
فإذا عرفنا غرائزنا وميولنا، وعرفنا خطر عدونا وهو الشيطان، وربّينا أنفسنا على تذكر عهد الله وميثاقه بأن نعبده وحده دون سواه، ونزكي النفس بالأخلاق والآداب الحسنة ونعمل على تهذيبها، كنا سعداء الدنيا والآخرة، وأدينا رسالتنا في هذه الحياة.
توفير حوائج الدنيا لبني آدم وتحذيرهم من فتنة الشيطان
[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
الإعراب:
وَلِباسُ التَّقْوى قرئ بالنصب عطفا على قوله: وَرِيشاً أي أنزلنا ريشا ولباس التقوى، وقرئ بالرفع لخمسة أوجه: الرفع على أنه مبتدأ ثان، وخَيْرٌ خبره، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول وهو ذلِكَ. أو يكون ذلِكَ فصلا، وخَيْرٌ خبر المبتدأ، أو يكون ذلِكَ وصفا للباس التقوى، أو يكون بدلا، أو عطف بيان، كأنه قال:
ولباس التقوى المشار إليه خير. ورأى الزمخشري أنه مبتدأ، وخبره إما جملة ذلِكَ خَيْرٌ وإما المفرد وهو خَيْرٌ، وذلِكَ صفة للمبتدأ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.
يَنْزِعُ عَنْهُما.. جملة فعلية في موضع نصب حال من الضمير في أَخْرَجَ.(8/167)
مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ حَيْثُ مبنية على الضم، لوجهين: إما لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد لأنها لا تضاف إلا إلى الجمل، فنزلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني.
وإما لأنها أشبهت الحرف، والحرف مبني، فكذلك ما أشبهه.
البلاغة:
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً مجاز مرسل، أي أنزلنا مطرا ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم ذات الأصواف والأوبار والأشعار.
وَلِباسُ التَّقْوى تشبيه بليغ، من إضافة المشبه به إلى المشبه، كما أضيف إلى الجوع في قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
المفردات اللغوية:
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقناه لكم، واللباس: كل ما يلبس في السلم والحرب يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر عوراتكم وَرِيشاً الريش هنا والرياش: ما يتجمل به من الثياب فهو لباس الحاجة والزينة، وأكثر أهل اللغة: أن الريش: ما ستر من لباس أو معيشة. وَلِباسُ التَّقْوى أي لباس الورع والخشية من الله تعالى، بالعمل الصالح والسمت الحسن. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون فيؤمنوا.
لا يَفْتِنَنَّكُمُ لا يضلنكم، وأصل الفتنة: الابتلاء والاختبار، والمعنى: لا تتبعوا الشيطان فتفتنوا وَقَبِيلُهُ جنوده وجماعته، والقبيل كالقبيلة. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ للطافة أجسادهم أو عدم ألوانهم إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أعوانا وقرناء.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض مستقرا لهما، أبان أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في شؤون الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا. وذلك يقتضي شكر الله على نعمه العظيمة وعبادته بحق.(8/168)
التفسير والبيان:
يمتن الله تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس ستر العورات، والريش: ما يتجمل به، والأول من الضرورات، والثاني من التكملات والتحسينات.
يا بني آدم، اذكروا نعمة الله عليكم وعلى أبيكم آدم من قبل، بما وفرته لكم من حوائج الدين والدنيا كاللباس والرياش، لستر العورات، والاستمتاع بالزينة والجمال، واتقاء الحر والبر. ومعنى إنزاله من السماء: خلقه وإنتاج مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما اقتضته الحاجة، ثم تعلم صنعته وخياطته بإلهام من الله. وهذا الامتنان بنعمة اللباس والزينة دليل على الإباحة، وهو مطابق لفطرة الإنسان بحب الزينة والتظاهر أمام الناس.
ويسن الحمد والشكر عند ارتداء الثوب الجديد،
لما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استجد ثوبا، فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله، حيا وميتا» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن علي قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عند الكسوة: «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي» .
ثم فضل الله تعالى على اللباس المادي أو الحسي لباس التقوى المعنوي فقال:
وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ وهو كما قال ابن عباس: الإيمان والعمل الصالح، وقيل: هو السمت الحسن، فهذا لا شك خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به.
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ معناه: ذلك المذكور وهو إنزال اللباس عليهم من(8/169)
آيات الله الدالة على قدرته وفضله ورحمته على عباده. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي أن هذه النعم تؤهلهم لتذكر فضل الله عليهم وشكره، ومعرفة عظيم النعمة فيه، والبعد عن فتنة الشيطان، وإبداء العورات.
ثم حذر الله تعالى بني آدم من إبليس وجنوده، مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته، بعد ما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف 18/ 50] .
كرر الله النداء لبني آدم على وفق الأسلوب العربي في مقام التذكير والوعظ، فقال: لا يَفْتِنَنَّكُمُ أي لا تغفلوا عن أنفسكم، ولا يصرفنكم الشيطان عن الدّين، كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة، فلا تصغوا لوسوسة الشيطان، ولا تهملوا تحصين أنفسكم بالتقوى، وصلوها دائما بذكر الله، فيترتب على فتنة الشيطان ألا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم ووسوس لهما، وزين لهما معصية ربهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها، فأخرجهما من الجنة دار النعيم، وتسبب في هبوطهما إلى الأرض.
أخرجهما من الجنة، وتسبب أيضا في نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة، لأجل أن يريهما سوءاتهما، واللام في لِيُرِيَهُما هي لام العاقبة أو الصيرورة، مثل اللام في لِيُبْدِيَ لَهُما.
احذروا إبليس فإنه هو وجنوده من الجن يرونكم وأنتم لا ترونهم، والضرر الناجم من العدو الذي لا يرى أخطر من العدو الظاهر المرئي.
والوقاية منه تكون بالاستعاذة بالله منه، وبتقوية الروح بالإيمان بالله والصلة به، وبمجاهدة النفس وعدم إصغائها للوساوس، ثم محاولة طردها من(8/170)
النفس وتصفية آثارها منها، من طريق التزام قواعد الشرع وآدابه وأخلاقه.
ثم أكد التحذير من الشيطان، فأبان أنه تعالى جعل الشياطين أنصارا وأعوانا للكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى إيمانا حقا تزكوا به نفوسهم وتصلح أعمالهم، وذلك بسبب استعدادهم لقبول وسوسة الشيطان، كاستعداد ضعفاء الأجسام لتقبل الأمراض بسرعة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ على وجوب ستر العورة لأنه قال: يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي أنه تعالى جعل لذرية آدم لباسا يسترون به عوراتهم، وفيه دلالة على الأمر بالتستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس.
واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال الظاهرية والطبري: هي من الرجل الفرج نفسه: القبل والدّبر، دون غيرهما لقوله تعالى: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما. لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما
وفي البخاري عن أنس: «فأجرى- ركض- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زقاق خيبر- وفيه- ثم حسر الإزار عن فخذه، حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم» .
وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وحجة مالك
قوله صلّى الله عليه وسلّم لجرهد: «غطّ فخذك، فإن الفخذ عورة» خرّجه البخاري
تعليقا، وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد «1» أحوط، حتى يخرج من اختلافهم، يعني أن الفخذ على الصحيح عند المالكية ليس بعورة، لأنها ظهرت من النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر، ولكن يكره كشفها، لحديث جرهد.
__________
(1) هو جرهد بن خويلد، وهو صحابي.(8/171)
وقال أبو حنيفة: الركبة عورة.
وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح، لكن يجب سترهما عند الشافعية من قبيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأما المرأة الحرة: فعورة كلها إلا الوجه والكفين، عند أكثر أهل العلم، بدليل قول جمهور الفقهاء: من أراد أن يتزوّج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفّيها ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام.
ودلت آية أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً.. وَرِيشاً على مزيد نعمة الله تعالى بتوفير ما يحتاجه الإنسان في الدنيا، وليعينه على أمر الدين والآخرة.
لكن لباس التقوى: وهو الإيمان والعمل الصالح والسّمت الحسن في الوجه هو خير وأبقى، وأخلد وأنقى، وبه النجاة عند الله، وهو طريق القربى إلى الله عز وجل، لأن المعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لبس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلنا إليكم فالبسوه.
وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ يدل على تحذير الناس من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم، وبيّن فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان بدليل تأثيره على آدم وحواء وإيقاعهما في الزلة الموجبة لإخراجهما من الجنة، فإذا أثر على آدم فكيف يكون حال آحاد الناس؟
واللباس الذي نزعه الشيطان عن آدم وحواء: هو ثياب الجنة.
وقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الإنس لا يرون الجن، ويؤكده
الخبر الذي أخرجه أحمد: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى(8/172)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
الدم»
وقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس 114/ 5]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود: «إن للملك لمّة وللشيطان لمّة- أي بالقلب- فأما لمّة الملك: فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، وأما لمّة الشيطان: فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق» .
وفيما عدا هذا جاء في رؤية الجن أخبار صحيحة في البخاري ومسلم.
وعقيدتنا أنه لا قدرة للشيطان على البشر بوجه من الوجوه، بدليل قوله تعالى:
ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم 14/ 22] .
واحتج أهل السنة بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على أن الله هو الذي سلّط الشيطان الرجيم على الكافرين حتى أضلهم وأغواهم، زيادة في عقوبتهم، وتسوية بينهم في الذهاب عن الحق، فأصبح الشيطان وليا لمن لا يؤمن.
تشريع المشركين تقليد الآباء وتشريع الله الوحي إلى رسوله
[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)(8/173)
الإعراب:
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ: الكاف في كَما في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: تعودون عودا مثل ما بدأكم.
فَرِيقاً هَدى، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ: فَرِيقاً الأول منصوب بهدى.
وفَرِيقاً الثاني منصوب بتقدير فعل دلّ عليه ما بعده، وتقديره: وأضل فريقا حق عليهم الضلالة. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير تَعُودُونَ وتقديره: كما بدأكم تعودون في هذه الحالة.
المفردات اللغوية:
فاحِشَةً الفاحشة: هي الفعلة المتناهية في القبح، وهي كل معصية كبيرة، كالشرك وطوافهم بالبيت عراة، قائلين: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنهوا عنها أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنه قاله، وهو استفهام إنكاري.
بِالْقِسْطِ العدل والاعتدال والتوسط في جميع الأمور. وَأَقِيمُوا معطوف على معنى:
بالقسط، أي قال: أقسطوا وأقيموا. وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه، كإقامة الصلاة، وإقامة الوزن بالقسط. وُجُوهَكُمْ الوجه معروف وهو أشرف أعضاء الإنسان، والمراد هنا: إما العضو المعروف من الإنسان مثل قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة 2/ 144] وإما كناية عن توجه القلب وصحة القصد، مثل قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم 30/ 30] .
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي أخلصوا له سجودكم. وَادْعُوهُ اعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. كَما بَدَأَكُمْ خلقكم ولم تكونوا شيئا. تَعُودُونَ أي يعيدكم أحياء يوم القيامة.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم، ذكر هنا أثرا من آثار تسلط الشياطين على الذين لا يؤمنون، وهو طاعتهم لهم.
التفسير والبيان:
وإذا فعل المشركون فعلة فاحشة قبيحة ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم(8/174)
كالشرك والطواف بالبيت عراة رجالا ونساء، والأولى الحكم بتعميم معنى الفاحشة: وهي كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، قالوا: نحن في هذا مقلدون للآباء، متبعون للأسلاف، ويعتقدون أنها طاعات، وأن الله أمرهم بها، وهي في أنفسها فواحش، فكانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش وهم لا يدركون فحشها بأمرين: أحدهما: أنا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا والثاني:
أن اللَّهُ أَمَرَنا بِها.
أما الحجة الأولى- فلم يجب الله عنها لأنها إشارة إلى محض التقليد، وهو عقلا طريقة فاسدة، وفسادها ظاهر جلي لكل أحد، فلم يحتج إلى الجواب عنه.
وأما الحجة الثانية وهي قولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فقد أجاب عنه تعالى بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي إن هذه الأفعال منكرة قبيحة على لسان الأنبياء والمرسلين، والله بكماله منزه عن أن يأمر بها، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمر بها؟! والواقع إنما يأمر بها الشيطان، كما قال تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة 2/ 268] .
ثم أنكر الله تعالى عليهم قولهم باستفهام إنكاري فقال: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ... أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته؟! فتشريع الله لا يثبت إلا بوحي منه إلى رسوله، وأنتم تعملون بوحي الشيطان، وتفترون على الله الكذب، فهذا إنكار لإضافتهم القبيح إلى الله، وشهادة على أن مبني قولهم الجهل المفرط.
وبعد أن أنكر تعالى صدور الأمر عنه بالفحشاء، أعلن أنه إنما يأمر بالقسط والعدل: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي قل يا محمد لهم: إنما يأمر ربي بالعدل والاستقامة والتوسط في الأمور دون إفراط ولا تفريط.(8/175)
وأمر ربي بإيفاء عبادته حقها، وأن تقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها، في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود، وهو الصلاة، واعبدوه (ادعوه) مخلصين له الدين، أي الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصا.
أي إن هذه الآية تأمر بشيئين: 1- الاستقامة في العبادة في أوقاتها ومحالّها، كما جاء بها الأنبياء والمرسلون المؤيدون بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاؤوا به من الشرائع. 2- الإخلاص لله في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك «1» .
ثم احتج تعالى عليهم في إنكارهم الإعادة والبعث: بابتداء الخلق، فقال:
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.
وأنتم حال البعث والحساب بين فريقين: فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإيمان والإخلاص، وهم الذين أسلموا، وفريق حقت عليه كلمة العذاب والصرف عن طريق الثواب، وحق عليه الضلالة لاتباعه إغواء الشيطان وإعراضه. عن طاعة الله، وعلم الله أن أفراد هذا الفريق يضلون ولا يهتدون.
فسبب ثبوت الضلالة على هذا الفريق: هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به. وهذا دليل على أن علم الله بضلالهم لا أثر له في ضلالهم، وأنهم- كما قال الزمخشري المعتزلي- هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين، دون الله سبحانه.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 208(8/176)
وأما على رأي أهل السنة القائلين بأن الهدى والضلال من الله تعالى، فالمعنى أن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء، ولكن الداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.
والفريق الثاني يتصف بصفة أخرى هي أنهم يظنون أنهم مهتدون أي على بصيرة وهداية، وهم في الحقيقة ضالون مخطئون: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف 18/ 103- 104] .
ويؤكد معنى الآية في الفريق الثاني
ما رواه مسلم عن عياض بن حمار قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم، عن دينهم» .
وفسّر بعضهم: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ بأنه كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم. قال ابن عباس:
إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن 64/ 2] ثم يعيدهم كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. وهذا موافق
لحديث ابن مسعود في صحيح البخاري: «فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .
وبناء على هذا التأويل يكون هناك تعارض بينه وبين قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم 30/ 30] ومثله ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل(8/177)
مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» وما جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المتقدم.
والتوفيق بين آية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... وآية: فِطْرَتَ اللَّهِ ...
وما يؤيد كليهما من الأحاديث: هو أن الله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك، وجعله في غرائزهم وفطرهم.
وبعد هذا الخلق على هذا النحو الفطري السليم، قدّر تعالى، وعلم في علمه الأزلي القديم السابق أنه سيكون من الخلق المؤمن والكافر، والشقي والسعيد، وسيطرأ تغير على الحالة الأصلية التي فطروا عليهم، وهو معنى قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي سيؤول أمره في ثاني الحال إلى الكفر بعد الإيمان، وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] والَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- تقليد الآباء والأسلاف مرفوض عقلا وطبعا لأن الله ميّز الإنسان بالعقل الذي يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، فإن كان الآباء على حق وخير، جاز اتباعهم وتقليدهم، وإن كانوا على ضلالة وشر، وجب البعد عن منهجهم وطريقهم، وإلا كانوا على جهل وخطأ.
2- لا يأمر الله إلا بالعدل والاستقامة، وهو منزّه عن الأمر بالفحشاء والمنكر والمعاصي.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: 2/ 209(8/178)
3- الواجب على المؤمن في عبادة ربه أمران: أن يكون فعله موافقا للصواب الذي قررته الشريعة، وأن يكون خاليا من الشرك، أي بأن يخلص العبادة لله والطاعة، وينأى عن وجوه الخطأ والانحراف.
4- إعادة الخلق بالبعث مثل ابتداء الخلق الأول، بل هو أهون: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] .
5- قال الرازي: إنه تعالى أمر في هذه الآية: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... بثلاثة أشياء:
أولها: أنه أمر بالقسط: وهو قول: لا إله إلا الله، وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له.
وثانيها: أنه أمر بالصلاة، وهو قوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.
وثالثها: أنه أمر بعبادته مخلصين له الدين «1» .
6- الناس جميعا عند خلقهم مخلوقون مفطورون على فطرة التوحيد ومعرفة الله تعالى، ثم يتغير حال بعضهم بمؤثرات البيئة والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمجتمع.
7- يزيد الله تعالى المؤمنين هداية وتوفيقا إلى الخير، بعد هداية أصل التوحيد ومعرفة الله، وثبوت الضلالة على الكافر بسبب إصغائه لوساوس الشيطان: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن جرير الطبري: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها،
__________
(1) تفسير الرازي: 14/ 57(8/179)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
فيركبها عنادا منه لربه فيها لأنه لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ، وهو يحسب أنه مهتد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية «1» ، أي أن العذاب لا يكون فقط على حالة العناد والعلم بالصواب، بل قد يكون على حالة الجهل والانحراف والخطأ في تبين الصواب.
إباحة الزينة والطيبات من المآكل والمشارب
[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
الإعراب:
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: يجوز أن يكون ظرفا للخبر الذي هو لِلَّذِينَ آمَنُوا ويجوز أن يكون خبرا.
خالِصَةً حال من الضمير الذي في لِلَّذِينَ الذي هو الخبر، وهو العامل في الحال، والعامل في الحال على الحقيقة هو الفعل المحذوف، والتقدير: قل هي استقرت للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة.
ومن قرأ بالرفع خالِصَةً فهي خبر ثاني للمبتدأ وهو هِيَ والخبر الأول: لِلَّذِينَ آمَنُوا.
البلاغة:
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ المراد بالمسجد هنا الطواف والصلاة، فهو مجاز مرسل علاقته المحلية لأنه لما كان المسجد مكان الصلاة أطلق الطواف والصلاة عليه، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال.
__________
(1) تفسير الطبري 8/ 159، ط البابي الحلبي.(8/180)
المفردات اللغوية:
خُذُوا زِينَتَكُمْ ما يزينكم ويستر عورتكم، والمراد هنا الثياب الحسنة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عند الصلاة والطواف، أطلق مكان السجود وأريد به الصلاة والطواف.
قُلْ إنكارا عليهم. زِينَةَ اللَّهِ اللباس. الطَّيِّباتِ المستلذات. هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي مستحقة لهم، وإن شاركهم فيها غيرهم. خالِصَةً خاصة. نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها مثل ذلك التفصيل. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون، فإنهم المنتفعون بها.
سبب النزول:
روى مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة، وعلى فرجها خرقة، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ونزلت: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الآيتين.
وفي صحيح مسلم عن عروة قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس «1» ،- والحمس: قريش وما ولدت- كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.
وفي غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا، ولا يسار يستأجره به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسّه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللّقى.
__________
(1) الحمس: سموا بهذا الاسم لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة: الشجاعة.(8/181)
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ الآية. وأذّن مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا لا يطوف بالبيت عريان.
قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى: وَكُلُوا أي اللحم والدسم وَاشْرَبُوا.
المناسبة:
بعد أمر الله تعالى عباده بالقسط: العدل والاستقامة في كل الأمور، طلب إلينا أخذ الزينة في كل مجتمع للعبادة، صلاة أو طوافا، وأباح لنا الأكل والشرب من غير إسراف.
قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب.
التفسير والبيان:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل عبادة من صلاة أو طواف، والبسوا ثيابكم حينئذ، والمراد بالزينة: الثياب الحسنة، وأقلها ما به تستر العورة. فستر العورة واجب في الصلاة والطواف، وما بعد العورة يسن ستره ولا يجب. وعورة الرجل كما عرفنا في الآيات السابقة: ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين.(8/182)
واللباس مظهر حضاري رفيع، والأمر بارتداء الثياب وستر العورة من محاسن الإسلام، والإسلام هو الذي نقل القبائل العربية وغيرها من الأفارقة من البدائية والتخلف والتوحش إلى المدينة والحضارة.
ويؤيد مدلول الآية في إيجاب الستر
ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان، فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود» .
وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء» .
ثم أباح الله الأكل والشرب من غير إسراف فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا..
أي كلوا واشربوا من الطيبات المستلذات، ولا تسرفوا فيها، بل عليكم بالاعتدال من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا زيادة إنفاق، ولا تجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب، إن الله لا يحب المسرفين، في الطعام والشراب، أي يعاقبهم على الإسراف الذي يؤدي إلى الضرر.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا، واشربوا، والبسوا، وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» .
وروى النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أيضا بلفظ: «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» .
وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي عن المقدام بن معديكرب قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب(8/183)
ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» .
قال بعض السلف: جمع الله الطبّ كله في نصف آية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلا تُسْرِفُوا.
يذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال: قوله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» الحديث، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا «1» .
وقال البخاري: قال ابن عباس: «كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة» أي كبر وإعجاب بالنفس.
والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء. والله تعالى يحب إحلال ما أحل، وتحريم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به، فلا يصح تجاوز الحد الطبيعي كالجوع والعطش والشّبع والرّي، ولا المادي بأن تكون النفقة بنسبة معينة من الدّخل لا تستأصله كله، ولا الشرعي فلا يجوز تناول ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، والخمر، إلا للضرورة، ولا يحل الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا لبس الحرير الطبيعي أو تشبه الرجال بالنساء أو بالعكس.
وبناء عليه يكون فعل كل من البخلاء والمترفين المسرفين حراما لا يسوغ
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 192، محاسن التأويل للقاسمي: 7/ 2664(8/184)
شرعا،
أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» .
وأكد تعالى سنته وشريعته القائمة على الاعتدال، فرد على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، فقال:
قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ... ؟
أنكر الله تعالى على أولئك الذين حرموا المباحات، وأمر نبيه أن يقول مستفهما استفهام إنكار من هؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: من حرم الزينة والطيبات من الرزق التي خلق الله موادها لعباده، وعلّمهم بما ألهمهم وأودع في فطرهم كيفية صنعها والانتفاع بها، فهي مستحقّة مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وغيرهم تبع لهم، فإن أشركهم فيها الكفار فعلا في الدنيا، فهي للمؤمنين خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار فإن الجنة محرمة على الكافرين.
ومثل هذا التفصيل التام لحكم الزينة والطيبات، نفصل الآيات الدالة على كمال الشرع والدين وصدق النبي وإتمام الشريعة لقوم يعلمون علوم الاجتماع والنفس والطب ومصالح البشر، فيتدبرون ويتعظون، لا لقوم يجهلون هذه العلوم والمعارف اللازمة لتقدم الإنسان والحضارة والمدينة والعمران، فمعنى قوله:
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصّل لكم ما تحتاجون إليه.
وكل هذا دليل على أن الإسلام دين الكمال الروحي والعقيدة السليمة، والسمو الخلقي، وقوة الجسد والنفس للتغلب على مصاعب الحياة، وتأدية رسالة الإنسان الذي جعله الله خليفة عنه في الأرض، وسخر له كل ما في السموات والأرض فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 2/ 29] وقال:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لقمان 31/ 20] .(8/185)
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يترك الإسلام أو القرآن شيئا من شؤون الحياة المادية والمعنوية إلا أبانها وأوضح أحكامها ومقاصدها، فلم يقتصر على وضع أنظمة التشريع للعلاقات الاجتماعية فحسب، وإنما وضع أنظمة الحياة كلها، مما يدل على أن القرآن شريعة الحياة.
ومن هذه الأنظمة وجوب ارتداء الملابس والثياب الحسنة وستر العورة لأنه مظهر حضاري رفيع، ومنها إباحة المآكل والمشارب وطيبات الرزق من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا ترف. وهذا دليل على منهج الإسلام في التوسط بالأمور لأنه دين الوسطية.
ومن ألزم حالات الستر: أثناء الصلاة وعند تجمع الناس للطواف بالبيت الحرام وغيره.
وقد دلت آية خُذُوا زِينَتَكُمْ على وجوب ستر العورة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض من فروض الصلاة. بل هو- كما قال الأبهري- فرض في الجملة، وعلى الإنسان ستر عورته عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، وهو الرأي الصحيح:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه مسلم- للمسور بن مخرمة: «ارجع إلى ثوبك، فخذه، ولا تمشوا عراة» .
ودلّ قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا على إباحة الأكل والشرب، ما لم يكن سرفا أو مخيلة، أي كبر. قال الجصاص: ظاهر الآية يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال، والإيجاب في بعضها، أما الإباحة ففي الحال التي لا يخاف الضرر بتركهما، وأما الإيجاب ففي الحال التي يخاف لحوق الضرر بترك الأكل والشرب أو الضعف عن أداء الواجبات. وظاهر الآية يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر(8/186)
الأشربة مما لا يحظره دليل، بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك، لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة ألا يكون مسرفا فيهما «1» .
فأما ما تدعو الحاجة إليه: وهو ما سد الجوعة، وسكّن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا لما فيه من حفظ النفس والجسد ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال لأنه يضعف الجسد، ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وهو أمر يمنع منه الشرع، ويدفعه العقل.
وأما تناول الزائد عن الحاجة فقيل: حرام، وقيل: مكروه. قال ابن العربي: وهو الأصح فإنّ قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطّعمان «2» .
وقد رغب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في تقليل الطعام،
فقال فيما رواه الترمذي عن المقدام بن معديكرب: «ما ملأ آدمي ووعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» .
وروى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد»
المعى: المعدة. والمعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء، والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثاله لأن فقد الإيمان يجعله مقبلا على انتهاب اللذات والمتع المادية.
والإسراف بكثرة الأكل والشرب ممنوع شرعا لأن التخمة بالأكل تربك أعضاء الهضم، وتذهب الفطنة، وكثرة الشرب تثقل المعدة، وتثبط الإنسان عن
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 33
(2) أحكام القرآن: 2/ 771(8/187)
القيام بواجبه الديني والدنيوي، فإن أدى الإسراف إلى المنع من القيام بالواجب حرم، وكان في عداد المسرفين الذين يعاقبهم الله تعالى.
ومن الإسراف: تحريم ما لم يحرمه الله على الناس. وقد أنكر الله على من حرّم من تلقاء نفسه من الزينة وهي الملبس الحسن، ما لم يحرّمه الله على أحد.
ودلت آية: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ على مشروعية لباس الرفيع من الثياب، والتجمّل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان.
قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا.
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلّة سيراء «1» تباع عند باب المسجد، فقال:
يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة»
فما أنكر عليه ذكر التجمّل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» .
وليس لبس الخشن من الثياب سببا في زيادة التقوى، بالتذرع بقوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ فإن كبار الصالحين كانوا يتجملون بالثياب الجياد للجمعة والعيد ولقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود قبيحا عندهم، وقد اشترى تميم الداري حلّة بألف درهم، كان يصلي فيها، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد.
وروى مسلم عن ابن مسعود في النظافة وتحسين الهيئة: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» .
__________
(1) سيراء: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه حرير. [.....](8/188)
وطيبات الرزق حلال، وهي اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما. وهي مستحقة في الأصل للمؤمنين المصدقين بوجود الله، الموحّدين له، وغيرهم تبع لهم يستمعون بها في الدنيا مع المؤمنين. أما في الآخرة فهي خاصة بالذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء، كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها.
والخلاصة: الإسلام دين الواقع والحياة، فهو يجمع بين المادة والروح، ويستهدف الكمال المعنوي بالإيمان والأخلاق، والكمال المادي بقوة الأجساد التي تكون عونا على أداء العبادات والجهاد في سبيل الله، فالاستغناء عن الطعام والشراب فيه إضعاف البدن، ويؤدي إلى التقصير في الواجبات.
وليست المظاهر من لبس الثياب الجميلة مخلّة بالتقوى والتدين، كما أن التقشف والزهد المبالغ فيه لحرمان النفس من متع الحياة المباحة ليس مرغوبا فيه شرعا.
وإنما المهم إصلاح النفس بالأخلاق، وعمارة القلب بالإيمان، وتزكية النفس بالعمل الصالح والجهاد.
ولا يعقل أن يكون دين الله سببا لإضعاف أحد، أو لتأخر الأمة، وإنما الضعف أو التخلف ناجم من كسل الناس وتراخيهم وجهلهم، وتفكك جماعتهم، وتنافرهم وتباغضهم.
فالإنسان مستخلف عن الله في الأرض، وهو أمين على ما فيها من خيرات وكنوز ومنافع، ومسئول عن القيام بواجبه في تقدم الحياة وإصلاح العمران، والسبق في الحياة بمختلف أنماطها الزراعية والصناعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.(8/189)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
أصول المحرّمات على النّاس
[سورة الأعراف (7) : آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)
الإعراب:
ما ظَهَرَ مِنْها: إِنَّما: في موضع نصب على البدل من الْفَواحِشَ. وَأَنْ تُشْرِكُوا في موضع نصب بالعطف على الْفَواحِشَ، وكذلك قوله: وَأَنْ تَقُولُوا.
البلاغة:
ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يوجد طباق بين ظَهَرَ وبَطَنَ.
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فيه تهكم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.
المفردات اللغوية:
الْفَواحِشَ الأفعال الزائدة في القبح، التي تنفر منها الفطر السليمة والعقول الراجحة، وهي الكبائر مثل الزنى والقذف والسّب القبيح والبخل ونحوها. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي الجهرية والسرية. وَالْإِثْمَ المعصية مطلقا، وهي تشمل الكبائر كما ذكر والصغائر مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وَالْبَغْيَ الظلم وتجاوز الحدود في الفساد والحقوق. سُلْطاناً حجّة.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم ما لم يحرم وغيره.
المناسبة:
وجه الرّبط بين هذه الآية وما قبلها واضح، فلما أنكر تعالى على المشركين وغيرهم تحريم ما ليس بحرام كالزينة وطيبات الرّزق، ذكر هنا أنواع المحرّمات وأصولها وهي خمسة، جميعها مما يكسبه الإنسان لا من الخلقة والموهبة الفطرية.(8/190)
قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون، فنزلت هذه الآية.
التفسير والبيان:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرّموا ما أحلّ الله من الطّيبات، واللّباس: إنما حرّم الله خمسة أشياء هي أصول المحرّمات، وهي ما يأتي:
1- الفواحش الظاهرة والباطنة- الجهرية والسرية: وهي الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن، أو هي عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها، أي تزايد، مثل الزنى والسرقة والخروج على الجماعة.
2- والإثم أي ما يوجب الإثم والذّنب: وهو المعاصي الصغائر، فكان معنى الآية: أنه حرّم الكبائر والصغائر، مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وقيل:
الإثم: المعصية أو الذّنب مطلقا، وهو عطف عام على خاص.
3- والبغي: أي الظّلم وتجاوز الحدّ في الفساد والحقوق، بالاعتداء على حقوق الناس الآخرين أفرادا وجماعات. وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأن التّجاوز إذا كان لمصلحة عامة أو مع التراضي، فلا شيء فيه.
4- والشّرك بالله: وهو أقبح الفواحش، وهو أن يجعل مع الله إله آخر من صنم أو وثن أو شخص، لم تقم عليه حجّة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجّة سلطانا، لأنها ترجح قول الخصم على غيره، ويكون لها تأثير على عقل السامع وفكره، وهي مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون 23/ 117] .
وفي هذا دلالة على أن البرهان أساس الاستدلال على صحة العقيدة، وأن الإيمان لا يقبل بغير وحي من الله، يدعمه الدّليل والبرهان.(8/191)
5- التّقول على الله بغير علم ولا حجّة: كالافتراء والكذب على الله، بادّعاء أنّ له ولدا، أو شريكا من الأوثان: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] ، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا سند ولا حجّة، وهو القول بالرّأي المحض دون دليل من الشرع، وهو سبب تحريف الأديان، والابتداع في الدين الحق، واتباع الهوى والشيطان، كما فعل أهل الكتاب: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النحل 16/ 116] ، وهو منهج أدعياء التجديد، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد،
كما روى الشيخان: «لتتبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» .
وطريق الاجتهاد معروف في الشريعة: وهو النظر في القرآن والسّنة والإجماع نظرا صحيحا على أصول شرعية، ثم القياس عليها، أو الأخذ بالرأي الشامل للاستحسان والاستصلاح ونحوهما، وهو الرأي المتفق مع روح الشريعة وأصولها ومبادئها العامة.
وقد أثير تساؤل حول هذه الآية، مضمونه أن كلمة إِنَّما تفيد الحصر، فقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرّمات غير محصورة في هذه الأشياء.
وأجيب: بأن الجنايات محصورة في خمسة أنواع: أحدها- الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنى، وهي المراد بقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ. وثانيها- الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله: الْإِثْمَ. وثالثها- الجنايات على الأعراض. ورابعها- الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وخامسها- الجنايات على الأديان، وهي من وجهين: أحدها- الطّعن(8/192)
في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ. وثانيها- القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، جعل ذكر هذه المحرمات جاريا مجرى ذكر الكلّ، فأدخل فيها كلمة: إِنَّما المفيدة للحصر «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت هذه الآية كما اتّضح من تفسيرها على تحريم أصول الأعمال المحرّمة، وهي تشمل الانحراف عن العقيدة (الشرك بالله) ومصادمة الشريعة: (القول في دين الله بغير علم ولا معرفة، والجنايات على العقول (تحريم الإثم وهو يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة) بدليل قول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
والإثم كما قال الحسن البصري: الخمر، وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما. والجنايات على الأنساب (الزنى) والجنايات على النفوس والأموال (القتل والسرقة) والأعراض (القذف) وهو الظلم الاجتماعي والفردي المشار إليه بقوله تعالى: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
ويظهر من ذلك أن أصول المحرّمات تتناول العقيدة والشريعة والأخلاق أو السلوك والآداب، سواء ما تعلّق بالخطايا المقتصرة على النفس، وهو الإثم، والمتعدية ضررها إلى الناس وهو البغي.
__________
(1) تفسير الرازي: 14/ 67(8/193)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
أجل كلّ أمّة وفرد
[سورة الأعراف (7) : آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
المفردات اللغوية:
أَجَلٌ وقت محدد، أو مدّة معلومة في علم الله. ساعَةً أقل وقت يقضى فيه عمل ما.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى الحلال والحرام وأحوال التّكليف، فأوضح مباحات الزّينة وطيّبات الرّزق من غير إسراف، وأعقبه بذكر أصول المحرّمات لما فيها من الضّرر والفساد، ذكر هنا أنّ لكل فرد أو جماعة أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر، فإذا جاء الأجل مات كل واحد حتما، وفي أثناء الحياة يعرف مدى اتّباع منهج الله في الحلال والحرام، والغرض منه التّخويف، ليتشدد المرء في القيام بالتّكاليف كما يلزم.
التفسير والبيان:
لكلّ أمّة، أي قرن وجيل، ولكلّ فرد وشيء في الوجود أيضا أجل معلوم وهو الوقت المحدد لانقضاء المهلة، وهو يشمل الوقت المحدد للحياة الدّنيا، ومدّة العزّة والسّعادة، أو الذّل والشقاوة بين الأمم.
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي ميقاتهم المقدّر لهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً أي أقلّ مدة من الزمن وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عنها، أي لا يتأخّرون عن ذلك الأجل المعيّن ولا يتقدّمون، لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة، إلا أنه تعالى ذكر الساعة، لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات.(8/194)
وفي تعيين المراد بالأجل قولان:
الأول- لابن عباس والحسن البصري ومقاتل: وهو أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين، فإذا جاء وقت عذاب الاستئصال، نزل ذلك العذاب لا محالة.
والثاني- أن المراد بهذا الأجل: العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه.
قال الرازي: والقول الأول أولى، لأنه تعالى قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ولم يقل ولكلّ أحد أجل. وعلى القول الثاني: إنما قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ولم يقل: لكلّ أحد، لأن الأمّة هي الجماعة في كلّ زمان، وهي مكوّنة من الأفراد، وهي متقاربة في الأجل، لأن ذكر الأمّة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأبلغ.
وعلى القول الثاني: يلزم أن يكون لكل أحد أجل، لا يقع فيه التّقديم والتّأخير، فيكون المقتول ميتا بأجله.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن آجال الأمم والجماعات والأفراد مؤقتة محددة بوقت معين، فإذا جاء أجل الموت، لم يتأخّر ولم يتقدّم لحظة. وأجل الموت: هو وقت الموت، وأجل الإنسان: هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة، وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره، فليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص، ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت، لأن هذا يقتضي خروجه تعالى عن كونه قادرا مختارا.
وفي هذا دليل على أن المقتول إنما يقتل بأجله.(8/195)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
أما الأجل المعنوي فللأمم دورات في التاريخ، فقد تكون عزيزة سعيدة، وقد تصبح ذليلة شقية.
وفي المقياس الشرعي: عزّة الأمّة وسعادتها بامتثال الشّرع، والالتزام بالدّين، والتّمسك بالأخلاق والفضائل، وذلك لأجل معين.
وشقاء الأمة بإعراضها عن الدّين، وابتعادها عن الفضائل والأخلاق، وانتشار الرّذائل والمنكرات والمفاسد والمظالم في أوساطها، وذلك يعجل دمارها، ولها فيه أجل معيّن.
وقد تفضّل الله على الأمم بعد بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فرفع عنها عذاب الاستئصال والإبادة الجماعية، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] .
وهذا ينطبق على الأمة الإسلامية وغيرها، والآية تهديد ووعيد بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله، لكلّ من يخالف أمر الله، ويسير في الضلالة على غير هدى، كأهل مكة ونحوهم من الأمم الباغية.
ما خوطبت به كلّ أمّة على لسان رسولها وإنذار المكذّبين بآيات الله
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)(8/196)
المفردات اللغوية:
إِمَّا أدغمت نون: إن الشرطية في ما الزائدة، أي إن يأتكم. وضمّت «ما» إلى «إن» الشرطية تأكيدا لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة. يَقُصُّونَ القصص: اتّباع الحديث بعضه بعضا. آياتِي أي فرائضي وأحكامي. فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ شرط وما بعده جوابه، وهو جواب الشرط الأول: إِمَّا. وقوله: وَأَصْلَحَ أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. وقيل: جواب: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ: ما دلّ عليه الكلام، أي فأطيعوهم، فمن اتّقى وأصلح.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن لكلّ أحد أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر، بيّن أحوال بني آدم بعد الموت، إن كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدّ العذاب.
التفسير والبيان:
أنذر الله تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته ويخبرونهم بأحكامه وفرائضه، فقال: يا بني آدم إن أتاكم رسول منكم ومن جنسكم يخبركم بما أوجبته عليكم، وما وضعته لكم من أنظمة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وما أمرتكم به من صالح الأعمال، وما نهيتكم عنه من الشّرك وقبائح الأفعال، فأنتم في أحد حالين، أحدهما يبشّر والآخر يحذّر:
فمن اتّقى الله وأصلح ما بيني وبينه، فترك المحرّمات وفعل الطّاعات، فلا خوف عليه من عذاب الآخرة، ولا يطرأ عليه حزن حين الجزاء على ما فاته، أو فلا خوف عليه من أحوال المستقبل، ولا حزن عليه من أحوال الماضي.
وإنما قال: مِنْكُمْ لأن كون الرّسول من جنس المرسل إليهم أقطع لعذرهم، وأبين للحجّة عليهم، إذ معرفتهم بأحواله ترشدهم إلى أن المعجزات التي يؤيده الله بها بقدرة الله لا بقدرته، وأن الجنس يألف جنسه.(8/197)
والمقصود بقوله بِآياتِنا أي القرآن، ودلائل التوحيد والألوهية، والأحكام والشرائع، فهي لفظ عام يدخل فيه كل ما ذكر، لأن جميع هذه الأشياء آيات الله تعالى، والرّسل إذا جاؤوا فلا بدّ وأن يذكروا جميع هذه الأقسام.
ومن كذّبت قلوبهم بآيات الله واستكبروا عن قبولها والعمل بها، ورفضوها كبرا وعنادا للرّسل، كما حدث من زعماء قريش حين تكبّروا على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك أصحاب النّار، ماكثون فيها مكثا دائما مخلّدا.
فقه الحياة أو الأحكام:
ينقسم الناس بعد دعوة الرّسل فريقين: فريق المؤمنين الطائعين المصدّقين دعوة الرّسل، وفريق الجاحدين المتمّردين المكذّبين الدّعوة.
أمّا الفريق الأوّل فيهنأ ويسعد بما يلقى من الجزاء الحسن يوم القيامة. ودلّ قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على أنّ المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع من أهوال يوم القيامة، ولكنهم آمنون مطمئنون.
وأما الفريق الثاني فيجازى جزاء السّوء بالخلود في نار جهنّم. وقد استدلّ أهل السّنة بقوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ على أن الفاسق من المسلمين أهل الصلاة لا يبقى في النار مخلّدا، لأنه تعالى بيّن أنّ المكذّبين بآيات الله، والمستكبرين عن قبولها، هم الذين يبقون مخلّدين في النّار. وكلمة هُمْ تفيد الحصر، فاقتضى ذلك أن من لا يكون موصوفا بذلك التّكذيب والاستكبار لا يبقى مخلّدا في النّار.(8/198)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
عاقبة الكذب ومشهد دخول الكفار إلى النّار
[سورة الأعراف (7) : الآيات 37 الى 39]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
الإعراب:
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا: حَتَّى ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام، وهو هاهنا الجملة الشرطية. يَتَوَفَّوْنَهُمْ حال من الرّسل، ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في موضع الحال، أي كائنين في جملة أمم.
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً: ادَّارَكُوا: أصله تداركوا على وزن تفاعلوا، ثم أبدلت التاء دالا، وأدغمت الدّال في الدّال، فسكّنت الدّال الأولى، والابتداء بالسّاكن محال، فأدخلت ألف الوصل، لئلا يبتدأ بالساكن.
جَمِيعاً: منصوب على الحال من الضمير في ادَّارَكُوا.
المفردات اللغوية:
فَمَنْ أَظْلَمُ ... فمن أشنع ظلما ممن تقوّل على الله ما لم يقله أو كذّب ما قاله، أي لا أحد(8/199)
أظلم ممن افترى على الله الكذب، بنسبة الشريك والولد إليه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن.
يَنالُهُمْ يصيبهم. نَصِيبُهُمْ حظّهم. مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرّزق والأجل وغير ذلك. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملائكة الموت، وحَتَّى ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم، ابتدئ بها الكلام. قالُوا لهم تبكيتا. تَدْعُونَ تعبدون.
ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنّا، فلم نرهم. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عند الموت.
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في جملة أمم سابقة. فِي النَّارِ متعلّق بادخلوا. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ النّار. لَعَنَتْ أُخْتَها التي قبلها لضلالها بها. ادَّارَكُوا تلاحقوا واجتمعوا في النّار.
أُخْراهُمْ منزلة وهم الأتباع. لِأُولاهُمْ منزلة أي لزعمائهم وقادتهم وهم المتبوعون، ومعنى لِأُولاهُمْ: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله، لا معهم. عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا على مثله مرّة أو مرّات. لِكُلٍّ ضِعْفٌ لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين. وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكلّ فريق.
فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّفلة: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، لأنكم تكفرون بسببنا، فنحن وأنتم متساوون في استحقاق الضّعف.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المكذّبين بآيات الله، المستكبرين عن قبولها، ذكر هنا أن من أشنعهم ظلما وأعظمهم بغيا من يتقوّل على الله ما لم يقله، أو يكذّب ما قاله، والأوّل: مثل من يثبت الشّريك لله من أصنام أو كواكب أو بنات وبنين، أو ينسب الأحكام الباطلة إلى الله تعالى، والثاني كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله تعالى على رسوله، أو أنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، بأن أوجب ما لم يوجبه، أو حرّم ما لم يحرّمه، أو نسب إلى دينه حكما لم ينزله، أو نسب إلى الله ولدا أو شريكا.
أو كذّب بآيات الله المنزلة بأن أنكر القرآن مثل كفار العرب، أو لم يؤمن بالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو استهزأ بالآيات أو تركها مفضلا عليها غيرها.(8/200)
أولئك جميعا ينالهم ما كتب عليهم في كتاب المقادير الذي سجل فيه نظام العالم كلّه، وقدّر لهم من الأرزاق والأعمار، وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسود، أي لهم ما وعدوا به من خير أو شرّ، بالرّغم من ظلمهم وافترائهم على الله.
حتى إذا جاءتهم الرّسل وهم ملائكة الموت يتوفّونهم ويقبضون أرواحهم، قالوا لهم أي سألهم الرّسل تأنيبا وتوبيخا: أين الشّركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم في الدّنيا من دون الله؟! ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه! أجابوهم:
غابوا عنّا وذهبوا، فلا ندري مكانهم، ولا نرجو منهم النّفع والخير، ولا دفع الضّرّ.
وأقرّوا واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم وعبادتهم إيّاهم كافرين.
ومفاد هذا زجر الكفار عمّا هم عليه من الكفر، ودفعهم إلى النّظر والتّأمل في عواقب أمورهم القائمة على الكفر والضّلال.
ونظير المعنى في هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس 10/ 69- 70] ، وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 23- 24] .
ثمّ أخبر الله تعالى عمّا تقوله الملائكة لهؤلاء المشركين به، المفترين عليه، المكذّبين بآياته: ادخلوا النّار مع أمم أمثالكم وعلى صفاتكم، قد سبقتكم في الكفر، سواء من الجنّ والإنس، فالقائل: إما مالك خازن النّار، أو هو الله عزّ وجلّ، أي قال الله: ادخلوا.
كلّما دخلت جماعة منهم النّار، ورأت العذاب والخزي والنّكال، لعنت أختها في الملّة والدّين التي ضلّت بالاقتداء بها، إذ هي قد ضلّت باتّباعها وتقليدها في الكفر، كما قال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ(8/201)
بَعْضاً
[العنكبوت 29/ 25] ، وهكذا يلعن أصناف الكفار بعضهم بعضا، ويتبرّأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا، كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة 2/ 166- 167] .
حتى إذا تداركوا وتلاحقوا في النّار، واجتمعوا فيها كلّهم، قالت أخراهم دخولا أو منزلة، وهم الأتباع والسّفلة، لأولاهم منزلة أو دخولا، وهم المتبوعون والقادة والرؤساء، لأنهم أشدّ جرما من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، قالت قولا يتضمن شكوى الأتباع إلى الله يوم القيامة، لأنهم هم الذين أضلّوهم عن سواء السّبيل. قال الزّمخشري: معنى لِأُولاهُمْ: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله، لا معهم. أي قالوا في شأنهم وحقّهم ولأجل إضلالهم.
وتلك الشكوى أنهم يقولون مخاطبين الله: ربّنا هؤلاء السّادة أضلّونا عن الحقّ، فأعطهم عذابا مضاعفا من النّار، أي ضاعف عليهم العقوبة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 66- 68] .
فأجابهم الله: لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف، وقد فعلنا ذلك، وجازينا كلّا بحسبه إما بالإضلال أو بالتقليد والضلال، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين، ولكنّكم لا تعلمون عذابهم. والضّعف: المثل الزّائد على مثله مرّة أو مرّات. وهو مثل قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] ، وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] ، وقوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] .(8/202)
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ... أي قال المتبوعون للأتباع: إذا كنا قد أضللناكم، فليس لكم فضل علينا، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وأنتم سواء في استحقاق الضعف، أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب.
فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون، أي تلقوا عذاب الله بما تسببتم به من الكفر والضلال. وهذا من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعا. وهو مثل قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا: إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصّافات 37/ 27- 33] . والمقصود من قوله:
فَذُوقُوا الْعَذابَ التّخويف والزّجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، كان ذلك سببا لوقوع الخوف الشديد في القلب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أيّ ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى بالتّحليل والتّحريم من غير حكم الله، والتّكذيب بآيات الله قولا أو استهزاء أو استكبارا عن اتّباعها؟! وبالرغم من هذا فإنّ هؤلاء المكذّبين ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل، وما وعدوا به من خير وشرّ.
ومعنى: ما كتب لهم في اختيار الطّبري، وهو المروي عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير: ما قدر لهم من خير وشرّ ورزق وعمل وأجل.
والمقرر أن السّادة والأتباع في الكفر سواء، يدخلون النّار، ويضاعف لهم العذاب، إما بالإضلال وهو فعل السّادة، أو بالتّقليد وإهمال العقل، وهو فعل(8/203)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
الأتباع. والتّعذيب ليس تشفّيا وانتقاما، وإنما هو بسبب اقتراف السّيئات واعتقاد الكفر.
جزاء الكافرين
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
الإعراب:
وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ: غَواشٍ: مبتدأ مرفوع، وخبره: وَمِنْ فَوْقِهِمْ. وأصل غَواشٍ: ألا ينصرف، لأنه جمع بعد ألفه حرفان على وزن فواعل، وهو جمع غاشية، إلا أن التّنوين دخلها عوضا عن حذف الياء.
البلاغة:
لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ كناية عن عدم قبول العمل يوم القيامة. حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فيه تشبيه ضمني، أي لا يدخلون الجنة إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة، وهو تمثيل للاستحالة.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ استعارة لما يحيط بهم من كلّ جانب مثل قوله:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] .
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا أدلّتنا على أصول الدّين وأحكام الشّرع، كأدلّة إثبات وجود الله ووحدانيته، وإثبات النّبوة، والبعث والحساب والجزاء في الآخرة. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها تكبّروا عنها فلم يؤمنوا بها. لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء، أو لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا عرج بأرواحهم إليها بعد الموت، فيهبط بها إلى سجّين (جهنم) بخلاف المؤمن، فتفتح له، ويصعد بروحه إلى السماء السابعة، كما ورد في الحديث.
يَلِجَ يدخل. الْجَمَلُ البعير الذي نبت نابه. سَمِّ الْخِياطِ ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم الجنة مستحيل. وَكَذلِكَ الجزاء. نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ بالكفر،(8/204)
والمراد بالإجرام: كلّ إفساد، كإفساد الفطرة بالكفر. مِهادٌ فراش. غَواشٍ أغطية من النّار، جمع أغشية، وتنوينه عوض من الياء المحذوفة.
المناسبة:
المقصود من هذه الآيات إتمام وعيد الكفار لأنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة عن خلود المكذّبين بالقرآن في النّار، المستكبرين عن الإيمان بالله والنّبي والمعاد، ثم أخبر عن استحالة دخولهم الجنة، وعدم قبول أعمالهم الصالحة.
التفسير والبيان:
إن الذين كذبوا بآياتنا الدّالة على وحدانيتنا وصدق نبيّنا وصحّة النّبوات وإثبات المعاد، لا يصعد لهم عمل صالح لخبث أعمالهم، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين، ويقبل العمل الصالح، ويرفع إليه الكلم الطيّب: لقوله تعالى:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 35/ 10] ، وقوله:
كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين 83/ 18] ، فلا تفتح لأعمالهم وأرواحهم أبواب السّماء، وهذا فيه جمع بين القولين في تفسير هذه الآية.
ولا يدخلون الجنّة أبدا بحال، فهم مطرودون من رحمة الله، فدخولهم الجنة مستحيل، لقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وهذا أسلوب شائع بين العرب للدّلالة على الاستحالة، فهم يقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، وحتى يبيضّ القار (الزّفت) وحتى يدخل الجمل في سمّ الخياط. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنّ المراد: حتى يدخل الجمّل أي الحبل الغليظ في خرق الإبرة، قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة، والبعير لا يناسبه. قال الزّمخشري: إلا أن قراءة العامة الْجَمَلُ أوقع، لأنّ سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة، والجمل مثل في عظم الجرم.(8/205)
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كلّ من أجرم في حقّ الله، وفي حقّ نفسه، وفي حقّ إخوانه المسلمين، ليدلّ على أنّ الاجرام هو السّبب المؤدّي إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب. ثم كرر ذلك في آخر الآية التالية فقال: وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لأن كلّ مجرم ظالم لنفسه.
ولهؤلاء المجرمين من نار جهنّم فراش يفترشونه من تحتهم، وأغطية من فوقهم، والمراد أن النّار محيطة بهم، مطبقة عليهم من كلّ جانب، كما قال تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهمزة 104/ 8] ، وقال: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة 9/ 49] ، وقال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ [الزمر 39/ 16] .
وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين لأنفسهم ولغيرهم من الناس. وهذا دليل على أن المجرمين والظالمين هم الكافرون: لقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] ، وبدليل أن الذين تقدّم ذكرهم هم المكذبون بآيات الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يلي:
1- أعمال الكافرين المكذبين بآيات الله، المستكبرين عنها غير مقبولة، فلا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم أبواب السماء.
2- إنّ الجنّة في السّماء لأنّ المعنى: لا يؤذن لهم في الصّعود إلى السّماء، ولا تطرق لهم ليدخلوا الجنّة.
3- يستحيل على الكفار دخول الجنة، فلا يدخلونها البتة، ويحرمون منها أبدا وفي كلّ الأحوال.(8/206)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
4- عذاب النّار يحيط بالكافرين من كلّ جانب، فلا يجدون فيها منفذا للخروج منها، أو التّخفيف من العذاب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف.
5- المجرمون: هم الكافرون لأن الذين تقدّمت صفتهم هم المكذبون بآيات الله، المستكبرون عنها. والظالمون أيضا: هم الكافرون لأنهم الذين أشركوا بالله واتّخذوا من دونه إلها.
جزاء المؤمنين المتقين
[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَأَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
الإعراب:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، وخبره: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ. ولا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اعتراض وقع بين المبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون التقدير فيه: لا نكلف نفسا منهم، فحذف «منهم» كقوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى 42/ 43] أي إن ذلك الصبر منه، أي من الصابر. وقال الرازي: إنما حسن وقوع هذا الكلام المعترض بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس الكلام لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تَجْرِي جملة فعلية حال من الضمير صُدُورِهِمْ في صُدُورِهِمْ.
أَنْ هَدانَا اللَّهُ: أن وصلتها: في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي: لولا(8/207)
هداية الله موجودة، لهلكنا أو شقينا. ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ بعد: لطول الكلام بها، كما لا يجوز إظهاره بعد القسم في قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر 15/ 72] أي لعمرك قسمي، فلا يجوز إظهار الخبر لطول الكلام بجواب القسم.
أَنْ تِلْكُمُ أن مخففة من الثقيلة تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة، والضمير ضمير الشأن، أو مفسرة، أي معنى تفسير النداء، والمعنى: ونودوا، أي تلكم الجنة، وهو الأجود عند الرازي.
المفردات اللغوية:
وُسْعَها طاقتها من العمل في الأحوال العادية، لا في وقت الشدة والضيق.
وَنَزَعْنا قلعنا. غِلٍّ حقد أو حسد وعداوة كان بينهم في الدنيا. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ تحت قصورهم. وَقالُوا عند الاستقرار في منازلهم. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم، وهو الإيمان والعمل الصالح. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام لتوكيد النفي، يعنون: وما كان يستقيم أن نكون مهتدين، لولا هداية الله وتوفيقه.
لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء، فاهتدينا، يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به، لا تقربا وتعبدا.
أُورِثْتُمُوها صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.
المناسبة:
جرت سنة القرآن الجمع بين الوعيد والوعد، فبعد أن ذكر سبحانه وعيد الكافرين والعصاة، أتبعه بوعد المؤمنين الطائعين.
التفسير والبيان:
لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء وجزاءهم، عطف عليه بيان حال السعداء وجزاءهم، ليتميز المؤمن عن الكافر، والمحق عن المبطل، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا.. أي والذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، هم أهل الجنة دون سواهم، وهم المخلدون فيها أبدا.
وجاء قوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة اعتراضية، للتنبيه(8/208)
على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب، وأن العمل الصالح الموصل إلى الجنة سهل غير صعب، فهو ليس شاقا ولا خارجا عن طاقة البشر، بل يسهل على كل إنسان فعله، متى توافر الإيمان، وتأيد بهدي القرآن.
ومعنى الوسع: ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة، لا في حال الضيق والشدة.
ومن نعم الله تعالى على أهل الجنة صفاء نفوسهم وسلامة صدورهم، لا يكدرهم كدر، ولا يؤلمهم ألم، ولا يحزنهم فزع، ولا يحدث بينهم شر لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وحقد وعداوة وغل ونحوها من أمراض النفوس في الدنيا.
جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى اذهبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزلة في الجنة أدل منه بمسكنة الذي كان في الدنيا» .
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: بلغني أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط، حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم في الدنيا، فيدخلون الجنة، وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ» .
وروى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر 15/ 47] .(8/209)
وروى عبد الرزاق عن الحسن قال: قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
وقال المؤمنون شاكرين نعمة الله وفضله: الحمد الله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح، الذي كان جزاؤه هذا النعيم، وما كان من شأننا ومستوى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا، لولا هداية الله وتوفيقه إيانا لاتباع رسله.
وقالوا أيضا حين رأوا مطابقة كل شيء لما أخبر به الرسل: لقد جاءت رسل الله بالحق، وهذا مصداق وعد الله على لسان رسله.
ونادتهم الملائكة: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، هذه الجنة التي أورثكم الله إياها جزاء أعمالكم الصالحة.
أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
1- الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
2- التكليف على قدر الطاقة والوسع، سواء في التكاليف الشرعية من عبادات وفرائض، أو في التكاليف المالية كنفقات الزوجات ونحوها.
3- من نعم الله عز وجل على أهل الجنة: نزع الغلّ الذي كان في الدنيا من صدورهم. والنزع: الاستخراج، والغلّ: الحقد الكامن في الصدر.(8/210)
4- استحقاق إرث الجنة من جهة العدل بالعمل الصالح، ففي قوله تعالى:
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله. لكن دخولها يكون برحمة الله وفضله، كما قال تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ [النساء 4/ 70] وقال: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء 4/ 175] .
وجاء في صحيح مسلم: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .
يتبين من هذا أن إرث منازل الجنة بالعمل، ودخولها بالرحمة والفضل الإلهي وهذا رأي القرطبي الذي قال: وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته، فإذا دخلوها بأعمالهم، فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته، إذا أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل عليهم «1» . وهذا قريب من رأي ابن كثير، فإنه قال: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم «2» .
ويمكن التوفيق بنحو آخر أولى وهو أن عمل الإنسان مهما كثر لا يستحق به الجنة لذاته، لولا رحمة الله وفضله، فإنه جعل الجزاء العظيم على العمل القليل، فصار دخول الجنة برحمة الله وفضله.
والخلاصة: العمل الصالح في رأي أهل السنة لا بد منه لدخول الجنة في ميزان العدل وإيجاد تكافؤ الفرص بين جميع الناس، لكن لا بد أن ينضم إليه رحمة الله وفضله، فإنه جعل الجنة جزاء العمل فضلا منه ورحمة، وكافأ على القليل بالكثير فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب للعبادة وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، كما فهم المعتزلة لأنه يستحيل عقلا إيجاب شيء على الله تعالى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 208- 209
(2) تفسير ابن كثير: 2/ 215(8/211)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
محاورة بين أهل الجنة وبين أهل النار والأعراف
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
الإعراب:
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ أَنْ بالتخفيف، مخففة من الثقيلة، وتقديره: أنّه لعنة الله، فخفف وحذف اسمها وإحدى النونين وهي الأخيرة لأنها الطرف. ويجوز أن تكون أَنْ المخففة بمعنى «أي» مفسرة، ولا موضع لها من الإعراب.
وتقرأ أنّ بالتشديد أيضا مع الفتح، وتنصب اللعنة بها. ومن قرأ: إنّ بكسر الهمزة مع التشديد، فإنه قدر القول كأنه قال: إن لعنة الله. وبَيْنَهُمْ منصوب على الظرف، والعامل مُؤَذِّنٌ عند البصريين لأنه أقرب إليه من أذن، وهو أذن عند الكوفيين، لأنه الأول والعناية به أكثر.
يَعْرِفُونَ كُلًّا جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لرجال.
وَهُمْ يَطْمَعُونَ بِسِيماهُمْ مبتدأ، ويَطْمَعُونَ جملة فعلية في موضع خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في يَدْخُلُوها. ومعناه: أنهم يئسوا من الدخول، فلم يكن لهم طمع فيه، ولكنهم دخلوا وهم على يأس من ذلك.
المفردات اللغوية:
وَنادى للتقرير والتبكيت. ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب، والوعد يشمل الخير(8/212)
والشر. ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب وتسميته هنا وعدا تهكم أو من قبيل المشاكلة. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، والأذان: رفع الصوت بالإعلام بالشيء. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله مع الإهانة والخزي. وَيَبْغُونَها يطلبون السبيل. عِوَجاً معوجا أو ذا عوج أي غير مستقيم، والعوج: للمرئيات، والعوج: لغير المرئي كالقول والرأي. حِجابٌ حاجز أو سور بين الجنة والنار. وَعَلَى الْأَعْرافِ جمع عرف وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها، والمراد هنا: سور الجنة. رِجالٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم. بِسِيماهُمْ بعلامتهم، وهي بياض وجوه المؤمنين، وسواد وجوه الكافرين، لرؤيتهم لهم، إذ موضعهم عال. لَمْ يَدْخُلُوها أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها الجنة. وَهُمْ يَطْمَعُونَ في دخولها. صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ حوّلت أبصار أهل الأعراف. تِلْقاءَ جهة.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى وعيد الكفار وثواب أهل الطاعة والإيمان، أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين، بعد استقرار كل فريق في موضعه من النار أو الجنة.
وهذه المناظرة تشعر بأن أهل الجنة يشرفون من علو على أهل النار، وأن بعضهم يخاطب بعضا ليزداد أهل الجنة معرفة بمقدار النعمة، ويزداد أهل النار حسرة على ما فرطوا في الدنيا.
ومع أن الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين، فيمكن حصول هذا النداء مع هذا البعد الشديد، لأن لعالم الآخرة أحوالا تختلف عن عالم الدنيا، فيستطيع الإنسان أن يسمع ويرى من بعيد، ولأن البعد والقرب ليس من موانع الإدراك، كما قال الرازي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بما يخاطب به أهل النار تقريعا وتوبيخا، وأن هذا النداء:
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ إنما يحصل بعد استقرار الفريقين في(8/213)
الجنة والنار، بدليل ما ذكر في الآية المتقدمة من قوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها.
وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ يفيد العموم، فهل النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار، أو من البعض للبعض؟ الجواب أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا.
والمعنى: إن أصحاب الجنة بعد استقرارهم فيها ينادون أهل النار بعد استقرارهم فيها أيضا، قائلين: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة الرسل من النعيم والتكريم حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والنكال حقّا؟
والسؤال يتضمن تقرير أهل الجنة بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم، وتقريع وتوبيخ أهل النار على ما حدث منهم من جناية على أنفسهم بتكذيب الرسل. قالُوا: نَعَمْ قال سيبويه: «نعم: عدة أو تصديق» والمعنى أنهم أجابوا بالإيجاب، فإنا وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر، وها نحن نتلظى في عذاب النار. وهذا يدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة، بأن وعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا التقريع من الله يعقبه تقريع من الملائكة يقولون لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور 52/ 14- 16] .
وقد قرّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا قتلى القليب (البئر) من الكفار يوم بدر فنادى: «يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة- وسمى رؤوسهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» وقال عمر: يا رسول الله، تخاطب قوما قد جيفوا، فقال: «والذي نفسي(8/214)
بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا» .
وكانت نتيجة الحوار أو المناظرة أن أذن مؤذن، أي أعلم معلم ونادى مناد:
أن لعنة الله على الظالمين، أي لعنة الله (الطرد من رحمته) مستقرة عليهم لأنهم ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان. والمؤذن: إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره.
ثم وصف الظالمين بقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ ... أي الذين يمنعون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويطلبون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي جاحدون مكذبون بذلك، لا يصدقونه ولا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس أقوالا وأعمالا.
وبين الفريقين: أهل الجنة وأهل النار حجاب أي حاجز مانع من وصول أهل النار، وهو السور الذي قال الله تعالى فيه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ، لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد 57/ 13] .
وأعالي السور هي الأعراف التي قال الله تعالى فيها: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ.. أي على أعالي ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار، ويعرفون كلا منهم بعلامتهم من بياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين، كما وصفهم الله بها في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 80/ 38- 42] .
وأهل الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم موحدون قصرت(8/215)
بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم النار، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم.
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال: «أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون» .
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة قال: «هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم ربك فقال لهم:
اذهبوا فادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم» .
وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ... أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة قائلين لهم: سلام عليكم، وهو تحية خالصة بعد دخول الجنة لقوله تعالى:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] .
نادوهم مسلّمين عليهم، حال كونهم لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون في دخولها، لما بدا لهم من يسر الحساب، ولعلهم بسعة رحمة الله وفضله. تلا الحسن البصري هذه الآية: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فقال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. والناس في ذلك الموقف يكونون بين الرجاء والخوف، روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
لو نادى مناد: يا أهل الموقف، ادخلوا النار إلا رجلا واحدا، لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى: ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا، لخشيت أن أكون ذلك الرجل.
وإذا حولت أبصار أهل الأعراف نحو أهل النار من غير قصد، فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، قالوا متضرعين إلى الله تعالى: ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين أنفسهم.(8/216)
والآية تدل على أنهم ينظرون إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويسلّمون عليهم، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا صرفت أي حولت أعينهم من غير قصد ولا رغبة إلى جهة أهل النار، استغاثوا وتضرعوا ألا يكونوا معهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- تستهدف المناظرة أو الحوار أو المناداة بين أهل الجنة وأهل النار تقريع الكفار وتعييرهم، ثم تحسم المناظرة بصوت مناد ينادي من الملائكة بأعلى صوته:
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
2- الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق، ولا يمكن ذلك إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته.
3- أوقع المؤذن لعنة الله على من كان متصفا بصفات أربع:
أ- هي كونهم ظالمين أي مشركين أو كفارا بدليل وقوع المناظرة بين أهل الجنة وبين الكفار.
ب- وكونهم يصدون عن سبيل الله، أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق، إما بالزجر وإما بالحيل.
ج- كونهم يبغونها عوجا أي يلقون الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق.
د- وهم بالآخرة كافرون، وهذا تصريح بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين.
4- إن أصحاب الأعراف أي السور القائم بين الجنة والنار، يترددون بين(8/217)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
حالين: ينادون أصحاب الجنة ويسلّمون عليهم ويتأملون دخول الجنة فضلا من الله ورحمة، وهم لم يدخلوها بعد، ولكنهم يعلمون أنهم يدخلون. ويرون أهل النار فجأة من غير قصد ولا رغبة، فيسألون الله تذللا وتضرعا ألا يجعلهم معهم، وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم.
وأصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، في رأي جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن عطية:
وفي مسند خيثمة بن سليمان حديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة «1» ، دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار. قيل:
يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» .
المناظرة بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار
[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
الإعراب:
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الهمزة في أَهؤُلاءِ: همزة الاستفهام، وهؤُلاءِ: مبتدأ، والَّذِينَ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أهؤلاء هم الذين أقسمتم عليهم،
__________
(1) الصؤابة: بيض القملة.(8/218)
فحذف عليهم. ولا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ: جواب أَقْسَمْتُمْ، والقسم وجوابه في صلة الَّذِينَ.
لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ.. جملة النفي حال، أي مقولا لهم ذلك.
المفردات اللغوية:
رِجالًا من أصحاب النار. ما أَغْنى عَنْكُمْ من النار. جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم عن الإيمان. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ... أي ويقول أصحاب الأعراف لأهل النار مشيرين لهم إلى ضعفاء المسلمين.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أثر التفاتة أصحاب الأعراف على أصحاب النار بقوله:
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ... أتبعه أيضا بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أهل النار. واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام لا يليق إلا بهم، وهو قولهم: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ، ولا يليق أيضا إلا بأكابرهم.
التفسير والبيان:
هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين يعتمدون على قوتهم وغناهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعفهم، مضمونه الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم وعلامتهم المميزة لهم.
ينادي بعض أهل الأعراف رجالا من المشركين يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة وزرقة العيون، وتشوية الخلقة، فيقولون لهم: ما أغنى عنكم جمع المال، أو اجتماعكم وكثرتكم، ولا استكباركم عن الإيمان برسالة محمد، أي لم تنفعكم كثرتكم، ولا جموعكم ولا تكبركم عن الإيمان من عذاب(8/219)
الله، بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال، وكذلك لم ينفعكم تكبركم على الفقراء والمستضعفين المؤمنين.
وتبددت أفكاركم التي تزعم أن من أغناه الله في الدنيا، وجعله قويا هو الذي له نعيم الآخرة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ 34/ 34- 35] .
ثم سألوهم سؤال توبيخ وتأنيب عن حال المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم في الدنيا بسبب إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كصهيب الرومي وخبيب بن عدي وبلال الحبشي وآل ياسر، وأشاروا إليهم:
أهؤلاء هم الذين حلفتم في الدنيا ألا ينالهم الله برحمة لفقرهم وضعفهم وقلة أتباعهم، وهم يرتعون في نعيم الجنة ويتمتعون بخيراتها، والكفار يتحرقون في سعير جهنم؟! ثم قال الله تعالى أو قالت الملائكة لأصحاب الأعراف الموقوفين على السور:
ادخلوا الجنة، لا خوف عليكم في المستقبل، ولا يطرأ عليكم حزن في حاضركم.
وفائدة المحاورة والقول: تبيان أن الجزاء على قدر العمل، والترغيب في التسابق في أعمال الخير، وأن المعول عليه ليس هو المال والغنى والقوة، وإنما المنظور إليه هو العمل الصالح، وأن الطائعين يتميزون بالنضرة، وأن العصاة يعرفون بالغبرة والزّرقة وتشوه الخلقة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن معايير التفاضل وموازين التقدم والتفوق في الآخرة تختلف عما هي عليه في الدنيا، فليس المال والقوة والتجمع أساس العزة والسعادة والنجاة في الآخرة،(8/220)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
وإنما الأساس هو الإيمان والعمل الصالح، ففريق الزعماء المشركين الأشداء المتكبرين والأغنياء هم في النار، وفريق المؤمنين الأتقياء الضعاف المتواضعين لله هم في أعالي الجنان.
وفضل الله ورحمته يشملان المقصرين أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهو رد على أهل النار الذين يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار، فتقول الملائكة لأهل الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
ما يقوله أهل النار لأهل الجنة أو استغاثة أهل النار بأهل الجنة لإمدادهم بالطعام والشراب
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
الإعراب:
حَرَّمَهُما فعل ماض، لم يقل: حرّمه، وإن كان التقدير: أفيضوا علينا أحد هذين، لأن أو هاهنا للإباحة، وهي لتجويز الجمع كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. فيجوز أن يجمع بينهما، فأشبهت الواو التي للجمع، فحملت عليها. أي أنه ثنّى الفعل لأنه أقام أَوْ مقام الواو، وإن كانت أَوْ لتجويز الجمع، والواو لإيجاب الجمع.
كَما نَسُوا.. وَما كانُوا كَما في الحالين في تأويل المصدر، والأولى هي في موضع جر بالكاف، وتقديره: فاليوم ننساهم كنسيانهم لقاء يومهم هذا. والثانية في موضع جر بالعطف على كَما الأولى.(8/221)
المفردات اللغوية:
أَفِيضُوا عَلَيْنا أفاض الماء: صبه، ثم استعمله في الشيء الكثير. أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الطعام. حَرَّمَهُما منعهما. نَنْساهُمْ نتركهم في النار. كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا بتركهم العمل له. وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي وكما جحدوا أي أنكروا.
المناسبة:
الآيتان استمرار في محاورة الناس يوم القيامة، فبعد أن بيّن الله تعالى الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، والحوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار، وما قاله الفريق الأول للثاني، أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة.
التفسير والبيان:
هذا مشهد من مشاهد سوء أهل النار يوم القيامة، فالله يخبر عن ذلة أهل النار وسؤالهم الطعام والشراب من أهل الجنة، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.
ومعنى الآية: إن أهل النار يطلبون من أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وقوله: أَفِيضُوا معناه صبوا علينا من الماء أو النعم الشيء الكثير، ومعنى قوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من غيره، فيشمل الطعام والأشربة غير الماء. وقد استغاثوا بهم مع علمهم بأنهم لا يجابون أبدا، بسبب الحيرة في أمرهم، ولشدة حاجتهم إلى الماء، كما يفعل كل مضطر، كالغريق وغيره. وقوله: أَفِيضُوا فيه دليل على أن الجنة فوق النار.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار بفرج بعد اليأس، فقالوا: يا ربنا، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزحزحت، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، وقد اسودّت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى(8/222)
أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ. وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب، بسبب شدة حر جهنم.
وهذا القول يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول. وقال آخرون: بل مع اليأس لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: ينادي الرجل أباه أو أخاه، فيقول له: قد احترقت، فأفض علي من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ.
ومعنى قوله تعالى: قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ: قال أهل الجنة: إن الله منع الكفار شراب الجنة وطعامها.
ثم وصف الله تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا، باتخاذهم الدين لعبا ولهوا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفتها، عما أمروا به من العمل للآخرة، فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ....
أي إن هؤلاء الكفار تلاعبوا بدينهم وما كانوا به مجدين، أو اتخذوا اللهو واللعب دينا لأنفسهم، وجعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكي الأنفس ولا تفيد، بل هي لهو يشغل الإنسان عن الجد، أو لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة، فهي كأعمال الأطفال.
واغتروا في الحياة الدنيا بشهواتها وزخارفها وزينتها ولذاتها من الحرام والحلال. قال الرازي: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة، بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان يطمع في طول العمر، وحسن العيش، وكثرة المال، وقوة الجاه، فلشدة رغبته(8/223)
في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين، غرقا في طلب الدنيا «1» .
وكان جزاء التلاعب واللهو والغرور ما قاله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ ...
أي يعاملهم معاملة من نسيهم من الخير لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى: فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه 20/ 52] وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] وقوله: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه 20/ 126] .
فمعنى قوله فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ: نعاملهم معاملة الشيء المنسي، فلا يذكرون بخير، وإنما يتركون في النار. ومعنى كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا: كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطر لهم ببال ولم يهتموا به، وكما أنكروا آيات الله، ورفضوا ما جاءت به الرسل.
والحاصل: أن الله تعالى يتركهم في عذاب النار، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما جحدوا بآيات الله.
وقد سمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان من قبيل المشاكلة، كما في قوله تعالى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] والمراد من هذا النسيان: أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن شراب أهل الجنة وطعامهم ممنوع حرام على الكافرين. وهو تحريم قهر وعقاب.
ودلت الآية الثانية على إهمال الكافرين في عذاب جهنم ومعاملتهم معاملة المنسيين، لنسيانهم واجباتهم نحو ربهم في الحياة الدنيا، وعلل تعالى ذلك
__________
(1) تفسير الرازي: 14/ 93(8/224)
بتعليلات مجملها أنهم كانوا كافرين، وتفصيلها ووصف أحوالهم: أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا، ثم لعبا ثانيا، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنهم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن الحسن مرسلا، وهو ضعيف: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» .
وأما من الناحية الفقهية بالمعنى الخاص فقد دلت الآية الأولى على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال:
الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.
وروى أبو داود أن سعدا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء»
فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى. وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء.
وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب فيما رواه البخاري عن أبي هريرة، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه؟!
وفي حديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه في السنن- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق رقبة، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها» .
واستدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده لأن معنى قول أهل الجنة: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ لا حق لكم فيها.
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لأذودنّ رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض»
قال المهلّب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه
لقوله عليه الصلاة والسلام: «لأذودنّ رجالا عن حوضي» .(8/225)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
فضل القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة بإظهار الندم وطلب الشفاعة
[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
الإعراب:
هُدىً وَرَحْمَةً منصوبان على الحال من هاء فَصَّلْناهُ وتقديره: فصلناه هاديا ذا رحمة.
يَوْمَ يَأْتِي يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه يَقُولُ.
فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَيَشْفَعُوا: منصوب بتقدير أن بعد فاء الجواب لأنه جواب الاستفهام. أَوْ نُرَدُّ: مرفوع معطوف على الاستفهام قبله، على تقدير: أو هل نردّ لأن معنى: هل لنا من شفعاء: هل يشفع لنا أحد أو هل نردّ؟ فعطفه على المعنى.
فَنَعْمَلَ منصوب على جواب التمني بالفاء، بتقدير (أن) حملا على مصدر ما قبله، فالفاء في المعنى تعطف مصدرا على مصدر.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي أهل مكة، وغيرهم مثلهم. بِكِتابٍ هو القرآن الكريم.
فَصَّلْناهُ بيّناه أتم بيان بالأخبار والوعد والوعيد. عَلى عِلْمٍ أي عالمين بما فصل فيه.
هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظرون. إِلَّا تَأْوِيلَهُ ما يؤول إليه أمره، أي عاقبة ما فيه وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ هو يوم القيامة. يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوا الإيمان به. بِالْحَقِّ أي بالأمر(8/226)
الثابت. أَوْ نُرَدُّ أو هل نرد إلى الدنيا. فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نوحد الله ونترك الشرك، فيقال لهم: لا.
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها إذ صاروا إلى الهلاك. وَضَلَّ عَنْهُمْ أي غاب عنهم وذهب. ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ادعاء الشرك.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أحوال أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف، وما يدور بين هذه الفرق الثلاث من حوار يحمل المكلف على الحذر والاحتراس والتأمل في العواقب، أردف ذلك ببيان شرف هذا الكتاب الكريم وعظيم فضله ونفعه وحجيته على البشر كلهم، وأنه أبطل معاذيرهم، ثم ذكر حال المكذبين وما يحدث منهم يوم القيامة من ندم وحسرة، وتمني العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم، أو إنقاذهم بشفاعة الشفعاء.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بهذه الآية عن إبطال معاذير المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي هو مفصّل مبيّن، كقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود 11/ 1] .
لقد جئنا هؤلاء المشركين من أهل مكة وأمثالهم بكتاب كامل البيان وهو القرآن، فصلنا آياته بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد، على علم تام منا بما فصلناه به، كقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 4/ 166] تصحيحا لعقيدتهم، وتزكية لنفوسهم، وسببا لسعادتهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به، ويعمل بأحكامه.
أوضح أصول الدين، وندد بالشرك والوثنية، ووضع الأنظمة الصالحة للبشر، وحض على البناء والتقدم والحضارة من طريق تمجيد النظر والتأمل(8/227)
والتفكير، والحث عليها، وذم التقليد دون بحث ولا تمحيص في آيات كثيرة، منها ما يحث على النظر والتأمل مثل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] ومثل: قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة 2/ 111] ومنها ما يذم التقليد مثل: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف 43/ 23] .
هل ينتظر أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويله، أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار، قال الربيع: لا يزال يجيء من تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حين يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.
ويوم يأتي تأويله يوم القيامة، كما قال ابن عباس، وتظهر حقائق ما أخبر به وصدق ما جاء به، فيقول الذين تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا، أي جعلوه كالشيء المنسي وأعرضوا عنه: قد جاءت رسل ربنا بالحق، أي صدقوا في كل ما قالوا، وصح أنهم جاؤوا بالحق، وظهر أنه متحقق ثابت، ولكنا نحن الذين أعرضنا عنه، فجوزينا هذا الجزاء.
وأصبحوا يتمنون الخلاص بكل ما يمكن من أحد أمرين: إما شفاعة الشافعين، وإما الرجوع إلى الدنيا لإصلاح العمل وتجديد السلوك والمنهج الذي يرضي الله تعالى.
والسبب في تمني الشفعاء: تذكرهم أساس الشرك وهو أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء فعند ما أفلسوا وعرفوا أن النجاة بالإيمان والعمل الصالح، تمنوا الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا بما أمر به الرسل غير علمهم السابق، كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ(8/228)
رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
[الأنعام 6/ 27- 28] .
وهذا كقوله هاهنا: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي غبنوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، وذهب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء التي كانوا يعبدونهم من دون الله، قائلين: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فلا يشفعون فيهم، ولا ينصرونهم، ولا ينقذونهم مما هم فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
القرآن الكريم أعظم نعمة على الإنسان لأنه بيان للإيمان الصحيح والحق الثابت، والعبادة المرضية لله تعالى، ولأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كقوله تعالى:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام 6/ 155] .
وتظهر في كل حين في الدنيا عاقبة ما أنذر به وحذّر، وما أعلم به وأخبر لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 41/ 53] وكذا في الآخرة لقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبة ما فيه. وعاقبة القرآن: ما وعد الله فيه من البعث والحساب وجزاء التكذيب به.
وتبدو عواقبه يوم القيامة، فيعترف منكروه بأنه الحق الثابت والصدق الأبلج، ويتمنون الخلاص بأي وسيلة ممكنة: إما بشفاعة الشفعاء، أو الرد إلى الدنيا لتصحيح الأعمال بما يتفق مع مرضاة الله، ولكن لا يجابون إلى مطلبهم، فيندمون ولات حين مندم.
ولكن هؤلاء الكفار المنكرين قد خسروا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب في النار، وبطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر، ولم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا، ولم ينتفعوا أيضا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها.(8/229)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
إثبات الربوبية والألوهية لله بالخلق والأمر
[سورة الأعراف (7) : آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
الإعراب:
حَثِيثاً منصوب إما لأنه حال أي حاثا، وإما لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره:
يطلبه طلبا حثيثا.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يقرأ بالنصب والرفع، فالنصب بالعطف على السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي وخلق الشمس والقمر.. والرفع على الابتداء، وخبره: مُسَخَّراتٍ.
البلاغة:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فيه ما يسمى «إيجاز قصر» وهو جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
المفردات اللغوية:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الرب: هو السيد المالك المدبر والمربي، واللَّهُ: اسم الذات الأقدس خالق الخلق أجمعين، والإله: هو المعبود المرتجى لجلب النفع وكشف الضر، ويتقرب إليه بما يرضيه من العبادة والدعاء. وليس للمؤمنين الموحدين سوى إله واحد ورب واحد هو الله عز وجل. وأكثر المشركين يقولون: إنه أعظم الآلهة، وكان مشركو العرب لا يعترفون برب سواه، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه السَّماواتِ وَالْأَرْضَ المراد بهما العالم العلوي والعالم السفلي، ولم يرد خبر ببيان حقيقتهما. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ جمع يوم، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها، والمراد بالأيام الستة: أنها من أيام الدنيا، أي في قدرها، لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهن في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت.(8/230)
اسْتَوى في اللغة: استقر، أو قصد أو استولى وملك، والمراد أنه يتصرف فيه بما يريد وقد استوى استواء يليق به الْعَرْشِ لغة: سرير الملك، أو كل شيء له سقف، أو هودج المرأة، أو الملك والسلطان، يقال: ثلّ عرشه، أي ذهب ملكه وزوال أو هلك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي كلا منهما بالآخر، ويجعل الليل كالغشاء، أي يذهب نور النهار يَطْلُبُهُ يطلب كل منهما الآخر حَثِيثاً أي طلبا سريعا من غير فتور مُسَخَّراتٍ مذلّلات خاضعات لتصرفه بِأَمْرِهِ بقدرته وتدبيره وتصرفه الْخَلْقُ إيجاد الأشياء من العدم بقدر، فله الخلق جميعا وَالْأَمْرُ كله، أي التدبير والتصرف كما يشاء تَبارَكَ اللَّهُ تعاظم وتنزّه، أو كثر خيره وإحسانه رَبُّ الْعالَمِينَ مالك العوالم من الجن والإنس.
المناسبة:
إن مدار القرآن على إثبات أسس أربعة: وهي التوحيد، والنبوة، والمعاد، والقضاء والقدر. وإثبات المعاد متوقف على إثبات التوحيد والقدرة والعلم.
فلما قرر الله تعالى أمر المعاد، وذكر ما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وأصحاب الأعراف، عاد إلى ذكر أدلة التوحيد، وكمال القدرة، والعلم، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وإثبات المعاد.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه خالق الكون أو العالم كله سماواته وأراضيه السبع، وما بين ذلك في ستة أيام، وهي ما عدا السبت، وقد اجتمع الخلق كله في الجمعة، الذي فيه خلق آدم عليه السلام. وأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع، وهذا من الأخبار الإسرائيلية.
والمتبادر إلى الأذهان أن هذه الأيام مقدرة بأيام الدنيا لأنه لم يكن ثمّ شمس، ووجدت هذه الأشياء المخلوقة بعد خلق هذه الأرض. ورأى مجاهد وأحمد بن حنبل: أن كل يوم كألف سنة، كما قال تعالى:(8/231)
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج 22/ 47] وأما يوم القيامة فقال الله في وصفه: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 69/ 4] .
ومعنى الآية: إن ربكم ومالك أمركم أيها الناس هو الله وحده لا شريك له، وهو الذي أوجد السموات والأرض، وقدرهما، ودبر أمورهما وأحكم نظامهما في ستة أيام، إما مقدرة بأيام الدنيا، وإما أن الله أعلم بمقدارها وحدودها، ولو شاء خلّقها في لحظة لخلقها، وإنما أراد تعليم خلقه التثبت في الأمور: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] وذلك الخلق والتكوين ليس بالهين وهو دليل على القدرة التامة: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] .
وكان خلق الأرض في يومين، وخلق الجبال الرواسي وأنواع النبات والحيوان في يومين آخرين، كما قال تعالى: قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت 41/ 9- 10] .
وخلق السموات وما فيها من أجرام وكواكب في يومين، كما قال تعالى:
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت 41/ 12] .
ثم إنه تعالى بعد هذا الخلق استوى على عرشه، يدبر أمره، ويصرف نظامه، على نحو يليق به، غير مشابه لشيء من المخلوقات والحوادث. فاستواؤه على العرش: هو انفراده بتدبير السموات والأرض، واستيلاؤه على زمام الأمور والسلطة فيهما. ونحن نؤمن كإيمان الصحابة باستواء الله على العرش بكيفية تليق به، من غير تشبيه ولا تكيف، أي من غير تحديد بجهة، ولا تقدير بكيف أو(8/232)
وصف، وتترك معرفة الحقيقة إلى الله، وهذا ما قرره الإمام مالك ومن قبله شيخة ربيعة، فقال: الاستواء معلوم (أي في اللغة) والكيف (أي كيفية الاستواء) مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وهذا القدر كاف في الموضوع.
وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 42/ 11] .
بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حمّاد شيخ البخاري قال: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى «1» .
وأما الخلف فيتأولون ويقولون: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه، بمعنى أنه يدبر أمره، ويصرّف نظامه، على حسب تقديره وحكمته، كما قال:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس 10/ 3] .
ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر تدبيره الكون فقال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ... أي أنه تعالى يلحق الليل بالنهار، أو النهار بالليل، يحتملهما جميعا على التعاقب، ويذهب ظلام الليل بضياء النهار، وضياء النهار بظلام الليل، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، أي سريعا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 220(8/233)
جاء هذا وعكسه. والمراد أنه يعقبه سريعا دون وجود فاصل أو تأخر، مثل قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 37- 40] .
وفي تعاقب الليل والنهار منافع كثيرة، إذ بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتتحقق مصالح الناس.
وقد تأيد هذا الطلب السريع بما أثبته العلم الحديث من كروية الأرض ودورانها على محورها حول الشمس، فيكون نصف كرتها مضيئا بالشمس، والنصف الآخر مظلما، فإذا كان الوقت نهارا في الشرق الأوسط مثلا، كان الوقت ليلا في أمريكا الجنوبية وطوكيو- اليابان. وقد سبق إلى ما قرره العلماء المعاصرون كثير من علماء الإسلام كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن قيّم الجوزية.
ومن مظاهر التدبير الإلهي للكون: خلقه الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب، وكونها جميعا تحت قهره وتسخيره ومشيئته، أي أنها خاضعة لأمره وتصرفه. لذا قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي أنه هو الخالق المبدع المالك، المتصرف المدبر، فمعنى لَهُ الْخَلْقُ أي له ملك المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها، ومعنى له الْأَمْرُ أي التصرف والتدبير، ليس لأحد شيء.
تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي تعاظم وتنزّه، وانفرد بالربوبية، وكل ما في العالم من الخيرات الكثيرة منه، فعلى عباده شكره عليها، وعبادته دون غيره. كقوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك 67/ 1] وقوله: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان 25/ 61] .(8/234)
روى ابن جرير الطبري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .
وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء، وروي مرفوعا: «اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يلي:
1- الله عز وجل هو المنفرد بقدرة الإيجاد، وخالق السموات والأرض، فهو الذي يجب أن يعبد.
2- استوى الله تعالى على العرش، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، ورأي السلف الصالح: أنه استوى على عرشه حقيقة، لكن كيفية الاستواء مجهولة، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم (يعني في اللغة) والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها.
وأكثر المتقدمين والمتأخرين من علماء المتكلمين على تنزيه الله تعالى عن الجهة والتحيّز في مكان، لأنه يلزم من ذلك أنه متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيّز، ويلزم على المكان والحيّز: الحركة والسكون للمتحيّز، والتغيّر والحدوث.
وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى الملك والسلطان، أي ما استوى الملك(8/235)
المطلق إلا له جل وعز. قال القرطبي: وهو قول حسن، وفيه نظر «1» .
3- الليل والنهار متعاقبان، وتعاقبهما دليل على كروية الأرض وحركتها ودورانها. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل، واكتفى بأحدهما عن الآخر، مثل: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل 16/ 81] أي والبرد. ومثل:
بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 3/ 26] أي والشر.
4- الشمس والقمر والنجوم وسائر الكواكب مخلوقة لله، بدليل أنها معطوفة على السموات، أي وخلق السموات، وهي مذللات خاضعات لتصرف الله.
5- لله الخلق والأمر، وقد دلت الآية على صدق الله في خبره، فله الخلق وله الأمر، خلقهم وأمرهم بما أحب، وهذا الأمر يقتضي النهي. قال سفيان بن عيينة: فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر. فالخلق: المخلوق، والأمر: كلامه الذي هو غير مخلوق، وهو قوله: كُنْ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] .
وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بيّن على فساد قول من قال بخلق القرآن إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا، لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق.
وذلك عيّ من الكلام ومستهجن، والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ولو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له، وذلك محال، فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق ليصح قيام المخلوقات بأمره، بدليل قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] وقوله هنا: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره.
__________
(1) تفسير القرطبي: 7/ 221(8/236)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
والأمر ليس من الإرادة في شيء. والمعتزلة تقول: الأمر نفس الإرادة. قال القرطبي: وليس بصحيح، بل يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرده منه، وأمر نبيه أن يصلّي مع أمّته خمسين صلاة، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول:
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ [آل عمران 3/ 140] ونهى الكفار عن قتله، ولم يأمرهم به «1» .
6- الله تعالى متعاظم منزه عن الدنايا، باق دائم ثابت، كثير الخيرات والآثار الفاضلة والنتائج الشريفة، واسع الفضل والإحسان تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
مشروعية الدعاء وآدابه وتحريم الإفساد في الأرض
[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الإعراب:
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إما منصوبان على المصدر، أو على الحال على معنى: ذوي تضرع وخفية.
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ إنما قال: قريب بالتذكير لثلاثة أوجه: أنه ذكره حملا على المعنى، لأن الرحمة بمعنى الرّحم أو الترحم، وهو مذكر، أو لأن المراد بالرحمة: المطر، وهو مذكر، أو ذكّره على النّسب، أي: ذات قرب، كقولهم: امرأة طالق وطامث وحائض، أي ذات طلاق وطمث وحيض (ابن الأنباري: 1/ 365) . وأضاف الزمخشري: أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي شيء قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي (الكشاف: 1/ 551) وذكر الرازي في تفسيره (14/ 136- 137) أربعة وجوه من هذه.
وذكر القرطبي في تفسيره: 7/ 227 سبعة أوجه لقوله: قَرِيبٌ ولم يقل: قريبة، هي
__________
(1) المرجع السابق: 7/ 223(8/237)
أن الرّحمة والرّحم واحد، وهي بمعنى العفو والمغفرة، وقيل: أراد بالرحمة الإحسان، وقيل:
مالا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره، وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر، وقيل: على تذكير المكان أي مكانا قريبا، وقيل: ذكّر على النسب، كأنه قال: إن رحمة الله ذات قرب. وقيل: في غير النسب يجوز التذكير والتأنيث، يقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب.
المفردات اللغوية:
تَضَرُّعاً تذللا، وهو إظهار ذل النفس وخضوعها خُفْيَةً سرا، وهو ضد العلانية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت، والمراد: عدم الثواب وعدم الرضا عن الداعي.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالشرك والمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الرسل خَوْفاً من عقابه، والخوف: توقع الشر والمكروه وَطَمَعاً في رحمته، وهو توقع الخير.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على توحيد الربوبية من كمال القدرة والتدبير، والحكمة والتصرف، أتبعه بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة والاشتغال بالدعاء والتضرع، فإن الدعاء مخ العبادة.
التفسير والبيان:
أرشد الله تعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي ادعوا ربكم ومتولي أموركم والمنعم عليكم، متضرعين متذللين مستكينين، مع إسرار الدعاء وإخفائه، فالدعاء مخ العبادة. وفيه إيماء إلى ندب الدعاء خفية لأنه أبعد عن الرياء، ولقوله تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف 7/ 205] وقوله بالثناء على زكريا: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم 19/ 3] .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس(8/238)
أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس، اربعوا «1» على أنفسكم، فإنكم لا تدعون وأصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» .
وروى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في الثواب عن أنس رضي الله عنه:
«دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» .
وروى أبو الشيخ ابن حبان في الثواب عن أنس رضي الله عنه: «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» .
وقال الحسن البصري رحمه الله: «ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً.
وذكر بعض العلماء: أن الأولى الإسرار بالدعاء في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيدين.
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء ولا في غيره، بتجاوز الحدود المأمور بها، والتجاوز هنا في ترك هذين الأمرين المذكورين: وهما التضرع والإخفاء.
وعدم المحبة: أي أن الله لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، فظهر أن قوله تعالى:
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
روى أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الآية،
وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك
__________
(1) أي ارفقوا بأنفسكم.(8/239)
الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل» .
وكما أمر الله بدعائه والتضرع إليه، نهى عن الإفساد في الأرض، فقال:
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... أي لا تفسدوا شيئا في الأرض بعد الإصلاح بما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون، وشيّده العقلاء المخلصون، من النواحي المادية والمعنوية، كتقوية وسائل الحياة من زراعة وصناعة وتجارة، وتهذيب الأخلاق، والحث على العدل والشورى والتعاون والتراحم.
والإفساد شامل إفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة والاحتيال، وإفساد العقول بشرب المسكرات ونحوها، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى واللواطة والقذف.
وبعد أن أبان الله تعالى شرط الدعاء وهو التضرع والخفية، نبّه إلى بواعث الدعاء وموجباته، وأشعر أن من لا يدعو ربه على هذا النحو يكون أقرب إلى الإفساد، فقال: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً.
أي ادعوا الله خوفا من عقابه، وطمعا في جزيل ثوابه، فإن الدعاء مخ العبادة ولبّها، لذا صرح بفائدة الدعاء، وأنه مرجو الإجابة متى استكمل شرائطه وآدابه، فقال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ.. أي إن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم، وهي مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 156] .
فمن أحسن الدعاء أعطي خيرا مما طلبه، أو مثله، أو دفع عنه من الشر مثله.(8/240)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي من الأحكام:
1- الأمر بالدعاء والتعبد به، وهو نوع من أنواع العبادة، ويفيد معرفة ذل العبودية، ومعرفة عزة الربوبية، ويكون سببا لجلب الخير ودفع الضر لأن هناك أمورا معلقة بالأسباب، والدعاء سبب.
2- للدعاء آداب وصفات تحسن معه: وهي الخشوع والاستكانة والتضرع، وكونه سرا في النفس ليبعد عن الرياء، وأن يكون الإنسان في حالة بين الرجاء والخوف، فيدعو خوفا من عقاب الله، وطمعا في ثوابه، قال الله تعالى:
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء 21/ 90] .
قال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طوال الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء.
أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» .
وينبغي عدم الاعتداء في الدعاء: بالجهر الكثير والصياح، أو يدعو الإنسان أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال ونحو هذا من الشطط، أو يدعو طالبا معصية وغير ذلك، أو يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مفقّرة، وكلمات مسجّعة، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء، والأولى ترك كل ذلك.
ومجمل آداب الدعاء: أن يكون على طهارة، وأن يستقبل القبلة، وتخلية القلب من الشواغل، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ورفع اليدين نحو السماء، وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإجابة كثلث الليل الأخير، ووقت إفطار الصائم، ويوم الجمعة، وحال السفر والظلم وغير ذلك «1» .
__________
(1) روح المعاني للالوسي: 8/ 140(8/241)
3- ودل قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ على أن كل من خالف أمر الله ونهيه، فإنه يكون معاقبا إذا ارتكب محرما، فإن لم يكن من المحرمات فالأولى تركه.
4- استدل الحنفية بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً على أن إخفاء التأمين «آمين» أولى من الجهر بها لأنه دعاء. وقال الشافعي رحمه الله:
إعلانه أفضل.
وأما رفع اليدين في الدعاء، فكرهه طائفة من العلماء مثل عطاء وطاوس ومجاهد وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير عملا بحديث أنس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء، فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه.
وأجاز جماعة آخرون من الصحابة والتابعين رفع الأيدي،
ذكر البخاري عن أبي موسى الأشعري: دعا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه.
ومثله عن أنس.
وقال ابن عمر: رفع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» .
وفي صحيح مسلم عن عمر قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة مادّا يديه، فجعل يهتف بربه.
وروى الترمذي عن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه، لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه
، وقال: هذا حديث صحيح غريب. وهذه الأحاديث- كما ذكر القرطبي- أصح طرقا، وأثبت من حديث أنس المتقدم. ثم قال: والدعاء حسن كيفما تيسر، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلّم حسبما ورد في الأحاديث.
5- نهى سبحانه عن كل فساد قل أو أكثر بعد صلاح قل أو كثر. ودل قوله(8/242)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق. وبان في الآية المتقدمة: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ أن الأصل في المنافع واللذات الطيبة الإباحة والحل.
6- دل قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ.. على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين، ويفهم منه: ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة لأنه يلزم من الآية أن كل ما لا يكون قريبا من المحسنين ألا يكون رحمة.
إنزال المطر وإخراج النبات ودلالتهما على القدرة الإلهية وإثبات البعث
[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
الإعراب:
بُشْراً منصوب على الحال.
إِلَّا نَكِداً حال من الضمير في يَخْرُجُ.
البلاغة:
سُقْناهُ فيه التفات عن الغيبة.
لِبَلَدٍ مَيِّتٍ استعارة، إذ شبه جدب البلد وعدم نباته بالجسد الذي لا روح فيه، من حيث عدم الانتفاع به.(8/243)
كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه الأداة ولم يذكر وجه الشبه، شبّه إخراج الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض.
المفردات اللغوية:
الرِّياحَ جمع ريح، وهو الهواء العاصف الشديد الحركة، وإذا جمعت كانت في معنى الخير، كما هنا، وإذا أفردت كانت في معنى الشر، كما في قوله تعالى: أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر 54/ 19] وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» .
بُشْراً مبشرات متفرقة قبل نزول المطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قبل نزول المطر أَقَلَّتْ حملت ورفعت أي الرياح سَحاباً جمع سحابة وهي الغيوم ثِقالًا مشبعة ببخار الماء سُقْناهُ سيرناه أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أرض لا نبات فيها ولا مرعى، أي لإحيائها فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بالماء الثَّمَراتِ جمع ثمرة، وهي ما تحمله الشجرة، سواء أكان مأكولا أم لا كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كذلك الإخراج للنبات بالمطر نخرج الموتى من قبورهم بالإحياء.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتؤمنوا.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ العذب التراب يَخْرُجُ نَباتُهُ حسنا بِإِذْنِ رَبِّهِ هذا مثل للمؤمن، يسمع الموعظة، فينتفع بها وَالَّذِي خَبُثَ ترابه لا يَخْرُجُ نباته إِلَّا نَكِداً عسرا بمشقة، لا خير فيه، وهذا مثل للكافر كَذلِكَ نُصَرِّفُ كما بينا ما ذكر نبيّن الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ الله فيؤمنوا.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر للعالم العلوي والسفلي، والمسخّر للإنسان ما في الكون، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر، ونهى عن الإفساد في الأرض، وأبان أن رحمته قريبة من المحسنين، نبّه تعالى إلى أنه الرزاق، وأن أهم مصادر الرزق هو المطر الذي يترجم إلى خيرات كثيرة ويكون سببا للنبات الحسن، وأنه يعيد الموتى أحياء يوم القيامة كإحياء الأرض بعد موتها.(8/244)
التفسير والبيان:
الله الذي يرسل الرياح قبل نزول المطر، مبشرات بها، فقوله: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي مقدم إنزال المطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى 42/ 28] وقال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم 30/ 50] .
فإذا حملت الرياح سحابا ثقالا، أي من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض، سقناه لإحياء أرض مجدبة لا نبات فيها، كقوله تعالى:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها.. [يس 36/ 33] .
فأنزلنا بالسحاب الماء، إذ من المعروف علميا أن الهواء القريب من سطح البحر يسخن بتأثير الحرارة، فيصعد في الجو ويبرد بتأثير منطقة باردة، أو بالهواء البارد، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء، وتكوّن السحاب، ثم يتحرك السحاب بقوة الريح، ثم ينزل مطرا بمشيئة الله وإرادته.
وهذا المعنى كثير متردد في الآيات مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر 35/ 9] ومثل الآية 43 من سورة النور، والآية 48 من سورة الروم.
فأخرجنا بالمطر أنواع النبات والثمار من الأرض، على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها وروائحها، مما يدل على قدرة الله وتمام رحمته، كما قال تعالى:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] .(8/245)
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، والأمثال تقرن ببعضها لمعرفة تماثلها في الحكم، فإنه تعالى أشار إلى إنكار البعث، فقال: كَذلِكَ نُخْرِجُ.. أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة الجدبة بالماء، نخرج الموتى ونبعثهم، فالله على كلّ شيء قدير، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وقد بينا هذا الشبه لتتذكروا وتتعظوا، فتؤمنوا بالبعث أو اليوم الآخر. كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] وقال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء 21/ 104] وقال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف 7/ 29] .
ولكن استعداد الناس للإيمان بالبعث مختلف باختلاف الطبائع والنفوس، فمنها الطيب الذي يتجاوب لنداء الإيمان، ومنها الخبيث الذي يعرض عن الإيمان، لذا قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ ... أي إن الأرض الطيبة التربة يخرج نباتها سريعا حسنا، والأرض الخبيثة التربة كالسّبخة ونحوها، لا يخرج نباتها القليل إلا بعسر وصعوبة.
قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. أي إنه تعالى شبه المؤمن بالأرض الخيّرة، والكافر بالأرض السبخة، ومثله
الحديث الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكانت منها نقيّة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبث كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .(8/246)
هذه الأمثال والمقارنات وعقد أوجه الشبه بين الأشياء لإقناع الناس وحملهم على الإيمان والتفكير بالحقائق، لذا قال تعالى: كَذلِكَ نُصَرِّفُ ... أي مثل ذلك البيان والتصريف نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها ونبينها لقوم يشكرون نعمة الله، وهم المؤمنون ليكفروا فيها ويعتبروا بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- الله تعالى مصدر الرزق، فهو الذي ينزل المطر، فينبت الزرع والعشب والشجر والنبات والثمار، فيستفيد منها الإنسان والحيوان ثم يعود نفع الحيوان في النهاية إلى الإنسان. والإنزال والإنبات دليل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته.
2- إخراج الموتى أحياء من القبور مثل إخراج النبات الحي من الأرض الجدبة الميتة التي لا حراك فيها، وفي ذلك ذكرى، تذكر الناس فيؤمنوا بالبعث والنشور يوم القيامة.
3- ضرب الله تعالى للمؤمن والكافر مثلا، فإنه شبّه المؤمن بالأرض الخيّرة التي نزل عليها المطر، فيحصل منها أنواع الأزهار والثمار، والكافر بالأرض السّبخة التي لا تنبت إلا النزر القليل، وإن نزل عليها المطر، وشبّه نزول القرآن بنزول المطر، فالروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل بها نور القرآن، ظهرت فيها أنواع الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة وإن اتصل بها نور القرآن، لم يظهر فيها من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.
4- يضرب الله الأمثال للناس ليتذكروا ويتعظوا فيؤمنوا، ويصرّف الآيات ويرددها، ويأتي بالحجج والدلالات لإبطال الشرك، كما يصرف الآيات(8/247)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
في كل ما يحتاج إليه الناس، لعل الشاكرين يتذكرون فيشكروا الله على ما أنعم عليهم. وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك، مثل قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] .
قصة نوح عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
الإعراب:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: وصف لإله على الموضع لأن موضعه رفع. وقرئ بالجر صفة لإله على اللفظ.
يا قَوْمِ نداء مضاف، ويجوز: يا قومي على الأصل أُبَلِّغُكُمْ إما كلام مستأنف بيان لكونه: رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أو يكون صفة لرسول. وَأَنْصَحُ لَكُمْ زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة.
أَوَعَجِبْتُمْ فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. والهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم.(8/248)
المفردات اللغوية:
لَقَدْ جواب قسم محذوف عَذابَ يَوْمٍ المراد هنا يوم القيامة الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم رِسالاتِ رَبِّي ما أوحي إليّ من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر ضَلالٍ عدول عن طريق الحق مُبِينٍ بيّن وَأَنْصَحُ لَكُمْ أريد الخير، وأرشد إلى المصلحة مع إخلاص النية ذِكْرٌ موعظة عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ، أي على لسان رجل من جنسكم لِيُنْذِرَكُمْ العذاب إن لم تؤمنوا الْفُلْكِ السفينة عَمِينَ جمع عم، أي ذو عمى عن الحق، والأعمى: أعمى البصر.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتصل به، شرع في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الأول فالأول، مبتدئا بنوح عليه السلام الذي هو أبو البشر الثاني، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام.
والهدف من إيراد قصص الأنبياء: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول دعوة الأنبياء ليس مقتصرا على قريش قوم محمد عليه الصلاة والسلام، بل هذا موقف متبع في جميع الأمم السابقة، والمصيبة إذا عمت خفت، وفي ذلك تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتخفيف على قلبه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [هود 11/ 120] . وفي القصص بيان العاقبة: عاقبة المنكرين وهي اللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة، وعاقبة المؤمنين وهي العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
وفي إيراد القصص أيضا التنبيه إلى أن الله وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، فلا يهملهم، بل ينتقم منهم. وفي هذا من العظة والعبرة للأجيال ما يكفي:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] .
وسرد القصة من غير تحريف ولا خطأ دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان(8/249)
أميا لا يقرأ ولا يكتب، إذ يدل ذلك على أنه إنما عرف القصة بالوحي من الله، مما يدل على صحة نبوته.
أضواء على قصة نوح من التاريخ:
نوح عليه السلام: هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ: وهو إدريس «1» بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر.
وهو أول الرسل إلى المشركين، كما
في حديث الشفاعة في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض»
وهو أول الرسل بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل. وقد أرسله الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وكان نجارا.
وقال ابن عباس: وكان ابن أربعين سنة. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه. وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وذكر الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام. ذكر الزهري أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح.
والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل السود من ولد حام بن نوح.
والترك والبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح.
__________
(1) من قال من المؤرخين: إن إدريس النبي عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام، فقد وهم،
كما ذكر القرطبي بدليل الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النّبي صلّى الله عليه وسلّم إدريس قال له:
«مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح»
ولم يقل له: «بالابن الصالح» كآدم ونوح وإبراهيم.(8/250)
وكان أول ما عبدت الأصنام: أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صورهم، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.
فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى رسوله نوحا، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ....
وذكر نوح في (43) ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم، وذكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح. ومضمون قصته: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا عبادة الأصنام، ولكنهم عاندوه وعارضوه وآذوه، واتبعوا بعض زعمائهم، ومكروا مكرا عظيما، وصمموا ألا يذروا عبادة: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وقالوا في حماقة وكبرياء: إنك جادلتنا فأكثرت جدالنا، وإنا لن نترك ما نحن عليه، فأتنا بالعذاب الذي تهددنا به، فرد عليهم بأن تعذيبهم بيد الله تعالى.
ولما يئس نوح من إيمان قومه بعد دعوتهم إليه ألف سنة إلا خمسين، أمره الله تعالى بصناعة سفينة أداة النجاة، وكانوا كلما مروا عليه سخروا منه ومن عمله.
فلما أتمها، وأمره الله تعالى أن يأخذ معه أهله إلا زوجته، وأن يأخذ من آمن معه من قومه، وكانوا ستة فقط، وقيل: أربعين رجلا وامرأة، وأن يصحب معه من أجناس الحيوان والطير والوحش زوجين اثنين.
ثم فار تنور أهله بالماء، وبدأ تفجر الماء الكثير من كل مكان حتى عمّ الطوفان قومه وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان، فهلكوا حتى ابنه الذي أبى الركوب في السفينة قائلا: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ(8/251)
[هود 11/ 43] . واستوت السفينة على جبل الجودي في نواحي ديار بكر من جبال أرمينية جنوب تركيا: وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود 11/ 44] .
وللعلماء رأيان في عموم طوفان الأرض، فقال جماعة: لقد عمّ جميع أنحاء الأرض، بدليل وجود بقايا حيوانية مائية في أعالي الجبال. وقال آخرون: لم يكن الطوفان عاما، وإنما كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي بلاد الشرق الأوسط وما جاورها.
ومن المعلوم أن البلاء يعم والرحمة تخص، والنقمة لا تقتصر على الظالمين، فتشمل الأطفال الأبرياء والوحوش والطيور: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .
وكان نوح قد دعا بدعوتين: الأولى للمؤمنين والثانية على الكافرين، أما الأولى فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. [نوح 71/ 28] .
والثانية هي: وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 26- 27] .
وكان ابن نوح في عداد الهالكين لأنه كان ظالما كافرا، بدليل تمام الآية الأولى:
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً والظلم هو الكفر. وهذا ابن نوح حقيقة في رأي جماعة، وقال آخرون: إنه كان ابن امرأته من غيره، ولم يكن ابنا حقيقيا له.
وكانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، كما كانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ،(8/252)
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
[التحريم 66/ 10] .
ولم ينص القرآن الكريم على حجم السفينة، وإنما أشير إليها بأنها الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس 36/ 41] وبأنها ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر 54/ 13] أي مسامير، وبأن صناعتها بوحي من الله وإلهام: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [هود 11/ 37] .
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى لأهل مكة وغيرهم بأنه أرسل نوحا إلى قومه لإنذارهم، ودعوتهم إلى توحيد الله، وعبادته دون سواه، فقال لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي توجهوا بعبادتكم إلى الله وحده لا شريك له، إذ ليس لكم إله غير الله، تتوجهون إليه بالعبادة والدعاء وطلب الخير، فالله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت السموات والأرض، وهو الإله الحق القائم على هذا الكون، وهو المستحق للعبادة والتقديس والتعظيم.
إِنِّي أَخافُ ... إني أخاف عليكم بسبب الشرك عذاب يوم عظيم من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله، وأنتم تشركون به. فاليوم العظيم: هو يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان.
وموقع الجملتين بعد قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ: أن الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته.
قال الملأ من قومه أي أشراف القوم والسادة والقادة: إنا لنراك في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام لفي غمرة من الضلال أحاطت بك، وهكذا حال الفجار يرون الأبرار في ضلالة، وهم أعداء دائما للهداة، كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين 83/ 32] وقوله: وَقالَ الَّذِينَ(8/253)
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ
[الأحقاف 46/ 11] .
قال نوح مجيبا لهم: يا قوم، ما أنا فيما أمرتكم به من توحيد الله وعبادته دون الأنداد بضال عن جادة الحق، ولكن أنا رسول من رب العالمين إليكم، ربّ كل شيء ومليكه، أهديكم إلى سبيل الرشاد، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. والضلالة كما ذكر الزمخشري أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال.
أبلغكم ما أرسلني به ربي من الدعوة إلى التوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما اشتمل عليه من جنة ونار، وثواب وعقاب، وأبيّن لكم أصول العبادات والمعاملات وأحكامها العامة وفضائل الأخلاق والآداب، وفي الجملة: كل الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر.
وأنصح لكم نصحا خالصا من شوائب المصلحة والمكر، بتحذيركم من عقاب الله على كفركم وتكذيبكم لي.
روي مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» .
وأنا في هذا التبليغ والنصح أعلم من الله وشؤونه مالا تعلمون من مصير هذا العالم، وإن إنذاري عاقبة الشرك بعذاب الدنيا، ونصحي لكم ناشئ عن علم يقيني لا تعلمونه. وهذا شأن الرسول: أن يكون مبلّغا فصيحا ناصحا عالما بالله.
ويكون المقصود من قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب العلوم المتعلقة بتوحيد الله وصفات جلاله، وعقابه الشديد في الدنيا والآخرة على عصيان أوامره.(8/254)
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد» .
ثم أخبر الله تعالى عن نوح أنه قال لقومه: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر يذكّركم، ووعظ من ربكن، على لسان رجل منكم، ليحذّرنكم عاقبة كفركم، وينذركم عاقبة الشرك في العبادة، وليعدّكم بالتقوى (أي التزام الأوامر واجتناب النواهي) لرحمته تعالى التي ينزلها على المؤمنين، أو ليوجد فيكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار، ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
ليس هذا بعجب أن يوحي الله إلى رجل من جنسكم، رحمة بكم، ولطفا وإحسانا إليكم، لينذركم، ولتتقوا نقمه ولا تشركوا به، وليرحمكم ربكم بطاعته والإيمان برسله.
لكنهم لم يصغوا لنداء الحق والإخلاص هذا، وتمادوا في تكذيبه ومخالفته من قبل الأكثرية، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما قال تعالى في موضع آخر:
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود 11/ 40] قيل: كانت عدتهم ثلاثة عشر: نوح وبنوه: سام وحام ويافث وزوجاتهم، وستة آخرون آمنوا به. وقيل: كانوا أربعين أو ثمانين: أربعين رجلا وأربعين امرأة.
فكان العقاب إغراقهم بالطوفان: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا ... أي وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أو جحدوا بها بالطوفان، بسبب كفرهم وتماديهم في ضلالهم وشركهم، إنهم كانوا قوما عميا عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فقوله: عَمِينَ يراد به عمى القلوب غير مستبصرين، والفرق بين العمى والأعمى أن الأول بسبب عمى البصيرة، والثاني بسبب عمى البصر.(8/255)
ونجّى الله رسوله نوحا والمؤمنين القائل معه.
وهكذا بيّن الله تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] .
فاحذروا أيها المخاطبون بدعوة الإسلام أن تكونوا مثلهم، أو تسيروا على منوالهم. وسيأتي في سورة هود تفصيل أشمل لهذه القصة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة نوح عليه السلام على أنه اهتم في دعوة قومه بثلاثة عناصر:
أحدها: أنه أمرهم بعبادة الله تعالى.
والثاني: أنه حكم أن لا إله غير الله. والمقصود من الكلام الأول: إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد، والثاني كالعلة للأول.
والثالث: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: وهو إما عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان. والمراد من الخوف: اليقين لأنه كان جازما بنزول العذاب بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون: بل المراد منه الظن والشك.
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله:
اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي، يجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام، فكان المعنى: اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره، حتى يتطابق النفي والإثبات.
ودلت الآية أيضا على أن الفجار والكفار يرون الأبرار والمؤمنين عادة في(8/256)
ضلال، ويكونون دائما أعداء للهداة، فقد نسبوا نوحا عليه السلام في ادعاء النبوة إلى الضلال، وكذبوه وتمردوا على دعوته، وأمعنوا في إيذائه، وأصروا على عبادة الأصنام.
ومهمة الأنبياء عادة هي تبليغ الرسالة. وهناك فرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة وهو أن التبليغ معناه: التعريف بأنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه. وأما النصيحة: فهو الترغيب في الطاعة، والتحذير من المعصية، بالاعتماد على وسائل الترغيب والترهيب.
وذكرت الآيات الغاية التي من أجلها يبعث الله الرسول، فقال تعالى:
لِيُنْذِرَكُمْ وما لأجله ينذر، وقال: وَلِتَتَّقُوا وما لأجله يتقون، وقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إذ طاعة الرسول سبيل لاستدرار الرحمة الإلهية. فالمقصود من البعثة: الإنذار، والمقصود من الإنذار: التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى: الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي عبد الجبار المعتزلي: هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم: التقوى، والفوز بالرحمة.
والنبي أو الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم، فهو بشر من جنس البشر الذين يدعوهم إلى الله. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطباع. لذا تكرر في قصة كل نبي: رَجُلٍ مِنْكُمْ رَسُولًا مِنْهُمْ إلخ.
وكانت عاقبة قوم نوح المكذبين الجاحدين المشركين إغراقهم بالطوفان العظيم.(8/257)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
قصة هود عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
الإعراب:
أَخاهُمْ عطف على: نُوحاً، وهُوداً عطف بيان له.
آلاءَ اللَّهِ نعماؤه، واحدها: إليّ، وألىّ، وإليّ. وهي بمنزلة آناء الليل وهي ساعاته.
وآلاءَ: مفعول به منصوب.(8/258)
وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على: كَذَّبُوا. وعادٍ: من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي.
البلاغة:
قَطَعْنا دابِرَ كناية عن استئصالهم وإهلاكهم جميعا.
المفردات اللغوية:
وَإِلى عادٍ وأرسلنا إلى عاد الأولى أَخاهُمْ أي واحدا من جنسهم أو منهم، كقولك:
يا أخا العرب للواحد من إخوة الجنس، وإنما جعل واحدا منهم لأنهم أفهم عن رجل منهم، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهي أخوة في النسب لا في الدين.
قالَ لم يقل: فقال كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال: يا قوم اعبدوا الله. وكذلك: قالَ الْمَلَأُ أي أشراف القوم. ووصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به سرا مثل مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، فأريدت التفرقة بالوصف.
سَفاهَةٍ خفة حلم وسخافة عقل ناصِحٌ أَمِينٌ أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أتهم، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم، لا أكذب فيه.
خُلَفاءَ أي خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض، قد استخلفكم فيها بعدهم فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي زاد أجسامكم في الطول والقوة والبدانة قيل: كان طويلهم مائة ذراع وقصيرهم ستين. آلاءَ اللَّهِ نعمه في استخلافكم وبسطة أجسادكم، وما سواهما من عطاياه، وواحد الآلاء: أليّ تُفْلِحُونَ تفوزون. وَنَذَرَ نترك بِما تَعِدُنا به من العذاب قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ حق عليكم ووجب أو قد نزل عليكم. رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ سخط وانتقام أَتُجادِلُونَنِي المجادلة: المماراة والمخاصمة فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أصناما تعبدونها. أي في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الألوهية فيها معدوم محال وجوده.
سُلْطانٍ حجة وبرهان فَانْتَظِرُوا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ذلكم بتكذيبكم لي، فأرسلت عليهم الريح العقيم.
فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين وَقَطَعْنا دابِرَ الدابر: الآخر، أي(8/259)
أهلكناهم جميعا بعذاب الاستئصال، أو استأصلناهم. فمعنى قطع دابر القوم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم.
المناسبة وتاريخ القصة:
قبيلة عاد قوم هود من أقدم الأمم وجودا وآثارا في الأرض، وهم على ما يظهر أقدم من إبراهيم، لذا ناسب ذكرها بعد قصة نوح مع قومه، بدليل قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فأصبح الناس على علم بواقعة قوم نوح العظيمة وهي الطوفان العظيم، لذا كان قول هود لقومه عاد:
أَفَلا تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
أخرج ابن إسحاق عن الكلبي قال: إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها، اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فاتخذوا صنما يقال له «صمود» وآخر يقال له: «الهتار» ، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها «الخلود» ، وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا ذلك وكذبوه وقالوا:
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] ؟ كما جاء في تفسير المنار.
وكانت منازلهم أي مساكنهم باليمن بالأحقاف: وهي جبال الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله تعالى.
فعاد: قبيلة عربية، كانت باليمين بالأحقاف شمال حضرموت، وكانوا قد تبسطوا في الدنيا ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها: صداء وصمود والهتار. وهم عاد الأولى، وأما عاد الثانية فهم سكان اليمن من قحطان وسبأ. ولم تذكر عاد فيما سوى القرآن الكريم من الكتب المقدسة.
فبعث الله إليهم هودا نبيا، وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن(8/260)
نوح. وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا، فكذبوه، وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء، طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرم، مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر.
فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم: قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان (قينتان كانتا لمعاوية) فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له، أهمّه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحيي أن يكلمهم، خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، فقال معاوية:
ألا يا قيل، ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد امسوا ما يبينون الكلاما
فلما غنّتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون «1» من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم، واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه.
فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا، لا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم.
__________
(1) غوّث الرجل تغويثا: قال: وا غوثاه.(8/261)
فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء، فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم، فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا «1» .
وذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات، في سورة الأعراف في الآية 65، وفي سورة هود في الآيات: 50، 53، 58، 60، 89، وفي سورة الشعراء في الآية 124.
وظل هود عليه السلام ينذر قومه ويحذرهم بأس الله، ويذكرهم بقوم نوح وبنعم الله تعالى عليهم: طول القامة وقوة البدن، والإقامة في أرض كثيرة الخير من الزروع والماشية، ويدعوهم إلى نبذ عبادة الأصنام، ثم توحيد الله تعالى، والتوبة والاستغفار من الشرك في العبادة.
ولكن أغلب القوم كذبوه، ووصفوه بالسفاهة، لتركه ما ورثوه عن الآباء من عبادة الأصنام، وإفراد الله تعالى بالعبادة.
ثم اشتطوا فاتهموه بالجنون والخبال والعته، وأن آلهتهم مستة بسوء، فتبرأ من تلك الآلهة، وتحداهم وسخر من تأثيرها المزعوم، وأعلن أن الله وحده هو المؤثر الآخذ بنواصي كل ما على الأرض من دابة، وأنذرهم أنه إن لم يستمعوا لنصيحته، فإن الله تعالى سيبيدهم ويستخلف قوما غيرهم، وسيحل بهم عذاب قريب: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ.
وعتا قوم هود وتجبروا وعصوا هودا وكذبوه وجحدوا بآيات الله التي أيده الله بها لتصديقه في أنه رسول من ربه. ومع ذلك ظل هود عليه السلام يحذرهم
__________
(1) الكشاف: 1/ 554 وما بعدها.(8/262)
ويذكرهم بأن نجاتهم بالإيمان بدعوته والعمل بنصائحه، فزادهم ذلك عتوا إلى أن دمرهم الله بالريح العقيم، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
ونجىّ الله هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، وظل هود بعد هلاك عاد ساكنا بلاد حضرموت، إلى أن مات، ودفن في شرقي بلادهم، على نحو مرحلتين من مدينة «تريم» قرب وادي برهوت. روى ابن جرير عن علي كرم الله وجهه أنه مدفون في كثيب أحمر وعند رأسه سمرة (سدر) في حضرموت.
التفسير والبيان:
وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا، ليس أخا في الدين، وإنما كان واحدا من تلك القبيلة أو من جنسهم جنس بني آدم، لا من جنس الملائكة، وذلك ليفهموا كلامه ويأنسوا بمنطقه وأفعاله، ولتكون أخلاقه دليلا معروفا على سلوكه، فيكونوا أقرب إلى تصديقه.
قال هود: يا قوم، اعبدوا الله وحده، ولا تجعلوا معه إلها آخر. أفلا تتقون ربكم، وتبتعدون عما أنتم عليه من الشرك والمعصية؟
فقال الملأ أي الجمهور والسادة والقادة منهم: إنا لنراك في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، للإشارة إلى تمكنه فيها. ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح لأن منهم من كان قد آمن وكتم إسلامه مثل مرثد بن سعد.
وإنا لنظنك في كلامك وادعائك أنك رسول من رب العالمين أنك أحد الكاذبين الذين يكذبون على الله في ادعائهم الرسالة من الله.
قال لهم غاضا عن اتهامهم بأدب حسن وخلق عظيم: ليس بي سفاهة أي ضلالة وحماقة، ولكني بحق رسول من رب العالمين، أرسلني إليكم لتبليغكم(8/263)
ما أرسلت به من التكاليف الإلهية، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين فيما أبلغكم إياه، فلا أكذب على الله. وهذه هي صفات الرسل: التبليغ والنصح والأمانة.
ولا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم. فقوله: أَوَعَجِبْتُمْ معطوف على محذوف تقديره:
أكذبتم وعجبتم من إنزال وحيه بتذكيركم وعظتكم على لسان رجل منكم، لينذركم عقابه ويحذركم من بأسه؟! واذكروا فضل الله عليكم ونعمته، إذ جعلكم ورثة نوح، ومنحكم طولا في القامة وقوة في الجسد تفوق أمثالكم من أبناء جنسكم.
واذكروا آلاء الله، أي نعمه ومننه عليكم، واشكروه عليها بإخلاص العبادة وترك الشرك به لتفوزوا بجنان الخلد والنعيم الأبدي.
فردوا عليه متمردين بقولهم: أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده، ونفرده بالتعظيم، ونترك ما كان عليه آباؤنا من اتخاذ الأصنام شركاء معه؟ أي أنهم أنكروا عليه دعوته، واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حبا لما نشؤوا عليه، وإلفا لما يتدين به آباؤهم.
وازدادوا طغيانا وعنادا وإنكارا على هود عليه السلام، بل اشتطوا في الحماقة والتحدي فطلبوا إنزال العذاب عليهم على ترك الإيمان به، قائلين: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي استعجل إنزال العذاب علينا إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك.
فأجابهم هود عليه السّلام: إنه قد وجب عليكم وحقّ بمقالتكم هذه من ربّكم عذاب وسخط وطرد من رحمته، أو قد نزل عليكم، جاعلا المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تلقي(8/264)
الناس على الأرض كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر 54/ 20] أي أصول نخل قلع من جذره.
أتحاجونني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، وما أنزل الله من حجّة ولا برهان أو دليل على عبادتها؟! ثم هددهم وأوعدهم بقوله: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي انتظروا نزول العذاب الشديد من الله الذي طلبتموه بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إني معكم أحد المنتظرين لنزوله بكم.
وقد نزل بهم العذاب ونجّى الله هودا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة من الله، واستأصل الكافرين، وقطع دابر الذين جحدوا بآيات الله لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالله تعالى، وكذبوا بآيات الله، فهاتان صفتان استوجبتا التّعذيب، وهما: التّكذيب بآيات الله، والكفر أو عدم الإيمان.
وكان العذاب كما في آيات أخرى بالأعاصير الهوجاء والرّيح العاتية: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذّاريات 51/ 41- 42] ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 6- 8] ، فلما تمرّدوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرّجل منهم، فترفعه في الهواء، ثمّ ترميه على رأسه، فتخلع رأسه ممن بين جثّته تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف 46/ 25] .
ومظاهر عتوّهم: عبادة الأوثان، وظلم الناس، والاغترار بالقوّة: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت 41/ 15] ، وبناء الأبنية الضخمة في كلّ مكان عبثا بغير نفع، فعاتبهم هود(8/265)
وكلمهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ... [الشعراء 26/ 128- 131] ، قالُوا: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ: إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود 11/ 53- 54] أي بجنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
في قصة هو مع قومه عبر وعظات أهمها ما يأتي:
1- ضرورة التّحلّي بالصبر بسبب معاناة الأنبياء الشديدة في دعوة أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ورفض الإشراك به معه إلها آخر. فقد دعا هود قومه إلى عبادة الله وحده، وذكّرهم بنعم الله وأفضاله عليهم من التّمكين في الأرض وزيادة القوة البدنية وطول القامة، قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا.
2- خيبة الآمال بالتّفوق حين استمر عناد القوم (قوم عاد) وتمرّدهم وإنكارهم دعوة نبيّهم، فقد حملهم غرورهم بقوتهم الجسدية والمادية في البناء والمصانع على الاستهانة بتهديد النّبي ووعيده، فاستعجلوا إنزال العذاب عليهم.
3- النّبي يكون عادة من جنس قومه، فهو بشر مثلهم، وهو أيضا واحد من القبيلة، لكنه يكون من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا، وأكرمهم معشرا، وأرفعهم خلقا وأدبا. وهذا كلّه كان منطبقا على هود عليه السّلام، بدليل إجابته لقومه الذين اتّهموه بالسّفاهة إجابة صادرة عن الحكمة، والتّرفّع عمّا قالوا ووصفوه بالسّفاهة والضّلالة. وهذا منهج أصحاب السّمو والرّفعة، يقابلون السّفهاء بالحلم، ويغضون عن قول السّوء بالصّفح والعفو والمغفرة.(8/266)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
4- إنّ نتيجة التّمرّد والعتو والطّغيان هي الانهيار والدّمار، وقد دمّر الله عادا بسبب تكذيبهم بآيات الله، وكفرهم وعدم إيمانهم، فعصف بهم بالرّيح العاتية.
5- نجّى الله هودا وجماعة الإيمان لاستحقاقهم الرّحمة بسبب إيمانهم، وأنزل على عاد عذاب الاستئصال الذي هو الرّيح، معجزة لهود عليه السّلام.
قصة صالح عليه السّلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)(8/267)
الإعراب:
آيَةً حال، عاملها معنى الإشارة، وكانوا سألوه أن يخرجها من صخرة عينوها بُيُوتاً حال مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النّحت. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بإعادة العامل الجارّ، كقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ [الزّخرف 43/ 33] : فقوله: لِبُيُوتِهِمْ بدل من قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ وهذا يدلّ على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه.
أما الضمير مِنْهُمْ فإن رجع إلى قَوْمِهِ فهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وإن رجع إلى لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فهو بدل بعض من كلّ. وعلى الأوّل يكون المعنى: أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، وعلى الثاني لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، ويدلّ على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.
البلاغة:
هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ إضافة تشريف وتكريم.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ التّنكير للتّقليل والتّحقير، أي لا تمسّوها بأدنى سوء.
مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ثَمُودَ قبيلة عربية كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى قرب تبوك، سمّوا باسم جدّهم: ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. فإذا كانت ممنوعة من الصّرف فيراد بها القبيلة، وإذا صرفت يراد بها الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر.
أَخاهُمْ صالِحاً هو نبيّهم، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا، وأخوته لثمود كأخوة(8/268)
هود لقومه: أخوة في القبيلة أو الجنس، أي من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النّسب لا في الدّين.
بَيِّنَةٌ معجزة ظاهرة الدّلالة من الله على صدقه. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر أو ضرب.
وَاذْكُرُوا تذكّروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي في الأرض. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أسكنكم فيها أو أنزلكم فيها، والأرض: أرض الحجر بين الحجاز والشام. مِنْ سُهُولِها قُصُوراً تسكنونها في الصيف. وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء. والنّحت: نحر الشيء الصّلب.
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تذكّروا نعم الله الكثيرة. وَلا تَعْثَوْا من العثيّ والعثو: الفساد.
اسْتَكْبَرُوا تكبّروا عن الإيمان به.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها بالذّبح، وأصل العقر: الجرح، وعقر الإبل: قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل. والذي عقرها هو: «قدار بن سالف» حيث قتلها بأمرهم بالسّيف، وإنّما نسب الفعل إليهم جميعا لأن العقر كان برضاهم وأمرهم، والآمر والرّاضي بالفعل: شريك في الجريمة.
وَعَتَوْا تمرّدوا مستكبرين. الرَّجْفَةُ الزّلزلة الشديدة من الأرض أو الحركة والاضطراب، والصّيحة من السّماء. جاثِمِينَ باركين على الرّكب، أو قاعدين لا حراك بهم، والمراد: أنهم أصبحوا جثثا هامدة ميتة لا تتحرّك.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله في أوّل السّورة قصة آدم الدّالة على قدرته وتوحيده وربوبيته، وأقام الأدلّة الدّامغة على صحّة البعث بعد الموت، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وموقف أقوامهم المعاندين لهم، فذكر قصة نوح ثمّ قصة هود، ثم قصة ثمود، وكان قوم ثمود يتلون قوم عاد في الوجود والظّهور بين الأمم، كما قال تعالى على لسان صالح عليه السّلام: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ.
أضواء من التاريخ:
ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح، وهو أخو جديس بن عائز، وكذلك قبيلة طسم، كلّ هؤلاء من العرب العاربة البائدة قبل إبراهيم الخليل عليه السّلام.(8/269)
وكانت ثمود- قوم صالح- بعد عاد، ورثوا أرضهم وديارهم، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى وما حوله. ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، تعرف ب «فجّ النّاقة» . وحجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة. وقد كان يقال لعاد: عاد إرم، إلى أن هلكوا، فقالوا: ثمود إرم.
وقد مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ديارهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها القدور، فأمرهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم، حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها النّاقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال:
«إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم» .
وروى أحمد أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم»
وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه.
وكانت قبيلة ثمود مثل قوم نوح وعاد تدين بعبادة الأصنام يشركونها مع الله في العبادة، وآتاهم الله نعما كثيرة، فأرسل الله إليهم صالحا نبيّا عليه السّلام، واعظا لهم ومذكّرا لهم بنعم الله وآياته الدّالة على توحيده وأنه لا شريك له، وأنه يجب إفراده بالعبادة دون سواه.
فآمن به المستضعفون من قومه، وكفر الملأ (السّادة والأشراف والقادة) ولم يؤمنوا به، وعصوا وتكبروا وكفروا، وأنكروا نبوته: أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر 54/ 25] ، وقالوا للمستضعفين: أَتَعْلَمُونَ(8/270)
أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
[الأعراف 7/ 75] ، فأجاب المستكبرون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف 7/ 76] .
وطلب المستكبرون منه آية على صدقه، فأيّده الله بالنّاقة وقال لهم: لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء 26/ 155] ، إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 54/ 27- 28] ، فكانت تشرب ماء البئر أو النّهر الصغير في يوم، ويشربون منه في اليوم التالي، ويحلبون منها ما شاؤوا فلا ينضب حليبها.
وأمرهم ألا يمسّوها بسوء، وأن يذروها تأكل في أرض الله، وبذل صالح عليه السّلام قصارى جهده في تذكير قومه بنعم الله تعالى عليهم، ونهاهم عن أن يعثوا في الأرض مفسدين.
فتكبّروا عن الإيمان به، واستخفّوا به، وعاندوه، وعتوا عن أمر ربّهم، وعقروا النّاقة، عقرها قدار بن سالف بأمرهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقالُوا: يا صالِحُ: ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 77] ، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29] .
فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود 11/ 65] ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 7/ 79] ، ثم نزل عليهم العذاب عذاب الرّجفة (الواقعة الشديدة من صوت الرّعد، المصحوبة بقطعة من نار تحرق ما أتت عليه) أو عذاب الصيحة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف 7/ 78] ، وقال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر 54/ 30- 31] ، وعبّر تعالى عنها أيضا بالصاعقة، وتارة بالطاغية. وكلّ ذلك صحيح لأن الصاعقة تكون(8/271)
مصحوبة بصوت شديد، وقد تصحب برجفة أشبه بالزّلزال، وقد تكون في مكان ويطغى تأثيرها إلى مكان آخر.
ونجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من العذاب، فذهبوا إلى الرّملة بنواحي فلسطين لأنها بلاد خصبة. وكان عددهم كما ذكر الألوسي مائة وعشرين، وأما الهالكون فكانوا أهل خمسة آلاف بيت: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود 11/ 68] .
وذكر اسم صالح في القرآن تسع مرّات، في سورة الأعراف في الآيات:
(73، 75، 77) ، وفي سورة هود في الآيات: (61، 62، 66، 89) ، وفي سورة الشعراء في الآية (42) . وصالح كما ذكر البغوي: هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود.
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ليس أخا في الدين، وإنما من القبيلة أو من جنسهم البشري لا من الملائكة.
فقال صالح ثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم من إله تعبدونه غيره، وهكذا جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] .
قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاتبة. فأخذ عليهم العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنّه، فلما أعطوه على(8/272)
ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، والله على كل شيء قدير.
فآمن عندئذ رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعر بن جلهس.
وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبون، فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم «1» ، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 54/ 28] وقال أيضا: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء 26/ 155] قال ابن عباس: كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.
قال لهم: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي أنها دليل قاطع على صدق نبوتي، وأضاف الناقة إلى الله للتشريف والتكريم وتعظيم شأنها لأنها جاءت من عنده مكونة من غير أم ولا أب، بل من صخرة عظيمة.
ثم أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ما شاءت، وألا يتعرضوا لها بسوء في نفسها ولا في أكلها، فإنكم إن فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم.
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها وعبادته تعالى فقال:
وَاذْكُرُوا ... أي تذكروا نعم الله وأفضاله وإحسانه عليكم، إذ جعلكم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران وقوة البأس، وأورثكم أرضهم وديارهم، وأسكنكم منازلهم، تتخذون من سهولها قصورا عالية، بما ألهمكم من حذق الصناعة
__________
(1) تفسير الكشاف: 1/ 555- 556، تفسير ابن كثير: 2/ 228 [.....](8/273)
والاستفادة من التراب بصنع اللبن والآجر ومن سهولة الأرض، وتنحتون من الجبال أحجارا تبنون بها بيوتا محصنة، يسكنونها في الشتاء لقوتها، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون في السهول بقية الفصول للزراعة.
فتذكروا هذه النعم الكثيرة العظيمة، واشكروا الله عليها بتوحيده وإفراده بالعبادة، وإياكم أن تفسدوا في الأرض، بأي نوع من أنواع الفساد.
فقال الملأ أي الأشراف والسادة والزعماء للفقراء المستضعفين الذين هم أسرع الناس عادة إلى إجابة دعوة الرسل، وهم المؤمنون منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ وهو سؤال يراد به التهكم والسخرية والاستهزاء بهم. فأجابهم هؤلاء: نحن نعلم يقينا أنه رسول من عند ربه بلا ريب ولا شك، وإنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مؤمنون مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله. سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمرا معلوما لا شك فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون. وقوله: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا، كما بينا لأن المستضعفين هم المؤمنون، وهو بدل البعض من الكل، وهو الراجح.
فأجاب الكفرة الذين استكبروا عن الإيمان برسالة صالح: إنا بالذي صدقتم وآمنتم به من نبوة صالح جاحدون منكرون.
وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به صالح كافرون لأن ذلك يتضمن شهادتهم على أنفسهم بإثبات رسالته، ثم بإنكارها وجحودها عنادا. وقال الزمخشري:
وضعوا: آمَنْتُمْ بِهِ موضع: أرسل به ردّا لما جعله المؤمنون معلوما وجعلوه مسلّما.
ولما اشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتل الناقة، ليستأثروا بالماء كل يوم، فاتفقوا على قتلها، وعقروا الناقة أي نحروها، ونسب(8/274)
الفعل إليهم جميعا مع أن قاتلها واحد، كما جاء في سورة القمر فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [29] لرضاهم جميعا بفعله، وكما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس 91/ 14- 15]
وجاء في صحيح البخاري مرفوعا: «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة» .
وعتوا عن أمر ربهم أي تمردوا عن اتباع رسالة صالح وأعرضوا عن امتثال أمر ربهم، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام، من قوله:
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ... أو شأن ربهم وهو دينه. وقالوا: يا صالح، ائتنا بما وعدتنا به من العذاب والانتقام، إن كنت رسولا، وتدعي الصدق فيما تبلغ به عن الله، وهذه سمة الحمقى والسفهاء والأغرار.
روى الإمام أحمد والحاكم عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها. وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أخمدهم الله بها من تحت أديم السماء، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» .
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وفي سورة هود: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وفي سورة فصلت: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وفي سورة الذاريات: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ والمراد بالجميع واحد: وهو الصيحة الشديدة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها. وسببها اصطكاك الأجرام السماوية.
فأصبحوا في دارهم أي في بلادهم أو في مساكنهم جثثا هامدة موتى لا يتحركون.(8/275)
فتولى عنهم صالح عليه السلام، والظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولّي مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، حزنا عليهم.
وقال: يا قوم، لقد بذلت فيكم منتهى وسعي وجهدي في إبلاغكم النصيحة لكم، ولكنكم لا تحبون الناصحين، فوجبت عليكم كلمة العذاب. وهذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت.
وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار، وروي غير ذلك.
ونداء صالح عليه السلام لقومه بعد الموت
كنداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعض قتلى قريش ببدر، بعد دفنهم في القليب (البئر غير المطوية أو غير المبنية) : «يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!» .
قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري- فيما أخرجه البخاري وغيره- قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أقوام قد جيّفوا؟ - أي أجساد لا أرواح لها أو فيها وقد أنتنوا- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون.(8/276)
فقه الحياة أو الأحكام:
ثمود «1» مثل عاد من القبائل العربية العاربة، بعث الله إليهم صالحا نبيا، فهم قوم صالح عليه السلام، وكان صالح من أوسطهم نسبا، وأفضلهم حسبا، فدعاهم إلى الله تعالى حتى شاب، فلم يتبعه إلا قليل مستضعفون. وقال المستكبرون: نحن كافرون بما جاء به صالح.
قال الرازي: وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى «2» .
واستدل بقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تنبون القصور بكل موضع، وقوله: وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها. وبقوله: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32]
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن زيد بن جدعان مرسلا: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه» .
ومن آثار النعمة: البناء الحسن، والثياب الحسنة.
وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والخطيب عن جابر وهو ضعيف: «إذا أراد الله بعبد شرا، خضر
__________
(1) ثمود: لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة كما ذكر سابقا، وقال أبو حاتم: لم ينصرف لأنه اسم أعجمي، قال النحاس: وهذا غلط لأنه مشتق من الثّمد: وهو الماء القليل.
(2) تفسير الرازي: 14/ 165(8/277)
له في الطين واللّبن حتى يبنى»
وفي خبر آخر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود: «من بنى فوق ما يكفيه، كلّف يوم القيامة أن يحمله على عنقه»
وأخرج الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما أنفق المؤمن من نفقة، فإن خلفها على الله عز وجل، إلا ما كان في بنيان أو معصية» .
ودل قوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ على أن الكفار منعم عليهم.
وفي قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا..
دلالة على أن السادة والزعماء هم الذين تكبروا عن الإيمان، شأنهم في ذلك أمثالهم مع كل نبي ومصلح يتمردون ويستعلون عليه. وفيه دلالة أيضا على أن المستضعفين هم الذين آمنوا برسالة صالح عليه السلام، وهو الشأن الغالب أيضا مع كل نبي، يبادر الضعفاء والفقراء إلى الإصغاء لكلمة الحق والهدى والإيمان، فيكونون أهل الجنة، وأولئك المتكبرون هم أهل النار والعذاب في الدنيا.
وأما قول صالح: وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ...
فيحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم، ويحتمل أنه قاله بعد موتهم،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم لقتلى بدر: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يقدرون على الجواب» .
قال القرطبي: والأول أظهر، يدل عليه: وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي لم تقبلوا نصحي. وذكر ابن كثير وغيره:
أن صالحا قال لهم ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا.
وقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والفاء للتعقيب: يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام، لكن ليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى: فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] .
ولا تناقض بين تعبير الرجفة هنا، والطاغية والصيحة والصاعقة، كما ذكرنا(8/278)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
في آيات أخرى، لأن الرجفة هي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها. والطاغية: اسم لكل ما تجاوز حده، والهاء للمبالغة. وأما الصيحة: فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة: فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] .
وفي هذه القصة معجزات هي: أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة من الصخرة، وشاهدوا أن الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شربا لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني، ثم إن القوم لما نحروها، وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب، اقتضاهم العدول عن إصرارهم على الكفر والتوبة منه. روي أنهم احمروا في اليوم الأول، ثم اصفروا في اليوم الثاني، ثم اسودوا في اليوم الثالث.
وأما الناقة فكانت تسرح في الأودية، ترد من فج (طريق) وتصدر (تعود) من غيره، ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت على ما ذكر خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها.
قصة لوط عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)(8/279)
الإعراب:
وَلُوطاً منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكروا لوطا، أو أرسلنا لوطا. إِذْ قالَ بدل مما سبق. قال النحويون: إنما صرف لوط ونوح لخفته، فإنه مركب من ثلاثة أحرف، وهو ساكن الوسط.
أإِنَّكُمْ الهمزة الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة: «إن» .
شَهْوَةً منصوب على المصدر، أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام إنكار وتوبيخ.
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ هذا تعريض بما يوهم الذم، قال ابن عباس: عابوهم بما يمدح به.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً لوط: هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، ولد في «أور الكلدانيين» في الطرف الشرقي من جنوب العراق، وكانت تسمى أرض بابل. هاجر بعد موت والده مع عمه إبراهيم إلى ما بين النهرين إلى جزيرة قورا، حيث توجد مملكة آشور، ثم ذهب معه إلى الأرض الشام، حيث أسكنه إبراهيم شرقي الأردن، وعاش في المكان المسمى بعمق السديم قرب البحر الميت (أو بحر لوط) وهي قرى خمس، سكن لوط في إحداها المسماة بسدوم، ثم بعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله عز وجل، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر وما يرتكبونه من الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، حتى صنع ذلك أهل سدوم. لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يقال: أتى المرأة: غشيها. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحلال إلى الحرام. أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وأتباعه. يَتَطَهَّرُونَ من أدبار الرجال. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.(8/280)
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة: قصة لوط مع قومه: أهل سدوم، ذكرت بعد قصة نوح، وهود، وصالح عليهم السلام، لبيان ما حلّ بهم من العذاب والنكال حينما أعرضوا عن نصح الأنبياء، وعتوا عن أوامر الله.
أضواء من التاريخ:
لوط: هو لوط بن هاران- أخي إبراهيم بن تارح، آمن بإبراهيم واهتدى بهديه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت 29/ 26] وتبع إبراهيم في رحلاته، فكان معه فيما بين النهرين، ثم بمصر، ثم ببلاد الشام، حيث سكن في سدوم في شرقي الأردن.
وذكرت قصة لوط في عدة سور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا.
وكان أهل سدوم يعملون الخبائث دون حياء ولا عفة، وأمام الناس، ويقطعون الطريق على التجار، ويأخذون بضائعهم، كما قال تعالى على لسان لوط: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت 29/ 29] .
وقد وعظهم لوط عليه السلام ونصحهم ونهاهم وخوفهم بأس الله تعالى، فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالموعظة هددوه تارة بالرجم وتارة بالإخراج، إلى أن جاء لوط الملائكة، بعد أن مرّوا بإبراهيم وأخبروه أنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط، وهم أهل سدوم وعامورة، فخاف أن يمس لوط بأذى، فأخبروه بأنه ناج هو ومن آمن معه، وأخبروه بأن العذاب بالقوم أمر حتم:
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود 11/ 76] .(8/281)
جاء هؤلاء الملائكة إلى لوط بهيئة غلمان مرد حسان الوجوه، فجاء جماعة من سدوم إلى لوط، طالبين ضيوفه، ليفعلوا فيهم الفاحشة، فحاول لوط جاهدا في ردهم، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته بطريق العرض غير المؤكد وبالزواج المشروع، اعتمادا على استحيائهم منه، ليحمي ضيوفه. فلم يرضوا. ثم قال لوط للملائكة الذين لم يعلم أنهم ملائكة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود 11/ 80] أي لجاهدتهم بكم وعاقبتهم بما يستحقون، وحينئذ أعلموه بحقيقة أمرهم، وأنهم جاؤوا للتنكيل بأولئك القوم.
ولما حاول أهل القرية أخذ هؤلاء المردان بالقوة، وهجموا على بيت لوط، طمس الله أعينهم، فلم يبصروا، ولم يهتدوا إلى مكان الاقتحام. ثم أخرج الملائكة لوطا وابنتيه وزوجه من القرية، وأمروهم ألا يلتفت منهم أحد، وأن يحضروا حيث يؤمرون، فصدعوا بالأمر إلا امرأته فإنها التفتت إلى القرية لترى ما يحل بها، وكانت متعلقة بهم، وكانت كافرة، فحل بها من العذاب ما حل بهم، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وقلبت ديار القوم، وكانوا ألفا أو أكثر «1» .
قال تعالى: قالُوا: يا لُوطُ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ... [هود 11/ 81- 82] .
التفسير والبيان:
واذكر لوطا حين قال لقومه موبخا لهم: أتفعلون الفعلة الفاحشة التي ما فعلها أحد قبلكم في أي زمان، بل هي مبتدعة منكم، وعليكم وزر كل من
__________
(1) قصص الأنبياء للأستاد عبد الوهاب النجار: 113، ط الرابعة.(8/282)
يفعلها. وهذا يدل على أنها أمر مناقض للفطرة. وقوله: ما سَبَقَكُمْ بِها الباء للتعدية. وقوله مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض.
إنكم تأتون الرجال في أدبارهم وتدعون الزواج بالنساء في أقبالهن، أي إنكم عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن، إلى إتيان الرجال، وهذا شذوذ وإسراف منكم وجهل لأنه وضع الشيء في غير محله، ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [الحجر 15/ 71] . فأرشدهم إلى جنس النساء، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن.
وقوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان لقوله: تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ.
وفي هذا تقريع لهم وتوبيخ شديد، وقوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ إشارة إلى أنهم تجاوزوا النساء، وهن محل قضاء الشهوة عند ذوي الفطر السليمة.
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي إنكم لا تأتون الفاحشة ثم تندمون على فعلها، بل إنكم قوم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في حال قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد، ونحوه قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء 26/ 166] أي في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة.
ووصفهم بصفة أخرى في سورة النمل: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [55] .
وفي هذا دليل على إسرافهم في اللذات، وتجاوزهم حدود العقل والفطرة، وجهالتهم عواقب الأمور إذ أنهم لا يقدرون ضرر ذلك على الصحة، وما يحدثه من مرض ثبت في العصر الحديث أنه مميت.
وما كان جوابهم عن هذا الإنكار والنصح شيئا مقنعا، أو رجوعا عن الخطأ والضلال وإنكار الفاحشة وتعظيم أمرها، وإنما هموا بإخراج لوط ونفيه ومن معه(8/283)
من المؤمنين من قريتهم تضجرا منهم وبما يسمعون من وعظهم ونصحهم وقولهم، فهم لم يجيبوه بما يناسب كلامه، ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته بالأمر بإخراجه. وقوله: أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وأتباعه.
وقالوا لبعضهم: إن هؤلاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتكم في فعلكم وعن الفواحش وعن أدبار الرجال والنساء. وهذا صادر منهم على سبيل السخرية بهم والتهكم، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد.
فقوله: يَتَطَهَّرُونَ أي الإتيان في هذا المأتى.
وكانت نتيجة الأمر أن الله تعالى أنجى لوطا وأهل بيته الذين آمنوا معه، إلا امرأته، فإنها لم تؤمن، فكانت من جماعة الهالكين الباقين مع قومها في العذاب لأنها كانت على دين قومها تمالئهم عليه، وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم، وهذا كقوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات 51/ 35- 36] أي لم يكن آمن به أحد من قومه سوى أهل بيته فقط.
وأمطر عليهم مطرا كثيرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رموا بها، وقد فسرتها آية أخرى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود 11/ 82- 83] وآية: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر 15/ 74] ومعنى قوله:
مسومة أي معلمة ببياض في حمرة، والسّجيل: طين طبخ بالنار كالفخّار.
وربما تكون تلك الحجارة محمولة بإعصار من الريح العاتية، أو من النيازك وهي الحجارة المنفصلة من بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها.
فانظر يا محمد وكل معتبر بهذا القصص للانزجار، كيف كان عاقبة المجترئ(8/284)
على معاصي الله عزّ وجلّ، ويكذب رسله، لتعلم عقاب الأمة على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن تحريم اللواط لأسباب كثيرة:
1- الضرر بالمفعول به، فإنه يحدث مرضا ثبت أنه مميت وهو المسمى «الإيدز» أي فقد المناعة لأنه تعالى أودع في الرحم جاذبية شديدة لامتصاص المني، وليس في عضو المفعول به قوة جاذبية للمني، فيتسمم الدم ويحدث الضرر.
2- إفساد خلق اللائط وإسرافه في الشهوة، إذ لا يقدر آنيا المخاطر.
3- إلحاق العار والعيب بكل من الفاعل والمفعول به، واستحكام العداوة بينهما.
4- إفساد النساء بالإعراض عنهن إلى الرجال.
5- إقلال النسل، لما في الفاحشة من رغبة عن الزواج، والرغبة عن الزوجات في غير محل الإنجاب. أما الإتيان في محل الحرث فيحقق الإنجاب، شاء الرجل أم أبى.
لهذا كان عذاب القوم هو الاستئصال في الدنيا، ثم إن عذاب الآخرة أعظم وأدوم من ذلك.
أما مذاهب العلماء المسلمين في عقاب اللواط فهي ما يأتي:
1- قال أبو حنيفة: يعزر اللوطي فقط، سواء كان محصنا أو غيره إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنى.(8/285)
2- وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : إن اللواط يوجب الحد لأن الله سبحانه غلّظ عقوبة فاعله في كتابه المجيد، فيجب فيه حد الزنى، لوجود معنى الزنى فيه.
وحد اللائط عند المالكية، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: هو الرجم بكل حال، سواء أحصن (تزوج) أو لم يحصن، أي سواء أكان ثيبا أم بكرا
لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم-: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» .
وحد اللائط عند الشافعية هو حد الزنى، فإن كان اللائط محصنا (متزوجا) وجب عليه الرجم، وإن كان غير محصن، وجب عليه الجلد والتغريب،
لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان»
ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر (غير المتزوج) والثيّب (المتزوج) قياسا على حد الزنى، بجامع أن كلا منهما إيلاج محرم في فرج محرم «1» .
أما إتيان البهيمة: فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء، فلم يحتج إلى زاجر بحد، بل يعزر. وفي سنن النسائي وأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس على الذي يأتي بهيمة حد» «2» .
وأما حديث أبي داود والدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه»
فلم يثبت،
__________
(1) كتابي موسوعة الفقه الإسلامي «الفقه الإسلامي وأدلته» : 6/ 66
(2) المرجع والمكان السابق.(8/286)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
بدليل قول ابن عباس: ما أراه قال ذلك، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها بعد ذلك العمل «1» .
قصة شعيب عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
الإعراب:
بَعْدَ إِصْلاحِها على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها.
تُوعِدُونَ محل الجملة وما عطف عليها النصب على الحال، أي ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله وباغيها عوجا. وضمير مَنْ آمَنَ بِهِ يرجع إلى كل صراط، وتقديره:
توعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سَبِيلِ اللَّهِ موضع الضمير: زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.
__________
(1) قال ابن العربي في أحكام القرآن: 2/ 777: هذا الحديث متروك بالإجماع، فلا يلتفت إليه.(8/287)
المفردات اللغوية:
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان في شرقي الأردن، من طريق الحجاز، وهم من سلالة مدين بن إبراهيم، وكانوا يكفرون بالله، وعبدوا الملائكة من دونه، وكانوا يبخسون الناس في الكيل والوزن. وكما تطلق مدين على القبيلة، تطلق- كما ذكر ابن كثير- على المدينة المعروفة قرب معان، بدليل قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص 28/ 23] وهم أصحاب الأيكة، كما ذكر ابن كثير.
أَخاهُمْ شُعَيْباً أي ليس أخا في الدين، وإنما هو من قبيلتهم أو من جنسهم البشري، لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النسب لا في الدين، وشعيب: هو ابن ميكيل بن يشجر، واسمه بالسريانية «يثرون» بعثه الله إلى أهل مدين.
بَيِّنَةٌ حجة ظاهرة أو معجزة. مِنْ رَبِّكُمْ على صدقي. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم حقهم. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ شامل لإفساد نظام المجتمع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق، بارتكاب الفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. بَعْدَ إِصْلاحِها إصلاح الأرض: هو إصلاح أهلها وما فيها بغرس العقيدة الصحيحة، والأعمال الصالحة، وإعمارها بما يرقي الحالة المعيشية.
بِكُلِّ صِراطٍ طريق. تُوعِدُونَ تخوفون الناس بأخذ ثيابهم وأموالهم أو أخذ المكس منهم. وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تصرفون عن دين الله من آمن به بتوعدكم إياه بالقتل.
وَتَبْغُونَها عِوَجاً تطلبون الطريق معوجة. فَكَثَّرَكُمْ أي بارك في نسلكم. عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي من كان قبلكم بتكذيب رسلهم، كان آخر أمرهم الهلاك.
أضواء من التاريخ:
هذه هي القصة الخامسة من قصص الأنبياء بعد نوح وهود وثمود ولوط عليهم السلام، وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه شعب مدين.
أما شعيب فهو ابن ميكيل بن يشجر، وهو من أنبياء العرب، وذكر في القرآن عشر مرات: في سورة الأعراف في الآيات 85، 88، 90، 92 وفي سورة هود في الآيات 84، 87، 90، 95، وفي سورة الشعراء في الآية 177، وفي سورة العنكبوت في الآية 36. وكانت بعثته قبل زمن موسى عليه السلام لأن(8/288)
الله تعالى قال بعد ذكر قصص هؤلاء الأنبياء الخمسة: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الأعراف 7/ 103] .
وأما مدين أو مديان فهم من سلالة مدين بن إبراهيم عليه السلام، كانوا يسكنون مدينة مدين قرب معان جنوب شرقي الأردن على طريق الحجاز.
وكانوا يعبدون غير الله تعالى، ويبخسون المكيال والميزان، فنهاهم شعيب عن كل ذلك، وحذرهم بأس الله، بما أوتي من قوة البيان والبراعة في إيراد الحجة عليهم، حتى إنه يسمى «خطيب الأنبياء» وهم أصحاب الأيكة في رأي ابن كثير.
وكانوا يقعدون على الطرق يصدون الناس عن دين الله، قال ابن عباس:
كانوا يجلسون في الطريق، فيقولون لمن أتى إليهم: إن شعيبا كذاب، فلا يفتننّكم عن دينكم. ويقولون أيضا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الأعراف 7/ 90] .
وقد حاولوا إبطال دعوته، وإلحاق الأذى به، واحتقار شأنه، وتهديده:
قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود 11/ 91] . بل عابوا عليه صلاته التي تأمره بنهيهم عن عبادة غير الله، والعدل في الكيل والميزان: قالُوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود 11/ 87] .
ولما أفحمهم بدعائهم إلى الإيمان بالله وحسن المعاملة، هدده الملأ (السادة) من قومه بإخراجه ومن معه من المؤمنين من القرية إذا لم يعتنقوا دين قومهم، فعاتبهم بقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟! [الأعراف 7/ 88] .
ولما أصروا على كفرهم، واشتطوا في مجادلة شعيب وإيذائه بالقول والفعل، أهلكهم الله بالرجفة وهي الزلزال مثل قبيلة ثمود، فبادوا جميعا: فَكَذَّبُوهُ(8/289)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ
[العنكبوت 29/ 37] .
وبعد أن نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه، أرسله إلى أصحاب الأيكة:
وهي غيضة من الأشجار قرب مدين، وكانوا على منهج أهل مدين، فلما نهاهم عما هم عليه اتهموه بالكذب والسحر، ولم يصدقوا بنبوته لأنه بشر مثلهم:
قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشعراء 26/ 185- 186] .
ثم طلبوا من شعيب أن يسقط عليهم كسفا من السماء، أي قطعة منها، إن كان من الصادقين، وأمعنوا في الإعراض عن الحق، فأخذهم عذاب يوم الظّلّة:
بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت مياههم، ثم ساق إليهم غمامة، فاجتمعوا للاستظلال بها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا:
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء 26/ 189] .
التفسير والبيان:
وأرسل الله إلى مدين أخاهم شعيبا، وهي أخوة نسب لا أخوة دين، وأمرهم بتكاليف خمسة ترجع إلى أصلين: تعظيم أمر الله، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله، ويدخل فيه ترك البخس، وترك الإفساد، ويجمعهما ترك الإيذاء.
وتلك التكاليف هي:
1- الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غير الله: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء، ودعوة الرسل كلهم.
2- ادعاؤه النبوة فقال: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي قد أقام الله(8/290)
الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به، والبينة تشمل المعجزة الكونية، والبرهان العقلي، وخوارق العادات. وهذا مثل قول صالح عليه السلام، إلا أنه تعالى ذكر الآية له وهي الناقة، ولم يذكر آية شعيب، ولا بد من آية تصدقه
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
قال الزمخشري: ومن معجزات شعيب: أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنّين (ضرب من الحيات) وأيضا قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه.
وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة «1» .
وهذا على رأي المعتزلة: وهو عدم ظهور المعجزة قبل النبوة، وأما على رأي أهل السنة، فيجوز أن يظهر الله على يد من يصير نبيا ورسولا بعد ذلك أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصا للنبوة، فتكون هذه الأحوال التي ذكرها الزمخشري إرهاصات لموسى عليه السلام «2» .
3- إيفاء الكيل والميزان، فقال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وهذا مرتب على ما سبق: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ على تحريم الخيانة بالشيء القليل، والمعنى: أتموا الكيل والميزان إذا بعتم. وهذا وعظ لإحسان معاملتهم الناس، نابع من العدل الذي يجب أن تكون عليه المعاملة بين المبيع والثمن. وقد عني شعيب بعلاج هذه المفسدة أو الانحراف، لشغف أهل مدين بنقص المكيال والميزان،
__________
(1) الكشاف: 1/ 559
(2) تفسير الرازي: 14/ 173(8/291)
وأراد بالكيل هنا: آلة الكيل وهو المكيال، كما قال في سورة هود: أَوْفُوا الْمِكْيالَ.
4- منع الخيانة للناس في أموالهم وأخذها دون حق، قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له: «خطيب الأنبياء» لفصاحة عبارته وجزالة موعظته:
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، أي لا تنقصوهم شيئا في البيع خفية تدليسا، كما قال تعالى في تهديده ووعيده: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- إلى قوله- لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين 83/ 1- 6] والبخس: النقص بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقص منه.
والمراد أنه لما منع قومه من بخس (أي نقص) في الكيل والوزن في البيع، منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق، وسلب الأموال بطرق الاحتيال، ونحو ذلك من المساومات، والغش ولو في غير البيع، ويشمل أيضا هضم الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، فلا يجوز لإنسان نقص آخر حقه في علم أو خلق أو فضيلة أو أدب، وادعاء التفوق عليه حسدا وبغيا وكراهية. روي عن قوم شعيب أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم، أخذوا دراهمه الجياد، وقالوا:
هي زيوف، فيقطعونها قطعا، ثم يأخذونها منه بنقصان ظاهر، أو أعطوه بدلها زيوفا.
5- منع الإفساد، قال: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أي لا تفسدوا في الأرض بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائهم، وهو على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها.
والإصلاح عام يشمل العقيدة والسلوك والأخلاق ونظام المجتمع والحضارة والعمران وسائر وجوه التقدم الزراعي والصناعي والتجاري.(8/292)
ويلاحظ أن قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ منع عن مفاسد الدنيا، وقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ منع من مفاسد الدين، حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين.
ذلِكُمْ إشارة إلى هذه التكاليف الخمسة من عبادة الله، والتصديق بنبوتي، والوفاء بالكيل والميزان، وترك البخس والإفساد في الأرض. والمعنى:
كل ما ذكر خير لكم في الإنسانية وحسن السمعة وما تطلبونه من الربح المادي، لأن الناس أرغب في معاملتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والعدل. وخير لكم في الآخرة بالثواب والرضا الإلهي، إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبشرعه وهداه وبالآخرة، فالإيمان يقتضي الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله.
ويجوز أن يكون ذلِكُمْ إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، فإن الله لا يأمر إلا بالنافع، ولا ينهى إلا عن الضارّ.
وفي هذا دلالة واضحة على أن العلم وحده لا يكفي للإصلاح، وإنما لا بد في إصلاح الأمم والشعوب من تربية دينية، تقنع الأجيال بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وبمضار الانحراف والرذائل لأن الوازع النفسي أقوى من أي ردع أو وازع خارجي.
ثم نهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله: وَلا تَقْعُدُوا ...
أي ولا تقعدوا في مفارق الطرقات تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم، أو تخوفون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه، قال ابن كثير: والأول أظهر، لأنه قال: بِكُلِّ صِراطٍ وهو الطريق. أما المعنى الثاني فهو مستفاد من قوله: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. أي تصرفون من يريد الإيمان عن دين الله، وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة، ففي هذه الآية نهاهم(8/293)
عن ثلاثة أمور: قطع الطريق على المارّة لأخذ الأموال، والصد عن دين الله، وطلب جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة مائلة بالأكاذيب والضلالات وتشوية الحقائق والشبهات والشكوك الملقاة منكم.
والمراد من الآية أن شعيبا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاث.
ويلاحظ أن شعيبا ركّز في دعوته أولا على الإصلاح الداخلي بإيفاء المكيال والميزان وعدم الإفساد في البلد، ثم انتقل إلى الإصلاح الخارجي بإزالة الموانع والعقبات أمام نشر دعوته للذين يزورون أرضهم.
وبعد قمع الفساد وتطهير البلد من المنكرات انتقل إلى النواحي الإيجابية الملازمة لهم وهي تذكر النعم، فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ.. أي وتذكروا كثرة إنعام الله عليكم، ليحملهم على الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ومن تلك النعم أنكم كنتم مستضعفين قليلي العدد، فصرتم أعزة كثيري العدد بما بارك الله في نسلكم، واشكروا له نعمه بعبادته وحده.
روي أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت أولادا كثيرين، حتى كثر عددهم، لأن الله بارك في نسلها.
ويجوز أن يكون المعنى أنكم كنتم فقراء ضعفاء، فجعلكم موسرين أقوياء.
وتأملوا واعتبروا بمصير السابقين من الأمم الخالية والقرون الماضية والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، كيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض، واجترائهم على معاصي الله، وتكذيب رسله، فتذكروا عاقبة فسادهم وما لحقهم من الخزي والنكال.
والمقصود من تذكر نعم الله، والتأمل في عقاب المفسدين، حملهم على(8/294)
الطاعة وترك المعصية بطريق الترغيب أولا، والترهيب ثانيا.
وإن كان طائفة «1» منكم آمنوا بما أرسلت به، ولم تؤمن طائفة أخرى، أي قد اختلفتم علي فاصبروا أي فتربصوا وانتظروا حكم الله الذي يفصل بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد وتهديد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة 9/ 52] أو هو عظة للمؤمنين وتسلية لقلوبهم وحث على الصبر واحتمال ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم، وينتقم لهم منهم. والظاهر أنه خطاب للفريقين يراد منه حمل المؤمنين على الصبر على أذى الكفار، وزجر من لم يؤمن، حتى يحكم الله، فيميز الخبيث من الطيب.
وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين لأن حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف أو الظلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ماذا يفعل الأنبياء؟ إنهم لا يملكون غير الدعوة إلى الله بالكلمة الحسنة، والإقناع والإتيان بالبراهين الكونية والعقلية، ثم النهي عن الفساد والإفساد، ثم التذكير بنعم الله تعالى على البشر، ثم حملهم على الطاعة والانقياد لأوامر الله بدعوتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بتدمير الأمم والشعوب المفسدة، وانتظار الحكم الفاصل النهائي لله رب العالمين، وحكمه حق وعدل لا جور فيه.
هذا ما فعله شعيب عليه السلام وغيره من الأنبياء مع أقوامهم، دعاهم إلى أصلين: تعظيم أمر الله ويشمل الإقرار بالتوحيد وتصديق النبوة، والشفقة على خلق الله ويشمل ترك البخس وترك الإفساد وكل أنواع الإيذاء، وتلك هي التكاليف الخمسة.
__________
(1) ذكّر لفظ الفعل وهو «كان» مراعاة للمعنى، ولو راعى اللفظ قال: «كانت» .(8/295)
وكان يقال لشعيب خطيب الأنبياء، لحسن مراجعة قومه. وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان. والكفر جرم عظيم لا يتفق مع إنعام الله، والبخس وهو النقص في آلة الكيل والوزن جرم اجتماعي، يشمل تعييب السلعة، والمخادعة في القيمة، والاحتيال في زيادة الكيل والنقصان منه، وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وهو منهي عنه في الأمم جميعها على لسان الرسل عليهم السلام.
والإفساد في الأرض بعد الإصلاح جرم اجتماعي آخر في حق الإنسانية، لأن صلاح الأرض بالعقيدة والأخلاق فيه خير للجميع، وإفساد الأرض عدوان على الناس. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي، وتستحلّ فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء، فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم.
وحرم شعيب عليهم القعود على الطرقات لأخذ أموال الناس بالباطل، فقد كانوا عشّارين، ومثلهم اليوم المكّاسون (موظفوا الجمرك) الذين يأخذون من الناس مالا يلزمهم شرعا من الرسوم الجمركية بالقهر والجبر، وذلك غصب وظلم وعسف على الناس وعمل للمنكر. وهذا يشبه عمل قطاع الطرق والمحاربين.
ومنعهم شعيب من محاولة ثني الناس عن قبول دعوته بالتهديد والوعيد والإنذار بقتل من يؤمن به، وبإلقاء الشكوك والشبهات في دعوته، وافتراء الكذب عليه.
وذكّرهم بنعم الله عليهم إذ كانوا قلة فكثروا، وفقراء فاغتنوا، وضعفاء فتقووا. ولفت نظرهم إلى ضرورة الاتعاظ بأحوال من سبقهم أو جاورهم من(8/296)
الأمم والشعوب الخالية، فإنهم حين كذبوا الرسل وكفروا بالله، دمّرهم الله واستأصلهم وأبادهم.
ثم حسم شعيب عليه السلام الموقف بانتظار حكم الله والتهديد والوعيد بهذا الحكم لأن انقسام الناس بسبب دعوته إلى فريقين: فريق المؤمنين وفريق الكافرين، يتطلب قضاء الله الفاصل النهائي بين الطرفين، والله خير من يفصل، وأعدل من يقضي.
وحكم الله بين عباده نوعان: حكم يوحي به إلى رسله، كما في قوله تعالى في أول سورة المائدة:: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ، وحكم يفصل فيه بين الخلائق إما في الدنيا وإما في الآخرة، كما في قوله تعالى في آخر سورة يونس: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .
والمقصود من كل هذه الأوامر والنواهي بالترغيب أولا، والترهيب ثانيا هو حمل القوم على الإيمان والطاعة والعمل الصالح. والناس جميعا الذين يسمعون هذه القصة مطالبون بما طولب به هؤلاء، فإن العاقل يتعظ بالأمثال والنظائر والأشباه، وهو مدرك تماما أن ما جرى على النظير يجري على نظيره، فالمؤمن يخصه الله بالدرجات العالية، والكافر الشقي بأنواع العقوبات: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ [ص 38/ 28] .(8/297)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
[الجزء التاسع]
[تتمة سورة الأعراف]
بقية قصة شعيب مع قومه محاورته الملأ وعقابهم بالزلزلة
[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
الإعراب:
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا للإنكار، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا؟.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، تقديره: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا بمشيئة الله. وقوله: نعود فيها: أي نصير، ولا يريد به أن يرجع لأنه لم يكن في ملة الكفر، فخرج منها حتى يعود عِلْماً تمييز منصوب لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ اللام لام القسم.(9/5)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً الذين: في موضع رفع لأنه صفة أو بدل من الذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.... ويجوز أن يكون في موضع مبتدأ مرفوع، وخبره جملة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا واسمها محذوف أي كأنهم ويجوز أن يكون خبره جملة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا في موضع نصب على الحال.
البلاغة:
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا: تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة في التضرع.
المفردات اللغوية:
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ترجعن إلى ديننا، وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط. وعلى نحوه أجاب بقوله: أنعود فيها ولو كنا كارهين؟ والاستفهام للإنكار.
وما يكون لنا ينبغي وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل شيء، ومنه حالي وحالكم رَبَّنَا افْتَحْ احكم، والفاتح: الحاكم الْفاتِحِينَ الحاكمين. والفتاح: الحاكم، بطريق المبالغة. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال بعضهم لبعض.
الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، وأصل معنى الرجفة: الحركة والاضطراب جاثِمِينَ باركين على الركب، ميتين لم يغنوا فيها يقيموا في ديارهم.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ التأكيد بإعادة الموصول وغيره للرد عليهم في قولهم السابق: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.
فَتَوَلَّى أعرض وَنَصَحْتُ لَكُمْ فلم تؤمنوا فَكَيْفَ آسى أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ استفهام بمعنى النفي.
التفسير والبيان:
هذه تتمة قصة شعيب مع قومه تضمنت موضوعين: الأول- محاورة شعيب لأشراف قومه، وبيان عاقبة الكافرين بإنزال العذاب العام عليهم.
أما المحاورة: فقال زعماء القوم الذين تكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم(9/6)
به وما نهاهم عنه من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، وإنذارهم بالعذاب بقوله: فاصبروا، قالوا في توعدهم شعيبا ومن معه من المؤمنين: قسما لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ ومن آمن معك من بلادنا كلها، أو لترجعن إلى ملتنا وديننا الموروث عن الآباء.
وهذا تهديد منهم بأحد أمرين: إما النفي والطرد من القرية، وإما الإكراه والقهر على الرجوع في ملتهم. وهذا الخطاب مع الرسول شعيب، والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.
قال شعيب مستفهما استفهاما إنكاريا ومتعجبا: أتفعلون ذلك وتأمروننا بالعود في ملتكم، ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه من أحد الأمرين؟.
إنكم تجهلون ما نحن عليه من ثبات العقيدة في القلب، فلا ينزعها أحد، وتجهلون أن حب الوطن لا يزعزع العقيدة، ولا يجعلنا نؤثر الإقامة في بلادنا على مرضاة الله بتوحيده وعبادته واتباع أوامره.
ثم أعلن رفضه التام العودة إلى ملة الكفر قائلا: إنا إذا رجعنا إلى ملتكم واتبعنا دينكم القائم على الشرك، فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا، بعد أن نجانا الله من تلك الملة الباطلة، وهدانا إلى ملة التوحيد واتباع الصراط المستقيم.
إن هذا لأمر عجيب. وهذا تنفير من شعيب عن اتباعهم.
وقوله: إِذْ نَجَّانَا أي نجّى أصحابنا منها، من طريق التغليب بإدخال نفسه في زمرتهم، مع أن الأنبياء معصومون من الكفر.
وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ... أي ما ينبغي لنا وليس من شأننا أن نعود في ملتكم أبدا، ولن يحوّلنا أحد عما نحن فيه من الاستقامة، لاعتقادنا الجازم أننا على الحق الأبلج، وأنتم على الملة الباطلة- ملة الكفر والشرك. لكن إيمانا منا بمشيئة الله يجعلنا نفوض الأمر لله، فإن شاء الله الذي يعلم كل شيء، وله(9/7)
الحكمة البالغة في كل شيء، أن يفعل شيئا، فذلك مرجعه إلى الله لأنه المتصرف في أمورنا كلها. وهذا تأكيد لرفض العود إلى ملتهم بأبلغ التأكيد. ولا طمع لكم في مشيئة الله الذي يثبّت عباده المخلصين على الإيمان والقول الثابت في الحياة الدنيا أن يعيدنا إلى الضلال لأن الله متعال عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر، فذلك خارج عن الحكمة.
إن الله تعالى أحاط علمه بكل شيء، فهو واسع العلم، كثير الفضل، يتصرف بحكمة، ومشيئته تكون بحسب الحكمة، ولا يشاء إلا الخير للناس. ومعنى الآية: أنه عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان.
وعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا، مع القيام بما يجب علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، وتوكلنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويوفقنا لازدياد اليقين: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] ومن شروط التوكل الصحيح تنفيذ الأحكام الشرعية ومراعاة السنن المطلوبة في الحياة من اتخاذ الأسباب ثم تفويض الأمر إلى الله تعالى.
سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيعقل ناقته أم يتركها سائبة ويتوكل على الله؟ فأجابه فيما روى الترمذي: «اعقلها وتوكل» .
وهذا رفض آخر للمساومة ومحاولة إعادتهم إلى ملتهم بالدليل.
ثم دعا شعيب على قومه لما يئس منهم فقال: ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق، وانصرنا عليهم، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ مثل قوله: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الأعراف 7/ 87] أي إنك العادل الذي لا يجور أبدا، تحكم بالحق في النزاع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين.
ثم بعد أن يئس الكفار من عودة المؤمنين برسالة شعيب إلى ملتهم، لجؤوا إلى(9/8)
استخدام التهديد والوعيد، فقال أشرافهم لمن دونهم من المستضعفين المؤمنين، لتثبيطهم عن الإيمان: تالله لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول وآمنتم به إنكم لخاسرون خسارة معنوية في فعلكم بترككم ملة الآباء والأجداد العريقين إلى دين جديد يدعوكم إليه، لم تألفوه، ولم تعرفوا مصداقيته، وخاسرون خسارة مادية إذ لم تزيدوا ثروتكم بتطفيف الكيل والميزان وأخذ أموال الآخرين وتخسرون باتباع شعيب فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما، ويحملكم على الإيفاء والتسوية.
ويلاحظ أن القرآن وصف الأشراف والسادة أولا بالاستكبار عن الإيمان بالله وبرسالة شعيب عليه السلام، ثم وصفهم بالإغواء والإضلال ومحاولة تكفير المؤمنين بشعيب، ثم وصفهم بالكفر والإرهاب ثم أعقب ذلك ببيان عاقبة أمرهم وتعذيبهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... أي إنهم أبيدوا وأهلكوا بالزلزلة الشديدة، والصيحة المرعبة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالطرد والإجلاء، فأصبحوا منكبين على وجوههم ميتين. وقد عبر عن عذابهم هنا بالرجفة، وفي سورة هود بالصيحة كعذاب ثمود لأن الرجفة أي الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود 11/ 95] .
وفي سورة الشعراء بيّن سبحانه أنه أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين في النسب، والأيكة: الغيضة بين ساحل البحر ومدين، وكان عذاب مدين بالصيحة والرجفة المصاحبة لها. وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد بعد أن تجمعوا تحت ظلّة من السحاب يتفيئون بظلها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. فالظلة: هي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. والخلاصة: لقد اجتمع على قوم شعيب ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من(9/9)
أسفل منهم، فزهقت أرواحهم وجمدت أجسامهم «1» .
فمن الخاسر إذن؟ الحقيقة أن الذين كذبوا شعيبا هم الخاسرون على سبيل الحصر، وهم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم، وهو رد على قولهم السابق: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ والمراد من هذا الرد:
المبالغة في الذم والتوبيخ، وأما الإعادة فهي لتعظيم الأمر وتفخيمه وتهويل ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، لذا كرر قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً.
الحق أن الكافرين هم الذين خسروا خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة، دون المؤمنين لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله، فهم الرابحون. كما قال تعالى:
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود 11/ 94] .
وفي هذا دلالة واضحة على أن العاقبة للمتقين، والربح الحقيقي لمن يأكل الحلال، ويترفع عن الحرام، وأن الدمار والهلاك والإفلاس للكافرين الذين ينغمسون في الحرام، ويأكلون أموال الناس بالباطل.
وأما شعيب فقد أدبر عنهم وتولى عنهم بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال موبخا لهم ومقرعا: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي قد أديت إليكم ما أرسلت به، فلا آسف عليكم، وقد كفرتم بما جئتكم به، كما قال: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟! أي فكيف أحزن على قوم أنكروا وحدانية الله، وكذبوا رسوله، ولقد أعذر من أنذر. قال الكلبي:
خرج من بين أظهرهم، ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 232.(9/10)
فقه الحياة أو الأحكام:
كان من أثر دعوة شعيب خطيب الأنبياء قومه إلى عبادة الله وترك أكل أموال الناس بالباطل، أنهم واجهوه بالتخيير بين أمرين خطيرين: إما الطرد والجلاء، وإما الصيرورة إلى ملتهم، وهذا هو المقصود بقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ أي لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العود بمعنى الابتداء، تقول العرب: قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه، ولا يعني ذلك أن شعيبا كان قبل النبوة على ملتهم، فهو معصوم من الكفر، وكذلك كان خطاب شعيب من قبيل التغليب، فإنهم خاطبوه بخطاب أتباعه، وأجروا عليه أحكامهم.
والحزم يقابله الحزم والإصرار، فكان رد شعيب حاسما وقاطعا بأنه لن يفعل ما يريدون، ولن يعود أي يصير إلى ملتهم، فإنه إن فعل ذلك بعد أن تبين له الحق، فقد افترى على الله، وكذلك كان أتباعه صريحين صارمين، وجوابه جوابهم. وهذا نابع من أصل النبوة والرسالة، فإنها تتميز بصدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتهم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة.
وقد نظم شعيب نفسه مع قومه بقوله: إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي من الملة، وإن كان بريئا منها، إجراء للكلام على حكم التغليب، كما ذكروا في كلامهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا.
وتمسك الأشاعرة بقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على أنه تعالى قد يشاء الكفر لأن المعنى: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم، وكانت تلك الملة كفرا. وقال المعتزلة: لا يشاء تعالى إلا الخير والصلاح لأن هذا الاستثناء وهو: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم قضية شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء، وهذا أيضا مذكور على سبيل التبعيد، كما يقال:
لا أفعل ذلك إلا إذا ابيضّ القار (الزفت) وشاب الغراب.(9/11)
ووجه تعلق قوله تعالى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً بما قبله: أنه ربما كان في علمه تعالى حصول أمر ثالث غير الإخراج والعود إلى الملة، وهو البقاء في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم، ويجعلكم مقهورين تحت أمرنا، خاضعين تحت حكمنا.
ودل قوله تعالى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً على أنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء لأن قوله: وسع فعل ماض، فيتناول كل ماض، بل إنه يتناول علم الحاضر والمستقبل وعلم المعدوم لأن التعبير بالماضي يفيد الجزم بحصول العلم بكل الأشياء.
ودل قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا، رَبَّنَا افْتَحْ ... على أن النبي وكل مؤمن ينبغي أن يظل على صلة بالله وتفويض كامل في أموره له، فقوله:
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ ... يراد به تفويض الحكم إلى الله والدعاء له واللجوء إليه، وقوله:
وأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يراد به الثناء على الله تعالى.
واستدل الأشاعرة بقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على أنه تعالى هو الذي يخلق الإيمان في العبد.
ودلت آية لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً على أن قوم شعيب استحقوا عذاب الإهلاك أو الاستئصال بأمرين: الكفر أو الضلال، والإضلال لغيرهم أو الإغواء.
وتعذيبهم كان بالرجفة (وهي الزلزلة الشديدة المهلكة) وبالصيحة (وهي الصوت الشديد المهلك) معا التي تلازم الرجفة ولا تنفك عنها. وذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين، ونجّى الله المؤمنين، وذلك يدل على ثلاثة أمور:
أن ذلك العذاب إنما حدث بخلق فاعل مختار، وليس أثر الكواكب والطبيعة، وإلا لعم أتباع شعيب، وذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات، حتى يمكنه(9/12)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
التمييز بين المطيع والعاصي، واختصاص العذاب بقوم دون قوم من أعظم المعجزات لشعيب عليه السلام.
سنة الله في التضييق والتوسعة قبل إهلاك الأمم
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)
البلاغة:
مِنْ نَبِيٍّ فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذّب أو كذبه أهلها.
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وبِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
قَرْيَةٍ مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة، وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين يبعث الرسل إليهم، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام من نبي أي فكذبوه أَخَذْنا عاقبنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ البأساء: الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء: ما يضر الإنسان في نفسه أو معيشته كالمرض، وقيل: في كل بالعكس. لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ يتذللون فيؤمنوا. وقوله لعلهم لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى، فيحمل على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا. والتضرع: إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع.
ثُمَّ بَدَّلْنا أعطيناهم مَكانَ السَّيِّئَةِ العذاب الْحَسَنَةَ الغنى والصحة حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا، من قولهم: عفا النبات والشعر: إذا كثر وَقالُوا كفرا للنعمة قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما مسنا، وهذه عادة الدهر، وليست بعقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أخذناهم بالعذاب فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه قبله.(9/13)
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أحوال الأنبياء مع أقوامهم، وما حلّ بهم من العذاب، بيّن في هذه الآية أن جنس هذا الهلاك أو الاستئصال لم يقتصر على زمن هؤلاء الأنبياء فقط، وإنما قد فعله بغيرهم، وبيّن أيضا سنته الإلهية في الانتقام ممن كذّب الأنبياء، وهي التدرج بهم من التضييق عليهم بالبأساء (شدة الفقر) والضراء (المرض ونحوه) ثم إلى السعة والرخاء والرفاه، ثم يأتي إنزال العذاب فجأة من غير شعور بمجيئه. وفي ذلك تحذير لقريش وأمثالهم وتخويفهم، وحمل لهم على الإيمان برسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن سنته المتبعة في تعذيب الأمم والشعوب الضالة، سواء في زمن الأنبياء أو في غير زمنهم، وتلك السنة فيها إنذار وإعذار، ومقدمات توحي بضرورة تغيير الأوضاع، والانتقال من الكفر والضلال إلى الإيمان والهدى.
والمعنى: إننا إذا أرسلنا نبيا إلى قوم، فكذبوه، فلا نعاجلهم بالعذاب، وإنما نتدرج في إمهالهم وتذكيرهم بتقليب الأحوال، فنبدؤهم بالعقاب بإنزال شيء من الشدة والمكروه، بتعريضهم لسوء الحال المادية وإفقارهم، ثم بتسليط الأمراض والبلايا والأسقام عليهم، أو بالعكس، المرض أولا، ثم الفقر، لكي يتضرعوا أي يدعوا الله ويخشعوا ويبتهلوا إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
ثُمَّ بَدَّلْنا ... : ثم حولنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة وعافية، ليشكروا على ذلك فما فعلوا. فالسيئة: كل ما يسوء صاحبه، والحسنة: ما يستحسنه الطبع والعقل.(9/14)
حَتَّى عَفَوْا أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء: إذا كثر، وذلك لأن الرخاء يكون عادة سببا في كثرة النسل.
وَقالُوا: قَدْ مَسَّ ... أي ابتليناهم بالشدة والرخاء ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما أفاد هذا ولا هذا، وقالوا غير معتبرين بالأحداث: قد مسّنا من البأساء والضراء، وما بعده من الرخاء، مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان، ولم يتفهموا سنن الله في تهيئة الأسباب للسعادة والشقاء في البشر. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء،
كما ثبت في الصحيحين: «عجبا لأمر المؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له»
فالمؤمن يتنبه لما ابتلاه لله به من الضراء والسراء،
كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه» .
وتغيير الحال من سوء إلى حسن أمر ضروري للتخلص من البلاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد 13/ 11] .
أما مصير غير المعتبرين بأحداث الزمان وتقلباته فكما ذكر تعالى:
فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً.. أي فكان عاقبة أمرهم أنا أخذناهم أي عاقبناهم بالعقوبة على بغتة، أي فجأة، من غير شعور منهم بما سينزل بهم من العقاب، ليكون أكثر حسرة، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام 6/ 44]
وكما جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن عائشة: «موت الفجأة رحمة للمؤمن، وأخذة أسف للكافر» .
فما على الناس مؤمنين وكفارا إلا الاتعاظ بما حل بغيرهم، فالمؤمن بالله(9/15)
لا يغتر بالزمان، وتكون الشدائد والمصائب صقلا له، وتمحيصا لنفسه، وتربية لها، والكافر إذا مسه الشر يئس، وإذا مسه الخير بطر واستكبر وبغى في الأرض، فكانت عاقبته الدمار.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحلم والإمهال من خصائص صنع الله وسنته الدائمة في خلقه، لكي يتعظوا بالأحداث ويصححوا مسيرتهم في الحياة، ويقلعوا عما هم عليه من معاص وموبقات. والابتلاء يكون بالشر وبالخير: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء 21/ 35] والعاقل المفكر المتدبر أحوال الماضي وتقلبات المستقبل هو الذي يستفيد من دروس الحياة: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] .
ودل قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ في رأي المعتزلة: على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة. وقال أهل السنة: إن الله يدبر أهل القرى بما يكون إلى الإيمان أقرب، لقوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء، يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر.
ولكن الناس لا يعتبرون، فبالرغم من أنه تعالى أخذهم بالشدة والرخاء، فلم يزدجروا ولم يشكروا، وهذا يدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة، وأمن بعد خوف، بل رأوا أن هذه عادة الزمان في أهله، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة.
أما الحق تعالى فقد أزال عذرهم وأمهلهم، لكنهم لم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال.(9/16)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
الترغيب بالإيمان لزيادة الخير والترهيب من الكفر بالعذاب المبكّر
[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 100]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
الإعراب:
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ... بفتح الواو، تكون الهمزة للاستفهام، والواو حرف عطف.
وبإسكان الواو: تكون أو التي يراد بها أحد الشيئين، والمعنى: أو كان الأمر من أحد هذين الشيئين من إتيان العذاب ليلا أو ضحى. أَنْ لَوْ نَشاءُ أن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه، والجملة فاعل يَهْدِ. والهمزة في المواضع الأربعة في الآيات للتوبيخ، والفاء والواو الداخلة عليها للعطف.
البلاغة:
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى تكرار الجملة للإنذار، ويسمى هذا في البلاغة إطنابا.
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ هذا تكرير لقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وتكرار الإنكار للتأكيد وزيادة التقرير، ومكر الله: استعارة لاستدراج العبد والتمهيد لعقابه. قال الزمخشري في الكشاف: 2/ 563، مكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.(9/17)
المفردات اللغوية:
أَهْلَ الْقُرى الذين أرسل إليهم الرسل فكذبوا آمَنُوا بالله ورسلهم وَاتَّقَوْا الكفر والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ لسهلنا عليهم بركات من السماء بالمطر ونحوه من حرارة الشمس لتوفير الخصب في الأرض وَالْأَرْضِ بالنبات والمعادن ونحوها وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ عاقبناهم.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى المكذبون بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا وَهُمْ نائِمُونَ غافلون عنه ضُحًى نهارا، وأصل معنى الضحى: وقت ارتفاع الشمس وإضاءة الدنيا أول النهار يَلْعَبُونَ يلهون أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ استدراجه إياهم بالنعمة وأخذهم بغتة. والمكر: التدبير الخفي الذي يؤدي إلى ما لا يحتسبه الإنسان.
أَوَلَمْ يَهْدِ يتبين، يقال: هداه السبيل، وهداه له وإليه، أي دلّه عليه وبيّنه له يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالسكنى مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي بعد هلاك أهلها أَصَبْناهُمْ بالعذاب وَنَطْبَعُ نختم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الموعظة سماع تدبر.
المناسبة:
لما أبان الله تعالى في الآية السابقة أن الذين عصوا وتمردوا من أهل القرى أخذهم الله بغتة، أبان في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخير، ثم أنذرهم بالعذاب المبكّر ليلا أو نهارا، إذا كذبوا الرسل، تأكيدا لما سبق.
التفسير والبيان:
هذا إخبار عن سنة أخرى من سنن الله في عباده، وتلك السنة أنه لو آمن أهل القرى كأهل مكة وغيرهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتقوا ما نهى الله عنه وحرمه من الشرك والفساد في الأرض بارتكاب الفواحش والآثام، لأنزل عليهم الخيرات الكثيرة من السماء كالمطر، وأخرج لهم خير الأرض من نبات ومعادن وكنوز، وآتاهم من العلوم والمعارف والإلهامات الربّانية لفهم سنن الكون.(9/18)
أي فلو آمنوا ليسّر الله لهم كل خير من كل جانب من فوقهم ومن تحتهم ومن ذواتهم وأفكارهم.
وفي هذا دلالة على أن الإيمان الصحيح سبب للسعادة والرخاء.
ولكنهم كذبوا رسلهم ولم يؤمنوا ولم يتقوا، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم والشرك المفسد نظام الحياة.
وفيه دلالة على أن العقاب نتيجة لازمة لكسب المعاصي.
ثم إنه تعالى أعاد التهديد والتخويف بعذاب الاستئصال، والتحذير من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره فقال: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم، والمقصود التعجب من حالهم وغفلتهم، والمراد: أبعد ذلك أمن أهل القرى الكافرة كأهل مكة وأمثالهم نزول العذاب والنكال بهم في حال الغفلة وهو النوم ليلا.
أو هل أمنوا أن ينزل بهم العذاب في حال شغلهم وغفلتهم وهو أثناء اللعب واللهو في النهار. ويلاحظ أن انشغالهم في أعمالهم التي لا فائدة منها كأنها ألعاب أطفال.
وذلك في الحالين تخويف من نزول العذاب بهم في أوقات الغفلة: وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار لأنه يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه. والمعنى المراد: فإن أمنتم حالا لم تأمنوا الحال الآخر.
قال الرازي: قوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بأمور الدنيا، فهي لعب ولهو، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع «1» .
__________
(1) التفسير الكبير للرازي: 14/ 185.(9/19)
ثم كرر الله تعالى الاستفهام الإنكاري لزيادة التوبيخ، بعد قوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وعطف عليه بالفاء، فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم. ومكر الله: جزاؤه وأخذه العبد من حيث لا يشعر، مع استدراجه. إن كانوا أمنوا مكر الله وعقابه، فلا يأمن مكر الله إلا الذين خسروا أنفسهم، قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
ومجموع معنى الآيتين: أكان سبب أمنهم أن يأتيهم العذاب في وقت غفلتهم ليلا أو نهارا، أو كان سبب أمنهم غفلتهم عن مكر الله بهم، أي جزاؤه الذي ينزله بهم؟ إن ظنوا ذلك فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أنفسهم.
وبعد بيان حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال، أبان تعالى أن الهدف من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم، فقال: أَوَلَمْ يَهْدِ....
أي أو لم يتبين للناس، وخصوصا قريشا الذين يخلفون غيرهم في سكنى الأرض ووراثتها مع الديار، بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها: أن شأننا معهم كشأننا مع من سبقهم، فلو نشاء أصبناهم وعذبناهم بذنوبهم وأعمالهم السيئة، كما عذبنا أمثالهم من قبل، وفعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين.
فإن لم نهلكهم بالعذاب نختم على قلوبهم، فهم لا يسمعون الموعظة والتذكير سماع تدبر، ولا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون، كما قال تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] وأما المؤمنون فشأنهم الاتعاظ والاعتبار بما حدث لمن قبلهم، كما قال تعالى في آيات كثيرة موضوعها واحد،(9/20)
منها: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه 20/ 128] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ترغيبا للمؤمنين وترهيبا للكافرين. أما ترغيب المؤمنين فهو إفاضته الخيرات والبركات الإلهية من السماء بالمطر والرياح المباركة، ومن الأرض بالنبات والثمار، والمعادن والكنوز، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة، وإلهام الإنسان رشده وفكره إلى اكتشاف وسائل الراحة والرخاء.
وأما ترهيب الكافرين فهو إنذارهم بتعذيبهم عذاب استئصال ودمار، كعذاب الأمم الأخرى وأهل القرى والمدن الذين أرسل إليهم الرسل، فكذبوهم وآذوهم.
وحذرهم تعالى بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله وتأجيله العقاب، فربما يأتي العقاب في حال الغفلة ليلا أو نهارا، ومن اغتر بحلم الله وأمن مكره، أي جزاءه، فلا يأمن الجزاء إلا الخاسرون.
أولم يتبين لهم أن سنة الله واحدة في تعذيب الكافرين؟ وسنة الله لا تتغير، إنه يعذب العصاة والمتمردين بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، كما عذب الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وإن لم نهلكهم بالعقاب نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الموعظة سماع فهم وتدبر.
واستدل أهل السنة بقوله تعالى: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان، أي بعد أن علم عدم إيمان ذلك العبد. وقال الجبائي المعتزلي: المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان.(9/21)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
العبرة من قصص أهل القرى
[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 102]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
الإعراب:
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ تلك: مبتدأ، القرى: صفة، ونَقُصُّ عَلَيْكَ خبر المبتدأ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا معنى اللام تأكيد النفي، وأن الإيمان كان منافيا لحالهم في التصميم على الكفر.
بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ الباء سببية وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ الضمير للناس على الإطلاق، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد.
وَإِنْ وَجَدْنا إن مخففة من الثقيلة. قال الزمخشري: وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة مارقين. والآية اعتراض.
المفردات اللغوية:
تِلْكَ الْقُرى هي قرى الأقوام الخمسة التي وصفت سابقا، وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها نذكر لك شيئا من أخبارها كيف أهلكت.
والخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام. وقوله: مِنْ أَنْبائِها أي بعض أخبار أهلها بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بِما كَذَّبُوا كفروا به مِنْ قَبْلُ قبل مجيئهم، بل استمروا على الكفر كَذلِكَ يَطْبَعُ أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم ألا يؤمنوا.
لِأَكْثَرِهِمْ أكثر الناس مِنْ عَهْدٍ أي وفاء بعهدهم يوم أخذ الميثاق، أي أن أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى.(9/22)
والعهد: قد يكون بين طرفين كالمعاهدة، أو من طرف واحد بأن يعهد لآخر بشيء، أو يلزم به. والميثاق: العهد المؤكد.
لَفاسِقِينَ لخارجين عن الطاعة وعن كل عهد، إما فطري أو شرعي، بنقضه ونكثه والغدر بأحكامه. وَما وَجَدْنا أي ألفينا وَإِنْ وَجَدْنا علمنا.
المناسبة:
بعد أن قص الله تعالى على نبيه أخبار قرى الأقوام الخمسة (قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب) وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وإعذاره إليهم ببيان الحق بالأدلة على ألسنة رسلهم، أراد الله تسلية نبيه، وتثبيته على الصبر على دعوته، وتذكيره بالعبرة من قصص الماضين، وأن ما يلاقيه من قومه ليس جديدا، وإنما هو طريق قديم سلكه كثير من أقوام الأنبياء.
التفسير والبيان:
تلك القرى: قرى الأقوام الخمسة الذين وصفوا بما سبق نقص عليك يا محمد بعض أخبارها كيف أهلكت، مما فيه العبرة والعظة لقومك، والتسلية لك والتثبيت على دعوتك. وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق، وذكرها الله تنبيها لقريش وأمثالهم عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
ثم إن هذه القرى كانت في بلاد العرب، وكان أهل مكة يتناقلون بعض أخبارها، وهي جميعا متشابهة في تكذيب الرسل، وعذاب الاستئصال، فكانت العبرة منها واحدة، لذا فصلت عن قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به، وإنما كذب به فرعون وجماعته فعذّبوا.
وسبب عقاب تلك الأقوام هو تكذيب الرسل، فبالرغم من أنهم أقاموا لهم الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب(9/23)
تكذيبهم بالحق من قبل مجيء الرسل وأول ما ورد عليهم، أي في بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله، ومن قبل مجيء المعجزات، فظلوا على حالهم، ولم تؤثر فيهم الآيات الدالة على صدق الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل، أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم، إلى أن ماتوا مصرّين على كفرهم وعنادهم، مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات.
ومثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم ألا يؤمنوا أبدا. وبإيجاز: مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت له على دعوته، وإخباره بأن هذا العناد والتمرد من أهل مكة قد سبقهم إليه أمثالهم من الأمم الغابرة، فلا تأس ولا تحزن على كفرهم.
وما وجدنا لأكثر الأمم الماضية عهدا وفوا به، سواء عهد فطرة الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم، أو عهد شرع بالإيمان وأداء التكاليف، أو عهد عرف متعارف عليه بأداء الالتزامات واحترام العقود التي يبرمونها فيما بينهم. ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. وفي التعبير بالأكثر إشارة إلى أن بعضهم قد آمن، ونفذ كل عهد مع الله أو مع الناس. وهذا من دقة القرآن ومصداقيته.
ومخالفة عهد الفطرة السليمة القائم على الإقرار بتوحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وعبادة غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع، كان كلاهما بتأثير البيئة،
جاء في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم»
وفي(9/24)
الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» الحديث.
وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن مخالفة الفطرة السليمة وعن الشرك، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] .
فقه الحياة أو الأحكام:
الكفر عناد وتصميم بالرغم من معرفة الحق والاقتناع بالبرهان. ولقد كان إيراد قصص القرى التي أهلكها الله، وهي قرى نوح وعاد ولوط وهود وشعيب للعبرة والاتعاظ، وما كان أهل تلك القرى ليؤمنوا الآن حقيقة بسبب تكذيبهم السابق قبل مجيء الرسل، وظلوا إلى آخر أعمارهم مستمرين على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم، إلى أن ماتوا مصرّين على كفرهم وعنادهم.
والختم والطبع على قلوب الكفار القدامى والمعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن يأتي بعدهم إنما هو بسبب كفرهم وإصرارهم على موقفهم.
وهناك حقيقة أخبرت عنها الآية وهي أن أكثر الناس لا أمانة لهم ولا وفاء لديهم لعهد الله وميثاقه، وعهود الناس ووعودهم، وأن أكثرهم في الواقع فاسقون مارقون خارجون عن حدود الطاعة المطلوبة منهم نحو ربهم.(9/25)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
قصة موسى عليه السلام مع فرعون والملأ من قومه
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
الإعراب:
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ أن في موضع جر بعلى بمعنى الباء، وتقديره: حقيق بأن لا أقول. وقرئ بتشديد الياء في: على، فيكون: ألا أقول: في موضع رفع بالابتداء، وما قبله(9/26)
خبره وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف على محذوف، سد مسده حرف الإيجاب: نعم، كأنه قال:
نعم إن لكم لأجرا، وإنكم لمن المقربين.
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ: إذا للمفاجاة: مبتدأ، وثعبان: خبره.
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ: أن فيهما: في موضع نصب بفعل مقدر، على تقدير: إما أن تفعل الإلقاء، وإما أن نفعل الإلقاء.
البلاغة:
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فيه تأكيد الجملة بمؤكدين: إن واللام، لإزالة الشك من نفوس السحرة، ويسمى هذا الخبر إنكاريا.
المفردات اللغوية:
مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل المذكورين مُوسى هو كليم الله موسى بن عمران أعظم أنبياء بني إسرائيل فِرْعَوْنَ لقب كل ملك لمصر في العهد القديم، وقيل: كان اسمه منپتاح بن رمسيس، سنة 1225 ق. م من الأسرة 19، مثل لقب كسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم بِآياتِنا الآيات هنا: المعجزات الدالة على صدق النبي مثل العصا واليد. وَمَلَائِهِ أشراف قومه، والمراد هنا قومه فَظَلَمُوا بِها كفروا وجحدوا بها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ بالكفر وتلك العاقبة هي إهلاكهم حَقِيقٌ جدير أو خليق به عَلى أَنْ لا أَقُولَ أي بأن لا أقول ثُعْبانٌ مُبِينٌ حية عظيمة.
وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه بَيْضاءُ ذات شعاع لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من الجلد الهامد لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. وفي سورة الشعراء: كان هذا من قول فرعون نفسه، فكأنهم قالوه معه على سبيل التشاور. تَأْمُرُونَ تشيرون علي أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما ولا تفصل في شأنهما الآن الْمَدائِنِ أي مدن المملكة حاشِرِينَ جامعين السحرة منها. ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر بفنون السحر، يفضل موسى في علم السحر، فجمعوا. تُلْقِيَ عصاك نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما معنا.
قالَ: أَلْقُوا أمر بالإذن بتقديم إلقائهم توصلا به إلى إظهار الحق فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ صرفوها عن حقيقة إدراكها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ خوفوهم حيث تخيلوها حيات تسعى.(9/27)
المناسبة
هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وفيها من الإيضاح والبيان ما لم يذكر في غيرها من القصص لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات الأنبياء السابقين، وجهل قوم فرعون الذين أرسل إليهم كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام، كما أن موسى أرسل أيضا لغير قومه، أما الأنبياء السابقون فإنهم أرسلوا لأقوامهم.
أضواء من التاريخ:
ذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة، وله قصص كثيرة مثيرة وعجيبة منذ بداية ولادته حينما كان جماعة فرعون يقتلون أولاد بني إسرائيل ويبقون نساءهم أحياء، فألقته أمه في النيل في صندوق، ثم رده الله إليها لإرضاعه، فهذه قصته مع أمه وأخته في سورتي القصص وطه، ثم قصة خروجه من مصر إلى أرض مدين وهو شاب، بسبب قتله مصريا إغاثة لعبراني، وقصته مذكورة في سورة القصص (15- 21) وفي سورة طه (الآية 40) ثم سقايته الماشية لابنتي شعيب (القصص 22- 25) ثم مصاهرته لشعيب عليه السلام (القصص 26- 38، وطه 41) ثم رعيه ماشية شعيب مهرا لابنته عشر سنين بالوادي المقدس: طوى.
ثم بعثته عليه السلام بينما ذهب لإتيان أهله بنار للاستدفاء وذلك في سورة الإسراء (2- 3) وسورة طه (9- 6 و17- 36، و42- 47) وسورة القصص (45- 46 و29- 35) وسورة الفرقان (35- 36) وسورة الشعراء (12- 16) وسورة النمل (7- 12) وسورة السجدة (23- 25) وسورة النازعات (15- 19) .
ثم عودته إلى مصر مع أخيه هارون ودعوته فرعون إلى الإيمان برسالته،(9/28)
وذلك في سورة الأعراف (104- 105) وسورة الشعراء (17، 22) .
ثم محاورته فرعون في ربوبية الله وإظهاره الآيات البينات الدالة على صدق نبوته في سورة طه (55) وسورة الشعراء (24- 28) وموقف فرعون الطاغية بتجاهل ألوهية الله وادعائه الألوهية، وأمره ببناء صرح يصعد به إلى السماء في سورة القصص (38) وسورة غافر (36- 37) التي قال الله فيها: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً....
وإظهاره معجزتي العصا واليد أمام فرعون في سورة الأعراف (106- 126) وسورة يونس (75- 89) وسورة طه (57- 76) وسورة الشعراء (29- 52) .
ووصف الله رد فعل فرعون وقومه وتماديهم في الضلال وإصرارهم على الكفر في سورة الأعراف (107- 129) وغافر (23- 27) وائتمار آل فرعون بموسى لقتله ودفاع مؤمن عنه في سورة غافر (28- 35، و38- 46) واستخفاف فرعون بموسى في سورة الزخرف (51- 54) والنازعات (22- 26) .
وكانت آيات العذاب التسع لفرعون وقومه لما كذبوا موسى هي العقاب الفاصل، وتلك الآيات: الجدب (السنون) ، ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
أما العصا واليد وفلق البحر وانبجاس الماء لبني إسرائيل فكانت معجزات لموسى عليه السلام.
أما الآيات التسع فهي مذكورة في سورة الأعراف (130- 135) وسورة الإسراء (101- 102) وسورة طه (59) وسورة النمل (13- 14) وسورة القصص (36- 37) وسورة الزخرف (46- 50) وسورة القمر (41- 42) وسورة النازعات (20- 21) .(9/29)