وقال أبو حنيفة وزفر والنخعي: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا، واحتجوا بحديث أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته «1» ضعف، فقيل: يا رسول الله، احجر عليه: فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقال: لا تبع، فقال: لا أصبر، فقال له: «فإذا بايعت فقل: لا خلابة «2» ، ولك الخيار ثلاثا»
فلم يحجر عليه مع أنه كان يغبن، فثبت أن الحجر لا يجوز.
ورد القرطبي بقوله: وهذا لا حجة لهم فيه لأنه مخصوص بذلك، فغيره بخلافه.
وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، والأظهر أنه إن كان مفسدا لدينه، مصلحا لماله، حجر عليه أيضا.
4- إن دفع المال للمحجور عليهم يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليهم، بنص الآية، وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي، فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة، قال أبو حنيفة: لكونه جدا.
ورد ابن العربي «3» بقوله: هذا ضعيف لأنه إذا كان جدا، ولم يكن ذا جدّ «4» ، فماذا ينفعه جدّ النسب، وجدّ البخت فائت؟! واختلف العلماء في دفع المال إلى المحجور عليه، هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع
__________
(1) أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه.
(2) أي لا خديعة.
(3) أحكام القرآن: 1/ 322
(4) الجد هنا الحظ والبخت.(4/257)
إليه ماله. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.
وإذا سلّم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عند المالكية، وعند الشافعية في قول. وقال أبو حنيفة:
لا يعود لأنه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليل الرأي الأول قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ وقوله عز وجل:
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [البقرة 2/ 282] .
ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وشراء وبيع، وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله، ويؤدي عنه أروش (تعويضات) الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق.
5- نهى الله تعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، فلا يجوز لهم الإسراف والتبذير: وهو الإفراط ومجاوزة الحد.
6- أمر الله تعالى الغني بالإمساك عن أخذ شيء من مال اليتيم، وأباح للوصي أن يأكل من مال موليه بالمعروف. والأكل بالمعروف كما قال الحسن البصري: أن يأكل ما يسدّ جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. بدليل إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله.
7- أمر الله تعالى بالإشهاد عند دفع المال تنبيها على التحصين وزوالا للتّهم.
وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء فإن القول قول الوصي لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض عملا بظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله.(4/258)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
8- كما أن على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه وتثميره، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه، فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه.
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن في حجري يتيما أأكل من ماله؟ قال: «نعم غير متأثل «1» مالا، ولا واق مالك بماله» قال: يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: «ما كنت ضاربا منه ولدك» «2» .
9- كفى الله حاسبا لأعمال الناس ومجازيا بها، وفي هذا وعيد لكل جاحد حق.
حقوق الورثة في التّركة وحقوق المحتاجين والأيتام والقرابة غير الوارثين
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
__________
(1) متأثل: جامع.
(2) قال ابن العربي (أحكام القرآن: 1/ 327) : وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا، أي منصرفا.(4/259)
الإعراب:
نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب بفعل مقدر دلّ عليه الكلام لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ معناه: جعل الله لهم نصيبا مفروضا. ويصح كونه حالا، وهو أولى من التقدير. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الهاء في مِنْهُ تعود إلى القسمة، وإن كانت القسمة مؤنثة لأنها بمعنى المقسوم، فلهذا عاد إليها الضمير بالتذكير، حملا على المعنى، وهذا كثير في كلام العرب.
البلاغة:
يوجد طباق بين قوله: قَلَّ وكَثُرَ.
ويوجد إطناب في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ.. وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
المفردات اللغوية:
لِلرِّجالِ الأولاد والأقرباء. نَصِيبٌ حظ. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المتوفون. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي من المال. نَصِيباً مَفْرُوضاً أي جعله الله نصيبا مقطوعا بتسليمه إليهم. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ للميراث. أُولُوا الْقُرْبى ذوو القرابة غير الوارثين. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ شيئا قبل القسمة. وَقُولُوا لَهُمْ أيها الأولياء للورثة الصغار. قَوْلًا مَعْرُوفاً جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه، وأنه للصغار. وهذا الإعطاء ندب، وعن ابن عبّاس: واجب.
وَلْيَخْشَ ليخف على اليتامى، الخشية: الخوف مع تعظيم المخوف حال الأمن.
لَوْ تَرَكُوا أي قاربوا أن يتركوا. مِنْ خَلْفِهِمْ أي بعد موتهم. ذُرِّيَّةً ضِعافاً أولادا صغارا. خافُوا عَلَيْهِمْ الضياع. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر اليتامى وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم. وَلْيَقُولُوا لمن حضرته الوفاة. سَدِيداً صوابا محكما، والمراد موافقا للدين «1» . ظُلْماً بغير حق. وَسَيَصْلَوْنَ سيحرقون، من أصلاه: أراد إحراقه، ومنه صلى اللحم: شواه، وصلى يده: أدفأها، واصطلى: استدفأ. سَعِيراً نارا مستعرة مشتعلة.
__________
(1) والسّداد (بالكسر) : ما يسد به الشيء كالثغر (موضع الخوف من العدو) والقارورة. ومن قولهم: فيها سداد من عوز: أي فيها الكفاية.(4/260)
سبب النزول:
نزول الآية (7) :
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ: أخرج أبو الشيخ (أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني المولود سنة 274 هـ) وابن حبّان في كتاب الفرائض عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن الثابت، وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه: خالد وعرفطة «1» ، وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته أم كحلة «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك، فقال: ما أدري ما أقول، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عبّاس سببا آخر لنزول الآية مفاده أن الآية أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء أن يذكره بالوصية لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع، ولا يأمره بالتصدق من ماله، أو بالإعطاء منه في سبيل الله.
نزول الآية (10) :
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ: قال مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، وهو يتيم صغير، فأكله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا،
__________
(1) في بعض الكتب كالقرطبي: عرفجة وسويد.
(2) في تفسير ابن كثير: أم كحّة، وفي تفسير القرطبي: أم كجّة.(4/261)
أكّد تحريم أكلها، وأوضح أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء والأولاد الصغار، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة. قال سعيد بن جبير وقتادة:
كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنزل الله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...
التفسير والبيان:
إذا كان لليتامى مال مما تركه الوالدان والأقربون، فهم فيه سواء، لا فرق بين الذكور والإناث، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، فالجميع فيه سواء في حكم الله تعالى مهما قلّ المال، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية.
ثم أكد تعالى هذا الحق للجميع بقوله: نَصِيباً مَفْرُوضاً للدلالة على أنه حق معين محتوم مقطوع به، ليس لأحد إنقاصه.
ثم عالج القرآن الكريم ناحية نفسية وهي كراهية حضور الأقارب مجلس قسمة التركة، فقرر أنه إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوي القربى للوارثين واليتامى والمساكين، فأعطوهم شيئا من المال ولو قليلا، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يهدئ النفوس، وينتزع الحقد والسخيمة، ويستأصل الحسد من النفس.
والمراد بالقسمة: قسمة التركة بين الورثة، وأولو القربى: من لا يرثون لكونهم محجوبين أو لكونهم من ذوي الأرحام، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ وتسلم المال. والضمير في قوله: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يرجع إلى ما ترك الوالدان والأقربون، أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها، لا باعتبار(4/262)
لفظها مثل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يوسف 12/ 76] أي السقاية.
وذهب جمهور المفسرين منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن الأمر بالإعطاء للوجوب، عملا بظاهر الأمر، وقد هجره الناس، كما هجروا الاستئذان عند دخول البيوت، والمخاطب بهذا الوارث الكبير وولي الصغير.
وقال الحسن البصري والنّخعي: الأمر منصب على الأعيان المنقولة، وأما الأرضون فلا يعطون منها شيئا، وإنما يكتفى بالقول المعروف.
وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة لأنه لو كان لهؤلاء حقّ معين لبيّنه الله تعالى كما بيّن سائر الحقوق، وحيث لم يبيّن علمنا أنه غير واجب. وأيضا لو كان واجبا لتوافرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين، ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا، أنه ليس بواجب.
وقال سعيد بن المسيب والضّحاك وابن عباس في رواية عطاء عنه: الآية منسوخة بآية المواريث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. إلخ.
وعلاجا لمرض نفسي آخر وهو تحامل النفس كثيرا على اليتيم والقسوة عليه، أمر الله الأولياء والأوصياء القائمين على اليتامى بالقول السديد لهم بأن يكلموهم كأولادهم بالأدب الحسن، والمناداة لهم بكلمة: يا ابني أو يا ولدي ونحو ذلك، وليتذكروا أنهم مقاربون أن يتركوا أولادهم من بعد موتهم، ويخافوا عليهم الإهمال والضياع، وليتقوا الله في اليتامى الذين يلونهم، فيعاملونهم بمثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم.(4/263)
ويكون المقصود بالآية حث الأولياء على حفظ أموال اليتامى وإحسان القول إليهم، بتذكيرهم حال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعتبروا بها، وذلك من أقوى البواعث على العظة والاعتبار، فالإنسان كما يدين يدان، وهو مطالب بأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به.
وتكون الآية مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ في معنى الأمر للورثة، أي أعطوهم حقهم، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه، ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم.
ثمّ أكّد الله تعالى الأوامر والنواهي السابقة وقررها وذكّر بالعقاب الشديد لمن يأخذ مال اليتيم ظلما بغير حق، وهو دخول النار وإحراقهم بها، وهي نار مستعرة شديدة الإحراق، وقودها الناس والحجارة، وقانا الله منها.
وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها يقصد به إما ملء بطونهم نارا للنهاية، وإما للتأكيد والمبالغة، كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 167] ، والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] ، والقلوب لا تكون إلا في الصدور، وقوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام 6/ 38] ، والطير لا يطير إلا بجناحين، الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، كما أن فيه تبشيعا لأكل مال اليتيم في حالة الظلم.
وفي تقييد الأكل بحالة الظلم دلالة على مشروعية أخذ مال اليتيم بحق، كأجرة العمل، والقرض مثلا، وذلك لا يعدّ ظلما ولا الآكل الآخذ ظالما.
والتعبير بالأكل يقصد به جميع وجوه الانتفاع والإتلاف والاستهلاك، ولكن عبّر به لأنه أهم حالات الانتفاع.(4/264)
والتعبير بكلمة ناراً عند جمهور المفسرين على طريق المجاز المرسل، من قبيل ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإشارة في الآية إلى أكل واحد.
وظاهر الآية أن الحكم عام لكل من يأكل ما اليتيم، سواء أكان مؤمنا أم كافرا. وإذا قيل بأن الآية نزلت في أهل الشرك فخصوص السبب لا يخصص، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وورد في بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية، تحرّز الناس من مخالطة اليتامى، حتى شق ذلك على اليتامى أنفسهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة 2/ 220] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ على ما يأتي:
1- قال المالكية: في هذه الآية فوائد ثلاث:
إحداها- بيان علّة الميراث وهي القرابة.
الثانية- عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد.
الثالثة- إجمال النصيب المفروض، وذلك مبين في آية المواريث فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي «1» .
2- إثبات الحق المقرر في الميراث لكلّ من الرّجال والنّساء، إبطالا لعادة أهل الجاهلية الذين كانوا يورثون الرّجال، ويحرمون النساء والصغار، فالمراد من الرّجال في الآية: الذكور البالغون، والمقصود من الوالدين: الأب والأم بلا واسطة، ومن النساء: الإناث البالغات. ويكون معنى الآية: للذكور
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 46(4/265)
البالغين نصيب مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كإخوتهم وأخواتهم وأعمامهم وعماتهم، وللإناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن. فالإرث مشترك بين الرّجال والنّساء. وهذا القول فيه إبقاء للآية على ظاهرها، ويكون القصد من الآية إلغاء عادة الجاهلية.
والتّنصيص على النساء اعتناء بشأنهن، وتقرير لأصالتهن في استحقاق الإرث، ومبالغة في إبطال حكم الجاهلية بتخصيص الإرث في الرّجال لأنهم المحاربون الغازون.
وعمم بعض العلماء الحكم في الرّجال والنّساء، فجعل المراد من الرّجال:
الذّكور مطلقا، سواء أكانوا كبارا أم صغارا، والمراد من النساء: الإناث مطلقا، ويكون المراد التّسوية بين الذّكور والإناث في أن لكلّ منهما حقّا فيما ترك الوالدان والأقربون. وهذا ما أميل إليه.
3- تدلّ الآية للحنفيّة القائلين بتوريث ذوي الأرحام لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين، فوجب إثبات حق الإرث لهم المقرر بقوله تعالى: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
4- حق الإرث ثابت في قليل التركة وكثيرها، وهو حق مشاع لجميع الورثة، لا يختص بعضهم بشيء من الأموال كالسيف والخاتم والمصحف واللباس البدني.
ودلّ قوله تعالى أيضا: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ على إثبات حق الإرث للبنات، وأما مقدار الحق، فأبانته آيات المواريث الأخرى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء 4/ 11] .
ولما نزلت آية: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أرسل النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة ألا يفرّقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا، ولم يبيّن كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربّنا. فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ..(4/266)
إلى قوله تعالى: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فأرسل إليهما: «أن أعطيا أم كجّة الثّمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال» .
واستدلّ بعض المالكية والشافعية والحنفية بهذه الآية: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ على وجوب قسمة الشيء الصغير للقسمة كالحمام والبيت. ورأى ابن أبي ليلى وأبو ثور وابن القاسم: أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم: أن يباع ولا شفعة فيه
لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد والبخاري عن جابر: «الشّفعة في كلّ ما لا يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة»
فجعل عليه الصلاة والسّلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلّق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. وهذا الرأي هو المعقول دفعا للضرر، قال ابن المنذر: وهو أصح القولين.
وأرشدت آية: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ إلى الآتي:
1- كلّ من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون: يكرم ولا يحرم، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ «1» .
وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة، كما قال ابن عبّاس.
وروي عن ابن عبّاس: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. [النساء 4/ 11] . وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث والوصية. قال القرطبي: والرأي الأول أصح فإنها مبيّنة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.
__________
(1) الرضخ هنا: العطاء القليل.(4/267)
2- إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله، فقالت طائفة: يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل: لا يعطي، بل يقول لمن حضر القسمة: ليس لي شيء من هذا المال، إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرّفته حقّكم، فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء، فإن أوصى يصرف له ما أوصى.
3- القول المعروف مطلوب مع جميع الناس، ويتأكد طلبه مع الأقارب.
وهو القول الجميل والاعتذار اللطيف.
وأومأت آية: وَلْيَخْشَ إلى ما يأتي:
1- الآية تذكير بالمعاملة بالمثل مع أولاد الأوصياء، فهذا كما قال ابن عبّاس وعظ للأوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً.
2- القول السديد: وهو العدل والصواب من القول وهو مرغوب فيه في تربية اليتامى، فلا ينهرهم الولي ولا يستخف بهم.
ودلّت آية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ على ما يأتي:
1- تحريم أكل مال اليتامى ظلما، فقد دلّ الكتاب والسّنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها: «وأكل مال اليتيم» .
ويفهم منه جواز الأكل بحق إن كان فقيرا، فيأكل بالمعروف، وله أخذ الأجرة على عمله.
2- عقاب آكل مال اليتيم ظلما هو دخول نار جهنم.
3- هذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفّر بالذنوب. والذي(4/268)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
يعتقده أهل السنة أن بعض العصاة يحترق في نار جهنم ويموت، بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون.
والكلمة الأخيرة: إن اليتامى عاجزون ضعاف يستحقون كل عناية ورعاية لمصالحهم، وتربية لهم تعوضهم عن فقد أبيهم، لذا عني القرآن بشأنهم فأنزل الله فيهم تسع آيات متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة، قرر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته، وأكّد فيها النّهي عن أكل ماله وتضييع حقّه. كما أنه أنزل فيهم آيات أخرى متفرقة منها: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء 17/ 34] ، ومنها: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النساء 4/ 127] ، ومنها: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى 93/ 9] ، ومنها:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة 2/ 220] ،
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى» .
آيات المواريث
[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 12]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)(4/269)
الإعراب:
كُنَّ نِساءً كان واسمها وخبرها، وتقديره: إن كانت المتروكات نساء فوق اثنتين. وإنما ثبت للبنتين الثلثان بالسّنة، ودلالة النّص على أن الأختين لهما الثلثان في قوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ إذ ليس هاهنا في الآية نصّ يدلّ على ذلك.
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً خبر كان الناقصة، وتقديره: فإن كان المتروك واحدة، وقرئ بالرفع على أنه فاعل كان التامة، وهي بمعنى: حدث ووقع.
فَلِأُمِّهِ من ضمها فعلى الأصل، ومن كسرها فعلى الاتباع، كقولهم: المغيرة في المغيرة.
آباؤُكُمْ مبتدأ، خبره: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ.
نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نَفْعاً: تمييز، وفَرِيضَةً: منصوب على المصدر، وتقديره: فرض الله ذلك فريضة.(4/270)
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً كانَ هنا تامة، ورَجُلٌ: فاعل، ويُورَثُ: جملة فعلية صفة رجل، وكَلالَةً: منصوب من أربعة أوجه: إما حال من ضمير يُورَثُ، وإما تمييز، والمراد بالكلالة في هذين الوجهين: الميت، وإما صفة مصدر محذوف تقديره: يورث وراثة كلالة، والمراد بالكلالة في هذا الوجه: المال، وإما خبر كان، والمراد بالكلالة في هذا الوجه اسم الورثة. وتقديره: ذا كلالة. غَيْرَ مُضَارٍّ حال من ضمير يوصى.
وَصِيَّةٍ منصوب على المصدر. وقوله: وَلَهُ أَخٌ يعود على الرجل، وهذا في العطف بأو جائز.
البلاغة:
يوجد طباق في لفظ (الذكر) والْأُنْثَيَيْنِ، وفي آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ. ويوجد جناس اشتقاق في وَصِيَّةٍ يُوصِي، وهناك إطناب في مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ومِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ للتأكيد. وقوله: عَلِيمٌ حَلِيمٌ للمبالغة.
المفردات اللغوية:
يُوصِيكُمُ أي يأمركم الله ويفرض عليكم. والوصية: ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل، أي أمر له حَظِّ نصيب. عَلِيماً بخلقه. حَكِيماً فيما دبّره لهم. كَلالَةً مصدر وهو الإعياء، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع، وهو من لا والد له ولا ولد أي له قرابة فقط من الحواشي. عَلِيمٌ بما دبّره لخلقه من الفرائض. حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عمن خالفه.
سبب النزول: نزول الآية (11) :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ:
أخرج الأئمة الستة عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي، فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن جابر قال: جاءت امرأة(4/271)
سعد بن الربيع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإنّ عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمهما فقال:
«أعط بنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك» .
قالوا: وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: تمسك بهذا من قال: إن الآية نزلت في قصة ابنتي سعد، ولم تنزل في قصة جابر، خصوصا أن جابرا لم يكن له يومئذ ولد، قال:
والجواب أنها نزلت في الأمرين معا، ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين، وآخرها وهو قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً في قصة جابر، ويكون مراد جابر بقوله: فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية.
المناسبة:
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة حكم ميراث القرابة إجمالا في قوله:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ثم فصّل في آيات المواريث أنصباء الورثة، فبيّن حقوق الأولاد (الفروع) وحقوق الآباء والأمهات (الأصول) ، وحقوق الزوجين، وحقوق الإخوة لأم، أما الإخوة لأب فحكمهم في آخر السورة.
وكانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثا:
1- النسب: للرجال المقاتلين، وليس للنساء والصغار شيء.
2- التّبني: يعطى الولد المتبنى مثل الولد الأصلي في الميراث.(4/272)
3- الحلف والعهد: بأن يقول الرجل لآخر: «دمي دمك وهدمي هدمك «1» ، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك» .
فأقرّ الإسلام ما عدا التّبني الذي أبطله بقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الأحزاب 33/ 4] . وأما التوارث بالنّسب فأقره بقوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء 4/ 33] ، وأما التوارث بالعهد فأجازه بقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء 4/ 33] .
وزاد الإسلام في مبدأ الأمر سببين آخرين هما الهجرة والمؤاخاة، ثم نسخ العمل بهما بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال 8/ 75] . واستقر العمل على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، الزواج، الولاء، أي الإرث بسبب عتق السيد عبده أو أمته.
التفسير والبيان والأحكام:
حقوق الأولاد في الميراث:
بدأ الله تعالى بالأولاد، لأنهم أحق بالعطف والعون لضعفهم، أما الأصول فقد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى، أو لهم قدرة على الكسب. فقال: يعهد إليكم في ميراث أولادكم، بمعنى يأمركم ويفرض عليكم في شأن أولادكم من بعدكم أو في ميراثهم ما يستحقون من أموالكم، على أساس قاعدة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي إذا مات الميت، وترك ذكورا وإناثا، فللذكر ضعف الأنثى لأن الرجل مطالب بالنفقة وبالعمل والتكسب وتحمل المشاق ودفع مهر زوجته، ولا تطالب المرأة بالإنفاق على أحد، سواء أكانت بنتا أم أختا أم أمّا أم زوجة أم عمة أم خالة، وإنما بعد الكبر أو البلوغ تنفق على نفسها إن لم تكن زوجة.
__________
(1) أي إذا أهدر دمي أهدر دمك.(4/273)
فإن كانت المتروكات نساء: بنات أو أخوات فوق اثنتين فلهما الثلثان مما ترك المتوفى، وإن كانت المتروكة واحدة ليس معها ذكر يعصبها فلها النصف.
وقد وقع خلاف في ميراث البنتين إذا انفردتا عن أخ ذكر، فقال ابن عباس: حكمهما كالبنت الواحدة، لهما النصف، لظاهر الآية: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ.
وقال الجمهور: البنتان كالأختين لهما الثلثان، قياسا لهما على الأختين اللتين قال الله فيهما: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ، ولأن البنت تأخذ مع أخيها الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها، ولأن ابن مسعود قضى في بنت وبنت ابن وأخت: بالسّدس لبنت الابن والنّصف للبنت تكملة الثلثين، فجعل لبنت الابن مع البنت الثلثين، فبالأحرى يكون للبنتين الثلثان. ويجوز أن يكون معنى قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: فإن كنّ نساء اثنتين فما فوق، مثل قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال 8/ 12] أي اضربوا الأعناق فما فوقها.
والخلاصة: إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا فللذكر ضعف الأنثى. وإذا كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف، وإذا كان هناك أنثيان فأكثر، كان لهن الثلثان في رأي الجمهور، وإذا انفرد الولد الذكر يأخذ التركة، وإذا كان معه أخ فأكثر اقتسموا التركة بالمساواة.
وأولاد الابن وأولادهم مثل الأبناء، الأعلى يحجب الأدنى، فإن كان الأعلى أنثى كبنت وابن ابن، أخذت البنت النصف، والباقي لابن الابن. وإن كان ولد الولي أنثى كان للعليا النصف، وللسفلى السدس تكملة الثلثين. وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين، ولم يبق للبنت السفلى شيء إلا إذا عصبها ذكر في درجتها أو أسفل منها.(4/274)
ميراث الوالدين:
لكل واحد من أبوي الميت السدس من التركة إن كان للولد الميت ولد ذكر أو أنثى، واحد أو جماعة، والباقي للأولاد على النحو السابق، فإن لم يكن له ولد أصلا وورثه أبواه فلأمه الثلث. والسبب في تساوي الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد: هو توفير احترامهما على السواء. وأما سبب كون نصيب الوالدين أقل من نصيب الأولاد فهو إما كبرهما وإما استغناؤهما، وإما لوجود من تجب عليهما نفقتهما من أولاد أحياء. وأما الأولاد فبحاجة إلى نفقات كثيرة إما بسبب الصغر، وإما بسبب الحاجة إلى الزواج وتحمل أعباء الحياة حال الكبر.
فإن كان للميت مع وجود أبويه إخوة جماعة ذكورا أم إناثا، كان للأم السدس بدلا من الثلث، سواء أكانت الإخوة أشقاء أم لأب أم لأم.
والاثنان من الإخوة كالثلاثة فأكثر لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين قضوا بأن الأخوين والأختين يردان الأم من الثلث إلى السدس. أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه دخل على عثمان رضي الله عنهما، فقال: لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار؟
أي أن هناك إجماعا في الشرع على ذلك، ويؤيده أنه ورد في اللغة إطلاق الجمع على الاثنين، قال تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم 66/ 4] ، وقال:
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص 38/ 21] ، ثم قال: خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص 38/ 22] .
والخلاصة: إن للأم الثلث إذا لم يكن معها فرع وارث أو اثنان فصاعدا من الإخوة أو الأخوات، ولها السدس مع الفرع الوارث أو العدد من الإخوة أو(4/275)
الأخوات. وللأب السدس مع الفرع الوارث، فإن كان الفرع بنتا أخذت النصف، وأخذ الأب بالفرض والتعصيب، وللأم ثلث الباقي إذا كان مع الأبوين أحد الزوجين، وهي المسألة العمرية أو الغراء، كما في زوج وأب وأم، أو زوجة وأب وأم، ففي الأولى: للزوج النصف، وللأب الباقي تعصيبا، وللأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج وهو سهم من ستة، وفي الثانية: للزوجة الربع من 12 لعدم الفرع الوارث وللأب الباقي تعصيبا، وهو ستة، وللأم ثلث الباقي وهو ثلاثة أسهم.
تقديم الديون ثم الوصايا:
إن قسمة المواريث كلها بين الورثة مقدم عليه أولا إيفاء الديون المتعلقة بالتركة، وتنفيذ الوصايا، فالله تعالى يوصي ويأمر بقسمة المواريث على النحو الذي شرع من بعد وصية يوصى بها من الميت، ومن بعد دين تعلق بذمة الميت قبل موته.
وقدمت الوصية على الدّين مع أن الواجب تقديم الدّين أولا في الوفاء، حثّا على تنفيذها واهتماما بشأنها ومنعا من جحودها، أما الدّين فمعلوم قوّته، قدم أو لم يقدم. ثم إن أَوْ هاهنا للإباحة، ولا تقتضي الترتيب. ودليل تقديم وفاء الدّين:
ما رواه علي كرّم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة كابن جرير الطبري: إنكم تقرؤون هذه الآية: من بعد وصية يوصى بها أو دين، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدّين قبل الوصية، فليس لأحد من الورثة ولا من الموصى لهم حق في التركة إلا بعد قضاء الدّين. ولو استغرق الدّين التركة، فليس لأحد شيء.
ويقدم على الدّين والوصية والميراث نفقات تكفين الميت وتجهيزه ودفنه، تكريما لإنسانيته واحتراما لآدميته.(4/276)
وإنما يقدم الدّين على الوصية والميراث لأن ذمة الميت مرتهنة به، وأداء الدين أولى من فعل الخير الذي يتقرب به.
وتقديم الوصية على الميراث في حدود ثلث التركة لأنه القدر المأذون بالإيصاء به
في السّنة النّبوية فيما رواه الجماعة عن سعد: «الثلث والثلث كثير» .
ثم أتى النّص القرآني بجملة معترضة للتنبيه على جهل المرء بعواقب الأمور، فبيّن تعالى أن هؤلاء الذين أوصاكم الله بهم وقدر أنصباءهم، هم آباؤكم وأبناؤكم، فلا تجوروا في القسمة ولا تحرموا البعض كما كان يفعل العرب في الجاهلية إذ لا تدرون بمن هو أقرب لكم نفعا.
فرض الله ذلك فريضة محتمة، وإن الله يعلم بما يصلح خلقه، حكيم في تدبيره، يضع الأمور في موضعها الصحيح المناسب، ولا يشرع لكم إلّا ما فيه المنفعة لكم، وقسم الميراث بينكم على أساس من الحق والعدل والمصلحة، فالزموا قسمته ومنهجه، واحذروا حرمان أحد من الورثة كالنساء والضعفاء كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
ميراث الزوجين:
للزوج نصف تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد، سواء أكان منه أم من غيره، وسواء أكان ذكرا أم أنثى، واحدا أم أكثر، منها مباشرة أم من بنيها أم من بني بنيها، والباقي لأولادها، ولا يشترط الدخول بالزوجة وإنما يكفي مجرد العقد. فإن كان لها ولد فللزوج الربع، والباقي لأقاربها ذوي الفروض والعصبات، أو ذوي الأرحام- في رأي الحنفية- أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.
لكم ذلك في تركتهن من بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا.
وللزوجة ربع تركة الزوج إن لم يكن له ولد، ولها الثمن إن كان له ولد.(4/277)
فإن تعددت الزوجات اشتركن في الربع أو في الثمن من بعد الدين والوصية، كما سبق.
ميراث الكلالة:
جعل الله الورثة في هذه الآيات أقساما ثلاثة: قسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما برابطة الدم وهم الأولاد والوالدان، وقسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما بعقد الزوجية وهما الزوجان، وقسم يتصل بالميت بواسطة وهم الكلالة:
وهي ما عدا الوالد والولد. ونظرا لقوة القسم الأول قدمه تعالى في البيان، ثم أتبعه بالقسم الثاني، ثم ذكر القسم الثالث، ولأن القسمين الأوليين لا يعرض لهما السقوط بحال، بخلاف القسم الثالث، فإنه قد يعرض له السقوط بالكلية.
والراجح أن الكلالة: من عدا الوالد والولد، وهو تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرج ابن جرير عن الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه:
إني رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا، فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء، إن الكلالة: ما خلا الوالد والولد.
ويؤكد تفسيره: اشتقاق الكلمة، فهي مأخوذة من الضعف، والقرابة لا من جهة الولادة قرابة ضعيفة، وأما قرابة الولادة فهي قوية، فلا يطلق عليها كلالة. ثم إن الله تعالى حكم بتوريث الإخوة والأخوات عند عدم وجود الأب، فوجب ألا يكون الوالد من الكلالة.
وحكم إرث الكلالة بحسب النص: أنه إذا وجد أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس، فإن تعددوا فهم شركاء في الثلث، وهم فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.
والدليل على أن المراد بالأخ والأخت في آية الكلالة الإخوة لأم: قراءة(4/278)
سعد بن أبي وقاص: «وله أخ أو أخت من أم» ولأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمهما في آخر سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [4/ 176] فالمراد منهما هنا الإخوة الأشقاء أو لأب، لهم المال كله إن انفردوا، ويأخذون الباقي بعد ذوي الفروض.
ولأن الفرض هنا الثلث أو السدس وهو فرض الأم، فناسب أن يكون فرض الإخوة الذين يدلون بها هم الإخوة لأم.
والخلاصة: للإخوة لأم حالتان:
1- إذا انفرد الأخ أو الأخت لأم فلكل واحد منهما السدس.
2- إذا تعدد الإخوة لأم اشتركوا في قسمة الثلث بالتساوي، ذكرهم مثل أنثاهم لأن مطلق التشريك يدلّ عليه.
وهذه القسمة للإخوة لأم من بعد إيفاء الدّين وتنفيذ الوصية اللذين لا إضرار فيهما بالورثة والدائنين، والضرار في الدين والوصية له أحوال:
أولا- أن يقرّ الشخص بدين لأجنبي يستغرق المال كله أو بعضه، بقصد إضرار الورثة، ويظهر قصد الضرر كثيرا في الكلالة (الحواشي) ، أما في الوالدين والأولاد والأزواج فهو نادر.
ثانيا- أن يقرّ بأن الدين الذي كان له عند فلان قد استوفاه.
ثالثا- أن يوصي بأكثر من الثلث، قال ابن عبّاس: الضرار في الوصية من الكبائر.
رابعا- أن يوصي بالثلث لا بقصد القربة إلى الله، بل لإنقاص أنصباء الورثة.(4/279)
يوصيكم الله ويأمركم بذلك ويعهد إليكم به عهدا للعمل به وتنفيذه، والله عليم حليم، عليم بمصالح عباده وبمضارهم وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحق، وبمقدار المستحق، حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، فأضرّ في الوصية بالورثة أو بالدّائنين، أو حرم أحدا من النساء والأطفال حقه في الإرث.
وفي هذه الخاتمة المؤثرة بمن أصغى إليها وفهمها: إشارة إلى أنه تعالى شرع المواريث على هذا النحو، وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة، فمن الواجب الإذعان لوصايا الله وفرائضه، والتزام منهجه وحدوده، فلا ينبغي الاعتداء وهضم الحقوق، أو التعديل في أنظمة الإرث كإعطاء المرأة مثل الرجل، كما في بعض الدّول الإسلامية أخذا بأعراف فاسدة لمصادمتها للنصوص القرآنية القطعية، أو محاكاة لأنظمة الغرب وقوانين البشر، زعما بأن ذلك عدل يقتضي المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، لكن لا عدل بعد عدل الله، ولا رحمة فوق رحمة الله، فإن افتتاح الآيات بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ دليل على أنه تعالى أرحم بالناس من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، ويؤيده
الحديث الصحيح: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» .
أحكام أخرى من آيات المواريث:
1- قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ بيان لما أجمل في قوله:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ فدل على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمّهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر، حتى إنها ثلث العلم، وروي نصف العلم، وهو أول علم ينزع من الناس وينسى.
أخرج الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلموا الفرائض وعلّموه الناس، فإنه نصف العلم، وهو أول شيء ينسى، وهو أول شيء ينتزع من أمتي» .(4/280)
2- قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ قال الشافعية: قول الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ حقيقة في أولاد الصّلب، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز فإذا حلف أن لا ولد له، وله ولد ابن لم يحنث وإذا أوصى لولد فلان، لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب.
3- ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر، فلما ثبت
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يرث المسلم الكافر» «1»
علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، على ظاهر الحديث.
ودلت الأحاديث على أن موانع الإرث هي ثلاث: قتل، واختلاف دين، ورقّ، لكن القتل الخطأ لا يمنع من الميراث عند الإمام مالك، ويمنع كالقتل العمد عند باقي الأئمة.
ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم
لقوله فيما رواه أحمد: «إنا لا نورث ما تركناه صدقة» .
وقال النخعي: لا يرث الأسير، وقال أغلب أهل العلم: إنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام لأن قوله تعالى: فِي أَوْلادِكُمْ دخل فيه الأسير في أيدي الكفار.
4- أصحاب الفرائض في الآيات يأخذون حقوقهم، والباقي للعصبات،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الأئمة: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته الفرائض فلأولى رجل ذكر»
يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة: النصف والربع والثمن، والثلثان والثلث والسدس. وقوله: لأولى: أي لأقرب.
__________
(1) روى الجماعة عن أسامة هذا الحديث بلفظ «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . [.....](4/281)
فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب، وابنة الابن والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والزوج، إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه.
والربع: فرض الزوج مع الحاجب وهو الولد: وفرض الزوجة والزوجات مع عدم الحاجب.
والثمن: فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب.
والثلثان: فرض أربع: البنتان فصاعدا، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، أو لأب، إذا انفردن عمن يحجبهن عنه.
والثلث فرض صنفين الأم مع عدم الولد وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم، وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة: زوج أو زوجة وأبوان، فللأم فيها ثلث ما يبقى. وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم، وكان ثلث ما يبقى أحظى له.
والسدس فرض سبعة: الأبوان والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات الابن مع بنت الصلب، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى. ويسقط ولد الأم مع الفرع الوارث والأصل الوارث المذكر.
وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجد والجدات، فإنه مأخوذ من السنة، ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى للجدة بالسدس.
5- لا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، كما بينت.
6- لما قال تعالى: فِي أَوْلادِكُمْ يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، من الطبقة الأولى أو بعدها، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم.(4/282)
7- قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فرض الله تعالى للواحدة النصف بقوله: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت، علمنا أن للاثنتين الثلثين. وقيل:
فَوْقَ زائدة أي كن نساء اثنتين، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال 8/ 12] أي الأعناق فما فوقها. وأقوى حجة في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول.
8- إذا كان مع البنت بنت ابن فللبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين. سئل ابن مسعود عن ذلك فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما
قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت.
9- إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى، فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. فإن خرج ميتا لم يرث، وإن خرج حيا يرث ويورث. أما الخنثى وهو الذي له فرجان فأجمع العلماء على أنه يورّث من حيث يبول.
10- قوله تعالى وَلِأَبَوَيْهِ الأبوان: تثنية الأب والأبه، أو من قبيل التغليب عند العرب، كقولهم للأب والأم: أبوان، وللشمس والقمر: القمران، ولليل والنهار: الملوان، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
11- للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم بإجماع العلماء، وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأمّ الأب، وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم.
ولا يرث في رأي مالك إلا جدّتان: أم الأم وأم الأب وأمهاتهما. ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال.
12- قوله تعالى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس، وأبهم الولد، فكان الذكر والأنثى فيه سواء.(4/283)
13- قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، وهذا هو حجب النقصان، سواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم، ولا سهم لهم.
14- الدين مقدم على الوصية، بدليل
ما روى الترمذي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية.
وهذا مجمع عليه.
وتمسك الشافعي بالآية في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث، فقال: إن الرجل إذا فرّط في زكاته، وجب أخذ ذلك من رأس ماله لأنه حق من الحقوق، فيلزم أداؤه عنه بعد الموت لحقوق الآدميين، لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أديت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء، حتى لا يترك الورثة فقراء.
15- قوله تعالى: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل: في الدنيا بالدعاء والصدقة، كما جاء في الأثر:
«إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده»
وفي الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: «إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث- فذكر- أو ولد صالح يدعو له» .
وقيل: في الآخرة، فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه.
وفي الجملة: إن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب.
16- ليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم، وذلك في قوله تعالى: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا.(4/284)
17- الضرر والإضرار حرام وهو في الوصية من الكبائر، وكذا في الدين، قال تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ والإضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد إلا أن يجيزه الورثة لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز.
وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها، كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف، فذلك لا يجوز. وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة.
فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين، فقالت طائفة منهم الحنفية: يبدأ بدين الصحة. وقالت طائفة منهم الشافعي: هما سواء إذا كان لغير وارث.
قال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» .
ومشهور مذهب مالك: أن الموصي لا يعد فعله مضارّة في ثلثه لأن ذلك حقه، فله التصرف فيه كيف شاء.
18- قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يعني عليم بأهل الميراث، حليم على أهل الجهل منكم.(4/285)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
حدود الله تعالى
[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها حال من هاء يُدْخِلْهُ، والهاء تعود على مَنْ ومَنْ:
تصلح للواحد والجماعة، وإنما جمع حملا على المعنى.
خالِداً فِيها حال من هاء يُدْخِلْهُ، والهاء تعود على مَنْ. ووحّد خالِداً حملا على لفظ مَنْ وهم تارة يحملون على اللفظ وتارة على المعنى.
البلاغة:
يوجد طباق في وَمَنْ يُطِعِ.. وَمَنْ يَعْصِ.
المفردات اللغوية:
حُدُودُ اللَّهِ جمع حد، وهي هنا شرائع الله وأحكامه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها. وقد تطلق الحدود على المحارم التي منعها الله، ومنه سميت العقوبات المقدرة «حدودا» .
مُهِينٌ ذو إهانة وذل.
التفسير والبيان:
أكد سبحانه وتعالى مضمون الإنذار السابق في قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(4/286)
بهذه الآيات، منبها إلى أن تلك الأحكام المتقدمة من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث هي حدود الله أي فرائضه ومقاديره وأحكامه التي جعلها الله قانون الأسرة في شأن اليتامى والرابطة الزوجية وقسمة المواريث بين الورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه.
هي حدود الله وأحكامه فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولا يصح لمسلم أن يتخطاها ومن يطع الله باتباع ما شرعه من الدين وأنزله على رسوله الكريم، ويطع الرسول باتباع ما بلّغ به عن ربه من أحكام وآيات، فطاعة الرسول طاعة لله:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80] ، من يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ونحن نؤمن بها ونعتقد أنها أرفع من كل نعيم في الدنيا، وأن الطائعين خالدون فيها، وذلك هو الفوز العظيم: وهو الظفر والفلاح الذي لا يماثله فوز في الدنيا.
ومن يتعدّ حدود الله ويعص الله ورسوله ويتجاوز حرمات الله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة، وهم خالدون فيها، ولهم عذاب مقترن بالإهانة والإذلال لأنه ضادّ الله في حكمه ولم يرض بما قسم الله وحكم.
وفرق عظيم بين خلود أهل الجنة حيث يتمتعون بالنعيم الدائم والأنس مع بعضهم، وبين خلود أهل النار حيث يذوقون أشد العذاب مع إيحاش النفوس ونفرتها كما قال تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف 43/ 39] .
وأما عصاة المؤمنين فيعذبون في النار بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون إلى الجنة، والعصيان الموجب للعذاب هو المقترن بتعمد المعصية والإصرار عليها، كما قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة 2/ 81] . أما المذنب الذي تورط في المعصية، ثم لام نفسه(4/287)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
وتاب، فهو من الناجين كما قال تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران 3/ 135] .
فقه الحياة أو الأحكام:
من رحمة الله العظمى بعباده أن بيّن لهم الحلال والحرام وأوضح الشرائع والأحكام، ورغّب وأرهب، وحذّر وأنذر، فمن أطاع أوامر الله والرسول واجتنب المعاصي والمنكرات فجزاؤه الجنة خالدا فيها أبدا. ومن عصى الله والرسول فإن أدى عصيانه إلى الكفر فهو خالد في النار أبدا، وأما إن ظل مؤمنا وارتكب الكبائر وتجاوز أوامر الله فيستحق عذاب النار لمدة ما، دون خلود ولا مكث.
جزاء الفاحشة في مبدأ التشريع
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
الإعراب:
وَالَّذانِ مبتدأ، وخبره: فَآذُوهُما.(4/288)
البلاغة:
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ مجاز عقلي، والمراد يتوفاهن الله أو ملائكته. ويوجد جناس مغاير في: «فَإِنْ تابا.. تَوَّاباً» .
المفردات اللغوية:
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يفعلن الزنا. أَرْبَعَةً مِنْكُمْ من رجالكم المسلمين. فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بها فَأَمْسِكُوهُنَّ احبسوهن فِي الْبُيُوتِ امنعوهن من مخالطة الناس حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي يقبض أرواحهن ملك الموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا طريقا إلى الخروج منها.
المناسبة:
أبان سبحانه وتعالى سابقا حكم الرجال والنساء في الزواج والميراث، وحذر من تخطي حدود الله، ثم بيّن هنا حكم الحدود فيهن إذا ارتكبوا الفاحشة، أو الحرام أو الزنا لأن ذلك من أقبح المعاصي التي يتخطى بها حدود الله، ولئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.
التفسير والبيان:
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت وثبت زناها بالبينة العادلة وهي أربعة شهود، حبست في بيت، فلا تمكّن من الخروج منه حتى تموت.
وكانت عقوبة الرجال الشتم والتعيير باللسان والضرب بالنعال، وظل الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد للأبكار، والرجم للمحصنين والمحصنات.
عقوبة الزانيات:
معنى الآية: النساء اللاتي يأتين أي يفعلن الفاحشة: وهي الفعلة القبيحة، والمراد بها هنا الزنا، فأشهدوا على زناهن أربعة من الرجال، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت حتى يتوفاهن ملك الموت، أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به.(4/289)
وكان ذلك في مبدأ الأمر، ثم جعل الله لهن سبيلا: الجلد والرجم. أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور 24/ 2] فإن كانا محصنين رجما، فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما.
وأخرج مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولفظه: «خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
واستقر رأي العلماء على أن الشطر الأخير من حديث عبادة منسوخ، وأن السبيل الذي جعل للثيب هو الرجم دون الجلد، لصحة الخبر
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم ولم يجلد
، فاستدلوا بما صح من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على قوله في حديث عبادة.
عقوبة الزناة:
معنى الآية: الرجلان الزانيان اللذان يأتيان الفاحشة، وهذا قول مجاهد، أو الرجل والمرأة البكران اللذان يأتيان الفاحشة، وهذا قول السدي وابن زيد، فآذوهما بالقول وعيروهما ووبخوهما على فعلهما إذا لم يتوبا، فإن تابا وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما، ورجعا عن فعل الفاحشة وندما، فاتركوا إيذاءهما، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله: إن الله كان توابا على عباده، رحيما بهم. وليس المراد بالإعراض: الهجر، ولكن المتاركة احتقارا لهم بسبب المعصية المتقدمة.
والخطاب هنا لأولي الأمر الحكام، والآية اشتملت على حكم الزانيات(4/290)
الثيبات، وحكم الزاني والزانية البكرين، ولم يذكر حكم الزاني الثيب، ولعله مقيس على المرأة الثيب.
وهذا العقاب كان في مبدأ التشريع من قبيل التعزير المفوض أمره إلى الأمة في كيفيته ومقداره، ثم نسخ ذلك بآية النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [24/ 2] وبالأحاديث السابقة.
ويرى أبو مسلم الأصفهاني الذي أنكر النسخ في القرآن: أن المراد بالآية الأولى المساحقات التي تحصل بين النساء، وبالثانية: اللوطيان، وعلى هذا فلا نسخ.
الأحكام:
هذه أولى عقوبات الزناة في الإسلام، وكان هذا في ابتداء الإسلام، كما قال عبادة بن الصامت والحسن البصري ومجاهد حتى نسخ بآية النور وبالرجم للثيب في الحديث.
وهل كان السجن في البيت حدا أو توعدا بالحد؟ على قولين: أحدهما- أنه توعد بالحد. والثاني- أنه حد، قال ابن عباس والحسن البصري. وقال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بالإجماع.
أما الاستشهاد على الزنا بأربعة رجال مسلمين عدول فحكمه باق لم ينسخ.
أما كونهم من المسلمين الذكور فلقوله تعالى: مِنْكُمْ وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدّعي وسترا على العباد، وتحديد الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور 24/ 4] .(4/291)
وأما اشتراط العدالة في الشهود، فلأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة، والزنا أعظم، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل. ولا يصح كونهم من أهل الذمة، وإن كان الحكم على ذمية.
وهل يجتمع النفي مع الجلد؟
الذي عليه الجمهور أنه ينفى الزاني مع الجلد، لحديث عبادة المتقدم،
وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وحديث العسيف وفيه: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما» «1» .
وقال الحنفية: لا تغريب مع الجلد لأن النص الذي في القرآن إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ، فيلزم عليه نسخ النص القاطع بخبر الواحد.
وقد غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرّب مسلما بعد هذا. قالوا: ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد.
والجواب: قولهم: الزيادة على النص نسخ، ليس بمسلّم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل، ثم إنهم زادوا الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح، على الماء. واشترطوا الفقر في ذوي القربى (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) في إعطائهم من خمس الغنيمة في آية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال 8/ 41] .
وأما حديث عمر وقوله: «لا أغرب بعده مسلما» فيعني في الخمر، لما
أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب وغرّب
، وأن أبا بكر ضرب وغرّب، وأن عمر ضرب وغرّب» .
__________
(1) أخرجه الأئمة.(4/292)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
والتغريب للذكر الحر، ولا تغرب المرأة في رأي المالكية لأنها إذا غرّبت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت بسببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها، ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار.
حالة قبول التوبة ووقتها
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
الإعراب:
بِجَهالَةٍ حال. وَلَا الَّذِينَ مجرور بالعطف على قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ وتقديره: وليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا الذين يموتون وهم كفار.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي التوبة التي كتب على نفسه قبولها بفضله السُّوءَ العمل القبيح أو المعصية. بِجَهالَةٍ جاهلين إذا عصوا ربهم. والمراد بالجهالة: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب، وكل من عصى الله فهو جاهل. أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا.(4/293)
المناسبة:
أشار الله تعالى في الآية السابقة إلى أن توبة اللذين أتيا الفاحشة توجب ترك العقوبة والتعنيف وإزالة الإيذاء، فناسب أن يبين شروط قبول التوبة ووقتها.
التفسير والبيان:
إنما قبول التوبة والمغفرة متحقق على الله تفضلا وإحسانا للذين يتورّطون في ارتكاب المعصية، ويقعون فيها جاهلين لا يقدرون الآثار والنتائج والمخاطر، ولم يصرّوا على المعصية لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان، ثم تابوا قبل الغرغرة ولو بعد معاينة الملك يقبض الروح.
وليس المقصود بالجهالة عدم العلم بالتحريم لأن كل مسلم مطالب بتعلم ما هو حرام شرعا، وإنما المراد تغلب الطيش والسفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب.
قال مجاهد وغيره: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب. وذكر قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة «1» . وقال عبد الرّزاق: أخبر معمر عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. بدليل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر 39/ 53] فليس المراد بالجهالة: أن يعمل السوء عالما به.
ويؤكد ذلك ما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السّلام: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف 12/ 33] ، وقال تعالى لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود 11/ 46] .
__________
(1) رواه ابن جرير.(4/294)
والسّبب في تسمية العاصي جاهلا وإن عصى عن علم: أنّ العاصي لربّه لو قدر ما معه من العلم بالثواب والعقاب، لما أقدم على المعصية، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد.
هذا هو الشرط الأول: إيقاع المعصية عن جهالة، والشرط الثاني: أن يتوب الإنسان بعد الذنب بزمن قريب، والزمن القريب كما قال ابن عباس:
ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضّحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. ومن: للتبعيض، والمعنى: ثم يتوبون بعد وقت قريب. وسمي ما بين وقوع المعصية وبين حدوث الموت زمنا قريب، ففي أي جزء من هذا تاب فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد.
ثم أكّد تعالى مبدأ قبول التوبة بالشرطين المذكورين فقال:
أولئك الذين فعلوا الذنب بجهالة، وتابوا بعد زمن قريب، يتوب الله عليهم لأنهم لم يصرّوا على ما فعلوا.
وكان الله عليما بضعف الإنسان أمام الشهوة والغضب، حكيما في قبول توبة ذلك الضعيف.
وبعد بيان حال من تقبل توبتهم، ذكر تعالى حال أضدادهم الذين لا تقبل توبتهم فقال:
أوّلا- لا توبة للذين يعملون السيئات، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال:
إني تبت الآن، فلا أمل في الإصلاح حينئذ، ولا فائدة من التوبة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 85] ، وقوله حكاية عن فرعون لما أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4/295)
[يونس 10/ 90- 91] ، وقوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا! إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون 23/ 99- 100] .
ثانيا- لا توبة أيضا للذين يموتون وهم كفار. وهذا يحتمل وجهين:
الأول- أن المراد بهم الذين قرب موتهم، بمعنى أن الإيمان لا يقبل من الكافر عند حضور الموت.
الثاني- أن يكون المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر لا تقبل توبتهم.
أولئك أي الفريقان السابقان أعتدنا أي هيأنا وأعددنا لهم عذابا مؤلما موجعا، جزاء لما كسبت أيديهم من السيئات، مع إصرارهم عليها حتى الممات.
فقه الحياة أو الأحكام:
اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور 24/ 31] .
وقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قيل: هذه الآية عامّة لكلّ من عمل ذنبا.
وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم:
لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية. هذا مذهب أهل السنة.
وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها.
وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق(4/296)
ومالكهم، والمكلّف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى الله عن ذلك.
لكن الله سبحانه قد أخبر في قرآنه أنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده- وهو الصادق في وعده- بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى 42/ 25] وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] وقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه 20/ 82] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء.
والخلاصة: العقيدة أنه لا يجب على الله شيء عقلا، فأما النقل السمعي في القرآن فظاهره قبول توبة التائب.
2- التوبة تشمل كل أنواع السوء والمعاصي من كفر وغيره، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، كما تقدم، وأمور الدنيا كلها جهالة، سواء وقعت عمدا أو جهلا.
3- التوبة في أثناء زمن قريب قبل المرض والموت، وكل ما كان قبل الموت فهو قريب. قال المالكية: إنما صحت من العبد في هذا الوقت، لأن الرجاء باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل.
روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»
قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى:
«ما لم يغرغر»
: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.
4- نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين صنفان: الأول- من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف.(4/297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
والثاني- الكفار الذين يموتون على كفرهم، فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع، فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه، وهذا على تفسير السيئات بما دون الكفر، أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات، ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة.
معاملة النساء في الإسلام تحريم إرث النساء كرها والعضل عن الزواج وأخذ شيء من المهور كرها والمعاشرة بالمعروف
[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)(4/298)
الإعراب:
أَنْ تَرِثُوا فاعل مرفوع لفعل (يحل) . كَرْهاً منصوب على المصدر في موضع الحال. لا تَعْضُلُوهُنَّ لا: إما نافية، والفعل منصوب بالعطف على أَنْ تَرِثُوا وتقديره:
لا يحل لكم أن ترثوا وأن تعضلوا، وتكون لا تأكيدا للنفي غير عاملة. وإما ناهية، فيكون تَعْضُلُوهُنَّ مجزوما بلا.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع. أَنْ تَكْرَهُوا أن وصلتها في موضع رفع بعسى، لأن معناه: قربت كراهتكم لشيء.
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً منصوب على المصدر في موضع الحال من واو. تَأْخُذُونَهُ وتقديره: تأخذونه مباهتين. إِثْماً مُبِيناً حال أيضا.
البلاغة:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً استعارة تصريحية، استعار لفظ الميثاق للعقد الشرعي.
ويوجد جناس ناقص في: فَإِنْ تابا ... تَوَّاباً وفي كَرِهْتُمُوهُنَّ ... أَنْ تَكْرَهُوا.
وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً للمبالغة وتعظيم الشيء المعطى مهرا وأنه حق خالص للمرأة.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ استفهام للتوبيخ والإنكار.
المفردات اللغوية:
النِّساءَ أي ذاتهن. كَرْهاً أي مكرهين على ذلك، وهو فعل أهل الجاهلية، كانوا يرثون نساء أقربائهم، فإن شاؤوا تزوجوهن بلا صداق، وإن شاؤوا زوجوهن وأخذوا صداقهن أو عضلوهن حتى يفتدين بما ورثنه، أو يمتن، فيرثوهن، فنهوا عن ذلك.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم، بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضررا. مأخوذ من العضل: وهو التضييق والمنع والحبس ومنه الداء العضال: الشديد الذي لا نجاة منه.
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الفاحشة: الفعلة الشنيعة القبيحة أي الزنى أو النشوز، والمبينة: بكسر الياء: أي هي بينة ظاهرة واضحة، أو بفتح الياء أي بينت، فحينئذ لكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإجمال في القول والنفقة والمبيت.
والمعروف: ما تألفه الطباع السليمة ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فاصبروا.(4/299)
خَيْراً كَثِيراً لعله أن يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا.
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ بأن طلقتموها وأردتم أخذ بدلها.
قِنْطاراً مالا كثيرا صداقا بُهْتاناً ظلما وكذبا يبهت المكذوب عليه. وَإِثْماً مُبِيناً حراما بينا.
أَفْضى وصل. بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أي وصل كل منهما بالآخر بالجماع المقرر للمهر، كنى الله تعالى عن الجماع بلفظ الإفضاء لتعليم المؤمنين الأدب الرفيع، قال ابن عباس: الإفضاء في هذه الآية الجماع، ولكن الله كريم يكني. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً عهدا. غَلِيظاً شديدا.
فالميثاق الغليظ: العهد المؤكد الذي يربط الرجل بالمرأة بأقوى رباط وأحكمه، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
سبب النزول: نزول الآية (19) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ: روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري بسند حسن عن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة، جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته، فألقى ثوبه على تلك المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها وضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها.
فلما توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري، وترك(4/300)
امرأة: كبيشة بنت معن الأنصارية، فطرح ابن له من غيرها يقال له: حصن ثوبه عليها، فورث نكاحها ثم تركها، فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها لتفتدي منه بمالها، فاشتكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها: اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
التفسير والبيان:
كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحق، فقرر لها الله تعالى حقوقا في شؤون الزواج، ونهى عن الاعتداء عليها.
الحق الأول- تحريم إرث ذات النساء:
ليست المرأة متاعا يورث، فلا تورث زوجة المتوفى، ولا يحل لكم أيها المؤمنون تقليد أهل الجاهلية، فترثون المرأة كما ترثون الأموال والأمتعة، وتتصرفون فيها كما تشاؤون، وهن كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوجها، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء منعها الزواج.
الحق الثاني- عضل المرأة:
أي منعها من الزواج والتضييق عليها: ولا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن حتى تفتدي المرأة نفسها منكم بالمال من ميراث أو صداق ونحو ذلك.
أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي الشهود فيكتب ذلك عليها، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال.
والخطاب إلى الذين نهوا عن العضل إما الأزواج، وإما أولياء الميت الذين يرثون زوجته ويمنعونها من الزواج حتى تموت فيرثوها، وإما أولياء المرأة،(4/301)
وهذا غير مقبول لأن أولياءها لم يؤتوها شيئا ثم يذهبوا ببعض ما آتوه لها.
والمراد بقوله: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ألا تضاروهن في العشرة لتترك لكم ما أصدقتموها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليكم، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والإضرار.
ثم استثنى الله تعالى حالا واحدة يجوز فيها العضل أي الحبس والتضييق وهي حالة إتيان الفاحشة المبينة كالزنى والسرقة والنشوز عن الطاعة، ونحو ذلك من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا، ففي هذه الحال يجوز العضل لاسترداد ما أعطوه من صداق وغيره من المال لأن الإساءة من جانبها، واشتراط كون الفاحشة مبينة أي ظاهرة ثابتة إنما هو لمنع عضلها بمجرد سوء الظن والتّهمة بسبب غيرة الرجل الشديدة وتسرعه في الحكم على الزوجة البريئة، أو المرأة العفيفة، فيقع الرجل في الظلم حينئذ.
الحق الثالث- المعاشرة بالمعروف:
أي تطييب القول وتحسين الأفعال والهيئات والإنصاف بالنفقة والمبيت، فإن المرأة ذات عواطف ومشاعر وحساسية مرهفة، وهي تحب من الرجل مثل ما يحب هو منها، كما قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة 2/ 228]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن عساكر عن علي: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»
وكان من أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم أنّه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها يتودد إليها بذلك، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلّى الله عليه وسلّم
، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ(4/302)
حَسَنَةٌ
[الأحزاب 33/ 21]
وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه ابن عمر في خطبة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» .
وأمره تعالى بقوله: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ للرد على ما كان في الجاهلية، إذ كان الرجال يسيئون عشرة النساء، فيغلظون لهن القول، ويضاروهن.
فإن كرهتموهن لعيب في أخلاقهن أو قبح في خلقهن، أو لتقصير في عمل واجب عليهن كخدمة البيت، أو لميل منكم إلى غيرهن، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن، فربما يجعل الله فيهن خيرا كثيرا، فيجعل منهن زوجات رضيات يصلحن أحوالكم، أو يرزقكم منهن بأولاد نجباء صالحين،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها آخر»
المعنى: لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها، فلا ينبغي له ذلك، بل يعفو ويصفح ويتغاضي عما يكره لما يحب. ولو تعقل الرجل الآية والحديث وعمل بهما شعر بالسعادة وأسعد الأسرة وتجنب كل ما قد يحدث من منازعات تؤدي إلى أبغض الحلال، وتوقع في الشقاء والخسران.
الحق الرابع- حق المرأة في كامل المهر:
الظلم قديم في الإنسان وفي طبعه، والرجل الظالم يعتمد على قوته عادة وعلى كون الطلاق بيده، وكان من ظلم الرجال للنساء، وأطماعهم أن الرجل إذا أراد تطليق امرأته، استرد ما دفعه لها من مهر، متذرعا بوسائل كثيرة ومضايقات متنوعة منها الرمي بالفاحشة، فنهى الله عن ذلك في آيتي: وَإِنْ أَرَدْتُمُ(4/303)
اسْتِبْدالَ..
ووَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ.. وجعله بهتانا وإثما مبينا، ووبخهم وأنكر عليهم ذلك بعد الإفضاء إلى المرأة وأخذ الميثاق الغليظ منهم، فقال:
وإذا أردتم استبدال زوج مكان زوج كرهتموها، فاصبروا وأحسنوا المفارقة، ولا تتهموها بالفاحشة الظاهرة، ولا تأخذوا شيئا من المهر الذي دفعتموه، ولو كان المدفوع قنطارا: مالا كثيرا ثم أنكر عليهم ذلك وبخهم بقوله:
أ- أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي باهتين مبطلين ظالمين آثمين.
ومناسبة البهتان: وهو افتراء الكذب إما بإطلاق البهتان على كل باطل محيّر في بطلانه، وإما لإلصاق تهمة الفاحشة بالمرأة وهو طعن بها وظلم، وإما لرميها بتهمة باطلة لأخذ المهر.
ب- وكيف تأخذونه وتستحلون أخذ مهور النساء لا لذنب ولا لتقصير في التزام حدود الله، وقد حدث بينكم ما حدث من استمتاع أو جماع، أو إفضاء متبادل، وملابسة قد يتسبب منها إنجاب الولد، كيف تقطعون هذه الصلة، وتهتكون ستر المرأة، وتسيئون إلى سمعتها، ظلما وغضبا وطمعا في مالها، وأنتم أهل القدرة على العمل واكتساب الأموال.
ج- وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي عهدا مؤكدا والتزاما بحق الصحبة والمعاشرة بالمعروف. قال قتادة ومجاهد: هذا الميثاق: هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] .
ووصفه الله بالغلظة لقوته وعظمته. وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟
إن هذا الفعل قطع لصلة الود والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21] .(4/304)
فقه الحياة أو الأحكام:
نهى الله الأولياء عن إرث النساء كرها، والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهنّ. وإبطال لعادة الجاهلية القبيحة بإطلاق حق التصرف بزوجة الميت لأوليائه، وجعلهم أحق بامرأته، وهذا مناف للكرامة الإنسانية وإخلال باحترام المرأة وجعلها متاعا يورث، وإساءة لزوجها السابق.
كذلك نهى الله الأزواج وأولياء الميت عن عضل المرأة أي منعها من الزواج بمن تشاء، وحبسها والتضييق عليها، إلا في حال التلبس بفاحشة مبينة كالزنى والنشوز وغيرهما، بقصد أن يأخذوا بعض ما آتاه الزوج لها من مهر. أما في حال النشوز أو الزنى فيحل للرجل أخذ جميع المال الذي قدم مهرا للمرأة.
ثم أمر الله بمعاشرة المرأة بالمعروف جميع الأزواج والأولياء، وإن كان المراد في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ بأن يوفيها حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول، لا فظّا ولا غليظا، ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. والمقصود من هذا الأمر الإلهي بحسن صحبة النساء بعد الزواج توفير مناخ السعادة والهدوء والاستقرار وهناءة العيش، لكل من الزوجين، وهذا واجب ديانة على الزوج، ولا يلزمه في القضاء. وتأثير الواجب ديانة بما يذكر بمراقبة الله وخشيته والعرض عليه في الحساب أوقع في نفس المؤمن من حسبان حساب القضاء.
واستدل المالكية بقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 97(4/305)
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها.
وفي حالة طروء كراهية للزوجة لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، يندب للرجل الصبر والاحتمال، فعسى أن تتبدل الأحوال وتحسن المرأة عشرة زوجها، ويرزقه الله منها أولادا صالحين.
وبعد أن بيّن الله حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها حال الزنى أو النشوز مثلا، أتبعه بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وأنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة، فليس له أن يطلب منها مالا.
ودل قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثّل إلا بمباح، والقنطار: المال الكثير الوزن. وقد فهم الناس ذلك من الآية بدليل قصة عمر والمرأة: خطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً.
فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر! وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار «1» .
وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا
كقوله
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 99(4/306)
صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد عن ابن عباس: «من بنى لله مسجدا، ولو كمفحص قطاة لبيضها، بنى الله له بيتا في الجنة»
ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة. وقد ورد في السنة وفعل الصحابة الإقلال من المهور،
قال صلّى الله عليه وسلّم لابن أبي حدرد، وقد جاء يستعينه في مهره، فسأل عنه، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرّة «1» أو جبل» .
وأرشد صلّى الله عليه وسلّم إلى يسر المهور وعدم التعالي في أحاديث أخرى منها:
ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة: «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها» .
وأجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق لقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ.
والصحيح أن قوله تعالى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً وقوله في سورة البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [2/ 229] محكم غير منسوخ، لا يتعارض مع جواز أخذ عوض الخلع الذي تبذله المرأة بطواعية ورضا نفس، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.. [البقرة 2/ 229] .
قال أبو بكر الجصاص الرازي: ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول. فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة، فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ قد أفاد الفرقة والطلاق. وسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول «2» .
__________
(1) الحرة: أرض ذات حجارة نخرة سوداء.
(2) أحكام القرآن: 2/ 111(4/307)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
يفهم منه أن الرازي استدل بهذه الآية (20) على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر لأن الله تعالى منع الزوج أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق، ترك العمل به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة.
أما الفقهاء فاختلفوا في ذلك، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المهر يتقرر بالخلوة، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه يتقرر بالجماع، لا بالخلوة، لكن قرر المالكية المهر أيضا بإقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء.
والقائلون بأن المهر لا يتقرر بالخلوة رأوا أن هذه الآية مختصة بما بعد الجماع، بدليل قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى بعض: هو الجماع.
المحارم من النساء
[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)(4/308)
الإعراب:
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، يقدر البصريون إلا بلكن ويقدره الكوفيون بسوى.
وَساءَ سَبِيلًا سبيلا: تمييز منصوب.
البلاغة:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فيه حذف مضاف، أي حرم الله عليكم نكاح الأمهات.
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ كناية عن الجماع، مثل قولهم: بنى بها أو عليها.
تَنْكِحُوا ما نَكَحَ جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
سَلَفَ مضى فاحِشَةً قبيحا وَمَقْتاً سببا للمقت من الله وهو أشد البغض، وكانوا يسمونه نكاح المقت وَساءَ بئس سَبِيلًا طريقا إلى ذلك.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أن تنكحوهن، وشملت الجدات من جهة الأب أو الأم وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة: وهي بنت الزوجة من غيره اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي تربونهن في بيوتكم، وهي صفة موافقة للغالب من كون بنت الزوجة تعيش غالبا مع أمها في بيت زوج الأم، فلا مفهوم له، أي تحرم بنت الزوجة ولو لم تكن تتربى في بيت زوج الأم. دَخَلْتُمْ بِهِنَ
أي جامعتموهن. فَلا جُناحَ أي لا إثم ولا تضييق في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن، ومن هنا استنبط العلماء قاعدة شرعية هي: «العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات» .
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي تحرم زوجات الأبناء، بخلاف زوجات الأولاد بالتبني، فلكم نكاحهن.(4/309)
سبب النزول: نزول الآية (22) :
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ: نزلت في حصن بن أبي قيس، تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وصفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه: فاختة بنت الأسود بن عبد المطلب، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه: مليكة بنت خارجة.
قال أشعث بن سوار: توفي أبو قيس، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدّك ولدا!! ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.
وذكر النضر بن شميل في كتاب (المثالب) أن حاجب بن زرارة من العرب تمجّس وتزوج ابنته، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.
المناسبة:
بيّن الله تعالى سابقا حكم نكاح اليتامى، وعدد من يحل من النساء بشرط العدل والنفقة، وأوصى بحسن معاشرة الزوجات، وحذر من أخذ مهورهن ظلما بغير حق، ثم عقبه هنا بذكر النساء اللاتي لا يجوز التزوج بهن بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 84، تفسير القرطبي: 5/ 104(4/310)
التفسير والبيان:
اشتملت الآية على تحريم زوجة الأب، والأقارب بسبب النسب أو المصاهرة أو الرضاع.
أولا- النكاح المقت:
حرم الله تعالى في آية: وَلا تَنْكِحُوا.. امرأة الأب لأنها تشبه الأم، ولأنه فعل قبيح شنيع لا تألفه الطباع السليمة، ولأنه مقت مبغوض مكروه عند ذوي العقول الراجحة، لذا سماه العرب: «النكاح المقت» ويسمى ولد الرجل من امرأة أبيه: «مقيتا» ، ولأنه بئس الطريق ذلك، كما قال تعالى: وَساءَ سَبِيلًا وهو معطوف على خبر كان بتقدير: مقولا فيه ذلك لأنه إنشاء لا خبر.
والمراد بالنكاح في قوله: ما نَكَحَ: العقد، كما قال ابن عباس،
روى ابن جرير الطبري والبيهقي عنه أنه قال: «كل امرأة تزوجها أبوك، دخل بها أو لم يدخل بها، فهي حرام» .
والمراد بالآباء: ما يشمل الأجداد إجماعا.
لكن نكاح ما مضى قبل نزول الآية لا مؤاخذة فيه، أي أن هذا النكاح يستحق فاعله العقاب إلّا ما قد سلف ومضى، فإنه لا ذنب فيه، ومعفو عنه.
والاستثناء منقطع، والمعنى: لكن ما قد سلف فلا تثريب عليكم فيه. وما هنا عبارة عن النساء، فقد وقعت على العاقل، وقيل: إنها مصدرية، والمعنى:
لا تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آباؤكم من أنكحة الجاهلية الفاسدة.
ثانيا- المحرمات بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع:
بيّن الله تعالى أنواع المحرمات من النساء، لمنافاتها ما في النكاح من الصلة المتبادلة بين الجنسين، وهي ستة أقسام:(4/311)
1- نكاح الأصول:
أي الأمهات والجدات، لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ والمراد بالأم: ما يشمل الجدات.
2- نكاح الفروع:
أي البنات وبنات الأولاد من الأبناء والبنات، لقوله تعالى: وَبَناتُكُمْ والمراد: بنات الصلب وبنات الأولاد، ممن كن سببا في ولادتهن.
3- نكاح الحواشي القريبة والبعيدة:
القريبة: نكاح الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم لقوله تعالى:
وَأَخَواتُكُمْ. والبعيدة من جهة الأب والأم وهي نكاح العمات والخالات لقوله تعالى: وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وذلك يشمل أولاد الأجداد وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون.
ومن القرابة البعيدة: الحواشي من جهة الإخوة، لقوله تعالى: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ من جهة أحد الأبوين أو كليهما.
وهذه الأنواع الثلاثة: ما يحرم من جهة النسب.
4- ما يحرم بسبب الرضاع:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لقوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، فكل أقارب الأم المرضع أقارب للرضيع، فالمرضعة تصبح أما للرضيع، وبنتها أخته، وزوجها أبوه، وأولادها إخوته.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب»
وروى البخاري أيضا عن ابن عباس «أنه سئل(4/312)
عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ قال: لا، اللقاح واحد» .
وظاهر الآية أن قليل الرضاع ككثيره، وهو رأي الحنفية والمالكية. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره قال: «لا تحرّم المصّة والمصّتان ولا الإملاجة والإملاجتان» .
وهو مروي عن الإمام أحمد.
وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات لما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت: كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهن مما يقرأ من القرآن.
ورد الحنفية على الحديث بأنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد لأنها محكمة ظاهرة المعنى، بينة المراد. وأخرج أبو بكر الرازي عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال: إن الناس يقولون: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، قال: قد كان ذاك، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم.
ولا يحرم الرضاع إلا في سن الصغر وهو ضمن الحولين لقوله تعالى:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ
وروى الدارقطني عن ابن عباس قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» .
وهل لبن الفحل يحرّم أو لا؟ كأن يتزوج رجل امرأتين، فتلد منه، وترضع إحداهما صبية، والأخرى غلاما، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرم وهو مذهب أكثر الأئمة، حرم الصبية على الغلام لأنهما أخوان من الرضاع لأب.
وهذا هو المنصوص عليه،
لما ثبت في البخاري عن عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب، فقالت عائشة: والله(4/313)
لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني، إنما أرضعتني المرأة! قالت عائشة: فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: يا رسول الله، إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن علي، فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال: إنه عمك، فليلج عليك.
5- ما يحرم بسبب المصاهرة:
حرم الله بسبب المصاهرة ثلاثة أنواع تكريما لتلك الرابطة كتكريم رابطة النسب:
الأول- أم الزوجة التي دخل بها الزوج أو عقد عليها، والجدة كالأم، لقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أي أمهات الزوجات. ولا يشترط في تحريم أم المرأة الدخول بالبنت، بل يكفي مجرد العقد. وهو رأي الجماهير.
الثاني- الربيبة: وهي ابنة الزوجة من غيره، بشرط الدخول بأمها، وكذا يحرم أولاد أولادها، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها لقوله تعالى:
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي إن مجرد العقد على امرأة دون دخول لا يحرم عليه بناتها.
وقال الحنفية: إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذا إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى فرجها بشهوة، أو لمس يد أم امرأته بشهوة.
وتحرم عليه امرأته تحريما مؤبدا.
وخالفهم باقي الأئمة وقالوا: الزنا لا يحرم أصول المزني بها ولا فروعها.
الثالث- زوجة الابن وابن الابن: تحرم على الأب والجد لقوله تعالى:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ والحلائل جمع حليلة: وهي الزوجة.(4/314)
ويقال للرجل: حليل، لحلول الزوجين في مكان واحد وفراش واحد.
ومثلها زوجة الابن من الرضاعة،
للحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
ويلاحظ أن قيد كون الربيبة في حجر الزوج خرج مخرج الغالب، لا أنه قيد في التحريم، والربيبة حرام على زوج أمها سواء كانت في حجره أو لم تكن في حجره. ولا تحرم زوجة الابن بالتبني لإبطاله وتحريمه في الإسلام، لقوله تعالى:
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب 33/ 37] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب 33/ 5] .
6- ما يحرم بسبب عارض:
وهو الجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها، والضابط: كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكر، لحرم عليه نكاح الأخرى، بل تظل الحرمة قائمة لو طلق إحداهما حتى تنتهي عدتها.
ويدل لذلك
ما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها»
وفي رواية الترمذي وغيره: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى»
وهذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] . ويؤكده
ما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «طلق أيتهما شئت» .
وأشار النبي صلّى الله عليه وسلّم في رواية ابن حبان وغيره: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
أي أن تحريم الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها: لوجود الكراهة والبغضاء بين الضرائر عادة.(4/315)
هذا التحريم لا يشمل ما قد سلف قبل التحريم، فما مضى لا مؤاخذة فيه.
إن الله كان وما يزال غفورا رحيما يغفر لكم ما قد سلف من آثار أعمالكم السيئة، ويغفر لكم ذنوبكم بالتوبة والإنابة، ويرحمكم بتشريع أحكام الزواج التي فيها الخير والمصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم.
فقه الحياة أو الأحكام:
وضح في أثناء التفسير كثير من الأحكام الشرعية، وأوجزها هنا مع الإشارة إلى أحكام أخرى.
دلت الآية: وَلا تَنْكِحُوا على تحريم منكوحة الأب أو الجد، إلا ما قد سلف، والاستثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ولا إثم فيه، فهو كما وصف سبحانه: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا وهو دليل على أنه فعل في غاية من القبح، لذا سماه العرب نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها. ويقال للولد إذا ولدته: المقتيّ. وأصل المقت: البغض.
واختلف العلماء فيمن زنى بها الأب، أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته، أم لا تحرم، فيكون الوطء الحرام غير ناشر للحرمة كالوطء الحلال.
واختلفوا في الزنى بأم الزوجة، أيحرم الزوجة أم لا يحرمها؟
ذهب إلى الرأي الأول الحنفية والأوزاعي والثوري ومالك في رواية ابن القاسم عنه، وذهب إلى الثاني الليث والشافعي ومالك في رواية الموطأ عنه، وهو الراجح لدى المالكية.
وسبب الخلاف: الاشتراك في لفظ النكاح، فهو يطلق على الوطء وعلى العقد، فمن قال: إن المراد به في الآية الوطء، حرم من وطئت ولو بزنا. ومن(4/316)
إطلاقه على الوطء قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة 2/ 230] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور 24/ 3] إذ لو كان العقد للزم الكذب، وقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء 4/ 6]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ضعيف: «ناكح اليد ملعون» .
ومن قال: المراد به العقد لم يحرم بالزنا. ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب 33/ 49] وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور 24/ 32] وقوله:
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء 4/ 3]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه: «النكاح من سنتي»
أي العقد،
وقوله في الحديث الثابت: «أنا من نكاح ولست من سفاح» .
فما الراجح أن تحمل عليه الآية أهو الوطء أم العقد؟ ذهب الحنفية: إلى أن الراجح أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء لأن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء، فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام. والوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطئا مباحا إلا وهو موجب للتحريم كالوطء بملك اليمين ونكاح الشبهة، وقد وجدنا وطئا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم، فكيفما وجد ينبغي أن يحرم، سواء كان مباحا أو محظورا.
ورأى الشافعية: أن النكاح وإن كان مجازا في العقد، ولكنه اشتهر فيه، حتى صار حقيقة فيه، كالعقيقة كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقة مجازا، واشتهر ذلك حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق. وقد عبر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله:(4/317)
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. ثم إنه كيف يجعل للزنا حرمة وهو فاحشة ومقت؟ ثم إن النسب لا يثبت بالزنا، فكذلك التحريم لا يثبت بالزنا.
وهذا هو الراجح.
ودلت آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... على تحريم سبع من النسب وهي: الأم ومثلها الجدات وان علون، والبنت ومثلها بنت الأولاد وإن سفلن، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.
وتحريم الأم من الآية لأن الأم حقيقة في الأم مباشرة، مجاز في الجدة، ويكون تحريم الجدات من الإجماع، وقال بعضهم: من الآية لأن الأم تطلق على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي.
وأما البنت من الزنى فهل هي داخلة في قوله: وَبَناتُكُمْ؟ قال أبو حنيفة: إنها داخلة في الآية ولها حرمة البنت الشرعية لأنها متخلقة من مائه وبضعة منه، فحرمها عليه، فهو قد نظر إلى الحقيقة. وقال الشافعي:
ليست داخلة في الآية، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية لأن الشارع لم يعطها حكم البنتيه، فلم يورثها منها، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها به
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» .
ورجح بعض علماء العصر رأي أبي حنيفة قياسا على ولد الزنا، فإنه تحرم عليه أمه لأنه متخلق منها. ورأى آخرون ترجيح رأي المالكية والشافعية، حتى لا يجعل الزنى في مرتبة القرابة والمصاهرة والرضاع، والقاعدة الشرعية تقرر أن النقمة لا تكون طريقا إلى النعمة.
ودلت الآية على تحريم ست بغير النسب وهم:
الأم من الرضاع، والأخت من الرضاع، ومثلهما جميع أصول وفروع(4/318)
المرضع. وأمهات الزوجات، والربائب المدخول بأمهن، وزوجات الأبناء، والجمع بين الأختين، ومثل الأخت: العمة والخالة وابنة الأخ وابنة الأخت.
وأما زوجة الابن المتبنى فأحلها الإسلام، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية،
وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه عليه الصلاة والسلام
، عملا بقوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب 33/ 37] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب 33/ 5] .
وقد استنبط العلماء من قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.. القاعدة الشرعية وهي: «العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات» فأم المرأة تحرم بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها. وأما الربيبة: وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد حتى يدخل بأمها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها، جاز له أن يتزوج بنتها.
ودل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ على أن تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه. وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات، فهو تحريم مؤبد دائم.
والتحريم بالرضاع مثل التحريم بالنسب تماما،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
ويجوز للمرأة أن يحج معها أخوها من الرضاعة، كما صرح الإمام مالك رحمه الله.
وأجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا(4/319)
ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ
وقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح لأن النكاح الفاسد إن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلّق بالصحيح لاحتمال أن يكون نكاحا، فيدخل تحت مطلق اللفظ، والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلّب التحريم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطأ بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه، وعلى أجداده وولد ولده.
أما الوطء بالزنى فهو يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال في رأي الحنفية، بدليل قصة جريج، وقوله: «يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي» فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرّم الوطء الحلال.
وقال المالكية والشافعية: إن الزنى لا حكم له لأن الله تعالى قال:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وليست التي زنى بها من أمّهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه،
روى الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح» .
وأما اللائط: فقال مالك والشافعي والحنفية: لا يحرم النكاح باللواط.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها: أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة.
واختلفوا إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك رجعتها، فقال الحنفية والحنابلة:
ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلّق. وقال المالكية والشافعية: له أن ينكح أختها وأربعا سواها.(4/320)
وإذا عقد المسلم على أختين في عقد واحد بطل نكاحها عند أبي حنيفة.
ويخير بين الأختين في رأي مالك والشافعي، سواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما، أو جمع بينهما في عقدين.
وأما النكاح القائم بين الأختين في الجاهلية فهو نكاح صحيح، ثم يخير بينهما إذا أسلم الزوج.
والخلاصة: روى هشام بن عبد الله بن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرّمات كلّها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين:
إحداهما- نكاح امرأة الأب.
والثانية- الجمع بين الأختين.
ألا ترى أنه قال: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ولم يذكر في سائر المحرمات: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.
انتهى الجزء الرابع ولله الحمد(4/321)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
[الجزء الخامس]
[تتمة سورة النساء]
حرمة الزواج بالمتزوجات وإباحة الزواج بغير المحارم بشرط المهر
[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
الإعراب:
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على المصدر بفعل دل عليه قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لأن معناه: كتب ذلك كتابا الله، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل. مثل قوله تعالى:
صُنْعَ اللَّهِ [النمل 27/ 88] : منصوب على المصدر بما دل عليه الكلام قبله، وتقديره: صنع ذلك صنعا الله، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل.
وَأُحِلَّ لَكُمْ بالضم فعل ماضى مبني للمجهول، وما نائب الفاعل، وقرئ بفتح الهمزة على أنه مبني للمعلوم، وما مفعول به. وأَنْ تَبْتَغُوا إما منصوب على أنه بدل من ما إذا كانت في موضع نصب مفعول به، أو على أنه مفعول لأجله، أي لأن تبتغوا بأموالكم.
وإما مرفوع على أنه بدل من ما على أنها نائب فاعل. مُحْصِنِينَ وغَيْرَ مُسافِحِينَ حال من ضمير تَبْتَغُوا.
البلاغة:
يوجد طباق بين مُحْصِنِينَ ومُسافِحِينَ.
آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: استعار لفظ الأجور للمهور لأن المهر يشبه الأجر في الصورة.(5/5)
المفردات اللغوية:
وَالْمُحْصَناتُ أي حرمت عليكم ذوات الأزواج لأنهن دخلن في حصن الزوج وحمايته، ويطلق الإحصان في القرآن الكريم على أحد أربعة معان:
1- التزوج: كما في الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء 4/ 24] يقال: أحصن الرجل: إذا تزوج.
2- الإسلام: كما في الآية: فَإِذا أُحْصِنَّ أي أسلمن، يقال: أحصن: إذا أسلم.
3- العفة: كما في الآية: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [النساء 4/ 25] يقال: أحصن: إذا عف، وفي آية أخرى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور 24/ 4] .
4- الحرية: كما في الآية: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء 4/ 25] يقال: أحصن: إذا صار حرا، وفي الآية نفسها: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وفي جميع ذلك: معنى المنع وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، فالرجل إذا تزوج، منع نفسه من الزنى، وإذا أسلم، منع نفسه من القتل، والعفيف يمنع نفسه من الفحش، وإذا عتق منع نفسه من الاستيلاء.
وورد الإحصان في السنة بمعنى التزوج،
قال صلّى الله عليه وسلّم: أحصنت؟ بمعنى تزوجت، قال: نعم.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»
من أحصن منهم ومن لم يحصن.
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي المملوكات بالسبي في جهاد مشروع، فينفسخ نكاحهن من أزواجهن الكفار في دار الحرب، ويحل الاستمتاع بهن بعد استبراء الحامل بوضع حملها، وغير الحامل (الحائل) بحيضة ثم تطهر، واشترط الحنفية اختلاف الدار بينها وبين زوجها، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره.
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله تحريم ذلك عليكم وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي أبيح لكم من النساء سوى ما حرم عليكم أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا النساء بِأَمْوالِكُمْ بصداق، فالأموال: المهور مُحْصِنِينَ متزوجين أو متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ غير زانين، والمسافح: الزاني، وذلك لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
أُجُورَهُنَّ مهورهن، والأجر في الأصل: الجزاء في مقابلة شيء من عمل أو منفعة، والمهر في مقابل الاستمتاع المباح. فَرِيضَةً مفروضة ومقدرة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا حرج ولا إثم ولا تضييق فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي اتفقتم أنتم وهن من حط بعض الفريضة أو كلها أو الزيادة عليها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخلقه فيما يصلحهم حَكِيماً فيما دبره لهم.(5/6)
سبب النزول:
روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا من سبي أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، ولهن أزواج، فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بها فروجهن.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: نزلت يوم حنين، لما فتح الله حنينا، أصاب المسلمون نساء من نساء أهل الكتاب لهن أزواج، وكان الرجل إذا أراد أن يأتي المرأة قالت: إن لي زوجا، فسئل صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فأنزلت:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.
أما قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.. الآية، فنزل بسبب ما يأتي، أخرج ابن جرير الطبري عن عمرة بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة فنزلت: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ.
المناسبة:
هذه الآية ملحقة في مطلعها بالمحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها، في الآية السابقة. وناسب أن يذكر سبيل إباحة غير المحرمات من النساء بشرط المهر وبقصد التعفف لا الزنى.
التفسير والبيان:
قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ معطوف على أُمَّهاتُكُمْ في الآية السابقة، فهن من المحرمات. والمعنى: وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا المسبيات في جهاد(5/7)
مشروع بيننا وبين الأعداء الكفار، دفاعا عن الدين، لا حرب استعمار واستغلال. فالآية تدل على تحريم ذوات الأزواج إلا ما ملكتموهن بسبي، فسباؤكم إياهن هادم لنكاحهن السابق أو فاسخ له، إذا بقي أزواجهن الكفار في دار الحرب.
والزواج بإحدى السبايا طريق لكفالة المسبية وصونها عن التبذل ببذل العرض أو البحث عن الرزق.
وجيء بقيد مِنَ النِّساءِ لإفادة التعميم، فيشمل كل متزوجة.
وقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أي كتب الله ذلك (وهو تحريم ما حرم عليكم) كتابا وفرضه فرضا، وبعبارة أخرى: كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا، وفرضه فرضا ثابتا، موافقا للمصلحة دون شك ولا تغيير.
وأحل الله ما وراء ذلكم مما هو عدا المحرمات المذكورات، فقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ معطوف على قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ عند من قرأ وَأُحِلَّ بالبناء للمعلوم، أما على قراءة البناء للمجهول وَأُحِلَّ فهو معطوف على كتب المقدر المفهوم من قوله تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تطلبوا النساء بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة، حالة كونكم أعفاء غير زناة، فلا تضيعوا أموالكم في الزنى، فتذهب أموالكم وتفتقروا.
وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها فأعطوها الأجر أي المهر وسمي المهر أجرا لأنه في مقابلة الاستمتاع، وهذا الحكم مفروض من الله فريضة، فقوله فَرِيضَةً إما حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو مصدر مؤكد أي(5/8)
فرض الله ذلك فريضة لأن المهر يفرض ويعين في عقد الزواج، ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء، كما في آية: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وآية: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أو أن المقصود الحث على إيفاء المهر الذي هو حق للزوجة بفرض الله وشرعه وحكمه المبرم، لا مجال للمساومة فيه أو التهرب منه.
ولكن لا إثم ولا تضييق على الأزواج بالاتفاقات التي تحدث عقب الزواج، فلا مانع من التراضي على أن تحط المرأة عن الرجل المهر كله أو بعضه أو تهبه له، أو على الزيادة في مقدار المهر، فكل من النقص في المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه أمر مباح مشروع لأن المقصود بالزوجية أن تكون قائمة على أساس متين من المودة والمحبة، والتعاون والتعاطف، والله تعالى عليم بما فيه صلاح خلقه وبنواياهم، حكيم فيما دبره لهم من أحكام، فهو لا يشرع لهم تفضلا ورحمة منه إلا ما فيه خيرهم وصلاحهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على الأحكام السبعة التالية:
الأول:
تحريم الزواج بالمتزوجات من النساء، رعاية لحق الأزواج، ما دامت الزوجية قائمة فعلا أو في أثناء العدة، فإذا طلقن وانقضت عدتهن فهن لكم حلال، وأكد الله تعالى وجوب احترام مبدأ تحريم المحرمات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله عليكم ما قصه من التحريم، فهو عهد وميثاق، وهو أيضا إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله.
الثاني:
إباحة المسبيات المملوكات بسبب السبي في الجهاد، أو بسبب الشراء لأن(5/9)
السبي يؤدي إلى فسخ زواجهن السابق، ما دام أزواجهن كفارا في دار الحرب، واشترط الحنفية اختلاف الدار بين المسبية وزوجها، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره لأن الزوج قد صار له عهد وعصمة لما يملكه، وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها.
ولا فرق في رأي المذاهب الأخرى بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين.
ولا بد من استبراء المسبية بوضع الحمل إن كانت حاملا، وبحيضة إن كانت حائلا غير حامل، قال الحسن البصري: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستبرءون المسبيّة بحيضة
وروى أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري حديثا في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» .
والعلماء كافة رأوا استبراء المسبية بحيضة واحدة، سواء أكانت ذات زوج أم لا زوج لها.
هذا.. ويلاحظ أن الإسلام لم يفرض السبي أو الاسترقاق، وإنما كان مشروعا لدى الأمم جميعها، أما إنه لم يحرمه فمن أجل المعاملة بالمثل لأن الرقيق كان عماد الحركة والحياة الاقتصادية والاجتماعية، ولا يعقل أن يسترق العدو أسرانا ونحن لا نسترق أسراه.
وكان الرق أحيانا من أجل توفير سبل المعيشة عند السيد، ويظهر هذا بنحو خاص بالنسبة للمرأة، إذ الغالب أن يكون زوجها قتل في الحرب، فمن مصلحتها أن تعيش في ظل من يعيلها وينفق عليها، ويعفها حتى لا تصبح أداة فساد أو عالة على المجتمع.
الثالث:
إباحة الزواج بجميع النساء الأجنبيات غير المحارم المذكورة في الآية:(5/10)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء 4/ 23] وما أضيف إليها في السنة النبوية كالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها،
لما روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها» .
وضابط حرمة الجمع عند العلماء: ما ذكر عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا، لم يجز له أن يتزوج الأخرى، فالجمع بينهما باطل.
وعلة التحريم: هو ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة، مما يقع بين الضرائر من البغضاء والشرور بسبب الغيرة،
قال ابن عباس: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج الرجل المرأة على العمّة أو على الخالة، وقال: «إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» «1» .
الرابع:
أباح الله تعالى الاستمتاع بالنساء بعقد الزواج المشتمل على المهر، وهو المال المتقوم الذي يباح الانتفاع به شرعا، وهذا دليل على وجوب المهر، فإذا حصل الزواج بغير المال لم تقع الإباحة به لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه.
الخامس:
دلّ قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على أن المهر يسمى أجرا، وأنه في مقابلة البضع (الاستمتاع) لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. والظاهر أن المعقود عليه: هو بدن المرأة، ومنفعة البضع، والحلّ لأن العقد يقتضي كل ذلك.
واختلف العلماء في معنى الآية على قولين:
__________
(1) رواه ابن حبان وغيره.(5/11)
1- قال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح فآتوهن مهورهن (أجورهن) فإذا جامعها مرة واحدة، وجب المهر كاملا إن كان مسمّى، أو مهر مثلها إن لم يسمّ.
أما إذا كان النكاح فاسدا فيجب مهر المثل
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها مهر مثلها بما استحلّ من فرجها» «1» .
ولا يجوز في رأيهم أن تحمل الآية على جواز نكاح المتعة: (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن نكاح المتعة وحرّمه ولأن الله تعالى قال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النساء 4/ 25] ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك.
2- وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، فقد كان مرخصا فيه في بدء الإسلام، أذن فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أو مرتين في الجهاد، لبعد المجاهدين عن نسائهم، وخوفا من الزنى، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين، وعلى أساس مبدأ العفو الذي لم يتعلق به تحريم في مبدأ الأمر، وذلك في غزوة أوطاس، وعام فتح مكة، ثم حرّمه النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدئذ واستقر الأمر على التحريم، بدليل آية: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون 23/ 6/ 5] وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين.
وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة
، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.
وثبت في الصحيحين عن علي قال: «نهى رسول الله
__________
(1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عائشة.(5/12)
صلّى الله عليه وسلّم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر»
وفي لفظ آخر في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» .
ونهى أيضا عنها عمر رضي الله عنه، ودلت الأحاديث الكثيرة على تحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، كما تقدم.
بل إن نكاح المتعة على النحو الذي يجيزه الشيعة الإمامية بشروط كثيرة غير مطبّق الآن في الواقع لأن المتمتع لا يقصد بالمتعة الإحصان، وإنما يقصد السفاح، وهو لا يلتزم بتوابع الوطء، والمرأة لا تلتزم أيضا بالعدة.
قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها. واتفقت المذاهب الأربعة ما عدا زفر على بطلانه. وقال زفر: الزواج صحيح وشرط التأقيت باطل.
وهل يحد من دخل بامرأة في نكاح المتعة؟
قال الحنفية والشافعية والحنابلة: لا يحد للشبهة وإنما يعزر ويعاقب لشبهة العقد. وقال المالكية في مشهور المذهب: يحد بالرجم.
السادس:
قوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعم المال وغيره من منافع الأعيان، وبه قال جمهور العلماء إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على المنفعة فالنكاح جائز، وهو في حكم من لم يسمّ لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة.(5/13)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
احتج الجمهور
بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: «اذهب فقد ملّكتكها بما معك من القرآن» .
وفي رواية قال: «انطلق فقد زوجتكها فعلّمها من القرآن» «1» .
وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها.
السابع:
دل قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ على جواز الزيادة والنقصان في المهر، فهو سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة، والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلّق قبل الدخول.
شروط الزواج بالأمة وعقوبة فاحشتها
[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين.(5/14)
الإعراب:
طَوْلًا الطول: مصدر: طلت القوم، أي علوتهم، وهو مفعول به لفعل: يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ منصوب بطول انتصاب المفعول به. ولا يجوز نصبه ب يَسْتَطِعْ لأن المعنى يتغير، ويصير: ومن لم يستطع أن ينكح المحصنات طولا، أي للطول، فيصير الطول علة في عدم نكاح الحرائر، وهذا خلاف المعنى لأن الطول به يستطاع نكاح الحرائر، فبطل أن يكون منصوبا ب يَسْتَطِعْ فثبت أنه منصوب بالطول. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر.
الْمُحْصَناتُ منصوب على الحال من الهاء والنون في وَآتُوهُنَّ وكذلك قوله تعالى:
غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ.
البلاغة:
يوجد طباق في الْمُحْصَناتِ.. ومُسافِحاتٍ ويوجد جناس ناقص أو مغاير في الْمُحْصَناتِ.. فَإِذا أُحْصِنَّ.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الاستطاعة: كون الشيء في مقدورك طَوْلًا الطول: الغنى والفضل الزائد من مال أو قدرة على تحصيل المطلوب الْمُحْصَناتِ هنا: الحرائر. الْمُؤْمِناتِ هو جري على الغالب، فلا مفهوم له. فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ينكح. مِنْ فَتَياتِكُمُ إمائكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أي اكتفوا بالظاهر واتركوا السرائر إلى الله، فإنه العالم بتفصيلها، وربّ أمة تفضل الحرة، وهذا تأنيس بنكاح الإماء. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم وهن سواء في الدين، فلا تستنكفوا من نكاحهن. بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مواليهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أعطوهن مهورهن بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل ولا نقص.
الْمُحْصَناتِ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات جهرا أَخْدانٍ أخلاء يزنون بهن سرا. والأخدان جمع خدن: وهو الصاحب، ويطلق على الذكر والأنثى فَإِذا أُحْصِنَّ تزوجن بِفاحِشَةٍ زنى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر الأبكار إذا زنين الْعَذابِ هو الحد المقدر شرعا وهو مائة جلدة، ونصفها وهو عقوبة الرقيق خمسون، ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف خَشِيَ خاف الْعَنَتَ الجهد والمشقة، والمراد هنا: الزنى، سمي به الزنى لأنه سبب المشقة بالحد في الدنيا والعقوبة في الاخرة مِنْكُمْ أي أن من لا يخاف الوقوع في الزنى من الأحرار، فلا يحل له نكاح الأمة، وكذا من استطاع طول حرة أي مهرها، في رأي الشافعي. وبشرط كون(5/15)
الأمة مؤمنة لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فلا يحل نكاح الإماء الكافرات ولو عدم الرجل مهر الحرة وخاف الوقوع في الزنى. وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح المملوكات خَيْرٌ لَكُمْ لئلا يصير الولد رقيقا.
المناسبة:
هذه الآية تابعة لما قبلها، تبيّن حكم التّزوج بالإماء وحكم عقوبتهن عند ارتكاب الفاحشة، بعد أن بيّنت الآية المتقدّمة إباحة الزواج بكل النّساء الأجنبيّات غير المحرّمات، فلما بيّن الله من لا يحل من النّساء ومن يحلّ منهنّ، بيّن لنا هنا فيمن يحلّ أنه متى يحلّ، وعلى أي وجه يحلّ؟
التفسير والبيان:
ومن لم يجد لديه زيادة في المال والسعة ليتمكن من الزواج بالحرائر، فله أن يتزوج بالإماء، وعبّر عنهنّ بالفتيات تكريما لهنّ وإرشادا لمناداة الأمة والعبد بلفظ الفتاة والفتى،
روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقولنّ أحدكم عبدي أمتي، ولا يقل المملوك: ربّي، ليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك:
سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرّب: هو الله عزّ وجلّ» .
والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وشأن الحرّة الإحصان، كما أن شأن الأمة البغاء، لذا قالت هند للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعجب: أوتزني الحرّة؟
وظاهر الآية يدلّ على أن زواج الإماء مشروط بشروط ثلاثة:
الأول- ألا يجد الزّوج صداق الحرّة.
الثاني- أن يخشى العنت أي الوقوع في الزنى.
الثالث- أن تكون الأمة المتزوّج بها مؤمنة غير كافرة.(5/16)
ومهر الحرّة يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، فلكلّ شخص وبيئة ما يناسبهما عرفا، فقد يقدر الرجل على مهر الحرّة، ولكن النساء تنفر منه لسوء خلقه أو خلقه، وقد يعجز عن القيام بحقوق الحرّة من النفقة والمساواة بينها وبين غيرها، وليس للأمة مثل هذه الحقوق.
وقدّر الحنفية المهر بربع دينار (ثلاثة دراهم) ، وقال بعضهم: عشرة دراهم. ولا أجد لهذا التحديد مستندا في الأدلة الشرعية، وإنما الثابت في السّنة
أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمن يريد الزواج: «التمس ولو خاتما من حديد» «1» .
وتزوّج بعض الصحابة على تعليم امرأته شيئا من القرآن.
وإنما اشترط التشرع هذه الشروط في نكاح الإماء تفاديا لما يشتمل عليه من أضرار، أهمها صيرورة الولد رقيقا لأن الولد يتبع الأم في الرّق والحرية، لذا قال الله تعالى في آخر الآية: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز نكاح الأمة لمن لم يكن عنده حرّة، سواء أكان واجدا مهر الحرّة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، عملا بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء 4/ 3] ، وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور 24/ 32] ، وقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] ، وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة 5/ 5] ، وجميع ذلك يتناول الإماء والكتابيّات.
ولم يشرط فيه عدم الطّول ولا خوف العنت، وهذه الآية لا تصلح لتخصيص العمومات السابقة لأنها أولا تدلّ على الشروط بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند أبي حنيفة رحمه الله. وثانيا على تقدير الحجية يكون
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سهل بن سعد.(5/17)
مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، فيجوز أن يكون المراد ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط، كما يجوز ثبوت الحرمة، ولكن الكراهة أقلّ في مخالفة العمومات فتعينت. وأما قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ فليس بشرط، وإنما هو إرشاد للإصلاح لعموم مقتضى الآيات.
وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض هذه الآية، إلا معارضة العام للخاص، والخاص مقدّم على العام. والحنفية خصصوا عموم الآيات فيمن لم يكن عنده حرّة، صونا للولد عن الإرقاق، وهذا المعنى يقتضي التخصيص أيضا بما إذا لم يكن لديه مهر الحرة، وخاف العنت. ثم إن الآية أباحت نكاح الأمة لضرورة من خشي العنت وفقد مهر الحرّة، بشرط كون الأمة مسلمة، وفيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح.
وأما معنى قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فهو أنكم أيها المؤمنون مكلّفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر، فاعملوا على الظاهر في الإيمان، والإيمان الظاهر في الأمة كاف، ولا يشترط العلم بالإيمان يقينا إذ لا سبيل لكم إليه. وأنتم مع الإماء إما من جنس واحد وهو البشرية والرجوع إلى أصل واحد وهو آدم، وإما أنكم مشتركون مع الإماء في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل فلا تأنفوا نكاح الإماء عند الضرورة. وهذا رفع من شأن الإماء وتسوية بينهن وبين الحرائر.
ثم أعاد الله تعالى الأمر بنكاح الإماء لزيادة الترغيب، وجعل نكاحهن مثل الحرائر بكونه بإذن أي رضا أهلهنّ، والأهل: المولى، أو المالك لهن لأن الإيمان رفع من قدرهن.
واتفق الفقهاء على أن نكاح الأمة والعبد مشروط بإذن السيّد، لهذه الآية(5/18)
ولحديث ابن عمر عند ابن ماجه: «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر» .
فإذا لم يتوافر الإذن، كان النكاح في رأي الشافعي باطلا غير صحيح، وموقوفا غير نافذ كعقد الفضولي في رأي الفقهاء الآخرين.
والأمة كالحرة أيضا في وجوب المهر لها، لقوله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي أدّوا إليهنّ مهورهنّ بالمعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.
ومهر الأمة عند الجمهور (أكثر الأئمة) للسيّد لأنه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيّد، وهو الذي أباحها للزوج بالنكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها، ولأن الرّقيق لا يملك شيئا أصلا لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل 16/ 75] ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «العبد وما في يده لمولاه» .
وقال الإمام مالك: المهر حق للزّوجة على الزّوج، ومهر الأمة لها، عملا بظاهر الآية. ورد الجمهور بأن المراد بالآية: وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن، أو أن المراد: وآتوا أهلهن مهورهن. وإنما أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر.
لكن شرط استحقاق الإماء المهور أن يكنّ عفائف متزوجات منكن، لا مستأجرات للبغاء جهرا وهنّ المسافحات، ولا سرّا وهنّ متخذات الأخدان.
وهكذا كان عرف الجاهلية في قسمة الزنى نوعين: علني وهو السّفاح، وسرّي وهو اتّخاذ الأخدان. وقد حرّم الله النّوعين بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام 6/ 151] ، وقوله: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف 7/ 33] .
فالمراد بالمحصنات هنا: العفائف، والمرأة المسافحة: هي التي تؤاجر نفسها(5/19)
مع أي رجل أرادها، والتي تتخذ الخدن: هي التي تتخذ صاحبا معينا.
والسبب في اشتراط كون الأمة محصنة مصونة في السرّ والجهر إذا أراد الحرّ التزوّج بها: هو أن الزّنى كان غالبا في الجاهلية على الإماء، وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن، حتى إن عبد الله بن أبيّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن، فنزل في ذلك: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النور 24/ 33] .
ثم أبان الله تعالى عقوبة الحدّ على الزّانية الأمة، فجعل عقوبتها نصف عقوبة الحرّة، وذلك بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ... أي أن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزّواج، فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر، وإذا كان حدّ الحرّة مائة جلدة بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فحدّ الأمة هو خمسون جلدة. هذا ما دلّ عليه القرآن، فلا رجم للإماء لأن الرّجم لا يتنصف، ودلّت السّنّة على حدّ الأمة غير المزوجة،
روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال:
«اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» .
والسبب في تصدير الآية بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ هو دفع توهم أن التزوّج يزيد في حدهنّ، فهو قيد لم يجر مجرى الشرط، فلا مفهوم له.
ثم ذكر الله تعالى بقوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ شرطا آخر لإباحة نكاح الإماء وهو الخوف من الزنى، وهذا ما أخذ به الشافعي رضي الله عنه، أما أبو حنيفة فلم يجعل ذلك شرطا، وإنما هو إرشاد للأصلح.
ثم أوصى الله تعالى في نكاح الإماء بوصية أدبيّة خلقية عامة فقال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي أن صبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهنّ، وإن أبيح(5/20)
لكم ذلك للضرورة بشروط، لما فيه من أضرار: بتعريض الولد للرّق، ولأنهنّ ممتهنات مبتذلات، خرّاجات ولّاجات، وذلك ذلّ ومهانة يرثه الواد منهن، ولأن حقّ المولى في الإماء أقوى من حقّ الزّوجية، فله الحقّ باستخدامهنّ، والسفر بهنّ وبيعهنّ، وفي ذلك مشقّة عظيمة على الأزواج.
جاء في مسند الدّيلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرائر: صلاح البيت، والإماء:
هلاك البيت»
،
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرّة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الأمة فقد أرقّ نصفه» .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي والله واسع المغفرة كثيرها، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وفي ذلك تنفير عنه، ويغفر لمن صدرت منه هفوات كاحتقار الإماء المؤمنات، وهو واسع الرّحمة كثيرها إذ رخّص في نكاح الإماء وأبان أحكام الشريعة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى الأحكام التالية:
1- الترخيص بنكاح الإماء لمن لم يجد الطّول: وهو السّعة والغنى، والمراد هاهنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: إنّ من عنده حرّة فلا يجوز له نكاح الأمة، وإن عدم السّعة وخاف العنت لأنه طالب شهوة وعنده امرأة. وبه قال الطّبري واحتجّ له.
واختلف العلماء فيما يجوز للحرّ الذي لا يجد الطّول ويخشى العنت، من نكاح الإماء، فقال مالك وأبو حنيفة والزّهري: له أن يتزوّج أربعا، وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة لقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة.(5/21)
2- إيمان الأمة المتزوج بها: لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي من مملوكاتكم المؤمنات. وفيه إشارة إلى خطاب المملوك بالفتى، والمملوكة بالفتاة،
وفي الحديث الصحيح: «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل:
فتاي وفتاتي» .
فلا يجوز التزوّج بالأمة الكتابية، وهو رأي الجمهور، وقال الحنفية: نكاح الأمة الكتابية جائز لأن قوله: الْمُؤْمِناتِ على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها، مثل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء 4/ 3] فإن خاف ألا يعدل فتزوّج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل ألا يتزوّج فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوّج إلا مؤمنة، ولو تزوّج غير المؤمنة جاز، واحتجّوا بالقياس على الحرائر لأنه لما لم يمنع قوله:
الْمُؤْمِناتِ في الحرائر في مطلع الآية من نكاح الكتابيات، فكذلك لا يمنع قوله: الْمُؤْمِناتِ في الإماء من نكاح الإماء الكتابيات.
3- سعة علم الله تعالى ورفع الحرج عن نكاح الإماء: دلّ قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ على أن الله عليم ببواطن الأمور، ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم، وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من التزوّج بالإماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء، أو كانت خرساء وما أشبه ذلك، ففي اللفظ إيماء على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر.
ويؤكد ذلك قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم من جنس واحد وإنكم بنو آدم، أو أنتم مؤمنون. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيّره وتسمّيه الهجين «1» ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له.
__________
(1) الهجين: الذي أبوه عربي وأمه أمة غير محصنة. وقال المبرد: ولد العربي من غير العربية.(5/22)
4- نكاح الأمة والعبد بإذن السيد: دلّ قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ على أن نكاح الأمة مقيّد بإذن أربابهنّ المالكين ورضاهم، وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيّده لأن العبد مملوك لا أمر له، وبدنه كلّه مستغرق بخدمة سيّده. لكن نكاح العبد بغير إذن سيّده موقوف عند المالكية والحنفية، فإن أجازه سيّده جاز، وأما الأمة فيفسخ نكاحها ولم يجز بإجازة السيّد لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح أصلا.
وقال الشافعي والأوزاعي وداود الظاهري: يفسخ نكاح العبد بغير إذن سيّده لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته.
5- وجوب المهر: دلّ قوله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على وجوب المهر في النكاح، وأنه للأمة، وهو مذهب مالك، لقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ أي بالشرع والسّنّة، وهذا يقتضي أنهنّ أحقّ بمهورهنّ من السّادة. وقال الشافعي:
الصداق للسيّد لأنه عوض فلا يكون للأمة لأن الزواج إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت الأمة لأن المهر وجب بسببها.
6- مقومات اختيار الأمة: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي عفائف غير زوان أي معلنات بالزنى، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أصدقاء على الفاحشة.
وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى، ولا تعيب اتّخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، بقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام 6/ 151] كما قال ابن عباس وغيره.
7- حدّ الأمة الزّانية: تحدّ الأمة إذا زنت خمسين جلدة، وهي نصف عقوبة الحرّة الزّانية البكر، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوّجة. أما حدّ المتزوّجة فلقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء 4/ 25] وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور، فلا تحدّ كافرة(5/23)
إذا زنت، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون: إحصانها التزوّج بحرّ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوّج فلا حدّ عليها، وهو رأي سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة. وقالت فرقة: إحصانها التزوّج، إلا أن الحدّ واجب على الأمة المسلمة غير المتزوّجة بالسّنّة
كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحدّ،
كما قال الزّهري. فالمتزوّجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوّجة محدودة بالحديث.
والسبب في الاكتفاء بجلد الأمة المتزوّجة (الثيّب) : أنّ الرّجم الواجب على المحصنات (الحرائر) لا يتبعّض. والفائدة في نقصان حدهنّ أنهنّ أضعف من الحرائر.
وعقوبة العبد مثل عقوبة الأمة، إذ الذكورة والأنوثة لا تؤدي إلى التفرقة في أحكام الأرقاء. ففي الآية ذكر حدّ الإماء خاصة، ولم يذكر حدّ العبيد، ولكن حدّ العبيد والإماء سواء: خمسون جلدة في الزنى، وفي القذف. وفي شرب الخمر في رأي الجمهور غير الشافعية: أربعون. وعليه فإن الإماء يدخلن
في قوله عليه الصّلاة والسّلام: «من أعتق شركا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه» «1»
وهذا هو القياس في معنى الأصل، أو قياس المساواة. ومنه قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور 24/ 4] يدخل فيه المحصنون قطعا.
هذا.. وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزّانية ليس بواجب لازم على سيّدها، وإن اختاروا له ذلك،
لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها، فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبيّن زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» «2» .
__________
(1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) والدارقطني عن ابن عمر.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. [.....](5/24)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة،
لقوله: «فليبعها»
، فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال.
8- الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة: دلّ قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ على أفضلية العزوبة وكراهية نكاح الأمة لأن زواج الأمة يفضي إلى إرقاق الولد «1» ، ومغالبة النفس وكبح جماحها والصبر على مكارم الأخلاق أولى من معاشرة الإماء. قال عمر رضي الله عنه: «أيّما حرّ تزوّج بأمة فقد أرقّ نصفه» يعني يصيّر ولده رقيقا. وقد سبق ذكر الأحاديث في ذلك.
وهذا يدلّ على أن العزل حقّ المرأة لأنه لو كان حقّا للرجل لكان له أن يتزوّج ويعزل، فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب، وبه قال مالك «2» .
أسباب الأحكام الشرعية السابقة
[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
__________
(1) قال الفقهاء: إذا أحبل رجل حرّ أمة غيره بزنا أو نكاح، فالولد رقيق. (السراج الوهاج:
ص 644) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 407.(5/25)
الإعراب:
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ دخول اللام على المفعول المتأخر عن فعله المتعدي ضعيف أو ممتنع، وقد خرجه النحاة على مذاهب: فمذهب سيبويه وجمهور البصريين: أن مفعول يُرِيدُ محذوف، واللام للتعليل. وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بمصدر، على حد «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» والتقدير: إرادة الله كائنة للتبيين. وذهب الكوفيون: أنها اللام الناصبة للفعل، وأنها تقوم مقام «أن» في فعل الإرادة والأمر، فيقال: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم. وفي التنزيل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصف 61/ 8] ، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام 6/ 71] .
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً منصوب على الحال.
المفردات اللغوية:
سُنَنَ طرائق، جمع سنة: وهي الطريقة والشريعة. الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته.
أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يسهل عليكم أحكام الشرع. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عاجزا عن مخالفة نفسه وهواه.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات علل الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والزواج وحكمها التي من أجلها شرعت، كما هو الشأن في القرآن، لتطمئن النفوس، وتعلم الفائدة من تلك الأحكام، وتقبل عليها ببواعث ذاتية، ونفس رضية منشرحة لما تقوم به لأنها تحقق السعادة في الدّنيا والآخرة.
التفسير والبيان:
يريد الله بإنزال هذه الآيات أن يبيّن لكم التكاليف والأحكام الشرعية، ويميز فيها الحلال من الحرام، والحسن من القبيح، ويرشد إلى ما فيه المصلحة، ويهديكم إلى طرائق ومناهج الأنبياء والصالحين المتقدمين، لتقتفوا آثارهم،(5/26)
وتسيروا سيرتهم، فالشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة باختلاف الأحوال والأزمان، إلا أنها متفقة في مراعاة المصالح.
ويريد الله أيضا أن يقبل توبتكم من الإثم والمحارم، أو يرشدكم إلى ما يمنع من المعاصي، أو إلى ما يكفّرها ويسترها ويذهب أثرها.
والمختار عند المحققين أن الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين، بل لطائفة معينة قد تاب الله عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في الآيات السابقة، وتابوا بالفعل لأنه لو كان عامّا لعارضه حالات أناس لم يتوافر عندهم المراد وهو التوبة.
والله ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم ما شرع لكم وما سار عليه من قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرّهم، وهو حكيم في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله، يراعي الحكمة والمصلحة، ولا يكلّف بما فيه مشقة وضرر.
ثم أكد الله تعالى إرادته قبول التوبة وتطهيركم وتزكية نفوسكم، وقارن بين تلك الإرادة المقترنة بالرحمة وبين إرادة الذين يتبعون الشهوات وهم الفسقة المنهمكون في المعاصي أو الزناة، وقيل: اليهود والنصارى أو المجوس الذين كانوا يحلّون الأخوات وبنات الإخوة والأخوات، فإنهم يريدون أن تميلوا مع أهوائهم ميلا عظيما، أي تنحرفوا معهم عن الحقّ إلى الباطل.
ويريد الله بهذه الأحكام والتكاليف والشرائع والأوامر والنواهي التخفيف عنكم، فأباح لكم نكاح الإماء عند الضرورة، كما قال مجاهد وطاوس، وهذا مثل قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف 7/ 157] ، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] ، وقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(5/27)
[الحجّ 22/ 78] ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بالحنيفية السمحة» «1»
، لأنه تعالى وإن حرم علينا بعض النساء، فقد أباح لنا أكثر النساء، وهكذا الحلال أكثر من الحرام في كل شيء.
وأبان الله تعالى سبب التخفيف وهو: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي يستميله الهوى والشهوة، لا سيما في أمر النساء، ويستثيره الخوف والحزن، فهو عاجز عن مقاومة الأهواء، وتحمل مشاق الطاعات، لذا خفف الله عنه التكاليف، ورخّص له بعض الأحكام.
ومن آفات الفسق تأثر أهل بيت الإنسان بالفسق والفجور لأنه قدوة لهم،
روى الطبراني عن جابر حديثا هو: «عفّوا تعفّ نساؤكم، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعدّ هذه الآيات الثلاث: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إلى قوله: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. والرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء 4/ 31] . والخامسة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء 4/ 40] .
والسادسة: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء 4/ 110] . والسابعة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . والثامنة: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء 4/ 152] .
دلّت الآيات الثلاثة على ما يأتي:
__________
(1) رواه الخطيب عن جابر، وهو ضعيف.(5/28)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
1- سعة فضل الله ورحمته: إذ أنه تعالى يبيّن لخلقه أمر دينهم ومصالح دنياهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم. وهو دليل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى، كقوله سبحانه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] .
2- ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل: إن منهج الاستقامة في العالم واحد، فهو سبحانه أراد أن يبيّن لخلقه طرق الذين من قبلهم من أهل الحق وأهل الباطل.
3- التجاوز عن الذنوب: فهو تعالى يريد توبة العباد، أي يقبلها، فيتجاوز عن الذنوب.
4- التخفيف في جميع أحكام الشرع: يريد الله في تشريعه التخفيف عن الناس. وهذا على الصحيح في جميع أحكام الشرع، وليس في نكاح الإماء فقط.
5- ضعف الإنسان: أي أن هواه يستميله، وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف، فاحتاج إلى التخفيف. ومن أبرز مظاهر ضعفه: أنه لا يصبر عن النساء. وكان عبادة بن الصامت وسعيد بن المسيّب رغم تقدّم السّنّ يخشيان على أنفسهما من فتنة النساء.
تحريم أكل المال بالباطل ومنع الاعتداء وإباحة التعامل بالتراضي
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)(5/29)
الإعراب:
تِجارَةً خبر تكون الناقصة، واسمها مضمر فيها وتقديره: إلّا أن تكون التجارة تجارة.
وأن تكون: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وعلى قراءة الرفع: فاعل تكون التامة، ولا تفتقر إلى خبر.
عُدْواناً وَظُلْماً منصوبان على المصدر في موضع الحال، كأنه قيل: ومن يفعل ذلك متعديا وظالما.
المفردات اللغوية:
لا تَأْكُلُوا أي لا تأخذوا، وعبّر عن الأخذ بالأكل لأنه المقصود المهم. بِالْباطِلِ بالحرام في الشرع كالرّبا والقمار والغصب. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي لكن أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن طيب نفس، فلكم أن تأكلوها.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها، أيّا كان في الدّنيا أو في الآخرة بقرينة.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في منعه لكم من ذلك.
عُدْواناً تعديا على غيره مع القصد، وتجاوزا مفرطا للحلال. وَظُلْماً هو تجاوز الحق بالفعل، وهو تأكيد نُصْلِيهِ ناراً ندخله ونحرقه بالنار. يَسِيراً هيّنا.
المناسبة:
ذكر الله تعالى هنا قاعدة التعامل العام في الأموال، بعد أن بيّن أحكام بعض المعاملات: وهي معاملة اليتامى، وإعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة، ووجوب دفع مهور النساء.
والسبب واضح وهو أن المال قرين الرّوح، والاعتداء عليه يورث العداوة، بل قد يجرّ إلى الجرائم، لذا أوجب الله تعالى تداوله بطريق التراضي لا بطريق الظلم والاعتداء.(5/30)
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى كل واحد من المؤمنين عن أكل مال غيره بالباطل، وعن أكل مال نفسه بالباطل لأن قوله تعالى: أَمْوالَكُمْ يقع على مال نفسه ومال غيره، فكل الأموال هي للأمة، وأكل مال نفسه بالباطل: إنفاقه في المعاصي، وأكل مال غيره بالباطل أي بأنواع المكاسب غير المشروعة كالرّبا والقمار والغصب والبخس، فالباطل: ما يخالف الشرع. وقال ابن عباس والحسن البصري: هو أن يأكل بغير عوض، فالباطل: ما يؤخذ بغير عوض.
ويشمل الأكل بالباطل: كل ما يؤخذ عوضا عن العقود الفاسدة أو الباطلة، كبيع ما لا يملك، وثمن المأكول الفاسد غير المنتفع به كالجوز والبيض والبطيخ، وثمن ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقردة والخنازير والذباب والزنابير والميتة والخمر وأجر النائحة وآلة اللهو.
فمن باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه، كان ثمنه حراما خبيثا وعليه ردّه.
وإذا لم يجز أكل المال بالباطل وهو غير المشروع والمأخوذ من عين أو منفعة ظلما من غير مقابل، فيجوز أخذه بالتراضي الذي يقرّه الشرع، لذا قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي ولكن كلوا الأموال بالتجارة القائمة على التراضي ضمن حدود الشرع، والتجارة تشمل عقود المعاوضات المقصود بها الربح، وخصّها بالذّكر من بين أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا في الحياة العملية، ولأنها من أطيب وأشرف المكاسب،
وأخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أطيب الكسب: كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا» .(5/31)
وليس كلّ تراض معترفا به شرعا، وإنما يجب أن يكون التراضي ضمن حدود الشرع، فالرّبا المأخوذ عن بيع فيه تفاضل أو بسبب قرض جرّ نفعا، والقمار والرّهان وإن تراضى عليه الطّرفان حرام لا يحلّ شرعا.
وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه في الظاهر النهي عن قتل المؤمن نفسه في حال غضب أو ضجر (وهو الانتحار) ،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة-: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا» .
ولكن اتفق جمهور المفسرين على أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، وإنما قال: أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الزّجر، كما قال في الأموال: أَمْوالَكُمْ.
جاء في الحديث: «المؤمنون كالنفس الواحدة» «1» .
ولا مانع أن تكون الآية نهيا عن قتل الإنسان نفسه وعن قتل الآخرين، وعن كلّ ما يؤدي إلى الموت كتناول المخدرات والسموم الضارة والمجازفة في المهالك.
والسبب في إيراد هذه الآية هنا في مجال الكلام عن المعاملات المالية: أنه لما كان المال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها وبه صلاحها، حسن الجمع بين التوصية بحفظ المال والتوصية بحفظ النفس.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي السابق، أي إنما ينهاكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس لأنه لم يزل بكم رحيما.
ومما يدلّ على حرمة المجازفة بالنفس في المهالك قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] ،
وما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال:
__________
(1) نص الحديث: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.(5/32)
لما بعثني النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام ذات السلاسل، احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم، يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قوله تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل شيئا.
ففهم عمرو رضي الله عنه أن الآية تتناول بعمومها مثل حالته، وأقرّه النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك.
ثم ذكر الله تعالى عقوبة قاتل الأنفس، وهي أن من يفعل ذلك المحرم- وهو قتل النفس لأن الضمير المشار إليه يعود إلى أقرب مذكور- حال كونه معتديا ظالما، عاقبه الله على جرمه في الآخرة، بإدخاله نارا شديدة الإحراق، وذلك الإدخال هيّن سهل على الله، لا يمنعه منه مانع. وقد بيّنت أن العدوان: هو الإفراط في مجاوزة الحدّ، وأن الظلم: هو الجور ومجاوزة الحدّ أو وضع الشيء في غير موضعه. وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على الأحكام الشرعية الآتية:
1- تحريم أكل الأموال بالباطل أي بغير حق، وهو كل ما يخالف الشرع أو يؤخذ بغير عوض. وله أحوال كثيرة.
وعبّر بكلمة أَمْوالَكُمْ للإشارة إلى أن مال الفرد هو مال الأمة، مع احترام الحيازة والملكية الخاصة وإباحة التصرف بالمملوك بحرية تامة، ما لم يكن هناك ضرر بالأمة أو بالمصلحة العامة.(5/33)
وكذلك مال الأمة هو مال الفرد، فعليه المحافظة على الأموال العامة كما يحافظ الشخص على أمواله الخاصة.
وهذا يومئ إلى وجوب التكافل الاجتماعي بين الفرد والأمة، وبين الشخص والمجتمع، فعلى الأمة ممثلة بالدولة إشباع حاجة الفرد عند الضرورة، وعلى الفرد دعم الأمة بالإنفاق في سبيل الله والجهاد والمصالح العامة، لتتمكن الأمة من الدفاع عن مصالح الأفراد، وحماية البلاد والأموال والأشخاص.
ولكن ليس للمحتاج أن يأخذ شيئا من أموال الآخرين إلا بإذنهم، صونا للأموال، ومنعا للفساد والفوضى، ومنعا لانتشار البطالة وشيوع روح الكسل بين الأشخاص.
2- إباحة جميع أنواع التجارات (أي عقود المعاوضات التي يقصد بها الربح) بشرط التراضي بين العاقدين. وذلك يشمل البيع والعطاء، فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله بِالْباطِلِ أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ونحوهما، وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة وهبة التبرع.
روى ابن جرير الطبري عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما» «1» .
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس، الذي قال به الشافعي وأحمد والليث وغيرهم، لما
ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا»
وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا»
يعني أن الآية مخصوصة بالحديث.
__________
(1) حديث مرسل.(5/34)
ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام، وحسبما يتبيّن فيه مال البيع، ولو إلى سنة في القرية ونحوها في مشهور مذهب مالك رحمه الله.
ومن التراضي الضمني: بيع المعاطاة مطلقا فهو صحيح في رأي الجمهور غير الشافعي.
وأما الحنفية والمالكية فلم يقولوا بمشروعية خيار المجلس لأن الآية تقتضي حلّ التّصرف في المبيع بوقوع البيع عن تراض، سواء أتفرق المتبايعان أم لم يتفرّقا، فإن الذي يسمّى تجارة في عقد البيع إنما هو الإيجاب والقبول، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء.
وخصص من التجارات أشياء إما بالقرآن وإما بالسنّة، فالخمر والميتة والخنزير وسائر المحرّمات في الكتاب لا يجوز الاتّجار فيها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي أن سائر وجوه الانتفاع محرمة، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل النّهي عن الشّحوم نهيا عن أكل ثمنها،
ففي الحديث الصحيح: «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنها» .
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وبيع العبد الآبق، وبيع الغرر، وبيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان
، ونحوها من البيوع المجهولة أو المعقودة على غرر.
كلّ ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
3- الترغيب في التجارة: أباحت الآية التجارة ورغّبت فيها، لشدة حاجة الناس إليها، بدليل أن مدار حلّها على تراضي المتبايعين، أما الغش والكذب والتدليس فيها فهي محرّمة.(5/35)
وفي الآية إيماء إلى أن جميع ما في الدّنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل الزائل الذي لا ثبات له ولا بقاء، فلا ينبغي أن يشغل العاقل بها عن الاستعداد للآخرة، لقوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور 24/ 37] ،
وروى الدارقطني عن ابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النّبيين والصّدّيقين والشهداء يوم القيامة» .
وفي الآية أيضا إشارة إلى أن معظم التجارات مشتملة على الأكل بالباطل للطمع في أخذ الأرباح الفاحشة، ولزخرفة البضاعة بمختلف الأساليب، ولاقترانها بالأيمان الكاذبة غالبا، لذا فإنها تحتاج إلى المسامحة والصدقة،
قال عليه الصلاة والسلام- فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن قيس بن أبي غرزة-: «يا معشر التجار، إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب، فشوّبوه بالصدقة»
ويلاحظ أن الأكل من غير إذن من المشتريات في الأسواق قبل تمام الشراء لا يحل، وفيه شبهة، فربما لا يتم الشراء.
والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة، فذلك جائز.
وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا. قال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح،
لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: «فليبعها ولو بضفير»
أي بحبل،
وقوله عليه السلام لعمر: «لا تبتعه- يعني الفرس- ولو أعطاكه بدرهم واحد»
وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن جابر: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض»
وليس فيه تفصيل بين القليل والكثير من ثلث وغيره.
4- التراضي أساس العقود: لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ(5/36)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
مِنْكُمْ
أي عن رضى، فلا يصح العقد بالإكراه أو الإجبار.
5- تحريم قتل النفس (الانتحار) وتحريم قتل أنفس الآخرين، أجمع أهل التأويل على أن المراد بآية وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ النهي أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي.
6- عقوبة القتل وأكل المال بالباطل: دلت آية: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ..
على تحريم قتل النفس لأنه أقرب مذكور، وربما دل على تحريم كل ما سبق من أكل المال بالباطل وقتل النفس لأن النهي عنهما جاء عقبهما، ثم ورد الوعيد بحسب النهي. وقيل: هو عام على كل ما نهي عنه من القضايا، من أول السورة إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. وقال الطبري: ذلِكَ عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [الآية 19] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد، إلا قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ.. فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً.
جزاء اجتناب الكبائر
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)(5/37)
الإعراب:
مُدْخَلًا مصدر أدخل، ومن قرأ بالفتح جعله مصدر دخل. ويجوز أن يكون مُدْخَلًا اسم المكان المدخول، والمراد به هاهنا الجنة.
المفردات اللغوية:
تَجْتَنِبُوا تتركوا الشيء جانبا، واجتناب الشيء: تركه والابتعاد عنه، كأنه ترك جانبه وناحيته كَبائِرَ جمع كبيرة: وهي المعصية العظيمة: وهي التي ورد عليها وعيد أو حد في القرآن أو السنة كالقتل والزنى والسرقة، وهي سبعون كبيرة كما في كتاب الكبائر للذهبي، وعن ابن عباس: هي إلى السبعمائة نُكَفِّرْ نغفر ونمح سَيِّئاتِكُمْ صغائركم، وغفرانها ومحوها بالطاعات مُدْخَلًا كَرِيماً بضم الميم: إدخالا، وبفتحها: موضعا أو مكانا كريما أي طيبا وهو الجنة.
المناسبة:
نهى الله سبحانه وتعالى فيما سبق عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس بغير حق، وتوعد على ذلك بنار جهنم، ثم نهى في هذه الآية نهيا عاما عن كل كبيرة، ووعد الممتثل بالجنة.
التفسير والبيان:
إن اجتنبتم وابتعدتم عن كبائر الآثام التي نهيتم عنها، كفّرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة.
ما المقصود بالكبائر والصغائر؟
اتفق جمهور العلماء على أن الذنوب نوعان: كبائر وصغائر.
والكبائر: هي كل معصية اقترنت بالوعيد الشديد أو أوجبت الحد.
وقيل: إنها سبع
لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،(5/38)
والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
ورويت روايات أخرى تجعل من الكبائر عقوق الوالدين، وشهادة الزور لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، وليس ذلك للحصر.
وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: أكثر، فقد روى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب. وروى سعيد بن جبير أنه قال: إلى السبعمائة أقرب.
أما الصغائر أو السيئات: فهي التي لم تقترن بوعيد شديد أو بحدّ، كالنظر إلى المرأة الأجنبية والقبلة. وتصبح الصغائر مع الإصرار والاستهتار كبائر، فتطفيف الكيل والميزان، والهمز واللمز (الطعن في كرامات الناس) لمن أصرّ عليه، كبيرة.
واجتناب الكبائر يكفّر الصغائر بشرطين: أولا- إذا كان الاجتناب مع القدرة والإرادة، كمن يأبى معاشرة امرأة دعته إلى نفسها، خوفا من الله، لا لشيء آخر. وثانيا- مع إقامة الفرائض،
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»
فمن اجتنب ترك الصلاة واجتنب الكبائر، كفرت سيئاته الصغائر، فدل الحديث على أن ترك إقامة الصلاة من الكبائر.
ويمكن تكفير المعاصي التي تحدث عن جهل أو لظرف طارئ كثورة أو غضب بالندم والتوبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جمهور الفقهاء والمفسرين.(5/39)
ودلت أيضا على أن الله تعالى يغفر الصغائر كاللمسة والنظرة باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض، كما بينت في تفسير الآية. عن قتادة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ: إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وذكر لنا
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا الكبائر، وسددوا، وأبشروا» .
ورأى الأصوليون: أنه لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن، وقوة الرّجاء، وكون المشيئة الإلهية ثابتة.
والكبيرة كما قال ابن عباس: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر: ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، وتصديقه قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ.
وقال طاوس: قيل لابن عباس كما تقدم: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟
قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
ومن أمثلة الكبائر: الشرك بالله، والكفر بآيات الله ورسله، والسحر، وقتل الأولاد، ومن ادعى لله ولدا أو صاحبة، وقتل النفس بغير الحق، والزنى، واللواطة، والقمار، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف، وأكل الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمدا، وسب أصحابه،(5/40)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
وشهادة الزور، وسب الإنسان أبويه، وكتمان الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.
قال ابن مسعود: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا:
قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية.
وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الآية.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية.
النهي عن التمني (الحسد) وسؤال الله تعالى من فضله
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
الإعراب:
وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ مفعوله محذوف لإفادة العموم، أي واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر.(5/41)
البلاغة:
يوجد إطناب في قوله: نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا.. ونَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.
مِمَّا اكْتَسَبُوا فيه استعارة تبعية، شبه استحقاقهم للإرث وتملكهم له بالاكتساب، واشتق من لفظ الاكتساب: اكتسبوا. وهذا على رأي ابن عباس أن المراد بذلك الميراث.
المفردات اللغوية:
وَلا تَتَمَنَّوْا التمني: طلب حصول الأمر المرغوب فيه، مما يعلم أو يظن أنه لا يكون.
ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ حظ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن. مِنْ فَضْلِهِ أي إحسانه ونعمه، فإذا سألتم ما احتجتم إليه يعطكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومنه محل الفضل وسؤالكم.
سبب النزول:
روى الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لها نصف الميراث، فأنزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وأنزل فيها: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت امرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في العمل هكذا؟ إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله:
وَلا تَتَمَنَّوْا الآية.
المناسبة:
ينهى الله المؤمنين عن بعض أفعال القلوب وهو الحسد، ليطهر باطنهم، بعد أن نهاهم عن أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس، وهما من أفعال الجوارح الظاهرة، ليطهر ظاهرهم. ولما فضل الله الرجال في الميراث، جاءت هذه الآية(5/42)
تنهى عن تمني ما خص الله به كلا من الجنسين لأنه سبب للحسد والبغضاء.
التفسير والبيان:
ينهى الله المؤمنين عن التحاسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى 42/ 27] فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له، علما بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يجوز له أن يحسد أخاه على حظه.
وظاهر الآية يدل على أنه ليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر من المال والجاه وكل ما فيه تنافس، فإن التفاضل قسمة صادرة من حكيم خبير كما قال الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف 42/ 32] . قال ابن عباس: لا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلأن من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي، فإن ذلك يكون حسدا، ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله، أي أن الحسد ممنوع والغبطة جائزة.
فعلى كل إنسان أن يرضى بما قسم الله له، ولا يحسد غيره لأن الحسد أشبه شيء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه.
وقدر بعضهم محذوفا في الكلام فقال: ولا تتمنوا مثل ما فضل الله به بعضكم على بعض لأنه ليس المقصود طلب زوال النعمة عن الغير، وإنما هو طلب نعمة خاصة أن تكون له. وعلى هذا يكون تمني مثل ما للغير منهيا عنه لأنه قد يكون ذريعة إلى الحسد، فليس للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، ولا ولدا مثل ولده، بل يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي.(5/43)
والتأويل الأول أولى
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنّ أحد مال أخيه، ولكن ليقل:
اللهم ارزقني، اللهم أعطني مثله» .
وفي الجملة: ينهى الله تعالى كل إنسان أن يتمنى ما فضل الله به غيره، بل الواجب عليه أن يعمل ما في جهده ويجد ويجتهد، وحينئذ يكون التفاضل بالأعمال الكسبية، ولكل من الرجال والنساء ثمرة مكاسبهم، والله تعالى جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسبا له، وما كان خاصا بالرجال من الأعمال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال.
أي أن الثواب على العمل بحسب ما يتناسب مع طبيعة كل من الرجل والمرأة. وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة.
ثم أراد الله تعالى توجيه الأنظار إلى مصدر الفضل والإحسان والإنعام، فقال: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي أسألوا الله ما شئتم من الإحسان والإنعام، فإنه تعالى يعطيكموه إن شاء، وخزائنه ملأى لا تنفد، فلا تتمنوا نصيب غيركم، ولا تحسدوا أحدا، ولا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض لأن التمني لا يجدي شيئا.
روى الترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا الله من فضله، فإن الله يجب أن يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج»
وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» .
ومعنى قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أنه تعالى عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وبمن يستحق الآخرة فيقيّضه(5/44)
لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه. ولذلك فضل بعض الناس على بعض بحسب استعدادهم وتفاوت درجاتهم. والتفاوت يشمل الناحية الجسدية (الخلقية) والناحية الأدبية كالعلم والجاه مثلا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- نهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني، لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل. والمراد النهي عن الحسد: وهو تمني زوال نعمة الغير، وصيرورتها إليه أو لا تصير إليه. أما الغبطة: وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه، وإن لم يتمن زوال حاله، فهي جائزة في رأي الجمهور، وهي المراد عند بعضهم في
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري وغيره: «لا حسد إلا في اثنتين:
رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»
فمعنى قوله: «لا حسد» أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين. وقد نبّه البخاري على هذا المعنى، حيث بوّب لهذا الحديث «باب الاغتباط في العلم والحكمة» . قال المهلّب: بيّن الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنّيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها، أما التمني في الأعمال الصالحة فذلك جائز.
والخلاصة: التمني مقرون عادة بالكسل، ولا يتمنى إلا ضعيف الهمة، وضعيف الإيمان. والتمني المنهي عنه في الآية: هو الحسد: وهو أن يتمنى الشخص حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أولا، وهو الذي ذمّه الله تعالى بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 54] .
2- المساواة بين الرجال والنساء في ثمرات الأعمال: للرجال ثواب وعقاب(5/45)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
وحق في الميراث، وللنساء مثل ذلك، فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها، كما للرجال، ولها الحق أيضا في الميراث مثل الرجال على قول ابن عباس، فإنه قال:
المراد بالاكتساب هو الميراث، بمعنى الإصابة.
3- الأمر بالسؤال لله تعالى واجب: إن سؤال الله من فضله في الدين والدنيا أمر واجب شرعا، لقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
وللحديث المتقدم: «سلوا الله من فضله» .
قال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي.
إعطاء كل وارث حقه من التركة
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
الإعراب:
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي، فحذف المضاف إليه، وهو في تقدير الإثبات، ولولا ذلك لكان مبنيا كما بني: «قبل وبعد» لما اقتطعا عن الإضافة. وقيل:
التقدير: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي وارثا له.
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ جملة مستقلة عن سابقتها مؤلفة من مبتدأ وخبر.
وزيدت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
المفردات اللغوية:
مَوالِيَ عصبة أو ورثة يعطون، وهو جمع مولى: وهو من يحق له الاستيلاء على التركة مِمَّا تَرَكَ أي مما ترك المورث لورثته من المال. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أي الحلفاء الذين(5/46)
عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فآتوهم الآن حظوظهم من الميراث وهو السدس. وقيل:
المراد بهم الأزواج. وعلى القول الأول يكون الحكم منسوخا بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال 8/ 75] . شَهِيداً مطلعا.
سبب النزول:
قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أخرج أبو داود في سننه عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر، فقرأت: «والذين عاقدت أيمانكم» فقالت: لا، ولكن وَالَّذِينَ عَقَدَتْ وإنما نزلت في أبي بكر وابنه حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما أسلم أمر أن يؤتيه نصيبه.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ: قال سعيد بن المسيب: نزلت هذه الآية:
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورّثونهم، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية، ورد الله تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة، ومنع تعالى أن يجعل للمدعين ميراث من ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية.
المناسبة:
هذه الآية متعلقة بالمال، الذي نهى الله فيما سبق عن أكله بالباطل، وعن التمني أو الحسد فيه، والآية السابقة قررت قاعدة عامة في حيازة الثروة وهي الكسب، وهذه الآية قررت نوعا آخر من الحيازة وهو الإرث.
التفسير والبيان:
ولكل من الرجال والنساء جعلنا موالي، أي ورثة أو عصبة يأخذون مما ترك الوالدان والأقربون من ميراثهم له.
والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم قبل الإسلام بقول: «ترثني(5/47)
وأرثك» فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك بآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.
وكان التوارث أيضا بعد الهجرة بسبب المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم، ثم نسخ ذلك بآية: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ.
أي أن التوارث بالحلف والولاء، وبالمؤاخاة، أصبح منسوخا، واعلموا أن الله كان ولا يزال مطلعا على كل شيء تفعلونه، فيجازيكم عليه يوم القيامة، والله شهد معاقدتكم إياهم، وهو عز وجل يحب الوفاء.
آراء المفسرين في تأويل: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ:
اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية على أقوال أربعة هي ما يلي:
1- ولكل إنسان موروث جعلنا وارثا من المال الذي ترك. وبه تم الكلام. وأما قوله تعالى: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فهو جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون.
2- ولكل إنسان وارث ممن تركهم الوالدان والأقربون جعلنا موروثين.
والجار والمجرور في قوله مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف صفة للمضاف إليه، ومِمَّا بمعنى «من» والكلام جملة واحدة.
3- ولكل قوم جعلناهم ورّاثا نصيب مما تركه والدوهم وأقربوهم. فيكون في الكلام مبتدأ محذوف. ويكون قوله: مِمَّا تَرَكَ صفة للمبتدأ، وقوله:
لِكُلٍّ خبره، والكلام جملة واحدة.(5/48)
4- ولكل مال من الأموال التي تركها الوالدان والأقربون، جعلنا ورّاثا يلونه ويحوزونه. وعليه يكون لِكُلٍّ متعلقا بجعلنا، ومما ترك: صفة المضاف إليه، والكلام جملة واحدة أيضا. وهذا هو المختار.
آراء المفسرين في تأويل: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ:
الراجح أن هذه جملة مستقلة عن سابقتها وتأويلها على وجوه هي ما يلي:
1- المراد بالذين عقدت: «الحلفاء» وهم موالي الموالاة، وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك «1» ، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، ثم نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال 8/ 75] .
2- المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبني، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ بآية الأنفال.
3- المراد بهم إخوان المؤاخاة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤاخي بين الرجلين من أصحابه، وتكون المؤاخاة سببا في التوارث، ثم نسخ ذلك بآية الأنفال.
4- المراد بهم- في رأي أبي مسلم الأصفهاني- الأزواج، والنكاح يسمى عقدا.
5- المراد بهم- في رأي الجبائي- الحلفاء، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ معطوف على الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل شيء مما ترك الوالدان
__________
(1) أي نحن شيء واحد في النصرة، تغضبون لنا ونغضب لكم.(5/49)
والأقربون والذين عقدت أيمانكم موالي أي وارثا، فآتوا الموالي نصيبهم، ولا تدفعوا المال إلى الحليف.
6- المراد بهم الحلفاء يؤتون نصيبهم من النصرة والنصح وحسن العشرة والوصية، أي لهم حق في الوصية لا في الميراث، وهو مروي عن ابن عباس «1» .
والظاهر هو الرأي الأول وما في معناه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآية أن لكل إنسان ورثة وموالي، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث، ولا يتمنّ مال غيره.
وأوضحت أيضا وجوب الوفاء بالعقد أو العهد، فعلى الذين كانوا متحالفين في الجاهلية على التوارث أن يوفوا بالتزامهم، ويعطوا الحليف نصيبه من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك، والناسخ في رأي جمهور السلف لقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ هو قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.
وهناك قول آخر عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز وجل الذين تبنّوا غير أبنائهم في الجاهلية، وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى ذوي الرّحم والعصبة.
وذكر الطبري والبخاري عن ابن عباس: أن قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ محكم غير منسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة والوصية وما أشبه ذلك. أما الميراث فقد ذهب.
والخلاصة: تقسم التركة بين الورثة على النحو الذي بينه الله تعالى في سورة
__________
(1) مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس: 2/ 93- 94(5/50)
النساء (11، 12، 176) وهم الأقارب من ذوي الفروض والعصبات وهم الأصول والفروع والحواشي والأزواج، أما غيرهم فقد زال حكم توريثهم، ولا مانع من الإيصاء لهم بشيء من المال، سواء أكانوا حلفاء في الجاهلية، أم إخوة متآخين بعد الهجرة، أم أبناء بالتبني (أدعياء) .
واحتج الحنفية بآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على توريث مولى الموالاة، فهي تدل على النصيب الثابت له المسمى في عقد المحالفة. وقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ لم ينسخ هذا الحكم، وإنما أولو الأرحام أولى من الحليف، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة، فالميراث للحليف الذي حالفه الشخص وجعله وارثا له. واحتجوا أيضا
بما روي عن تميم الداري أنه قال: «يا رسول الله، ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته»
أي أولاهم بميراثه.
وقال الجمهور: ميراث مولى الموالاة للمسلمين. وهو: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده، ثم مات ولا وارث له غيره، لأن دلالة الآية على أن الحليف يرث متوقف على ثلاثة أمور: أن يكون المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء، وأن يكون المراد بالنصيب النصيب في الميراث، وأن تكون الآية محكمة غير منسوخة، والمفسرون مختلفون في كل ذلك كما تقدم. وحديث تميم الداري ليس نصا في الميراث فإنه يحتمل أنه أولى بمعونته وحفظه في محياه ومماته، ومع ذلك فهو معارض
بما أخرجه مسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» «1» .
فإذا كان الحديثان متعارضين والآية محتملة لعدة أوجه فالأولى الرجوع إلى ما قاله السلف كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أن الآية منسوخة بآية الأنفال.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 489، أحكام الجصاص: 2/ 187(5/51)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
قوامة الرجال على النساء وطرق تسوية النزاع بين الزوجين
[سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
الإعراب:
بِما حَفِظَ اللَّهُ: ما: إما مصدرية وتقديره: بحفظ الله لهن، وإما بمعنى الذي، أي الشيء الذي حفظ الله.
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ قيل: معناه: من أجل تخلفهن عن المضاجعة معكم، كما تقول:
هجرته في الله. أي: من أجل الله، فلا يكون فِي الْمَضاجِعِ ظرفا للهجران، لأنهن يردن ذلك. ولا يمتنع أن يكون ظرفا له، لأن النشوز يكون بترك المضاجعة وغيرها. وقال الزمخشري:
«في المضاجع» : في المراقد أي التي لا تداخلوهن تحت اللحف، أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع، وقيل: لا تبايتوهن في بيوتهن التي يبتن فيها.
البلاغة:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ كناية عن الجماع.
الرِّجالُ قَوَّامُونَ صيغة مبالغة، ومجيء الجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار.
يوجد جناس اشتقاق في حافِظاتٌ.. بِما حَفِظَ. ويوجد إطناب في حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها.(5/52)
المفردات اللغوية:
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن ويتسلطون عليهن بحق، ويؤدبونهن ويأخذون على أيديهن، أي أن القوامة تعني الرئاسة وتسيير شؤون الأسرة والمنزل، وليس من لوازمها التسلط بالباطل.
بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك.
قانِتاتٌ مطيعات للأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي يحفظن ما يغيب ويستتر من أمور الزوجية، فيحفظن فروجهن، وما يقال في الخلوة بالمرأة.
تَخافُونَ تظنون نُشُوزَهُنَّ عصيانهن لكم وترفعهن على الزوج، بظهور أمارة أو قرينة.
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز.
وَاضْرِبُوهُنَّ ضربا غير مبرّح إن لم يرجعن بالهجران فَلا تَبْغُوا تطلبوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا طريقا إلى ضربهن ظلما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن.
وَإِنْ خِفْتُمْ علمتم. شِقاقَ نزاع وخصام أو خلاف، كأن كلّا منهما في شقّ وجانب.
بَيْنِهِما بين الزوجين. فَابْعَثُوا إليهما برضاهما. حَكَماً رجلا عدلا محكما. مِنْ أَهْلِهِ أقاربه. وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أقاربها. ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتوكل هي حكمها في الفرقة. إِنْ يُرِيدا أي الحكمان. بَيْنِهِما بين الزوجين، أي يقدرهما الله على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق. عَلِيماً بكل شيء. خَبِيراً ببواطن الأمور وظواهرها.
سبب النزول:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: جاءت امرأة إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
القصاص، فأنزل الله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية
، فرجعت بغير قصاص.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعد بن الرّبيع، وكان من النّقباء (نقباء(5/53)
الأنصار) وامرأته حبيبة بنت زيد بن أبي هريرة، وهما من الأنصار، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها،
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: لتقتصّ من زوجها، وانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا، هذا جبريل عليه السّلام أتاني، وأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير، ورفع القصاص.
المناسبة:
ذكر الله تعالى هنا سبب تفضيل الرجال على النساء، بعد أن بيّن نصيب كلّ واحد في الميراث، ونهى عن تمني الرّجال والنّساء ما فضل الله به بعضهم على بعض.
التفسير والبيان:
الرّجل قيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجّت، وهو القائم عليها بالحماية والرعاية، فعليه الجهاد دونها، وله من الميراث ضعف نصيبها، لأنه هو المكلّف بالنّفقة عليها.
وسبب القوامة أمران:
الأول- وجود مقوّمات جسدية خلقية: وهو أنه كامل الخلقة، قوي الإدراك، قوي العقل، معتدل العاطفة، سليم البنية، فكان الرجل مفضلا على المرأة في العقل والرأي والعزم والقوة، لذا خصّ الرّجال بالرّسالة والنّبوة والإمامة الكبرى والقضاء وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة والجهاد، وجعل الطلاق بيدهم، وأباح لهم تعدد الزوجات، وخصهم بالشهادة في الجنايات والحدود، وزيادة النصيب في الميراث، والتعصيب.(5/54)
الثاني- وجوب الإنفاق على الزوجة والقريبة، وإلزامه بالمهر على أنه رمز لتكريم المرأة.
وفيما عدا ذلك يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وهذا من محاسن الإسلام، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة 2/ 228] أي في إدارة البيت والإشراف على شؤون الأسرة، والإرشاد والمراقبة، وذلك كله غرم يتناسب مع قدرات الرّجل على تحمل المسؤوليات وأعباء الحياة. وأما المرأة فلها ذمة مالية مستقلة وحرية تامة في أموالها.
ثم أبان الله تعالى حالتي النساء في الحياة الزوجية: إما طائعة وإما ناشزة.
الأولى- الصالحات:
وهنّ القانتات الطائعات ربّهن وأزواجهنّ، الحافظات حال الغيبة أنفسهنّ وعفتهنّ ومال أزواجهنّ وأولادهن وحال الخلوة مع الزوج، وفي حضور الزوج أحفظ.
وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بسبب أمر الله بحفظه، فالله أمرهنّ أن يطعن أزواجهنّ ويحفظنهم في مقابلة ما حفظه الله لهنّ من حقوق قبل الأزواج من مهر ونفقة ومعاشرة بالمعروف، أي أن هذا بذاك. وقد وعدهنّ الله الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنّ بالعقاب الشديد على التفريط به.
أخرج البيهقي وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء: امرأة إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى قوله تعالى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ» .
وفي الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين عن أبي هريرة: «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» .(5/55)
الثانية- الناشزات:
وهنّ اللاتي تظنون أو تعلمون منهنّ التّرفع عن حدود الزوجية وحقوقها وواجباتها، وهؤلاء يتبع الزوج معهنّ المراحل الأربع التالية:
1- الوعظ والإرشاد إذا أثّر في نفوسهنّ:
بأن يقول الرّجل للزّوجة: اتّقي الله، فإن لي عليك حقّا، وارجعي عمّا أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك بما يناسبها من تخويف بالله، وتهديد بعقاب الله، وتحذير من سوء العاقبة والمصير والحرمان من نعمة الحياة الزوجية السعيدة. وهذا إنذار وتذكير قد يردها عما عليه من نشوز.
2- الهجر والإعراض في المضجع (المرقد) :
وهو كناية عن ترك الجماع، أو عدم المبيت معها في فراش واحد، ولا يحلّ هجر الكلام أكثر من ثلاثة أيام. وهذا أشد شيء في إيحاش المرأة وجعلها تتبصّر في أمرها وتفكّر في فعلها. قال ابن عباس: إذا أطاعته في المضجع، فليس له أن يضربها.
3- الضرب غير المبرّح:
أي المؤذي إيذاء شديدا كالضّرب الخفيف باليد على الكتف ثلاث مرات، أو بالسواك أو بعود خفيف لأن المقصود منه الصلاح لا غير.
أخرج الجصاص عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال: «اتّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهنّ ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف» . وروى ابن جرير الطّبري نحوه.(5/56)
وروى ابن جريج عن عطاء قال: الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه.
ومثله عن ابن عباس. وقال قتادة: ضربا غير شائن «1» .
وإذا تجاوز الرجل المشروع فأدى الضرب إلى الهلاك وجب الضمان، كما يجب على المعلم الضمان في ضربه غلامه لتعلم القرآن والأدب.
وينبغي ألا يوالي الرّجل الضرب في محل واحد، وأن يتّقي الوجه، فإنه مجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا بعصا، وأن يراعي التخفيف لأن المقصود هو الزّجر والتأديب لا الإيلام والإيذاء، كما يفعل بعض الجهلة.
ومع أن الضرب مباح فإن العلماء اتّفقوا على أن تركه أفضل.
أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصّدّيق رضي الله عنه قالت: كان الرّجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكونهنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخلى بينهم وبين ضربهنّ، ثم قال: ولن يضرب خياركم.
وقال عمر رضي الله عنه: ولا تجدون أولئكم خياركم.
فدلّ الحديث والأثر على أن الأولى ترك الضرب، بدليل الأمر القرآني بالإحسان في المعاملة: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] ، ويؤيده
حديث آخر: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد، ثم يضاجعها في آخر اليوم؟!» .
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا، أي إذا تحققت طاعتهنّ حينئذ فلا تطلبوا سبيلا آخر إلى التعدي عليهنّ ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيره، أو فلا تظلموهنّ بطريق آخر فيه تعذيب وإيذاء.
إن الله كان وما يزال عليّا كبيرا، أي أنه تعالى قاهر كبير قدير ينتصف لهنّ ويستوفي حقهنّ، فلا تغترّوا بقوّتكم أو علوّكم أو درجتكم. وهذا تهديد للأزواج على
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 189(5/57)
ظلم النساء. وقيل: المقصود منه حثّ الأزواج على قبول توبة النساء، فإذا كان المتعالي المتكبّر يقبل توبة العاصي، فأنتم أولى بأن تقبلوا توبة المرأة.
وهل العقوبات السابقة مشروعة على الترتيب أو لا؟
يرى بعضهم أن هذه العقوبات مشروعة في مجموعها، دون ترتيب بينها لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
وذهب آخرون إلى أن ظاهر اللفظ، وإن دلّ على مطلق الجمع، فإن فحوى الآية يدلّ على الترتيب لأن الواو داخلة على جزاءات متفاوتة في القوة، متدرجة من الضعيف إلى القوي، إلى الأقوى: الوعظ، فالهجران، فالضرب، وذلك جار مجرى التصريح بالتزام التدرّج. وهذا مروي عن علي رضي الله عنه.
4- التحكيم:
خاطب الله الحكام والزوجين وأقاربهما في هذه المرحلة، فقال: إن علمتم بوجود الخلاف أو النزاع والعداوة بين الزوجين فابعثوا حكمين: أحدهما من أهله، والآخر من أهلها، للسعي في إصلاح ذات بينهما بعد استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، ومعرفة سبب الخلاف، ومتى صدقت الإرادة وأخلص الحكمان النّيّة والنّصح لوجه الله، فالله يوفقهما بمهمتهما ويهدي إلى الخير، ويحقق الوفاق والتفاهم والعودة إلى التوادد والتراحم والألفة بين الزوجين ويبارك وساطتهما.
فمعنى قوله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً أي الحكمان، ويُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما أي الزوجين.
إن الله كان وما يزال عليما خبيرا: يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين، كما قال: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال 8/ 63] .(5/58)
وهل الأمر في قوله تعالى: فَابْعَثُوا للوجوب أو للندب والاستحباب؟ قال الشافعي: الأمر للوجوب لأنه من باب رفع الظلامات، وهو من الفروض العامة والمتأكدة على القاضي، وهو ظاهر الأمر.
أما كون الحكمين من أقارب الزوجين فهو على وجه الاستحباب، ويجوز كونهما من الأجانب لأن مهمتهما وهي استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين وإجراء الصلح بينهما والشهادة على الظالم منهما، تتحقق بالأجنبي، كما تتحقق بالقريب، لكن الأولى كونهما من أهل الزوجين، حفاظا على أسرار الحياة الزوجية، ومنعا من التشهير بالسمعة، ولأن الأقارب أعرف بحال الزوجين من الأجانب، وأشدّ حرصا على الإصلاح، وأبعد عن الميل إلى أحد الزوجين، وأقرب إلى اطمئنان النفس إليهم.
وأما مهمة الحكمين: فهي في رأي الإمام مالك والشعبي وهو رأي علي وابن عباس الجمع والتفريق بين الزوجين، وإلزامهما بذلك بدون إذنهما، يفعلان ما فيه المصلحة من تطليق أو افتداء المرأة بشيء من مالها. ولا يملكان أكثر من طلقة واحدة بائنة. قال ابن العربي في قوله تعالى: حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها: هذا نصّ من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان «1» .
ورأى الشافعية والحنابلة: أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين، فهما عندهم وكيلان للزوجين.
وقال الحنفية: يرفع الحكمان ما يريدانه إلى القاضي، وهو الذي يطلّق طلاقا بائنا، بناء على تقريرهما، فليس للحكمين التفريق إلا أن يفوضا فيه.
ويكون رأي الحنفية كالشافعية والحنابلة.
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 424(5/59)
وليس في الآية ما يرجّح أحد الرّأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلّ من الرّأيين، فالرّأي الأول يدلّ عليه تسمية كلّ منهما حكما والحكم هو الحاكم، والحاكم متمكن من الحكم. والرأي الثاني يدلّ عليه أنه تعالى لم يفوّض إليهما إلا الإصلاح، وما عدا ذلك غير مفوض إليهما. وبما أن المسألة اجتهادية فالقياس يقتضي ترجيح الرّأي الثاني لأن الزوجين غير مجبرين على شيء من طلاق أو افتداء قبل التحكيم، فلا يجبرهما الحكم على شيء بعد التّحكيم، ويكون كلّ من إيقاع الرّجل الطّلاق، وبذل المال من الزوجة منوطا برضاهما. فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم شيء إلا ما اتّفقا عليه. ويجوز للزوجين تحكيم شخص واحد، وينفذ حكمه لرضاهما مسبقا به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يلي:
1- إثبات القوامة في الأسرة للرجل، وتفضيل الرجل على المرأة في المنزلة والشرف.
2- العجز عن النفقة يسقط القوامة للرجل، ويمنح المرأة الحق في فسخ العقد، لزوال المقصود الذي شرع لأجله الزواج، للآية: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. وفي قوله تعالى هذا أيضا دلالة واضحة على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يفسخ لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة 2/ 280] .
3- للزوج الحق في تأديب زوجته ومنعها من الخروج، وعلى الزوجة بقوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ طاعة الزوج في غير معصية(5/60)
الله، والقيام بحقّه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج،
وفي الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» .
4- للزوج حق الحجر على زوجته في مالها، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأن الله تعالى جعله قواما عليها- بصيغة المبالغة، والقوّام: الناظر على الشيء الحافظ له. وبهذا أخذ المالكية.
5- وجوب النفقة على الزوج لزوجته.
6- مشروعية وسائل تسوية النزاع بين الزوجين: وهي الوعظ والإرشاد، ثم الهجر في المضاجع (عدم المبيت في فراش الزوجية) ، ثم الضرب غير المبرّح (غير المؤذي: وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين عضوا، كاللّكزة ونحوها) ثم التحكيم بإرسال حكمين إما من الأقارب وإما من الأجانب. ولم يذكر الله تعالى إلا الإصلاح في مهمة الحكمين: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ولم يذكر التفريق إشارة إلى الحرص على الإصلاح دون التفريق المؤدي إلى خراب البيوت.
7- الامتناع عن الظلم: دلّ قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي تركوا النشوز فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا على تحريم ظلم الرجل للمرأة، أي لا تجنوا عليهنّ بقول أو فعل، وهو نهي عن ظلمهنّ بعد التزام أدبهنّ.
8- تواضع الرجل ولينه: دلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً على إرشاد الأزواج إلى خفض الجناح ولين الجانب أي إن كنتم تقدرون عليهنّ فتذكروا قدرة الله، فقدرته فوق كل قدرة، وهو بالمرصاد لكلّ أحد يستعلي على امرأته ويذلّها أو يهينها بغير حقّ.
ويلاحظ أن الله عزّ وجلّ لم يأمر في شيء بالضرب صراحة إلا هنا وفي الحدود الشديدة، فجعل معصية المرأة من الكبائر، وولّى الأزواج صلاحية(5/61)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
التأديب دون الأئمة والحكام، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بيّنات، ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء.
أخلاق القرآن عبادة الله وحده والإحسان للوالدين والأقارب والجيران والتحذير من الإنفاق رياء
[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
الإعراب:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ في موضع نصب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ.(5/62)
رِئاءَ النَّاسِ إما أنه منصوب مفعول لأجله تقديره: لرئاء الناس، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه، وإما أنه منصوب لأنه مصدر في موضع الحال من الَّذِينَ غير داخلة في صلته.
البلاغة:
يوجد إطناب في قوله: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ.
مُخْتالًا فَخُوراً تعريض بذم الكبر المؤدي إلى احتقار الناس.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فيه الحذف، وتقدير المحذوف: أحسنوا إلى الوالدين إحسانا.
المفردات اللغوية:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ العبادة: الخضوع لله والاستسلام له سرّا وعلنا، باطنا وظاهرا مع الإخلاص. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا لهما، والإحسان للوالدين: البرّ بهما بخدمتهما وتحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما عند الحاجة وبقدر الاستطاعة، ولين الجانب والكلام معهما.
وَبِذِي الْقُرْبى صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولادهم. وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الجار القريب الجوار أو النسب. وَالْجارِ الْجُنُبِ: هو البعيد عنك في الجوار أو النسب. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: الرفيق في السفر أو الصناعة، وكل صاحب ولو وقتا قصيرا. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره: المسافر أو الضيف. ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء (الأرقاء) . مُخْتالًا هو ذو الخيلاء والكبر. فَخُوراً هو الذي يتفاخر على الناس بتعداد محاسنه تعاظما وتعاليا.
أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا. مُهِيناً ذا إهانة وذلّ.
رِئاءَ النَّاسِ أي للمراءاة والسمعة. وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كالمنافقين وأهل مكة. قَرِيناً صاحبا وخليلا يعمل بأمره كهؤلاء. فَساءَ بئس. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ... المعنى أيّ ضرر عليهم في الإيمان والإنفاق، والاستفهام للإنكار، ولو: مصدرية، أي لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه.
سبب نزول الآية (37) :
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ الآية. وروي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود(5/63)
كانوا يأتون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزهّدونهم في نفقة أموالهم في الدين، ويخوفونهم الفقر، ويقولون لهم: لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في اليهود كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يبيّنوها للناس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم. وقال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته في كتابهم.
وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله: عَلِيماً نزلت في اليهود.
وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ.
المناسبة:
الآيات السابقة من أول السورة في تنظيم روابط الأسرة، كاختبار اليتامى، والحجر على السفهاء، وكيفية معاملة النساء بالإحسان مع رقابة الله، وناسب هنا التذكير ببعض الحقوق العامة وتقوية رابطة القرابة والجوار والصداقة وترشيد الإنفاق بأن يكون بإخلاص لله تعالى لا رياء وسمعة. وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة الله لأنها الأساس.
التفسير والبيان:
بعد أن أرشد الله تعالى الزوجين إلى المعاملة الحسنة وأمر الحكام بإزالة أسباب الخصومة، أرشد الناس جميعا إلى بعض خصال الخير والإحسان، ودلّهم على أنواع من الأخلاق الحسنة في معاملة بعضهم بعضا، وهي ثلاثة عشر نوعا بين مأمور به ومنهي عنه.(5/64)
1- عبادة الله وحده: العبادة: المبالغة في الخضوع لله تعالى، وذلك بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، سواء في أفعال القلوب أو أفعال الجوارح (الأعضاء) فإنه هو الخالق الرّازق المنعم المتفضّل على خلقه، لذا كان هو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته.
2- عدم الشرك به شيئا: والإشراك ضدّ التوحيد، وهو عطف خاص على عام.
ويذكر هذان الأمران عادة معا، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال:
«أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: أن لا يعذبهم» .
وقدم في هذه الآية ما يتعلق بحقه تعالى لأمرين:
الأول- العبادة والإخلاص أساس الدين، وبدونه لا يقبل الله من العبد عملا ما.
الثاني- الإيماء إلى أهمية الأمور الآتية بعدها، وإن تعلقت بحقوق العباد.
والإشراك أنواع مختلفة:
منها: ما ذكره الله تعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم وسطاء إلى الله فقال: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس 10/ 18] وقوله حكاية عنهم:
ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] .
ومنها: ما ذكره الله عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام،(5/65)
فقال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة 9/ 31] .
3- الإحسان إلى الوالدين: قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع كثيرة من القرآن، كهذه الآية، وآية: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] وآية: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان 31/ 14] .
وبر الوالدين: طاعتهما في معروف والقيام بخدمتهما، والسعي في تحصيل مطالبهما والبعد عن كل ما يؤذيهما لأنهما السبب الظاهر في وجود الأولاد، وتربيتهم بالرحمة والإخلاص. قال ابن العربي: بر الوالدين ركن من أركان الدين في المفروضات، وبرهما يكون في الأقوال والأعمال، أما في الأقوال فكما قال الله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء 17/ 23] فإن لهما حق الرحم المطلقة، وحق القرابة الخاصة «1» .
4- الإحسان إلى القرابة: وهو صلة الرحم كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهم، وذلك بمودتهم ومواساتهم، على نحو ما ذكر في أول السورة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [الآية 1] . وذلك يؤدي إلى ترابط الأسرة وتقوية معنوياتها وتساندها، فيقوى المجتمع، وتتقدم الدولة.
5- الإحسان إلى اليتامى: وصى الله تعالى بهذا في أول السورة وفي غيرها لأن اليتيم فقد الناصر والمعين وهو الأب. قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم، وإن كان وصيا فليبالغ في حفظ أموالهم.
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 428(5/66)
6- الإحسان إلى المساكين: وهم المحتاجون الذين لا يجدون ما يكفيهم، والإحسان إليهم بالتصدق عليهم أو بردهم ردا جميلا، كما قال تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى 93/ 10] . وهذا يحقق مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام.
7- الإحسان إلى الجار ذي القربى: وهو القريب في المكان أو بالنسب أو بالدين. والإحسان إلى الجيران يحقق مبدأ التعاون والتواصل والتوادد والشعور بالسعادة.
8- الإحسان إلى الجار الجنب: وهو الذي بعد جواره أو لم يكن ذا قرابة.
وقد حث الإسلام على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم،
فقد عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن جاره اليهودي
،
وذبح ابن عمر شاة، فجعل يقول لغلامه:
أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيما رواه البيهقي عن عائشة: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه»
وأخرج الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» .
وتحديد الجوار متروك إلى العرف، وحدده الحسن البصري بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة.
وإكرام الجار له مظاهر عديدة منها مواساته إن كان فقيرا، ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه، ومنها إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وزيارته وعيادته ونحو ذلك. قال ابن العربي: حرمة الجار عظيمة في الجاهلية والإسلام، معقولة، مشروعة مروءة وديانة «1» . ومن الإحسان إلى الجار
الحديث الصحيح في الموطأ: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» .
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 429(5/67)
9- الإحسان إلى الصاحب بالجنب: وهو الرفيق بنحو مؤقت، كالتعلم والسفر والصناعة، والجلوس في مسجد أو مجلس. وقيل عن علي: إنه الزوجة أو المرأة.
10- الإحسان إلى ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع عن ماله، أو الضيف.
والإحسان إليه بمساعدته للوصول إلى بلده أو غرضه.
11- الإحسان إلى ما ملكت أيمانكم: أي الأرقاء من العبيد والإماء. وقد أوصى النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم في مرض موته، في آخر وصاياه،
أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: الصلاة وما ملكت أيمانكم» .
وروى الشيخان عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه»
والإحسان إليهم يكون أيضا بإعتاقهم أو بمساعدتهم على تحرير رقابهم.
12، 13- تحريم الاختيال والتفاخر: المختال: هو المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأفعاله. والفخور: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله.
والمختال الفخور مبغوض عند الله لاحتقاره حقوق الناس وتشبهه بصفات الإله، وهو لا يعبد الله حقا إذ لا خشوع عنده، ولا يحسن إلى الوالدين والأقارب والجيران والأصدقاء.
ومعنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً أي أنه يعاقبه على خيلائه وفخره. وقد نهى الله تعالى عن الكبر والخيلاء في آية أخرى هي: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] .
وليس من الكبر: الوقار في غير غلظة، وعزة النفس مع الأدب، وتحسين(5/68)
البيت والمركوب والهيئة واللباس، بدليل
ما روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس «1» » .
ثم بيّن الله تعالى أوصاف المختال الفخور بقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أنه تعالى يذم الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجيران ونحوهم، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا، ويكتمون أفضال الله عليهم، فالبخيل جحود لنعمة الله ولا تظهر عليه آثارها في مأكل أو ملبس أو إعطاء وبذل، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات 100/ 6- 7] أي شهيد بحاله وشمائله.
وذم النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا البخل فقال: «وأي داء أدوأ من البخل؟»
وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «إياكم والشح، فإنه هلك من كان قبلكم بالبخل، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» .
ولكل هذه الخصال القبيحة في البخلاء توعدهم الله بالعقوبة بقوله:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ... عَذاباً أَلِيماً أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهينهم ويذلهم، إنه عذاب جامع بين الألم والذل، جزاء على فعلهم، وسماهم الله كفارا إشعارا بأن هذه أخلاق الكفار لا المؤمنين ولأن الكفر: هو الستر
__________
(1) بطر الحق: رده استخفافا وترفعا، وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم(5/69)
والتغطية، والبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمرو: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»
وفي الدعاء النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا» .
وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمانهم إياها، ولهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
وعلى كل حال: أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وهم من سبق، وفريق آخر ذكرهم القرآن بعدئذ وهم الذين ينفقون أموالهم مرائين الناس، أي يقصدون رؤية الناس لهم فيعظمونهم ويحمدونهم.
وبعد أن ذكر الله الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ذكر الباذلين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون به وجه الله، فيبذلون المال لا شكرا لله على نعمه، ولا اعترافا لعباده بحق. هؤلاء الذين قال الله عنهم: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ [النساء 4/ 38] .
جاء في الحديث الثابت: «الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار: وهم العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله: كذبت، إنما أردت أن يقال: جواد، فقد قيل»
أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا، وهو الذي أردت بفعلك.
وهؤلاء المراءون لا يؤمنون حقا بالله ولا باليوم الآخر، أي إنما حملهم على صنيعهم القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الصحيح: الشيطان، فإنه(5/70)
سوّل لهم وأملى لهم وحسّن لهم القبائح، ولأن المؤمن الحق لا ينفق رياء بل الله، ويعمل للباقي الدائم وهو يوم القيامة، وهؤلاء قرناء الشيطان الذي يوحي إليهم، ويعدهم بالفقر لو أنفقوا، ويأمرهم بالفحشاء والمنكر، ومن يكن الشيطان له قرينا، فبئس هذا القرين، أي أن الذي حملهم على ما فعلوا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والمعلم، فحالهم في الشر كحال الشيطان.
وفي هذا إيماء إلى ضرورة البعد عن قرين السوء، واختيار القرين الصالح.
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ والمعنى: وأي ضرر يلحقهم لو آمنوا حقيقة بالله، وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء المحقق للخلود والسعادة، وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره.
وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم إذ أنهم لو أخلصوا العمل وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص، والإيمان بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا فيما يحبه الله ويرضاه، لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة معا.
وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً أي هو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وخبير بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه للخير، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم، فيتخلى عنه، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل، ولن ينسى عمل العاملين المخلصين، وما على المؤمن إلا أن يجعل عمله خالصا لله، فهو الذي يراه ويتقبل منه، ويحاسبه على عمله.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات دستور التعامل بين الناس وربهم، وبين بعضهم بعضا. وهي من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وهي مقررة في جميع الكتب(5/71)
السماوية، ولو لم يكن كذلك لعرف حكمها من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب.
وهي مفتتحة بأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص في عبادته، وهي أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره، قال الله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف 18/ 110] .
وتنهى الآية عن ضد التوحيد وهو الشرك، وهو كما قال العلماء مراتب ثلاثة وكلها محرمة منكرة.
الأولى- اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
الثانية- اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل: وهو القول بأن موجودا غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، كالقدرية مجوس هذه الأمة. وقد تبرأ منهم ابن عمر.
الثالثة- الإشراك في العبادة وهو الرياء: وهو أن يفعل العبد شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهو الذي حرمته الآيات والأحاديث، وهو مبطل للأعمال، وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي.
روى ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» .(5/72)
وأمرت الآيات بالإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران الأقارب والأباعد، والأصحاب لوقت ما كرفيق الأسفار وجليس المجلس والصلاة، والمسافرين، والأرقاء المماليك، وقد سبق الكلام تفصيلا عنهم.
ونهت الآيات عن التكبر والخيلاء والتفاخر والتعاظم، والمختال: هو ذو الخيلاء المتكبر، والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا، والفخر: البذخ «1» والتطاول. وخص الله تعالى هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة والترفع من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية، فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم.
وذكر الله تعالى صفات المتكبرين المختالين، ومن أشنعها البخل وأمر الناس بالبخل، والبخل المذموم في الشرع: هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه، وهو مثل قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الآية [آل عمران 3/ 180] .
والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، والله لا يحب المختال الفخور أي يعاقبه، وأكّد ذلك بأنه تعالى أعد له عذابا مهينا.
ويرى القرطبي أنه تعالى توعد المؤمنين الباخلين بعدم المحبة، وتوعد الكافرين عذابا مهينا «2» .
والفريق الثاني من أهل الفخر هم الذين ينفقون أموالهم رياء، قال الجمهور:
نزلت في المنافقين، لقوله تعالى: رِئاءَ النَّاسِ والرئاء من النفاق. ونفقة الرئاء لا تجزئ، لقوله تعالى: قُلْ: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة 9/ 53] .
__________
(1) البذخ: الكبر. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 5/ 193(5/73)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
ثم وجّه الحق سبحانه وتعالى المنفقين رياء إلى ما هو الأصلح لهم وهو الإيمان الحق بالله (أي التصديق بواجب الوجود) واليوم الآخر، والإنفاق لوجه الله، فالله عليم بكل شيء، خبير بأحوال الناس، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل.
الترغيب في امتثال الأوامر والتحذير من المخالفة والعصيان
[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
الإعراب:
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً بالنصب خبر تكن الناقصة، وتقديره: وإن تكن الذرة حسنة، وقرئ بالرفع على أنها فاعل تكن التامة. وأصل (تك) : تكون بالرفع، إلا أنه حذفت الضمة للجزم، فبقيت النون ساكنة والواو ساكنة، فاجتمع ساكنان، وهما لا يجتمعان، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وكان حذف الواو أولى لأنها حرف معتل، والنون حرف صحيح، فبقي «تكن» فحذفت النون لكثرة الاستعمال. شَهِيداً حال منصوب من الضمير في بِكَ وهو الكاف، والتقدير: جئنا بك شهيدا على هؤلاء. يَوْمَئِذٍ في موضع نصب والعامل فيه يَوَدُّ وكذلك: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ في موضع نصب ب يَوَدُّ أيضا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً إما معطوف على تُسَوَّى فيكون داخلا في التمني، أي ودوا تسوية الأرض وكتمان الحديث من الله تعالى، وإما أن تكون الواو فيه واو الحال، والجملة حالية.(5/74)
البلاغة:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا السؤال عن المعلوم لتقريع السامع وتوبيخه.
المفردات اللغوية:
لا يَظْلِمُ الظلم: النقص وتجاوز الحد، أي لا ينقص أحدا من حسناته ولا يزيد في سيئاته. مِثْقالَ أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره (المثقال العجمي: 80، 4 غم) والمراد به هنا وزن ذَرَّةٍ أصغر ما يدرك من الأجسام، والذرة في العلم الحديث: الجزء الذي لا يتجزأ، ومن الذرات: الهباء: وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من نافذة. يُضاعِفْها من عشر إلى أكثر من سبعمائة. مِنْ لَدُنْهُ من عنده.
بِشَهِيدٍ هو نبي الأمة. لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي لو أن تتسوى بهم الأرض بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم الهول، كما في آية أخرى: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مما عملوه، وفي وقت آخر يكذبون ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ والحديث: الكلام.
المناسبة:
موضوع هذه الآيات الترغيب من الله تعالى في امتثال المأمورات والتحذير من المنهيات الواردة في الآيات السابقة، ونظيرها قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7- 8] .
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة، بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] .(5/75)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: «فيقول الله عز وجل: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار»
وفي لفظ: «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار»
فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد:
اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ... الآية.
ومعنى الآية: أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله شيئا مهما قل، ولا يعاقب أحدا على شيء مهما كان بغير حق لأن الظلم نقص، والله تعالى متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقص.
فمن اقترف سيئة بعد أن زوده الله بالعقل والتقدير والميزان، كان هو الظالم لنفسه: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] .
ومع أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ولو مثقال ذرة، يضاعف ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أما السيئة فلا تضاعف، ويجزى بمثلها فقط، كما في آية أخرى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام 6/ 160] .
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي إنه تعالى لا يكتفي بمضاعفة حسنات المحسن، بل يعطيه أجرا من غير مقابل له من الأعمال، فهو واسع الفضل كثير الإحسان. والأجر العظيم: الجنة، نسأل الله الرضا والجنة.
وإذا كان هذا هو نظام الثواب، فيتعجب الخالق من بعض الناس قائلا:
فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشاهد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة 5/ 117] . وجئنا بك يا محمد على هؤلاء المكذبين شهيدا.
عن ابن(5/76)
مسعود «أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ قوله: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: حسبنا» .
وهذه الشهادة معناها: عرض أعمال الأمم على أنبيائهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها وكونها خاتمة أمم الوحي تكون شهيدة على الأمم السابقة، وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، والرسول صلّى الله عليه وسلّم بسيرته واستقامته يكون حجة على من ترك سننه.
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول أي يتمنون لو يدفنون، فتسوى بهم الأرض، كما تسوى بالموتى، وقيل: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، كما قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ 78/ 40] .
وهم لا يقدرون على كتمان كلام عن الله لأن جوارحهم تشهد عليهم، وقيل: الواو للحال، أي يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثا، ولا يكذبون في قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] لأنهم إذا قالوا ذلك، وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عندئذ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك، فلشدة الأمر عليهم يتمنون الدفن تحت التراب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- اتصاف الله بكل كمال، وتنزهه عن كل نقصان: فلا يبخس الناس ولا بنقصهم من ثواب أعمالهم وزن ذرة، بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها، والمراد من(5/77)
الكلام: أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس 10/ 44] .
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها» .
2- مضاعفة ثواب الحسنات ومنح الأجر العظيم وهو الجنة.
روى أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي حسنة، وتلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً.
قال عبيدة: قال أبو هريرة: وإذا قال الله أَجْراً عَظِيماً فمن الذي يقدّر قدره! وقد عرفنا أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس.
3- التعجيب الإلهي من أفعال الكفار يوم الحساب: هذا التعجيب حافز على فعل المأمورات، وإنذار على التقصير في فعل الحسنات والخيرات.
4- تمني الكفار أن يكونوا ترابا عند مصادمتهم بأعمالهم المنكرة، وتمنيهم أنهم لم يكتموا الله حديثا، لظهور كذبهم، ولأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه.
سئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثا.(5/78)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
تحريم الصلاة حال السكر وكون التيمم عند فقد الماء
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
الإعراب:
وَأَنْتُمْ سُكارى الواو واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر في موضع نصب على الحال بفعل: تَقْرَبُوا أي لا تقربوها في هذه الحالة. والدليل على أن الواو هاهنا واو الحال قوله تعالى:
وَلا جُنُباً أي ولا تصلوا جنبا إلا عابري سبيل، استثناه من قوله: «جنبا» . والمراد بعابري سبيل: المسافرين لأنه يجوز للجنب أن يتيمم في السفر عند عدم الماء.
وقيل: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد، ولا تقربوا منها جنبا إلا عابري سبيل، فيجوز للجنب العبور في المساجد عند الحاجة.
المفردات اللغوية:
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تصلوا. وَأَنْتُمْ سُكارى جمع سكران وهو من شرب الخمر جُنُباً من أصابته الجنابة بالجماع أو إنزال المني. والجنب: يطلق على المفرد وغيره. إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مجتازي طريق أي مسافرين. وقيل: المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة، أي المساجد إلا عبورها من غير مكث.
مِنَ الْغائِطِ المكان المنخفض من الأرض كالوادي، والمراد المكان المعد لقضاء الحاجة، وأهل البادية وبعض القرى يقضون حوائجهم في المنخفضات للستر عن أعين الناس. والقصد من قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط: أي أحدث. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ كناية عن الجماع في رأي(5/79)
ابن عباس، وفي رأي ابن عمر والشافعي: بمعنى اللمس وهو الجس باليد، وألحق به الجس بباقي البشرة.
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش في غير حال المرض.
فَتَيَمَّمُوا اقصدوا. صَعِيداً طَيِّباً ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين. والصعيد: وجه الأرض. عَفُوًّا ذا عفو وهو محو السيئة وجعلها كأن لم تكن. غَفُوراً ذا مغفرة، والمغفرة:
ستر الذنب بعدم الحساب عليه.
سبب النزول:
نزول آية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ: روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: «قل: يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون» فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. وروى ابن جرير عن علي أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن، وأن الصلاة صلاة المغرب، وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر.
نزول آية: فَتَيَمَّمُوا:
أخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: وَلا جُنُباً في المسافر تصيبه الجنابة، فيتيمم ويصلي.
وأخرج ابن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحّل ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، فخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله:
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الآية كلها.
وروى البخاري ومسلم من حديث مالك عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع(5/80)
عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء ... فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
وفي رواية: يرحمك الله يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا وجعل الله فيه للمسلمين فرجا.
قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته «1» .
والظاهر أن صدر الآية نزل في حادثة الخمر، وعجزها في حادثة السفر، والجمهور على أنها نزلت في غزوة المريسيع.
المناسبة:
لما نهى الله سبحانه فيما مضى عن الشرك، ورغب في امتثال الأمر واجتناب النهي، نهى هنا عن الصلاة التي هي عبادة لله وحده لا شريك له في حال السكر وحال الجنابة، والخطاب موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه، وذلك حتى يكون الإنسان في صلاته كامل القوى العقلية، وطاهرا من الأنجاس أو الأرجاس والأخباث المادية والمعنوية.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان مواضعها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازا المسجد من باب إلى باب من غير مكث. وقد كان هذا قبل تحريم الخمر.
وقد أثر النهي، وفهم الصحابة أن الممنوع هو قربان الصلاة في حال السكر، فكانوا يمتنعون من شرب المسكر إلى ما بعد صلاة العشاء، فإذا صلوا العشاء شربوا، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا،
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 87- 88(5/81)
فنزلت آية المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة 5/ 90] فتركوا الشراب كله.
ومعنى الآية: يا أيها المؤمنون لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا ما تقولون في الصلاة. وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا، وكان نزول الآية في المرحلة الثالثة من مراحل التدرج في تشريع تحريم الخمر.
واتفق أكثر المفسرين على أن الصلاة باقية على معناها الحقيقي، والمعنى إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا، ولا تصلوا وأنتم سكارى ولا وأنتم جنب إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا. ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء. ويدل لهذا الرأي قوله تعالى:
حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي لا تقربوا نفس الصلاة لأن فيها قراءة من آي القرآن ودعاء وأذكارا، وكلها تتطلب الوعي والإدراك واستكمال القوى العقلية.
وذهب الشافعي وابن عباس وابن مسعود والحسن البصري إلى أن الكلام على حذف مضاف وهو مجاز شائع، والمراد: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد، بدليل تفسير وَصَلَواتٌ [الحج 22/ 40] بأنها كما قال ابن عباس كنائس اليهود، وإلا لم يصح الاستثناء في قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وحتى لا يكون هناك تكرار بين قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد.
وقد ترتب على هذا اختلافهم في حكم اجتياز الجنب المسجد، فعلى الرأي الثاني:
يجوز له العبور دون أن يمكث، ويحرم عليه دخول المسجد في غير حال العبور.
وعلى الرأي الأول: لا تدل الآية على حرمة دخول الجنب المسجد، وإنما يستدل عليها بمثل
ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت عن(5/82)
المسجد» ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا، رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد، وقال: «وجهوا هذه البيوت، فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» ولم يستثن صلّى الله عليه وسلّم في آخر عمره إلا خوخة (كوّة أو باب صغير) أبي بكر رضي الله عنه.
ثم نهى الله تعالى فقال: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي ولا تقربوا الصلاة حال الجنابة إلا إذا كنتم عابري سبيل أي مجتازي الطريق.
حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا، والغسل: أن يعم الماء جميع الجسد.
ثم ذكر الله تعالى في هذه الآية وآية المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة 5/ 6] أسبابا أربعة للتيمم وهي: المرض، والسفر، والحدث (المجيء إلى الغائط) وملامسة النساء. فإذا توافر أحد هذه الأسباب، فاقصدوا صعيدا طيبا أي وجها ظاهرا من الأرض، طاهرا غير نجس، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه إلى المرافق عند الجمهور، وإلى الرسغين عند مالك، ثم صلّوا.
هذه رخصة التيمم لأصحاب الأعذار، وسبب هذا الترخيص والتيسير هو أن الله عفوّ غفور، أي ذو عفو ومغفرة أي ستر للذنوب، أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.
ويلاحظ أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء 4/ 43] فتكون الأعذار ثلاثة: السفر والمرض وفقد الماء في الحضر، أما الحدث فأمر مفروغ منه، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء، والسفر وحده عذر كاف في التيمم، وجد الماء أو لم يوجد.(5/83)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية أحكاما عديدة هي:
1- حرمة الصلاة حال السكر من الخمر وغيره، وذلك قبل تحريم الخمر تحريما باتا قاطعا، فقد كان شرب المسكر مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر.
2- السبب في تحريم المسكر في الصلاة هو إدراك معاني التلاوة والأدعية والأذكار الموجودة في الصلاة، وهذا معنى قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط، والسكران لا يعلم ما يقول.
وأراد بعض المفسرين أن يفهم من هذه الآية وجوب القراءة في الصلاة لأنها تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلي ما يقول، فلا بد من أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر، ولا شيء سوى القراءة. ولكن وجوب القراءة في الصلاة له دليل آخر غير هذا، ومعنى النهي هنا: لا تصلوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكنكم من مناجاة الله والوقوف بين يدي ملك الملوك.
واستنبط عثمان رضي الله عنه من الآية: أن السكران لا يلزم طلاقه. وهو مروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث وجماعة من الشافعية، واختاره الطحاوي قائلا: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس.
وقال الجمهور: طلاق السكران نافذ، وأفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، واستثنى أبو حنيفة الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين منه امرأته إلا استحسانا.(5/84)
3- تحرم الصلاة حال الجنابة بإنزال مني أو جماع. ويجب الغسل بالتقاء الختانين،
لما أخرجه مسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل»
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل» زاد مسلم: «وإن لم ينزل» .
وأجمع التابعون ومن بعدهم على الأخذ
بحديث: «إذا التقى الختانان ... » .
4- لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الغالب في الماء أنه لا يعدم في الحضر فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده، ولا يدخل المسافر الجنب المسجد إلا بعد أن يتيمم في رأي الحنفية.
ورخص الإمامان مالك والشافعي في دخول الجنب المسجد
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة: «إن المؤمن لا ينجس»
ويؤيده أن الصحابة الذين كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، إذا أجنب أحدهم اضطر إلى المرور في المسجد.
وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد، عملا بما كان يفعله بعض الصحابة.
ويمنع الجنب عند المالكية وغيرهم من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ،
لما أخرجه ابن ماجه عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن» .
5- نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال، والاغتسال:
معنى معقول يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول. ولا بد أن يتدلك الجنب في اغتساله في المشهور من مذهب مالك لأن هذا هو المعقول من لفظ الغسل(5/85)
لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمرّ يديه فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان العربي غاسلا، بل يسمونه صابّا للماء ومنغمسا فيه، ويؤكده الأثر
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» «1»
وإنقاؤه: لا يكون إلا بتتبعه. قال ابن العربي: «حتى تغتسلوا» اقتضى هذا عموم إمرار الماء على البدن كله باتفاق، وهذا لا يتأتى إلا بالدلك.
وقال الجمهور: يجزئ الجنب صبّ الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعمّ، وإن لم يتدلك، على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلّى الله عليه وسلّم، رواهما الأئمة،
وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفيض الماء على جسده.
وهل يخلل الجنب لحيته؟
روايتان عن مالك: رواية ابن القاسم عنه: ليس عليه ذلك
،
وقال ابن عبد الحكم: ذلك هو أحب إلينا لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخلل شعره في غسل الجنابة.
وأوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق في الغسل، لقوله تعالى:
حَتَّى تَغْتَسِلُوا ولأنهما من جملة الوجه، وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما وصلّى، أعاد كمن ترك لمعة «2» ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وأضاف الحنابلة: هما فرض أيضا في الوضوء لقوله تعالى:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة.
وقال مالك والشافعي: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء لأنهما باطنان كداخل الجسد
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل المضمضة ولم يأمر بها
، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل.
__________
(1) حديث ضعيف.
(2) اللمعة: الموضع لا يصيبه الماء.(5/86)
وأما قدر الماء الذي يغتسل به:
فروى مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة.
والفرق ثلاثة آصع، والصاع 2751 غم.
وعن أنس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع «1» إلى خمسة أمداد
، والمد 675 غم، والصاع أربعة أمداد. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي، ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه سرف، والسّرف مذموم.
6- إباحة التيمم لفقد الماء، أو للمرض، أو للسفر، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى.. [النساء 4/ 43] ويؤيده آية: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 22/ 78] وآية: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد، ولم يأمره صلّى الله عليه وسلّم بغسل ولا إعادة.
والمرض الذي يباح له التيمم على الصحيح من قول الشافعي: هو الذي يخاف فيه فوت الروح، أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء، أو خاف طول المرض.
والسفر المبيح للتيمم: هو الطويل أو القصير عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة في رأي الجمهور. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة.
وذهب المالكية وأبو حنيفة ومحمد إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. فإن عدم الماء في الحضر مع خوف فوات الوقت، تيمم الصحيح والسقيم وصلّى ثم أعاد.
وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت.
__________
(1) ويؤيده
حديث مسلم عن سفينة: «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يغسله الصاع، ويوضئه المدّ» .(5/87)
ودليل جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء:
القرآن: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي أن المقيم إذا عدم الماء تيمم.
والسنة:
وهو ما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصّمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم من نحو «بئر جمل «1» » فلقيه رجل، فسلّم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.
وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ «بئر» .
7- هل الحدث يبيح التيمم في الحضر؟ قيل: إنه يبيح لآية أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ: و «أو» بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا، فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحديث، لا المرض والسفر، فدل على جواز التيمم في الحضر، كما تقدم بيانه.
قال القرطبي: والصحيح في «أو» أنها على بابها عند أهل النظر، أي أنها للتخيير، فلأو معناها، وللواو معناها، وهناك حذف، والمعنى: وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مسّ الماء أو على سفر، ولم تجدوا ماء، واحتجتم إلى الماء «2» .
وقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كنى بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر.
8- ملامسة النساء: كناية عن الجماع «3» في رأي الحنفية، فالجنب يتيمم، واللامس بيده لا ينقض وضوءه، بدليل
ما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.
والمراد بها عند الشافعي: لمس بشرة المرأة باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد، فمن لمس بشرة امرأة
__________
(1) بئر جمل: موضع بقرب المدينة.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 220
(3) قال ابن عباس: إن الله تعالى حيي كريم يعفّ، كنى باللمس عن الجماع.(5/88)
نقض طهره، ويتيمم إن فقد الماء. وقال مالك وأحمد وإسحاق: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ، فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وهو مقتضى الآية. وأما حديث عائشة فهو مرسل. وتكون الآية مبينة حكمين:
الحدث والجنابة عند عدم الماء، وسبب الحدث: المجيء من الغائط، وسبب الجنابة: الملامسة. ولا مانع من حمل اللفظ «الملامسة» على الجماع واللمس، وإفادة الحكمين.
9- إن طلب الماء للمسافر شرط في صحة التيمم عند مالك والشافعي وأحمد، وليس بشرط عند أبي حنيفة.
والمقصود بوجود الماء: أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه، وهذا قول أكثر العلماء.
وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير كماء الباقلاء وماء الورد، لقوله تعالى:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فقال: هذا نفي في نكرة، فيعم لغة، فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لإطلاق اسم الماء عليه.
وأجمع العلماء على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء.
والماء الذي يبيح عدمه التيمم: هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته.
10- قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا: يدل على مشروعية التيمم، وهو من خصائص هذه الأمة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «1» الحديث.
والتيمم
__________
(1) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن حذيفة.(5/89)
شرعا: مسح الوجه واليدين بالتراب، لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي اقصدوا.
ويلزم التيمم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء، ودخل وقت الصلاة.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة، فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء، جاز أيضا للفريضة، واستدلوا
بقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ عند أبي داود والنسائي والترمذي: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج» .
فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء، فحكمه إذن حكم الماء. ودليل المالكية والشافعية والحنابلة قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد.
وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء، عاد جنبا كما كان أو محدثا
لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ: «إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك» .
وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلّى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء، ولم يكن في رحله: أن صلاته تامة لأنه أدى فرضه كما أمر، فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة،
لما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين» .(5/90)
واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة فقال مالك والشافعي: ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء، وليتمّ صلاته، وليتوضأ لما يستقبل لقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، ومن شرع في صوم عن كفارة ظهار أو قتل، ثم وجد رقبة لا يلغى صومه ولا يعود إلى الرقبة.
وقال أبو حنيفة وأحمد والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة، فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض، ومثل ذلك الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة.
واختلفوا: هل يصلّى بالتيمم صلوات أو يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؟ فقال مالك والشافعي: لكل فريضة لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم.
وقال أبو حنيفة وداود الظاهري: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث لأنه طاهر، ما لم يجد الماء، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه.
وهل يجوز التيمم قبل دخول الوقت؟ الشافعي ومالك: لا يجوزانه لأنه لما قال الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت، وعلى هذا فلا يصلّي الشخص فرضين بتيمم واحد. وأجاز أبو حنيفة التيمم قبل دخول الوقت لأن طلب الماء عنده ليس بشرط.
11- الصعيد الطيب: الصعيد: وجه الأرض، كان عليه تراب أو لم يكن.
والطيب: الطاهر وقيل: الحلال. وبناء عليه قال مالك وأبو حنيفة: يتيمم بوجه الأرض كله، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة.(5/91)
وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد: التراب المنبت، وهو الطيب، قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف 7/ 58] فلا يجوز التيمم عندهما على غيره. قال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار.
واشترط الشافعي: أن يعلق التراب باليد، ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء.
وأجمع العلماء على أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر منقول إلى العضو الممسوح لا مغصوب، وعلى أنه لا يتيمم على الذهب الصّرف والفضة والياقوت والزّمرّد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجازه مالك وغيره، ومنعه الشافعي وغيره.
ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، وفي المدونة والمبسوط جواز التيمم على الثلج، وفي غيرهما منعه. والجمهور على منع التيمم على العود، وجمهور المالكية أجازوا التيمم على التراب المنقول من طين أو غيره، وعند المالكية قولان في التيمم على ما طبخ كالجص والاجرّ، وعلى الجدار، قال القرطبي: والصحيح الجواز على الجدار،
لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصّمّة الأنصاري الذي أخرجه البخاري، قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نحو بئر جمل (موضع قرب المدينة) فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقول مالك ومن وافقه.
وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللّبد. وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزّرنيخ والنّورة والجص والجوهر المسحوق.
12- كيفية التيمم: دل قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ على أن محل التيمم: الوجه واليدان، وقوله مِنْهُ يدل في رأي الشافعي على(5/92)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم، ولا يشترط المالكية النقل، بدليل تيممه عليه الصلاة والسلام على الجدار.
وقال الجمهور: يبدأ بالوجه ثم اليدين لقوله تعالى: بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ.
وقال الحنفية والشافعية: يبلغ بالتيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا على الوضوء، وبدليل رواية التيمم إلى المرفقين عن جابر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان،
لحديث عمار بالتيمم إلى الكوعين: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود أمره بالتيمم للوجه والكفين.
وذهب الحنفية والشافعية إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجة، وضربة لليدين لحديث ابن عمر «1» في ذلك. ورأى المالكية والحنابلة أن الفريضة:
الضربة الأولى، أي وضع اليد على الصعيد، وأما الضربة الثانية فهي سنة.
أعمال اليهود وتصرفاتهم
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
__________
(1) أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي، وهو موقوف على ابن عمر.(5/93)
الإعراب:
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو أُوتُوا ومثله وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا.
مِنَ الَّذِينَ تتعلق مِنَ إما على أنها تفسير لقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا.. أو تتعلق بمحذوف، وتقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. وقوم: مبتدأ، ويحرفون: جملة صفة المبتدأ، وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا مقدم عليه. أو تتعلق بقوله: نَصِيراً على حد قوله: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا.
غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من ضمير: واسمع، أي لا سمعت، ويظهرون أنهم يريدون: واسمع غير مسمع مكروها. وقيل: إنهم يريدون: واسمع غير مسمع، أي غير مجاب.
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً منصوبان على المصدر، وتقديره: يلوون بألسنتهم ليّا، ويطعنون طعنا. وألسنتهم: جمع لسان، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، ويجمع على ألسنة وألسن، فمن جمعه على ألسنة جعله مذكرا، ومن جمعه على ألسن جعله مؤنثا.
وَلَوْ أَنَّهُمْ.. لو: حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره، كقولك: لو جئتني لأكرمتك، فيكون عدم الإكرام لعدم المجيء. وأنهم: في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: ولو وقع قولهم:
سمعنا وأطعنا، فإن لَوْ يقع بعدها الفعل ولا يقع بعدها المبتدأ. إِلَّا قَلِيلًا منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: إيمانا قليلا.
البلاغة:
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ: استعارة، وكذا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ استعارة لأن أصل اللي: فتل الحبل، فاستعير للكلام الذي قصد به غير ظاهره. أَلَمْ تَرَ استفهام للتعجب.(5/94)
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تنظر أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا أو جزءا من التوراة وهم اليهود أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ تخطئوا الطريق الحق أو القويم لتكونوا مثلهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم، فيخبركم بهم لتجتنبوهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا حافظا لكم منهم يتولى شؤونكم نَصِيراً مانعا لكم من كيدهم، أو معينا يدفع شرهم عنكم مِنَ الَّذِينَ هادُوا هم اليهود يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يغيرون الكلام الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم عن مواضعه التي وضع عليها.
غَيْرَ مُسْمَعٍ حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت، ويجوز أن يريدوا: غير مجاب قولك.
وَراعِنا أصلها: راقبنا وانظرنا نكلمك، والمراد بها أنها كلمة سب بلغتهم وهي «راعينا» أو من الرعونة والطيش، وقد نهي عن خطابه بها لَيًّا تحريفا بألسنتهم وطعنا وفتلا بها.
طَعْناً فِي الدِّينِ قدحا فيه وذما بالإسلام وَانْظُرْنا انظر إلينا وَأَقْوَمَ أعدل وأسدّ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به.
سبب النزول
نزلت في يهود المدينة،
قال ابن إسحاق: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله فيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ....
وقال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف- أحد أحبار اليهود- في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، ليحالفوا قريشا على غدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان، ونزلت اليهود في دور قريش ...
فقال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب:
اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء (الناقة(5/95)
الضخمة السنام) ، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني (الأسير) ، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ... يعني كعبا وأصحابه، الآية «1» .
المناسبة:
بعد أن أرشد الله تعالى إلى جزيل الثواب بامتثال الأحكام الشرعية، وحذر المخالف بشديد العقاب، من خلال الترغيب والترهيب، ذكر حال بعض أهل الكتاب الذين تركوا بعض أحكام دينهم، وحرّفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه المؤمنين إلى وجوب التزام ما أمروا به، ويحذرهم من إيقاع العقاب عليهم بترك أحكام دينهم، مثل العقاب الذي استحقه أولئك اليهود في الآخرة حينما يتمنون أن يدفنوا في التراب، ويزج بهم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
ألم تنظر يا محمد إلى الذين أعطوا جزءا من التوراة (الكتاب الإلهي) ثم يستبدلون الضلالة بالهدي، ويؤثرون الكفر على الإيمان، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من الأحكام كالكذب وإيذاء الناس وأكل الربا، ومن العلم عن الأنبياء السابقين في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ليشتروا بما اصطنعوه من الطقوس والرسوم الدينية ثمنا قليلا من حطام الدنيا، ويريدون أن تضلوا معهم الطريق المستقيم، فتكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع، والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون، ويحذركم منهم، وكفى بالله وليا: حافظا لكم منهم ويتولى شؤونكم، وحصنا لمن لجأ إليه، وكفى
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 89(5/96)
بالله نصيرا لمن استنصره، ومعينا يدفع شرهم عنكم، فهو سبحانه الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلاحكم، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من التعاون وإعداد وسائل القوة الحربية، فلا تطلبوا الولاية من غيره، ولا النصرة من سواه.
وأما الذي يعملون به من التوراة: فهو ما أضاعوه ونسوه، وما تركوا العمل به من الأحكام الباقية لديهم.
ثم بيّن الله تعالى المراد بأولئك الذين أوتوا الكتاب بقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود، ومِنَ هنا لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] وهم قوم يحرفون الكلم الذي أنزله الله في التوراة عن مواضعه الأصلية، إما بأن يحملوه على غير معناه الذي وضع له، كتأويل البشارات الواردة في النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتأويل ما ورد في المسيح وحمله على شخص آخر، لا يزالون ينتظرونه إلى اليوم، وإما بنقل كلمة أو جملة من الكتاب ووضعها فيه في موضع آخر، فقد خلطوا ما أثر عن موسى عليه السلام بما كتب بعده بزمن طويل، كما خلطوا كلام غيره من أنبيائهم بكلام آخر دوّنه واضعو التوراة الحالية، بدلا عن التوراة المفقودة باعترافهم.
وكانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم، ومنشأ ذلك أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة الأصلية التي كتبها موسى عليه السلام، وأرادوا أن يؤلفوا بينها، فخلطوا فيها بالزيادة والتكرار، كما أثبت المؤرخون الباحثون الثقات، مثل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه «إظهار الحق» .
ويقول هؤلاء اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا قولك وعصينا أمرك، قال مجاهد:
إنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا قولك، ولكن لا نطيعك. وكانوا يقولون أيضا(5/97)
حسدا وحقدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يدعون عليه بقولهم:
لا أسمعك الله، أو غير مسمع دعاؤك، أو غير مقبول منك، بدلا من أن يقولوا أدبا: «لا سمعت مكروها» .
وكانوا يقولون كذلك: راعِنا اسم فاعل من الرعونة أي الطيش والحمق، أو هي «راعينا» كلمة سب وطعن عندهم، بدلا من أن تستعمل بمعنى:
أنظرنا وتمهل علينا. وقد نهى الله المؤمنين أن يستعملوا هذه الكلمة بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا، وَقُولُوا: انْظُرْنا [البقرة 2/ 104] .
هذه جرائم ثلاث ارتكبوها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إما في مجلسه أو بعيدا عنه، بدافع الحسد والحقد، أو الاستهزاء والسخرية، يستعملون كلاما محتملا معنيين، وهم يريدون به الشتيمة والإهانة، لا التوقير والاحترام والتكريم، ليا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب، وطعنا في الإسلام وقدحا فيه، فيوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم: راعِنا وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذا منتهى الوقاحة والجرأة على الباطل.
ومن تحريف لسانهم تحيتهم بقولهم: «السام- الموت- عليكم» يوهمون بفتل اللسان أنهم يقولون: «السلام عليكم»
فيجيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وعليكم»
أي كل أحد يموت.
قال ابن عطية: وهذا موجود حتى الآن في اليهود، وقد شاهدناهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفّظونهم ما يخاطبون به المسلمين، مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير «1» .
ثم وجّه الحق تعالى إلى الخطاب الأمثل فذكر: ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع منا ما نقول وانظرنا، أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل حتى نتفهم
__________
(1) البحر المحيط: 3/ 264(5/98)
عنك ما تقول، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه، لما فيه من الفائدة والأدب.
ثم بيّن الله تعالى عاقبة تصرفاتهم النابية وهو الطرد من رحمة الله وعدم التوفيق للخير أبدا، فذكر أنه تعالى لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، والكفر يمنع عادة من التفكر والأدب في الخطاب، وهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يؤبه به، وقلوبهم مطرودة عن الخير، مبعدة عنه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وإذا لم يكن هناك إيمان، لم يبق أمل في صلاح عمل، ولا رقي عقل، ولا طهارة نفس.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تعجب وتوبيخ وتقريع ليهود المدينة وما والاها، ولكل من سلك سلوكهم، وسار على منهجهم، وسبب ذلك تصرفاتهم الشائنة، ومواقفهم المستهجنة التي جمعت ألوانا من الجرائم والمنكرات.
فهم اشتروا الضلالة بالهدى، وأرادوا إضلال المسلمين عن طريق الحق والمنهج القويم، وأعلنوا عداوتهم للإسلام والمسلمين، فلا تستصحبوهم فإنهم الأعداء الألداء.
وهم يحرفون الكلام الإلهي عن مواضعه الصحيحة، ويؤولونه تأويلا باطلا، أو يخلطونه بكتابات البشر المغلوطة أو المشوهة أو المنفرة، فإن توراتهم الحالية تمس سمو الذات الإلهية، وتشوه سمعة أنبيائهم وتطعن فيهم، وهي مشحونة بالأحقاد والبغضاء على الشعوب الأخرى غير اليهودية، وتدعو إلى تدمير المدن وتخريب الحضارة وإتلاف الثروات الحيوانية والزراعية والصناعية.
ويعلنون وقاحتهم في خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحب الاستهزاء والسخرية منه، فيقولون: «سمعنا قولك وعصينا أمرك» ، واسمع لا سمعت، وهم يظهرون أنهم(5/99)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن البصري ومجاهد: معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. ويقولون: راعنا من الرعونة والحمق.
وقوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ يدل على أنهم يلوون ألسنتهم عن الحق، أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، ويطعنون في الدين، بقولهم لأصحابهم: لو كان نبيا لدرى أننا نسبّه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك، فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول.
ولو خاطبوه بما يقتضيه الأدب واللياقة في الكلام، لكان ذلك أقوم أي أصوب لهم في الرأي، والحقيقة أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان.
أمر أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن وتهديدهم باللعنة
[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
الإعراب:
كَما لَعَنَّا الكاف في كَما في موضع نصب، لأنها صفة لمصدر محذوف، وتقديره: لعنا مثل لعننا أصحاب السبت.(5/100)
البلاغة:
نَطْمِسَ وُجُوهاً استعارة، شبه مسخ الوجوه بالصحيفة المطموسة التي أشكلت حروفها وغمضت سطورها.
يوجد طباق بين وُجُوهاً ... أَدْبارِها.
ويوجد جناس اشتقاق في نَلْعَنَهُمْ.. لَعَنَّا.
المفردات اللغوية:
أُوتُوا الْكِتابَ التوراة نَطْمِسَ الطمس: الإزالة، والمراد به هنا: محو آثار الإنسانية بإزالة ما في الوجوه من العين والأنف والحاجب، وترددت الكلمة في القرآن، مثل: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
[يونس 10/ 88] أي أزلها وأهلكها، ومثل: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس 36/ 66] إما بإزالة نورها، وإما بمحو حدقتها وُجُوهاً جمع وجه: وهو الوجه المعروف، وطمسها: هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، أو المراد: ألا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أنفا. وقال ابن عباس: وطمسها: أن تعمى.
وقد يطلق الوجه على اتجاه النفس: وهو ما تتوجه إليه من المقاصد، كما قال تعالى:
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران 3/ 20] . وقال: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ [لقمان 31/ 22] . وقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم 30/ 30] .
فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الأدبار: جمع دبر، وهو الخلف والقفا. والرد على الأدبار: جعلها كالأقفاء لوحا واحدا. ويستعمل الرد على الأدبار إما في الحسيات وهو الهزيمة أو الفرار في القتال، وإما في المعنويات: وهو الرجوع إلى الوراء أي العودة إلى الكفر، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ [محمد 47/ 25] .
أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نجزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت قردة وخنازير، وقيل: أو نهلكهم، كما أهلكنا أصحاب السبت.
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر يهود، اتقوا الله، وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق» فقالوا:(5/101)
ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر، فأنزل الله عز وجل فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا.. الآية.
التفسير والبيان:
الآية متصلة بما قبلها، واردة لفتح باب الأمل أمام أهل الكتاب بعد أن اشتروا الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر، وهي تلزمهم العمل بما عرفوا والإيمان بالقرآن، لأن إيمانهم بالتوراة يستدعي الإيمان بما يصدقها.
يأمر الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالإيمان بما نزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن المجيد الذي جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية في أصولها الأولى الصحيحة، وليس لما آلت إليه في صورتها الحالية، من تقرير التوحيد ورفض الشرك وترك الفواحش الظاهرة والباطنة، وتصديق الاخبار التي بأيديهم من البشارات بالنبي محمد، وتلك هي أصول الدين وغاياته الأساسية.
خاطبهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنهم ضيعوا جزءا منه، وأحرقوا جزءا آخر، مما يدعو إلى إيمانهم بالقرآن، ويسجل عليهم تقصيرهم واستحقاقهم العقاب.
ومما يدعوهم إلى الإيمان أن الأديان السماوية كلها متفقة في الأصول العامة، كالتوحيد، ونبذ الشرك، والتحلي بكريم الأخلاق، والبعد عن الفواحش والمنكرات.
وأكد القرآن الكريم نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى وإبراهيم ونوح وغيرهم عليهم السلام، فكيف لا يؤمن أتباع أولئك الأنبياء بالقرآن وبرسالة محمد؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم، وموافقا لملة إبراهيم القائمة على التوحيد.(5/102)
فقل لهم يا محمد: آمنوا بما نزّلنا، فكل الكتب المنزلة ذات مصدر واحد، ولها غاية واحدة.
ثم هددهم إن لم يفعلوا بطمس الوجوه والرد على الأدبار، فتجعل على هيئة أدبارها وهي الأقفاء، مطموسة مثلها، عديمة الإبصار، أو بالهلاك أو المسخ كما أهلك أصحاب السبت من اليهود، أو مسخهم قردة وخنازير. وأصحاب السبت: يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد بحواجز أقاموها يوم الجمعة، فإذا حدث المد ثم الجزر. تبقى الأسماك في الأحواض المقامة على الشواطئ.
وكان أمر الله مفعولا، أي أن أمره التكويني وهو قوله: كُنْ فَيَكُونُ بإيقاع شيء ما نافذ لا محالة، فإذا أمر أمرا فإنه لا يخالف ولا يمانع. فاحذروا وعيده، وخافوا عقابه، ويراد بالأمر: المأمور، فالمعنى: أنه متى أراده أوجده.
قال ابن عباس: يريد: لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لأمره. ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا. وقد تحقق الوعيد في معاصري الوحي بإذلال بني النضير وإجلائهم، وإهلاك بني قريظة، وهو معنى الطمس والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية.
فقه الحياة أو الأحكام:
اختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة، فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟
قولان: روي عن أبي بن كعب أنه قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. والمراد به التمثيل، وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة.(5/103)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء، أي يذهب الله بالأنف والشفاه والأعين والحواجب، وهذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطّمس: أن تزال العينان خاصّة وتردّ في القفا، فيكون ذلك ردّا على الدّبر ويمشي القهقرى.
فإذا آمن هؤلاء ومن اتّبعهم، رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرّد: الوعيد باق منتظر، وقال: لا بدّ من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
ما يغفره الله تعالى وما لا يغفره
[سورة النساء (4) : آية 48]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
المفردات اللغوية:
وَيَغْفِرُ المغفرة: ستر الذنب، والمغفور له: أن يدخله الله الجنة بلا عذاب، ومن شاء عذّبه من المؤمنين بذنوبه، ثم يدخله الجنة. افْتَرى اختلق واعتمل وارتكب. إِثْماً عَظِيماً ذنبا كبيرا.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: وما دينه؟ قال:
يصلّي ويوحّد الله، قال: استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل ذلك منه، فأبى عليه، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: وجدته شحيحا(5/104)
على دينه، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
المناسبة:
بعد أن أوعد الله أهل الكتاب وهددهم على الكفر إن لم يؤمنوا، وأعلن أن الوعيد نافذ المفعول، بيّن هنا أن هذا الوعيد على الكفر أو الشرك، فأما سائر الذنوب فقابلة للغفران.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، والمراد بالشرك هنا مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء من عباده. ومن أشرك بالله فقد ارتكب ذنبا كبيرا.
قال الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة، ففي مشيئة الله تعالى: إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بيّن الله تعالى ذلك بقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. والظاهر لدي هو قول الطبري.
وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ... :
اخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: لما نزل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53] ، قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال:
يا رسول الله، والشرك بالله تعالى، فسكت مرّتين أو ثلاثا، فنزلت هذه الآية.
أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه(5/105)
الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على عظم جريمة الشرك، وأنه لا مغفرة له، وعلى فضل الله ورحمته بإمكان مغفرة بقية الذنوب لمن يشاء من عباده.
والشرك بالله قسمان:
1- شرك في الألوهية: وهو اتّخاذ شريك مع الله تعالى، وله سلطة وتدبير في الكون.
2- وشرك في الربوبية: وهو جعل سلطة التشريع وتبيان أحكام الحلال والحرام لله ولغيره من البشر بغير الوحي، كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة 9/ 31] ، وقد فسّر النّبي صلّى الله عليه وسلّم اتّخاذهم أربابا بطاعتهم واتّباعهم في أحكام الحلال والحرام.
وفي الآية إيماء إلى اتّصاف أهل الكتاب بالشرك بتأليه العزير والمسيح، وبجعل الأحبار والرهبان أصحاب السلطة في التحليل والتحريم.
والسبب في شناعة الشرك: أنه كذب محض وافتراء صريح، وأنه وكر الخرافات والأباطيل، ومنه تنشأ سائر الجرائم التي تهدم حياة الأفراد ونظام الجماعات، ويتنافى مع رقي العقول، وطهارة النفوس، وصفاء الأرواح، ويحجب نور الإيمان الصحيح عن النفاذ إلى القلب.
أما التوحيد ففيه عزّة النفس، وتحرير الإنسان من العبودية لأحد من البشر أو لشيء في الكون، والسمو بالذات البشرية إلى عبادة الله والاتّكال عليه
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.(5/106)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
والإخلاص له، وفي ذلك كله راحة النفس، واطمئنان القلب، وصفاء الروح، وتنوير البصيرة، والظفر بعون الله ونصره، والاستجابة لنداء الفطرة، والاعتماد على مصدر الخير الحقيقي، والثقة التامة بمن بيده إنقاذ العبد ونجاته من مخاطر الدنيا ومضارها، والتخلص من أوزار المعصية في الآخرة.
ومن وسائل المغفرة المتروكة للبشر والمقيدة بالمشيئة الإلهية أيضا: الدعاء مع الإيمان والإخلاص والاستقامة وحسن الظّنّ بالله تعالى، وفعل الحسنات، لقوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] ، والتوبة الصادقة النّصوح التي حثّ عليها القرآن بعد التّفريط وارتكاب الذّنب جهلا.
نماذج أخرى من أعمال أهل الكتاب والجزاء عليها
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 55]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)(5/107)
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ استفهام يراد به التّعجب.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ تعجب بلفظ الأمر، وعبر بفعل المضارع يَفْتَرُونَ عن الماضي للدلالة على الدوام والاستمرار.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ وأَمْ يَحْسُدُونَ استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ مجاز مرسل في كلمة النَّاسَ يراد بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، من باب إطلاق العام على الخاص.
فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً تعريض بشدة بخلهم.
ويوجد جناس اشتقاق في يُؤْتُونَ ... آتاهُمُ.
المفردات اللغوية:
يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يمدحونها وهم اليهود الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وهو استفهام تعجبي أي ليس الأمر بتزكيتهم أنفسهم، قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم 53/ 32] ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يطهر من يريد بالإيمان وَلا يُظْلَمُونَ ينقصون من أعمالهم، والظلم: النقص وتجاوز الحد، فله جانبان: سلبي وإيجابي. فَتِيلًا قدر قشرة النواة، والأدقّ: هو ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط. وبه يضرب المثل في الشيء الحقير، كما يضرب بمثقال الذرة.
وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي ذنبا واضحا، والمراد به تعظيم الذّنب وذمّه. وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا.
بِالْجِبْتِ الرديء الذي لا خير فيه، والمراد به هنا الأصنام وما يتبعها من الأوهام والخرافات. وَالطَّاغُوتِ مصدر بمعنى الطغيان والجبروت، ويطلق على كل ما يعبد من دون الله، وعلى الشيطان. والجبت والطاغوت: صنمان لقريش.
نَقِيراً أي شيئا تافها قدر النقرة في ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة، ويضرب بها المثل في القلة والحقارة، وهم لا يؤتون الناس نقيرا لفرط بخلهم.(5/108)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بل أيحسدون النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والحسد: تمنّي زوال نعمة الغير. عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من النّبوة، والعلم، والكرامة في الدّين والدّنيا، ويقولون: لو كان نبيّا لاشتغل عن النّساء. وَالْحِكْمَةَ العلم بالأسرار المودعة في أحكام الشريعة. مُلْكاً عَظِيماً ما كان لأنبياء بني إسرائيل كداود وسليمان عليهما السّلام. صَدَّ عَنْهُ أعرض عنه. سَعِيراً نارا مسعرة أي موقدة، والمراد عذابا شديدا لمن لا يؤمن.
سبب النزول:
نزول الآية (49) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:
كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك وغيرهم.
وقال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهم وقالوا: يا محمد، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، فقالوا: والذي نحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فهذا الذي زكّوا به أنفسهم.
وقال الحسن البصري وقتادة: نزلت هذه الآية وهي قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ في اليهود والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] ، وقالوا أيضا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة 2/ 111] .
نزول الآية (51) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا: أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا المنصبر المنبتر(5/109)
من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير، فنزلت فيهم: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر 108/ 3] ، ونزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: نَصِيراً [آل عمران 3/ 23] .
وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والرّبيع بن أبي الحقيق، وأبو عمارة، وهوذة بن قيس، وكان سائرهم من بني النّضير، فلما قدموا على قريش قالوا:
هؤلاء أحبار يهود، أهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم، أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه، وممن اتبعه، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: مُلْكاً عَظِيماً.
نزول الآية (54) :
أَمْ يَحْسُدُونَ..: أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا، فأنزل الله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية.
التفسير والبيان:
ألم تنظر إلى حال الذين يمدحون أنفسهم، ويدّعون ما ليس فيهم، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن شعب الله المختار، ولا تمسّهم النار مهما فعلوا إلا أياما معدودات، ولن يدخل الجنّة إلا من كان هودا أو نصارى، وإن(5/110)
أبناءنا توفوا وهم لنا قربة، وكذلك آباؤنا يشفعون لنا ويزكوننا، لكرامتهم على الله، والتّزكية: التطهير والتبرية من الذنب.
وقد ردّ الله دعواهم بأنه لا قيمة لتزكيتهم أنفسهم، فإن التزكية تكون بالعمل الصالح، لا بالادّعاء، والله هو الذي يزكي من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل الصالح، وهدايته إلى العقيدة الصحيحة، والآداب الفاضلة.
ولا ينقص الله المزكين أنفسهم شيئا من جزاء عملهم.
ثم أكّد الله تعالى التعجب من حالهم بقوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكيتهم أنفسهم، وزعمهم أن لهم امتيازا على غيرهم.
وكفى بهذا الكذب والافتراء والتزكية للنفس إثما ظاهرا، فالله لا يخصّ شعبا بمعاملة خاصة أو امتياز، وكل ذلك غرور وأمنيات مزعومة، وجهل فاضح.
وانظر أيضا حال بعض أهل الكتاب الذين يجاملون المشركين، ويؤمنون بالأصنام والأوثان، وينصرون المشركين على المؤمنين بأنبيائهم وكتبهم، ويقولون: إن المشركين أرشد طريقة في الدّين من المؤمنين الذين صدقوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهم حرموا هداية العقل والفطرة، وهدموا أساس دينهم، وتجاوزوا الحقّ، وأعلنوا الظلم، حينما نصروا الشرك والوثنية وتكذيب الله ورسوله على مبدأ التدين الصحيح والتصديق بالإله الحق.
وعاقبتهم أنهم مطرودون من رحمة الله وفضله، ومن يبعده الله من رحمته فلن يجد له نصيرا ينصره أبدا.
ثم وبّخهم الله على البخل والطمع في الملك آخر الزمان، فذكر أنه لا حظ لهم من الملك، لظلمهم وطغيانهم وبخلهم، وحبّهم أنفسهم دون غيرهم، فهم مطبوعون(5/111)
على حبّ الذّات وحبّ المادّة والغرور الكاذب والشّح، فلا يعطون الناس مقدار النقير (النقرة في ظهر النواة) والملك يحتاج إلى الترفع عن كل ذلك، وإلى كسب الأعوان بالبذل والسخاء، وقضاء حوائج الآخرين، والسمو عن الماديات، وحبّ الناس.
ثم وبّخهم الله تعالى على الحسد الذي هو أسوأ من البخل، فهم يتمنون أن يكون الخير كله بأيديهم، ويريدون قصر فضل الله عليهم، ولا يحبّون أن يكون لأمة فضل مما لهم، فهم جماعة يحبون ذواتهم (أنانيّون) حاقدون حاسدون. لذا حسدوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من فضل النّبوة والعلم، وزعامة الدولة ورئاسة الحكم، وكثرة الأعوان والأنصار.
ثم بيّن الله تعالى ما يدفع ذلك الحسد، ويقلل من أهمية الأشياء التي حسدوا عليها محمدا، فهم إن يحسدوه على ما أوتي، فقد أخطئوا إذ له نظائر وأمثال كثيرة وهي أنه تعالى آتى مثل هذا لآل إبراهيم، والعرب منهم لأنهم من ذرية ولده إسماعيل، وآتاهم الله الكتاب الإلهي المشتمل على تشريع الأحكام، والحكمة التي هي فهم أسرار التشريع، والملك العظيم في أبنائه وذريته.
وفي هذا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين بزعامة نبيّهم ملك عظيم، بالإضافة إلى النّبوة والقرآن والحكمة، وقد بدأت تباشير القوة في المدينة شيئا فشيئا.
والخلاصة: إن اليهود قوم مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله مقصور عليهم، ورحمته لا تتعداهم، ولا يستحقها غيرهم، وهم واهمون سطحيون يحسبون أن ملك الدنيا بأيديهم، وحاسدون العرب على ظهور نبي آخر الزمان فيهم، وعلى ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة.
وأولئك الأنبياء المتقدمون كإبراهيم وذريته بالرغم من اختصاصهم بالنّبوة وإيتائهم الملك، لم تؤمن أممهم جميعا برسالتهم، بل منهم من آمن بهم، ومنهم من(5/112)
أعرض وظلّ على كفره، فلا تعجب يا محمد من موقف قومك، فهذه حال الأمم مع أنبيائهم. وفي هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ليشتد صبره على أذى قومه، ولا ييأس من إيمانهم. وفي رأي القرطبي: أن الضمير في قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم. وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أعرض فلم يؤمن به. وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم، وقيل: يرجع إلى الكتاب.
وإن لم يصبهم عذاب في الدنيا، فكفاهم عذاب جهنم في النار المسعّرة الشديدة اللظى، وبئس المصير، ولكن ذلك بسبب اتّباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- المنع من تزكية الإنسان نفسه: فإن المزكّي نفسه بلسانه يغضّ من قدر نفسه، ولا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وقد نهى الله صراحة عن ذلك بقوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم 53/ 32] . وكذلك نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك،
جاء في صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمّيت ابنتي برّة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا الاسم، وسمّيت برّة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزكّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرّ منكم» فقالوا: بم نسمّيها؟ فقال: «سمّوها زينب» .
وكذلك نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإفراط في مدح الرجل بما ليس فيه، فيدخله بسببه الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة، فيحمله ذلك على تضييع العمل، وترك الازدياد من الفضل.
ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة أنّ رجلا ذكر عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأثنى عليه رجل خيرا، فقال(5/113)
النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك قطعت عنق صاحبك- يقوله مرارا- إن كان أحدكم مادحا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكّي على الله أحدا» .
وفي حديث آخر: «قطعتم ظهر الرجل»
حين وصفوه بما ليس فيه.
وعلى هذا تأوّل العلماء
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «احثوا التراب في وجوه المدّاحين»
: أن المراد بهم المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يفتنون به الممدوح.
أما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود، ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه، فليس بمدّاح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النّيّات، وقال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة 2/ 220] . وقد مدح صلّى الله عليه وسلّم في الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث في وجوه المدّاحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسّان له في شعرهما، ومدح كعب بن زهير.
ومدح هو أيضا أصحابه
فقال: «إنكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع» .
وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم في صحيح الحديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله»
فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات، تلتمسون بذلك مدحي، كما وصف النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلّوا.(5/114)
وهذا يقتضي أن المبالغ بالمدح آثم.
2- ترفع الله عن الظلم: لقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا والفتيل:
الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وهو كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، ومثله قوله تعالى:
وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء 4/ 124] وهي النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة.
3- افتراء اليهود الكذب على الله: في قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] ، وقيل: تزكيتهم لأنفسهم،
وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد.
ومن المتفق عليه أن المراد بالآية: يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ: اليهود. والافتراء: الاختلاق.
4- الخلط في عقيدة اليهود: بالرغم من أن اليهود يؤمنون بالإله وعندهم كتاب سماوي، يؤمنون أيضا بالجبت والطاغوت أي بالأصنام والأوثان. وهذا ما أعلنه بعض عظمائهم: كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، بدليل:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء 4/ 60] ويقولون لكفار قريش:
أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد، كما تقدّم في سبب النزول.
5- زوال الملك والسلطة عن اليهود: أنكر الله تعالى وجود السلطة والملك على اليهود في ذلك الزمان، فقال: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟ أي ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا، لبخلهم وحسدهم.
6- البخل والحسد أسوأ أخلاق اليهود: أخبر الله تعالى عن اليهود بهاتين الصفتين الذميمتين وهما البخل والحسد: الأول في قوله سبحانه: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ(5/115)
النَّاسَ نَقِيراً
أي يمنعون الحقوق، وهو خبر من الله عزّ وجلّ بما يعلمه منهم.
والنقير: النكتة في ظهر النواة.
وأخبر عزّ وجلّ أيضا عنهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والمراد بالناس في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما: النّبي صلّى الله عليه وسلّم، حسدوه على النّبوة، كما حسدوا أصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: الناس: العرب، حسدتهم اليهود على النّبوة. وقال الضّحّاك: حسدت اليهود قريشا لأن النّبوة فيهم. والأقوال كلها متقاربة.
والحسد مذموم، وصاحبه مغموم،
وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، كما رواه ابن ماجه عن أنس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
7- نعم الله وأفضاله على آل إبراهيم: أخبر الله تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيّدوا بالملائكة. وقيل عن ابن عباس: يعني ملك سليمان، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان أكثر من ذلك.
واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء.
والمراد تكذيب اليهود والرّدّ عليهم في قولهم: لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النّساء، ولشغلته النّبوة عن ذلك فأخبر تعالى بما كان لداود وسليمان يوبّخهم، فأقرّت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة،
فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألف امرأة؟!» ، قالوا: نعم، ثلاثمائة مهريّة، وسبعمائة سرّية «1» ، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألف عند رجل، ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟» فسكتوا.
__________
(1) السّرّية: الأمة التي بوأتها بيتا، وهي فعليّة منسوبة إلى السّر وهو الإخفاء لسترها عن الحرّة عادة. [.....](5/116)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
عقاب الكافرين وثواب المؤمنين
[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
الإعراب:
خالِدِينَ حال منصوب من ضمير سَنُدْخِلُهُمْ. أَبَداً ظرف زمان منصوب.
لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مبتدأ وخبر، والجملة حالية، أو استئنافية.
البلاغة:
يوجد طباق بين آمَنُوا ... وكَفَرُوا.
ويوجد جناس اشتقاق في ظِلًّا ظَلِيلًا.
لِيَذُوقُوا الْعَذابَ استعارة، أستعير لفظ الذوق الذي يكون باللسان، إلى الألم الذي يصيب الإنسان، وله صفة الدوام وعدم الانقطاع.
المفردات اللغوية:
كَفَرُوا أنكروا وغفلوا عن النظر في آيات الله، وشككوا فيها مع العلم بصحّتها.
بِآياتِنا أي بالأدلّة التي ترشد أن هذا الدّين حق، ومن أجلّها القرآن.
نُصْلِيهِمْ نشويهم أو ندخلهم. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ احترقت وتلاشت. بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن تعاد إلى حالها الأولى غير محترقة. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليقاسوا شدّته.
عَزِيزاً غالبا قادرا لا يعجزه شيء. حَكِيماً في خلقه، يضع الشيء في موضعه المناسب، أو(5/117)
هو المدبّر للأشياء على وفق الحكمة والصواب. مُطَهَّرَةٌ من العيوب والأدناس الحسية كالحيض والمعنوية. خالِدِينَ دائمين. ظِلًّا ظَلِيلًا ظلّا وارفا دائما لا تنسخه شمس ولا يصحبه حرّ ولا برد، وهو ظلّ الجنّة. وهذه صيغة مبالغة وتأكيد، مثل قولهم: ليل أليل. وقد يعبر بالظل عن العزة والنعمة والرفاهية، فيقال: «السلطان ظل الله في أرضه» .
المناسبة:
هذا جزاء الفريقين: المؤمنين والكفار، الذين أشارت إليهم الآية السابقة بأن بعض الناس صدّق بالأنبياء، وبعضهم الآخر أعرض عن اتّباع الحق.
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا بآياتنا المنزلة على أنبيائنا، وبخاصة القرآن الذي هو خاتم الكتب الإلهية وأكملها وأبينها، سوف نحرقهم بالنار، ثم أخبر الله تعالى عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي كلما احترقت جلودهم، حتى لم تعد صالحة لنقل الإحساس بالألم إلى الدماغ في مركز الشعور، بدّلناهم جلودا أخرى حيّة تشعر بالألم وتحسّ بالعذاب،
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تبدّل جلودهم كلّ يوم سبع مرات» .
والسبب هو أن يذوقوا العذاب، أي يدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزّك الله، أي أدامك على عزك وزادك فيه، وهذا مثل قوله تعالى:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء 17/ 97] .
ثم أكّد الله تعالى علّة العقاب وبيّن مدى القدرة عليه، فذكر أنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، حكيم لا يعذب إلا بعدل، ولا يعاقب إلا على وفق الحكمة. ومن مقتضيات العدل: أن الكفر والمعاصي سبب للعذاب أو العقاب، وأن الإيمان والعمل الصالح سبب للنعيم والجنة، فلكل عمل ما يناسبه، لذا قرن ثواب المؤمن بجزاء الكافر، لإظهار الفرق بينهما.(5/118)
والذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا صالح الأعمال، سيدخلهم ربّهم سريعا جنّات تجري من تحتها الأنهار، يتمتعون فيها بالنعيم الدائم، وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا، فلا ملل ولا سأم ولا ضجر، جزاء لعملهم الصالح، إذ لا يكفي الإيمان وحده بغير العمل الصالح.
ولهم أزواج بريئات من العيوب الجسدية والخلقية أو الطباع الرّدية، فليس فيهنّ ما يعكر المزاج، أو يكدر الصّفو. ونجعلهم في مكان ممتع ظليل لا حرّ فيه ولا برد، وتلك نعمة كاملة، ورفاهية تامة.
ويلاحظ الفرق بين التعبير عن جزاء الكافرين بسوف وعن ثواب المؤمنين بالسين، ليفيد تحقق الثواب بسرعة ويقين، ويبيّن بعد العقاب المنتظر للكافرين لأنهم في أهوال المحشر ربّما كانوا في عذاب أشد من عذاب النّار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان الآيتان تعقدان مقارنة واضحة بين مصير الفريقين: فريق الكافرين وفريق المؤمنين.
أما الكافرون: فعذابهم محقق، والعذاب: هو تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. فإن قيل: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه؟ قيل له: ليس الجلد بمعذّب ولا معاقب، وإنما العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت، لا للجلد، والألم واقع على النفوس لأنها هي التي تحس وتعرف، فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب.
وتبديل الجلود: أن تأكله النار كل يوم سبع مرات، كما قال مقاتل. أو سبعين مرة كما قال الحسن البصري، أو سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم:
عودوا، فعادوا كما كانوا.(5/119)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
والله قادر على ذلك العذاب لا يعجزه شيء ولا يفوته، حكيم في تدبيره شؤون خلقه وفي إيعاده عباده.
وأما المؤمنون: فثوابهم محقق أيضا ومقطوع به يقينا، له مظاهر عديدة، منها التمتع بجنان الخلد، والتزوج بالحور العين، والاستظلال بظلّ كثيف لا شمس فيه، ولا يدخله ما يدخل ظلّ الدّنيا من الحرّ والسّموم «1» ونحو ذلك.
منهاج الحكم الإسلامي أداء الأمانات والحقوق إلى أهلها والحكم بالعدل وإطاعة الله والرسول وولاة الأمور
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
الإعراب:
أَنْ تُؤَدُّوا وأَنْ تَحْكُمُوا في موضع نصب لأن التقدير: بأن تؤدوا وبأن تحكموا، فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فاستحق النصب.
__________
(1) السّموم: الريح الحارة، تؤنث، وجمعها سمائم.(5/120)
البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ إيراد الأمر بصيغة الإخبار وتأكيده ب إِنَّ للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال وتكرار الاسم الجليل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لغرس المهابة في النفس.
المفردات اللغوية:
الْأَماناتِ جمع أمانة: وهي ما يؤتمن الشخص عليه، وفي عرف الناس: هي كل ما أخذته بإذن صاحبه. وتعمّ جميع الحقوق المتعلّقة بالذّمة، لله أو للناس أو لنفسه، ويسمى حافظها أمينا وحفيظا ووفيّا، ومن لا يحفظها ولا يؤدّيها خائنا.
بِالْعَدْلِ إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب طريق. نِعِمَّا فيه إدغام ميم «نعم» في «ما» النكرة الموصوفة أي نعم الشيء يَعِظُكُمْ بِهِ تأدية الأمانة والحكم بالعدل. تَأْوِيلًا مآلا وعاقبة.
سبب النزول:
نزول الآية (58) :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ:
عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: أرني المفتاح، فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس، فقال: بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هات المفتاح يا عثمان، فقال: هاك بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بردّ المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة، فأعطاه المفتاح، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حتى فرغ من الآية.
وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج، وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فناوله المفتاح.
قال:(5/121)
وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية، فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك
، قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة.
نزول الآية (59) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا..:
روى البخاري عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النّبي صلّى الله عليه وسلّم في سرية.
قال الداودي: هذا وهم يعني الافتراء على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب، فأوقد نارا، وقال: اقتحموا، فامتنع بعض، وهمّ بعض أن يفعل، قال: فإن كانت الآية نزلت قبل، فكيف يخصّ عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهم:
«إنما الطاعة في المعروف» وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟
وأجاب الحافظ ابن حجر بأن المقصود من قصته: فإن تنازعتم في شيء، فإنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة والتوقف، فرارا من النار، فتناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر بعض تلك الأعمال وأجلّها وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وإطاعة الله والرسول وأولي الأمر.
التفسير والبيان:
إن السبب الخاص الذي نزلت آية أداء الأمانات من أجله لا يخصص عموم اللفظ، وإنما العبرة عادة في كل آي القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي(5/122)
أمر عام بأداء الأمانات إلى أهلها لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده، ويتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان، سواء أكان ذلك في حق نفسه، أم في حق غيره من العباد، أم في حق ربه.
فرعاية الأمانة في حقوق الله: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واستعمال مشاعره وأعضائه فيما يقربه من ربه.
ذكر أبو نعيم في الحلية حديثا مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها» أو قال: «كل شيء إلا الأمانة»
والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. وقال جمع من الصحابة (ابن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وأبي بن كعب) : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا موسر أن يمسك الأمانة. وقال ابن عمر: خلق الله فرج الإنسان، وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها.
ورعاية الأمانة في حق النفس: ألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة، وأ لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب المرض، ويعمل بقواعد علم الصحة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
وقوله في الحديث الصحيح: «إن لنفسك عليك حقا» .
ورعاية الأمانة في حق الآخرين: رد الودائع والعواري، وعدم الغش في المعاملات، والجهاد والنصيحة، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم.
ووردت آيات وأحاديث كثيرة في حفظ الأمانة، منها قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب 33/ 72] . ومنها: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ(5/123)
راعُونَ
[المؤمنون 23/ 8] ومنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال 8/ 27] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أحمد وابن حبان عن أنس-: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»
وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» .
وأداء الأمانات واجب، ولا سيما عند طلبها من صاحبها، ومن لم يؤدها في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة،
كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء» .
وإذا هلكت الأمانة أو ضاعت أو سرقت، فإن كان ذلك بتعد أو تقصير أو إهمال ضمنت، وإلا فلا تضمن.
وبعد استقرار الأمانات يأتي دور الحكم بالعدل بين الناس، لذا أمر الله تعالى به، فالأمانة هي أساس الحكم الإسلامي، والعدل هو الأساس الثاني، والمخاطب بالأمرين هم جمهور الأمة.
والعدل: أساس الملك، وأمر تقتضيه الحضارة والعمران والتقدم، وتشيد به كل العقول، وأصل من أصول الحكم في الإسلام، ولا بد للمجتمع منه حتى يأخذ الضعيف حقه، ولا يبغي القوي على الضعيف، ويستتب الأمن والنظام، وأجمعت الشرائع السماوية على وجوب إقامة العدل، فعلى الحاكم وأتباعه من الولاة والموظفين والقضاة التزام العدل، حتى تصل الحقوق لأهلها، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالعدل، منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] ومنها: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى(5/124)
[الأنعام 6/ 152] ومنها: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] ومنها:
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ [المائدة 5/ 8] وأمر الله به داود:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص 38/ 26] .
وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال هذه الأمة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت» .
وندد الله تعالى بالظلم والظالمين في آيات عديدة منها: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم 14/ 42] ومنها: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] . ومن أخطر أنواع الظلم: الحكم بغير ما أنزل الله، وظلم الحكام: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل 27/ 52] وظلم القضاة.
وتحاشي الظلم من القاضي يكون بفهم الدعوى أولا، ثم عدم التحيز إلى أحد الخصمين، ومعرفة حكم الله، وتولية الأكفاء.
وفي قوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ إشارة إلى أنه لا بد من إقامة حاكم يحكم بين الناس بالحق.
ثم بيّن الله تعالى فائدة الأمر بالعدل وأداء الأمانة، فقال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يبصر ما يحدث منكم من أداء الأمانة وخيانتها، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس، فيحاسبكم ويجازيكم، فهو أعلم بالمسموعات والمبصرات.
ثم أمر الله تعالى بما يدعو إلى أداء الأمانة والتزام العدل وهو الأساس الثالث للحكم الإسلامي، وهو إطاعة الله بتنفيذ أحكامه، وإطاعة الرسول المبيّن حكم ربه، وإطاعة ولاة الأمور.(5/125)
ومن هم أولو الأمر؟ ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم الحكام أو أمراء السرايا. وذهب آخرون إلى أنهم العلماء الذين يبينون للناس الأحكام الشرعية.
وذهب الشيعة الإمامية إلى أنهم الأئمة المعصومون.
والظاهر إرادة الجميع، فتجب طاعة الحكام والولاة في السياسة وقيادة الجيوش وإدارة البلاد، وتجب إطاعة العلماء في بيان أحكام الشرع، وتعليم الناس الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن العربي: والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم.
وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب «1» .
ويرى الفخر الرازي أن المراد من أولي الأمر: أهل الحل والعقد، ليستدل بالآية على حجية الإجماع الصادر من العلماء.
فإن حدث تنازع واختلاف بينكم وبين أولي الأمر منكم في شيء من أمور الدين، ولم يوجد نص في القرآن ولا في السنة، يرد الأمر المتنازع فيه إلى القواعد العامة المقررة في القرآن والسنة، فيؤخذ بما يوافقهما، ويرد ما يخالفهما، وهذا ما يسمى في علم أصول الفقه بالقياس.
وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم العمل بالقياس، فحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال له: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة نبي الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله» .
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 452
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي.(5/126)
وأشعر قوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أن المتنازع فيه مما لا نص فيه، وإلا كان واجب الطاعة، غير محل للنزاع.
وردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله، كما أنه يقصد الآخرة ورضوان الله أكثر من حرصه على الدنيا. وهذا وعيد من الله لكل من حاد عن طاعة الله ورسوله، والرد إليهما عند الاختلاف، وهو في معنى قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء 4/ 65]
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني» .
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا إشارة إلى ما أمروا به من طاعة الله ورسوله والرد إليهما عند التنازع، وذلك أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
آية الأمانة والعدل من أمهات آيات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع. والأظهر أن الآية خطاب عام لجميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الأقضية.
وهي تدل على أساسين من أسس الحكم في الإسلام، ويتبع الأفراد الحكام:
الأول- أداء الأمانات إلى أهلها. أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب.
وأما اللقطة فتعرّف سنة ثم تستهلك وتضمن إن جاء صاحبها، والأفضل أن يتصدق بها. وأما المأجور والعارية فيلزم ردهما إلى صاحبهما بعد انقضاء عمله، قبل أن يطلبهما، وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إلى الدائن دينه.(5/127)
الثاني- الحكم بالعدل بين الناس.
والخطاب في الحكمين كما أوضحت للولاة والأمراء والحكام، ويدخل معهم جميع الخلق.
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو: «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا»
وقال أيضا: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» «1» .
فجعل النبي في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكّاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم لأنه إذا أفتى، حكم وقضى، وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى، وحكم يقضى.
والله تعالى سميع وبصير، يسمع ويرى، كما قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] يسمع الأحكام الصادرة فيجازي بها، ويبصر وقائع أداء الأمانات وخيانتها، فيحاسب عليها.
ولما أمر الله الولاة والحكام بأداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل، أمر الرعية بطاعته عز وجل أولا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، لكن تجب طاعة الأمراء أو السلطان فيما فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية.
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.(5/128)
وكذلك تجب طاعة أهل القرآن والعلم أي الفقهاء والعلماء في الدين. وقال ابن كيسان: هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس. والأصح الرأي الأول لأن أصل الأمر من العلماء والحكم إليهم. والعقل وإن كان مؤيدا للدين وعمادا للدنيا، فلا يتفق مع ظاهر اللفظ.
فإن حدث التنازع بين الأمة وبين الأمراء، رد الحكم إلى كتاب الله، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وذلك نظير قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 4/ 83] وقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] ومدعاة ذلك: الإيمان بالله وباليوم الآخر، وعاقبة الرجوع إلى القرآن والسنة ومآله أو مرجعه هو خير من التنازع.
واستنبط العلماء من هذه الآية أن مصادر التشريع الأصلية أربعة وهي:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس لأن الأحكام إما منصوصة في كتاب أو سنة، وذلك قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ والسنة: هي ما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، وإما مجمع عليها من أهل الحل والعقد من الأمة بعد استنادهم إلى دليل شرعي اعتمدوا عليه، وذلك قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها، وهذه سبيلها الاجتهاد والقياس: وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة، وذلك قوله:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
وأما المصادر التبعية الأخرى كالاستحسان الذي يقول به الحنفية، والمصالح المرسلة التي يقول بها المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية، فهي في الحقيقة راجعة إلى المصادر الأربعة الأصلية.(5/129)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
مزاعم المنافقين ومواقفهم
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
الإعراب:
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً صدودا: منصوب انتصاب المصادر، وهو اسم أقيم مقام المصدر، والمصدر في الحقيقة: هو الصدّ.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ استفهام يراد به التعجب.
ويوجد جناس مغاير في يُضِلَّهُمْ ضَلالًا وفي قُلْ لَهُمْ ... قَوْلًا وفي يَصُدُّونَ..
صُدُوداً.
المفردات اللغوية:
يَزْعُمُونَ الزعم: القول حقا كان أو باطلا، ثم كثر استعماله في الكذب. الطَّاغُوتِ(5/130)
الكثير الطغيان وهو كعب بن الأشرف. ضَلالًا بَعِيداً إعراضا عن قبول الحق. صُدُوداً إعراضا متعمدا عن قبول حكمك. إِحْساناً أي في المعاملة بين الخصوم. وَتَوْفِيقاً أي تسوية بينهم وبين خصومهم بالصلح. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ اصرف وجهك عنهم. وَعِظْهُمْ ذكرهم بالخير بنحو ترق له قلوبهم. قَوْلًا بَلِيغاً كلاما مؤثرا في نفوسهم.
سبب النزول: نزول الآية (60) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه أناس من أسلم، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إلى قوله: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعوهم إلى الكهان: حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال إلى النبي لأنه علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فنزلت.
وقال الكلبي عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن(5/131)
يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأى المنافق ذلك، أتى معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهودي، فلما خرجا من عنده، لزمه المنافق، وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب.
فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد، فقضى عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك، وتعلق بي، فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما، وضرب به المنافق حتى برد (مات) وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق «1» .
والخلاصة: اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي.
المناسبة:
بعد الأمر الإلهي السابق بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر، كشف الله عن موقف المنافقين الذين لا يطيعون الرسول، ولا يرضون بحكمه، بل يريدون حكم غيره كالكاهن أبي برزة الأسلمي أو الطاغية كعب بن الأشرف.
التفسير والبيان:
هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب النزول. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 93، تفسير القرطبي: 5/ 264(5/132)
انظر إلى أمر فئة زعموا الإيمان بالنبي محمد وبالأنبياء قبله وبما أنزل إليهم من الكتب، وشأن الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله العمل بما شرعه الله على ألسنة الرسل، فإذا تخطوا ذلك كانوا غير مؤمنين في الواقع.
هؤلاء المنافقون إذ لم يقبلوا التحاكم إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتحاكموا إلى الطاغوت والضلال من الكهنة كأبي برزة الأسلمي، أو اليهود مثل كعب بن الأشرف الذي سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والتأليب عليه والبعد عن الحق، مع أنهم أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه، إنهم إذ لم يقبلوا ذلك، دل على عدم إيمانهم، فألسنتهم تدعي الإيمان بالله وبما أنزله على رسوله، وأفعالهم تدل على الكفر بهما، وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم حكمه، وهذا دليل الخروج عن الإسلام.
ومن أوامر القرآن بالكفر بالطاغوت قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة 2/ 256] .
وهم بفعلهم ذلك كانوا تلامذة الشيطان، ويريد الشيطان أن يضلهم ويبعدهم عن الحق مسافة بعيدة، حتى لا يهتدوا إلى طريق الحق أصلا.
والدليل على ذلك أنه إذا قيل لأولئك الزاعمين الإيمان: تعالوا نحتكم إلى ما أنزل الله في القرآن وإلى الرسول، فهو الصراط القويم، رأيت هؤلاء المنافقين يعرضون عنك يا محمد وعن دعوتك، ويرغبون عن حكمك، بكل إصرار وعناد وتعمد للصدود. وهذه الآية مؤكدة لما سبق من تحاكمهم إلى الطاغوت وأصحاب الأهواء والجهلة، فمن أعرض عن حكم الله متعمدا، كان منافقا بلا شك.
وكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك، ووقعوا في مصاب أو عقوبة بسبب ذنوبهم وما قدمت(5/133)
أيديهم من الكفر والمعاصي والمواقف المفضوحة، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لكشف ما حل بهم من المصائب، فلا يقدرون على الإعراض والفرار منها، ثم جاؤوك- وهو معطوف على يَصُدُّونَ- يزعمون كاذبين أنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا في المعاملة، وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح، أو اعتذروا إليك وحلفوا: ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا بصحة ذلك التحاكم، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة 5/ 52] .
وهذا وعيد شديد على ما فعلوا، وأنهم يندمون حين لا ينفع الندم. ونظير ذلك:
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة 9/ 107] .
هذا النوع من الناس وهم المنافقون الله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، وهو عالم بظواهرهم وبواطنهم، فأعرض عنهم أي لا تأبه بهم ولا تعنفهم على ما في قلوبهم، وعظهم أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.
وقوله: أُولئِكَ ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، فمقدار ما في قلوبهم من كفر وحقد ومكر وكيد بلغ حدا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.
وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يدل على كيفية معاملتهم بثلاثة أحوال: الإعراض عنهم، والنصح والتذكير بالخير لترق قلوبهم، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة وبتخويفهم بالقتل إن ظهر منهم النفاق تارة أخرى.(5/134)
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- من ردّ شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول فهو كافر خارج عن الإسلام، لذا حكم الصحابة بردّة مانعي الزكاة. وكذا كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر. ودلت القصة في سبب النزول على تحاكم اليهودي مع المسلم عند حاكم الإسلام.
2- الواجب على المسلمين تنفيذ الحكم المنصوص عليه في القرآن أو السنة النبوية الثابتة، ورد كل ما يعارضهما من فتاوى وأقضية وأحكام، وأما ما لا حكم فيه بالوحي، فيعمل برأي المجتهدين المستنبط من قواعد الشريعة العامة، المتفق مع المصلحة العامة.
3- من أعرض عن حكم الله عمدا أو حكم رسوله، كان منافقا لا صلة له بالإسلام، وكان نزول الآيات تأييدا لفعل عمر الذي نزل جبريل في شأنه، فقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمّي الفاروق.
4- سيندم المنافقون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يقبل عذرهم.
5- لا يحسد المنافقون على موقفهم المخزي إذ أنهم مفضوح أمرهم من قبل الله الذي لا تخفى عليه خافية، لذا قال الله تعالى مكذبا لهم: أُولئِكَ ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ قال الزجّاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا:
اعلموا أنهم منافقون.
6- وسائل إمكان إصلاح المنافقين ثلاث:
أ- الإعراض عنهم وعن عقابهم وعن قبول اعتذارهم وعن تلقيهم بالبشاشة والتكريم.(5/135)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
ب- الوعظ والتخويف والنصح والإرشاد إلى الخير على نحو يبعثهم على التأمل فيما يوعظون به، وتلين قلوبهم لسماعه.
ج- الزجر بأبلغ الزجر بالقول المؤثر البليغ في السر والعلن عن طريق التوعد بالقتل والاستئصال إن استمروا في نفاقهم، وإخبارهم بأن ما يضمرونه من نفاق غير خاف على من يعلم السر وأخفى، وأنهم كالكفار، بل أشد منهم كفرا، وعقابهم في الدرك الأسفل من النار.
فرضية طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
الإعراب:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ تقديره: فلا يؤمنون، وربك لا يؤمنون، فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا، فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول.
البلاغة:
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ فيه التفات عن الخطاب: «واستغفرت لهم» إلى الغيبة:(5/136)
وَاسْتَغْفَرَ تعظيما لشأن الرسول واستغفاره وتفخيما لهما وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. وهناك جناس مغاير في وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ استعارة لأنه استعار ما تشابك من الشجر وهو أمر محسوس إلى التنازع أو الاختلاف القائم بينهم وهو معنى معقول.
المفردات اللغوية:
بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره، لا ليعصى، وإذن الله: إعلامه بالوحي. إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتحاكمهم إلى الطاغوت وغير ذلك من ألوان الظلم جاؤُكَ تائبين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أي دعا الله أن يغفر لهم، فيه التفات عن الخطاب تفحيما لشأنه تَوَّاباً عليهم رَحِيماً بهم. يُحَكِّمُوكَ يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك شَجَرَ اختلط الأمر فيه واختلف حَرَجاً ضيقا أو شكا قَضَيْتَ حكمت به وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ينقادوا ويذعنوا من غير معارضة.
سبب النزول: نزول الآية (65) :
فَلا وَرَبِّكَ:
أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرّة «1» ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن «2» كان ابن عمتك! فتلون وجهه، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (ما رفع حول المزرعة كالجدار) ثم أرسل الماء إلى جارك.
واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.
قال الزبير: ما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
__________
(1) الشراج: مسايل الماء. والحرة: أرض ذات حجارة سود.
(2) أي لأن. أو بمد الهمزة على جهة الإنكار «آن» .(5/137)
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: فَلا وَرَبِّكَ الآية، قالت: أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة تنديدا بموقف المنافقين الذين أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول وآثروا عليه التحاكم إلى الطاغوت، وهنا أراد الله تعالى تقرير مبدأ عام وهو فرضية طاعة الرسول بل وكل رسول مرسل.
التفسير والبيان:
وما أرسلنا من رسول إلا وقد فرضنا طاعته على من أرسله إليهم، وتلك الطاعة مفروضة بأمر الله وإذنه، وعليهم أن يتبعوه لأنه مؤد عن الله، فطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعص الرسول فقد عصى الله.
والمراد بقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي بسبب إذن الله في طاعته، ويجوز أن يراد: بتيسير الله وتوفيقه في طاعته، قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني، والمراد لا يطيعه إلا من وفقته لذلك، كقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران 3/ 152] أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم.
ثم يرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إن فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم، ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي لعلموه توابا، أي لتاب عليهم.(5/138)
وفي هذا إيماء إلى أن من يبادر إلى التوبة الصحيحة تقبل توبته بشروطها المقررة شرعا، بأن تكون عقب الذنب مباشرة، والعزم على اجتناب الذنب، وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص لله في ذلك. أما مجرد الاستغفار باللسان دون شعور صادق من القلب بألم المعصية فلا يفيد.
وقد سمى الله سبحانه ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس، أي إفسادا لها.
ثم أكد الله تعالى وجوب طاعة الرسول بقسم عظيم نفى فيه الإيمان عمن لم يقبل قبولا تاما مع الرضا القلبي حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فأقسم تعالى بربوبيته لرسوله بأن الذين رغبوا عن التحاكم إليك من المنافقين لا يؤمنون إيمانا حقا إلا بتوافر ثلاث صفات:
1- أن يحكّموا الرسول في قضايا المنازعات التي يختلفون فيها، فلا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا.
2- ألا يجدوا حرجا أي ضيقا وشكا فيما يحكم به: بأن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه، مع الرضا التام، والقبول المطلق، وعدم الامتعاض.
3- الانقياد التام والتسليم الكلي للحكم في الظاهر والباطن، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. ويدخل هذا في مرحلة التنفيذ، فقد يرى الشخص أن الحكم حق، لكنه يتهرب من تنفيذه.
ورد في الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
1- وجوب الطاعة التامة لأوامر الرسول ونواهيه وأقضيته وأحكامه.(5/139)
2- الاستغفار من الذنب والتوبة الصادقة مع شرائطها طريق محو الذنوب وتكفير الخطايا.
3- استغفار الرسول لبعض المذنبين شفاعة مستجابة من الله تعالى.
4- الرضوخ التام لأقضية الرسول واعتقاد عدالتها وأحقيتها مع الانصياع للحكم القضائي في التنفيذ شرط جوهري لصحة إيمان المؤمنين. وأمارة ذلك:
تحكيمه في الخلافات، وعدم التبرم بحكمه، والانقياد التام لقضائه.
5- عصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الخطأ في الأحكام القضائية كعصمته في تبليغ الوحي الإلهي، فهو لا يحكم إلا بالحق بحسب الظاهر له، لا بحسب الواقع، والله يتولى السرائر.
6- المراد بهذه الآية كما قال مجاهد وغيره: من تقدم ذكره في الآية السابقة ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت. قال الطبري: قوله: فَلا ردّ على من تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.
وأما على رأي من قال: نزلت في الزبير مع الأنصاري في خصومة في سقي بستان، فلا يوصف الأنصاري بالوصف المقرر آنفا وهو: كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر، لأن الأنصاري زلّ زلّة، فأعرض عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأقال عثرته، لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة، وليست لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من لم يرض بحكم الحاكم بعده، فهو عاص آثم «1» .
ويلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى للزبير بالحق لأن الأعلى يسقي قبل الأسفل، ولكنه
قال له أولا: «اسق يا زبير»
لقربه من الماء
«ثم أرسل الماء إلى
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 456(5/140)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
جارك»
ومعناه: تساهل في حقك، ولا تستوفه، وعجّل في إرسال الماء إلى جارك، فحضّه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا، لم يرض بذلك وغضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا، فنطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: «آن كان ابن عمتك؟» بمد همزة «أن» المفتوحة على جهة الإنكار، أي أتحكم له عليّ لأجل أنه قرابتك؟ فعند ذلك تلوّن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له «1» .
وصفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل: أن يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في بستانه، ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط (البستان) إلى الكعبين (الجذور) من القائم فيه، أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك، حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط.
ويؤيده
ما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في سيل مهزور ومذينب «2» : «يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» «3» .
حب الوطن والتزام أوامر الله والرسول
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 267
(2) مهزور ومذينب: واديان بالمدينة، يسيلان بماء المطر خاصة.
(3) قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجه من الوجوه.(5/141)
الإعراب:
أَنِ اقْتُلُوا أن مفسرة ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قليل: مرفوع على البدل من الواو في فَعَلُوهُ وتقديره: ما فعله إلا قليل منهم. وقرئ بالنصب على الأصل في الاستثناء، والأصل في الاستثناء: النصب.
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً منصوب لأنه مفعول ثان لهديناهم، يقال: هديته الطريق هداية، وهديت في الدين هدى. وفعل في المصادر قليل.
المفردات اللغوية:
كَتَبْنا فرضنا عليهم اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما كتبنا على بني إسرائيل ما فَعَلُوهُ أي المكتوب عليهم ما يُوعَظُونَ بِهِ من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها تَثْبِيتاً تقوية وجعله ثابتا راسخا وَإِذاً لو ثبتوا مِنْ لَدُنَّا من عندنا أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
سبب النزول:
نزول وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ: تفاخر ثابت بن قيس بن شمّاس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم، ذكر هنا تقصير كثير من الناس في ذلك لضعف إيمانهم.(5/142)
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بالامتناع عما هم عليه من المناهي، لما فعلوه لأن طباعهم الرديئة ميّالة إلى مخالفة الأمر. وهذا من علمه تعالى بما لم يكن أو كيف يكون ما كان.
ولو أن الله تعالى فرض على الناس أن يقتلوا أنفسهم، كما أمر بني إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل، فكان قتل النفس (الانتحار) طريق التوبة، أو لو فرضنا عليهم أن يخرجوا من أوطانهم، ويهاجروا في سبيل الله إلى بلاد أخرى، ما فعل المأمور به من قتل النفس وهجر الوطن إلا نفر قليل منهم.
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الأوامر والنواهي المقترنة بأسبابها وعللها أو حكمها، وبالوعد والوعيد، لكان ذلك خيرا لهم وأحسن، وأشد تثبيتا لهم في الدين وأرسخ.
ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به، لمنحناهم من عندنا أجرا عظيما وهو الجنة التي وصفها النبي صلّى الله عليه وسلّم
بقوله فيما رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري: «في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
، ولهديناهم إلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة وهو العمل المؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية معا.
قه الحياة أو الأحكام:
تتطلب إطاعة الأوامر الإلهية إيمانا راسخا كالجبال الراسيات، والطاعة:
حمل النفس على فعل ما تكره، لا على ما تحب، ولا يفعل ذلك إلا فئة قليلة من الناس، ولو فعلوا المأمور به وتركوا ما ينهون عنه لكان لهم خيرا في الدنيا والآخرة، ودليلا على الثبات على الحق، وسببا لاستحقاق الثواب العظيم في(5/143)
الآخرة لأن الجنة حفّت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، كما ثبت في الحديث.
وحينما نزلت هذه الآية أبدى نفر من المسلمين استعداده لتنفيذ الأمر الإلهي. قال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» قال ابن وهب: قال مالك: القائل ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمّار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي» .
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما نزلت: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ..
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» أي ابن مسعود.
وقال شريح بن عبيد: لما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ.. أشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده هذه إلى عبد الله بن رواحة، فقال: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» يعني ابن رواحة.
وفي قوله: أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ إيماء إلى حب الوطن وتعلق الناس به، وجعله قرين قتل النفس، وصعوبة الهجرة من الأوطان.(5/144)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
جزاء طاعة الله والرسول
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
الإعراب:
رَفِيقاً منصوب بأحد وجهين:
أحدهما- أن يكون منصوبا على التمييز، ويراد به هاهنا الجمع، فوحّد كما وحّد في نحو:
عشرون رجلا، وقد يقام الواحد المنكور مقام جنسه.
والثاني- أنه منصوب على الحال.
المفردات اللغوية:
وَالصِّدِّيقِينَ جمع صدّيق: وهو الصادق في قوله واعتقاده، كأبي بكر الصديق وغيره من أفاضل الصحابة: أصحاب الأنبياء، لمبالغتهم في الصدق والتصديق، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم 19/ 56] .
وَالشُّهَداءِ جمع شهيد: وهو الذي يشهد بصحة الدين بالحجة والبرهان، ويقاتل في سبيله بالسيف والسنان. والشهداء: القتلى في سبيل الله.
وَالصَّالِحِينَ جمع صالح: وهو من صلحت نفسه، وغلبت حسناته سيئاته.
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً رفقاء في الجنة، بأن يتمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرها. جعلني الله ووالدي وأحبائي معهم.
سبب النزول:
أخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني(5/145)
إذا دخلت الجنة، خشيت أن لا أراك، فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ.. الآية.
قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، خوف عدم رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بعد الموت، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو قدّمت لرفعت فوقنا، ولم نرك، فأنزل الله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة قال: أتى فتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا، ويوم القيامة لا نراك، فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنت معي في الجنة إن شاء الله.
المناسبة:
توّج الله تعالى الآيات السابقة الآمرة بطاعة الله والرسول ببيان جزاء الطاعة، الذي هو الأمل الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.
التفسير والبيان:
من عمل بما أمره الله به ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقا لأصحاب الدرجات العليا وهم صفوة الله من عباده، وهم أربع مراتب:
الأنبياء، ثم الصدّيقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين(5/146)
صلحت سرائرهم وعلانيتهم، واللفظ يعم كل صالح وشهيد، فالمطيع يكون مع هؤلاء في دار واحدة ونعيم واحد، يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة، فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء، وكل واحد فيها راض بحاله.
ثم أثنى الله تعالى عليهم فقال: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي أن الأصناف الأربعة يكونون رفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته. ورفيقا بمعنى المرافق والمراد به الجمع وهو رفقاء، فكأن المعنى: وحسن كل واحد منهم رفيقا، مثل: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج 22/ 5] أي نخرج كل واحد منكم طفلا.
ويؤيد الآية:
ما رواه الطبراني مرفوعا: «من أحب قوما، حشره الله معهم»
وما أخرجه الشيخان عن أنس: «المرء مع من أحب»
والمحبة تقتضي الطاعة، كما قال الله تعالى: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.. [آل عمران 3/ 31] .
هذا الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الإلهي العظيم، والله أعلم بمن يستحقه، فهو أعلم بمن اتقى، وكفى به سبحانه عليما بالأتقياء المطيعين، وبالعصاة المنحرفين، وبالمنافقين المرائين.
والآية إخبار من الله تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه.
فليحذر المنافقون المصير المشؤوم إن لم يصلحوا حالهم، وليهنأ المؤمنون الطائعون الصادقون بفضل الله ونعمته، وليفرحوا بما أثابهم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
لمّا ذكر الله تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه، لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله.(5/147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
وهذه الآية تفسير لقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة 1/ 6- 7] وهي المراد في
قوله عليه السلام عند موته: «اللهم الرفيق الأعلى» .
وفي البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة» كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحّة «1» شديدة، فسمعته يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين» فعلمت أنه خيّر.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنّى بالصديقين، ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صدّيقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق، وأنه ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يجز أن يتقدم بعده أحد «2» .
قواعد القتال في الإسلام
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
__________
(1) البحّة: هي غلظ الصوت وخشونته من داء أو كثرة صياح.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 273(5/148)
الإعراب:
ثُباتٍ حال من واو فَانْفِرُوا الأولى. جَمِيعاً حال من واو فَانْفِرُوا الثانية، وكل واحد من الفعلين هو العامل في الحال الذي يليه.
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام في لَمَنْ لام الابتداء التي تدخل مع «إن» وهي هنا داخلة على اسم «إن» . واللام في لَيُبَطِّئَنَّ: هي اللام الواقعة في جواب القسم، وهو هنا محذوف وتقديره: لمن والله ليبطئن. ولام القسم في صلة «من» .
يا لَيْتَنِي المنادي محذوف وتقديره: يا هذا ليتني، مثل: «ألا يا اسجدوا لله» أي يا هؤلاء اسجدوا. وحذف المنادي كثير في كلامهم. فَأَفُوزَ منصوب بأن مضمرة بعد التمني، وتقديره: فأن أفوز. وقرئ بالرفع على تقدير: فأنا أفوز. كَأَنْ مخففة واسمها محذوف، أي كأنه. مَوَدَّةٌ اسم يكن، وبينكم وبينه: خبرها المقدم على اسمها. ولا يجوز أن تكون التامة لأن الكلام لا يتم معناه بدون «بينكم وبينه» فهو الخبر، وتتم به الفائدة.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ما: مبتدأ، ولكم: خبره، ولا تقاتلون حال من الكاف واللام في «لكم» وتقديره: أي شيء استقر لكم غير مقاتلين، مثل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء 4/ 88] . وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: معطوف على اسم الله تعالى. وقيل: على سبيل. الظَّالِمِ(5/149)
أَهْلُها
الظالم صفة للقرية، وجاز وصف القرية وإن لم يكن الظلم لها لعود الضمير العائد إليها من «أهلها» . وأهلها: فاعل الظالم.
البلاغة:
يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ استعارة، استعار لفظ الشراء للمبادلة، أي يبيعون الفانية بالباقية.
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين القول ومقوله وهو: يا ليتني.
ويوجد مقابلة في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ استفهام توبيخ، أي لا مانع لكم من القتال.
المفردات اللغوية:
خُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترزوا وتيقّظوا من عدوّكم، والحذر والحذر بمعنى واحد، كالمثل والمثل: وهو التيقّظ والاستعداد. فَانْفِرُوا انهضوا إلى قتاله. ومصدره: النفر: وهو الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء. ثُباتٍ متفرقين واحدها ثبة: وهي الجماعة، أي اخرجوا جماعة تلو جماعة. لَيُبَطِّئَنَّ ليتأخرن عن القتال، كعبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وجعله من المسلمين من حيث الظاهر. والتبطؤ: يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء: وهو التأخر في السير عن الانبعاث للجهاد وغيره. مُصِيبَةٌ ما يصيب الإنسان من قتل أو هزيمة أو غيرهما. شَهِيداً حاضرا معهم. الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ كفتح وغنيمة. مَوَدَّةٌ معرفة وصداقة. فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً آخذ حظّا وافرا من الغنيمة.
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه، وسبيل الله: تأييد الحق ونصرته، بإعلاء كلمة الله ونشر دعوته. الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. فَيُقْتَلْ يستشهد. أَوْ يَغْلِبْ يظفر بعدوه. أَجْراً عَظِيماً ثوابا جزيلا.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا مانع لكم من القتال. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي في تخليص المستضعفين. وَالْوِلْدانِ الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي منهم. الْقَرْيَةِ مكة. الظَّالِمِ أَهْلُها بالكفر. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا من عندك من يتولى أمورنا. نَصِيراً يمنعنا منهم. وقد استجاب دعاءهم، فيسّر لبعضهم الخروج، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة،
وولّى صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فأنصف مظلومهم من ظالمهم.(5/150)
الطَّاغُوتِ الشيطان أو الطغيان: وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشّر، والطاغوت يذكّر ويؤنّث. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أنصار دينه، تغلبوهم لقوتكم بالله. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن كيد الشيطان بالمؤمنين كان واهيا لا يقاوم كيد الله بالكافرين.
وكيد الشيطان: السعي في الفساد بالحيلة.
المناسبة:
لما حذر الله تعالى من المنافقين وأمر بطاعة الله والرسول، أمر هنا أهل الطاعة بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع شأن دينه، وأمر بالاستعداد حذرا من مباغتة الكفار، ثم بيّن حال المنافقين المثبطين العزائم عن الجهاد، وهذا انتقال من الميدان الداخلي إلى المجال الخارجي، انتقال من السياسة الاجتماعية في التعامل إلى السياسة الحربية.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوّهم، وهذا يستلزم التأهّب لهم بإعداد الأسلحة وإعداد الجيش المقاتل. ويرسم الله تعالى سياسة الحرب ويضع قواعد القتال المؤدية إلى النصر والفوز الساحق.
يا أيها المؤمنون التزموا الحذر، واحترسوا من الأعداء، واستعدوا لردّ العدوان، فإنكم معرّضون لشنّ معارك كثيرة طاحنة، وهذا أمر دائم يتكيّف بحسب تطور وسائل الحرب وقواعد القتال على ممر العصور. قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف، والرمح بالرمح. وهكذا بحسب المعروف بين الأمم من وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية.
ولا يصح للمؤمن أن يخشى اقتحام المعارك لأن أجل الإنسان لا يتأخر ساعة ولا يتقدم، وعلى المؤمنين اتّخاذ ما يمكنهم من أسباب القوة، غير محتجّين(5/151)
بقدر، ولا يائسين من حدوث نكسة ما، أما ما روى الحاكم عن عائشة «لا يغني حذر من قدر» فلا يتناقض مع أخذ الحذر لأن الحذر داخل في القدر إذ القدر: هو جريان الأمور على وفق السّببية أي أن المسببات تأتي عادة على قدر الأسباب، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بالقدر.
فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي فانهضوا للقتال جماعة إثر جماعة، فصائل وفرقا وسرايا، أو انهضوا جميعا متعاضدين كلكم حسبما ترون من قوة العدو وحاله. وهذا يعني كون الأمة على استعداد دائم للجهاد، وهذا نظير قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال 8/ 60] .
لكن بعضا منكم في ساحة الجبهة الداخلية قد يتخلف عن الجهاد، وقد يعرقل مسيرة المجاهدين، وقد يعوق أو يسعى لتثبيط العزائم عن الجهاد، وهؤلاء هم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء.
أما المنافقون فلا يرغبون في القتال لأنهم لا يحبون الإسلام وأهله، وأما الجبناء وضعاف الإيمان فيترددون في المشاركة بالجهاد خورا وضعفا وجبنا.
وهؤلاء يصطادون في الماء العكر ويستغلون النتائج والوقائع، فإن أصابتكم مصيبة كقتل أو هزيمة، فرحوا فرحا شديدا بنجاة أنفسهم، وحمدوا الله على أن لم يكن أحدهم حاضرا في المعركة، يعدون ذلك من نعم الله عليهم، ولم يدروا ما فاتهم من الأجر في الصبر، أو الشهادة إن قتلوا.
وإن أصابكم فضل من الله، أي نصر وظفر وغنيمة قالوا- وكأنهم ليسوا من أهل دينكم-: يا ليتنا اشتركنا في القتال لنحظى بسهم من الغنيمة.
وهم في الحالين ضعاف العقول، قاصرو النظر، ضعاف الإيمان جبناء، لذا وبّخهم الله تعالى وقرّعهم بعبارة لطيفة تدلّ على انقطاع صلتهم بالمسلمين وهي:(5/152)
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. وهذا فيه استثارة للتأمل والتفكير في نفس السامع إذ يدعو صاحبه إلى النظر في حقيقة حاله وعيوب نفسه.
ثم انتقل الله تعالى ببيانه من وصف حال الضعفاء إلى بيان مركز الأقوياء، ومن دائرة الهبوط في دائرة التخلف عن القيام بالواجب إلى الصعود إلى مرتبة يمكن فيها تطهير النفوس من ذلك الذنب العظيم: ذنب التقاعس عن القتال.
فحرض عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة أو غيرها من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من القيام بها.
فليقاتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته ولنصرة دينه- دين الحق والتوحيد، والعدل والكرامة، والقوة والمدنية: من يبيع دنياه الفانية بالآخرة الباقية، حتى يحقق علو كلمة الله، فيجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.
ثم رغّب الله تعالى في القتال بعد الأمر به ببيان الثواب عليه، فمن يقاتل في سبيل الله، فيغلبه عدوه، أو يغلب هو العدو، فإن الله سيؤتيه ثوابا عظيما هو الجنة والأجر الحسن. وهذا يدلّ على شرف الجهاد والمجاهدة، وقد عانى المسلمون أشدّ البلاء من الكفار في مكة قبل الفتح، مثلما حدث لبلال وصهيب وعمار وأسرته.
ثم زاد الترغيب في الجهاد بنفي الأعذار، فأي عذر لكم يمنعكم عن القتال في سبيل الله لإحلال التوحيد محل الشرك، والخير محل الشّر، والعدل والرّحمة في موضع الظلم والقسوة، وعن إنقاذ المستضعفين إخوانكم في الدّين رجالا ونساء وصبية الذين منعهم كفار قريش من الهجرة وفتنوهم عن دينهم. والتحدث عن هؤلاء يثير النخوة ويهزّ الأريحية ويوقظ الشعور بالواجب والتفاني من أجل رفع الظلم عن الضعفاء.(5/153)
إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين، وهم يقولون من شدّة الألم والعذاب: ربّنا أخرجنا من تلك القرية «مكة» التي كفر أهلها وظلموا العباد، واجعل لنا من عندك وليّا يلي أمورنا، ويستنقذنا، ويحمي نفوسنا وأعراضنا، واجعل لنا من عندك نصيرا يمنعنا من الظلم، وينصرنا عليهم، ويساعدنا على الهجرة، فليس أمامنا إلا بابك الكريم يا الله.
ثم عقد الحق سبحانه وتعالى مقارنة بين أهداف الجهاد عند المسلمين وأغراض القتال عند المشركين. وهي أن المؤمنين يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله- كلمة الحق والتوحيد والعدل وإنصاف الشعوب، لا من أجل الاستعمار والاستغلال، والتعدي والظلم، وسلب الملكيات ونهب الثروات، كما هو حاصل الآن وأما الكافرون فهم يقاتلون لأغراض وهمية، أو مادية دنيئة، أو شهوانية ذاتية، فهم إنما يرضون وسوسة الشيطان، وإعلاء الوثنية، ومناصرة الكفر، أو يطمعون في الحصول على الغنائم، أو للتفاخر والاعتزاز وإرضاء النفس بمجرد الشعور بالانتصار والغلبة، وتحقيق السمعة والشهرة أمام القبائل العربية.
ولكن المصير المحتوم هو تغلّب الحق على الباطل في النهاية لأن الحق قوي ثابت وجنده أعزّ وأمنع، والباطل ضعيف مهزوم، وجنده أضعف وأخوف، والحق يعلو ولا يعلى عليه، لذا أمر الله تعالى بقوله بما معناه: فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء أو نصراء الشيطان الذين أوهمهم ووسوس لهم أن في الظلم والتدمير شرفا وإعلاء مكانة، ولا تغرنكم قوتهم وأعدادهم وأسلحتهم، فإن كيد الشيطان وتدبيره أو وسوسته كان ضعيفا لا تأثير له عند ذوي العقول الناضجة، والأفكار السامية. وأما أنتم فوليكم الرحمن وناصركم ومدبر أموركم ما نصرتموه، وجند الله هم الغالبون، وحزب الله هم المفلحون.(5/154)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تبيّن المواقف الثابتة للأمة الإسلامية في علاقاتها الخارجية أثناء الحرب.
فهي أولا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالاستعداد للجهاد، وأخذ الحذر الدائم، وأمر لهم بجهاد الأعداء والنضال في سبيل الله، وحماية الشرع، وديار الإسلام، وتخليص المستضعفين، ومطالبتهم ألا يقتحموا عدوهم على جهالة حتى يستطلعوا ما عندهم من قوى وعدد وعدد، ويعلموا كيف يردّون عليهم، فذلك أثبت لهم، لذا قال لهم: خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو تعليم لأسلوب مباشرة الحروب.
ولا ينافي أخذ الحذر التوكل على الله، بل هو مقام عين التوكل لأن التوكل ليس معناه ترك الأسباب، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم في السّعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد أسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة. قال سهل: من قال: إن التّوكل يكون بترك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله عزّ وجلّ يقول: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال 8/ 69] ، فالغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال 8/ 12] ، فهذا عمل.
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يحبّ العبد المؤمن المحترف» «1» .
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرضون على السرية «2» .
__________
(1) رواه الحكيم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر، لكنه حديث ضعيف. [.....]
(2) تفسير القرطبي: 4/ 189، 5/ 273، أحكام القرآن للجصاص: 2/ 215، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، سمّوا بذلك لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.(5/155)
وليس في الآية دليل على أن الحذر يتعارض مع القدر، أو يمنع من القدر شيئا ولكنّا مطالبون بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة،
وورد في الحديث: «اعقلها وتوكل» «1»
والقدر جار على ما قضى الله، ويفعل الله ما يشاء، ويكون أخذ الحذر من القدر، كما أوضحت في تفسير الآيات.
ودلّت الآيات ثانيا على قاعدة من قواعد الحرب أو سياسة من سياسات المعركة وخطتها وهي النهوض لقتال العدو إذا دعا الإمام الناس إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو إما جماعة إثر جماعة، أو الزّج بطاقة الجيش الكثيف كله في قلب المعركة، على وفق ما يرى القائد الحربي من مصلحة، معتمدا على استطلاع أحوال العدو واستعداداته واستحكاماته، واحتمالات تطور المعركة.
ويقال للقوم الذين ينفرون: النفير.
وبناء على هذا، فليست الآية منسوخة ولا معارضة لقوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة 9/ 41] ، وقوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة 9/ 39] ، وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة 9/ 122] لأن كل آية يعمل بها بحسب الظرف الحربي الملائم لها، فإحداها في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعيين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.
وترشد الآيات ثالثا إلى أن في الأمة في كل زمان فئة المثبطين أو المبطئين وهم المنافقون، والتبطئة والإبطاء: التأخر، وديدنهم القعود عن القتال ويقعدون غيرهم معهم. فهم من جنس الأمة ودخلائها وممن يظهر الإيمان للجماعة، ويتظاهر بالإخلاص في رسالتها. وهم جماعة انتهازيون: إن حققت الجماعة فتحا ونصرا وأحرزت غنيمة، يقول المنافق الواحد منهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، كأنه مقطوع الصلة والمودة بالأمة ولم يعاقد على الجهاد.
__________
(1) رواه الترمذي عن أنس، وهو ضعيف.(5/156)
وإن أصيبت الأمة بمصيبة من قتل وهزيمة، فرح وقال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا أي حاضرا. فهؤلاء المنافقون يجب الحذر منهم أشدّ الحذر، وهم مروجو الإشاعات المغرضة: إشاعة الضعف والهزيمة وعدم تكافؤ القوى في عصرنا الحاضر.
وأكدت الآيات رابعا أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، أولئك المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدّنيا بالآخرة، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عزّ وجلّ مقابل الحصول على ثواب الآخرة.
وثواب الآخرة لمن قتل أو غلب العدو عظيم جدا لا يخضع لتصور إنسان.
وظاهر قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما، أي إن كلّ من قاتل في سبيل الله، سواء قتل (استشهد) أو غلب العدو، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، فللشهيد أجر، وللغانم أجر، بدليل
ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة» .
ومعنى الجملة الأخيرة: يقتضي أن من لم يستشهد من المجاهدين له أحد الأمرين: إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا كله بالنسبة للمجاهد الذي أخلص النيّة في الجهاد.
أما إن نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فإن أصاب الغنيمة تعجل ثلثي أجره من الآخرة، ويبقى له الثلث، وإن لم يصب غنيمة تمّ له أجره. وهذا مستفاد من حديث آخر عن عبد الله بن عمرو «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 277- 278(5/157)
وخامسا- بيّنت الآية بعض أحوال مشروعية القتال مع الحضّ على الجهاد وهي ما يلي:
1- القتال في سبيل الله: يفسره
الحديث النّبوي الذي رواه الجماعة عن أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
أي أنه قاتل لإعلاء كلمة الدّين وإظهاره، ورفع راية الإسلام المتضمنة توحيد الله، وإقرار العدل والحقّ، والدعوة إلى فضائل الأخلاق، وعبادة الله الواحد القهّار وتعظيمه لا تعظيم أحد من البشر.
2- استنقاذ الضعفاء المؤمنين من عباد الله من براثن العدو: وهذا واجب وإن كان في ذلك تلف النفوس. ويكون تخليص الأسارى واجبا على جماعة المسلمين إما بالقتل وإما بالأموال، وهو أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجمع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه لقوله عليه الصّلاة والسّلام
فيما رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى: «فكّوا العاني»
أي الأسير. وكذلك قال العلماء: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة.
ومن أمثلة المستضعفين في التاريخ: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون
بقوله عليه الصّلاة والسّلام: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين»
، وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
وما أمتع تلك المقارنة في أهداف القتال: المؤمنون يقاتلون في سبيل طاعة الله، ومن أجل نشر دينه وأحكام شرعه فهو ناصرهم ووليهم، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت (الشيطان وما يمثله من ظلم وخرافة وكهانة ودعوة إلى عبادة الأصنام والأوثان) فلا ولي لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى(5/158)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه، فالله هو صاحب القدرة الحقيقية المحققة للنصر، والشيطان ليس له إلا قدرة وهمية.
قال جابر بن عبد الله، وقد سئل عن أعداد الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها: كانت في جهينة واحدة، وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة.
وقال أبو إسحاق: الدليل على أنه (أي الطاغوت) : الشيطان قوله عزّ وجلّ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن مكره ومكر من اتبعه واه ضعيف التأثير.
أحوال الناس حين فرضية القتال
[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَأَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)(5/159)
الإعراب:
إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ فريق: مبتدأ، وحسن الابتداء به لأنه وصفه بمنهم.
فتخصص، فحسن أن يكون مبتدأ، ويخشون: خبر المبتدأ.
كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره:
يخشون الناس خشية كخشية الله، أي: مثل خشية الله. أو أشدّ: منصوب معطوف على الكاف، أو حال.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أين: ظرف مكان فيه معنى الشرط والاستفهام، ودخلت «ما» ليتمكن الشرط ويحسن. وتكونوا: فعل الشرط مجزوم بأينما، وأينما: متعلق بتكونوا، ويدرككم: مجزوم لأنه جواب الشرط.
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ما: في موضع رفع مبتدأ، بمعنى الذي، وأصابك:
صلته، وفَمِنَ اللَّهِ خبر المبتدأ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما في «ما» من الإبهام، فأشبهت الشرطية التي تقتضي الفاء. وليست هاهنا شرطية لأنها نزلت في شيء بعينه وهو الخصب والجدب، وهما المراد بالحسنة والسيئة، ولهذا قال: ما أصابك، ولم يقل: ما أصبت، والشرط لا يكون إلا مبهما.
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا رسولا: مصدر مؤكد بمعنى إرسالا، أو حال مؤكدة.
البلاغة:
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل.
فَمالِ هؤُلاءِ استفهام يراد به التعجب من فرط جهلهم.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ هم جماعة من الصحابة، قيل لهم: امنعوا أيديكم عن قتال الكفار، لما طلبوه بمكة، لأذى الكفار لهم.
كُتِبَ عَلَيْهِمُ فرض القتال عليهم وأمروا به. يَخْشَوْنَ يخافون. النَّاسَ الكفار أي عذابهم بالقتل. كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخوفهم من بأس الله وعذابه. أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا القريبة. مَتاعُ الدُّنْيا ما يتمتع به فيها أو الاستمتاع بها وبلذاتها. قَلِيلٌ سريع الزوال. وَالْآخِرَةُ الجنة. لِمَنِ اتَّقى أي جعل لنفسه وقاية من عقاب الله، بترك معصيته. وَلا تُظْلَمُونَ تنقصون من أعمالكم فَتِيلًا هو الخيط البسيط الذي يكون في شقّ النواة، وهو مثل في القلّة والبساطة.(5/160)
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي في أي مكان كنتم يلحقكم الموت. بُرُوجٍ جمع برج وهو القصر أو الحصن. مُشَيَّدَةٍ عالية مرتفعة، وقيل: مطليّة بالشّيد: وهو الجصّ (الجبس) وقد يراد بالبروج المشيدة: القلاع أو الحصون المتينة التي يحتمي فيها الجند من العدو. حَسَنَةٌ شيء حسن عند صاحبه كالخصب والسعة والظفر بالغنيمة. سَيِّئَةٌ ما تسوء صاحبها كالشدة والبلاء والجدب والهزيمة والجرح والقتل.
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يفهمون كلاما يلقى إليهم، أي لا يقاربون أن يفهموا، ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
سبب النزول: نزول الآية (77) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ:
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ قال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوّله الله إلى المدينة، أمره بالقتال، فكفّوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.
قال الحسن البصري: هي في المؤمنين، وقال مجاهد: هي في اليهود، وقيل: هي في المنافقين، والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله.
وأما قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ الآية [78] فروي عن ابن عباس أنه قال: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد، قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أمر الله بالاستعداد للقتال وأخذ الحذر، وذكر حال المبطئين، وأمر بالقتال في سبيله ومن أجل إنقاذ الضعفاء، ذكر هنا حال جماعة كانوا يريدون(5/161)
قتال المشركين في مكة، فلما فرض عليهم القتال، كرهه المنافقون والضعفاء، فوبّخهم الله على ذلك الموقف المتناقض.
التفسير والبيان:
كان المؤمنون في مكة مأمورين بالصلاة والزكاة ومواساة الفقراء، وبالصفح والعفو عن المشركين، وكانوا يودّون الإذن لهم بالقتال ليثأروا من أعدائهم، ولم يكن الحال مناسبا لذاك لأسباب كثيرة منها: قلّة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلهذا لم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار. ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودّونه جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا، فقصّ الله علينا قصّتهم.
ألم تنظر إلى أولئك الذين قيل لهم في مكة في ابتداء الإسلام: التزموا السلم وامنعوا أيديكم وأنفسكم عن الحروب الجاهلية، وأدّوا الصلاة بخشوع مقوّمة تامة الأركان، وأدّوا الزكاة التي تؤدي إلى التراحم بين الخلق، وكانوا في الجاهلية يشنون الحروب لأتفه الأسباب، وتطفح قلوبهم بالأحقاد، ولكن حين فرض عليهم القتال في المدينة، كرهه جماعة وهم المنافقون والضعفاء، وخافوا أن يقاتلهم الكفار ويقتلوهم، كخوفهم من إنزال عذاب الله وبأسه بهم، بل أشدّ خوفا من الله تعالى.
وحكى الله تعالى قولهم لشدة هلعهم وخوفهم من القتال وقالوا: ربّنا لم فرضت علينا القتال، لولا تركتنا نموت موتا طبيعيّا، ولو بعد أجل قريب، ولولا أخرت فرض القتال إلى مدّة أخرى، فإن في القتال سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء. وهذا كقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [محمد 47/ 20] .(5/162)
ثم أمر الله نبيّه بردّ شبهتهم قائلا قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ.. أي: إن طلبكم التأخير وقعودكم عن القتال خشية الموت ناشئ من الرغبة في متاع الدّنيا ولذّاتها، مع أن كلّ ما يتمتع به في الدّنيا زائل وقليل بالنسبة إلى متاع الآخرة، وآخرة المتّقي خير من دنياه لأن نعيم الدّنيا محدود فان، ومتاع الآخرة كثير باق لا كدر فيه ولا تعب، ولا يناله إلا من اتّقى الله، فامتثل ما أمره الله به، واجتنب ما نهى الله عنه، وستحاسبون على كلّ شيء.
ولا تنقصون شيئا مهما قلّ كالفتيل (ما يكون في شقّ نواة التمر كالخيط) من أعمالكم، بل توفونها أتمّ الجزاء. وهذا تسلية لهم عن الدّنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد.
وإن الموت أمر محتم لا مفرّ منه، وأنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد ولو كان في قصر محصن منيع مرتفع مشيد، فملك الموت لا تحجزه حواجز ولا تعوقه عوائق، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 3/ 185] ، وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن 55/ 26] ، وقوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء 21/ 34] . وإذا كان الموت مصير الخلائق جميعهم، وفي أجل محدود لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا خشية من الجهاد، فسواء جاهد الإنسان أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما ومقاما مقسوما، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: «لقد شهدت كذا وكذا موقفا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء» . وكم من محارب نجا، وقاعد على فراشه عن الحرب مات حتف أنفه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يتعجب منه بسبب مقالة أولئك المنافقين، فإذا أصابتهم حسنة من غنيمة أو خصب أو رزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك،(5/163)
قالوا: هذه من عند الله ومن فضله وإحسانه، لا دخل لأحد فيها، وإذا أصابتهم سيئة من هزيمة أو قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت الأولاد أو النتاج أو غير ذلك، قالوا: هذه من قبلك يا محمد، وبسبب اتّباعنا لك واقتدائنا بدينك، كما قال الله تعالى عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف 7/ 131] ، وكما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية [الحج 22/ 11] .
وهكذا قال اليهود والمنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا، وهم كارهون له في حقيقة الأمر، حتى إنه إذا أصابهم شرّ أسندوه إلى اتّباعهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتشاءموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: «هذه من عندك» أي أنه بتركنا ديننا واتّباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء.
فردّ الله عليهم بأن هذا زعم باطل منهم، وكلّ من عند الله، أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، بحسب سنّة الله في ربط المسببات بالأسباب.
فماذا أصاب هؤلاء القوم في عقولهم، وما لهم لا يفهمون حقيقة ما يلقى إليهم من حديث وما يلقونه من كلام؟ وما الذي دهاهم في عقولهم حتى وصلوا إلى هذا الفهم السقيم؟ فقد ربطت الأسباب بمسبباتها، وإن كان الله خالقا لكلّ شيء.
ثم خاطب الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالخطاب جنس الإنسان ليحصل على الجواب: ما أصابك من حسنة فمن الله، أي من فضل الله ورحمته ولطفه وتوفيقه حتى تسلك سبيل النجاة والخير وما أصابك من سيئة فمن نفسك، أي من قبلك ومن عملك أنت لأنك لم تسلك سبيل العقل والحكمة والاسترشاد بقواعد الهداية الإلهية وبمعطيات العلم والتجربة، حتى قالوا: إن المرض بسببك،(5/164)
والحقيقة أن الأمراض الوراثية بسبب الإنسان وسلوكه الطرق غير الصحيحة!! وذلك كما قال الله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى 42/ 30] .
وأما أنت يا محمد فرسول من عندنا أرسلناك للناس، تبلغهم شرائع الله، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وكفى بالله شهيدا على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا، وما عليك إلا البلاغ، والخير والشّر من عند الله خلقا وإيجادا، والشّر من العبد كسبا واختيارا.
والخلاصة: هناك شيئان:
1- كل شيء من عند الله: أي أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسّنن للوصول إليها بسعي الإنسان وكسبه.
2- ما يصيب الإنسان من السّوء والشّر: يكون بتقصير منه في معرفة السّنن والأسباب.
ولا تعارض بين قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كلّ من الحسنة والسّيئة، وبين قوله: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لأن الآية الأولى تعني كون الأشياء كلها من الله خلقا وإيجادا، والثانية تسبّبا وكسبا بسبب الذنوب، أو التقصير في فهم النظم والقواعد العامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الراجح لدي أن آية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ.. واردة في جماعة من اليهود والمنافقين وضعفاء الإيمان إذ لم يعرف في تاريخ الصحابة أنهم اعترضوا على نزول الوحي بحكم من الأحكام التشريعية، ويدلّ له سياق الآية:(5/165)
وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآخرة خيرا من المقام في الدّنيا، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم.
أما ما رواه النسائي والحاكم في سبب النزول فيحتاج إلى تحقق ونظر، ويستبعد أن يكون عبد الرّحمن بن عوف المبشّر بالجنّة ممن يقول القول المتقدّم.
ومما أرشدت إليه الآية ما يأتي:
1- الدّنيا وما فيها من متع ولذات وشهوات قليلة فانية محدودة، والآخرة بما فيها من نعيم مقيم وخلود في الجنان خير لمن اتّقى المعاصي.
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي ومثل الدّنيا كراكب قال قيلولة «1» تحت شجرة ثم راح وتركها» .
2- الموت أمر محتم لا يتأخر عمن انتهى أجله، سواء أكان في الحصون المحصنة في الأراضي المبنية، أم في ساحات المعركة، وموت خالد بن الوليد على فراشه أكبر عبرة.
وبعبارة أخرى: الآجال متى انقضت لا بدّ من مفارقة الرّوح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به.
3- اتّخاذ البلاد وبناؤها وتشييد العمارات للمعيشة فيها وحفظ الأموال والنّفوس هي سنّة الله في عباده. وهو من أكبر الأسباب وأعظمها، وقد أمرنا بها، واتّخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدّة وزيادة في التّمنع، وذلك أبلغ ردّ على قول من يقول: التّوكل ترك الأسباب.
4- قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ
__________
(1) القيلولة: النوم في الظهيرة، والفعل: قال، فهو قائل.(5/166)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ: نزلت هذه الآية في رأي المفسّرين وعلماء التأويل كابن عباس وغيره في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم لما قدم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
5- الشدّة والرّخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره، ومن خلقه وإيجاده.
6- ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتّساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم، أي من أجل ذنوبكم، وقع ذلك بكم، كما قال الحسن البصري والسّدّي وغيرهما.
والجهّال هم الذين أخطئوا في فهم آية: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ على أن الحسنة والسيئة من الله دون خلقه، ومصدر الخطأ أنهم فسّروا السّيئة بالمعصية، وليست كذلك، فإن المراد بالسّيئة شيء معين وهو القحط والجدب ونحوه. ولأنه لو كان المراد بالحسنة فعل المحسن وبالسيئة فعل المسيء، لكان يقول: ما أصبت من حسنة، وما أصبت من سيئة لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما، لا بفعل غيره.
7- النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذو رسالة سماوية إلهية موحى إليه بها، وكفى بالله شهيدا على صدق رسالة نبيّه وأنه صادق.
طاعة الرسول طاعة لله وتدبّر القرآن وكونه من عند الله
[سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 82]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)(5/167)
الإعراب:
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ طاعة: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة.
بَيَّتَ طائِفَةٌ ذكّر الفعل لتقدّمه ولأن تأنيث الفاعل غير حقيقي، أي أن تأنيث الطائفة مجازي غير حقيقي، ولأنها في معنى الفريق والفوج.
البلاغة:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ استفهام يراد به الإنكار.
المفردات اللغوية:
تَوَلَّى أعرض عن طاعته. حَفِيظاً حافظا لأعمالهم، بل نذيرا، وإلينا أمرهم.
فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
طاعَةٌ أي يقول المنافقون: أمرنا طاعة لك. بَرَزُوا خرجوا. بَيَّتَ طائِفَةٌ أضمرت طائفة، أو دبرت جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك، أو زوّرت وسوّت خلاف ما قلت وما أمرت به، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أضمروا الرّدّ لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون.
وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يأمر بكتب ما يبيّتون في صحائفهم، ليجازوا عليه. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بالصفح. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، فإنه كافيك. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مفوضا إليه.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأملون القرآن وينظرون ما فيه من المعاني البديعة، فمعنى تدبّر القرآن: تأمل معانيه والتّبصر بما فيه. اخْتِلافاً كَثِيراً تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه وبلاغته، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب(5/168)
وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالّا على معنى صحيح، وبعضه دالّا على معنى فاسد غير ملتئم.
سبب النزول:
روى مقاتل أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟
لقد قارف الشرك، وقد نهى أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية.
المناسبة:
أكّد الله تعالى هنا ما سبق من الأمر بطاعة الله والرسول، وأوضح أن طاعة الرسول تعود في النهاية لله تعالى، وكشف مراوغة المنافقين.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني» .
معنى الآية: من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأنه الآمر والناهي في الحقيقة، والرسول مبلّغ للأمر والنّهي، فليست الطاعة له بالذات، وإنما هي لمن بلّغ عنه، وهو الله عزّ وجلّ.
أما ما يأمر به الرّسول من الأمور الدّنيوية، كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكور) وأكل الزيت والادّهان به، وكيل الطعام من قمح وغيره عند طحنه(5/169)
وعجنه، فهو مجرّد اجتهاد برأيه، لا تجب طاعته فيه.
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا شكّوا في الأمر، أهو وحي من عند الله أم اجتهاد من الرّسول؟ سألوه، فإن كان وحيا أطاعوه بلا تردّد، وإن كان رأيا من عنده، ذكروا رأيا آخر وأشاروا بما هو أولى، كما حدث في غزوتي بدر وأحد، وربما رجع إلى رأيهم.
ومن أعرض عن طاعتك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، وليس لك أن تكرهه على ما تريد، إن عليك إلا البلاغ، لست عليهم بمسيطر، والخسران لاحق به،
كما جاء في الحديث الصحيح: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فإنه لا يضر إلا نفسه» .
ثم أخبر الله تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة، فيقولون:
أمرنا طاعة لك، أو أمرك طاعة أي أمرك مطاع، نفاقا وانقيادا ظاهرا، فإذا خرجوا من مكانك وتواروا عنك، دبروا ليلا فيما بينهم رأيا غير ما أظهروه لك.
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أنه قال: هم ناس يقولون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمنا بالله ورسوله، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وإذا برزوا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعاتبهم الله على ذلك.
والله يعلم ما يبيتون، ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد. والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك.
فأعرض عنهم، أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تهتم بمؤامراتهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضا. وتوكل على الله أي فوض الأمر(5/170)
إليه، وثق به في جميع أمورك، فإن الله كافيك شرهم، وكفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.
ثم يأمرهم الله تعالى بتدبر القرآن وتفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، فهو الكفيل بتصحيح خطتهم ومنهجهم، ويخبرهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] ثم قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء 4/ 82] أي لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقول جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، أي اضطرابا وتضادا كثيرا، وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله.
ومظاهر الاختلاف المفترضة إما في نظمه وإما في معانيه.
أما في نظمه وبلاغته: فقد يكون بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه.
وأما في معانيه: فقد يكون بعضه صحيح المعنى وبعضه فاسدا سقيما. وقد يخبر عن الغيب وقصص السابقين بما يوافق الواقع وبما يخالفه، وقد يصيب في تصوير حقائق الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم، وقد يجانب الصواب. وقد يأتي بحقائق العقيدة وأسس الأحكام التشريعية، وأحكم القواعد العامة، وقد تكون مفندة.
أما ترتيبه فبالرغم من نزوله منجما مفرقا بحسب الوقائع والمناسبات على مدى ثلاث وعشرين سنة فهو في غاية الإبداع والإحكام، إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عند نزول آية أو آيات أو سورة يأمر بما يوحي إليه بأن توضع كل آية في محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظا ثابتا لا ينمحي من ذاكرته: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى 87/ 6] .(5/171)
كل هذه الألوان من الاختلافات والاحتمالات لا نجدها في القرآن الكريم، مما يدل قطعا على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو قد أعجز ببلاغته وفصاحته وجزالته البلغاء والفصحاء، وصور الحقائق تصويرا تاما بلا اختلاف ولا تناقض، وأخبر عن الماضي السحيق خبرا صدقا موافقا للواقع، وتحدث عن الحاضر ومكنونات الأنفس والضمائر بما يبهر ويعجب ويخرس الألسنة الناقدة، وأنبأ عن بعض الأمور في المستقبل، فجاء الحدث مطابقا لما أنبأ عنه، ووضع أصول العقيدة، والتشريع في القضايا العامة والخاصة، وسياسة الأمم والحكم بما لم يسبق إليه، وبما تطابق مع أحدث وأصح ما توصلت إليه البشرية بعد مخاضات طويلة في مجال النظريات والفلسفات.
وصوّر لنا عالم الغيب ومشاهد القيامة بصور مرئية محسوسة كأننا نشاهدها وننجذب إليها وترتسم صورها في أذهاننا دون أن تفارقها لشدة وقعها، وبراعة تصويرها، وصدق حكايتها وواقعيتها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] .
ولو أنصف المسلمون أنفسهم ما اتخذوا هذا القرآن مهجورا، ولو تدبروا ما فيه وفهموا ما رسمه لهم من طريق الحياة السوية، لما انحدروا إلى ما هم عليه الآن، فهو مرشد الهداية، ونور الأمة، وصراط الله المستقيم، ومفتاح السعادة، وطريق تحقق المصلحة، وبناء الأمة وتحضرها، قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء 17/ 9] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:(5/172)
1- وجوب طاعة الرسول، وأن طاعته طاعة لله تعالى.
2- المعرض عن طاعة الرسول متبع هواه، منقاد لشهواته، مضيع لصلحته، يقود نفسه إلى الهاوية في الدنيا ونار جهنم في الآخرة.
3- مراوغة المنافقين مكشوفة، فهم يقولون عند النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، أو أمرك طاعة، ثم يظهرون بسرعة نقيض ما يقولون. وهذا موقف يأباه صغار الناس وجهالهم وسفهاؤهم، فقولهم ذلك أمام النبي ليس بنافع لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، والعبرة بالنتائج، فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها فعلا.
ولم يحصد هؤلاء المنافقون من موقفهم هذا أي شيء، وإنما هو على العكس كان سبب افتضاح شأنهم في الدنيا أمام الناس، وسبب دمارهم وإهلاكهم في الآخرة لأن الله تعالى يثبته في صحائف أعمالهم، ليجازيهم عليه.
لذا لا داعي للاهتمام بشأنهم، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم، وتفويض أمره إلى الله تعالى والتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.
4- وجوب تدبر القرآن لمعرفة معانيه، هذا أمر مفروض على كل مسلم، ولا تكفيه التلاوة من غير تأمل ونظر في معانيه وأهدافه. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال، وإبطال التقليد في العقائد وأصول الدين. كما أن فيه دليلا على إثبات القياس.
5- ليس المراد من قوله اخْتِلافاً كَثِيراً اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات، ومقادير السور والآيات، وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت في المستوى البلاغي والنظم المعجز، وفي المعاني والأفكار، وفي الأخبار والمغيبات، وفي أصول تنظيم الحياة.(5/173)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
إذاعة الأخبار من غير اعتماد على مصدر صحيح
[سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
الإعراب:
إِلَّا قَلِيلًا في هذا الاستثناء ستة أوجه ذكرها ابن الأنباري: 1/ 262 وهي:
1- أن يكون استثناء من قوله تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ.
2- أن يكون استثناء من واو يَسْتَنْبِطُونَهُ.
3- أن يكون استثناء من واو أَذاعُوا بِهِ أي أذاعوا بالخبر.
4- أن يكون استثناء من هاء بِهِ.
5- أن يكون استثناء من الهاء والميم في جاءَهُمْ.
6- أن يكون استثناء من الكاف والميم في عَلَيْكُمْ.
وقيل: إلا قليلا: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: إلا اتباعا قليلا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وقال الزمخشري: إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا.
المفردات اللغوية:
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ عن سرايا النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل لهم مِنَ الْأَمْنِ النصر. أَوِ الْخَوْفِ بالهزيمة. أَذاعُوا بِهِ أفشوه وأشاعوه بين الناس. وَلَوْ رَدُّوهُ أي أرجعوا الخبر.
أُولِي الْأَمْرِ أي ذوي الرأي من أكابر الصحابة، أي لو سكتوا عنه حتى يخبروا به. لَعَلِمَهُ لعرفوا: هل هو مما ينبغي أن يذاع أو لا؟
يَسْتَنْبِطُونَهُ استنبط الماء: استخرجه من البئر، والمراد هنا: ما يستخرجه الرجل العالم بفضل عقله وعلمه من الأفكار والأحكام وحلول القضايا. وهم المذيعون منهم من الرسول وأولي(5/174)
الأمر. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام. وَرَحْمَتُهُ لكم بالقرآن. لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يأمركم به من الفواحش.
سبب النزول:
روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه، دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
قال ابن جرير الطبري: إن هذه الآية نزلت في الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له. اه.
وذكر السيوطي: نزلت الآية في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك، فتضعف قلوب المؤمنين، ويتأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والظاهر لدي ما يقوله السيوطي فإن إشاعة الأخبار وترويج الإشاعات إما أن تكون من المنافقين أعداء الأمة بقصد سيء، وإما أن تكون من ضعاف الإيمان وعوام الناس الجهلة بقصد حسن. وربما كان موقف عمر أحد أسباب النزول.
قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال، ولا استبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أمن وسلامة، أو خوف وخلل، أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة «1» .
__________
(1) الكشاف: 1/ 412(5/175)
المناسبة:
مناسبة الآية واضحة بالنسبة لما قبلها، فإنه تعالى أمر بتدبر القرآن ووعيه والتثبت من فهمه، وذلك مدعاة للتعلم بضرورة التثبت في كل شؤون الحياة، كنقل الأخبار وغيرها.
التفسير والبيان:
هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا تكون صحيحة.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» .
وفي الصحيح: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين»
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن قيل وقال»
أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس، من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين.
وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا» .
معنى الآية: قد يبلغ الخبر عن أحوال الأمن (السلم) والخوف (الحرب) من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته ونشره وترويجه بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة.
لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة الى قائد المسلمين وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو إلى أولي الأمر وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها، فهم الذين يتمكنون من استنباط الأخبار الصحيحة، واستخراج ما يلزم تدبيره وقوله بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها.
أما التحدث بكل ما نسمع، ونقل الأخبار من غير تثبت، ففيه ضرر واضح(5/176)
بالدولة، لذا فإن كل الدول المعاصرة تفرض رقابة على الأخبار في الصحف والإذاعة وغيرها، حتى لا تشوه المواقف وتستغل عقول الناس، سواء في السلم أو في الحرب.
ثم امتنّ الله تعالى على صادقي الإيمان فعصمهم من الانزلاق في تلك التيارات، فذكر: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة الله والرسول، وأرشدكم إلى الرجوع إلى المصدر العلمي الصحيح وهو الرسول وأولو الأمر من الأمة، لاتبعتم وساوس الشيطان، أو لبقيتم على الكفر- كما قال الزمخشري- إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا. وهي نظير قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور 24/ 21] .
فقه الحياة أو الأحكام:
وجّهت الآية النصائح والإرشادات التالية:
1- وجوب التثبت من الأخبار قبل روايتها وحكايتها، وضرورة الرقابة العامة على الأخبار المعلنة، حفاظا على أسرار الأمة ووحدتها، والعمل على إبقائها قوية متماسكة متعاضدة، لا تتأثر بالدعايات الكاذبة والإشاعات المغرضة.
2- أهل العلم والخبرة والقادة هم أولى الناس بالتحدث عن القضايا أو الشؤون العامة، وهم أيضا أهل الاجتهاد في الدين.
3- الانزلاق في وساوس الشيطان كثير شائع لولا فضل الله ورحمته.
4- قال الجصاص الرازي: في الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته إذا كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت(5/177)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مودع في النص، قد كلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه.
فقد حوت هذه الآية معاني منها: أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه، بل مدلول عليه. ومنها: أن على العلماء استنباطه، والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص. ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر. ثم قال:
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول، وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال «1» .
التحريض على الجهاد
[سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
المفردات اللغوية:
لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تهتم بتخلفهم عنك، وقاتل ولو وحدك، فإنك موعود بالنصر.
وَحَرِّضِ حثهم على القتال ورغبهم فيه. بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي شدتهم وقوتهم. وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا ومعاقبة بما فيه عبرة ونكال لغيرهم.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة تثبيطهم (شغلهم) عن القتال وإظهارهم
__________
(1) أحكام القرآن: 2/ 215(5/178)
الطاعة وإضمارهم خلافها، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يباشر القتال بنفسه، وأما من نكل عنه فليتركه.
فقاتل يا محمد في سبيل الله إن أفردوك وتركوك وحدك إن أردت الظفر على الأعداء، لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك، لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف.
أما غيرك الذين يقولون: لم كتبت علينا القتال، ويبيتون غير ما يعلنون أمامك من الطاعة، فاتركهم وشأنهم، والله مجازيهم على أعمالهم.
وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب، لا التعنيف بهم، عسى الله- هنا بمعنى الخبر والوعد ووعد الله لا يخلف- أن يرد عنك بأس أي شدة وقوة الذين كفروا وهم قريش، والله أشد بأسا- قوة- من قريش، وأشد تنكيلا: تعذيبا ومعاقبة وهو قادر عليهم في الدنيا والآخرة لكفرهم وجرأتهم على الحق.
وقد تحقق هذا الوعد الإلهي، فكفّ بأس الكافرين،
وذلك أن أبا سفيان بعد موقعة أحد كان قد طلب اللقاء في بدر في العام المقبل، فأجابه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مطلبه، فحينما حل موعد بدر الصغرى في السنة الثالثة لغزوة أحد، صمم النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، وقال: «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي»
فخرج ومعه سبعون فقط، وتحقق لهم النصر لأن أبا سفيان بدا له وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب، فرجع من الطريق، وصرفه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.(5/179)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية في الغاية القصوى من التحريض على القتال وخوض المعارك، فلا يكلف إلا النبي وحده إذا امتنع المسلمون عن مشاركته في الجهاد، والمعنى لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين، ولو وحدك لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصرة.
وهي تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتال المشركين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وإن كان وحده، كما أنها تدل على اتصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم بشجاعة لا نظير لها، وقد ثبت وحده في أحد وحنين وكان الأبطال يتقون به،
قال علي كرم الله وجهه: «كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه» .
واشتملت الآية على حض المؤمنين على الجهاد والقتال، ودلت على وعد من الله بنصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحقق هذا الوعد، كما أوضحت، ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام، فمتى وجد ولو لحظة مثلا، فقد صدق الوعد، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب 33/ 25] . وكذلك انتصر المؤمنون على المشركين في الحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون، فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح 48/ 24] .
وألقى الله الرعب في قلوب الأحزاب يوم الخندق، وانصرفوا من غير قتل ولا قتال، كما قال تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب 33/ 25] .
وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم. وقبل كثير من(5/180)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
اليهود والنصارى الانضمام لدار الإسلام ودفع الجزية، وترك بعضهم ديارهم دون قتال، فكفّ الله بأسهم عن المؤمنين.
الشفاعة الحسنة ورد التحية وإثبات البعث والتوحيد
[سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
الإعراب:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ: اللام موطئة للقسم، فقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر، وقوله:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ قسم، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم.
المفردات اللغوية:
مَنْ يَشْفَعْ يتوسط في أمر لقضائه، بأن ينضم إلى آخر ناصرا له في طلبه نَصِيبٌ حظ من الأجر كِفْلٌ نصيب مكفول من الوزر مُقِيتاً حافظا ومقتدرا، فيجازي كل أحد بما عمل.
بِتَحِيَّةٍ مصدر حيّاه بأن قال له: حيّاك الله أو سلام عليكم، والتحية في الأصل: الدعاء بالحياة، ثم صار اسما لكل دعاء بالخير في الصباح أو المساء، وجعل الشرع تحية المسلمين: «السلام عليكم» إشارة إلى أن شعار الإسلام: السلام والأمان والمحبة حَسِيباً محاسبا على العمل، فيجازي عليه، وقد يراد به المكافئ لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي لا أحد أصدق قولا من الله.(5/181)
المناسبة:
لما أمر الله نبيه بتحريض المؤمنين على القتال، بين هنا أنهم حين أطاعوك أصابهم خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبا تؤجر عليه، لما بذلت في ترغيبهم بالجهاد من جهود. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.
التفسير والبيان:
من يسعى في أمر، فيترتب عليه خير، كان له نصيب منه بانتصار الحق على الباطل وما يتبعه من شرف وغنيمة في الدنيا، وبما يحظى به من الثواب في الآخرة.
ومن يسعى في سيئة يكون عليه وزر مما ترتب على سعيه ونيته،
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اشفعوا- أي في الخير- تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» «1» .
فالشفاعة نوعان: حسنة وسيئة، أما الشفاعة الحسنة: فهي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حدّ من حدود الله، ولا في حق من الحقوق. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» «2»
فذلك النصيب. والدعوة على المسلم بضد ذلك.
__________
(1) رواه الشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي موسى.
(2)
رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء، بلفظ: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله» .(5/182)
والشفاعة السيئة: ما كانت بخلاف ذلك. والشائع الآن الوساطات والشفاعات السيئة المصحوبة بالمادة والرشاوى، لتضييع الحقوق، والاستيلاء على مال الغير. عن مسروق أنه شفع شفاعة، فأهدى إليه المشفوع له جارية، فغضب وردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها «1» .
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي حفيظا شهيدا، وقيل: مقتدرا، أو محاسبا، فهو تعالى مطلع عالم بأغراض الشفعاء، مجاز كل واحد بحسب مقصده، وقادر على جزائه بما يستحق لأن الجزاء في سنته مرتبط بالعمل.
ثم علّم الله الناس التحية وآدابها، وهي كالشفاعة الحسنة من أسباب التواصل والتقارب بين الناس، وعدت من التحية. وأصل التحية: الدعاء بالحياة، والتحيات لله: أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى، والصحيح أن التحية هاهنا: السلام، لقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة 58/ 8] .
فإذا سلم عليكم المسلم فالواجب الرد عليه بأفضل مما سلم، أو الرد عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة. فإذا قال الشخص: السلام عليكم، أجاب المسلّم عليه إما بقوله: وعليكم السلام، أو وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد: «وبركاته» كان أفضل، وفي كل كلمة عشر حسنات. والأولى أن يكون الرد ببشاشة وسرور وحسن استقبال.
روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعليك
__________
(1) الكشاف: 1/ 413(5/183)
السلام ورحمة الله وبركاته» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له: «وعليك» فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان، فسلما عليك، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال: «إنك لم تدع لنا شيئا» قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك» .
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها، وهذا تأكيد لإشاعة السلام ووجوب رد التحية على من سلّم.
روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم» .
ثم بيّن الله تعالى أنهم مجزيون على التحية والجهاد وأعمال الخير والشفاعة، فقرر أن المرجع والمصير إلى الله الواحد الأحد، وأن البعث والجزاء في الدار الآخرة ثابت. وهذه الآية تقرر ركنين أساسيين للدين وهما: إثبات التوحيد وإخباره تعالى بتفرده بالألوهية لجميع المخلوقات بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وإثبات البعث والجزاء في الآخرة بالقسم الذي أقسمه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ «1» لا رَيْبَ فِيهِ أي أنه سيجمع الأولين والآخرين في الموت وتحت الأرض ثم يبعثهم في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله. وقد نزلت في الذين شكوا في البعث، فأقسم الله تعالى بنفسه.
وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً معناه: لا أحد أصدق منه عز
__________
(1) سميت القيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز، قال الله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين 83/ 4- 5] . وقيل: لأن الناس يقومون من قبورهم إليها: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج 70/ 43] .(5/184)
وجل في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات، كما قال: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه 20/ 52] .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات آدابا وأحكاما مهمة هي:
1- إباحة الشفاعة الحسنة، أي الموصلة إلى الحق، غير المقترنة بالرشوة، وتحريم الشفاعة السيئة، أي التي فيها التعاون على الباطل أو الإثم والعدوان، أو المسقطة لحد من حدود الله، أو المضيعة لحق من الحقوق، أو المصحوبة بالرشوة.
والحسنة فيما استحسنه الشرع ورضيه أي في البر والطاعة، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه أي في المعاصي.
2- الترغيب في التحية والسلام على من عرفت ومن لم تعرف،
وعن النخعي: «السلام سنة، والرد فريضة»
وكلما كان الرد أفضل كان الثواب أكثر،
فالسلام وحده من المسلّم والمجيب له من الأجر عشر حسنات، وضم الرحمة إليه: له عشرون حسنة، وضم: «وبركاته» له ثلاثون حسنة كما روى النسائي عن عمران بن حصين.
وعن ابن عباس: «الرد واجب، وما من رجل يمر على قوم مسلمين، فيسلم عليهم ولا يردون عليه، إلا نزع عنهم روح القدس، وردت عليه الملائكة»
وروى ابن جرير عن ابن عباس أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيا، فإن الله يقول: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء 4/ 86] .
ومن قال لخصمه: السلام عليكم، فقد أمنه على نفسه.
والسنة أن يسلم القادم، والراكب- لعلو مرتبته- على الماشي، والماشي على(5/185)
القاعد لوقاره وسكونه، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير مراعاة لشرف الجمع وأكثريتهم. ولا يسلم الرجل على المرأة الأجنبية، ويسلم على زوجته.
جاء في الصحيحين أنه «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» .
وروي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ بصبيان فسلم عليهم»
وروى الترمذي: «أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم»
وفي الصحيحين: «إن أفضل الإسلام وخيره: إطعام الطعام، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»
وروى الحاكم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفشوا السلام تسلموا»
وأجاز المالكية التسليم على النساء إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين، ومنعه الحنفية إذا لم يكن منهن ذوات محرم، وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن.
والصحيح مذهب المالكية لما ثبت في البخاري من تسليم الصحابة في المدينة على عجوز.
وذكر السيوطي: أنه ثبت في السنة أنه لا يجب الرد على الكافر والمبتدع والفاسق وعلى قاضي الحاجة ومن في الحمام والآكل، بل يكره في غير الأخير، ويقال للكافر: وعليك. ثبت
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا سلم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» «1»
أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم.
وروي: «لا تبتدئ اليهودي بالسلام، وإن بدأ فقل: وعليك»
وهذا مذهب الجمهور.
ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن جهرا، ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان والإقامة. ولا يسلّم على المصلي، فإن سلّم عليه فهو بالخيار: إن شاء ردّ بالإشارة بإصبعه، وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس.(5/186)
وعن أبي يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغنّي، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره.
وذكر الطحاوي: أن المستحب رد السلام على طهارة،
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه تيمم لرد السلام» .
وعن أبي حنيفة: لا تجهر بالرد يعني الجهر الكثير.
وأجاز الحسن البصري أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟
وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم، وروي ذلك عن النخعي. والخلاصة: يجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة.
والسنة في السلام والجواب الجهر، ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي. وعند المالكية: تكفي إذا كان على بعد.
3- الله على كل شيء مقيت (شهيد أو مقتدر) وحسيب (أي رقيب وحفيظ ومحاسب على الأعمال) ولا أحد أصدق من الله حديثا في خبره ووعده ووعيده وحديثه.
4- إثبات التوحيد وتفرد الله بالألوهية والربوبية لجميع المخلوقات، وإثبات البعث والجزاء في الدار الآخرة.
5- القرآن كلام الله لأنه وحي منه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أما كلام غير الله وغير النبي فمحتمل للصدق والكذب عمدا أو سهوا أو جهلا.(5/187)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
أوصاف المنافقين ومراوغتهم ومحاولتهم تكفير المسلمين وكيفية معاملتهم
[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
الإعراب:
فِئَتَيْنِ منصوب على الحال من الكاف والميم في لَكُمْ أي ما لكم في المنافقين مختلفين؟(5/188)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من الهاء والميم في وَاقْتُلُوهُمْ وهو استثناء موجب.
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ جملة فعلية: إما في موضع جر، صفة لمجرور وهو إِلى قَوْمٍ وإما في موضع نصب لأنها صفة لقوم مقدر تقديره: أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم. والفعل الماضي إذا وقع صفة لمحذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع.
لَسَلَّطَهُمْ اللام جواب لَوْ واللام في «لقاتلوكم» : تأكيد لجواب لَوْ في لَسَلَّطَهُمْ لأنها حوذيت بها، وإلا فالمعنى: فسلطهم عليكم فيقاتلوكم، فزيدت للمحاذاة والازدواج: وهي اللام التي تأتي في إثر جواب «لو» ثم تقترن بها لام أخرى، يقصد بها التأكيد.
البلاغة:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ وقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا: استفهام بمعنى الإنكار.
أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: فيه طباق.
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا: جناس مغاير.
المفردات اللغوية:
فِئَتَيْنِ فرقتين أو جماعتين أَرْكَسَهُمْ ردهم إلى الكفر والقتال. والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال، بعد أن أظهروا الولاء للمسلمين. أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي تعدوهم من جملة المهتدين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى.
وَدُّوا تمنوا وَلِيًّا نصيرا ومعينا يَصِلُونَ يتصلون بهم أو يلجأون إليهم مِيثاقٌ عهد،
كما عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هلال بن عويمر الأسلمي
حَصِرَتْ ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم السَّلَمَ الصلح أو السلام والاستسلام، أي انقادوا سَبِيلًا طريقا بالأخذ والقتل.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الإيمان عندكم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم أسد وغطفان الْفِتْنَةِ الشرك أُرْكِسُوا فِيها وقعوا أشد وقوع فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بترك قتالكم فَخُذُوهُمْ بالأسر ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم سُلْطاناً مُبِيناً برهانا بينا أو حجة واضحة على قتلهم وسبيهم لغدرهم.(5/189)
سبب النزول:
نزول الآية (88) :
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ:
روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا، فنزلت الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ بن عبادة قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فقال: من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة، فقال: يا ابن معاذ: طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال: إنك يا بن عبادة منافق وتحب المنافقين فقام محمد بن مسلمة فقال: اسكتوا يا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية.
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية
، لكن(5/190)
في إسناده تدليس وانقطاع، أي لا يصح الاعتماد على هذه الرواية.
سبب نزول الآية (90) :
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن البصري أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، إنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا، ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد خالد، فقال: اذهب معه، فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أيضا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد، وقصده ناس من قومه، فكره أن يقاتل المسلمين، وكره أن يقاتل قومه.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في بيان أحوال المنافقين ومواقفهم المخزية، وهي إنكار على المؤمنين في اختلافهم في شأن المنافقين على رأيين، وتقسيمهم فئتين، مع أن كفرهم واضح، فيجب القطع بكفرهم وقتالهم. وقد كانت الآيات السابقة:
60- 63، و64- 68، و72- 73، والآيات اللاحقة 142- 143 كلها في مناقشة أعمال المنافقين والتنديد بها وإنكارها.(5/191)
التفسير والبيان:
يخاطب الله المؤمنين مستنكرا عليهم انقسامهم في شأن كفر المنافقين، مع قيام الأدلة عليه، فما لكم اختلفتم في شأنهم فئتين: فئة تزكيهم وتشهد لهم بالخير، وفئة تطعن بهم وتشهد لهم بالكفر؟ والحال أنهم كافرون، صرفهم الله عن الحق وأوقعهم في الضلال، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول، واتباعهم الباطل، ومعاداتهم المسلمين وبغضهم والتآمر عليهم، وعدم هجرتهم من مكة إلى المدينة، فكأنهم نكسوا على رءوسهم، وصاروا يمشون على وجوههم، لفساد فطرتهم، كما قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ [الملك 67/ 22] . ومعنى قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بسبب ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.. أي هل تريدون إعادتهم إلى هداية الإسلام مع أنهم ضالون بأنفسهم؟ ومن يكون ضالا عن طريق الحق، فلن تجد له طريقا للعودة إليه، أي لا طريق لهم إلا الهدى ولا مخلص لهم إليه لأن سبيل الحق واضح وهو التزام منهج الفطرة، وهداية العقل الرشيد، والتفكير المجرد غير المتحيز في الخير والشر، والنافع والضار، والحق والباطل.
ثم ذكر الله تعالى موقفا غريبا لهم وهو أنهم يتمنون الضلالة لكم، لتستووا أنتم وإياهم فيها، ليقضى على الإسلام كله، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، وتماديهم في الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم وكفرهم وغوايتهم، بل يتأملون إضلال غيرهم.
لذا حذر الله المؤمنين من مكائدهم وسعاياتهم هذه، فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين الوثنيين، حتى يدل الدليل الواضح على إيمانهم(5/192)
ويهاجروا إلى المدينة ويتعاونوا بصدق معكم في قضاياكم، فهذا دليل الصدق في الإيمان.
فإن أعرضوا عن الإيمان الظاهر بالهجرة في سبيل الله، ولزموا أماكنهم خارج المدينة، فخذوهم واقتلوهم أنى وجدتموهم في أي مكان وزمان، في الحل أو في الحرم، ولا توالوهم أو تولوهم شيئا من مهام أموركم، ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
ثم استثنى الله من هؤلاء أحد صنفين:
الأول:
الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين ويلجأون إلى أهل عهدكم بمهادنة أو عقد ذمة، فينضمون إليهم في عهدهم، فاجعلوا حكمهم كحكم المعاهدين. وهذا موافق
لما جاء في صلح الحديبية في صحيح البخاري: «من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم، دخل فيه» .
قال أبو بكر الرازي: إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار، فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء، بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط، ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين، فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك، كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش «1» .
الثاني:
المحايدين: الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وأبغضوا أن
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 220(5/193)
يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم، وهم بتعبير العصر: المحايدون، فهم لا يقاتلون المسلمين بمقتضى العهد، ولا يقاتلون قومهم، حفاظا على أصل الرابطة العرقية أو الجنسية معهم، فهم قومهم، وهم بذلك معذورون.
وكلا الفريقين يعاملون بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة 2/ 190] .
وكان من رحمة الله ولطفه بكم أن سالموكم وكفّ بأس هذين الفريقين عنكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم بأن يلهمهم القتال فيقاتلوكم.
فإن اعتزلكم هؤلاء وأمثالهم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم المسالمة، فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال، وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا
نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.
قال الزمخشري: فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم.
ثم بيّن الله تعالى حكم جماعة أخرى موافقة في الظاهر للفئة السابقة، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم (النساء والصبيان) ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليكونوا في أمان من المسلمين، وهم في الباطن مع الكفار «1» ، كما قال تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة 2/ 14] وقال هاهنا: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين، أركسوا فيها، أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وانهمكوا فيها، وكانوا شرا فيها من كل عدو، كما قال
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 533(5/194)
الزمخشري «1» ، وقال السدي: الفتنة هاهنا الشرك، أي كلما دعوا إلى الشرك تحولوا إليه أقبح تحول، فهم قد مردوا على النفاق. حكى ابن جرير: أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان، وقيل: غيرهم.
وحكمهم أنه إن لم يعتزلوكم، ويسالموكم، ويقفوا على الحياد، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين، فخذوهم أسراء، واقتلوهم حيث لقيتموهم، وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، أو برهانا بيّنا واضحا على قتالهم، لظهور عداوتهم.
وهذا كله تأكيد لحرص الإسلام على السلم والأمن والعهد والصلح، قال الرازي: قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا، وطلبوا الصلح منا، وكفوا أيديهم عن قتالنا، لم يجز لنا قتالهم وقتلهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أحكام كثيرة هي:
1- وضوح موقف الإسلام من المنافقين: وهو الحكم عليهم بالكفر وجواز قتلهم، فلا يصح الانقسام في الحكم عليهم فرقتين مختلفتين، ما دامت أدلة كفرهم واضحة للعيان. والمنافقون الذين نزلت الآية في شأنهم: هم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في «آل عمران» وقال ابن عباس: هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة. قال الضحاك: وقالوا: إن ظهر محمد فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا.
فصار المسلمون فيهم فئتين: قوم يتولّونهم، وقوم يتبرءون منهم فقال الله عز وجل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ؟
__________
(1) الكشاف: 1/ 415- 416 [.....](5/195)
2- تمنيهم أن يكونوا مع المسلمين في الكفر والنفاق على سواء: فأمر الله تعالى بالبراءة منهم، فقال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا وقال أيضا: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] .
والهجرة أنواع:
منها- الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام، حتى
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: «لا هجرة بعد فتح مكة» .
ومنها- هجرة المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزوات.
وهجرة من أسلم في دار الحرب، فإنها واجبة.
وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» أو: «من هجر ما حرم الله عليه» .
وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن.
وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم، فلا يكلّمون ولا يخالطون حتى يتوبوا
كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كعب بن مالك وصاحبيه.
3- أسر المنافقين وقتلهم: قال الله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في مختلف الأماكن من حلّ وحرم.
4- تحريم قتال وقتل المنضمين إلى المعاهدين الذين تعاهدوا مع المسلمين، وكذا المحايدين الذين وقفوا على الحياد، فلم يقاتلوا المسلمين ولم يقاتلوا قومهم.
5- دلت الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ على مشروعية الموادعة (الهدنة) بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين.(5/196)
6- لله أن يفعل ما يشاء، ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء.
وتسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين: هو بأن يقدرهم على ذلك ويقوّيهم، إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] وإما تمحيصا للذنوب، كما قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران 3/ 141] .
7- مسالمة الانتهازيين الذين يظهرون الإيمان، ولكنهم مستعدون للعودة إلى الشرك وهم المذكورون في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ... الآية.
قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلّى الله عليه وسلّم ليأمنوا عنده وعند قومهم.
وقال مجاهد: هي في قوم من أهل مكة.
وقال السدّي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين.
وقال الحسن البصري: هذا في قوم من المنافقين.
وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة، فأسلموا، ثم رجعوا إلى ديارهم، فأظهروا الكفر.
وانتهازيتهم واضحة في قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ومعنى أُرْكِسُوا: انتكسوا عن عهدهم الذي عاهدوا، وقيل: إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.(5/197)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
جزاء القتل الخطأ والقتل العمد
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
الإعراب:
أَنْ يَقْتُلَ أن المصدرية وصلتها اسم كان المرفوع ولِمُؤْمِنٍ خبرها مقدم على الاسم.
إِلَّا خَطَأً استثناء منقطع، ومثله قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
وانتصاب خطأ: إما لأنه مفعول لأجله، أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو لأنه صفة لمصدر محذوف أي قتلا خطأ، أو حال.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحرير: مبتدأ، وخبره محذوف وتقديره: فعليه تحرير رقبة ودية مسلّمة، وكذلك فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين.
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ توبة: منصوب على المصدر بفعله المقدر، وإن شئت على المفعول لأجله.(5/198)
البلاغة:
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً: إطناب.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مجاز مرسل في رَقَبَةٍ من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
المفردات اللغوية:
خَطَأً أي مخطئا في قتله بغير قصد للقتل وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة، فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالبا.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق مملوك مُؤْمِنَةٍ أي عليه نفس مؤمنة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مؤداة إلى ورثة المقتول، والدية: مال يدفع لأهل القتيل عوضا عنه أَنْ يَصَّدَّقُوا أن يتصدقوا عليه بها بأن يعفوا عنها. مِيثاقٌ عهد كأهل الذمة أو الأمان أو الصلح فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة بأن فقدها أو فقد ثمنها مُتَتابِعَيْنِ شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. ولم يذكر الله تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الشافعي في أصح قوليه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم عَلِيماً بخلقه حَكِيماً فيما دبره لهم.
سبب النزول:
نزول الآية (92) :
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ:
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عيّاش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلقيه عيّاش بالحرّة، فعلاه بالسيف، وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره فنزلت: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية.
نزول الآية (93) :
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً:
أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن عكرمة أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم(5/199)
الدية، فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا أؤمنه في حل ولا حرم، فقتل يوم الفتح.
قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحكام قتال المنافقين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ثم يغدرون بهم ويعينون أعداءهم، ذكر هنا حكم قتل من لا يحل قتله عمدا أو خطأ، سواء كان من المؤمنين أو المعاهدين والذميين.
التفسير والبيان:
ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بأي وجه، إلا إذا وقع القتل خطأ، أي ما كان لمؤمن قتل مؤمن إلا خطأ، والقتل الخطأ: هو الذي يحدث من غير قصد الفعل أو الشخص أو إزهاق الروح غالبا لأن القتل جريمة عظمي ومن الكبائر أو السبع الموبقات، قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة 5/ 32] .
وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»
وهذه الخصال الثلاث ليس لأحد من الرعية أن يفعل شيئا منها، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه.
وأخرج بن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة، مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله» .
وأخرج البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن» .(5/200)
وسبب العقوبة على القتل الخطأ: أنه لا يخلو من تفريط وتهاون وتقصير، مما شأنه العقاب عليه.
وعقوبة القتل الخطأ شيئان: تحرير رقبة مؤمنة أي عتق نفس مملوكة، ودية مدفوعة إلى أهل القتيل. أما الواجب الأول وهو تحرير الرقبة فهو كفارة لما ارتكب من الذنب العظيم، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة. والذي عليه الجمهور: أنه متى كان العبد مسلما صح عتقه عن الكفارة، سواء كان صغيرا أو كبيرا.
قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار: أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله، إن علي عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم. قال: «أتشهدين أني رسول الله؟» قالت: نعم، قال: «أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟» قالت: «نعم» قال: «أعتقها»
وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره.
وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنّسائي عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الله؟» ، قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» ، قالت: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» .
وأما الواجب الثاني وهو الدّية: فتجب عوضا عما فات أهل القتيل من قتيلهم، وهي كما ثبت في السّنّة مائة من الإبل، ودية المرأة نصف دية الرجل لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها.
أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه:
«إن من اعتبط- قتل بغير سبب شرعي- مؤمنا قتلا عن بيّنة، فإنه قود(5/201)
- قصاص يجب عليه- إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدّية مائة من الإبل.. ثم قال: وعلى أهل الذهب ألف دينار»
أي أن جنس الدّية بحسب رأس المال الشائع عند أهلها، فعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور، وعلى أهل الإبل مائة، وقال الشافعي: لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق (الفضة) إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت.
وإنما تجب دية الإبل أخماسا،
كما روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن ابن مسعود، قال: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة وعشرين حقّة» .
وهذا مذهب أحمد ومالك والشافعي، وكذا عند أبي حنيفة إلا أنه يجعل مكان ابن اللبون: ابن مخاض «1» .
وأما دية شبه العمد في رأي الحنفية فهي مثلثة: أربعون خلفة (حامل) وثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة «2» .
ومالك لا يقول بشبه العمد إلا في قتل الوالد ولده. وأما ديّة العمد فما اتّفق عليه عند أبي حنيفة ومالك في المشهور من قوله. وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد.
ودية الخطأ على العاقلة، وهي عند علماء الحجاز: قرابة القاتل من جهة أبيه، وهم عصبته لأن الناس تعاقلوا في زمن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفي زمن أبي بكر، ولم يكن هناك ديوان.
وعند الحنفية: العاقلة: هم أهل ديوان القاتل، على النحو الذي نظمه
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 232- 233
(2) المرجع السابق: ص 234(5/202)
عمر بن الخطاب. فإن عجزت العاقلة أخذت الدّية من بيت المال العام (وزارة المالية) .
فإن قيل: كيف تتحمل العاقلة الدية وتؤخذ بجريرة القاتل، والله يقول:
وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] ،
ويقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البزار عن ابن مسعود: «لا يؤخذ الرّجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه»
وقال لأبي رمثة وابنه فيما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي رمثة: «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» .
فالجواب: أن هذا ليس من باب تحميل الشخص وزر غيره لأن الدّية على القاتل ابتداء، وتحمل العاقلة إياها من باب المعاونة، كما يتعاون هو في دية قاتل آخر، وكما تتعاون القبيلة في النصرة فترد الغارات، تتعاون بمالها، فيدي بعضها عن بعض.
وقد دلّت الأحاديث على أن العاقلة (العصبة من جهة الأب) تحمل الدّية،
روى الشيخان عن أبي هريرة: أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى، فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عاقلة الضاربة بالغرّة، فقام حمل بن مالك فقال:
كيف ندي من لا شرب ولا ... أكل ولا صاح ولا استهلّ
ومثل ذلك يطلّ
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا من سجع الجاهلية.
وورد أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعلي كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها.
ولا خلاف بين العلماء في أن الجنين إذا خرج حيّا فيه الكفارة مع الدّية،(5/203)
واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا، فقال مالك: فيه الغرّة والكفارة، وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرّة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرّة عن الجنين فقال مالك والشافعي: الغرّة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى لأنها ديّة.
وقال الحنفية: الغرّة للأم وحدها لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية.
وذهب أبو بكر الأصمّ وجمهور الخوارج إلى أن الدّية على القاتل، لا على العاقلة لأن قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النساء 4/ 92] ، يقتضي أن من يجب عليه هو القاتل، وكذلك في الدّية.
ونظرا لاختلاف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وانهيار روابط القبيلة وفقد العصبية القبلية، واعتماد كل امرئ على نفسه دون قبيلته، كما في الوقت الحاضر، يكون الأوفق الأخذ برأي الأصم والخوارج، وهذا ما نصّ عليه متأخرو الحنفية كما أبان ابن عابدين.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا معناه: أن الدّية تجب لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويتنازلوا عنها فلا تجب لأنها إنما وجبت جبرا لخاطرهم وتطييبا لنفوسهم، حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتله، فإذا عفوا فقد طابت نفوسهم، وسمّى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.
فإن كان المقتول من الأعداء أهل الحرب وهو مؤمن كالحارث بن يزيد من قريش أعداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنون في حرب معهم، ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر، وقد قتله عياش حين هاجر وهو لم يعلم بذلك، كما تقدم، ومثله(5/204)
كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله، فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط.
وأما إن كان المقتول من قوم معاهدين للمسلمين على السلم، كأهل الذّمّة أو الهدنة، فلهم دية قتيلهم. والواجب في قتل المعاهد المؤمن أو الكافر دية كاملة وتحرير رقبة مؤمنة أيضا. وهذا رأي أبي حنيفة، لظاهر الآية في أهل الميثاق، وهم المعاهدون وأهل الذّمة، ولأنه يسوّى في القصاص بين المسلم والذّمّي، فيسوّى بينهما في الدّية.
وقال مالك: دية المعاهدين نصف دية المسلمين في الخطأ والعمد،
لما روى أحمد والترمذي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عقل- دية- الكافر نصف دية المسلم» ،
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه أنه قال: كانت الدّيات على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين
، قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذّمّة لم يرفع فيها شيئا.
وقد روى أهل السّنن الأربعة عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» .
وروي عن أحمد: أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا، وإلا فنصف ديته.
وقال الشافعي: ديته ثلث دية المسلم في الخطأ والعمد لأنه أقل ما قيل في المسألة، ولأن عمر جعل ديته أربعة آلاف، وهي ثلث دية المسلم.
وتأخذ الدّية ورثة المقتول، وهي كميراث، يقضى منها الدّين، وتنفذ منها الوصايا، وتقسم على الورثة، روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج، فقال عمر: لا أعلم لك شيئا، إنما الدّية للعصبة الذين يعقلون عنه،(5/205)
فشهد بعض الصحابة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها، فقضى عمر بذلك.
فمن لم يملك الرقبة ولا ثمنها أو لم يجد رقيقا كما في عصرنا (وهذا من أهداف الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين، لا يقطعهما إفطار من غير عذر شرعي، وإلا استأنف الصوم من جديد.
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرعها الله لكم قبولا منه ورحمة لتطهير نفوسكم من آثار التقصير وقلّة الاحتراز والتّحري، مما أدى إلى القتل خطأ.
وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها، وقد علم أن القاتل خطأ لم يتعمد، فلذلك لم يؤاخذه بالقصاص، حكيما فيما شرعه، فإن فرض الدّية تعويضا لهم في غاية الحكمة والمصلحة.
القتل العمد:
أما من قتل مؤمنا عمدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنم خالدا فيها أي باقيا فيها، وغضب الله عليه أي انتقم منه لما ارتكبه من هذا الجرم الخطير، وأخزاه ولعنه أي أبعده عن رحمته، وهيأ له عذابا عظيما.
وهل تقبل توبة القاتل عمدا؟
يرى ابن عباس وجماعة آخرون من الصحابة والتابعين «1» : أنه لا توبة لقاتل العمد، للأحاديث الكثيرة التي تدلّ على عظم هذه الجريمة، كما تقدّم عن ابن عمر والبراء بن عازب. ويختلف هذا عن التائب من الشرك- وقد كان قاتلا زانيا- فإنه تقبل توبته لأنه لم يكن يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور، فله شبه عذر، وترغيبا له في الإسلام. أما المؤمن العالم بحرمة القتل فلا عذر له.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير: 1/ 536، الكشاف: 1/ 417(5/206)
ويرى الجمهور أنه تقبل توبة القاتل عمدا، لقوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر 39/ 53] ، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق وغير ذلك، فكل من تاب تاب الله عليه. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] وهذه عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما:
هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون قبول التوبة في هذه الأمة بطريق الأولى والأحرى لأن الله وضع عنّا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبيّنا بالحنيفية السمحة.
ولأن الكفر أعظم من القتل، والتوبة عنه تقبل، فتقبل عن القتل بالأولى، ثم إن آية الفرقان تدلّ على قبول توبته وهي قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً، إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الآيات 68- 70] .
فأما الآية الكريمة: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.. فقال أبو هريرة وجماعة من السّلف: هذا جزاؤه إن جازاه. وعليه يحمل كل وعيد على ذنب، وقد يكون له أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قول أصحاب الموازنة، أي وزن الحسنات والسيئات.
وعلى قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به، فليس بمخلد أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل، لا الدوام،
وقد تواترت الأحاديث عن(5/207)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه: «يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان» .
ويرى بعضهم (عكرمة وابن جريج) أن حكم الآية إنما هو لمن استحلّ القتل، فإنما فسّر متعمدا، أي مستحلّا، فجزاؤه حينئذ جهنم خالدا فيها أبدا.
واختار الرازي في الجواب: أن هذه الآية قد خصصت في موضعين:
أحدهما- القتل العمد إذا لم يكن عدوانا كقتل القصاص.
والثاني- القتل الذي تاب عنه. وإذا دخلها التخصيص في هذين، فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو، بدليل قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- شأن الإيمان الامتناع النهائي عن قتل النفس، لا عمدا ولا خطأ لأنه اعتداء على صنع الخالق، وجريمة عظيمة، ومنكر قبيح.
2- أجمع العلماء على أن قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد، وكذلك أيضا
قوله عليه الصّلاة والسّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» «1»
أريد به الأحرار خاصة.
3- فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه تحرير رقبة مؤمنة كالرقبة التي
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو، ورواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي جحيفة.(5/208)
أوجبها الله في كفارة الظهار. وهناك اختلافات في شأن إعتاق الرّقبة لا داعي لذكرها في عصرنا الآن.
4- الواجب الثاني في القتل الخطأ هو الدّية: وهي ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. والمسلّمة: المدفوعة المؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدّية، وإنما في الآية إيجاب الدّية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السّنّة، وقد بيّنت ذلك.
5- دلّ قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا على جواز العفو عن الدّية، والتّصدّق:
الإعطاء والمراد: إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول مما أوجب الله لهم من الدّية على عاقلة القاتل. أما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلّص آخر لعبادة ربّه.
وإنما تسقط الدّية التي هي حقّ لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا يتحملها أحد عنه.
6- فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ: موضوعها المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار، ففي المشهور من قول مالك، وقول أبي حنيفة: إن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة، فلا دية له، وإنما كفارته تحرير الرقبة لأن أولياء القتيل كفار، فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها، ولأن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية لقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] . فإن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب، ففيه الدّية لبيت المال والكفارة «1» .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 240 وما بعدها.(5/209)
وقال الشافعي والأوزاعي والثوري وأبو ثور: الوجه في سقوط الدّية: أن الأولياء كفار فقط، فلا تدفع ديته سواء قتل في ديار الحرب أو في ديار الإسلام.
ولو وجبت الدّية لوجبت لبيت المال على بيت المال، فلا تجب الدّية في هذا الموضع، وإن جرى القتل في بلاد الإسلام.
ويؤيد هذا الحكم
ما جاء في صحيح مسلم من قتل أسامة رجلا من جهينة قال: لا إله إلا الله، خوفا من السلاح في تقديره، قال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.
7- وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ: هذا في الذّمّي والمعاهد يقتل، فتجب الدّية والكفارة، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي.
8- أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل لأن لها نصف الميراث، وشهادتها نصف شهادة الرجل. وهذا ثابت بالسّنّة لا بالقرآن. أما القتل العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء، لقوله عزّ وجلّ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْحُرُّ بِالْحُرِّ كما تقدم في سورة البقرة.
واختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما:
فقال شريح والنخعي وأحمد وإسحاق: يضمن الأعلى الأسفل، ولا يضمن الأسفل الأعلى. وقال مالك في رجلين جرّ أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا:
على عاقلة الذي جبذه الدّية. وقال بعض أصحاب الشافعي: يضمن نصف الدّية لأنه مات من فعله، ومن سقوط الساقط عليه.
أما في حال التصادم: فقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا:
دية المصدوم على عاقلة الصادم، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا(5/210)
اصطدما فماتا: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.
وقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته.
وذلك يقال أيضا في تصادم السفينتين، أو السيارتين اليوم.
9- إن دية أهل الكتاب فيها اختلاف:
فقال المالكية وأحمد: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم على النّصف من ذلك، لحديث عمرو بن شعيب المتقدّم.
وقال الحنفية: الدّيات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذّمي لقوله تعالى: فَدِيَةٌ وذلك يقتضي الدّية كاملة كدية المسلم «1» ، ويؤيده
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن عباس- جعل دية يهود بني قريظة والنضير سواء، دية كاملة.
لكنه حديث عن ابن عباس ضعيف جدا.
وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم لأنه أقل ما قيل في ذلك، كما أوضحت، والذّمة بريئة إلا بيقين أو حجّة.
10- صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرّقبة ولا اتّسع ماله لشرائها، فلو أفطر يوما بلا عذر استأنف. وهذا قول الجمهور. فإن وجد عذر كالحيض، أو مرض، لم يستأنف في رأي مالك. وقال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه:
يستأنف في المرض.
11- ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد، فقال مالك: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، وأما شبه العمد فلا نعرفه.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 238 وما بعدها.(5/211)
وأثبت فقهاء الأمصار وجمهور أئمة المذاهب شبه العمد
بما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد: ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها»
لكنه حديث مضطرب عند المحدثين. ذكر ابن عبد البرّ أنه لا يثبت من جهة الإسناد.
واختلف القائلون بشبه العمد في تحديده وبيان ما هو عمد على أقوال ثلاثة:
الأوّل- قال أبو حنيفة: العمد: ما كان بالحديد، وكل ما عدا الحديد من القضيب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد «1» .
الثاني- قال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله.
الثالث- قال الشافعي: ما كان عمدا في الضرب، خطأ في القتل، أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل، فتولد عنه القتل. وأما الخطأ فما كان خطأ فيهما جميعا، وأما العمد: فما كان عمدا فيهما جميعا.
ويعتمد الفقهاء في إثبات العمد وشبهه والخطأ على الآلة التي بها القتل لأن نيّة القاتل لا اطلاع لنا عليها، فأقيمت الآلة مقام النيّة. وكان الأولى هو البحث عن ظروف القتل وقرائن الأحوال لتعلم نيّة القاتل أهو عمد أم مخطئ.
واختلفوا في الدّية المغلظة على القتل شبه العمد: فقال عطاء والشافعي ومالك في المشهور عنه، فيما يقول فيه بشبه العمد، وهو قتل الوالد ولده: هي ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة «2» .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 1/ 228 وما بعدها.
(2) الحقّة: إذا دخلت الناقة في السنة الرابعة، والجذعة: إذا دخلت في السنة الخامسة. والخلفة.
الحامل. وابنة المخاض: ما كان لسنة، وابنة اللبون: ما كان لسنتين.(5/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
وقال أبو حنيفة: هي مربّعة: ربع بنات لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض.
ودية شبه العمد عند الحنفية والشافعية والحنابلة على العاقلة (القرابة من جهة الأب) .
ولا تحمل العاقلة دية العمد، وإنها في مال الجاني.
وهل تجب الكفارة في القتل العمد؟ أجمعوا على وجوب الكفارة على القاتل خطأ، واختلفوا في وجوبها على قاتل العمد، فلم يوجبها الجمهور لأنه لا قياس في الكفارات، واقتصر النّص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبرا للذنب غير المقصود «1» . وأوجبها الشافعي في العمد وفي شبه العمد وفي الخطأ لأن الذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى، والعامد أحوج إليها لتكفير الخطيئة.
وإذا اشترك جماعة في القتل الخطأ، وجبت الكفارة على كلّ واحد منهم باتّفاق المذاهب الأربعة.
الحرص على السّلام والتّثبّت في الأحكام
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
__________
(1) الجصاص، المرجع السابق: 1/ 245(5/213)
الإعراب:
تَبْتَغُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في تَقُولُوا أي:
لا تقولوا ذلك مبتغين.
البلاغة:
إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استعارتان: استعار الضرب للسعي في جهاد الأعداء، واستعار السبيل لدين الله.
المفردات اللغوية:
ضَرَبْتُمْ في الأرض: سافرتم للتجارة، وفي سبيل الله: سافرتم للجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لجهاد الأعداء. فَتَبَيَّنُوا وفي قراءة: فتثبّتوا، والمراد تحققوا من الأمر ولا تتسرعوا في الحكم.
السَّلامَ أي التّحية، أو الاستسلام والانقياد بقوله كلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام.
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي متاعها الفاني من الغنيمة. مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي أرزاق ونعم كثيرة تغنيكم عن قتل شخص لماله. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد النطق بالشهادة. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالإيمان والاستقامة. فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنا، وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به.
سبب النزول:
1- روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يسوق غنما له، فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم علينا إلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إليه، فقتلوه، وأتوا بغنمه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ الآية.
2-
وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(5/214)
سريّة فيها المقداد، فلما أتوا القوم، وجدهم قد تفرّقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم:
«كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟» وأنزل الله هذه الآية.
3-
وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثّامة، فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلّم علينا، فحمل عليه محلّم، فقتله، فلما قدمنا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية.
وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه.
4- وروى الثعلبي عن ابن عباس أن اسم المقتول مرداس بن نهيك الغطفاني من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السّريّة غالب بن فضالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده، وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلما رجعوا نزلت الآية.
ولا مانع من تعدد أسباب النزول، سواء بعد إعلان صاحب الغنم التحية الإسلامية (كما في رقم 1، 3) أو اتّقاء للسلاح في الحرب، وكان القاتل المقداد (رقم 2) أو محلّم (رقم 3) أو أسامة (رقم 4) ،
وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ الآية على أصحاب كل واقعة.
قال القرطبي: الذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنّف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البرّ: أن القاتل محلّم بن جثّامة، والمقتول عامر بن الأضبط.(5/215)
المناسبة:
هذا بيان نوع من أنواع القتل الخطأ الذي كان يحصل في الماضي بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها مع المشركين، وفيه تسرّع بالحكم بعدم الإسلام على الرجل، بعد أن بيّن الله تعالى في الآية السابقة حكم نوعي القتل: الخطأ والعمد.
وذكر القرطبي أن هذه الآية متصلة بذكر القتل والجهاد في الآيات السابقة.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله إذا سرتم لجهاد الأعداء، ورأيتم من تشكّون أهو مسلم أم كافر، مسالم أم محارب، فتمهّلوا في الحكم عليه، وتبيّنوا حقيقة أمره، أهو مؤمن لتحيته لكم بالسّلام أو نطقه بالشهادتين، ولا تعجلوا بقتله، ولا تقولوا لمن استسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه مسلم: إنك لست مؤمنا، فأنتم مأمورون بالعمل بالظاهر، والله أعلم بأمره.
تبتغون بذلك الحصول على متاع الحياة الدّنيا ومغانمها الفانية الزائلة، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم وأفضال لا تحصى، وعنده خزائن السموات والأرض، فالتمسوها بطاعته، فهي خير لكم، ولا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل، وتتسرّعوا في الحكم على ما في قلوب الناس، وتتهموهم بالمصانعة والتّقية، والخوف من السيف.
على أنكم نسيتم حالكم، فكنتم هكذا من قبل، آمنتم سرّا، وكنتم تخفون إيمانكم من المشركين، ثم أظهرتم الإسلام علنا، وهذا حال من قتلتموه، كان يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، وكما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال 8/ 26] ، فمنّ الله عليكم أي فصرتم آمنين مطمئنين وفي عداد المؤمنين، ومنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان، وبإعزاز دينه وتقوية(5/216)
شوكة الإسلام، وبقبول توبة المتسرع في القتل، فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل. قال الزمخشري في تفسير كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ: أول ما دخلتم في الإسلام، سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم، من غير انتظار الاطّلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم «1» .
ثم أكّد الله تعالى وجوب التّبيّن، فأمر أن يكونوا على بيّنة من الأمر الذي يقدمون عليه بأدلّة ظاهرة وقرائن كافية، وألا يأخذوا بالظن السريع، وإنما عليهم التدبّر، حتى يظهر الأمر، فإن الحكم بالإيمان يكفي فيه مجرد ظاهر الحال، أما القتل فلا بدّ فيه من غلبة الظّنّ الراجح على البقاء على حال الكفر، وعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكفّ عن القتل والقتال.
إن الله تعالى خبير بأعمالكم، مطّلع على أحوالكم، ونيّاتكم ومقاصدكم، وسيجازيكم عليها، وهذا تهديد ووعيد وتحذير من تكرار التّورّط في مثل هذا الخطأ، فلا تتهافتوا في القتل، وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآية محصور في ضرورة التّثبّت في الأحكام وعدم التّسرّع في أمر القتل، لخطورته، وأنه يكتفى في الحكم على الشخص بالإسلام بالنّطق بالشهادتين في الظاهر، دون حاجة للكشف عما في القلب واستبطان الحقيقة والواقع، فذلك ليس من شأن البشر، وإنما أمر القلوب متروك لعلّام الغيوب، وهذا مناسب للرّواية التالية:
__________
(1) الكشاف: 1/ 418(5/217)
المشهور في سبب نزول هذه الآية
ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، فصبّحنا الحرقات «1» من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟» قال: قلت:
يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟!» . «2»
وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.
أما الفقهاء فقالوا: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة لأنه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا وخوفا من السلاح، وإن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه عاصم كيفما قالها،
فقال عليه الصّلاة والسّلام في الحديث المتواتر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»
، ولذلك
قال لأسامة: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!»
أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب، وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. والمراد من
الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس»
هم مشركو العرب دون اليهود والنصارى فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، فلا بدّ فيهم من إعلان الاعتراف بنبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي هذا من الفقه حكم عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظواهر، لا على القطع واطّلاع السرائر «3» .
__________
(1) الحرقات: موضع ببلاد جهينة.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 248
(3) تفسير القرطبي: 5/ 324، 338- 339(5/218)
وإذا فسّر قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ: لَسْتَ مُؤْمِناً بالتّحية، فلا مانع أيضا لأن سلامه بتحيّة الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والتّرك. فإن قال: سلام عليكم، فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا لأنه موضع إشكال. ولا يكفي في رأي مالك أن يقول: أنا مسلم أو أنا مؤمن، أو أن يصلّي، حتى يتكلّم بالكلمة العاصمة التي علّق النّبي صلّى الله عليه وسلّم الحكم بها عليه في
قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله» «1» .
أي أن الكلمة الفاصلة بعد التحية بالسّلام أو برؤيته يصلي هو أن يقول:
لا إله إلا الله. وهذا في شأن إنهاء الحرب ومنع القتل والقتال، فيكتفى بالحكم بالظاهر، وليس في قضية أن الإيمان هو الإقرار فقط، كما حاول بعضهم الاستدلال بالآية، وإنما حقيقة الإيمان: التّصديق بالقلب، بدليل أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول: «لا إله إلا الله» وليسوا بمؤمنين.
وفي الآية نصّ صريح على أن هدف المؤمنين من الجهاد كما شرع الله هو إعلاء كلمة الله تعالى، لا من أجل التّوصل إلى المغانم الحربية أو العروض الدّنيوية أو المكاسب المادية، فإن الله وعد بالرّزق والمغانم الكثيرة من طرق أخرى حلال دون ارتكاب محظور، فلا تتهافتوا.
__________
(1) المرجع السابق: 5/ 339، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 481 وما بعدها. [.....](5/219)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
الإعراب:
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ غير: بدل مرفوع من الْقاعِدُونَ أو وصف لهم لأنهم غير معينين، فجاز أن يوصفوا بغير. وقرئ بالجر على أنه بدل من الْمُؤْمِنِينَ أو وصف لهم، وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال من الْقاعِدِينَ.
وَكُلًّا وَعَدَ.. كلا: منصوب بوعد، وكذلك الحسنى: منصوب به لأن وَعَدَ يتعدى إلى مفعولين، تقول وعدت زيدا خيرا وشرا، وقال تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج 22/ 72] .
أَجْراً إما منصوب بفضّل، أو منصوب على المصدر.
دَرَجاتٍ مِنْهُ منصوب على البدل من أَجْراً وتقديره: أجر درجات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مصدران منصوبان بفعلين مقدرين، والتقدير: وغفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة.
البلاغة:
إطناب في قوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.. وقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ...
المفردات اللغوية:
الضَّرَرِ المرض والعلة التي تمنع صاحبها من الجهاد كالعمى والعرج والزمانة ونحوها.
دَرَجَةً فضيلة، لاستوائهما في النية، وزيادة المجاهدين بمباشرة القتال. الْحُسْنى الجنة.(5/220)
دَرَجاتٍ مِنْهُ منازل بعضها فوق بعض من الكرامة للمجاهدين على القاعدين غَفُوراً لأوليائه رَحِيماً بأهل طاعته.
سبب النزول:
روى البخاري عن البراء قال: لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ادع فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله: أنا ضرير فنزلت مكانها:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ ...
وروى الترمذي نحوه من حديث ابن عباس
وفيه: قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان. هذا بيان سبب إضافة غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
وقال السيوطي: قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ نزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا، فقتلوا يوم بدر مع الكفار، وكان نزولها في غزوة بدر.
المناسبة:
هذه الآية تبين فضيلة الجهاد وتمييز المجاهدين عن القاعدين، بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من القتل الخطأ لمن نطق بالشهادة.
التفسير والبيان:
لا يتساوى القاعدون من المؤمنين عن الجهاد، كقعود جماعة عن بدر، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم التي يبذلونها في سبيل مرضاة الله بمنع عدوان الطغاة، وإقرار الحق والدفاع عنه، كجهاد الخارجين إلى بدر في مبدأ الإسلام بعد الهجرة.
لكن استثنى سبحانه وتعالى من التكليف بفريضة الجهاد أصحاب الأعذار(5/221)
وهم أولو الضرر أي المرض ونحوه من العمى والعرج، فأصبح ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فلا لوم ولا عتاب لهم لتوافر نياتهم الطيبة بالجهاد عند القدرة،
روى البخاري وأحمد وأبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة، حبسهم العذر» .
ثم أخبر الله تعالى عن فضيلة المجاهدين على غير أولي الضرر القاعدين عن الجهاد: وهي أن الله رفع المجاهدين درجة لا يعرف قدرها: في الدنيا بالظفر والنصر والسمعة الحسنة والغنيمة، وفي الآخرة بمنزلة عالية في الجنة، وأجر عظيم أو جزيل.
ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد لعذر أو عجز مع تمني الجهاد:
الحسنى وهي الجنة والجزاء الجزيل، لكمال إيمان الفريقين وإخلاص نيته وعمله.
قال ابن كثير: وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، بل هو فرض كفاية «1» .
ثم أخبر سبحانه عما فضل به المجاهدين بإطلاق على القاعدين من غير أولي الضرر من الدرجات، وهو الأجر العظيم.
وذلك الأجر العظيم هو الدرجات العالية أي المنازل الرفيعة في غرف الجنان العاليات، التي يصعب في تقدير الناس في الدنيا حصرها وعدها، كما قال تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء 17/ 21] والتفاضل في الدرجات مبني على مدى قوة الإيمان، وإيثار رضا
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 541(5/222)
الله على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض»
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام» «1» .
والأجر أيضا مغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات وهي ما يخصهم به الرحمن زيادة على المغفرة من فضله وإحسانه، إحسانا منه وتكريما، وكان شأن الله وصفته الدائمة الملازمة له المغفرة لمن يستحقها، والرحمة لمن يستوجبها عقلا، ولكنها متروكة للفضل الإلهي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
1- لا تساوي بداهة وطبعا وشرعا بين القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر (أصحاب الأعذار من زمانة وعرج وعمى ونحوها) وبين المجاهدين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم رخيصة في سبيل مرضاة الله. ومعنى الآية: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء مع المجاهدين.
قال العلماء: أهل الضرر: هم أهل الأعذار إذ قد أضرّت بهم العاهة حتى منعتهم الجهاد. وقد دل
الحديث المتقدم: «إن بالمدينة رجالا»
على أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي. فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 541(5/223)
الفعل. وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف، فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله
للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة رجالا» «1» .
2- تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع لأن أهل الديوان لما كانوا متملّكين بالعطاء، ويصرّفون في الشدائد، وتروّعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف (الغزو في الصيف) الكبار ونحوها.
3- احتج بعضهم أيضا بهذه الآية على أن الغنى أفضل من الفقر لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال.
وعلى كل للعلماء آراء ثلاثة في هذه المسألة:
فذهب قوم إلى تفضيل الغني لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. وهذا أولى لقولهم: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها أي مخالطتها والانخراط في شهواتها.
وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين: بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين.
4- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ثم قال:
دَرَجاتٍ مِنْهُ.. فقال قوم: التفضيل بالدرجة، ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين أصحاب الأعذار بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 342(5/224)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
وقيل: إن معنى درجة: علوّ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ، فهذا معنى درجة أي في الدنيا، ودرجات يعني في الجنة، والدرجات: منازل بعضها أعلى من بعض.
هجرة المستضعفين
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
الإعراب:
ظالِمِي حال منصوب من الهاء والميم في تَوَفَّاهُمُ وأصله: ظالمين أنفسهم، فحذفت النون للإضافة.
فِيمَ كُنْتُمْ فيم: جار ومجرور في موضع نصب خبر كنتم. و «ما» هنا: استفهامية، ولهذا حذفت الألف منها لدخول حرف الجر عليها لأن «ما» إذا دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها تخفيفا لكثرة الاستعمال، وليفرق بينها وبين «ما» التي بمعنى الذي، ليميز بين الخبر(5/225)
والاستفهام. ولم يحذفوا الألف من «ما» في الخبر إلا في موضع واحد وهو: ادع بم شئت، أي بالذي شئت.
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مستثنى منصوب من قوله تعالى: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وهو استثناء من موجب، فلهذا وجب فيه النصب.
البلاغة:
قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ وأَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً: استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
ويوجد جناس مغاير في يَعْفُوَ ... عَفُوًّا وفي يُهاجِرْ ... مُهاجِراً.
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ فيه إطلاق الجمع على الواحد لأن المراد به ملك الموت، وذلك بقصد تفخيم شأنه.
المفردات اللغوية:
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي قبضت أرواحهم حين الموت ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالمقام مع الكفار وترك الهجرة قالُوا لهم موبخين: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟
مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين عن إقامة الدين مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مسكنهم حِيلَةً لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا طريقا إلى أرض الهجرة مُراغَماً مهاجرا أي مكانا للهجرة ومأوى يجد فيه الخير، فيرغم بذلك أنوف من أذلوه وَقَعَ ثبت ووجب.
سبب النزول:
نزول الآية (97) :
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ: روى البخاري عن ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل المدينة(5/226)
قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا، فلحق بهم المشركون، ففتنوهم فرجعوا فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ
[العنكبوت 29/ 10] فكتب إليهم المسلمون بذلك، فتحزنوا، فنزلت: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [النحل 16/ 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
سبب نزول الآية (100) :
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ: أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله: احملوني، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل الوحي: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية.
ويقال: كان جندب بن ضمرة من بني ليث من المستضعفين بمكة، وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة، قال: أخرجوني، فهيئ له فراش، ثم وضع عليه، وخرج به، فمات في الطريق بالتنعيم «1» ، فأنزل الله فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية «2» .
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة تفضيل المجاهدين في سبيل الله على
__________
(1) التنعيم: موضع قرب مكة في الحل، يعرف بمسجد عائشة، منه يحرم المعتمر بالعمرة.
(2) تفسير القرطبي: 5/ 349(5/227)
القاعدين من غير عذر، ذكر هنا حال قوم لم يهاجروا في سبيل الله، لاستضعاف الكفار لهم، مع أنهم ليسوا ضعفاء في الحق والواقع، فلا عذر لهم في ترك واجب الهجرة من مكة إلى المدينة حينما كان واجبا في صدر الإسلام، بسبب شدة أذى الكفار للمسلمين، وإلجائهم إلى الهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهاجر بعض المسلمين، وقعد بعضهم في مكة حبا لوطنه، وكان بعضهم مستضعفا عجز عن الهجرة لمرض أو كبر أو جهل بالطريق، وبعضهم هاجر ومات في الطريق.
التفسير والبيان:
إن الذين تتوفاهم الملائكة حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بترك الهجرة، ورضاهم الإقامة في دار الشرك، تقول لهم (أي للمتوفين) الملائكة توبيخا لهم وتقريعا: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه، لقدرتهم على الهجرة ولم يهاجروا.
وهؤلاء كانوا ناسا من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.
فقالوا معتذرين عما وبخوا به بغير العذر الحقيقي: كنا مستضعفين ومستذلين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، وهذه حجة واهية لم تقبلها الملائكة، فردوا عليهم المعذرة قائلين:
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ المراد أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة.
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة شعائر(5/228)
دينه، أو علم أنه في غير بلده يكون أقوم بحق الله وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. فإن كان يستطيع إقامة شعائر دينه كالمقيمين في عصرنا في أوربا وأمريكا، فلا تجب الهجرة عليهم، وإنما تسن، ويكره مقامهم في دار الكفر.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام. اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة» «1» .
فإن أولئك المقصرين عن القيام بالهجرة مسكنهم جهنم، لتركهم ما كان مفروضا عليهم لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الإسلام.
وقبحت جهنم مصيرا لهم لأن كل ما فيها يسوءهم.
ثم استثنى الله تعالى من أهل الوعيد: المستضعفين حقيقة الذين لا يجدون لديهم قدرة على الخروج لفقرهم أو عجزهم أو هرمهم مثل عياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام «2» ، ومن النساء أم الفضل والدة ابن عباس، ومن الولدان (وهم المراهقون الذين قاربوا البلوغ) ابن عباس المذكور وغيره.
فهؤلاء لا يجدون قدرة على الهجرة إما للعجز كمرض أو زمانة، وإما للفقر، ولا يهتدون طريقا للجهل بمسالك الأرض، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من
__________
(1) الكشاف: 1/ 419
(2)
ذكر ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة، فقال: «اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، من أيدي الكفار» .(5/229)
المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا. والحقيقة أن الولدان لا يكونون إلا عاجزين عن الهجرة.
فهؤلاء يرجى أن يعفو الله عنهم، ولا يؤاخذهم بترك الهجرة والإقامة في دار الشرك. وفي هذا إيماء إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير.
وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب، والمغفرة بستر العيوب في الآخرة.
وتساءل الزمخشري: لم قيل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع؟ ثم أجاب قائلا: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البيّن الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ «1» .
ثم رغب الله تعالى في الهجرة تنشيطا للمستضعفين فذكر: أن من يهاجر في سبيل الله، أي بقصد مرضاته وإقامة دينه كما يجب، يجد في أرض الله الواسعة مراغما كثيرا أي مهاجرا (مكانا للهجرة) وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب. ويجد مأوى فيه الخير والسعة، عدا النجاة من الذل والاضطهاد.
فالمراغم الكثير: يعني المتزحزح عما يكره. والسعة: الرزق.
وفي هذا وعد من الله للمهاجرين بتسهيل سبل العيش لهم وإرغام أعدائهم والنصر عليهم، وهو كله للترغيب في الهجرة.
ثم وعد الله تعالى من يخرج من منزله بنية الهجرة تاركا الوطن والأهل والمال، ثم يموت في أثناء الطريق قبل الوصول إلى المدينة، وعده بالأجر العظيم والثواب عند الله على الهجرة أي وجب ثوابه عليه ووقع، وعلم الله كيف يثيبه.
__________
(1) الكشاف: 1/ 420(5/230)
وكان شأن الله الغفران دائما لهؤلاء المهاجرين، وإسباغ الرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه وفضله. ويؤكد هذا المعنى
الحديث المشهور في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
وما أعظم الفرق بين هذا الوعد الصريح الأكيد من الله، وبين الوعد بالمغفرة لتاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنه محل رجاء وطمع عند الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
المراد بهذه الآية في الأصح كما ذكر القرطبي: جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلّى الله عليه وسلّم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر، خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية.
وبخ الله تعالى هؤلاء المتقاعسين عن الهجرة، وأرشدهم إلى أنهم كانوا متمكنين قادرين على الهجرة والابتعاد عمن كان يستضعفهم، وأنه لم يقبل عذرهم بكونهم مستضعفين حقيقة.
وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.
أما المستضعفون حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام الذين دعا لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالنجاة، فهؤلاء يرجى لهم من الله العفو والمغفرة.(5/231)
ومن مات في أثناء الطريق إلى المدينة، فأجره حق ثابت عند الله، لصدق عزيمته، وإخلاص نيته.
وكانت أسباب الهجرة إلى المدينة في صدر الإسلام كثيرة منها:
1- التمكين من إقامة شعائر الدين والبعد عن الاضطهاد الديني، فعلى كل مضطهد البحث عن مكان يأمن فيه، وإلا ارتكب إثما كبيرا.
2- التمكن من تعلم أمور الدين والتفقه في أحكامه، فعلى كل مسلم يقيم في بلد ليس فيه علماء يعلّمون أحكام الدين أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه العلوم الدينية.
3- الإعداد لإقامة دولة الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض، والدفاع عنها وعن الدعاة إلى الله.
وظلت هذه الأسباب واضحة قائمة إلى فتح مكة، حتى إذا فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الصحابة في البلاد يعلمون الناس أحكام دينهم، وقويت شوكة الإسلام، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الشرك والوثنية، زال حكم وجوب الهجرة،
روى أحمد والشيخان عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .
ويلاحظ أنه إذا وجدت الدواعي للهجرة وتوافر أحد الأسباب المتقدمة، وجبت الهجرة في أي عصر وزمان.
ويحسن أن أذكر أقسام الهجرة كما أوضحها ابن العربي فقال: الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول- الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غيرها من أنواعها. وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، التي(5/232)
انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصى، ويختلف في حاله كما تقدم بيانه.
الثاني- الخروج من أرض البدعة: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول:
لا يحلّ لأحد أن يقيم ببلد يسبّ فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر على تغييره فزل عنه، قال الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام 6/ 68] .
الثالث- الخروج عن أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع- الفرار من الإذاية في البدن: وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلّصها عن ذلك المحذور.
الخامس- خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النّزهة.
وقد أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للرّعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحّوا. وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بيد أني رأيت علماءنا قالوا: هو مكروه.
السادس- الفرار خوف الإذاية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد «1» .
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 484- 486، وانظر تفسير القرطبي: 5/ 349 وما بعدها.(5/233)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف
[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
الإعراب:
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً إنما قال: عدوا بلفظ المفرد، وإن كان ما قبله جمعا لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: كانوا لكم ذوي عداوة، وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ.
قِياماً وَقُعُوداً منصوبان على الحال من واو فَاذْكُرُوا. وكذلك قوله: وَعَلى جُنُوبِكُمْ في موضع نصب على الحال لأنه في موضع: مضطجعين.(5/234)
البلاغة:
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فيه إطلاق العام وإرادة الخاص لأن المراد بها صلاة الخوف.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فيه إطناب بتكرار لفظ الصلاة، تنبيها على فضلها.
المفردات اللغوية:
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سافرتم فيها جُناحٌ تضييق، وهذا يدل للشافعي أن القصر رخصة لا واجب أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تتركوا شيئا منها بأن تصلوا الصلاة الرباعية ركعتين فقط يَفْتِنَكُمُ يؤذوكم بالقتل أو غيره أو ينالوكم بمكروه الَّذِينَ كَفَرُوا بيان للواقع إذ ذاك، فلا مفهوم له. وبينت السنة أن المراد بالسفر: الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان تقدر ب (89 كم) عَدُوًّا مُبِيناً بيّني العداوة.
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ إقامة الصلاة: الذكر الذي يدعى به للدخول في الصلاة. وهذا جري على عادة القرآن في الخطاب، فلا مفهوم له. أَسْلِحَتَهُمْ جمع سلاح: وهو كل ما يقاتل به من الأسلحة القديمة كالسيف والخنجر والسهم، والأسلحة الحديثة كالبندقية والمسدس والمدفع ونحوها.
قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أديتموها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط كِتاباً مَوْقُوتاً فرضا ثابتا محددا بوقت معلوم لا بد من أدائها فيه.
سبب النزول:
نزول الآية (101) :
وَإِذا ضَرَبْتُمْ:
أخرج ابن جرير الطبري عن علي قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين(5/235)
الصلاتين: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله: عَذاباً مُهِيناً فنزلت صلاة الخوف.
نزول الآية (102) :
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ:
أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي والدارقطني عن أبي عيّاش الزرقيّ «1» قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلّى بنا النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم قال: ثم قالوا: تأتي الآن عليهم صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وذكر الحديث. وهذا كان سبب إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه. وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس.
نزول الآية: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ..:
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نزلت: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى في عبد الرحمن بن عوف حينما كان جريحا.
المناسبة:
لا يزال الكلام في الجهاد والهجرة، والجهاد يستلزم السفر، فبيّن الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر، ولا بعذر الجهاد وقتال العدو.
وكانت الآيات في إثبات مشروعية القصر بالسفر، وصلاة الخوف في الجهاد.
__________
(1) في كتاب أسباب النزول للواحدي: أبو عياش الورقي.(5/236)
التفسير والبيان:
وإذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها، فليس عليكم تضييق ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية، إذا خفتم فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما، أو خفتم من قطاع الطريق، وذلك بأن يتخذ أعداؤكم الاشتغال بالصلاة فرصة لتغلبهم عليكم، فلا تمكنوهم من هذا، بل اقصروا من الصلاة. ويصح أن يكون المراد:
إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم، فصلوا راجلين أو راكبين. ثم أكد تعالى تحذيرنا من الأعداء فذكر: إن الكافرين لكم أعداء واضحة عداوتهم، فهم ذوو عداوة بينة، فاحذروهم أن يوقعوا بكم، ويغلبوكم، فلا تتركوا لهم فرصة لتحقيق أغراضهم.
وعملا بظاهر الآية: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ قال بعضهم: المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية الأولى، والمبيّن في الآية التي بعدها وفي سورة البقرة بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [239] . قال الشافعي:
القصر في غير الخوف بالسّنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسّنة، ومن صلّى أربعا فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السّنة.
ورأى آخرون: أن قوله: إِنْ خِفْتُمْ خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ولهذا
قال يعلى بن أمية لعمر فيما رواه مسلم: ما لنا نقصر وقد أمنّا؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» .
ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السّفر، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا، فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشّرطين.(5/237)
ودلّ سبب النزول المتقدم عن علي على مشروعية القصر للمسافر، قال القرطبي: فإن صحّ هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن. وقد روي عن ابن عباس أيضا مثله، قال: إن قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ نزلت في الصلاة في السفر، ثم نزل: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين، فقوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ.. يراد به في السفر وتمّ الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى، فقدّم الشرط، والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة، والواو زائدة، والجواب: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ. وقوله: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً اعتراض «1» .
وقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل «2» ، وإلى التخيير ذهب الشافعي، وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتمّ في السفر،
وعن عائشة رضي الله عنها فيما رواه الدارقطني: «اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي: قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» .
وكان عثمان رضي الله عنه يتمّ ويقصر.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: القصر في السفر عزيمة غير رخصة، لا يجوز غيره. بدليل قول عمر رضي الله عنه: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم» ، وقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أحمد: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرّت في السفر، وزيدت في الحضر» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 361 وما بعدها.
(2) الكشاف: 1/ 420(5/238)
ولأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم التزم القصر في أسفاره كلها،
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسافرا، صلّى ركعتين حتى يرجع.
وروي عن عمران بن حصين: حججت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان يصلّي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وقال لأهل مكة: صلّوا أربعا فإنّا قوم سفر.
وقال ابن عمر فيما رواه الشيخان: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر، فلم يزد على ركعتين
، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر، فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] ، وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف 7/ 158] ، ولو كان مراد الله التّخيير بين القصر والإتمام، لبيّن ذلك كما بيّنه في الصوم.
وأما
ما ورد عن عثمان فقد اعتذر عنه بأنه قد تأهل (أقام) فقال: إنّما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد، وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تأهّل ببلد فهو من أهله» .
وأجاب الزمخشري عن آية فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا بقوله: كأنهم ألفوا الإتمام، فكانوا مظنّة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه «1» .
واختلف العلماء في المراد بالقصر هنا، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها «2» ؟
فقال جماعة: إن القصر قصر عدد الركعات، لما
روى مسلم عن يعلى بن
__________
(1) الكشاف: 1/ 420 وما بعدها.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 251 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 488، تفسير القرطبي: 5/ 360 [.....](5/239)
أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب، كيف نقصر وقد أمنّا؟ فقال عمر:
عجبت مما عجبت منه، فسألت النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» .
وهذا يدلّ كما أوضحت على أن المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. لكن قال القاضي ابن العربي في كتابه القبس: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا الحديث مردود بالإجماع.
وأيضا فإن القصر: أن تقتصر من الشيء على بعضه، والقصر في الصفة تغيير لا إتيان بالبعض لأنه جعل الإيماء بدل الرّكوع والسّجود مثلا.
وأيضا فإن «من» في قوله: «من الصلاة» للتبعيض، وهو يدلّ على الاقتصار على بعض الركعات.
وقال آخرون كالجصاص: إن المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة، دون نقصان أعداد الرّكعات، أي بترك الرّكوع والسّجود والإيماء، وبترك القيام إلى الرّكوع لأن الآية في صلاة السفر، لابتدائها بقوله تعالى:
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ولأن قول عمر المتقدم: «صلاة السفر ركعتان ... »
إلخ يدلّ على أن صلاة السفر، سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر، فيكون معنى القصر في الآية قصر الصفة، لا قصر عدد الركعات.
أما السفر المبيح للقصر ففيه خلاف على آراء أهمها ما يأتي:
1- قال الحنفية: من الكوفة إلى المدائن وهي مسيرة ثلاثة أيام. ويروى عنهم: يومان وأكثر الثالث.
ودليل الحنفية:
قوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي، فيما معناه: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام» .(5/240)
وورد في السّنّة منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم. فدلّ هذا على أن ما دون الثلاث ليس سفرا، بل هو في حكم الإقامة.
2- وقال مالك والشافعي: أربعة برد، كل بريد أربعة فراسخ لما
روى الدارقطني عن ابن عباس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» .
والفرسخ (5544 م) .
صلاة الخوف:
ثم بيّن الله تعالى كيفية صلاة الخوف ومجملها في القرآن ما يأتي:
وإذا كنت يا محمد أو من يقوم مقامك من الأئمة في جماعة المؤمنين، وأردت أن تقيم بهم الصلاة وناديتهم بالأذان والإقامة فاقسم الجيش طائفتين: تصلّي طائفة معك الرّكعة الأولى بجماعة، ومعهم أسلحتهم حتى يستعدّوا عقب الصلاة لمجابهة العدوّ الذي قد يباغتهم، فإذا سجدوا حرستكم الطائفة الأخرى من خلفكم لأن المصلّي أشدّ ما يكون حاجة للحراسة حين السجود، لعدم رؤيته العدوّ. ثم تتمّ الطائفة الأولى الرّكعة الثانية وحدها، وأنت واقف في أول الرّكعة الثانية.
ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلّي معك أيضا ركعة هي الثانية لك، كما صلّت الطائفة الأولى، وعليها أن تأخذ حذرها وأسلحتها في الصلاة، كما فعل الذين من قبلهم. والحكمة في الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدو قلّما يتنبّه لصلاة الطائفة الأولى، فإذا سجدوا فربّما باغتهم.
ثم تنتظر الطائفة الثانية في جلوس التّشهد الأخير، حتى تقوم هي، وتصلّي الرّكعة الثانية، ثم تسلّم بها.
وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتّكبير مع الإمام، والثانية بالتّسليم معه.
ثم بيّن الله تعالى علّة الأمر بأخذ الحذر والسلاح في الصلاة، وهي أن الكفار(5/241)
يودّون ويتمنّون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم بسبب انشغالكم بالصلاة، فينقضّون عليكم ويميلون ميلة واحدة أو حملة واحدة بالقتل والنّهب، والله يريد لكم الفوز والنصر، فيحذركم ويأمركم بالاستعداد الدائم.
ثم أبان الأعذار التي يشقّ معها حمل السلاح، فذكر:
ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر أو مرض أو عذر، ولكن مع أخذ الحذر والاستعداد للعدوّ لأن العدوّ ينتظر أي فرصة من الضعف، ويراقب تحركاتكم، فاحذروه ولا تغفلوا عنه.
إن الله أعدّ للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدّنيا والآخرة. أما في الدّنيا فهو تغلّب المسلمين عليهم، وأما في الآخرة فهو العذاب الخالد في نار جهنم، وهذا وعيد للكفار بأنه مهينهم وخاذلهم وغير ناصرهم، لكن الحذر مطلوب من المؤمنين أخذا بسنّة الله في إتباع المسببات الأسباب، حتى لا يتهاونوا ويتركوا الأسباب جانبا.
وقد روى الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع: «أن طائفة صفت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وطائفة وجاه العدوّ (أي جهته) فصلّى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدوّ. وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الرّكعة الثانية التي بقيت من صلاته، فأتمّوا فسلّم بهم» .
فإذا أدّيتم الصلاة أي صلاة الخوف على هذه الصورة، فاذكروا الله تعالى في أنفسكم، بتذكّر نعمه ووعده بنصر من ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة. وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء، فذكر الله مما يقوي القلب، ويعلي الهمّة، وبالثبات والصبر يتحقق النصر، كما قال تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال 8/ 45] .(5/242)
فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب والإقامة في بلادكم بعد السفر، فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط لأن الصلاة عماد الدّين.
والسبب في فرضية الصلاة حتى في وقت الخوف: أن الصلاة مفروضة فرضا ثابتا في أوقات معلومة، فلا يصحّ تركها أبدا حتى في الحروب وساعة الخوف، كما قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 239] .
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات في مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر، وكيفية صلاة الخوف.
فآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ واضحة الدّلالة- بغضّ النّظر عن الاختلاف الفقهي- على حكم القصر في السفر.
أما العلماء فاختلفوا في حكم القصر، كما سبق بيانه، فقال جماعة منهم الحنفية: إنه فرض
لحديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين»
لكن قال القرطبي: ولا حجّة فيه لمخالفتها له، فإنها كانت تتمّ في السفر، وذلك يوهنه، وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر: صلاة المسافر خلف المقيم، أي أنه إذا اقتدى المسافر بالمقيم أتمّ صلاته بالإجماع.
وقال آخرون منهم عمر وابن عباس وجبير بن مطعم: «إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» .
ومشهور مذهب المالكية: أن القصر سنة، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه رخصة يخير فيها المسافر بين القصر والإتمام، وهو الظاهر من قوله تعالى:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. وأيهما أفضل؟ الصحيح في مذهب مالك التّخيير للمسافر بين الإتمام والقصر، وأما مالك رحمه الله فيستحب له القصر، ويرى عليه الإعادة في الوقت إن أتمّ، والقصر أفضل من الإتمام مطلقا(5/243)
عند الحنابلة لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم داوم عليه. وهو عند الشافعية أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر ب 96 كم، اتّباعا للسّنة، وخروجا من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة.
والسفر المبيح للقصر: هو السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا، وهو عند الحنفية بمقدار ثلاثة أيام تقدر ب 96 كم، عملا بقول عثمان وابن مسعود وحذيفة، وبالأدلّة السابقة. وعند الجمهور: بمقدار ثمانية وأربعين ميلا هاشمية أو مرحلتين وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا لأن ابن عمر وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، تقدر ب 89 كم.
وأجمع الناس على جواز القصر في الجهاد والحج والعمرة ونحوها من صلة رحم وإحياء نفس، واختلفوا فيما سوى ذلك.
فالجمهور: على جواز القصر في السفر المباح كالتّجارة ونحوها لقول ابن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد، ولا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
وأباح أبو حنيفة والأوزاعي القصر في جميع ذلك، فيصحّ القصر ولو لعاص بسفره.
واختلفوا متى يقصر المسافر؟
فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض.
وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا، فصلّى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال(5/244)
عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى. ويكون معنى الآية على هذا: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض.
وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام، فإن افتتح الصلاة بنيّة القصر، ثم عزم على المقام في أثناء صلاته، جعلها نافلة.
واختلف العلماء في مدّة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتمّ:
فقال مالك والشافعي وأحمد: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتمّ، إلا أن الإمام أحمد قال: إذا نوى الإقامة مدة تتسع لإحدى وعشرين فريضة قصر. وقال الحنفية: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتمّ، وإن كان أقل قصر، عملا بقول ابن عمر وابن عباس.
والمسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنا له، وإن بقي سنين.
أما صلاة الخوف المذكورة في القرآن فيحتاج إليها، والمسلمون مستدبرون القبلة، ووجه العدو القبلة، وهذا موافق لصلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بذات الرقاع. أما صلاته عليه الصّلاة والسّلام بعسفان والموضع الآخر المروي عن ابن عمر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة.
واختلفت الرّوايات في السّنة النبويّة في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها،
فذكر ابن القصّار أنه صلّى الله عليه وسلّم صلاها في عشرة مواضع.
قال ابن العربي: روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة «1» .
وقال الإمام أحمد: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 491(5/245)
صحاح ثابتة، فعلى أي حديث منها صلّى المصلّي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله «1» .
وأذكر هنا أقوال الفقهاء بصفتها نموذجا عمليا مطبّقا بين المسلمين، ويمكن تأويل الآية بما يوافق هذه الأقوال:
1- ذهب أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إلى الكيفية التالية لصلاة الخوف وهي: أن يقسم الإمام القوم طائفتين: تقوم طائفة مع الإمام، وطائفة إزاء العدوّ، فيصلّي بهم ركعة وسجدتين، ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدوّ، فيصلّي بهم الإمام ركعة وسجدتين ويسلّم هو، ولم يسلّموا لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلا للمشي، فتتمم صلاتها وحدها بغير قراءة لأنهم في حكم اللاحقين، ثم تشهدوا، وسلموا، وعادوا لحراسة العدوّ.
ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتمم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين. وهذه الكيفية مروية عن الزهري عن سالم عن أبيه: وهي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة أخرى ثم سلّم، ثم قام هؤلاء، فقضوا ركعتهم، وهؤلاء فقضوا ركعتهم.
وروي مثله أيضا عن نافع، وابن عمر في حديث متفق عليه، وابن عباس.
2- قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى: إذا كان العدوّ بينهم وبين القبلة، جعل
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 365 وما بعدها.(5/246)
الناس طائفتين، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا، ويسجد الإمام والصف الأول، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو، فإذا قاموا من السجود سجد الصف الآخر، فإذا فرغوا من سجودهم قاموا، وتقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك.
وإذا كان العدوّ في دبر القبلة، قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر يستقبل العدو، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو، ثم يجيء الآخرون، فيسجدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية، فيركعون جميعا، ويسجد الصف الذي معه، ثم ينقلبون إلى وجه العدوّ، ويجيء الآخرون، فيسجدون معه، ويفرغون، ثم يسلم الإمام وهم جميعا.
وهذه الكيفية رواها ابن عباس في صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعسفان، ورواها أيضا أحمد ومسلم وابن ماجه من حديث جابر.
وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في جهة القبلة.
3- قال مالك رضي الله عنه: يتقدم الإمام بطائفة، وطائفة بإزاء العدوّ، فيصلّي بالتي معه ركعة وسجدتين، ويقوم قائما، وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى، ثم يتشهدون ويسلّمون، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصلّ، فيقومون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يتشهدون ويسلّم، ويقومون فيتمّون لأنفسهم الرّكعة التي بقيت.
وهذه كيفية صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة ذات الرّقاع، رواها الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة، وهي التي قال عنها أحمد: وأما حديث سهل فأنا أختاره.(5/247)
وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في غير جهة القبلة. لكن الفرق بين مالك وبين هؤلاء أنهم قالوا: لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلّم معهم.
صلاة الخوف في المغرب:
اختلف الفقهاء في كيفية صلاة الخوف في المغرب: فقال الحنفية والمالكية والشافعية: يصلّي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة، غير أن المالكية والشافعية يقولون: إن الإمام ينتظر قائما حتى تتم الطائفة الأولى لنفسها، وتجيء الثانية، لكن لا يسلم الإمام في رأي الشافعية، كما تقدم «1» .
الصلاة حال اشتباك القتال:
اختلف الفقهاء أيضا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدّة القتال، وخيف خروج الوقت:
فقال الحنفية: لا صلاة حال اشتباك القتال، فإن قاتلوا فيها، فسدت صلاتهم، ويؤخرون الصلاة.
وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي المجاهد كيفما أمكن لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك، فيصلي راكبا أو قائما، يومئ إيماء. قال مالك في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، أي أن الصلاة تكون بالإيماء إذا لم يقدر على الرّكوع والسجود. وقال الشافعي: لا بأس أن يضرب الضربة، ويطعن الطعنة، فإن تابع الضرب والطعن، فسدت صلاته. والأدلّة من غير الآية «2» .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 263
(2) المرجع والمكان السابق.(5/248)
صلاة الطالب والمطلوب:
واختلفوا أيضا في صلاة الطالب والمطلوب: فقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء، كلّ واحد منهما يصلّي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء الحديث: لا يصلّي الطالب إلا بالأرض. وقال القرطبي: وهو الصحيح لأن الطلب تطوّع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلّى بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصلّيها راكب إلا خائف شديد خوفه، وليس كذلك الطالب.
العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوّا فصلّوا صلاة الخوف، ثم بان لهم أنه غير شيء: اختلفوا أيضا في ذلك:
قال بعض المالكية وأبو حنيفة: يعيدون الصلاة لأنه تبيّن لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. وقال بعض آخر من المالكية، وهو أظهر قولي الشافعي: لا إعادة عليهم لأنهم عملوا على اجتهادهم، فجاز لهم، كما لو أخطئوا القبلة، وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به.
أخذ الحذر وحمل السلاح:
تأمر الآيتان: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ووَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ بالحذر وأخذ السلاح، لئلا ينال العدوّ أمله ويدرك فرصته.
والسلاح: ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب.
وهل حمل السلاح في الصلاة مندوب أو واجب؟
قال أبو حنيفة: لا يحملون الأسلحة لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. وردّ عليه: بأنه لم يجب حملها لأجل الصلاة، وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا لمصلحتهم.
وقال ابن عبد البرّ: أكثر أهل العلم يستحبّون للمصلّي أخذ سلاحه إذا صلّى(5/249)
في الخوف، ويحملون قوله: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ على النّدب لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه، فكان الأمر به ندبا.
وقال ابن العربي المالكي والشافعي والظاهرية: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. وعلى كلّ حال: إن لم يجب فيستحب للاحتياط، كما قال القرطبي.
هذا.. وقوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا أي إذا سجدوا ركعة القضاء، وهم الطائفة المصلّية فلينصرفوا، دلّ على أنّ السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة، مثل
قوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» «1»
أي فليصلّ ركعتين.
وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بيّن وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح. وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى لأنها أولى بأخذ الحذر لأن العدوّ لا يؤخّر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة وأيضا يقول العدوّ: قد أثقلهم السلاح وكلّوا.
وفي هذه الآية دليل على تعاطي الأسباب، واتّخاذ وسائل النجاة وما يوصل إلى السلامة.
ثم أمر الله تعالى بشيئين: ذكر الله، وأداء الصلاة في أوقات معلومة.
أما ذكر الله تعالى فأبان سبحانه أنه متى فرغتم أيها المؤمنون من صلاة الخوف، فاذكروا الله في مختلف أحوالكم، حال القيام وحال القعود، وحال الاضطجاع على الجنوب، وذكره تعالى يكون في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من
__________
(1) الرواية المشهورة عند أحمد وأصحاب الكتب الستة (الجماعة) عن أبي قتادة: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة.(5/250)
ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتهليل والدّعاء بالنّصر، فالذكر يكون بالقلب واللسان، أما الذكر بالقلب: فهو التّفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدّلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه. وأما الذكر باللسان فهو بالتعظيم والتّسبيح والتّقديس.
وهذا الذكر المأمور به في رأي الجمهور إنما هو إثر صلاة الخوف، والذكر يكون مع التعظيم والخشوع، والحكمة فيه ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى في كل الأحوال حتى يعتمدوا في جهادهم على الله تعالى، ويكون طلب النصر والظفر منه، فإنه الذي بيده النصر، وهو القادر على كل شيء، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال 8/ 45] .
والذكر كما طلب الله تعالى يكون دائما وبكثرة لأنه أداة الفلاح إذ هو وسيلة الخشية، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة واجتنبت المعصية، وذلك هو الفوز والسعادة. روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً: أنه كان يقول: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء، ثم عذرهم إن عنّ ما يمنعهم من أدائها من العذر، إلا الذكر، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال:
فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم بالليل والنهار، في البّر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والصّحة والسّر والعلانية، وعلى كلّ حال.
وأما فرضية الصلاة بنحو دائم: فإن الله تعالى أبان أنه إذا أقمتم، وهو مقابل لقوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وزال عنكم الخوف الذي ترتب عليه قصر الصلاة وقصر صفتها وهيئتها، فأدّوا الصلاة على وجهها الأكمل تامّة الأركان والعدد والهيئة، إن الصلاة مفروضة عليكم في وقت معين، أي إنها مفروضة(5/251)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
مؤقتة، لا يجوز تجاوز أوقاتها المعلومة، بل لا بدّ من أدائها في أوقاتها سفرا وحضرا. وبيّنت السّنّة النّبوية أحوال القصر والجمع تقديما وتأخيرا في السفر تخفيفا ورخصة وتيسيرا على المسافر.
والسبب في جعل الصلوات الخمس مفروضة بأوقات معينة: أن تكون مذكرة للمؤمن بربّه في الليل والنهار، وفي أوقات دورية، لئلا تحمله الغفلة على الشّر أو التّقصير في الخير.
الحث على القتال بعدم التفكير في الآلام وانتظار إحدى الحسنيين
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
المفردات اللغوية:
وَلا تَهِنُوا لا تضعفوا. فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب القوم، وهم الكفار، لتقاتلوهم.
يَأْلَمُونَ تجدون ألم الجراح فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي مثلكم ولا يجبنون عن قتالكم.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بكل شيء «حكيما» في صنعه.
سبب النزول:
قيل: نزلت في حرب أحد،
حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وقد أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة
، كما تقدم في «آل عمران» .(5/252)
المناسبة:
الآيات السابقة في بيان كيفية الصلاة في أثناء المعركة، وقد نبهت إلى شدة عداوة الكفار وانتظار هم الفرصة المواتية لضرب المسلمين، ونبهت أيضا إلى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أخذ الحذر أثناء الصلاة.
وهنا ينهى الله تعالى عن الضعف في القتال لأن الألم في الحروب وإن كان مشتركا بين الفريقين، فإن المؤمن يمتاز بما له من الرجاء عند ربه، بأنه ينتظر إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الجنة والثواب، فهذه الآية عود إلى بعث المؤمنين وحثهم على القتال بأسلوب إقناعي مستمد من الواقع.
التفسير والبيان:
ولا تضعفوا في قتال الأعداء ولا تتواكلوا، واستعدوا لقتالهم دائما بعد الفراغ من الصلاة، ولا تترددوا في خوض المعارك الفاصلة مع الأعداء بحجة ما يصيبكم من آلام القتل والجرح، فذلك أمر مشترك بين كل فريقين متحاربين لأنهم بشر مثلكم يتألمون ويصبرون، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى بالصبر؟! والحقيقة أنه لا يوجد لقتالهم هدف مقبول لأنهم على الباطل، والباطل في النهاية زائل، وأنتم على حق، ولم يعدهم الله بالنصر كما وعدكم، وليس لهم ثواب ولا ثمرة عائدة إليهم من قتالهم والله ضمن لكم الجنة، وليس عندهم ملجأ يستمدون منه النصر إلا الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، وأنتم بعبادتكم الله وحده تلجؤون إليه في طلب النصر والرحمة، وهو الذي بيده مفاتيح السموات والأرض، وبقدرته ومشيئته يتحقق النصر.
وإنكم ترجون من الله ما لا يرجون من ظهور الدين الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل ونعيم الجنة.(5/253)
والله تعالى وعدكم إحدى الحسنيين: النصر أو الجنة بالشهادة إذا أخلصتم النية، ونصرتم دين الله، ودافعتم عن حرماته.
أما فاقد الأمل، اليائس من الآخرة، فإنه يكون عادة جبانا ضعيف العزيمة فاتر الهمة، يقاتل فقط تنفيذا للأوامر أو للعصبية، والعنصرية، والنزعة الجامحة في التفوق والسيادة على الأمم.
وكان الله عليما حكيما، عليما بحالكم، حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فلا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته.
فقه الحياة أو الأحكام:
نظير هذه الآية: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران 3/ 140] ، وكلتا الآيتين تحضّان على القتال، والصبر في ميدان المعركة، والثبات أمام الأعداء، وتجنب الاستضعاف والتراخي وفتور الهمة والعزيمة.
وفيهما إقناع بأدلة واقعية، فإن الحرب دمار وخراب وتقتيل وجراح وخسارة مال للفريقين المتحاربين، فإن كان المؤمنون يتألمون مما أصابهم من الجراح، فأعداؤهم يتألمون أيضا مما يصيبهم.
ولكن للمؤمنين مزية: وهي أنهم يرجون النصر وثواب الله، وغيرهم لا يرجونه لأن من لا يؤمن بالله لا يرجو من الله شيئا، فينبغي أن تكونوا أرغب منهم في القتال.
والله تعالى عليم بكل الأشياء وأحوال عباده المؤمنين، فلا يشرع لهم إلا ما فيه الحكمة البالغة والمصلحة المؤكدة، والنفع الثابت الدائم.(5/254)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
القضاء بالحق والعدل المطلق
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)(5/255)
الإعراب:
بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكاف في إِلَيْكَ.
بِما أَراكَ اللَّهُ أي أراكه الله، فالكاف المفعول الأول، والهاء المحذوفة: المفعول الثاني لأن «أرى» هنا تتعدى إلى مفعولين لأنها قلبية اعتقادية. ولا يجوز أن تكون «أرى» بمعنى «أعلم» لأن «أعلم يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس في الآية إلا مفعولان: الكاف والهاء.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
ها: للتنبيه في أنتم وأولاء، وهما مبتدأ وخبر.
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
لم يقل: بهما لأن معنى قوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما: ومن يكسب أحد هذين الشيئين، ثم يرم به لأن «أو» لأحد الشيئين.
البلاغة:
يوجد جناس مغاير في يَخْتانُونَ
.. خَوَّاناً
وفي خَصِيماً.. اسْتَغْفِرِ وفي يَسْتَغْفِرِ
..
غَفُوراً.
ويوجد طباق السلب في يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ.
المفردات اللغوية:
بِما أَراكَ بما عرّفك وأوحى به إليك لِلْخائِنِينَ الذين يخونون الناس وأنفسهم بالسرقة وارتكاب المعاصي واتهام الآخرين بها. خَصِيماً مخاصما ومدافعا عنهم. وَلا تُجادِلْ
الجدال: أشد أنواع المخاصمة. يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يخونونها بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم.
خَوَّاناً
كثير الخيانة.
أَثِيماً
مبالغا في ارتكاب الإثم. يَسْتَخْفُونَ
يستترون من الناس حياء وخوفا.
يُبَيِّتُونَ
يضمرون ويدبرون. ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من عزمهم على الحلف على نفي السرقة ورمي اليهودي بها. مُحِيطاً
عالما بكل شيء، أي شاملا علمه الأشياء كلها.
جادَلْتُمْ
خاصمتم. وَكِيلًا
مدافعا محاميا يتولى أمرهم ويذب عنهم، أي لا أحد يفعل ذلك. سُوءاً
ذنبا يسوء به غيره. أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
يعمل ذنبا قاصرا عليه. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
منه أي يتب، والاستغفار: طلب المغفرة من الله مع الندم على الذنب والتوبة منه.
إِثْماً
ذنبا فإنما يكسبه على نفسه لأن وباله عليها ولا يضر غيره.
خَطِيئَةً
ذنبا صغيرا، والفرق بين الخطيئة والإثم: أن الخطيئة هي الذنب المتعمد أو غير المتعمد، أو الذنب الصغير. والإثم: الذنب المتعمد الملحوظ فيه أنه ذنب، أو أنه الذنب الكبير.(5/256)
يَرْمِ بِهِ
ينسبه إليه ويقذفه به. احْتَمَلَ
تحمل أي كلف نفسه أن تحمل. بُهْتاناً
البهتان: افتراء الكذب على غيرك، مما يجعله يتحير عند سماعه ويصطدم بما يبهته.
لَهَمَّتْ
أضمرت. أَنْ يُضِلُّوكَ
أن يصرفوك عن القضاء بالحق بتلبيسه عليك.
وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأن وبال إضلالهم عليهم. ومن: زائدة.
سبب النزول:
روى الترمذي والحاكم وابن جرير عن قتادة بن النعمان: أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وكان رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعا لعمه كان وديعة عنده، وقد خبأها في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود، فالتمسوا الدرع عند طعمة، فلم يجدوها، وحلف بالله: ما أخذها وما له به من علم، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي، فأخذوها، فقال: دفعها إليّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود بذلك، ولكن طعمة أنكر ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا:
إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي فهمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل وكان هواه معهم، وأن يعاقب اليهودي فنزلت.
وهذا قول جماعة من المفسرين «1» .
وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد، وسقط عليه حائط في سرقة، فمات.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في تحذير المؤمنين من المنافقين، والاستعداد لمجاهدتهم، ومن أخطر حالات الحذر: القضاء بين الناس، فعلى المؤمنين القضاء بالحق والعدل دون محاباة أحد.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 103(5/257)
وقال العلماء: إن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول إلصاق تهمة السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، بدليل قوله تعالى:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ.
التفسير والبيان:
أمر الله تعالى رسوله أن يقضي بين الناس بالحق والعدل دون محاباة أحد، ولا إلحاق ظلم بأحد ولو كان غير مسلم، فقال له: إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بالحق في خبره وطلبه وحكمه بتحقيق الحق وبيانه، لأجل أن تحكم بين الناس بما أوحى إليك وأعلمك من الأحكام، فتقضي بالوحي إن وجد، أو تقضي بالاجتهاد إن لم يوجد وحي صريح فاحكم بين الناس بشريعة الله، ولا تكن لمن خان نفسه مخاصما ومدافعا تدافع عنه، وترد من طالبه بالحق، أي لا تتهاون في تحري الحق تأثرا بقوة جدل خصم في الخصومة.
وفي هذا دلالة- كما ذكر علماء الأصول- على أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بالاجتهاد، بهذه الآية، وبما ثبت
في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها» .
وفي رواية الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست «1» ، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق
__________
(1) درس الرسم: عفا.(5/258)
أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها، انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكم صاحبه» .
وفي رواية أبي داود من حديث أسامة بن زيد زيادة هي: «إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه» .
ومن أجاز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهم الجمهور يقول: يجوز عليه الخطأ، لكنه لا يقر على الخطأ، بدليل هذه الحادثة، وحادثة قبول الفداء من أسارى بدر.
واللام في قوله: لِلْخائِنِينَ للتعليل، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه. والخائنون: هم طعمة وقومه.
واستغفر الله مما هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبت في شأنها، وعقاب اليهودي.
والأمر بالاستغفار في هذا ونحوه لا يقدح في عصمة الأنبياء لأنه لم يكن منه إلا الهم، والهم لا يوصف بأنه ذنب، بل إن ذلك من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه حق، وإنما أحسن الظن بدفاع قوم طعمة، فبيّن الله تعالى له حقيقة الأمر، خلافا لما ظنه من غلبة الصدق على المسلم وغلبة الكذب على اليهودي.
ثم رغب الله تعالى قوم طعمة وغيرهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً(5/259)
أي إنه تعالى كثير المغفرة لمن استغفره، واسع الرحمة لمن استرحمه.
ولا تجادل يا محمد عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم لأن ضررها عائد إليهم، أي لا تدافع عن هؤلاء الخونة، ولا تساعدهم عند التخاصم.
إن الله يبغض كثير الخيانة معتاد الإثم أي ارتكاب الذنب واجتراح السيئة، ويحب أي يثيب أهل الأمانة والاستقامة. وجاء الكلام بصيغة المبالغة، لعلم الله بإفراط طعمة في الخيانة وركوب المآثم.
وعبر بقوله: لِلْخائِنِينَ ويَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
مع أن السارق طعمة وحده لوجهين: أحدهما- أن بني ظفر قومه شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني- أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه «1» .
ثم بيّن الله تعالى أحوال الخائنين وخصالهم المنكرة، فقال: إن شأن هؤلاء الخائنين أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب الجريمة إما حياء وإما خوفا، ولا يستترون ولا يستحيون من الله عالم الغيب والشهادة، الذي هو معهم أي عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عليه خاف من سرهم، إذ يدبرون ويزورون ما لا يرضى الله من القول، وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد اليهودي، ليسرق دونه، ويحلف بالبراءة.
وكان الله محيطا بأعمالهم، حافظا لها، فلا أمل في نجاتهم من عقابه. قال الزمخشري: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء، والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة «2» .
__________
(1) الكشاف: 1/ 423
(2) المرجع والمكان السابق.(5/260)
ثم حذر الله المؤمنين من معاونة الخونة أو التعاطف معهم فقال: يا من جادلتم عن الخوانين، وحاولتم تبرئتهم في الدنيا، من يجادل الله عنهم يوم القيامة، حين يكون الحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم، ومن يجرأ أن يكون عنهم وكيلا بالخصومة (محاميا) ؟ فعلى المؤمنين مراقبة الله والاستعداد للجواب في ذلك الموقف الرهيب أمام الله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] .
وبعبارة أخرى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة، إذا أخذهم الله بعذابه، ومن هو المستعد أن يكون عنهم وكيلا أي حافظا ومحاميا من بأس الله وانتقامه؟
وفي هذا توبيخ وتقريع لمن أرادوا مساعدة طعمة على اليهودي، وفيه دلالة أيضا على أن حكم الحاكم ينفذ في الظاهر فقط، لا في الباطن، أي لا يحل للمحكوم له الحرام، ولا يجيز له أن يأخذ شيئا علم أنه لا حق له فيه.
ثم رغب الله تعالى في التوبة فقال: ومن يعمل ذنبا قبيحا يسوء به غيره، أو يظلم نفسه بمعصية كالحلف الكاذب، ثم يطلب من الله المغفرة على ذنبه، يجد الله غفورا للذنوب، رحيما بأهل العيوب، تفضلا منه وإحسانا.
وفي ذلك ترغيب لطعمة وقومه بالتوبة والاستغفار، وبيان للمخرج من الذنب، وتحذير لأعداء الحق الذين يحاولون طمس الحقائق وهدم صرح العدل.
ثم حذر الله تعالى من ارتكاب الذنوب والمعاصي بنحو عام فقال: ومن يرتكب ما يوجب الإثم من المعاصي، فإن إجرامه وعمله وبال على نفسه وضرر على شخصه، لا يتعدى إلى غيره لأنه هو الذي يعاقب على فعله. وكان الله تعالى وما يزال واسع العلم بأفعال الناس، فشرع لهم ما يمنعهم عن تجاوز شرائعه، وهو أيضا عظيم الحكمة بتشريعه العقاب لمرتكب الإثم.(5/261)
ومن عظائم الجرائم أن يفعل الإنسان ذنبا خطأ بلا قصد أو مع علمه بأنه ذنب، ثم يتهم به شخصا بريئا، فهذا هو البهتان أي افتراء الكذب، ويكون مرتكبا جريمتين: كسبه الإثم الذي يجعله آثما، ورميه البريء الذي يصفه بأنه باهت.
ثم أبان الله تعالى حمايته لنبيه فقال: ولولا فضل الله عليك ورحمته أي عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرهم، لهمت طائفة من بني ظفر أن يصرفوك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم.
أي لولا فضل الله عليك بالنبوة، والتأييد بالعصمة، ورحمته لك، ببيان حقيقة الواقع، لهمت طائفة منهم أن يصرفوك عن الحكم العادل، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، إذ جاءك الوحي ببيان الحق.
وهم في الحقيقة بانحرافهم عن طريق الحق والاستقامة لا يضلون إلا أنفسهم لأن الوزر عليهم فقط ووباله ملحق بهم، وهم لا يضرونك شيئا لأنك عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك، والله يعصمك من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم ومن كل مكروه.
والله أنزل عليك الكتاب أي القرآن، والحكمة أي فقه مقاصد الشريعة وفهم أسرارها، وعلمك من الكتاب والشريعة، وإفهام الحقائق ما لم تكن تعلم قبل ذلك من خفيات الأمور، وضمائر القلوب، وأمور الدين والشريعة.
وكان فضل الله عليك عظيما إذ أرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، وشهيدا عليهم يوم القيامة، وعصمك من الناس، وجعل أمتك أمة وسطا عدولا، فاشكر الله على ذلك، ولتشكر أمتك تلك النعم، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس، وقدوة حسنة للآخرين.(5/262)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات طائفة من الأحكام:
1- تفويض الحكم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليقضي بين الناس بالحق والعدل حسبما علّمه الله وأوحى إليه، سواء بالنص الصريح أو بالاجتهاد والرأي المعتمد على أصول التشريع.
2- تأنيب طعمة بن أبيرق ومن آزره من قومه، وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشّر، وأسير بن عروة ابن عمّ لهم لأنهم تعاونوا معه على الباطل لتبرئته من تهمة السرقة: سرقة أدراع وطعام من رفاعة بن زيد في الليل، ومحاولة إلصاق التهمة بيهودي اسمه: زيد بن السمين.
3- القانون الذي يحكم به: هو بِما أَراكَ اللَّهُ معناه على قوانين الشرع إما بوحي ونصّ، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس، وهو يدل على جواز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى أنه في رأي القرطبي إذا رأى شيئا أصاب لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة فأما أحدنا إذا رأى شيئا فلا قطع فيما رآه.
4- دل قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً على أن النيابة أو الوكالة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محقّ، وقد نهى الله عز وجل في هذه الآية رسوله عن معاضدة أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة.
5- قال العلماء: لا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم، ليحموهم ويدافعوا عنهم فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم نزل قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وقوله: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
.(5/263)
والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين، بدليل ما ذكر بعده: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره.
6- قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ دل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم قد يؤمرون بالاستغفار مما ليس ذنبا، كالهمّ بتقديم الدفوع عن بني أبيرق ومعاقبة اليهودي بقطع يده، وهو دفاع وعمل بالظاهر لاعتقاده براءتهم. وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .
وقيل: الأمر بالاستغفار للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، وقيل:
هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله، على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب 33/ 1] ، فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس 10/ 94] .
7- قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
نهي صريح عن الدفاع عن الخونة، أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم. والمجادلة:
المخاصمة. والله لا يرضى عن الخائن أو الخوّان- الذي هو من صيغ المبالغة لعظم قدر تلك الخيانة.
8- الإنسان قاصر النظر، محدود التفكير، سطحي المواقف: فتراه إذا حاول ارتكاب ذنب يستتر ويستحي من الناس، ولا يستتر ولا يستحي من الله، والله أحق أن نخشاه وأن نستحي منه لأن المصير إليه، وبيده وحده الجزاء.
9- الحقائق تنكشف بنحو واضح قاطع يوم القيامة في عالم الحساب بين(5/264)
يدي الله: فإذا جادل الوكيل بالخصومة (المحامي) لتبرئة المتهم في الحياة الدنيا، فمن الذي يستطيع المرافعة والدفاع والجدال عن أهل الباطل يوم القيامة؟ وهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ.
ومن يكون وكيلا عليهم، أي قائما بتدبير أمورهم؟ فالله تعالى قائم بتدبير خلقه، ولا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.
10- باب التوبة للعصاة والمذنبين مفتوح: لقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
قال ابن عباس:
عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية.
11- وبال الذنب وعاقبته على المذنب نفسه: لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
- أي ذنبا- فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي عاقبته عائدة عليه، وضرره راجع إليه لأنه المتضرر في الحقيقة في الدنيا بالتعرض للمصائب، وفي الآخرة لعذاب جهنم.
والكسب: ما يجرّ به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا. ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.
11- البهتان جريمة عظمي: وهو إلقاء التهمة واختلاق الكذب على البريء، أو هو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء.
قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
فيه تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] .
قال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم: أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد.(5/265)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
12- إن محاولة إضلال النبي تبوء بالفشل: لعصمة الله إياه، ولفضله عليه ورحمته به، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
- بأن نبهك على الحق، أو بالنبوة والعصمة- لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
عن الحق لأنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها باليهودي، ولا يفعل هذا إلا منافق كما أوضحت، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبّهه على ذلك وأعلمه إياه. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله راجع عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأنك معصوم.
13- أنزل الله على نبيه القرآن، والحكمة: القضاء بالوحي وفهم أسرار الشريعة وعلمه ما لم يكن يعلم من الشرائع والأحكام.
حالات النجوى الخيّرة وعقاب معاداة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين (الإجماع)
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
الإعراب:
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ: إن جعلت النجوى بمعنى المناجاة، كان(5/266)
مَنْ أَمَرَ في وضع نصب على الاستثناء المنقطع، وإن جعلت بمعنى الجماعة الذين يتناجون كان مِنْ في موضع جر على البدل من الهاء والميم في نَجْواهُمْ وهو بدل بعض من كل.
المفردات اللغوية:
نَجْواهُمْ النجوى: المسارّة بالحديث أو السر بين اثنين، أي لا خير في كثير من نجوى الناس أي ما يتناجون فيه ويتحدثون إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف (عمل بر) أو إصلاح بين الناس. ويصح كونه جمع نجي بمعنى جماعة المتناجين، أي المتسارّين أَوْ مَعْرُوفٍ ما يقره الشرع والعقل الصحيح وتتلقاه النفوس بالقبول ابْتِغاءَ طلب مَرْضاتِ اللَّهِ لا غيره من أمور الدنيا.
وَمَنْ يُشاقِقِ يعادي ويخالف، كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق.
سبب النزول:
نزلت في تناجي أهل طعمة بن أبيرق ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وإلصاق تهمة السرقة باليهودي.
وروي أن طعمة لما حكم عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقطع، هرب إلى مكة، وارتد عن الإسلام، ومات مشركا، فنزلت الآية:
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ... الآية.
المناسبة:
موضوع الآيتين متصل بما قبلهما وهو أمر الذين يختانون أنفسهم، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهم طعمة بن أبيرق ومساعدوه الذين تآمروا في السر لإيقاع البريء بالسرقة، فبيّن الله تعالى هنا أن كل حديث سري أو تدبير خفي أو مناجاة لا خير فيه إلا ما كان بقصد التعاون أو الأمر بالمعروف أو الإصلاح، ثم ذكر الله تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم واتباع غير سبيل جماعة المؤمنين جرم عظيم يستوجب دخول نار جهنم.(5/267)
التفسير والبيان:
لا خير في كثير من كلام الناس وتناجيهم كجماعة طعمة إلا إذا كان التناجي في أحد أمور ثلاث:
1- الأمر بالصدقة لإعانة المحتاج ومواساة الفقير والمسكين.
2- الأمر بالمعروف: وهو ما تعارف عليه الشرع من كل ما فيه مصلحة عامة أو خير عام.
3- الإصلاح بين الناس في خصوماتهم ومنازعاتهم.
وذلك كما جاء في
حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلام ابن آدم كله عليه، لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر»
وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا»
وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» .
وروى أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»
وروى أبو بكر البزار والبيهقي عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا» .
وإنما قال: فِي كَثِيرٍ لأن من النجوى ما يكون في المباحات والمصالح الخاصة من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها، فلا توصف بالشر، ولا هي مقصودة من الخير. وإنما المراد بالنجوى الكثير المنفي عنها صفة الخير هي النجوى في شؤون الناس.(5/268)
والله تعالى جعل النجوى مظنة الإثم والشر غالبا، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة 58/ 9] .
وثبت عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يرويه مالك والشيخان: «إذا كان ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون واحد، فإن ذلك يحزنه»
وهو ضرر، والضرر لا يحل بإجماع.
والسبب في اتصاف النجوى بالشر كثيرا: أن العادة جرت بحب إظهار الخير، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر، وتتم المؤامرات سرا،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس» «1» .
وخيرية الأمور الثلاثة المذكورة في الآية إنما تكون في السر لا في الجهر لقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 271] .
ثم ذكر الله تعالى الثواب المقرر على فعل تلك الأعمال الثلاثة فذكر: ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة، بقصد إرضاء الله وطاعة أمره، مخلصا في ذلك، محتسبا ثواب فعله عند الله عز وجل، فإن الله سيؤتيه ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.
وبعد هذا الوعد بالخير والجزاء الحسن على أحوال النجوى الخيّرة أوعد الله الذين يتناجون بالشر ويدبرون المكائد للناس ويعلنون اعتزالهم عن الجماعة ومعاداتهم الرسول، فقال: ومن يخالف الرسول ويعاديه، ويسلك غير طريق
__________
(1) أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن عن وابصة بن معبد، ومطلعه: «البر: ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ... » .(5/269)
الشريعة التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وسلّم بارتداده عن الإسلام، وإظهار عداوته لرسول الهداية وسنته، ويتبع سبيلا غير سبيل جماعة المؤمنين، يوله الله ما تولى، أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها، ومستحسنا لها استدراجا له، وتاركا له يتخبّط في مهاوي الضلالة، كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم 68/ 44] وقال: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 61/ 5] وقال: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 110] .
ويجعل الله النار مصيره في الآخرة، وساء المصير مصيره لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] وقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 53] .
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن من يتجه بنفسه في طريقة أو وجهة يتوجه إليها ويرضاها لنفسه، يتركه الله وشأنه، ويكون عقابه أمرا منتظرا وعادلا لاختياره طريق الشر، وبعده عن منهج الاستقامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
1- لا خير في كثير من نجوى الناس سرا، أو من كلام الجماعة المنفردة أو كلام الاثنين، سواء كان ذلك سرا أو جهرا إلا نجوى ثلاثة: من أمر بصدقة، ففيها عون الفقير والمسكين والمحتاج الذي لا يطلع على حاجته إلا القليل من الناس. ومن أمر بالمعروف، والمعروف: لفظ يعم أعمال البرّ كلّها،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف: أن تلقى أخاك بوجه طلق» «1»
وقال
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله.(5/270)
أيضا: «المعروف كاسمه، وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله»
ومن أمر بإصلاح بين الناس، والإصلاح عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع الاختلاف فيه بين الناس، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. فأما من طلب الرياء والترؤس، فلا ينال الثواب. كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «ردّ الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورّث بينهم الضغائن» . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وهذه الآية نظير قوله تعالى:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات 49/ 9] الآية، وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء 4/ 128] وقوله عن الحكمين: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما
[النساء 4/ 35] .
2- إن معاداة الرسول ومخالفته وترك الإسلام أو الردة عنه، ومخالفة طريق المسلمين تحجب عن مرتكبها عناية الله ورعايته، وتجعله يتخبط في دياجير الظلام والضلال، وتجعله مقودا بنفسه وهواه، وتوجب له الدخول في نار جهنم، وساءت مصيرا يصير إليه هذا المنحرف. ونظير هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة 58/ 20] يعني أن يصير في حد غير حد الرسول وهو مباينته في الاعتقاد والديانة.
3- قال العلماء وعلى رأسهم الإمام الشافعي: في قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.. دليل على صحة القول بالإجماع، أي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي لأنه تعالى قرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة، لإلحاقه(5/271)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين «1» .
4- قوله: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى إخبار عن براءة الله منه، وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان والأديان الباطلة، واعتضد به، ولا يتولى الله نصره ومعونته «2» .
5- قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى تغليظ في الزجر عنه، وتقبيح لحاله وتبيين للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم «3» .
الشرك وعاقبته والشيطان وشروره وجزاء الإيمان والعمل الصالح
[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 386، أحكام القرآن للجصاص: 2/ 281
(2) الجصاص: المرجع والمكان السابق.
(3) الجصاص: المكان السابق. [.....](5/272)
الإعراب:
أُولئِكَ مبتدأ. مَأْواهُمْ مبتدأ ثان. جَهَنَّمُ خبر المبتدأ الثاني، والجملة خير الأول.
البلاغة
يوجد جناس مغاير في ضَلَّ ... ضَلالًا وفي خَسِرَ ... خُسْراناً.
المفردات اللغوية:
إِنْ يَدْعُونَ إن نافية بمعنى ما أي ما يعبد المشركون أو يتوجهون ويطلبون المعونة، وهذا نوع من العبادة إِلَّا إِناثاً أصناما مؤنثة كاللات والعزى ومناة. وَإِنْ يَدْعُونَ ما يعبدون بعبادتها إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً متمرنا على الخبث، خارجا عن الطاعة، لطاعتهم له فيها وهو إبليس، والشيطان: هو الخبيث المؤذي من الجن والإنس. والمراد من قوله: مَرِيداً أنه مرن على الإغواء والإضلال، أو تمرد واستكبر عن الطاعة، فالمريد: العاتي المتمرد. لَعَنَهُ اللَّهُ أبعده عن رحمته وطرده مع السخط والإهانة. لَأَتَّخِذَنَّ لأجعلن لي. نَصِيباً حظا.
مَفْرُوضاً مقطوعا أو معينا ثابتا أدعوهم إلى طاعتي.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق بالوسوسة ولأدفعنهم إلى الضلال والفساد. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ألقي في قلوبهم طول الحياة أن لا بعث ولا حساب، وأزين لهم الأماني الباطلة. فَلَيُبَتِّكُنَّ يقطعن آذان الأنعام لأجل تمييزها وتخصيصها للآلهة. فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ دينه بالكفر، وإحلال ما حرم وتحريم ما أحل. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا يتولاه ويطيعه. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره.
خُسْراناً مُبِيناً بينا، لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.(5/273)
يَعِدُهُمْ طول العمر وَيُمَنِّيهِمْ نيل الآمال في الدنيا وأن لا بعث ولا جزاء. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ بذلك إِلَّا غُرُوراً باطلا. مَحِيصاً مهربا ومخلصا ومعدلا بذلك.
المناسبة:
الآية الأولى متصلة بما قبلها في قصة طعمة الذي ارتد، فإنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله، فإن كل ذنب قابل للمغفرة إلا ذنب الشرك. قال العلماء عن آية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء 4/ 115] وعن آية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقطع، وهرب إلى مكة وارتد. قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة، فلحقه المشركون فقتلوه فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة، وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ والمشاقة: المعاداة.
والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره، فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين «1» .
وأما الآيات التي بعدها فمناسبة لما قبلها، ففي هذه الآيات عقد الله تعالى مقارنة بين جريمة الشرك وخطرها، وأعمال الشيطان ولعنته وعقابه، والإيمان والعمل الصالح وجزائهما لأن الشيطان يدعو إلى الشرك وعبادة الأوثان، وفي مواجهة ذلك صرح الإيمان الراسخ الذي لا يتأثر أهله بنزعات الشياطين في أصل الاعتقاد، وإن تأثروا أحيانا بها في بعض أعمال الشر، وهذا تحذير وترغيب.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 385(5/274)
التفسير والبيان:
إن الله لا يغفر الشرك بالله أصلا، ولا لمن يشرك به أحدا سواه، ولكنه قد يغفر ما دون الشرك من الذنوب، فلا يعذبهم عليه، ومن يشرك بالله شيئا، فقد ضل وبعد عن سبيل الرشاد ضلالا بعيدا في مهاوي الغواية، وسلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة وفاتته السعادة فيهما لأن الشرك ضلال يفسد العقل، ويكدّر صفاء الروح، ويكون المشرك عبدا للأوهام والخرافات. فالشرك: هو منتهى فساد الروح وضلال العقول، ووكر الخرافات والأباطيل، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة 2/ 165] .
وقد تقدم إيراد هذه الآية، وأعيدت هنا تأكيدا لاقتلاع آثار الشرك من النفوس المريضة، ودحض الشرك وهدم طقوسه من مقاصد الإسلام الأساسية، فهو الواجهة المضادة أصلا لعقيدة الإسلام: عقيدة التوحيد. ولا عيب في هذا التكرار للتأكد من غرس الإيمان بالله، والتحذير من مغبة الشرك وخطره وخروجه عن أساس الفطرة ومقتضيات العقل السليم.
روى الترمذي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ثم قال الترمذي: هذا حسن غريب.
ومغفرة ما دون الشرك من الذنوب بسبب بقاء نور الإيمان، وهو مشروط بمشيئة الله، فهو يغفر لمن يشاء من عباده، كما يغفر بالتوبة والإنابة إليه، فذلك سبيل محو الذنوب.
وأما أولئك المشركون فهم لا يعبدون أو لا يتوجهون بقضاء حوائجهم إلا إلى(5/275)
الأموات أو الموتى التي لا تضر ولا تنفع، أو إلى الأصنام الإناث «1» كاللات والعزى ومناة، فقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه: أنثى بني فلان، أو إلى الملائكة الذين يقول عنهم المشركون بنات الله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف 43/ 19] .
وهم في الواقع ما يعبدون إلا شيطانا عاتيا مرد على الإيذاء وتمرن على الخبائث إذ هو الذي أمرهم بعبادتها، فكانت طاعتهم له عبادة.
لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده من رحمته وفضله مع الذل والهوان، فإنه داعية الشر والفساد والباطل بما يوسوس في صدر الإنسان.
ومن غلو الشيطان ودعوته إلى الفساد أنه أقسم: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي لأجعلن تلامذة لي جزءا معينا مقدرا معلوما من الناس، مثل قوله تعالى حكاية عنه: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر 15/ 39- 40] .
ولأضلّنهم، أي أصرفنهم عن الحق، وعن الاعتقاد الصحيح.
ولأمنينّهم، أي أزين لهم اللذات وترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغريهم من أنفسهم.
ولآمرنهن بالضلال فليقطّعن آذان الأنعام، أي تشقيقها ووسمها وجعلها متميزة خالصة للأصنام، كالبحيرة التي يتركون الحمل عليها، والسائبة الناقة التي يسيبونها للأصنام إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضعيف، والوصيلة التي ولدت جديا وعناقا، فيقولون: وصلت
__________
(1) قال الحسن: الإناث: كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس.(5/276)
أخاها، فلا يذبحون أخاها من أجلها، ولا تشرب لبنها النساء، وكان للرجال، وجرت مجرى السائبة.
ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله بخصي الدواب، والوشم في الوجه ونحوهما مما فيه تشوية الفطرة وتغييرها عما فطرت عليه، ثبت في الصحيح عند أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل» ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 59/ 7] .
وقال جماعة من المفسرين: تغيير خلق الله معناه دين الله عز وجل، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] وكما ثبت في الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تولد البهيمة جمعاء، هل تجدون بها من جدعاء» «1» .
ومن يتخذ الشيطان وليا يتولى أمره وإماما يقتدي به، فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة، بل إنه خسرهما في الواقع، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها، وأي خسران أعظم من ترك هدي القرآن واتباع أساليب الشيطان؟! الشيطان يعد أولياءه الباطل، ويمنيهم بما هو كاذب، يعدهم بالفقر والمرض والتخلف عن ركب التقدم إذا أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله، ويعدهم الغنى والثروة بالقمار مثلا، ويمنيهم بأنهم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك.
__________
(1) الجمعاء: السليمة الأعضاء، والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة.(5/277)
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا يغترون به، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء كالزنى والقمار وشرب الخمر، وهي مشتملة على كثير من المضار والشرور والآلام، كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم القيامة: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم 14/ 22] .
أولئك المستحسنون لما وعدهم الشيطان ومنّاهم مصيرهم ومآلهم جهنم يوم القيامة، ولا يجدون عنها مهربا يفرون إليه، أي ليس لهم مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، يتهافتون فيها تهافت الفراش على النار.
ثم ذكر الله تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال:
والذين آمنوا: صدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ورضوا بقضائه، وعملوا الصالحات، أي الأعمال الطيبة وما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات، سيدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار بما اشتملت عليه من ألوان النعيم المقيم، ويصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا، وهم ماكثون مقيمون فيها على الدوام، بلا زوال ولا انتقال، وذلك هو الفوز العظيم الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.
وهو وعد حق لا شك فيه، أي هذا وعد من الله، ووعد الله واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله «حقا» فهو القادر على كل شيء، وهو الواسع الكرم والرحمة والفضل، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور.
ثم قال الله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي لا أحد أصدق منه قولا، أي خبرا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته فيما رواه الترمذي وغيره: «إن أصدق(5/278)
الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيات دلالة على ما يأتي:
1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ رد على الخوارج حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد ذكرت حديثا عن علي أن هذه الآية أحب آي القرآن لديه. وأجمع المالكية وغيرهم من أهل السنة على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب، فإنه إن عذب بالنار، فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول أو بابتداء رحمة من الله تعالى.
وقال الضحاك: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
2- وصف الله الأصنام بالإناث إيماء إلى الضعف، فقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً نزل في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام، وهي إناث كاللات والعزّى ومناة، وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، فخرج الكلام مخرج التعجب لأن الأنثى من كل جنس أخسه، فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا، فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى.
وقيل: إِلَّا إِناثاً مواتا لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر.
وقيل: إِلَّا إِناثاً ملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله.(5/279)
3- إطاعة الشيطان عبادة له: فقوله تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً يريد إبليس لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم، فقد عبدوه. ونظيره في المعنى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
[التوبة 9/ 31] أي أطاعوهم فيما أمروهم به، لا أنهم عبدوهم.
4- اللعنة على إبليس: هي في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، ولعنة الله على إبليس على التعيين جائزة، وكذلك على سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل، فيجوز لعن الكفار جملة من غير تعيين، جزاء على الكفر وإظهار قبح كفرهم، ويجوز أيضا لعن الظالمين، لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود 11/ 18] ويجوز إجماعا لعن العاصي مطلقا
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده»
وهذا كله دون تعيين.
5- تلامذة الشيطان هم الكفرة والعصاة، فهؤلاء الذين يستخلصهم الشيطان بغوايته، ويضلهم بإضلاله.
وفي الخبر: «من كل ألف واحد لله، والباقي للشيطان»
وبعث النار الذي أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم: هو نصيب الشيطان.
6- وسائل الشيطان: هي الإضلال (الصرف عن طريق الهدى) وزرع التمنيات الباطلة طوال الحياة بإمهال الخير والتوبة، والمعرفة مع الإصرار على المعصية، وتقطيع آذان الأنعام وجعل علامات عليها للأصنام، وتغيير أصل الخلقة تغييرا حسيا كالخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان ونحو ذلك مما فيه تعذيب الحيوان، أو تغييرا معنويا كتغيير الاعتقاد، والتحريم والتحليل بالطغيان.
أخرج مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» .(5/280)
ولما كان هذا التغيير من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-
فيما رواه أبو داود عن علي في الأضاحي- «أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحّي بعوراء ولا مقابلة، ولا مدابرة ولا خرقاء، ولا شرقاء» «1»
فلم يجز مالك والشافعي وجماعة الفقهاء الأضحية بمقطوعة الأذن أو جلّ الأذن، أو السكاء: وهي التي خلقت بلا أذن.
وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من العلماء إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره، وأجاز الجمهور أن يضحى بالخصي. وأما الخصاء في الآدمي فحرام، لما فيه من ألم عظيم ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، وهو مثلة نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومؤد إلى قطع النسل المأمور به في
قوله عليه السلام فيما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال مرسلا: «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة» .
والوسم والإشعار في الحيوان من أجل تمييزها عن غيرها مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان. والوسم: الكي بالنار،
ثبت في صحيح مسلم عن أنس قال: «رأيت في يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك، حتى يعرف كل مال، فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره» .
والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه لأنه مقر الحسن والجمال، ولأن به يقوّم الحيوان،
ولما روى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه» .
ومن حالات التغيير الممنوعة حديث ابن مسعود المتقدم في الواشمة
__________
(1) أن نستشرف: نتأمل سلامة العين والأذن من آفة تكون بهما، وآفة العين: عورها، وآفة الأذن: قطعها. والمقابلة: المقطوعة طرف الأذن، والمدابرة: المقطوعة مؤخر الأذن، والشرقاء: مشقوقة الأذن، والخرقاء: التي تخرق أذنها السّمة.(5/281)
والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة. فهو نص في تحريم الوشم: وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور (دخان الشحم) فيخضر.
وهو نص أيضا في تحريم وصل الشعر.
7- إطاعة الشيطان خسارة: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يطيعه ويدع أمر الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه، وتركه من أجله.
8- وعود الشيطان وأمنياته كاذبة وخديعة: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً المعنى يعدهم أباطيله وترّهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير، وكل ذلك خديعة وتغرير. قال ابن عرفة: الغرور: ما رأيت له ظاهرا تحبّه، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور لأنه يحمل على محابّ النفس، ووراء ذلك ما يسوء.
9- عقاب الطائعين للشيطان جهنم: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ملجأ.
10- ثواب المؤمنين العاملين الصالحات والخيرات: جنات الخلد التي تجري من تحتها الأنهار، وذلك يرمز لكل ألوان النعيم المقيم، وأصناف المشتهيات، وطمأنينة النفس، وراحة البال، والسعادة الأبدية. ومن أصدق من الله قيلا أي لا أحد أصدق قولا ووعدا من الله تعالى.(5/282)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
استحقاق الجنة ليس بالأماني والعبرة في الجزاء بالعمل شرا أو خيرا
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
الإعراب:
وَهُوَ مُحْسِنٌ مبتدأ وخبر في موضع الحال.
البلاغة:
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ استعارة، استعار الوجه للقصد والجهة.
ويوجد جناس مغاير في أَحْسَنُ.. مُحْسِنٌ.
المفردات اللغوية:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ليس الأمر منوطا بالأماني، بل بالعمل الصالح. والأماني جمع أمنية:
وهي تمني الشيء المحبوب مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ إما في الآخرة أو في الدنيا بالبلاء والمحن، كما(5/283)
ورد في الحديث. مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره وَلِيًّا يتولى أمره ويحفظه ويدفع العقاب عنه وَلا نَصِيراً ينصره، ويمنعه منه وينقذه مما يحل به. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النقير والنقرة:
النكتة التي تكون في ظهر النواة، ويضرب بها المثل في القلة أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي انقاد وأخلص عمله وَهُوَ مُحْسِنٌ عامل للحسنات تارك للسيئات وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ديانته الموافقة لملة الإسلام.
حَنِيفاً مائلا عن الزيغ والضلال، أي مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق القيم.
خَلِيلًا صفيا خالص المحبة له وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا مُحِيطاً أي عالما بالأشياء مع القدرة عليها، ولم يزل متصفا بذلك.
سبب النزول: نزول الآية (123) :
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: إنا لا نبعث، فأنزل الله:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
وأخرج ابن جرير الطبري عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، فأنزل الله:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
وأخرج الطبري أيضا عن مسروق قال: لما نزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب: وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة دور الشيطان في إلقاء الأماني الكاذبة، وكان لهذا تأثير في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين، ناسب بيان أثر الأماني، وفضل العمل وجزائه.(5/284)
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى. وذكر مثله عن قتادة.
التفسير والبيان:
ليس الأمر منوطا بالأماني منكم أيها المسلمون، ولا أنتم أهل الكتاب، ولكن الجزاء منوط بالعمل، فليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله عز وجل واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا: «ليس الإيمان التمني، لكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل» وقال الحسن: «إن قوما غرّتهم المغفرة، فخرجوا من الدنيا وهم مملوؤون بالذنوب، ولو صدقوا لأحسنوا العمل» .
فمن يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء أثر للعمل، مثل قوله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 8] ، روى الإمام أحمد عن أبي بكر بن زهير قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملنا جزينا به
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تنصب- تتعب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء- الشدة؟» قال: بلى، قال: «فهو مما تجزون به» .(5/285)
وروى سعيد بن منصور وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: لما نزلت: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها» .
هذا الحديث وأمثاله يدل على أن الأمراض والبلايا والمصائب في الدنيا، وهمومها ومخاوفها، يكفر الله بها الخطايا.
ومن يعمل السوء لا يجد له غير الله وليا يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به، وإنما المدار على الإيمان والأعمال، لا على الأماني والأحلام.
وفي مقابل ذلك ومن أجل المقارنة والعدل: من يعمل صالحا يصلح به نفسه، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى، وهو صادق الإيمان، فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر، يدخلون الجنة، ولا يظلمون شيئا من أجور الأعمال، ولو كان العمل تافها قليلا جدا كالنقير.
فسبيل الجنة والسعادة هو العمل الصالح مع الإيمان، وطريق النار هو العمل السيء، ولا ينفع الافتخار بالانتساب إلى ملة أو فئة أو نبي، من غير اتباع لشرع الله ودينه.
ثم أردف الله تعالى بذكر درجات الكمال فقال: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم قلبه مخلصا لله وحده، ولم يتجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، وجعل نفسه سالمة لله لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه، وقد عبر عن توجه القلب والقصد بإسلام الوجه لأن الوجه مرآة لما في القلب، وهو مع هذا الإخلاص القلبي والإيمان الذاتي الكامل، محسن للعمل أي عامل للحسنات، تارك للسيئات، متصف بفضائل الأخلاق والخصال، ومتبع ملة إبراهيم في حنيفيته بالميل عن الشرك(5/286)
والتبرؤ من الوثنية وأهلها، ملتزم الدين الحق وهو دين الإسلام، كما قال تعالى:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف 43/ 26- 27] وقال: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة 2/ 135] .
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة اعتراضية مجاز، مفادها أن الله اصطفى إبراهيم واختصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، ومن كانت له هذه المنزلة من الزلفى عند الله بأن اتخذه خليلا، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته.
أي أن الله امتن على إبراهيم بسلامة الفطرة والاعتقاد، وقوة العقل وصفاء الروح، وكمال المعرفة بالله، وشدة العزيمة وعلو الهمة في محاربة الوثنية والشرك، حتى صار من أولي العزم، فهو خليل الرحمن، عدو الشيطان.
ثم ذكر الله تعالى ما هو العلة والدافع على الطاعة فقال:
جميع ما في السموات والأرض ملك الله وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك، لا رادّ لما قضى، ولا معقّب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته، وعلمه محيط مع القدرة كل شيء، ونافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومن كان عالما بأعمال عباده فهو مجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.
فهذه الآية متصلة بذكر العمال الصالحين والطالحين، والمعنى: أن له ملك السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم، فهو تعالى مستحق التوجه إليه في كل شيء، حتى من إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، لما يتصف به من القدرة الشاملة على الكون وإنجاز ما وعد وأوعد.(5/287)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي من التوجيهات والأحكام:
1- لا تعلق لأحد بالآمال والتمنيات، وإنما الجزاء منوط بالعمل. فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد. وأهل الصلاح وليهم وناصرهم هو الله، وأهل الضلال والفساد وليهم الشيطان، والشيطان أعجز من أن يدفع عن نفسه عذاب الله، فكيف يدفعه عمن غررهم في الحياة الدنيا؟! وليس للمشركين ولي يتولى أمورهم ولا ناصر ينصرهم، أي أن الآية إن حملت على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير من دون الله.
2- لا تقبل الأعمال الحسنة من غير إيمان: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. الآية، فالإيمان شرط أساسي إذ هو قاعدة البناء الديني لأن المشركين قاموا بخدمة الكعبة، وإطعام الحجيج وقرى الضيف، وأهل الكتاب لهم سبق، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولكن لم ينفع الجميع عملهم الصالح من غير إيمان، عملا بمقتضى هذه الآية.
3- تفضيل دين الإسلام على سائر الأديان لقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ.. الآية. ومعنى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص دينه لله، وخضع له، وتوجه إليه بالعبادة. ورأى بعضهم أن معنى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي موحد، فلا يدخل فيه أهل الكتاب لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة: الدين. والحنيف: المسلم.
4- إبراهيم خليل الله: قال الزمخشري «1» : مجاز عن اصطفائه واختصاصه
__________
(1) الكشاف: 1/ 426(5/288)
بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل: المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقك، أو يسد خللك كما تسد خلله. قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خللا إلا ملأته. وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل: معناه الاختصاص، أي اختص إبراهيم في وقته للرسالة.
وعلى كل حال، ليس في اتخاذ الله إبراهيم خليلا شيء من المقاربة في حقيقة الذات والصفات. وسبب اتخاذه خليلا إما لإطعامه الطعام أو لأنه التزم أن يكون خادما للرب حتى يموت،
وعن القاسم بن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا له خليل، ألا وإن خليلي أبو بكر» «1» .
5- الله مالك السموات والأرض وخالقهما. ومعنى الآية وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هنا أنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالّته، ولا للتكثير به والاعتضاد، وكيف وله ما في السموات وما في الأرض، وإنما أكرمه لامتثاله لأمره.
6- سعة علم الله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي أحاط علمه بكل الأشياء.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 104- 105، أخرج الحديث الطبراني عن أبي أمامة، وهو ضعيف.(5/289)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
رعاية اليتامى والصلح بين الزوجين بسبب النشوز والعدل بين النساء
[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
الإعراب:
ما يُتْلى في موضع رفع لأنه معطوف على اسم الله تعالى، أي الله يفتيكم والمتلو.
ولا يجوز أن يكون معطوفا على ضمير فِيهِنَّ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور، وأجازه الكوفيون. والأولى أن تكون «ما» اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك، أي يفتيكم فيهن أيضا. فِي الْكِتابِ صلة يتلى، وكذلك: فِي(5/290)
يَتامَى النِّساءِ
. اللَّاتِي في موضع جر صفة ليتامى ولا تُؤْتُونَهُنَّ إلى قوله: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ: في صلة اللاتي. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ: مجرور لأنه معطوف على يَتامَى النِّساءِ، وكذلك قوله: وَأَنْ تَقُومُوا في موضع جر عطفا على الْمُسْتَضْعَفِينَ.
والتقدير: يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، وأن تقوموا لليتامى بالقسط وَإِنِ امْرَأَةٌ مرفوع بفعل يفسره: خافت أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً: صلحا: منصوب على المصدر على تقدير: فيصلح الأمر صلحا.
البلاغة:
يوجد جناس مغاير في يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.. وَالصُّلْحُ وفي تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ.
فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
وَيَسْتَفْتُونَكَ يطلبون منك الفتيا فِي النِّساءِ في شأن النساء وميراثهن يُفْتِيكُمْ يبين لكم ما أشكل عليكم ما كُتِبَ لَهُنَّ أي فرض لهن من ميراث وصداق وَأَنْ تَقُومُوا أي تعنوا عناية خاصة بهن بِالْقِسْطِ بالعدل في الميراث والمهر فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم به خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقعت من زوجها ما تكره نُشُوزاً ترفعا وتكبرا عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها أَوْ إِعْراضاً عنها بوجهه أي ميلا وانحرافا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً في القسم والنفقة، بأن تترك له شيئا، طلبا لبقاء الصحبة، فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة والنشوز والإعراض وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ شدة البخل أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها، أي جبلت مطبوعة عليه، فكأنها حاضرته لا تغيب عنه، المعنى أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها، والرجل لا يكاد يسمح لها بنفسه إذا أحب غيرها.
وَإِنْ تُحْسِنُوا عشرة النساء وَتَتَّقُوا الجور عليهن فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به أَنْ تَعْدِلُوا تسووا بَيْنَ النِّساءِ في المحبة ولو حرصتم على ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى التي تحبونها في القسم والنفقة فَتَذَرُوها أي تتركوا الممال عنها كَالْمُعَلَّقَةِ التي ليست مطلقة ولا هي ذات زوج أو بعل. وَإِنْ تُصْلِحُوا بالعدل بالقسم وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لما في قلبكم من الميل رَحِيماً بكم في ذلك.
مِنْ سَعَتِهِ أي فضله وغناه بأن يرزقها زوجا غيره ويرزقه غيرها وَكانَ اللَّهُ واسِعاً لخلقه في الفضل حَكِيماً فيما دبره لهم.(5/291)
سبب النزول:
نزول الآية (127) :
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ: روى البخاري عن عائشة في هذه الآية قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في مالها حتى في العذق (النخلة بحملها) فيرغب عن أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا، فيشركه في مالها، فيعضلها (يمنعها عن الزواج) فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: كان لجابر بنت عم دميمة، ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت.
سبب نزول الآية (128) :
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ:
روى الترمذي عن ابن عباس أنها نزلت بسبب سودة بنت زمعة، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
لا تطلّقني وأمسكني، واجعل يومي منك لعائشة، ففعل، فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً فما اصطلحا عليه فهو جائز. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود والحاكم عن عائشة مثل ذلك.
وروى ابن عيينة وسعيد بن منصور عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك، ونزلت: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ. وله شاهد موصول أخرجه الحاكم من طريق ابن المسيب عن رافع بن خديج.
وروى البخاري والحاكم عن عائشة رضي الله عنها: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ(5/292)
بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً
قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
اشتملت السورة على موضوعين عامين: كان أولهما في أحكام النساء واليتامى والقرابة والإرث والمصاهرة، ثم أبانت بدءا من قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا أسس الدين، وأحوال أهل الكتاب والمنافقين، والقتال. ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء واليتامى الضعفاء، وتوطيد دعائم الرابطة الزوجية بالإصلاح، وبالعدل بين الزوجات حال التعدد.
التفسير والبيان:
ويستفتونك يا محمد في شأن النساء وحقوقهن الشاملة للميراث وحقوق الزواج، أي المالية والزوجية، كالعدل في المعاملة، والعشرة الطيبة وعلاج حالة النشوز. قل: الله يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمورهن، وكذلك يوضح لكم أحكاما أخرى في المتلو عليكم في القرآن من أول السورة، كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث، وإيتاء أموال الأيتام بقوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 2] والتحرج من الزواج باليتيمات: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ.. [النساء 4/ 3] .
فقد جرت عادتكم القبيحة ألا تعطوهن ما كتب (فرض) لهن من الإرث إذا كان في أيديكم، لولايتكم عليهن، وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. ويحتمل: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال: تزوجها، فأنت أحق بها. هذا مع العلم أنه كان الرجل منهم يضم اليتيمة(5/293)
ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيدفنها.
والمستضعفين: معطوف على يتامى النساء، أي وما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد الذين لا تعطونهم حقهم في الميراث المنصوص عليه في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وقد كانوا في الجاهلية إنما يورّثون الرجال القوامين بالأمور دون الأطفال والنساء.
ويصح في حال العطف على يتامى النساء أن يكون العامل هو يفتيكم بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
والخلاصة: إن الله يذكّر بحق الضعيفين: المرأة والطفل اليتيم، سواء بالآيات السابقة ليتدبروا معناها ويعملوا بما فيها، لتغافلهم عنها، أو بالإفتاء المجدد فيهما عدا المذكور سابقا.
وَأَنْ تَقُومُوا أي والله يفتيكم أيضا بأن تعاملوا اليتامى بالعدل، وأن تعنوا بشؤونهم عناية خاصة. ويجوز كما ذكر الزمخشري أن يكون قوله وَأَنْ تَقُومُوا منصوبا بفعل مقدر وهو: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يدعوا أحدا يظلمهم أو يهضم حقوقهم.
وما تفعلوا من خير قليل أو كثير لليتامى والضعفاء والنساء، فإن الله به عليم، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. وهذا تهييج على فعل الخيرات وامتثال الأوامر، وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.
ثم أخبر الله تعالى عن طرق علاج الخلاف بين الزوجين، وذكر أحوالا ثلاثة: حال نفور الرجل عن المرأة، وحال اتفاقه معها، وحال فراقه لها.(5/294)
فالحالة الأولى:
ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غيرها من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها شيئا من مالها له، ولا عليه في قبوله منها. والخوف هنا مستعمل في حقيقته بشرط ظهور أمارات تدل عليه.
ومعنى الآية في هذه الحالة: إن توقعت المرأة من زوجها نشوزا وترفعا عليها بأمارات وقرائن، كأن منعها نفسه ونفقته ولم يعاملها بالود والرحمة، أو آذاها بسبّ أو ضرب ونحو ذلك، أو أعرض عنها بأن أحجم عن محادثتها ومؤانستها لسوء في الطبع والخلق، أو لطعن في السن، أو دمامة أو ملال لها أو طموح إلى غيرها، ففي هذه الأحوال لا بأس من اللجوء إلى الإصلاح بينهما، بالتنازل عن بعض حقوقها أو كل حقوقها، لتبقى في عصمته، أو تمنحه شيئا من مالها ليطلقها وهو عوض الخلع: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. ولكن ليذكر الزوجان دائما ما أقامه الله بينهما من عاطفة الود والرحمة كما قال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21] .
وقد ذكرت في أسباب النزول أكثر من حالة لبعض النسوة في صدر الإسلام، تنازلت الزوجة عن حقها في القسم لضرتها، أو اكتفت بالمبيت كل شهرين، على أن تبقى لديه ولا يطلقها.
والحالة الثانية:
وهي حالة الاتفاق بين الزوجين المعبر عنه بالصلح: أي أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية. ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق، قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفراق(5/295)
والتسريح، أو من النشوز والإعراض، وسوء العشرة، أو هو خير من الخصومة في كل شيء، حفاظا على الرابطة الزوجية، ومنعا من هدم كيان الأسرة وإلحاق الضرر بالأولاد، ولأن الطلاق أبغض الحلال إلى الله «1» ، وكل ذلك يوجب العودة إلى المعاشرة بالمعروف والمعاملة بالعدل. وهذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله:
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.
أي لقد استطرد القرآن إلى بيان طبيعة في النفوس: وهي الحرص على البخل، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة، وعلى الزوج أيضا، وعلى حقها المالي في المهر ونفقة العدة، وكذا الرجال حريصون على أموالهم أيضا وعلى كراهة تهديم الأسرة، فيكون التسامح والتصالح خيرا للطرفين، ما دام بهذا الطبع، والصلح عند المشاحة خير من الفراق.
ومعنى الصلح: أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعرفت مكان عائشة من قلبه، فوهبت لها يومها، كما روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد، فقالت: لا تطلقني، ودعني أقوم على ولدي، وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح، فهو أحب إلي، فأقرها «2» .
ومن حالات الصلح أن تهب له بعض المهر أو كله، أو النفقة، فإن لم تفعل، فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها.
وإن تحسنوا البقاء مع نسائكم وإن كرهتموهن، وتصبروا على ما تكرهون،
__________
(1، 2)
روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .
الكشاف: 1/ 427(5/296)
مراعاة لحق الصحبة، وتحسنوا المعاشرة فيما بينكم وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة، فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا عليما لا يخفى عليه شيء، فيجازيكم ويثيبكم عليه.
كان عمران بن حطّان الخارجي من أدمّ بني آدم، وامرأته من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوما، ثم تابعت: الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت:
حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين «1» .
ثم بين الله تعالى أن تمام العدل وكماله وغايته في معاملة النساء محال، فخفف الله التكليف بالعدل التام، وطالب الرجال بقدر الاستطاعة، فقال:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ لأن العدل في المعاملة يشمل أمورا مادية وغير مادية، أما المادية فهي كالمبيت والنفقة والكسوة، وأما غير المادية فهي كالحب والميل وغير ذلك مما يرجع إلى الشعور النفسي، وأحاسيس النفس يصعب كبحها.
فكلف الله ما يستطيعه الرجال وهو العدل المادي، ورفع عنهم الحرج فيما لا يستطيعونه من الحب والاشتهاء وأحوال الجبلّة البشرية، كما هو الشأن في سائر التكاليف، فإن الحب والبغض ونحوهما لسنا مكلفين به.
ولكن الله جعل التكليف بالمستطاع في معاملة النساء مشروطا بأن يبذلوا ما فيه ولوسعهم وطاقتهم لأن تكليف ما لا يستطاع داخل في حد الظلم، وما ربك بظلام للعبيد.
__________
(1) الكشاف: 1/ 428(5/297)
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول فيما رواه أصحاب السنن الأربع عن عائشة: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»
يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه.
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور، فتمنعوها قسمتها من غير رضا منها، يعني أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة، فلا تفرطوا فيه، وإن وقع منكم التفريط في العدل كله، وفيه نوع من التوبيخ، فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية.
فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي فتبقى هذه الأخرى أو المرأة المرغوب عنها كالمعلّقة، لا هي مطلقة ولا هي متزوجة، بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها وحفظ حقوقها.
روى الإمام أحمد وأهل السنن وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وأحد شقّيه ساقط» .
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا.. أي وإن أصلحتم أموركم وقسمتم بالعدل، وتبتم عن الميل والجور، واتقيتم الله في المستقبل في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل في الماضي إلى بعض النساء دون بعض، وكان شأن الله دائما المغفرة للمقصرين والرحمة بعباده التائبين الراجعين إليه.
والحالة الثالثة:
وهي حالة الفراق: أخبر الله تعالى أنه إذا تفرّق الزّوجان لاستعصاء الحلول والعلاج والتوفيق والمصالحة بينهما، فإن الله يغني الرّجل عنها، ويغنيها عنه، بأن يعوّضه الله من هو خير له منها، ويعوّضها عنه بمن هو خير لها منه، وكان الله واسع الفضل، عظيم المنّ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.(5/298)
فقه الحياة أو الأحكام:
الاستفتاء في الدّين أمر مطلوب شرعا لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] ، والآية (127) نزلت للجواب عن الاستفتاء فيما يجب للنساء وما يجب عليهنّ مطلقا، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنّساء، سواء في الميراث وغير ذلك.
والمراد بقوله: ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهنّ من الميراث أو الصّداق أو النّكاح وما يعم ذلك كله وغيره.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: معناه أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية، ذكر أن الله يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدّمة مثل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى (الآية 3) أحالهم فيه إلى تلك الآيات، وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون. وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب، إذ يصح القول: إن كتاب الله بيّن كذا، وإن كتاب الله أفتى بكذا.
واحتجّ بعض الحنفية بقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ على أنه يجوز لغير الأب والجدّ تزويج الصغيرة لأن الله ذكر الرغبة في نكاحها، فاقتضى جوازه.
وقال الشافعية: إن الله ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذّم، فلا دلالة فيها على ذلك، على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهنّ فعله في حال الصّغر.
والخلاصة: إن الآية ترغّب في الإحسان ليتامى النساء بالميراث والصداق والنكاح وغير ذلك، كما ترغب وتأمر بالإحسان إلى الولدان الضعفاء الصغار،(5/299)
ردّا على ما كان عليه أهل الجاهلية، إذ كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء، وتأمر أيضا بمعاملة اليتامى بالعدل. وختمت الآية بما يؤكد الأوامر السابقة، فأعلنت: وما تفعلوه من خير يتعلق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم، فإن الله يجازيكم عليه، ولا يضيع عنده منه شيء.
ومن الأحكام التي أخبر الله تعالى أنه يفتيهم بها في النساء: علاج حالة النشوز أو الإعراض من الرجل عن زوجته، والإعراض: الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، مثل أن يقلل محادثتها أو مؤانستها لكبر سنّ أو دمامة أو عيب خلقي أو ملال. والإعراض أخفّ من النّشوز.
والعلاج بالصّلح بأن تترك له المرأة يومها، كما فعلت سودة رضي الله عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب له من نفقة أو كسوة أو تهب له شيئا من مهرها، أو تعطيه مالا لتستعطفه وتستديم المقام معه.
ولا يكون أخذ الرجل شيئا من مال الزوجة بالصلح أكلا بالباطل أو أخذا بالإكراه إذا كان هناك عذر حقيقي مما تقدّم، دون اتّخاذ الأعذار ذريعة أو حيلة لأخذ المال، فإن لم يكن هناك مسوغ مقبول شرعا، ولكنه تظاهر بالنشوز والإعراض، كان أخذ المال حراما.
والسبب في أنه تعالى أجاز للرجل أخذ شيء من مال المرأة حال النشوز الحاصل منه، وجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء 4/ 34] : السبب أن الله تعالى جعل للرجال درجة القوامة على النساء، فليس للمرؤوس معاقبة رئيسه، وأن الله فضّل الرجال على النساء في العقل والدين وتحمل التكاليف الشاقة، والتفضيل يقتضي ألا يكون نشوز الرجل إلا لسبب قاهر، أما المرأة لغلبة عواطفها عليها ونقصان عقلها ودينها(5/300)
فيكثر منها النشوز لأتفه الأسباب، ثم إن للرجل حقّ مفارقة المرأة بالطلاق دون العكس، فلا يكون لها سبيل عليه إذا بدت منه أمارات الفرقة وعلامات الكراهية.
ودلّ قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ على أن أنواع الصّلح كلها مباحة في هذه المسألة بإعطاء أحدهما للآخر مالا، أو بتنازل المرأة عن حقّها في المبيت مطلقا أو لمدة معينة أو لفترة طويلة. بل إن الآية تدلّ على جواز الصّلح في غير أحوال النزاع بين الزوجين إلا ما خصّه الدّليل، وهو يدلّ على جواز الصّلح عن إنكار والصّلح من المجهول، كما قال الجصاص «1» لأن وقوع الجملة اعتراضا وجريانها مجرى الأمثال، مما يرجّح كون اللفظ عاما. وقال القرطبي أيضا:
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق يقتضي أن الصّلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى الصّلح بين الرّجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك «2» .
وأخبر الله تعالى بقوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ بأن الشّحّ في كلّ أحد، وأن الإنسان لا بدّ أن يشحّ بحكم خلقته وجبلّته، حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. والشّح إذا أدّى إلى منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة.
ودلّ قوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا وهو خطاب للأزواج على أن للزوج أن يشحّ ولا يحسن، أي إن تحسنوا وتتّقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهنّ مع كراهيتكم لصحبتهنّ واتّقاء ظلمهنّ فهو أفضل لكم.
أما العدل المرفوع من دائرة التكاليف فهو الذي لا يخضع لسلطة الإنسان
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 283
(2) تفسير القرطبي: 5/ 406(5/301)
وإرادته، وإنما يكون من أمور الجبلّة البشرية التي لم يكلّفنا الله عزّ وجلّ بشيء منها كالحبّ والكراهية، فهذا غير مستطاع، وهو داخل في تمام العدل وكماله، وهو الذي أخبر تعالى عنه أنه محال، قال أئمة التفسير من السّلف الصالح كابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم: إن العدل الذي أخبر الله عنه أنه غير مستطاع: هو التّسوية بين الزوجات في الحبّ القلبي وميل الطباع، ومعلوم أن ذلك غير مقدور. فالعدل المقصود في هذه الآية هو العدل في المحبّة القلبية فقط، وإلا لتعارضت الآية مع الآية السابقة: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى....
وأما العدل المأمور به الذي جعل شرطا في جواز تعدد الزوجات أو الجمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه المكلف، ويملكه، مثل التسوية بينهن في القسم والنفقة والكسوة والسكنى وما يتبع ذلك من كل ما يملك ويقدر عليه.
ويترتب عليه أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة، فإنها لا تملك، وكانت عائشة رضي الله عنها كما تقدّم أحبّ نسائه إليه صلّى الله عليه وسلّم. وأخذ منه أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه موقوف على المحبة والميل، وهي بيد مقلّب القلوب.
ولكن لا يصح اتّخاذ الميل سببا للظلم، لقوله تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة، لأن هذا مما يستطاع.
وينبغي صون كرامة المرأة واحترام شخصيتها وعدم إلجائها إلى الانحراف، لقوله تعالى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا هي مطلّقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه بالشيء المعلّق من شيء لأنه لا على الأرض استقرّ، ولا على ما علّق عليه انحمل.(5/302)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
وبعد أن رغّب الله في الصلح بين الزوجين وحثّ عليه، ذكر في قوله:
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ جواز الفرقة إذا لم يكن منها بدّ، وطيّب الله خاطر كلّ من الزوجين، ووعد كلّ واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر، إذا كان القصد من الفرقة هو التّخوّف من ترك حقوق الله التي أوجبها، فليحسنا الظنّ بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقرّ بها عينه، وللمرأة من يوسّع عليها.
وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنّكاح، فذهب الرجل وتزوّج، ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطّلاق فسئل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنّكاح لعله من أهل هذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور 24/ 32] ، فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «1» .
ثم ختم الله الآية بأنه كان وما يزال غنيّا كافيا للخلق، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه. وهذا نصّ صريح على أن الله هو مصدر الرزق والغنى والسعة، وأنه متكفّل بأرزاق العباد، وأن حكمته سامية عالية في كلّ شيء خلقا وإبداعا، وتشريعا وحكما، وتصرّفا وجزاء.
لله حقيقة الملك في الكون وكمال القدرة والمشيئة وثواب الدّنيا والآخرة للمجاهد
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 408(5/303)
الإعراب:
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وإياكم: ضمير منفصل منصوب عطفا على الَّذِينَ وهو مفعول وصينا، والتقدير: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب وإياكم بأن اتّقوا الله. وحذف حرف الجر من أَنِ. أو تكون أَنِ المفسّرة لأن التوصية في معنى القول.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أمرنا اليهود والنصارى في كتبهم، والكتاب: اسم جنس يتناول الكتب السماوية. وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن. اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوه. وَإِنْ تَكْفُرُوا وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا بما وصيتم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا فلا يضرّه كفركم. وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن خلقه وعن عبادتهم.
حَمِيداً محمودا في صنعه بهم، سواء حمده الناس أو لم يحمدوه. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كرر الجملة تأكيدا لتقرير موجب التقوى وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قيّما حافظا شهيدا بأن ما فيهما له.
المناسبة:
لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان إلى اليتامى والضعفاء، أوضح أنه ما أمر بهذه الأفعال لحاجته إلى أعمال العباد لأن كلّ ما في السموات والأرض ملكه،(5/304)
فهو غنيّ عنهم وقادر على إغنائهم، ولكن ليحمل العباد على أعمال الخير والبرّ.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما، وأن جميع ما فيهما لله ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا وعبيدا، له الحكم المطلق.
ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم بما أمرناكم، ووصيناهم بما وصيناكم به من تقوى الله عزّ وجلّ بعبادته وحده لا شريك له، وإقامة سننه وشريعته.
وإن تكفروا نعم الله وإحسانه، فإن الله مالك الملك لا يضرّه كفركم وعصيانكم، كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد أوصى بهما لرحمته، لا لحاجته.
وقوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتَّقُوا لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله الملك، والمعنى- كما قال الزمخشري «1» -: إن لله الخلق كله، وهو خالقهم ومالكهم، والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقّه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصيّ، يتّقون عقابه، ويرجون ثوابه، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتّقوا الله، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لستم بها مخصوصين لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة، وقلنا لهم ولكم:
وإن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحّده ويعبده ويتّقيه.
وكان الله بذاته غنيّا عن خلقه وعن كل شيء وعن عبادتهم جميعا، مستحقّا لأن يحمد بذاته وكمال صفاته لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم، قال الله
__________
(1) الكشاف: 1/ 428- 429(5/305)
سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذّاريات 51/ 57- 58] .
ثمّ كرر القول للتأكيد: ولله ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا يتصرّف فيهما كيف شاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، وكفى بالله وكيلا، أي قيّما وحافظا وكفيلا لأمور العباد في أرزاقهم وسائر شؤونهم.
قال الزمخشري: تكرير قوله: ما في السموات وما في الأرض: تقرير لما هو موجب تقواه، ليتّقوه فيطيعوه ولا يعصوه لأن الخشية والتّقوى أصل الخير كله «1» .
ثم هدّد تهديدا عامّا صريحا فقال:
إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين، أي إن يرد إفناءكم وإيجاد قوم آخرين بدلا عنكم، فهو قادر على ذلك لأن كل شيء في السموات والأرض تحت قبضته وخاضع لسلطانه، وكان الله على ذلك من الإعدام والإيجاد بليغ القدرة، لا يمتنع عليه شيء أراده.
وهذا غضب على المشركين الذين كانوا يؤذون النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويقاومون دعوته، وتخويف وبيان لاقتداره على الإذهاب والتّبديل إذا عصيتموه، كما قال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد 47/ 38] ، قال بعض السّلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم 14/ 19- 20] أي وما هو عليه بممتنع.
ثم قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا ... أي من كان بسعيه وعمله
__________
(1) المرجع السابق: ص 429(5/306)
وجهاده يريد ثواب الدّنيا أي نعيمها بالمال والجاه ونحوهما، فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة، كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة، فما له يطلبها فقط وهي خسيسة، بل عليه أن يطلب خيري الدّنيا والآخرة، فيأخذ الغنيمة وينال الجنة إن جاهد لله خالصا، والمعنى: فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة له إن أراده، فعليه أن يرجو ثوابهما معا. وفي هذا إيماء إلى أن الدين يهدي أهله لسعادتي الدّنيا والآخرة، وأن تلك الهداية من فضله تعالى ورحمته، ولو استقام المسلمون على أوامر ربّهم وهدي دستورهم لظلّوا سادة العالم.
وهي نظير قوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة 2/ 200- 202] ، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] ، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ- إلى قوله- انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء 17/ 18- 21] .
ثم ختم الله الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي كان الله وما يزال سميعا لأقوال عباده، بصيرا بكل قصد وعمل، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال.
فقه الحياة أو الأحكام:
المستفاد من هذه الآيات هو معرفة ثوابت الأخبار الدائمة في الوحي الإلهي منذ بدء الخليقة، وفي كل ملة ودين، ولكل العاملين والمجاهدين في سبيل الله، وهي ما يأتي:
1- لله ملك السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وسلطانا.(5/307)
2- الأمر بالتقوى بامتثال الأوامر الإلهية واجتناب النواهي عام لجميع الأمم. قال بعض العارفين عن آية وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ..: هذه الآية هي رحى آي القرآن لأن جميعه يدور عليها.
3- الله تعالى لا تضره معصية العباد وكفرهم، ولا تنفعه طاعتهم وإيمانهم.
ولقد كرر قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ في الآية (131) مرتين، ثم في الآية (132) : إما تأكيدا، ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه، وأنه غني عن العالمين، أو كرره لفوائد: فأخبر أولا أن الله تعالى يغني كلا من سعته (رزقه) لأن له ما في السموات وما في الأرض، فلا تنفد خزائنه. ثم قال ثانيا: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى، وإن تكفروا فإنه غني عنكم لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم ثالثا بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لأن له ما في السموات وما في الأرض.
وقال: ما فِي السَّماواتِ ولم يقل: من في السموات لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل.
والخلاصة: كان التكرار لترسيخ الاعتقاد بأن كل شيء من سعة الله، وللإعلان عن غنى الله المطلق فلا يتضرر بكفر العباد، ولبيان قيام الله بحفظ خلقه وتدبيره إياهم.
4- لله المشيئة المطلقة والقدرة الكاملة في إذهاب المشركين والمنافقين وكل العصاة، والإتيان بآخرين هم أطوع لله من الموجودين. وفي الآية: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة، فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه، ولا ينصح الناس، من أن يذهبه ويأتي بغيره.
والقدرة صفة أزلية لله تعالى، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى(5/308)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
معلوماته، والماضي في قوله مثلا: وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً والمستقبل في صفاته بمعنى واحد. وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه حديث في ذاته وصفاته. والقدرة: هي التي يكون بها الفعل، ولا يجوز وجود العجز معها.
5- من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة، آتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله تعالى، كما قال سبحانه: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] . وقال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود 11/ 16] وهذا على أن يكون المراد بالآية: المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري «1» .
والحق كما ذكر ابن كثير: أن الآية عامة ومعناها ظاهر، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة «2» .
العدل في القضاء والشهادة بحق والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية
[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
__________
(1) تفسير الطبري: 5/ 205، تفسير القرطبي: 5/ 410 [.....]
(2) تفسير ابن كثير: 1/ 565(5/309)
الإعراب:
شُهَداءَ منصوب إما لأنه صفة قوامين، أو حال من ضمير قوامين.
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما: إنما قال: بهما، ولم يقل: به لأن أَوِ لأحد الشيئين لأربعة وجوه:
الأول- أنه محمول على المعنى، والمعنى: إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين فالله أولى بهما.
الثاني- أنه لما كان المعنى: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير، رد الضمير إليهما.
الثالث- إنما رد الضمير إليهما لأنه لم يقصد غنيا بعينه ولا فقيرا بعينه.
الرابع- أن أَوِ بمعنى الواو، والواو لإيجاب الجمع بين الشيئين أو الأشياء، فلهذا قال: أولى بهما. وأو بمعنى الواو في مذهب الأخفش والكوفيين.
أَنْ تَعْدِلُوا أن: في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لئلا تعدلوا، أو تكون في موضع نصب على تقدير: كراهة أن تعدلوا، كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلوا.
وَإِنْ تَلْوُوا بواوين: أصله تلويوا على وزن تفعلوا، من لويت، فنقلت الضمة من الياء إلى ما قبلها، فبقيت الياء ساكنة، وواو الجمع ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فبقي: تلووا ووزنه تفعوا.
البلاغة:
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مبالغة أي مبالغين في إقامة العدل.
غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً طباق.
آمَنُوا آمِنُوا جناس ناقص لتغير الشكل.
ضَلَّ ضَلالًا جناس مغاير.(5/310)
المفردات اللغوية:
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ صيغة مبالغة أي قائمين بالعدل على أتم وجه شُهَداءَ لِلَّهِ أي شاهدين بالحق لوجه الله وحده وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولو كانت الشهادة على أنفسكم، فاشهدوا بالحق عليها، بأن تقروا به ولا تكتموه فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم وأعلم بمصالحهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه، أو الفقير رحمة به. أَنْ تَعْدِلُوا أن لا تعدلوا أي تميلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا تحرفوا ألسنتكم بالشهادة. وفي قراءة بحذف الواو الأولى تخفيفا أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها أي لا تؤدوها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به.
سبب النزول: نزول الآية (135) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان: غني وفقير، وكان صلّى الله عليه وسلّم مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.
المناسبة:
هذا أمر عام بالقسط بين الناس، جاء عقب الأمر بالقسط في اليتامى والنساء في آية الاستفتاء لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام ودوام الملك لا يتم إلا به، فالعدل أساس الملك الدائم.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يقوموا بالعدل، فلا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن يتعاونوا ويتعاضدوا فيه. يا أيها المؤمنون كونوا مبالغين بإقامة العدل، والعدل عام شامل الحكم بين الناس من الحكام، والعمل في أي مجال، وفي الأسرة، فيسوي الحاكم أو الوالي أو الموظف بين الناس في الأحكام والمجالس وقضاء(5/311)
الحوائج، كما يسوي كل صاحب عمل بين عماله، وكما يسوي الرجل بين زوجاته وأولاده في المعاملة والهبة.
وكونوا شاهدين بالحق لله، بأن تتحروا الحق الذي يرضي الله، وتؤدوا الشهادة ابتغاء وجه الله، لتكون الشهادة صحيحة عادلة حقا من غير مراعاة أحد ولا محاباة.
اشهدوا بالحق المجرد ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وعاد ضررها عليكم، بأن تقروا بالحق ولا تكتمونه، ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق.
واشهدوا بالحق أيضا ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقارب وعاد ضررها عليهم لأن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير الله، بل البر والصلة والطاعة في الحق والمعروف.
ولا تراعوا غنيا لغناه، أو ترحموا فقيرا لفقره، بل اتركوا الأمر لله، فالله يتولى أمرهما، وأولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما.
ولا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل، إذ في الهوى الزلل، أو فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال، كما قال الله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] .
وإن تلووا ألسنتكم أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، والليّ: هو التحريف وتعمد الكذب، قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [آل عمران 3/ 78] أو تعرضوا عن أداء الشهادة، والإعراض: هو كتمان الشهادة وتركها، قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة 2/ 283]
وقال النبي(5/312)
فيما رواه مسلم عن زيد بن خالد الجهني صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير الشهداء: هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها.
وإن تلووا أو تعرضوا فالله خبير بأعمالكم، وسيجازيكم بذلك. وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها، والشهادة يكثر فيها الغش والاحتيال واللف والدوران. فليحذر المخالفون.
ثم أمر الله بالإيمان به وبرسوله وبالكتب التي أنزلها، فإن كان هذا خطابا للمؤمنين فمعناه اثبتوا على ذلك وداوموا واستمروا عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه، وكما قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد 57/ 28] . وهذا رأي ابن كثير والقرطبي «1» . وقوله:
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن، وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.
وإن كان الخطاب لمؤمني أهل الكتاب فيراد به الأمر بالإيمان بالنبي محمد وبالقرآن، كالأنبياء السابقين والكتب المنزلة قبل القرآن. فقد روي أن هذا خطاب لمؤمني اليهود.
قال ابن عباس وكذا الكلبي: «إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام، ويامين بن يامين، إذ أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت، قال: فآمنوا كلهم» «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 566، تفسير القرطبي: 5/ 415
(2) الكشاف: 1/ 430، أسباب النزول للواحدي: ص 106(5/313)
وقال في القرآن: نَزَّلَ لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، ولهذا قال تعالى: وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ.
ثم توعد الله من كفر بعد الأمر بالإيمان فذكر:
ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله، أو اليوم الآخر، فقد ضل أي خرج عن طريق الهدى والحق، وبعد عن المطلوب كل البعد.
ومن فرّق بين كتب الله ورسله، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى فلا يعتد بإيمانه ولا يعترف به لأن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل، ولو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه كما كفر بمحمد المبشر به عندهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أصول الحكم أو القضاء بين الناس على أساس من العدل، وأداء الشهادة بالحق، وأصول التدين والإيمان الصحيح بالتصديق بجميع أنبياء الله ورسله الكرام، دون تفرقة بين أحد من رسل الله.
أما الآية الأولى فهي آمرة أمرا صريحا قاطعا بشيئين:
الأول- المبالغة في إقامة العدل والتعاون فيه دون تهيب ولا انحراف ولا تردد في القضاء به إذ بالعدل قامت السموات والأرض. ولقد كان السلف الصالح مضرب المثل في التزام شريعة العدل في كل الأقضية حتى مع الأعداء، ولو كان المسلمون هم المقضي عليهم، ولهم في ذلك روائع الأمثال والقصص، منها:
أن عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه، وبغضي(5/314)
لكم، على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
الثاني- أداء الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ولأنه أحق أن يتبع، ولأن الاستعلاء على مصالح النفس ومراعاة حظوظها هو أمارة الإيمان الصحيح بالله، ولأن بر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب إنما يكونان ضمن دائرة الحق والمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فالشهادة ينبغي أن تكون خالصة لله أي لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه، فيقر الإنسان بالحق لأهله، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه، وبهذا أدب الله عز وجل المؤمنين، كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم.
ولا حاجة لمراعاة غني أو فقير، فالله وحده يتولى أمورهما، وهو أولى بكل واحد منهما.
واتباع الهوى مرد أي مهلك، قال الله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص 38/ 26] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، قال الشعبي: أخذ الله عز وجل على الحكّام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.
وإن التحريف في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين، وعدم قول الحق فيها، والإعراض عن أداء الحق فيها، والظلم في القضاء، كل ذلك مدعاة إلى الجزاء والعقاب الشديد، كما وضح من التهديد المذكور في ختام الآية: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي فمجازيكم بذلك. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل.
وفي الحديث: «ليّ الواجد(5/315)
يحلّ عرضه وعقوبته» «1»
واللي: المطل، والواجد: الغني المليء، وعرضه:
شكايته، وعقوبته: حبسه.
وذكر الفقهاء بعض الأمور المتعلقة بالشهادة للوالدين أو على الوالدين فقالوا: لا خلاف في أن شهادة الولد على الوالدين (الأب والأم) ماضية ومقبولة، ولا يمنع ذلك من برّهما، بل من برّهما أن يشهد عليهما، ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] .
وأما الشهادة للوالدين أو شهادتهما للأولاد ففيها خلاف: قال الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة وأصحابه.
وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق والمزني. وأجاز الشافعي شهادة الزوجين بعضهما لبعض لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية، وهو معرّض للزوال، والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص، فبقي ما عدا المخصوص على الأصل. وأجيب بأن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، وتتواصل منافع الأملاك بين الزوجين، فالتهمة قوية ظاهرة.
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت،
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد.(5/316)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
وأجازها لغيرهم»
قال الخطابي: ذو الغمر: هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة. والقانع: هو المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم مثل الأجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد الشهادة: التهمة في جر المنفعة إلى نفسه، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا، فشهادته مردودة.
والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجرّ به النفع، لما جبل عليه من حبه والميل إليه. وممن ترد شهادته عند مالك: البدوي على القرويّ،
لما روى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» .
وأما الآية الثانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا فالظاهر أنها نزلت في جميع المؤمنين، والمعنى: يا أيها الذين صدّقوا أقيموا على تصديقكم واثبتوا عليه، وصدقوا بالقرآن وبكل كتاب أنزل على النبيين.
وقيل: إنه خطاب للمنافقين والمعنى على هذا: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله.
وقيل: المراد المشركون والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزّى والطاغوت آمنوا بالله، أي صدّقوا بالله وبكتبه.
وقيل: نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء عليهم السلام.
صفات المنافقين وجزاؤهم ومواقفهم من المؤمنين
[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 141]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)(5/317)
الإعراب:
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ بدل أو نعت المنافقين.
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: إنما قال: جميعا بالتذكير، ولم يقل جمعاء بالتأنيث لأن العزة في معنى العز. وجَمِيعاً حال منصوب، والتقدير: فإن العزة لله تعالى كائنة في حال اجتماعهما.
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بدل من الذي قبله.
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ أن: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه، وهي مع الفعل في تأويل المصدر مفعول: نزل، على من قرأها بالفتح، وفي موضع نائب فاعل على قراءة من قرأ نزّل بضم النون والتشديد.
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي أمثالهم، وقد يأتي مثل أيضا للاثنين والجماعة، كما يأتي للواحد، قال الله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا.
البلاغة:
آمَنُوا ... كَفَرُوا طباق(5/318)
جامِعُ.. جَمِيعاً جناس اشتقاق.
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أسلوب تهكمي، لاستعمال لفظ البشارة مكان الإنذار تهكما.
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ استفهام إنكاري، قصد منه التقريع والتوبيخ.
المفردات اللغوية:
بَشِّرِ يا محمد أي أنذر، واستعمل البشارة مكان الإنذار تهكما عَذاباً أَلِيماً مؤلما هو عذاب النار أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أولياء جمع ولي: وهو الناصر والمعين، واتخذوهم أولياء لما يتوهمون فيهم من القوة.
أَيَبْتَغُونَ يطلبون، أي لا يجدونها عندهم. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً في الدنيا والآخرة ولا ينالها إلا أولياؤه وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ القرآن آياتِ اللَّهِ القرآن فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ أي مع الكافرين والمستهزئين. حَتَّى يَخُوضُوا يتحدثوا بحديث آخر.
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون بكم الدوائر، أي ينتظرون وقوع أمر بكم. فَتْحٌ ظفر وغنيمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدين والجهاد، فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نصيب من الظفر عليكم أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نستول عليكم ونقدر على أخذكم وقتلكم، فأبقينا عليكم، والمراد: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم، فأبقينا عليكم. وَنَمْنَعْكُمْ وأ لم نمنعكم من المؤمنين أن يظفروا بكم بتخذيلهم ومراسلتكم بأخبارهم، فلنا عليكم المنّة.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبينهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن يدخلكم الجنة، ويدخلهم النار. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا طريقا بالاستئصال في الدنيا، قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة «1» ، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر 40/ 51] .
المناسبة:
لما أمر الله في الآية السابقة بالإيمان بالله والرسول والكتب المنزلة، ناسب أن يذكر صنفين خارجين عن الإيمان: الصنف الأول- وهم الذين آمنوا في الظاهر نفاقا ثم عادوا إلى الكفر وماتوا على ضلالهم، فلا توبة لهم بعد الموت ولا يغفر الله
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 567(5/319)
لهم. والصنف الثاني- وهم جماعة المنافقين الذين بقوا متظاهرين بالإسلام وتعاطفوا مع الكفار، وهؤلاء لهم عذاب مؤلم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
إن هؤلاء الذين أعلنوا إيمانهم، ثم عادوا إلى الكفر، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم تغالوا وتمادوا في الكفر، ثم ماتوا على كفرهم، فلا مغفرة لهم، ولن يهتدوا إلى الخير. أي إن الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، وفقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان، ولم يحاولوا الثبات على الهداية، لن يظفروا أبدا بمغفرة الله ورحمته وإحسانه ورضوانه، ولن يهتدوا بعد هذا التردد إلى الجنة وما فيها من خير وفلاح وسعادة، إذ لم تحدث منهم توبة في حال الحياة، وظلوا على كفرهم وطغيانهم ومعاداتهم للإسلام حتى الموت.
بشر أي أنذر يا محمد المنافقين من هؤلاء وغيرهم الذين كانوا يميلون مع الكفرة ويوالونهم بالعذاب المؤلم الذي لا يعرف قدره في نار جهنم.
ومن صفاتهم أنهم كانوا يتخذون الكافرين أولياء وأنصارا وأعوانا، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها، ظنا منهم أن الغلبة ستكون للكافرين، ولم يدروا أن العاقبة للمتقين لأن الله معهم.
ثم أنكر الله عليهم ووبخهم فذكر أنهم إن كانوا بذلك يطلبون العزة أي القوة والمنعة عند هؤلاء، فقد أخطئوا لأن العزة لله في الدنيا والآخرة، وهو يؤتيها من يشاء، والمراد أن العزة تكون في النهاية لأولياء الله الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] قال ابن عباس: يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ يريد بني قينقاع، فإن ابن أبيّ كان يواليهم.(5/320)
ثم نهى الله المؤمنين جميعا سواء كانوا صادقي الإيمان أو متظاهرين به وهم المنافقون عن الجلوس في مجالس الكافرين الذين يستهزئون بآيات الله، فلا تسمعوا لهؤلاء ولا تقعدوا معهم حتى يتكلموا في حديث آخر، فإنكم إن قعدتم معهم، كنتم شركاء لهم في الكفر لرضاكم بكلامهم. وهذا مثل قوله تعالى:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام 6/ 68] وسبب النهي أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم، فيستهزءون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه.
وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم، كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة، وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم: إنكم إذا مثل الأحبار في الكفر.
وفي هذا إيماء إلى أن الساكت عن المنكر شريك في الإثم.
ثم أوضح الله تعالى عاقبة الجميع، فقرر أن الله تعالى جامع المنافقين والكافرين جميعا في جهنم، يعني القاعدين والمقعود معهم، فإنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا، سيجتمعون في العقاب يوم القيامة لأن من رضي بالشيء حكمه حكم المرتكب له تماما.
ثم بيّن الله تعالى بعض أحوال المنافقين: وهي أنهم ينتظرون ما يحدث للمؤمنين من خير أو شر.
فإن كان للمؤمنين نصر من الله وفتح أو غنيمة، قالوا زاعمين: إنا كنا معكم مؤيدين ومظاهرين، فأسهموا لنا في الغنيمة، وشاركونا في القسمة المستحقة لنا.
وإن كان للكافرين نصيب من الظفر، كما حصل يوم أحد، قالوا لهم: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم، فأبقينا عليكم، وكنا عونا لكم على المؤمنين نمنعهم(5/321)
عنكم بأن ثبّطناهم عنكم، وألقينا في قلوبهم الرعب والخوف، فأحجموا عن قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم.
والسبب في تسمية ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا: هو تعظيم شأن المسلمين، وتخسيس حظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دني، ولمظة من الدنيا يصيبونها، كما قال الزمخشري «1» .
ثم حسم الله الموقف بين المؤمنين والمنافقين فقال: فالله يحكم بينكم أيها المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون، يوم القيامة، فيجازي كلا على عمله، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل المنافقين النار.
ثم قطع الله تعالى أي أمل يتعلق به الواهمون المنافقون فقال: ولن يمكّن الله الكافرين من استئصال شأفة المؤمنين بالكلية ما داموا متمسكين بشرع الله ودينه، وإن حصل لهم ظفر أحيانا فهو نصر موقوت لأن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم 30/ 47] إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إذا آمن الكافر غفر له كفره السابق، فإذا رجع فكفر، لم يغفر له الكفر الأول، لما
ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أمّا من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية
__________
(1) الكشاف: 1/ 431(5/322)
والإسلام»
وفي رواية: «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر»
والإساءة هنا بمعنى الكفر إذ لا يصح أن يراد هنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله، إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلى حين موته، وذلك باطل بالإجماع «1» .
2- في هذه الآية وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا رد على أهل القدر فإن الله تعالى بيّن أنه لا يهدي الكافرين طريق خير، ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا.
3- تضمنت الآية أيضا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا حكم المرتدين، وأن الردة تحبط الأعمال.
4- العذاب الأليم مستحق للمنافقين لا محالة بإخبار الله تعالى، وخبر الله لا يتغير.
5- قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.. فيه دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق لأنه لا يتولى الكفار.
وتضمنت الآية المنع من موالاة الكفار، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقاتل معه، فقال له: «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» . «2»
6- العزة أي الغلبة والقوة الحقيقية التامة لله عز وجل.
7- يحرم الجلوس في مجالس الكفرة الذين يستهزئون بآيات الله (القرآن)
__________
(1) دليل الإجماع قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 8/ 38]
والحديث الذي رواه مسلم عن عمرو بن العاص بلفظ «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» .
(2)
رواه أحمد وأبو داود عن عائشة بلفظ: «إنا لا نستعين بمشرك» .(5/323)
والخطاب في قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ.. عام لجميع من أظهر الإيمان من محقّ ومنافق لأنه إذا أظهر الإيمان، فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله. وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن.
ودل قوله تعالى: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ- أي غير الكفر- إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم، حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي، فتجنب أهل البدع والأهواء أولى.
8- موقف المنافقين موقف ضعيف يستدعي العجب والسخرية والطرد من الجانبين: فإنهم كانوا يطمعون في غنائم المسلمين متذرعين بأنهم مظاهرون لهم ومؤيدون جهادهم. وكذلك كانوا يطمعون في غنائم الكفار متذرعين بأنهم دافعوا عنهم وخذلوا عنهم المسلمين، حتى هابهم المسلمون.
والآية: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.. تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين، ولهذا قالوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟. وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة، ولذا طالبوها وقالوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟
ويحتمل أن يريدوا بقولهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ الامتنان على المسلمين، أي كنا نعلمكم بأخبارهم، وكنا أنصارا لكم «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/ 419(5/324)
9- قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ذكر ابن العربي وتابعه القرطبي «1» في تأويله خمسة أوجه:
منها: أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل، ولا تتناهوا عن المنكر، وتتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدوّ من قبلكم. قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا.
ومنها: أن المراد بالسبيل الحجة. ومنها: أن هذا يوم القيامة وقد رجحه الطبري، وضعفه ابن العربي لعدم فائدة الخبر فيه.
ومنها- الذي رجحته وهو أن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما جاء
في صحيح مسلم عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال « ... ودعوت ربي ألّا يسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم»
أي ساحتهم.
قال الجصاص في قوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا:
ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته، وتأديبها، ومنعها من الخروج، وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فاقتضى قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ ... وقوع الفرقة بردة الزوج، وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا، فحقوقه ثابتة، وسبيله باق عليها «2» .
__________
(1) المرجع السابق، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 509 وما بعدها.
(2) أحكام القرآن: 1/ 290(5/325)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
مواقف أخرى للمنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 147]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
الإعراب:
كُسالى
جمع كسلان، وهو حال منصوب من واو قامُوا
وكذلك قوله:
يُراؤُنَ
.. وَلا يَذْكُرُونَ.
مُذَبْذَبِينَ منصوب من وجهين: أحدهما- أن يكون منصوبا على الذم بفعل مقدر، تقديره: أذم مذبذبين. والثاني- أن يكون منصوبا على الحال من واو يَذْكُرُونَ.
ما يَفْعَلُ ما: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَفْعَلُ وتقديره: أيّ شيء يفعل بعذابكم؟ والثاني- أن تكون «ما» نفيا، فلا يكون لها موضع من الإعراب. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أوجه الوجهين، وحذف الياء من يُؤْتِ في المصحف تخفيفا.(5/326)
البلاغة:
في يُخادِعُونَ
.. خادِعُهُمْ
وفي شَكَرْتُمْ.. شاكِراً جناس اشتقاق. وقوله:
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ؟ استفهام بمعنى النفي أي لا يعذبكم ما دمتم شكرتم نعم الله وآمنتم به.
المفردات اللغوية:
يُخادِعُونَ اللَّهَ
بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر، فيدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية. من الخداع: وهو إيهام غيرك خلاف حقيقة الشيء. وَهُوَ خادِعُهُمْ
مجازيهم على خداعهم، فيفتضحون في الدنيا باطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة. كُسالى
جمع كسلان وهو المتثاقل المتباطئ. يُراؤُنَ النَّاسَ
بصلاتهم، أي يقصدون بعملهم الظهور للناس ليحمدوهم عليه، وهم في داخلهم غير مقتنعين بما يعملون. وَلا يَذْكُرُونَ
أي ولا يصلون.
إِلَّا قَلِيلًا
أي رياء. مُذَبْذَبِينَ مترددين. بَيْنَ ذلِكَ بين الكفر والإيمان. لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين إلى الكفار. وَلا إِلى هؤُلاءِ ولا إلى المؤمنين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى.
سُلْطاناً مُبِيناً حجة قوية ظاهرة أو برهانا بيّنا على نفاقكم. الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الدرك: المكان، والأسفل من النار: هو قعرها. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً مانعا من العذاب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق. وَأَصْلَحُوا عملهم. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا بالله.
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ من الرياء. أَجْراً عَظِيماً في الآخرة وهو الجنة. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً لأعمال المؤمنين بالإثابة عليها. عَلِيماً بخلقه.
المناسبة:
الآيات مكملة لما سبقها في تبيان صفات المنافقين وأحوالهم ومواقفهم.
التفسير والبيان:
إن المنافقين لجهلهم، وسذاجتهم، وقلة علمهم وعقلهم ومرضهم النفسي، وسوء تقديرهم يلجأون إلى الخداع، فيفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، كما تقدم في أول سورة البقرة: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية [9] ولا شك بأن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكنهم(5/327)
يظنون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية [المجادلة 58/ 18] .
وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، مثل وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [الأنفال 8/ 30] . أو وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم تطبق عليهم أحكام الشريعة في الظاهر، معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في الدنيا العاجلة من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. وقد يخذلهم في الآخرة أمام الناس، فيعطون على الصراط نورا، كما يعطى المؤمنون، ثم يطفأ نورهم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- إلى قوله- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد 57/ 13- 15] .
وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس: «من سمّع سمّع الله به، ومن رأيا رأيا الله به»
قال ابن عباس: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة 2/ 17] .
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متباطئين متثاقلين إذ لا إيمان يدفعهم إليها، ولا نية لهم فيها، ولا يعقلون معناها. هذه صفة ظواهرهم.
ثم ذكر الله تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ
بها،(5/328)
أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يريدون أن يراهم الناس تقية لهم ومصانعة، ويقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصلاة الصبح،
كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..» الحديث.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أي في صلاتهم لا يخشون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وإنهم في الواقع لا يصلون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا.
وهم أيضا مذبذبون مضطربون متحيرون بين الإيمان والكفر، فليسوا مع المؤمنين حقيقة، ولا مع الكافرين حقيقة، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعصف به الشك، فتارة يميل إلى المؤمنين، وتارة يميل إلى الكافرين كاليهود، كما قال تعالى في أول سورة البقرة: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا الآية [20] فإذا ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي ومن صرفه عن طريق الهدى، بسبب أعماله ومواقفه وأخلاقه، فلن تجد له سبيلا (طريقا) إلى الخير والسداد يسلكه.
ثم حذّر الله المؤمنين أن يفعلوا فعل المنافقين وأن يوالوا الكافرين، فقال:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي لا تتخذوهم نصراء وأعوانا تصاحبونهم وتصافونهم، وتناصحونهم وتصادقونهم، وتسرون إليهم المودة، وتفشون أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ(5/329)
مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
[آل عمران 3/ 28] أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، وقال أيضا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة 5/ 51] .
أما تولي الذميين الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، فليس بمحظور، فإنهم اشتغلوا في عصر الصحابة في الدواوين، وكان أبو إسحاق الصابي وزيرا في الدولة العباسية.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي أتريدون أن تجعلوا لله على أعمالكم حجة بينة في استحقاق العقاب إذا اتخذتموهم أولياء، يعني أن موالاة الكافرين دليل على النفاق، ولا يصدر هذا إلا من منافق.
ثم ذكر الله تعالى عقوبة المنافقين الشهيرة: وهي إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي إن مكانهم في الطبقة السفلى من النار، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال المفسرون:
النار سبع دركات: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد يسمى بعضها باسم بعض. وأما الجنة فهي درجات، بعضها أعلى من بعض.
والسبب في أن عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر: هو أنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
وهذا العذاب لن يجدوا أحدا ينقذهم منه أو يخففه عنهم: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً.
ثم ذكر الله تعالى طريق الإصلاح وهو فتح باب التوبة عن النفاق، وشرط الله تعالى لقبول توبة المنافقين توبة صحيحة أربعة شروط في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، وتلك الشروط هي(5/330)
الندم على الفعل السابق، والإصلاح أي الاجتهاد في فعل الأعمال الصالحة التي تغسل أدران النفاق، والاعتصام بالله أي الثقة به والتمسك بكتابه والاهتداء بهدي نبيه المصطفى، وبقصد مرضاة الله، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء 4/ 175] والإخلاص لله بأن يدعوه العباد وحده، ويتجهوا إليه اتجاها خالصا، لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه، ولا يلجأون إلى أحد سواه لكشف ضر أو جلب نفع، كما قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] .
هذه شروط قبول توبة المنافق، أما الكافر فشرط توبته فقط هو الانتهاء عن الكفر كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 8/ 38] . والمنافق: هو من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. والكافر:
من أعلن الكفر صراحة.
أولئك التائبون هم مع المؤمنين أي أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين، وفي زمرتهم يوم القيامة.
وسوف يعطي الله المؤمنين أجرا عظيما لا يعرف قدره، فيشاركونهم فيه كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] .
ثم بين الله تعالى سبب تعذيبهم وهو كفرهم بأنعم الله فقال مستفهما استفهاما إنكاريا: ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس؟ إنه يعذبكم لا من أجل الانتقام والثأر، ولا من أجل دفع ضر وجلب خير لأن الله غني عن كل الناس، وهو الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، ولكنه أيضا عادل حكيم، لا يسوي بين الصالح والطالح، فالكافر والمنافق والعاصي لم يشكروا الله تعالى على نعمه، ولم يؤدوا واجبهم في الإيمان الحق بالله تعالى، ولم يصرفوا نعم الله في الخير. ولو(5/331)
شكروا الله بأن أصلحوا العمل، وآمنوا بالله حقا، لاستحقوا الثواب الجزيل المعدّ لأمثالهم، فالله شاكر يجازي من شكر ويثيب من أطاع، عليم بخلقه، لا تخفى عليه خافية، فمن آمن بربه وقام بواجبه بشكر نعمه، علم به وجازاه على ذلك أوفر الجزاء كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم 14/ 7] فهو الكريم المعطاء الذي يجزي القليل بالكثير، واليسير بالعظيم، ويضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، فاللهم اجعلنا من المؤمنين الشاكرين الصابرين، المخلصين الأبرار، الذين رضيت عنهم في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى طائفة مهمة من الأحكام:
1- النفاق والرياء أمران قائمان في كل أمة وزمان: والنفاق إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله.
2- يعتمد المنافق كالثعلب على المكر والخداع، وسرعان ما يتكشف أمره للناس، ولا يخفى على الله من فعله شيء منذ بدء نفاقه، فالمنافقون يخادعون الله لقلة علمهم وعقلهم، والله خادعهم- على سبيل المشاكلة اللفظية- أي أن الخداع من الله هو مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله.
3- تطبق على المنافق في الدنيا أحكام الشريعة في الظاهر، وفي الآخرة قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نورا يوم القيامة، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد 57/ 13] .
4- من أوصاف المنافقين الصلاة رياء: أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون(5/332)
متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون على تركها عقابا.
وفي صحيح الحديث المتقدم: «إن أثقل صلاة على المنافقين: العتمة والصبح»
والعتمة: العشاء، لا يصلونها بسبب تعب النهار، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم، ولولا السيف ما قاموا.
ثم وصفهم الله بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف،
وقال صلّى الله عليه وسلّم ذامّا لمن أخّر الصلاة: «تلك صلاة المنافقين- ثلاثا- يجلس أحدهم يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان- أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» رواه مالك وغيره.
وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله. وقيل:
لعدم الإخلاص فيه.
5- من صلّى كصلاة المنافقين وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [23/ 1- 2] . اللهم إلا أن يكون له عذر، فيقتصر على الفرض حسبما
علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأعرابي حين رآه أخل بالصلاة، فقال له- فيما رواه الأئمة-: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» .
وقال فيما رواه الترمذي: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود»
وبناء عليه قال أكثر العلماء:
الطمأنينة فرض لهذا الحديث. ورأى أبو حنيفة أنها ليست بفرض، وإنما هي واجب لثبوتها بخبر آحاد.(5/333)
6- قال ابن العربي: إن من صلّى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها، فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج وإنما الرياء المعصية: أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة «1» .
7- المنافق مذبذب قلق مضطرب: والمذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة: الاضطراب. والمنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى» .
8- تحرم موالاة الكافرين دون المؤمنين: والمراد كما قال ابن كثير:
مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. والآيات الناهية عن ولاية الكافرين كثيرة.
9- عقاب المنافق في الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية لغلظ كفره، وكثرة غوائله، وتمكّنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابه بمنه وكرمه «2» .
10- توبة المنافق مقبولة بشروط هي: أن يصلح قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله، كما نصت عليه هذه الآية، وإلا فليس بتائب.
__________
(1) أحكام القرآن: 1/ 511
(2) تفسير القرطبي: 5/ 425(5/334)
11- تعذيب المنافقين وغيرهم لا مصلحة فيه لله تعالى، كما نصت الآية التي تقول: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه. ولكن العذاب تقتضيه الحكمة والعدل.
قال مكحول من التابعين: أربع من كنّ فيه كنّ له، وثلاث من كنّ فيه كنّ عليه، فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء 4/ 147] . وقال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال 8/ 33] . وقال الله سبحانه: قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي، دُعاؤُكُمْ [الفرقان 25/ 77] . وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث قال الله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] .
وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس 10/ 23] . وقال تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح 48/ 10] .
12- الله يشكر عباده على طاعتهم. ومعنى يشكرهم: يثيبهم، فيقبل العمل القليل، ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته.
انتهى الجزء الخامس ولله الحمد(5/335)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
[الجزء السادس]
[تتمة سورة النساء]
الجهر بالسوء والعفو عنه وإبداء الخير وإخفاؤه
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
الإعراب:
بِالسُّوءِ في موضع نصب: لأنه يتعلق بالجهر، وإعمال المصدر الذي فيه الألف واللام قليل، وليس في التنزيل إعماله إلا في هذا الموضع، ولم يعمل في اللفظ وإنما عمل في الموضع.
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: من: في موضع نصب، لأن الاستثناء منقطع.
البلاغة:
تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ طباق.
المفردات اللغوية:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب من أحد ذلك بمعنى أنه يعاقبه عليه، والجهر: الإعلان إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي فلا يؤاخذه بالجهر به، بأن يخبر عن ظلم ظالمة، ويدعو عليه. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لما يقال عَلِيماً بما يفعل.
سبب النزول:
أخرج هناد بن السري عن مجاهد قال: أنزلت لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ في رجل أضاف رجلا بالمدينة، فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه، أي نزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. وهذا مروي أيضا عن ابن جريج.(6/5)
المناسبة:
الآيتان متصلتان بما قبلهما في الكلام عن المنافقين وكفار أهل الكتاب، فبعد أن حذر الله المؤمنين من عيوبهم وأعمالهم وصفاتهم وأوضح أنهم في الدرك الأسفل من النار، أبان حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يفهم المؤمنين مشروعية الجهر بالسوء من القول على الإطلاق، وفي ذلك إشاعة الفواحش والعيوب، وإضرار الأمة، وإنما المشروعية مقيدة في حال الظلم، كما أن الإسرار بالخير والجهر به سواء.
التفسير والبيان:
يعاقب الله تعالى المجاهر بسوء القول، أي بذكر عيوب الناس وتعداد سيئاتهم، لأنه يؤدي إلى إثارة العداوة، والكراهة والبغضاء، ويزرع الأحقاد في النفوس، ويسيء أيضا إلى السامعين، فيجرئهم على اقتراف المنكر، وتقليد المسيء، ويوقعهم في الإثم، لأن سماع السوء كعمل السوء.
وكذلك الإسرار بسوء القول محرّم ومعاقب عليه، إلا أن الآية نصت على حالة الجهر، لأن ضرره أشد، وفساده أعم وأخطر، لذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور 24/ 19] .
ثم استثنى الله تعالى حالة يجوز فيها إعلان السوء من القول: وهي حالة الشكوى من ظلم الظالم لحاكم أو قاض أو غيره ممن يرجى منه رفع ظلامته وإغاثته ومساعدته في إزالة الظلم. والشكوى على الظالم أمر مطلوب شرعا، إذ لا يحب الله لعباده أن يسكتوا على الظلم، أو أن يخضعوا للضيم أو أن يقبلوا المهانة ويسكتوا على الذل،
روى الإمام أحمد: «إن لصاحب الحق مقالا» .
وهذا من قبيل ارتكاب أخف الضررين ودفع أعظم الشرين.(6/6)
وكل من حالتي جواز الجهر بالسوء من القول وعدم الجواز في ظل رقابة دقيقة من الله تعالى، فهو سميع لكل ما يقال، مطلع على البواعث والنيات المؤدية للأقوال، عليم بكل ما يصدر عن الخلق من أفعال وتصرفات، فيثيب المحق، ويعاقب المبطل، ويعين على دفع الظلم، ويجازي كل ظالم على ظلمه.
وإبداء الخير من قول أو فعل، أو إخفاؤه، أو العفو عمن أساء يجازي الله تعالى عليه خيرا، بل يرغب فيه، فالله تعالى يحبّ فعل الخير، ويعفو عن السّيئات، وهو مع ذلك قادر تمام القدرة على معاقبة المسيء، والتّخلّق بأخلاق الله تعالى أمر حسن مرغّب فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يأتي:
1- الجهر بالسوء من القول بإشاعة عيوب الناس أمر منكر يعاقب الله تعالى عليه.
2- يباح للمظلوم اللجوء إلى القضاء والشكوى لرفع الظلم ووصف فعل الظالم، كما أنه يجوز الدّعاء على الظالم، ودعوة المظلوم مستجابة،
روى الحاكم عن ابن عمر: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة»
وروى الطبراني والضياء عن خزيمة بن ثابت: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» .
وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له.
وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعنّي عليه، واستخرج حقّي منه. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمة، ولكن(6/7)
مع اقتصاد إن كان مؤمنا، كما قال الحسن في رواية أخرى عنه. لكن لا يجوز مقابلة الشتم أو القذف بمثله، وإنما يلجأ إلى القضاء.
3- استدلّ من أوجب الضيافة بهذه الآية، قالوا: لأن الظلم ممنوع منه، فدلّ على وجوبها. وهو قول الليث بن سعد.
وذهب الجمهور إلى أن الضيافة من مكارم الأخلاق.
4- الاعتدال في طلب الحقّ أمر مطلوب شرعا، لأن قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحدّ في الانتصار.
5- التعاون في إزالة الظلم من أصول الإسلام، قال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الطبراني عن النعمان بن بشير، وهو ضعيف: «خذوا على أيدي سفهائكم»
وقال فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تجزه عن الظلم فإن ذلك نصره» .
6- إبداء الخير حسن لمن عمر قلبه بالإيمان والإخلاص، أو قصد ترغيب الناس وحضّهم على فعل الخير. وإخفاء الخير أفضل إن خيف شيء من الرياء المحبط للأجر والثواب. وهذا بيان وجه الأفضلية، أما الأصل الذي نصّت عليه الآية لإحراز الثواب على فعل الخير غير المصحوب بالرياء: فهو أن إبداء الخير وإخفاءه سواء.
7- العفو عن المسيء مندوب إليه ومرغّب فيه، لأن العفو من صفة الله تعالى، مع القدرة على الانتقام.
روى ابن المبارك عن الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة نودي: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدّنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
[الشورى 42/ 40]
وروى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن(6/8)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» .
الكفر والإيمان وجزاء كلّ
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
الإعراب:
حَقًّا مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله.
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ للكافرين يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا.
البلاغة:
نُؤْمِنُ ... وَنَكْفُرُ طباق.
المفردات اللغوية:
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرّسل. وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ منهم. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ الكفر والإيمان. سَبِيلًا طريقا يذهبون إليه. وَأَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا. عَذاباً مُهِيناً ذا إهانة وهو عذاب النار. أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للطائعين.
رَحِيماً بأهل طاعته.(6/9)
المناسبة:
بعد أن حذّر الله تعالى من مصاحبة الكفار ومصادقتهم ومناصحتهم، وندّد بخصال المنافقين، ونبّه المؤمنين إلى ما يباح إعلانه من سوء القول، أوضح سبب كفر أهل الكتاب، من طريق بيان ركني الإيمان وهما: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بجميع الرّسل دون تفرقة بين رسول وآخر، فمن آمن ببعض الرّسل وكفر ببعض آخر، فهو من الكافرين الذين استحقّوا العقاب في نار جهنم. أي أنه تعالى لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
التفسير والبيان:
يتوعّد الله تعالى في هذه الآيات الكافرين به وبرسله، من اليهود والنصارى، حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء، وكفروا ببعض، تعصّبا وتمسّكا بالموروث، واعتصاما بالأهواء والشهوات، فاليهود آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا عليهما الصّلاة والسّلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فمن كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، لأن الإيمان بسائر الأنبياء واجب، فمن ردّ نبوّة نبيّ للحسد أو العصبيّة أو التّشهي، تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيّة.
ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي في الإيمان وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر، ودينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية، هؤلاء أخبر تعالى عنهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي كفرهم محقّق لا محالة بمن ادّعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعيّا، إذ لو كانوا مؤمنين به(6/10)
لكونه رسول الله، لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه، والله تعالى أعدّ وهيّأ لكلّ كافر مطلقا بالدّين، أو لمن كفر بسبب إيمانه ببعض الرّسل وعدم إيمانه برسل آخرين، أعدّ للكافرين عذابا فيه ذلّ وإهانة لهم، جزاء كفرهم.
وبه يتبيّن أن الكفر بالرّسل نوعان: كفر بجميع الرّسل، وكفر ببعض الرّسل، وأصحاب الكفر الأول لا يؤمنون بأحد من الأنبياء، لإنكارهم النّبوات، وأهل الكفر الثاني يؤمنون ببعض الأنبياء ولا يؤمنون ببعض آخر، مثل اليهود الذين يؤمنون بموسى عليه السلام ويكفرون بعيسى ومحمد عليهما السّلام، والنصارى الذين يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
والفريقان سواء في استحقاق العذاب، لأن الإيمان بالله ورسله لا يتجزأ، فمن آمن حقيقة بالله، آمن بجميع رسله الذين أرسلهم لهداية الناس، فهو مصدر الإرسال، والرّسل سفراء بين الله وخلقه، فلا يتصور إيمان بالله وكفر ببعض رسله. وحينئذ لا يقبل إيمان بموسى وكفر بعيسى، وإيمان بجميع الرّسل وكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو مذكور في كتبهم، ومبشّر به عندهم، ومصدّق لما معهم، والقرآن مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه القائل: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] .
ثم قرن الله تعالى بالفريقين السابقين الكلام عن فريق ثالث: وهم المسلمون، للمقارنة والعظة والعبرة، وهم الذين آمنوا بالله وجميع رسله، فإنهم يؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله تعالى، وبكلّ نبيّ بعثه الله، كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... [البقرة 2/ 285] .
هؤلاء أعدّ الله لهم الجزاء الجزيل، والثواب الجليل: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ(6/11)
أُجُورَهُمْ
على ما آمنوا بالله ورسله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي غفورا لذنوبهم إن كان لبعضهم ذنوب، رحيما بهم يعاملهم بالإحسان ويضاعف حسناتهم، كما أنه تعالى رحيم بجميع عباده حيث أرسل لهم الرّسل لهدايتهم، وبيان المنهج الأسلم، والطريق المستقيم الأفضل.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان والكفر ضدّان لا يجتمعان، والإيمان لا يتجزّأ، وجزاء الكفر واحد، وإن تعددت أشكاله، فمن أنكر الأديان والنّبوّات، ومن ألحد فلم يؤمن بوجود الله ووحدانيته، ومن كفر بجميع الرّسل، أو آمن ببعضهم وكفر ببعضهم الآخر، فهو كافر، ويكون أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكفار، لأنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والآية بيّنت أن الكفر به، كفر بالكلّ، لأنه ما من نبيّ إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبجميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، ونصّ سبحانه على أنّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرّسل، فإذا جحدوا الرّسل، ردّوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، وكأن ردّ الشرائع كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر.
ونصّ سبحانه أيضا على أن الإيمان ببعض الرّسل والكفر ببعض كفر بالكلّ. واتّخاذ طريق وسط بين الإيمان والكفر أو دين مبتدع بين الإسلام واليهودية مرفوض في شرعة القرآن.
وأكّد تعالى أن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عزّ وجلّ، وكفروا بكلّ رسول مبشّر بذلك الرّسول، فلذلك صاروا الكافرين حقّا.(6/12)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وجزاء الكفر ما صرحت به الآية: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي أعتدنا وهيأنا لجميع أصناف الكفار عذابا مذلّا.
أما المسلمون وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته، الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته، وآمنوا بجميع الرّسل، فلم يفرّقوا بين أحد منهم، فسوف يؤتيهم الله ثواب أعمالهم، والله غفور للعصاة منهم، رحيم بالعباد فلا يعجل لهم العذاب، وإنما يترك لهم فرصة للتوبة والإنابة، ويهديهم بالقرآن والرّسل والعقل والحواس والتّجارب المتكرّرة والأحداث التي توقظ مشاعر الإيمان، يهديهم صراطا مستقيما.
مواقف اليهود المتعنتة
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)(6/13)
الإعراب:
جَهْرَةً نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة. لا تَعْدُوا فيه ثلاث قراءات:
لا تعدوا: بسكون العين مع تخفيف الدّال، وبسكون العين مع تشديد الدّال، وبفتح العين مع تشديد الدّال. والقراءة الثانية ضعيفة في القياس، لما أدت إليه من الاجتماع بين الساكنين على غير حدّه.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما: زائدة للتوكيد، وهو رأي الأكثرين، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي لعنّاهم بسبب نقضهم.
بُهْتاناً منصوب بالمصدر على حدّ قولهم: قلت شعرا وخطبة، لأن القول يعمل فيما كان من جنسه. عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عيسى: منصوب على البدل. وفي نصب ابن مريم وجهان: إما على الوصف أو على البدل. إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس أي لكن، ويجوز رفعه على البدل من محل إعراب من عِلْمٍ ومحله الرفع، لأن تقديره: ما لهم به علم، مثل:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف 7/ 59 ومواضع أخرى] وتقديره: ما لكم إله غيره.
يَقِيناً إما منصوب على الحال من واو قَتَلُوهُ أي متيقنين، أو على الحال من هاء قَتَلُوهُ أي ما قتلوه متيقنا بل مشكوكا فيه، أو لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: وما قتلوه قتلا متيقنا. والهاء في قتلوه يجوز أن تكون لعيسى كما في قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ويجوز أن تكون الهاء للعلم، والمعنى: وما قتلوه علمهم به يقينا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إن هنا للنفي، ومعناه: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به أي بعيسى. وأما هاء قَبْلَ مَوْتِهِ ففيه وجهان: أن يكون المراد به كل واحد من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم لظهور الحقيقة له عند موته، أو تكون الهاء لعيسى لأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض، فيؤمن به من كان مكذبا له من اليهود وغيرهم، وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية، والوجه الأول أصح.(6/14)
البلاغة:
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وصفوه بالرسالة على سبيل التهكم والاستهزاء لأنهم لا يؤمنون برسالته.
فَبِما نَقْضِهِمْ زيادة الحرف للتأكيد، أي فبنقضهم.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض. وكذلك في قوله:
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ مجاز مرسل لأنهم كفروا بالقرآن والإنجيل دون غيرهما قُلُوبُنا غُلْفٌ استعارة، استعار الغلاف لعدم الفهم.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود إنزال كتاب جملة واحدة من السماء، كما أنزل على موسى تعنتا. فَقَدْ سَأَلُوا أي آباؤهم. جَهْرَةً أي رؤية جهرة عيانا. الصَّاعِقَةُ النار النازلة من السماء التي أدت بهم إلى الموت عقابا على التعنت في السؤال والظلم. الْبَيِّناتُ المعجزات الدّالة على وحدانية الله، والدلائل الواضحة على نبوّة موسى كفلق البحر واليد البيضاء والعصا. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلّطا بيّنا ظاهرا عليهم، حيث أمرهم بقتل أنفسهم توبة، فأطاعوه.
الطُّورَ الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله، رفعه فوقهم ليخافوا فيقبلوا الميثاق.
بِمِيثاقِهِمْ بسبب أخذ الميثاق عليهم، فلا ينقضوه. ادْخُلُوا الْبابَ باب القرية.
سُجَّداً سجود انحناء، أي خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ولا تنتهكوا حرمة السبت باحتيال اصطياد الحيتان فيه.
غُلْفٌ جمع غلاف، أي مغطاة بأغطية تجعلها لا تعي ما تقول.
طَبَعَ ختم عليها بالخاتم بسبب كفرهم، فلا تعي وعظا. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. بُهْتاناً كذبا مفترى يبهت صاحبه ويدهشه، حيث رموا السيدة مريم بالزنى. إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أي في زعمهم، فبمجموع ذلك عذبناهم.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من(6/15)
اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح حتى نصدقك، فأنزل الله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ إلى قوله:
بُهْتاناً عَظِيماً فجثى رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وروي أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيّا صادقا، فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى به موسى، فنزلت.
وقال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به.
ومن المعلوم عند المفسّرين أن اليهود سألت محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يصعد إلى السماء، وهم يرونه، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة تعنّتا له صلّى الله عليه وسلّم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السّلام بأكبر وأعظم من هذا، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي عيانا.
وهذا إنما قالوه على سبيل التّعنّت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة الإسراء: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [17/ 90] .
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها، فموضوعها أهل الكتاب، وكانت الآيات السابقة تبيانا لكفرهم إذ قالوا: نؤمن ببعض الرّسل ونكفر ببعض، وهذه الآيات تدلّ على تعنّتهم وتصلّبهم ومطالبتهم بأشياء على سبيل العناد والإلحاد.
التفسير والبيان:
يطلب منك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخطّ(6/16)
سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم. وهذا دليل على جهلهم بحقيقة الدّين ومعنى النّبوّة والرّسالة، وعدم إدراكهم معنى المشيئة الإلهية والحكمة الرّبّانية:
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] ، وسبب الجهل أنهم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المثيرة للدهشة والعجب.
وسؤالهم ذلك ليس بنيّة حسنة، فهو لا من أجل الإقناع وطلب الحجّة والبرهان بصدق ويقين، وإنما هو من قبيل التعنّت والتّعجيز والإحراج. قال الحسن البصري: لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا.
ولا تعجب يا محمد من سؤالهم، فقد سألوا موسى أعظم من هذا، فقالوا: أرنا الله رؤية جهرة عيانا، بلا حواجز ولا حجب، وذلك دليل على الجهل بالله تعالى إذ هم ظنّوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار.
ونسب السؤال إلى اليهود المعاصرين للنّبوّة، مع أن السؤال من آبائهم لأنهم ورثتهم المقلّدون لهم الرّاضون بفعلهم، وهو مظهر من مظاهر تكافل الأمة الواحدة حال الرّضا بفعل بعض أفرادها.
وكان عقابهم على هذا الطلب المصحوب بالتعجيز والمراوغة نزول الصاعقة التي أماتتهم، ثم أحياهم الله. والصواعق: شرارات كهربائية تنشأ بسبب اصطكاك الأجرام السماوية.
والإحياء مفسّر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة 2/ 55- 56] .(6/17)
وبعد الإحياء اتّخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة، والأدلّة القاهرة على يد موسى عليه السّلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوّهم فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. وذكر تعالى قصة اتّخاذهم العجل في سورة الأعراف الآية (152) ، وفي سورة طه (88) بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزّ وجلّ، ولما رجع إليهم تابوا مما صنعوا، فقتل بعضهم بعضا، قتل من لم يعبد العجل منهم من عبده، ثم أحياهم الله عزّ وجلّ، فعفا عنهم حين تابوا، وآتى الله موسى سلطانا مبينا، أي سلطة ظاهرة وحجّة قويّة بيّنة واضحة، كالعصا وفلق البحر واليد البيضاء. وسمّيت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجّة، وهي قاهرة القلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.
وكانت توبتهم بقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفّوا، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ، كما قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 54] .
وكان من عجائب أحوالهم وأساليب تأديبهم أن الله تعالى رفع فوقهم جبل الطور، كأنه ظلّة، وقد كانوا في واديه، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وأبوا إطاعة ما جاء به موسى عليه السّلام، فكان عقابهم بسبب ميثاقهم الذي أخذه الله عليهم أن يعملوا بما أنزل إليهم بقوّة وإخلاص.
ثم ألزموا بالطاعة فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف 7/ 171] .(6/18)
وأمروا أن يدخلوا باب القرية أي بيت المقدس سجّدا أي خاضعين متذللين، وهم يقولون: حطّة، أي اللهم حطّ عنّا ذنوبنا في تركنا الجهاد، ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة.
وأوصاهم الله تعالى بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم، فقال لهم على لسان داود عليه السّلام: لا تعدوا في السبت، أي لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدّنيوي، فخالفوا واحتالوا بحيلتهم المعروفة باصطياد الحيتان فيه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة 2/ 65] .
وأخذ الله منهم ميثاقا غليظا، أي عهدا مؤكّدا شديدا على الأخذ بالتوراة بجدّ وقوّة، والعمل بها، وعدم كتمان البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام، فخالفوا وعصوا وتحايلوا على ارتكاب ما حرّم الله عزّ وجلّ، كما ورد في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف 7/ 163] .
ثم ذكر تعالى بعد هذا الميثاق أسباب ما حلّ بهم من عقاب وغضب الله، مما يعدّ أقبح المخالفات: وهي نقض الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فأحلّوا حرامه، وحرّموا حلاله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبسبب نقض اليهود الميثاق، وكفرهم بآيات الله الدّالة على صدق أنبيائه، وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السّلام بغير ذنب، وقولهم: قلوبنا مغلفة بغلاف، فلا يصل إليها شيء مما تدعو إليه: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت 41/ 5] فردّ الله عليهم بأن ذلك(6/19)
ليس هو الواقع، وإنما ختم الله عليها بسبب كفرهم بعيسى ومحمد عليهما السّلام، فلا يصل إليها نور الهداية كالنّقود المسكوكة لا تقبل نقشا آخر، فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا من بعضهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه.
وكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل واتهام مريم البتول العذراء بالفاحشة، ورميهم لها برجل صالح فيهم هو يوسف النجار، وهذا بهتان عظيم وكذب مفترى يدهش البريء، وزعمهم أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ووصفوه بأنه رسول الله تهكما واستهزاء بدعوته، ووصفه القرآن بأنه: ابن مريم للرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله. ورد الله عليهم: والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه كما ادعوا، ولكن ألقى الله الشبه على رجل آخر فصلبوه، وما قتلوه يقينا أي متيقنين أنه عيسى ذاته بعينه لأن الجند الذين قتلوه وصلبوه ما كانوا يعرفونه، والمعروف في الأناجيل أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي.
وإن اختلفوا في صلب المسيح، أهو المصلوب أم غيره؟ لفي شك وتردد من حقيقة أمره، وليس لهم علم يقيني مقطوع به، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن والأمارات غير المؤدية إلى الحق.
وإنما أنجاه الله من أيدي اليهود ورفعه إليه، كما قال تعالى في سورة آل عمران: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران 3/ 55] قال ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وقال وهب:
أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. وقال ابن جرير: توفيه هو رفعه «1» ، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر 39/ 42] .
قال الحسن البصري: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) تفسير الطبري: 3/ 203 وما بعدها. [.....](6/20)
لليهود: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة»
أي أن المشهور بين المفسرين أن الله تعالى رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء، وقال الرازي:
المراد رافعك إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم، ومثله قوله تعالى عن إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات 37/ 99] وإنما ذهب إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم من العراق إلى الشام، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، وتدل الآية وَرافِعُكَ إِلَيَّ على أن الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في قوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [آل عمران 3/ 55] ليست بالمكان، بل بالدرجة والرفعة «1» .
ثم دلل سبحانه وتعالى على قدرته على حماية عيسى من الصلب وإنقاذه من اليهود والروم الظالمين ورفعه إليه بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي إن الله عزيز لا يغلب، حكيم في صنعه وفي جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها. ويجازي كل عامل بعمله، ومن جزائه لليهود في الدنيا ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض.
هذه عقيدتنا في صلب المسيح ورفعه مستقاة من أوثق مصدر في الوجود وهو القرآن الكريم كلام الله، المنقول إلينا بالتواتر، فلا مجال لتصديق روايات أخرى لم تثبت صحتها، بل إن ما فيها من تناقض واختلاف كثير يدل على الشك فيها ثم القطع بأنها ليست محل ثقة.
ثم إن القول بعدم الصلب أكرم وأفضل لكرامة عيسى عليه السلام، وأما القول بأنه صلب ليجعل نفسه فداء للبشرية والعالم، وليكفر عن خطيئة آدم عليه السلام وخطايا أبنائه، فهو من أوهام المسيحية، ومن القصص الروائية في الأناجيل التي دونتها أيدي البشر لأن الله تعالى أناط التخلص من الخطيئة
__________
(1) تفسير الرازي: 8/ 69(6/21)
بالتوبة، وقد تاب آدم عليه السلام وأنهى المشكلة وتقبل الله توبته: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 37] ولا يقبل عاقل قضية الفداء وإباحة ارتكاب المعاصي لأتباع المسيح لأن المسيح صلب تكفيرا لخطاياهم.
ثم حسم تعالى القول في شأن المسيح، فأبان أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى، فيؤمن به إيمانا صحيحا حقا لا انحراف فيه، فيعلم اليهودي أنه رسول صادق غير كذاب، ويعلم النصراني أنه بشر ليس بإله ولا ابنا للإله.
وقوله تعالى: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، ونحوه: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات 37/ 164] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. [مريم 19/ 71] والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله، يعني إذا عاين الموت قبل أن تزهق روحه، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف «1» ، ولأن كل أحد ينجلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك «2» .
ويوم القيامة يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه «ابن الله» فتظهر حقيقة حاله، كما قال تعالى عنه: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة 5/ 117] أي يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان وعلى الكافر بالكفر لأن كل نبي شهيد على أمته كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41]
__________
(1) الكشاف: 1/ 437
(2) تفسير ابن كثير: 1/ 577(6/22)
عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] قال قتادة عن آية وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بعبودية الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- أخلاق اليهود وطباعهم وعرة صعبة غريبة، فهم لا يذعنون للحق، وإنما يجادلون فيه، وينحازون عنه إلى المطالبة بأمور على سبيل التعجيز والإلحاد والعناد والمراوغة والتعنت.
فقد سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إنزال كتاب مكتوب من السماء دفعة واحدة إلى فلان وفلان يؤيد ما يدعيه ويصدقه فيما يقول، تعنتا، كما أتى به موسى.
وطلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى رؤية جهرة عيانا.
واتخذوا العجل إلها بالرغم من الأدلة القاطعة التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها، التي تدل على أنه لا معبود إلا الله عز وجل.
2- لا يخضع اليهود إلا للمادة، لذا ألزمهم الله تعالى إطاعة التوراة وإطاعة موسى برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، لتخويفهم.
3- إنهم محتالون مخادعون ماكرون، فقد أمرهم الله باحترام يوم السبت وعدم العمل فيه، فاحتالوا على صيد السمك بوضع حواجز على سواحل البحار يوم الجمعة، يبقى فيها السمك الآتي بالمد البحري، حينما ينحسر عنه بالجزر.
4- إنهم ينقضون العهود ويخالفون المواثيق، فقد أخذ الله عليهم العهد(6/23)
المؤكد على العمل بالتوراة، ثم نقضوا الميثاق، وخالفوا مقتضى العهد بجرأة نادرة.
5- استحقوا غضب الله عليهم وتسلط الروم الظلمة عليهم بأسباب كثيرة هي نقض الميثاق، والكفر بآيات الله وعدم الاعتراف برسالتي عيسى ومحمد عليهما السلام، وقتل الأنبياء بغير حق ولا ذنب، وتحدي الأمر الإلهي بقولهم: قلوبنا غلف لا ينفذ إليها الخير والهدى الإلهي، وكفرهم بعيسى والإنجيل، وقذف السيدة مريم بالزنى ورميهم لها بيوسف النجار، وهو البهتان العظيم، وادعاؤهم قتل المسيح عيسى ابن مريم.
6- الثابت المؤكد بإخبار الله الصادق القاطع أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه، بل حماه الله منهم، وخلصه من مكرهم وكيدهم، ورفعه الله إليه إما رفعا حقيقيا بالروح والجسد إلى السماء، كما قال الأكثرون لأن الله متعال عن المكان، وإما رفع منزلة وتفخيم وتعظيم كما قال الرازي.
7- ما من أحد من اليهود والنصارى إلا ويدرك قبل موته حقيقة عيسى عليه السلام، ويؤمن به إيمانا حقيقيا في وقت لا ينفعه الإيمان، إذا عاين الملك لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقرّ في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وهذا معلوم بالأحاديث أيضا،
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته» .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس: «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار» .
8- سيفاجأ النصارى يوم القيامة بشهادة عيسى المتضمنة تكذيب من كذبه،(6/24)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
وتصديق من صدقه، وبراءته من ادعاء النصارى أنه ابن الله، وإقراره بأنه عبد الله ورسوله، ودعوته إلى عبادة الله تعالى ربه وربهم، ومراقبته لهم أثناء حياته، واعتذاره عن انحرافهم بعد وفاته.
عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا وثواب المؤمنين منهم
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
الإعراب:
وَبِصَدِّهِمْ.. كَثِيراً كَثِيراً: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: صدا كثيرا. وَالْمُقِيمِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو على المدح بتقدير أعني وأمدح. وأما الجر فيجوز من ثلاثة أوجه: أن يكون معطوفا على بِما وتقديره: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة من الأنبياء، أو أن يكون معطوفا على الكاف في إِلَيْكَ وتقديره: بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، أو أن يكون معطوفا على كاف قَبْلِكَ وتقديره: من قبلك وقبل المقيمين الصلاة من أمتك. والعطف على الكاف في إِلَيْكَ وقَبْلِكَ على رأي الكوفيين ولا يجوز ذلك عند البصريين.
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ مرفوع من خمسة أوجه: إما مبتدأ وخبره: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ، وإما(6/25)
خبر مبتدأ محذوف وتقديره: وهم المؤتون، وإما معطوف على ضمير الْمُقِيمِينَ وإما معطوف على ضمير يُؤْمِنُونَ وإما معطوف على قوله: الرَّاسِخُونَ.
البلاغة:
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استعارة، استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً فيه التفات من الغيبة إذ الأصل: سيؤتيهم، إلى الخطاب، وتنكير الأجر للتفخيم.
المفردات اللغوية:
فَبِظُلْمٍ أي فبسبب ظلم هادُوا هم اليهود الذين تابوا بعد عبادة العجل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ هي التي في قوله تعالى: حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.. [الأنعام 6/ 146] الآية وَبِصَدِّهِمْ أي منعهم الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه كَثِيراً صدا كثيرا. وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشاوى في القضاء أَلِيماً مؤلما الرَّاسِخُونَ الثابتون في العلم المتقنون له وَالْمُؤْمِنُونَ المهاجرون والأنصار أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
المناسبة:
الآيات استمرار في الكلام عن اليهود، فبعد أن عدد الله تعالى قبائحهم وأفعالهم التي أدت إلى غضب الله، ذكر تعالى هنا نوع العقاب الذي عاقبهم الله به في الدنيا وهو تحريم بعض الطيبات، وفي الآخرة وهو العذاب المؤلم. أما المؤمنون الصالحون منهم فلهم الأجر العظيم وهو الجنة.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوا من الذنوب العظيمة، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم لعلهم يرجعون، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ(6/26)
[آل عمران 3/ 93] ، والمراد أن جميع الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة، ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها.
ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام 6/ 146] أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون التحريم بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولذا قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبسبب ظلمهم، وصدهم الناس وصد أنفسهم عن اتباع الحق، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، وكتمانهم البشارة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذه سجية لهم اتصفوا بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمدا عليهما السلام.
وبسبب أخذهم الربا الذي نهاهم الله عنه على ألسنة أنبيائهم، فإنهم احتالوا عليه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال الناس بالباطل بالرشوة والخيانة ونحوهما من غير مقابل، كما قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة 5/ 42] والسحت: الكسب الحرام.
وكان جزاؤهم الأخروي إعداد عذاب مؤلم لهم في نار جهنم ولكل كافر أمثالهم.
ويلاحظ أن تحريم الطيبات كان عاما، أما العذاب الأخروي فكان للمصرّين منهم على الكفر، الذين ماتوا عليه كافرين، لذا استدرك سبحانه فقال فيما معناه: أما الراسخون في العلم النافع الثابتون فيه المطلعون على حقائق الدين، الذين يؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل إليك، وما أنزل على من قبلك من الرسل كموسى وعيسى، ولا يفرقون بين أحد منهم، والمؤمنون إيمانا حقيقيا(6/27)
بالله واليوم الآخر أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، والمؤدون زكاة أموالهم للمستحقين، والمطيعون أوامر ربهم، وأخص منهم مقيمي الصلاة الذين يؤدونها على أتم وجه، مستوفية أركانها وشروطها. وتخصيص المدح لإقامة الصلاة لأنها تستدعي إيتاء الزكاة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزكي النفس، وتهوّن على النفس إيتاء المال لمستحقه، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج 70/ 19- 22] .
هؤلاء الموصوفون بما تقدم، سيؤتيهم ربهم أجرا عظيما هو الجنة، لا يدرك حقيقته إلا الله.
روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية لكِنِ الرَّاسِخُونَ.. أنزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد حين فارقوا يهود وأسلموا، أي دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر سبحانه وتعالى أسباب استحقاق اليهود العذاب الأليم في نار جهنم وتحريم بعض الطيبات في عالم الدنيا: وهي الظلم، وقدّم على التحريم إذ هو الذي قصد الإخبار عنه بأنه سبب التحريم، وصد أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وعبادة العجل وغير ذلك مما ذكر.
وهذا يؤيد مذهب الجمهور غير الحنفية القائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قال ابن العربي «1» : لا خلاف في مذهب مالك في أن الكفار مخاطبون
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 514(6/28)
(بمعنى أنهم مطالبون بأن يؤمنوا، وأن يؤدوا الفرائض الشرعية بعد الإيمان) وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن، وأنهم دخلوا في الخطاب، فبها ونعمت، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عز وجل على موسى في التوراة، وأنهم بدّلوا وحرّفوا وعصوا وخالفوا، فهل تجوز لنا معاملتهم، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم، أم لا؟.
فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد.
والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم، واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة، قال الله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة 5/ 5] وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة، وقد عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله.
ثم استثنى مؤمني أهل الكتاب لأن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلّها، ولم تكن حرّمت بظلمنا، فنزل: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه.
هؤلاء المؤمنون من الكتابيين مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما والمؤمنون من المهاجرين والأنصار أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومقيمو الصلاة، ومؤدو الزكاة، سيعطيهم الله ثوابا عظيما لا يقدر وصفه إلا الله وهو الجنة.
وأشارت الآيات إلى أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ(6/29)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
الَّذِينَ هادُوا
وأما الإعراض عن الدين الحق، فإليه الإشارة بقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً.
ومظاهر الظلم كثيرة وهي أكل الربا، وأخذ أموال الناس بالباطل بطريق الرشوة والاحتيال والغش ونحوها، وسماع الكذب، وأكل السحت، وهذه الذنوب الأربعة هي الموجبة لتشديد العقاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فهو تحريم الطيبات عليهم، وأما في الآخرة فهو العذاب المؤلم في نار جهنم.
وحدة الوحي للرسل وحكمة إرسالهم
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
الإعراب:
تَكْلِيماً مصدر كلّم، وفي ذكر هذا المصدر تأكيد للفعل ودليل على أنه كلمه حقيقة لا مجازا لأن الفعل المجازي لا يؤكد بالمصدر.
رُسُلًا منصوب من ثلاثة أوجه: إما منصوب على المدح بفعل مقدر وتقديره: وأمدح رسلا مبشرين. أو منصوب على البدل من قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ أو منصوب على(6/30)
الحال من أحد المنصوبين قبله وهما: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ ... وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ والوجه الأول هو الأولى، وهو أن يعنى بالرسل جميع من تقدم ذكره، فينتصب على المدح بتقدير فعل.
واللام في لِئَلَّا متعلق إما بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وإما بفعل مقدر يشار به إلى جميع ما تقدم، وتقديره: فعلنا ذلك لئلا يكون للناس.
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الباء للحال، أي: أنزله معلوما، كما تقول: خرج زيد بسلاحه، أي خرج متسلحا.
البلاغة:
كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تخصيصه بالذكر للتشريف، وقوله: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ لإظهار فضلهم، والتشبيه مرسل مفصل.
يَشْهَدُونَ.. وشَهِيداً جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي أنزلنا إليك كتابا بواسطة جبريل عليه السلام، والوحي: إعلام في خفاء «1» . وقال الزجاج: الإيحاء: الاعلام على سبيل الخفاء. ويأتي في اللغة على معان منها:
1- الإشارة: مثل قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم 19/ 11] أي أشار إليهم.
2- الإلهام: مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي [المائدة 5/ 111] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص 28/ 7] .
3- الإلهام غريزة: مثل قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل 16/ 68] .
4- الاعلام في خفاء: مثل قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «2» [الأنعام 6/ 112] .
الْأَسْباطِ جمع سبط: وهو ولد الولد، والمراد بالأسباط هنا: أولاد يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 15
(2) تفسير الألوسي: 8/ 5(6/31)
زَبُوراً هو الكتاب المنزل على داود عليه السلام. والزبور في اللغة بالضم مصدر: هو المزبور بمعنى المكتوب، وبالفتح: اسم للكتاب المؤتى.
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف من إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس.
مُبَشِّرِينَ بالثواب من آمن وَمُنْذِرِينَ بالعقاب من كفر.
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً في ملكه لا يغلب حَكِيماً في صنعه.
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ يبين نبوتك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي عالما به أو وفيه علمه.
سبب النزول:
نزول الآية (163) :
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية.
فهي قد نزلت في قوم من اليهود- منهم سكين وعديّ بن زيد- قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى، فكذبهم الله.
نزول الآية (166) :
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ:
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ...
المناسبة:
تستمر الآيات في مناقشة أهل الكتاب وبيان ألوان عنادهم، فهم كما سبق لا يؤمنون بكل الرسل، ويتطلبون أشياء صعبة من الرسل، سواء من موسى أو(6/32)
محمد عليهما السلام، وهنا تذكر الآيات في ختام محاجتهم أن الوحي جنس واحد لا يختلف بين الرسل، فلو صدقوا الإيمان بموسى أو غيره، لآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلم يفرقون بين نبي ونبي؟ فالكلام متصل بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ فأعلم تعالى أن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم كأمر من تقدمه من الأنبياء.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فهو ليس بدعا من الرسل، ولو آمنوا بالرسل حقيقة لآمنوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالوحي جنس واحد لم يتغير، وفي كتبهم البشارة به ووصفه.
والوحي: إعلام من الله نبيا أو رسولا كلاما أو معنى بطريقة تفيده العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به. أو هو كما قال الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: عرفان يجده الشخص من نفسه، مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.
ونموذج الوحي واحد: إلى نوح وبدأ به لأنه أقدم الأنبياء وأول نبي شرعت على لسانه الشرائع، ثم إلى من بعده من النبيين: وهم إبراهيم أبو الأنبياء وخليل الله، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى عليه الصلاة والسلام ومات بمكة، وإسحاق وهو ابن إبراهيم وأبو يعقوب المسمى إسرائيل، وإليه تنسب اليهود ومات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب، ثم الأسباط أولاد يعقوب العشرة، وحفيداه ابنا يوسف، فيصبح مجموعهم اثني عشر سبطا، والأسباط في بني إسرائيل من نسل إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل. ثم إلى موسى وهارون وأيوب وداود وسليمان بن داود ويونس، وقدم عيسى ابن مريم على هؤلاء لأن اليهود طعنوا به، والواو لا تقتضي الترتيب، وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر لشرفهم وكرامتهم على الله.(6/33)
وآتى الله داود زبورا، والزبور: هو الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام. وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. وكان داود عليه السلام حسن الصوت فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجنّ والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده، وكان يصنع الدروع «1» .
وأرسلناك يا محمد كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء، منهم من قصصنا عليك قبل تنزيل هذه السورة، ذكروا في السور المكية، كما قال تعالى في سورة الأنعام عن إبراهيم: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [6/ 84- 86] .
ومجموع الأنبياء الذين نص القرآن على أسمائهم خمسة وعشرون، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأجمع السور لقصص الأنبياء: هود والشعراء.
وهناك رسل آخرون لم نقصصهم عليك، لم يذكروا في القرآن لأن أممهم مجهولة، وفي ذكر غيرهم فائدة أجدى، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقال تعالى أيضا:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] .
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 17(6/34)
والقصد من إيراد قصص الأنبياء العظة والتثبيت والذكرى كما قال تعالى:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى..
[يوسف 12/ 111] وقال سبحانه أيضا: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود 11/ 120] .
والمشهور في عدد الأنبياء والمرسلين
حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره، حيث قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلثمائة وثلاثة عشر، جمّ غفير» قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم» قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: نعم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلا» ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وأخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من بني إسرائيل: موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين: آدم وآخرهم نبيك» ورواه أيضا أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه (الأنواع والتقاسيم) وقد وسمه بالصحة «1» .
ثم ذكر الله تعالى مزية لموسى عليه السلام وهي أنه كليم الله خصه الله بهذه المزية لأن قومه هم المقصودون بالحديث: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً أي تكليما صحيحا حقيقيا بلا واسطة، والتكليم للأنبياء يسمى وحيا، كما قال تعالى:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى 42/ 51] والحكمة في الحجاب:
توجيه الاهتمام والانتباه إلى شيء واحد، والرسول الذي يوحي بإذن الله ما يشاء:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 585 وما بعدها.(6/35)
هو جبريل ملك الوحي، المعبر عنه بالروح الأمين. وليس لنا أن نبحث عن كيفية الحديث وهل كان مشافهة أو لا؟ فالله أعلم بذلك.
ثم ذكر تعالى الحكمة من إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس، وتبيان طريق الهداية الأسلم إذ لو لم يرسلوا لاحتج البشر بجهلهم ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه 20/ 134] وقال عز وجل: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] فكان إرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يبقى لمعتذر عذر.
ومهمة الرسل: أنهم يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب.
وكان الله عزيزا لا يغلبه أحد، حكيما في صنعه وجميع أفعاله، فلا يبقى لأحد اعتراض.
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين» وفي لفظ آخر: «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه» .
ولما تضمنت الآية المتقدمة: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إثبات نبوته صلّى الله عليه وسلّم، والرد على من أنكر ذلك من المشركين وأهل الكتاب، قال الله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ فهو استدراك لما علم من السياق من إنكار اليهود والمشركين وغيرهم نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعدم شهادتهم برسالته، ومضمونه أن الله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم، الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ(6/36)
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
[فصلت 41/ 42] وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك.
ثم أكد تعالى شهادته بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به، كما قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة 2/ 255] .
والملائكة يشهدون بذلك أيضا، أي بصدق ما جاءك وأوحي إليك، وأنزل عليك، مع شهادة الله تعالى بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما شهد به لك، حيث أقام الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق وأوقع: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن الوحي جنس واحد، فمن آمن بالنبوات أو آمن بنبي، وجب عليه الإيمان بباقي الأنبياء.
وأول الأنبياء الذي أتى بتشريع هو نوح، وقيل: إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض، ثم انقطعت الرسل، حتى بعث الله نوحا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم، ثم إسحاق بن إبراهيم، ثم لوط ابن أخي إبراهيم، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق، ثم يوسف بن يعقوب، ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب، ثم الخضر وهو خضرون، ثم(6/37)
داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذو الكفل، واسمه: عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب، ثم موسى ثم عيسى، ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليهم صلوات الله وسلامه.
وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف وسبعمائة سنة، وليسا من سبط واحد.
وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلّى الله عليه وسلّم وشرفه، حيث قدمه في الذكر بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ على بقية الأنبياء.
والكتب المنزلة على الأنبياء أربعة هي: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وقرآن محمد عليهم السلام. وموسى هو كليم الله.
والأنبياء آلاف كثيرة والرسل مئات كما سبق، منهم من ذكر اسمه وقصته في القرآن وهم خمسة وعشرون نبيا، ومنهم من لم يذكر.
ومهمة الرسل التبشير والإنذار، والحكمة من إرسالهم هداية الناس إلى الحق والخير والصراط المستقيم.
والله تعالى وملائكته شهدوا بصدق رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، والله يعلم أنه أهل لإنزال القرآن عليه، ودلت الآية: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ على أنه تعالى عالم بكل علم، وكفى الله شاهدا.(6/38)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
ضلال الكافرين وجزاؤهم ودعوة الناس إلى الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها منصوب على الحال، والعامل فيها: يهديهم، ومعناه: ما يهديهم إلا طريق جهنم في حال خلودهم. بِالْحَقِّ أي مصحوبا بالحق وهو القرآن، وقيل: الباء للتعدية، أي جاءكم ومعه الحق فهو في موضع الحال.
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. خيرا: إما منصوب بفعل مقدر دل عليه فَآمِنُوا فهو يدل على إخراجهم من أمر وإدخالهم فيما هو خير لهم، فكأنه قال: ائتوا خيرا لكم. وكذلك قوله تعالى فيما بعد: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أو منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف وتقديره: فآمنوا إيمانا خيرا لكم أو منصوب لأنه خبر (يكن) المقدرة، وتقديره: فآمنوا يكن خيرا لكم.
المفردات اللغوية:
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوهم من دين الإسلام بكتمهم نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم اليهود قَدْ ضَلُّوا لم يهتدوا إلى الحق كَفَرُوا بالله وَظَلَمُوا نبيه بكتمان نعته إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أي الطريق المؤدي إليها يَسِيراً هينا يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلّم خَيْراً لَكُمْ أي آمنوا به واقصدوا خيرا لكم مما أنتم فيه فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، فلا يضره كفركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في صنعه بهم.(6/39)
المناسبة:
أثبت الحق تعالى في الآيات السابقة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بشهادته له بما أنزل عليه، ثم أنذر في هذه الآيات من يكفر به، وقد ذكر فيها صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، وهي أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن، وصدوا غيرهم عن سبيل الله.
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام واتباع النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به، بإلقاء الشبهات في قلوبهم، نحو قولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء، كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود.. هؤلاء وهم اليهود قد ضلوا ضلالا بعيدا أي خرجوا عن الحق والصواب وبعدوا عنه بعدا عظيما شاسعا.
ثم أعلن الله تعالى حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، وهو أنه لا يغفر لهم، ولا يهديهم طريقا إلى الخير، ولا يوفقهم بعدئذ إلى صواب، وليس من شأنه أن يوصلهم إلا إلى الجزاء على أعمالهم وهو طريق جهنم. وقوله: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ استثناء منقطع، فهي طريق الكافرين الظالمين.
ومصيرهم في جهنم هو الخلود فيها، أي البقاء فيها على حال واحدة لا تغيير فيها ولا فناء، وهو خلود أبدي، والأبد: الزمن الممتد، والله أعلم باستمراره بما يتناسب مع أعمالهم، وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره لأنه القادر على كل شيء، الواحد القهار، يفعل بما تقتضيه الحكمة والعدل. وفي هذا تحقير لشأنهم.(6/40)
وبعد أن أجاب تعالى عن شبهة اليهود، وفنّد حجتهم، وبيّن فساد طريقتهم، خاطب جميع الناس خطابا يأمرهم فيه الانصياع لدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والإيمان برسالته.
فهذا الرسول قد جاءكم بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه، يكن الإيمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس والأرجاس، ويرشدكم لما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، والحق الذي أتى به من ربه: هو القرآن المعجز، والدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره.
ثم هدد الحق تعالى وأنذر أنه إن تكفروا فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم وقادر على عقابكم، ولا يتضرر بكفرانكم، فإن له جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، أي جميع ما في الكون مملوك لله، وهو الذي خلقهم، وكلهم عبيد له خاضعون لحكمه، كما قال تعالى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] وقال هاهنا: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه ولا يخفى عليه شيء من أعمال عباده حَكِيماً في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ولا يضيع عمل عامل منهم، ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن، لقوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- اليهود وغيرهم ممن كفر بالإسلام بعيدون عن الحق والصواب جدا لأنهم كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن، ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.(6/41)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
2- عقاب الكافرين الظالمين: الخلود في نار جهنم، وعدم المغفرة لهم، وإبعادهم عن طريق الهداية الربانية بظلمهم وبكفرهم وعنادهم، فهم ظلموا محمدا بكتمان نعته، وظلموا أنفسهم إذ كفروا، وظلموا الناس إذ كتموهم ومنعوهم عن دين الإسلام. وقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ هو فيمن يموت على كفره ولم يتب.
3- دعوة الإسلام هي دعوة الحق من الله، فهي الدين الحق المشتملة على شهادة أن لا إله إلا الله، المؤيدة بالقرآن المعجز، الداعية إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإعراض عما سواه، والعقل يدل على أن هذا هو الحق، مما يدل على أن محمدا جاء بالحق من ربه.
المسيح عيسى ابن مريم في القرآن
[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)(6/42)
الإعراب:
وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ: ثلاثة: خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة.
سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ أن المصدرية وصلتها: في موضع نصب لحذف حرف الجر وتقديره:
سبحانه عن أن يكون له والد، ومن أن يكون له ولد. وكذلك قوله تعالى: نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: من أن يكون عبدا لله.
البلاغة:
يا أَهْلَ الْكِتابِ أطلق العام وأريد به الخاص وهم النصارى بدليل قوله بعده: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وهو قول النصارى.
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ فيه قصر موصوف على صفة.
وَرُوحٌ مِنْهُ: نْ
: كما تأتي للتبعيض تأتي لابتداء الغاية، كما هنا، مثل قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية 45/ 13] .
المفردات اللغوية:
يا أَهْلَ الْكِتابِ أي الإنجيل والمراد بهم هنا النصارى لا تَغْلُوا لا تتجاوزوا الحد بالتفريط أو الإفراط إِلَّا الْحَقَّ أي إلا القول الحق من تنزيهه عن الشريك والولد وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ المراد أنه حدث بكلمة لكِنْ التكوينية، لا بمادة أخرى كغيره من الناس، وأوصلها الله إلى مريم. وَرُوحٌ مِنْهُ أي ذو روح من الله تعالى أي وجد بنفخ من روح الله وهو جبريل، وأضيف إليه تعالى تشريفا له، وليس كما زعمتم: ابن الله، أو إلها معه، أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه. وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ أي ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه انْتَهُوا عن ذلك خَيْراً وأتوا خيرا لكم منه وهو التوحيد سُبْحانَهُ تنزيها له عن الولد. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا، والملكية تنافي البنوة. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا شهيدا على ذلك.
ْ يَسْتَنْكِفَ
يتكبر ويأنف يَسْتَكْبِرْ
يجعل نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت(6/43)
ولا خطر على قلب بشر عَذاباً أَلِيماً مؤلما هو عذاب النار مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره وَلِيًّا يدفعه عنهم وَلا نَصِيراً يمنعهم منه.
المناسبة:
لما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الطريق الأقوم، أردف ذلك بمحاجة النصارى، وألزمهم الرأي الحق في عيسى ابن مريم.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، فإن النصارى تجاوزوا الحد في عيسى حتى ألّهوه، فنقلوه من منزلة النبوة إلى اتخاذه إلها من دون الله، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا. وكذلك اليهود غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به. والمطلوب هو التوسط بين الأمرين، فلا إفراط بتعظيم عيسى وتقديسه، ولا تفريط بتحقيره.
يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا حدود الله بالزيادة أو النقص في الدين، ولا تعتقدوا إلا بالحق الثابت بنص ديني متواتر أو برهان عقلي قاطع، وإياكم ما زعمتم من دعوى الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، ولا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه، وتحتقروه وتهينوه، كما فعلت اليهود، ولا تتغالوا في تعظيم عيسى وتقديسه، حتى تجعلوه إلها أو ابن الله، كما زعمت النصارى.
إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة القديسة، رسول الله إلى بني إسرائيل، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والتثليث، وحثهم على التقوى، وزهّدهم في الدنيا، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين، كما حكى القرآن عنه: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 61/ 6] .(6/44)
وهو مكون بكلمة لكِنْ التكوينية من غير أب: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 47] . فكما أن الله قادر على أن يخلق بشرا من غير أب ولا أم وهو آدم عليه السلام، أو من غير أم وإنما من أب فقط وهو حواء، أو بسبب ظاهر معتاد من أب وأم، قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب وهو عيسى عليه السلام: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] وأخبر الله تعالى عن بشرية عيسى وعبوديته لله تعالى فقال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف 43/ 59] والمادة أو الطبيعة بنفسها مخلوقة عاجزة عن خلق غيرها، فإن الأصل الأول للأشياء المخلوقة كلها هو الله تعالى.
وهو مؤيد أيضا بروح كائنة من الله تعالى، لا جزءا ولا بعضا منه، كما فهم المسيحيون، وإلا لكان كل بشر مخلوق بنفخ الروح من الله من طريق الملك بعضا من الله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي من الله [الجاثية 45/ 13] . وتأييده بالروح الأمين ثابت بقوله تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة 2/ 87، 253] ووصف الله المؤمنين أيضا بتأييدهم بروح من الله فقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة 58/ 22] .
قال مجاهد: رُوحٌ مِنْهُ أي ورسول منه، أي أنه مخلوق من روح مخلوقة. وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف 7/ 73] وفي قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج 22/ 26]
وكما روي في الحديث الصحيح: «فأدخل على ربي في داره»
أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد، ونمط واحد.
وإذا كان الخلق الحقيقي لله تعالى لعيسى وغيره، فآمنوا بالله الواحد الأحد، وصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن(6/45)
عيسى عبد الله ورسوله، وآمنوا إيمانا لائقا بكل الرسل دون تفرقة وهو أنهم عبيد الله لهم مهام فوضهم الله بها، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الأب والابن والروح القدس، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد، ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ففي هذا ترك للتوحيد الخالص الذي جاءت به المسيحية في أصلها الصحيح، وهو المبدأ الذي دعا إليه عيسى ومن قبله إبراهيم وسائر الأنبياء، ولا يعقل الجمع بين التثليث والتوحيد، فهو تناقض ترفضه بداءة العقول، لذا ندد الله تعالى بالقائلين بالتثليث فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [المائدة 5/ 73] وقال في آخر المائدة: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [5/ 116] وقال في أول المائدة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [7/ 17] .
انْتَهُوا أيها النصارى عن القول بالتثليث، وقولوا قولا آخر يكن خيرا لكم منه وهو التوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى.
إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ بالذات، منزه عن التعدد، ليس له أجزاء أو أقانيم، ولا هو مركب من أجزاء، سبحانه، أي أنه منزه عن أن يكون له ولد أو شريك، كما قلتم في المسيح: إنه ابنه أو هو عينه، فإن أردتم الابن الحقيقي فهذا محال على الله تعالى لأنه يقتضي كونه أبا أو زوجا، وإن أردتم الابن المجازي فلا يختص ذلك بعيسى.
ليس لله ولد حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض، أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، والمسيح من جملة مخلوقاته، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد لأن الملكية تنافي البنوة، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا(6/46)
آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً
[مريم 19/ 93] وقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام 6/ 101] .
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيدا على ذلك، وقال الرازي: والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات، وفي حفظ المحدثات، فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر «1» .
ْ يَسْتَنْكِفَ
، أي لن يتكبر أو يأنف المسيح عن عبادة الله وحده، أو عن أن يكون عبدا لله، لعلمه بعظمة الله وما يستحقه من العبودية والشكر، وكذلك الملائكة المقربون لن يترفعوا عن أن يكون أحدهم عبدا لله.
ومن يستنكف أو يترفع عن عبادته تعالى وحده، ويدعي الإشراك أو التثليث، فسيحشرهم إليه جميعا للجزاء، ويجازيهم ويحاسبهم على أعمالهم، أي فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا حيف.
فأما المؤمنون بالله الذين يعملون الأعمال الصالحة، فيعطيهم أجورهم وثواب أعمالهم كاملة غير منقوصة، أي يعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه.
وأما الذين استنكفوا وتكبروا أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته فيعذبهم عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة حسبما يستحقون، ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا مناصرا ينصرهم من بأس الله ويرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] أي صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 117(6/47)
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيات دلالات على أحكام جوهرية في العقيدة هي:
1- التغالي في الأمور ممنوع شرعا، فقد تغالى اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وتغالى النصارى فيه حتى جعلوه ربا، وأول عبارة في الإنجيل هي:
«هذا كتاب إلهنا وربنا يسوع المسيح» فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذا
ورد في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني «1» كما أطرت النصارى عيسى، وقولوا: عبد الله ورسوله» .
2- قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فيه إشارة إلى ثلاثة أحكام:
الأول- قوله: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ دل على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا.
الثاني- لم يذكر الله عزّ وجلّ امرأة وسمّاها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران، فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة: هي ترسيخ صفة العبودية لها، ومجاراة عادة العرب في ذكر الإماء بأسمائهن، أما الحرائر فكانوا يصونون أسماءهنّ عن الذكر والتصريح بها، لئلا تبتذل أسماؤهنّ.
الثالث- اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود وقذفهم لها بالزنى.
3- كان لعيسى أربعة أسماء: المسيح، وعيسى، وكلمة، وروح. والمراد بالكلمة: أنه وجد بكلمة لكِنْ التكوينية، فكان بشرا من غير أب. والمراد
__________
(1) الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.(6/48)
بقوله وَرُوحٌ مِنْهُ: أنه وجد بنفخة جبريل عليه السّلام، ويسمى النفخ في كلام العرب روحا فإن الروح والريح متقاربان، والنفخ ريح يخرج من الروح. والمراد من قوله مِنْهُ التشريف والتفضيل، لا أنه جزء أو بعض من الله، فكلّ الخلائق من روح الله، كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة. ويقال: هذا روح من الله أي من خلقه.
وقد وقع النصارى في الخطأ والضلال حينما قالوا: عيسى جزء من الله لأنه روح من الله.
4- الإيمان بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسلة، وبأن الرّسل ومنهم عيسى عبيد لله: هو الواجب الذي لا محيد عنه، وهو الحق الذي تقبله العقول الرشيدة، فلا يصح جعل عيسى إلها.
5- يحرم القول بتعدد الآلهة أو بأن الآلهة ثلاثة، قال ابن عباس: يريد بالتثليث: الله تعالى وصاحبته وابنه. والنصارى مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد، وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كلّ أقنوم إلها، ويعنون بالأقانيم: الوجود والحياة والعلم. والسائد أنهم يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن:
المسيح. ومحصول كلامهم كما تقدّم يؤول إلى القول بأن عيسى إله، بسبب ما كان يظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات، وذلك خارج عن مقدور البشر، فيكون المقتدر عليها متصفا بالألوهية.
وليس أدلّ على إسقاط صفة الألوهية عنه: أنه لو كان إلها لخلص نفسه من أعدائه، ودفع شرّهم، ولم يمكّنهم من صلبه، كما يزعمون.
6- الانتهاء عن القول بالتثليث هو الخير المحض، وهو الصواب لأن الله إله واحد، منزّه عن أن يكون له ولد، بل له ما في السموات وما في الأرض، والملكية(6/49)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
تنافي البنوة، فلا شريك له، وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق.
7- لن يترفع المسيح ولن يأنف ولن يحتشم من أن يكون عبدا لله، وكذلك الملائكة المقرّبون من رحمة الله ورضاه لن يترفعوا عن عبوديتهم لله.
ومن يأنف عن عبادة الله ويستكبر فلا يلتزم بفعل العبادة أو الطاعة، فإن الله سيجمع الخلائق إلى المحشر، ويجازي كلّا بما يستحق.
فالمؤمنون العاملون الصالحات لهم ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص، ويزيدهم الله من فضله ورحمته وإحسانه. والمستنكفون المتكبرون يعذبون عذابا مؤلما، دون أن يجدوا لهم وليّا يلي أمورهم، أو نصيرا ينصرهم.
8- استدلّ بعضهم بقوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
على تفضيل الملائكة على البشر، وأنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا. وردّ عليهم بأن الآية في معرض تفضيل الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة، فهم أقدر على الامتناع من عبادة الله من المسيح، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل.
دعوة الناس إلى الإيمان بالنور المبين (القرآن)
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)(6/50)
الإعراب:
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً: صراطا: إما منصوب بتقدير فعل، وتقديره: يعرفهم صراطا، ودل يَهْدِيهِمْ على المحذوف أو منصوب على أنه مفعول ثان ليهدي، وتقديره:
ويهديهم صراطا مستقيما إلى ثوابه.
المفردات اللغوية:
بُرْهانٌ حجة من ربكم عليكم، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم نُوراً مُبِيناً وهو القرآن صِراطاً طريقا مُسْتَقِيماً سويا وهو دين الإسلام.
المناسبة:
أقامت الآيات السابقة الحجة على المنافقين والمشركين واليهود والنصارى، وأثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكان ذلك مقدمة لهاتين الآيتين اللتين وجهت فيهما الدعوة إلى الناس كافة لاتباع دعوة الإسلام.
التفسير والبيان:
يا أيها الناس، قد جاءكم برهان ساطع ودليل قاطع من ربكم، يبين لكم حقيقة الإيمان بالله وأنظمة المجتمع الصالحة لحياة أفضل، وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، النبي العربي الأمي الأمين، الذي نشأ بينكم في الجاهلية، ولكنه لم يتلوث بمفاسدها وأدرانها، وإنما تعهده ربه بالتربية والعناية والإعداد لحمل الرسالة، فكان المثل الأعلى في سلوكه وخلقه وسيرته وقيادته، وكان برهانا عمليا عظيما على صدق رسالته: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] .
وأنزلنا إليكم مع هذا البرهان نورا مبينا أي ضياء واضحا على الحق، وهو القرآن الكريم الذي جاء لتصحيح العقيدة والنظام، فقرر التوحيد الخالص، وحارب الوثنية والشرك، وأبان زيف اليهودية والنصرانية المحرفة الحالية،(6/51)
وأرسى معالم الهداية وأوضح طريق العبادة الصحيحة لله تعالى، ووضع أسس الأخلاق وأنظمة الحياة الرشيدة في السياسة والحرب والسلم والاقتصاد والاجتماع وعلوم الكون، فكان ذلك أيضا بالإضافة إلى السيرة الذاتية للنبي برهانا على كون هذا الدين هو دين الحق الذي لا معدل عنه ولا مثيل له.
وترتب عليه أن الذين آمنوا بالله، وتمسكوا واعتصموا بالقرآن أو الإسلام، واتبعوا نوره، فيدخلهم الله في رحمته، ويعمهم بفضله في الدنيا والآخرة، أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ورفعا بالقرآن، قال ابن عباس: الرحمة:
الجنة، والفضل: ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر «1» .
ويهديهم طريقا قويما يوصلهم إلى إحراز السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة واتباع طريق السلامة في الاعتقاد والعمل، وفي الآخرة بالجنة والرضوان، أي يوفقهم إلى ذلك، ولا توفيق ولا هداية خاصة بغير الاعتصام بالقرآن المجيد واتباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعا: «القرآن: صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين» .
فقه الحياة أو الأحكام:
البرهان العظيم من الله لعباده هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسمي برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة أو الحجة، فإن المعجزات حجته صلّى الله عليه وسلّم.
والنور المبين: هو القرآن الكريم، وسمي نورا لأن به تتبين الأحكام، ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين أي واضح بيّن.
فمن آمن بالله واعتصم بالقرآن عن معاصيه، والعصمة: الامتناع، فاز بالجنة
__________
(1) التفسير الكبير للرازي: 11/ 120(6/52)
والرضوان، وحظي بالفضل الإلهي العظيم في الدنيا والآخرة.
ودل قوله تعالى: وَفَضْلٍ على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه من غير مقابل إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا.
قال الرازي: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية، وهذا هو السعادة الروحانية. وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية «1» .
والهداية في القرآن نوعان: هداية عامة وهداية خاصة.
أما الهداية العامة: فهي كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:
90/ 10] أي طريقي السعادة والشقاوة، والخير والشر، وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة، وهداية العقل، وهداية الدين.
وأما الهداية الخاصة: فهي مثل: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 90] ومثل اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] . هذه الهداية ليست الدلالة العامة كما سبق، وإنما هي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة. ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 120(6/53)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
ميراث الكلالة أو ميراث الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الإعراب:
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ محله الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ: إنما قال: اثْنَتَيْنِ ولم يقتصر على قوله: كانَتَا لأنها تفيد التثنية العددية لوجهين:
أحدهما- أنه لو اقتصر على قوله: كانتا ولم يقل اثنتين لاحتمل أن يريد بهما الصغيرتين أو الكبيرتين، فلما قال: اثنتين أفاد العدد مجردا عن الصغر والكبر، فكأنه قال: فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين، فقام اثْنَتَيْنِ مقام هذين الوصفين.
والثاني- أن يكون محمولا على المعنى، وتقديره: فإن كان ممّن يرث اثنتين، فبنى الضمير على معنى (من) وهذا قول الأخفش، والوجه الأول أوجه.
أَنْ تَضِلُّوا تقديره: كراهة أن تضلوا، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو مفعول لأجله. وقيل: تقديره: لئلا تضلوا، فحذف (اللام ولا) من الكلام لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى. والوجه الأول أوجه.
المفردات اللغوية:
الْكَلالَةِ: من لا والد له ولا ولد، والآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة هَلَكَ: مات أَنْ تَضِلُّوا ألا تضلوا.(6/54)
سبب النزول:
روى النسائي عن جابر قال: اشتكيت، فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلت:
بالشطر؟ قال: أحسن، ثم خرج، ثم دخل علي، قال: لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله أنزل وبيّن ما لأخواتك وهو الثلثان، فكان جابر يقول:
نزلت هذه الآية فيّ: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
قال الحافظ ابن حجر: هذه قصة أخرى لجابر غير التي تقدمت في أول السورة، أي في الآية (11) .
وفي رواية: اشتكيت فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي سبع أخوات.
وأخرج ابن مردويه عن عمر أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كيف يورث الكلالة؟
فأنزل الله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
وروى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث، يريد هذه الآية» .
وروى الشيخان عن البراء: أنها آخر آية نزلت، أي من الفرائض.
قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين: إحداهما- في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها. والآية الأولى تسمى آية الشتاء، والآية الثانية تسمى آية الصيف.(6/55)
المناسبة:
قال الرازي: اعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال، وختم آخرها بذلك، ليكون الآخر مشاكلا للأول، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين «1» .
التفسير والبيان:
أجمع العلماء على أن هذه الآية في ميراث الإخوة من الأب والأم (الأشقاء) أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة وهي: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [12] .
روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال في خطبة له: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض، فأولها- في الولد والوالد، وثانيها- في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام «2» .
يطلب منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة، كجابر بن عبد الله، ليس له والد ولا ولد، وله أخوات من العصبة، لم يفرض لهم شيء من التركة قبل، وإنما فرض للإخوة لأم: السدس للواحد، والثلث لاثنين فأكثر.
والكلالة: مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه. وهي اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث: فهو من سوى الوالد
__________
(1) التفسير الكبير: 11/ 120
(2) المرجع السابق: 11/ 121 [.....](6/56)
والولد، قال أبو بكر: الكلالة: ما عدا الوالد والولد. وإن وقع على المورث:
فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد.
إن هلك امرؤ غير ذي ولد، وله أخت شقيقة أو لأب، فلها نصف التركة.
وقد أشكل حكم الكلالة على عمر فقال فيما ثبت في الصحيحين: «ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وباب من أبواب الربا» أي ما أنزل أواخر سورة البقرة من آيات الربا. وأخرج ابن ماجه في سننه بلفظ: «الكلالة والربا والخلافة» .
والمراد بالولد هنا: ما يشمل الذكر والأنثى لأن الكلام في الكلالة: وهو من ليس له ولد أصلا، لا ذكر ولا أنثى، وليس له والد أيضا. واقتصر على ذكر الولد لظهور الأمر.
والمقصود بالأخت هنا: الأخت الشقيقة أو لأب، أما الأخت لأم فقد بين الله حكمها في أول السورة بالإجماع كما تقدم.
وتستحق الأخت النصف إن كان للميت بنت، فإن كان له ابن فلا شيء لها، أما ظاهر الآية وهو أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد (ذكرا أو أنثى) فليس مرادا. ويشترط أيضا لاستحقاقها النصف ألا يكون للميت والد، وظاهر الآية أنها تستحق النصف إذا لم يكن للميت ولد غير مراد أيضا لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع «1» .
ثم قال تعالى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يعني أن الأخ يرث تركة أخته جميعها بالتعصيب إذا لم يكن للأخت ولد ولا والد يحجبه عن الإرث.
والمقصود بالأخ هنا: الأخ الشقيق أو لأب، أما الأخ لأم فلا يستغرق الميراث، وإنما فرضه السدس.
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 121(6/57)
فإن كان الوارث أختين فأكثر، والمراد بالأخت: الشقيقة أو لأب، وليس المراد بها الأخت لأم، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الكلالة. والاثنتان فأكثر سواء لأن أخوات جابر كن سبعا.
وإن كان من يرث إخوة ذكورا وإناثا، فللذكر مثل حظ الأنثيين. أما الإخوة لأم فهم شركاء في الثلث.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أمور دينكم وجميع الأحكام من حلال وحرام كراهة أن تضلوا، أو عند الكوفيين لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان في قسمة التركات وغيرها، وعلى التأويل الأول حذف المضاف عند البصريين وهو: كراهة أَنْ تَضِلُّوا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] والتأويل الثاني
كحديث ابن عمر الثابت: «لا يدعونّ أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة» «1»
والمعنى: لئلا يوافق من الله إجابة.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي أن ما شرعه لكم من الأحكام فيه الخير والمصلحة لكم، وهو صادر عن علم واسع لله، فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة أربع حالات:
الأولى- أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة: فلها النصف فرضا، والباقي للعصبة إن كانوا، وإلا فيعود الباقي لها بالرد. وكذلك ترث الأخت من أختها النصف.
الثانية- العكس وهو أن تموت امرأة ويرثها أخ واحد، فله جميع التركة.
وكذلك يرث الأخ جميع تركة أخيه.
__________
(1) ورواه أيضا أبو داود عن جابر بن عبد الله.(6/58)
الثالثة- أن يكون الوارث للأخ أو الأخت أختان فأكثر، فلهما الثلثان، وقد أجمع العلماء على أن الأكثر من أختين كالأختين لأن الأكثر من بنتين لا يزدن عن الثلثين، فبالأولى لا يزيد الأكثر من أختين عن الثلثين، كما تقدم.
الرابعة- أن يكون ورثة الأخ أو الأخت عددا من الإخوة والأخوات، فللذكر مثل حظ الأنثيين. لكن إن اجتمع إخوة أشقاء وإخوة لأب، قدم الأشقاء لأن الإخوة لأب يحجبون بالإخوة الأشقاء.
أما إذا كان إخوة الميت الكلالة عددا من الإخوة الذكور فإنهم يرثون جميع التركة.
وجمهور الصحابة والتابعين غير ابن عباس وداود الظاهري يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، وإن لم يكن معهن أخ. أما ابن عباس وداود فلا يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، لظاهر قول الله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولم يورثوا الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها.(6/59)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
مدنية وهي مائة وعشرون آية، وهي السورة الخامسة من القرآن الكريم.
تسميتها:
تسمى هذه السورة سورة المائدة لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء بعد أن طلبها الحواريون من عيسى عليه السلام، لتدل على صدق نبوته، وتكون لهم عيدا. وتسمى أيضا سورة العقود، وسورة المنقذة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب» .
تاريخ نزولها:
هي سورة مدنية نزلت بعد الهجرة ولو في مكة بعد الانصراف من الحديبية، وثبت في الصحيحين عن عمر: «أن قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع» .
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس، إن سورة المائدة آخر ما نزل، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها»
وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: «آخر سورة نزلت:
المائدة والفتح» وروى أحمد والنسائي والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه» .(6/60)
مناسبتها لما قبلها:
هناك أوجه تشابه بينها وبين سورة النساء، لاشتمال كل منهما على عدة عهود وعقود وأحكام ومناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، ففي سورة النساء الكلام على عقود الزواج والأمان والحلف والمعاهدة، والوصايا والودائع والوكالات والإجارات، وابتدأت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود. ومهدت سورة النساء لتحريم الخمر، وحرمتها سورة المائدة بنحو قاطع، وتضمنت السورتان مناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في عقائدهم ومواقفهم من الرسالة المحمدية.
ما اشتملت عليه:
اشتملت سورة المائدة على أحكام تشريعية وثلاث قصص. أما الأحكام:
فهي بيان أحكام العقود ونكاح الكتابيات والوصية عند الموت، والمطعومات من ذبائح وصيود، وصيد الإحرام وجزائه، والطهارة من وضوء وغسل وتيمم، وتحريم الخمر والميسر وجزاء الردة، وحد السرقة وحد الحرابة (قطع الطريق) وكفارة اليمين، وشريعة الجاهلية بتحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وحكم تارك العمل بما أنزل الله، ونحو ذلك في أثناء مناقشة ومجادلة النصارى واليهود والمشركين والمنافقين.
قال العلماء: فيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها وهي: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ، وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وتمام الطهور: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ وما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية.(6/61)
وذكر القرطبي فريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات.
وفي الجملة انفردت سورة المائدة ببيان أصول مهمة في الإسلام هي:
1- إكمال الدين، وأن دين الله واحد، وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم.
2- بيان عموم بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره بالتبليغ العام، وانحصار مهمته بالتبليغ فقط.
3- أوجب الله على المؤمنين إصلاح نفوسهم، وأنه لا يضرهم إن استقاموا ضلال غيرهم، وطريق الإصلاح الوفاء بالعقود، وتحريم الاعتداء على الآخرين، والتعاون على البر والتقوى وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة الكفار، ووجوب الشهادة بالعدل، والحكم بالقسط والمساواة بين المسلمين وغيرهم.
4- بيان أحكام المطعومات، وتحريم الخمر والميسر (القمار) والأنصاب والأزلام.
5- تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع في ذلك اليوم الصدق.
وأما القصص الثلاث الواردة للعبرة والعظة فهي: الأولى- قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام إذ قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. والثانية- قصة ابني آدم، حيث قتل قابيل هابيل، وهي أول جريمة في الأرض. والثالثة- قصة المائدة التي كانت معجزة خارقة لعيسى عليه السلام أمام صحبه الحواريين.(6/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:
أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها.
الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
الإعراب:
إِلَّا ما يُتْلى.. ما: إما منصوب على الاستثناء من بَهِيمَةُ أو مرفوع على أنه صفة بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ كما تقول: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير ما يتلى، فإذا أقيمت إلا وما بعدها مقام غَيْرَ رفعت ما بعد إلا. والوجه الأول أوجه. غَيْرَ مُحِلِّي غير: منصوب على الحال إما من الكاف واللام في لَكُمْ والعامل فيه: أحلت وإما من ضمير أَوْفُوا والعامل فيه:
أَوْفُوا.(6/63)
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير الفاعل في مُحِلِّي.
وَلَا الْقَلائِدَ: أي ذوات القلائد، وهي جمع قلادة: وهي ما قلّد البعير من لحاء الشجر وغيره يَبْتَغُونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير: آمِّينَ أي لا يحلّوا من قصد البيت الحرام مبتغين فضلا من ربهم. ولا يجوز أن يكون صفة لآمّين لأنه قد نصب البيت، واسم الفاعل إذا وصف لم يعمل لأنه يخرج بالوصف عن شبه الفعل، والفعل لا يوصف.
أَنْ صَدُّوكُمْ أن مصدرية في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن، فحذف اللام فاتصل الفعل به. وأَنْ تَعْتَدُوا منصوب بيجرمنكم.
البلاغة:
شَعائِرَ اللَّهِ: استعارة، استعار الشعيرة وهي العلامة للمتعبدات التي تعبد الله بها العباد من الحلال والحرام.
وَلَا الْقَلائِدَ أي ذوات القلائد، وهي عطف خاص على عام.
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فيه ما يسمى بالمقابلة في علم البديع.
المفردات اللغوية:
أَوْفُوا أتموا الشيء وافيا كاملا لا نقص فيه بِالْعُقُودِ أي العهود المؤكدة الموثقة التي بينكم وبين الله والناس، أي ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. فهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرّم وفرض، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والزواج وغير ذلك بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة: هي ما لا عقل لها، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر.
والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، وما يلحق بها من الجاموس والمعز والظباء. وأحلت لكم بهيمة الأنعام أكلا بعد الذبح إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه في آية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون بالحج أو العمرة. والحرم: جمع حرام.
شَعائِرَ جمع شعيرة، أي معالم دينه وخصت بمناسك الحج، وقوله لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي بالصيد في الإحرام الشَّهْرَ الْحَرامَ أي بالقتال فيه وَلَا الْهَدْيَ ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، بذبحه فيه للفقراء، وهو من النسك. الْقَلائِدَ جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق، والقلادة: هي ما كان يقلد به من شجر الحرم ليأمن، أي فلا تتعرضوا لها ولا لأصحابها. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام، بأن تقاتلوهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا رزقا أو(6/64)
ربحا من ربهم بالتجارة وَرِضْواناً منه بقصده، بزعمهم الفاسد أي يقصدون التوصل إلى رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا، وهذا منسوخ بآية براءة، قال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ.
وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام فَاصْطادُوا أمر إباحة لا أمر إيجاب وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنكم ولا يكسبنكم شَنَآنُ بغض قوم، لأجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم بالقتل وغيره.
الْبِرِّ هو كلمة جامعة للخير، تشمل كل ما أمر به الشرع واطمأن إليه القلب وَالتَّقْوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات الْإِثْمِ المعصية والذنب، وهو كل ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس الْعُدْوانِ التعدي في حدود الله وَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه.
سبب النزول:
نزول لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ:
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة، قال: قدم الحطم بن هند البكري المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه، ثم دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبايعه وأسلم، فلما ولى خارجا، نظر إليه، فقال لمن عنده: لقد دخل علي بوجه فاجر، وولى بقفا غادر، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له يحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار، ليقتعوه «1» في عيره، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الآية، فانتهى القوم، وأخرج عن السدي نحوه.
نزول قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ:
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: نصد هؤلاء، كما صدوا أصحابنا، فأنزل الله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ الآية.
__________
(1) ليقتعوه: أي ليقمعوه ويذلوه.(6/65)
التفسير والبيان:
نادى الله المؤمنين بوصف الإيمان ليحثهم على امتثال ما يكلفهم به، فإن شأن المؤمنين الانقياد لما يكلفون به من ربهم.
يا من اتصفتم بالإيمان ونبذتم كل ما يدعو إليه الشيطان أوفوا بالعقود أي العهود التي عقدتموها بينكم وبين الله أو بينكم وبين الناس، وهي التكاليف التي ألزمكم الله بها والتزمتموها، مما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض وأحكام الحلال والحرام. ومن هذه التكاليف: ما يعقده الناس بعضهم مع بعض من عقود المعاملات. وهذه العقود ستة هي: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون عند شروطهم» «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» «1» .
فيجب الوفاء بالعقود والعهود بحسب الشروط المتفق عليها إذا لم تصادم الشرع، فلا يجب الوفاء بالتعاقد على المحرمات، مثل حلف الجاهلية على الباطل، كحلفهم على التناصر والميراث، بأن يقول شخص لآخر إذا حالفه: دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك.
ثم فصّل الله تعالى عقوده على الناس في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه، ومهد للنهي عن بعض محرمات الإحرام ببيان نعمه التي تحملنا على الوفاء بالعقود، ومن أعظم النعم إحلال بهيمة الأنعام أكلا من طريق الذبح الشرعي، والأنعام: هي الإبل والبقر والضأن والمعز وأمثالها كالظباء وبقر الوحش. والبهيمة في الأصل: كل حي لا يميز، فهي تشمل الأنعام وغيرها، سواء أكانت من ذوات الأربع أم لا. ثم قيدها بالأنعام، والإضافة للبيان، أي بهيمة
__________
(1) الحديث الأول رواه الحاكم عن أنس وعائشة، والثاني رواه البزار والطبراني عن ابن عباس.
والثالث رواه أحمد ومسلم عن عائشة.(6/66)
هي الأنعام. فلا تشمل غير الأنعام، سواء أكانت من ذوات الحوافر كالخيل والبغال والحمير، أم من غيرها كالسباع من أسد ونمر وذئب ونحوها من كل ما له ناب، أو له مخلب من الطيور كالنسر والعقاب والغراب والصقر.
ولا بد من إضمار فعل يناسب الكلام لأن الإحلال لا يتعلق إلا بالأفعال، وهذا الفعل مأخوذ من الانتفاع، ويكون المراد من قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ:
أحل لكم الانتفاع ببهيمة الأنعام، وهو يشمل الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها، وذلك مثل تقدير فعل في قوله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النحل 16/ 5] أي لتنتفعوا بها في الدفء وغيره.
ثم استثنى الله تعالى من الأنعام محرمات عشر، فقال: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي يستثني من حل بهيمة الأنعام ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية، حالة كونكم غير محلي الصيد في الإحرام، فيحرم الصيد في أثناء الإحرام بالحج أو العمرة، وفي الحرم المكي والمدني ولو في غير حالة الإحرام.
والحرم: جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة. ودلت السنة على تحريم صيد الحرمين. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام ويعلم أنه حكمة ومصلحة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ... أي يا أيها المؤمنون، لا تحلوا شعائر الله، أي مناسك الحج، وإحلال الشعائر: استباحتها والتهاون بحرمتها والإخلال بأحكامها، والحيلولة بينها وبين المتنسكين بها، فلا تتعدوا حدود الله.
ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، فلا تقاتلوا المشركين فيها، ولا تبدلوها بغيرها كما كان العرب يفعلون في الجاهلية من عملية النسيء، أي تأخير حرمة شهر حرام إلى غيره، ولا تحدثوا في أشهر الحج ما تصدون به الناس عن الحج. وَلَا الْهَدْيَ أي ولا تعترضوا الهدي(6/67)
المهدي للحرم بالغصب أو الأخذ أو المنع من بلوغ محله حتى لا يصل إلى الكعبة.
وسمي الشهر حراما لتحريم القتال فيه. وقد نسخ هذا الحكم بآية براءة كما تقدم بيانه وهي قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [9/ 5] ، والهدي: ما يتقرب به المرء من النعم ليذبح في الحرم.
وَلَا الْقَلائِدَ من الأنعام، لا تنتهكوا أيضا حرمتها، والمراد بها ذوات القلائد وهي جمع قلادة: وهي ما قلد به الهدي مما يعلق في عنق البعير أو غيره من نعل أو عروة مزادة أو جلد أو قشر شجر أو غيره، ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له. وخصت بالبيان مع شمول الهدي لها تشريفا لها واعتناء وزيادة توصية بها لأنها أشرف الهدي.
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي ولا تعترضوا ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام، يطلبون من الله الفضل (الرزق والثواب) والرضوان (الرضا، أي أن يرضى عنهم) أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيما لهم، واستنكارا أن يتعرض لمثلهم لأن من دخل البيت الحرام كان آمنا، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه.
والمقصود من الحفاظ على حرمة الأمور المتقدمة أن يكون الناس في زمان الحج ومكانه في أمان واطمئنان، فلا يتعرض الحاج للخوف والقلق، حتى يأمن على نفسه وماله.
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، وأنتم في غير أرض الحرم، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد، فاصطادوا كما تشاؤون، ولا إثم عليكم في الصيد وأكله. وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبا رده واجبا، وإن كان مستحبا فمستحب، أو مباحا فمباح.(6/68)
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ.. أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد، وذلك عام الحديبية، على أن تتعدوا حكم الله، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد «1» .
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ: وهو كل خير أمر به الشرع أو نهى عنه من المنكرات، أو اطمأن إليه القلب، ولا تتعاونوا على الإثم وهو الذنب والمعصية:
وهي كل ما منعه الشرع، أو حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولا تتعاونوا على التعدي على حقوق الغير. والإثم والعدوان يشمل كل الجرائم التي يأثم فاعلها، ومجاوزة حدود الله بالاعتداء على القوم. واتقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصى وخالف. وإظهار اسم الجلالة هنا في موضع الإضمار لإدخال الروعة والخوف وتربية المهابة في القلوب.
وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل خير وشر ومعروف ومنكر مع رقابة الله في السر والعلن.
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان الآيتان تضمنت أصول الإسلام في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، وفيهما من الفصاحة وكثرة المعاني مع قلة الألفاظ ما لا يخفى على أحد.
والآية الأولى تضمنت خمسة أحكام:
1- الأمر بالوفاء بالعقود التي يتعاقد بها الناس، ووجوب الوفاء بالتكاليف
__________
(1) وورد تعبير مماثل في آية أخرى هي: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، والعدل: به قامت السموات والأرض، والعدل أقرب للتقوى.(6/69)
الإسلامية، فيلزم دفع أثمان المبيعات ومهور النساء ونفقاتهن، والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردها إلى أصحابها سالمة، وحفظ مال المستأمن ونفسه، وصون حرمة المعاهد وأسرته وماله.
وقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأثبت الشافعي وأحمد هذا الخيار للمتعاقدين ما داما في مجلس العقد، فلهما الإمضاء والفسخ، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ آخر للبخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» وهذا صريح في إثبات خيار المجلس عقب عقد البيع، ما دام المتعاقدان في المجلس، وليس هذا منافيا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.
أما النذر الواجب الوفاء به فهو نذر الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام ونحوها، وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع الأمة.
2- تحليل بهيمة الأنعام بالأكل من طريق الذبح الشرعي.
3- استثناء المحرمات الآتية بعد في الآية (3) ونحوها، وكذا الثابت في السنة مثل
نهيه عليه الصلاة والسلام عن «كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس.
4- استثناء حالة الإحرام فيما يصاد. ومثله صيد الحرمين.
5- إباحة الصيد لمن ليس بمحرم في غير الحرمين.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، فالله يحكم على وفق مشيئته وحسبما يرى من الحكمة(6/70)
والمصلحة: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يشرّع ما يشاء كما يشاء.
ودلت الآية الثانية على تحريم التعرض لمناسك الحج، وتجاوز حدود الله فيما شرع، فلا يجوز التعدي على معالم دينه.
وتلك المعالم هي شعائر الله أي البدن التي تهدى للحرم، وإشعارها: أن يجزّ شيء من سنامها حتى يسيل منه الدم، فيعلم أنها هدي. وقال عطاء:
شعائر الله: جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن البصري: دين الله كله، كقوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج 22/ 32] أي دين الله.
وقد أجاز الجمهور الإشعار، ويكون- في رأي الشافعي وأحمد وأبي ثور- في الجانب الأيمن لما
ثبت عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن.
وقال مالك: يكون في الجانب الأيسر. وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء.
ومنعه أبو حنيفة، وقال: إنه تعذيب للحيوان أي أنه مكروه كما صرح الحنفية، والحديث يؤوّل بأن الإشعار يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك.
وقال الصاحبان: ليس بمكروه ولا سنة، بل هو مباح.
ومن المعالم: حرمة الشهر الحرام وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، وهي «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» فلا تستحل للقتال ولا للغارة ولا تبدّل، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء. ثم نسخ تحريم القتال فيها بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ والمراد بها الأشهر التي حرم الله قتالهم فيها وضربها أجلا لهم يسيحون فيها في الأرض، ويفكرون في أمر الإسلام، وليس المراد بها أشهر الحج أو الأشهر الحرم بالمعنى السابق.(6/71)
ومن المعالم: الهدي والقلائد، فلا تحلوا النعم التي يتقرب بها إلى الله تعالى لتذبح في الحرم. وإحلالها: هو التعرض لها وسلبها أو الانتفاع بها في غير ما سيقت له من التقرب إليه تعالى. والهدي: ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة. وهو في رأي الجمهور عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. وأخذ العلماء من ذلك عدم جواز الأكل من الهدايا التي تقدم للذبح في الحرم، إلا هدي التطوع والقران والتمتع، فإنه يجوز الأكل منها لصاحبها وللأغنياء لأنه دم نسك يقدم شكرا لله تعالى على ما أنعم به من التوفيق للعبادة، فيجوز الأكل منه، ولأنه قد صح
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل من هدي القران والتمتع، وحسا من المرقة
، فيبقى غيرها على عدم الجواز لأنها دم مخالفات وعقوبات وكفارات، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها.
والقلائد: المراد بها الهدايا التي تقلد، وهي التي كانت للتطوع أو النذر أو القران أو التمتع. أما الهدايا التي تجب بسبب الجنايات فلا تقلد. وهي على حذف مضاف، أي لا تحلوا ذوات القلائد: وهي كل ما علّق على أسنمة الهدايا وأعناقها، علامة أنها لله سبحانه.
والتقليد أي وضع القلادة سنة إبراهيمية أقرها الإسلام، وهي عند الشافعي وأحمد سنة في البقر والغنم،
قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرة إلى البيت غنما فقلّدها «1» .
وأنكره مالك والحنفية، وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لتفرد الأسود به عن عائشة.
واتفقوا فيمن قلّد بدنة على نية الإحرام، وساقها: أنه يصير محرما، قال الله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلى أن قال: فَاصْطادُوا ولم يذكر الإحرام، لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم.(6/72)
فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه، لم يكن محرما، وهو مذهب الجمهور
لحديث البخاري عن عائشة قالت: «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديّ: ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي» .
وقال الحنفية: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وهو- فيما رواه البخاري- رأي ابن عباس.
ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلّد أو أشعر لأنه قد وجب. وإن مات موجبه لم يورث عنه ويذبح في الحرم، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول فإن أوجبها بالقول قبل الذبح، فقال:
«جعلت هذه الشاة أضحية» تعينت. وعليه إن تلفت ثم وجدها أن يذبحها.
وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلّت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب.
ولا تحلوا قوما قاصدين إلى البيت الحرام، أي لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة. وهذا كله منسوخ بآية السيف: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] وقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] فلا يمكّن المشرك من الحج، ولا يؤمّن في الأشهر الحرم، وإن أهدى وقلّد وحج.
ودل قوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً على جواز ابتغاء الفضل أي الأرباح في التجارة.
ودل قوله عز وجل: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا على إباحة صيد غير الحرم بعد الانتهاء من أعمال الحج، فهو أمر إباحة بإجماع الناس، لرفع ما كان محظورا بالإحرام. وقال المالكية: الأمر على أصله من الوجوب، وإنما فهمت الإباحة(6/73)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
من النظر إلى المعنى، والإجماع، لا من صيغة الأمر. وخص الصيد بالذكر لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيرا كبيرهم وصغيرهم.
وأرشد قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إلى حرمة الاعتداء بالباطل لأن المعنى: لا يحملنكم بغض قوم أن تتعدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم،
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .
ودل قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ... على وجوب التعاون بين الناس على البر والتقوى، والانتهاء عما نهى الله عنه، وحرمة التعاون على المعاصي والذنوب، ويؤكده
حديث «الدال على الخير كفاعله» رواه الطبراني عن سهل بن سعد وعن ابن مسعود، وهو صحيح.
المطعومات المحرمات وإكمال الدين والضرورة
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الإعراب:
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا.. أن المصدرية مع صلتها: في موضع رفع بالعطف على قوله تعالى:
الْمَيْتَةُ وتقديره: حرم عليكم الميتة والاستقسام بالأزلام: وهو قسمهم الجزور في الجاهلية عشرة أقسام.(6/74)
فَمَنِ اضْطُرَّ في موضع رفع بالابتداء، وهي شرطية، والجواب: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ..
وهو خبر المبتدأ، ومعه ضمير محذوف، وتقديره: فإن الله غفور رحيم.
المفردات اللغوية:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي أكلها وَالدَّمُ أي المسفوح وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ بأن ذبح على اسم غيره وَالْمُنْخَنِقَةُ الميتة خنقا وَالْمَوْقُوذَةُ المقتولة ضربا وَالْمُتَرَدِّيَةُ الساقطة من علو إلى أسفل فماتت وَالنَّطِيحَةُ المقتولة بنطح أخرى لها إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي على اسم النصب وهي الأصنام وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا تطلبوا القسم والحكم بالأزلام، جمع زلم (بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام) : قدح (بكسر القاف) صغير لا ريش فيه ولا نصل، وكانت سبعة عند سادن الكعبة، عليها أعلام، وكانوا يحكمونها، فإن أمرتهم ائتمروا وإن نهتهم انتهوا ذلِكُمْ فِسْقٌ خروج عن الطاعة.
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن ترتدوا عنه بعد طمعهم في ذلك لما رأوا من قوته أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أحكامه وفرائضه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بإكماله، وقيل: بدخول مكة آمنين وَرَضِيتُ اخترت فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة فاضطر إلى أكل شيء مما حرم عليه، فأكله غَيْرَ مُتَجانِفٍ مائل لِإِثْمٍ معصية فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له ما أكل رَحِيمٌ به في إباحته له، بخلاف المائل لإثم، أي الملتبس كقاطع الطريق والباغي مثلا فلا يحل له الأكل.
سبب النزول
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أخرج ابن منده في كتاب الصحابة من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده: حبان قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة، فأنزل تحريم الميتة، فأكفأت القدر.
التفسير والبيان:
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات، التي أشير إلى شيء منها بقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [الحج 22/ 30] . والمحرم إجمالا أربعة(6/75)
أنواع ذكرت في سورتي البقرة والنحل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [النحل 16/ 115] ، وهي عشرة أنواع ذكرت تفصيلا هنا:
1- الميتة:
وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير فعل فاعل، من ذكاة أو اصطياد، ويراد بها شرعا: ما مات دون تذكية (ذبح شرعي) . وقد حرمت لخبثها ولما فيها من الضرر ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها إما بسبب المرض أو بسبب احتباس الدم فيها، فإن ذكيت ذهب الدم الضار منها، على أن الطباع السليمة تعافها وتنفر منها وتأنف من أكلها، فهي ضارة للدين وللبدن، لذا حرمها الله عز وجل.
فيحرم أكلها اتفاقا، وأما شعرها وعظمها فقال الحنفية: طاهران يجوز استعمالهما، وقال الشافعي: نجسان لا يجوز استعمالهما.
ويستثني من الميتة نوعان: السمك والجراد،
لما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي وابن ماجه من قوله صلّى الله عليه وسلّم عن ابن عمر: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال»
ولما رواه مالك في موطئه والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» .
2- الدم:
أي الدم المسفوح، أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان لا المتجمد كالكبد والطحال وما يبقى في اللحم بعد الذبح عادة، بدليل قوله تعالى في آية(6/76)
أخرى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام 6/ 145] . وسئل ابن عباس عن الطحال فقال: كلوه، فقالوا: إنه دم، فقال: «إنما حرم عليكم الدم المسفوح» أي السائل من الحيوان عند التذكية، قليلا كان أو كثيرا.
وسبب تحريم الدم المسفوح: أنه مباءة الجراثيم والسموم، وأنه مستقذر طبعا، ويعسر هضمه، ومن فضلات الجسم الضارة كالبراز، وأن فصائل الدم مختلفة، ولا تناسب فصيلة غيرها، فهو قذر يضر الأجسام. ولا عبرة بما كان العرب في الجاهلية يفعلونه من أكل الدم المختلط بالشعر وهو المسمى بالعلهز، وحشو الأمعاء بالدم ثم شيّه وأكله.
3- لحم الخنزير:
وهو يشمل جميع أجزائه حتى الشحم والجلد، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود الأهم، وقد نفر الشرع من الانتفاع بجميع أجزاء الخنزير في قوله تعالى:
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام 6/ 145]
وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم في صحيحة عن بريدة بن الخصيب الأسلمي-: «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه»
فإنه تنفير من مجرد اللمس، فيكون التهديد على أكله والتغذي به أشد.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلي بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام» .
وقد أجاز قوم استعمال شعر الخنزير في الخرز للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولا حاجة اليوم إليه لتقدم الصناعة.
وسبب تحريم لحم الخنزير: ما فيه من الضرر والقذر لملازمته القاذورات، واحتوائه غالبا على الديدان كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية، ولعسر هضمه(6/77)
لكثرة شحم أليافه العضلية ومواده الدهنية، كما أن له طباعا سيئة مثل فقدان الغيرة على أنثاه، والطباع تنتقل مع اللحم والأكل. وإذا كانت الحظائر الحديثة ترعى صحيا تربية الخنازير، ويشرف الأطباء على فحص اللحم، فإن هذا لا يتيسر لكل الناس، كما أن الأضرار المعنوية لا يمكن تجنبها، وعلى كل حال يلتزم المسلم بالتحريم مطلقا، سواء توافرت علة المنع في الوقت الحاضر أو لا لأن المعوّل عليه شرعا رعاية مصالح الناس قاطبة لا أفراد معينين.
4- ما أهلّ به لغير الله:
أي ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله، ومعنى أهل: رفع الصوت لغير الله عند ذبحه، سواء اقتصر على ذكر غير الله، كالقول عند الذبح: باسم المسيح أو باسم فلان، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف، كالقول: باسم الله واسم فلان، فإن ذكر كلام بغير العطف مثل باسم الله، المسيح نبي الله، أو باسم الله، محمد رسول الله، فقال الحنفية: تحل الذبيحة، ويعتبر ذكر غير الله كلاما مبتدءا، ولكن يكره الوصل صورة.
وسبب التحريم: تعظيم غير الله، ومشاركة الكفار في عبادة غير الله، والتقرب لآلهتهم بالذبائح، وقد كان أهل الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح أمام الأصنام قائلين: باسم اللات والعزى، أو باسم هبل.
لذا حرم الإسلام ذلك لأن الله تعالى أوجب أن تذبح الحيوانات على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن المقرر شرعا، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية عمدا أو نسيانا كما سيأتي في سورة الأنعام.(6/78)
5- المنخنقة:
وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما صدفة بأن انخنقت بوثاقها أو بشبكة أو بغيرها. فهي ميتة لم تذك ذكاة شرعية، وضررها ضرر الميتة، وخصها القرآن بالذكر بالرغم من دخولها تحت تعبير: الميتة، لئلا يظن أنها ماتت بسبب أو بفعل فاعل يشبه التذكية، ولم تمت حتف أنفها، والمهم هو التذكية الشرعية ولم تحدث.
6- الموقوذة:
هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد كالخشب أو الحجر أو الحصاة حتى تموت بلا ذكاة شرعية سواء رميت باليد أو بالمقلاع ونحوهما، فهي ميتة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية.
والوقذ حرام في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان وليس معه ذكاة،
روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي يعلى: شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» .
أما المقتول بالمحدد كالنار والرصاص المستعمل الآن في البنادق فيؤكل شرعا،
لما رواه أحمد والشيخان أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال: «إذا رميت بالمعراض «1» فخزق «2» فكله، وإن أصاب بعرضه- أي بغير طرفه المحدد- فإنما هو وقيذ فلا تأكله»
ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق (الرمح) ونحوه بحده، فأحله، وما أصاب بعرضه (بغير طرفه المحدد) فجعله وقيذا، لم يحله، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء.
واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين هما
__________
(1) المعراض: سهم يرمى به بلا ريش، وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حدّه.
(2) خزق السهم: نفذ في الرمية، والمعنى: نفذ وأسال الدم لأنه ربما قتل بعرضه ولا يجوز.(6/79)
قولان للشافعي رحمه الله: «أحدهما» - لا يحل كما في السهم لأن كلا منهما ميت بغير جرح، فهو وقيذ «والثاني» - أنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكر.
7- المتردية:
هي التي تقع من شاهق أو مكان عال كجبل أو سطح، أو تهوي في بئر، فتموت بذلك، فلا تحل كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية، فإن عقرت في البئر في أي مكان حلت للضرورة.
8- النطيحة:
أي المنطوحة، وهي التي نطحتها غيرها فماتت، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم. وحكمها كالميتة حرام لا تؤكل شرعا.
9- ما أكل السبع:
وهي التي تقتل بسبب اعتداء حيوان مفترس كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوها، فتموت بسبب أكله بعضها أو جرحه لها، فلا يحل أكلها بالإجماع وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها، وكان بعض عرب الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع، ولكن الطباع السليمة تأنف ذلك. ويلاحظ أن في الكلام إضمارا، أي وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع قد فني.
ثم استثنى تعالى المذبوح شرعا من جميع ما تقدم من المحرمات غير الميتة والدم والخنزير أي ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، فقال: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه على النحو الشرعي، وذلك يعود على قوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ وكذا ما أهل لغير الله به، فما أدرك حيا منها فذبح(6/80)
أكل، والحياة تعرف بأن يطرف بعينه أو يحرك ذنبه.
قال علي كرم الله وجهه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكلها.
والصحيح من قول مالك وهو المذكور في الموطأ أنه إن كان ذبح البهيمة ونفسها يجري وهي تضطرب فليأكل.
أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا، ولو بذكاة.
والخلاصة: إن غلب على الظن أن الحيوان يعيش مع ما أصابه، كانت الذكاة محللة له، أما إن غلب على الظن أنه يهلك بما حصل، فاختلفوا: فقال الحنفية، والشافعية في مشهور المذهب: تعمل فيه الذكاة، ما دام فيه أمارة على الحياة، من تحريك عين أو ذنب أو رجل. وقال قوم منهم مالك في وجه عنه:
لا تعمل فيه الذكاة.
ومنشأ الاختلاف: هل الاستثناء متصل أو منقطع؟ فمن رأى وهم الجمهور أنه متصل أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ، فما قبل الاستثناء حرام، وما بعده خرج منه، فيكون حلالا. ويؤيد كون الاستثناء متصلا إجماع العلماء على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش، ولا يجعل الاستثناء منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له.
ومن رأى أن الاستثناء منقطع، رأى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة، وكأنه قال: ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال لأن التحريم إنما يتعلق بهذه الحيوانات بعد الموت، وهي بعد الموت لا تذكى، فيكون الاستثناء منقطعا. وأجيب عن ذلك بأن الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحلال، فإن ظاهر هذه الحيوانات أنها تموت بما أصيبت به، فتكون حراما بحسب الظاهر، إلا ما أدرك حيا وذكي، فإنه يكون حلالا.(6/81)
10- ما ذبح على النّصب:
النصب حجارة كانت حول الكعبة، عددها ثلثمائة وستون حجرا منصوبا، كانت العرب في الجاهلية يذبحون عندها، تقربا للأصنام التي يعظمونها، ويلطخون بها ما أقبل من البيت، كأنهم يثبتون بذلك كون الذبح وقع قربة، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب (الحجارة) . وليست النصب هي الأوثان، فإن النصب حجارة غير منقوشة، والأوثان حجارة منقوشة.
فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي ذبحت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح، اجتنابا للشرك الذي حرمه الله ورسوله.
وأضاف القرآن محرمات أخرى هي:
الاستقسام بالأزلام: أي محاولة معرفة ما قسم له، أو قدر في الأمر من خير أو شر. والأزلام جمع زلم: وهي قطعة من خشب على هيئة السهم الذي لا نصل فيه وهو الذي يجرح الصيد. ولهذه العملية معنيان: معنى روحي عبادي أو اعتقادي، والآخر مادي.
أما المعنى الروحي العبادي: فهو يشبه عادة التطير، كان أحدهم إذا أراد أن يقدم على عمل أو سفر، ذهب إلى الكعبة، فاستشار الأزلام الموجودة عند الآلهة، وقد كان عند هبل المنصوب على بئر سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه، مما أشكل عليهم، فما خرج منها رجعوا إليه.
قال ابن جرير الطبري: الأزلام عبارة عن قداح ثلاثة كتب على أحدها:
«افعل» وعلى الآخر: «لا تفعل» وأغفل الثالث. فإذا أجالها (حركها) فطلع سهم الأمر فعل، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد «1» . ويفعل ذلك إذا
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 49(6/82)
أراد سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك.
وأما المعنى المادي فهو اليانصيب اليوم الذي هو نوع من القمار، وهو قداح الميسر، وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة غفل. وكانت تستعمل الأزلام بمثابة نوع من أنواع اللعب بالميسر في الجاهلية، كانوا يشترون جزورا نسيئة، وينحرونه قبل أن ييسروا، ويقسمونه 28 قسما أو عشرة أقسام، فإذا خرج واحد باسم رجل، فاز صاحب الأقداح ذوات الأنصباء، وغرم من خرج له الغفل.
فأنواع الأزلام ثلاثة: الأول- نوع مع الشخص وعدده ثلاثة: مكتوب على واحد: افعل، والثاني لا تفعل، والثالث غفل. والنوع الثاني- سبعة قداح واحدها قدح، وكانت عند هبل في جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل. والنوع الثالث- قداح الميسر وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة غفل.
وكلا المعنيين نوع من الخرافة والوهم، والتخلف العقلي الذي يعوق تقدم الأمة ويدعو إلى السير على غير هدى ولا بصيرة. ومثل ذلك معرفة الحظ بواسطة المسبحة أو المصحف، أو أوراق الشدّة أو الودع أو الفنجان، فكل ذلك حرام منكر شرعا، لا يجوز اللجوء إليه. وقد شرع الإسلام بديلا شرعا هو صلاة الاستخارة ركعتين ثم الدعاء المأثور عقب الصلاة، وتسمية الأمر المستخار له، وانتظار النتيجة من انشراح الصدر أو انقباضه، وتكرار الصلاة مرات إذا لم ينكشف الحال.
وحديث الاستخارة رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلّمنا الاستخارة، كما يعلمنا سورة من القرآن، فيقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم(6/83)
ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسمي حاجته) خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه) شر لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به» قال: ويسمي حاجته.
ذلِكُمْ فِسْقٌ أي كل المحرمات المذكورة فسق وخروج عن منهج الدّين، ورغبة عن شرع الله إلى معصيته، وتجاوز للمألوف من الحكمة والمعقول.
ولما حذّر الله المؤمنين من تعاطي المحرّمات المذكورة، حرّضهم على التمسك بما شرعه لهم، وبشرهم بالغلبة بما يقوي عزيمتهم ويشجعهم، فنزل يوم عرفة عام حجة الوداع: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.. إلخ الآية، اليوم: هو يوم عرفة عام حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة، وكان يوم جمعة، وهو يوم نزول هذه الآية، يئس الكفار من إبطال دينكم والتغلب عليكم، والرجوع إلى دينهم كفارا، ويئس الشيطان أن يعبد في أرضكم.
روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في هذه الآية فقال: يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم: وهو عبادة الأوثان أبدا.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم» .
فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أي فلا تخافوهم في مخالفتكم إياهم، واخشوني أي اتّقوني، أنصركم عليهم وأؤيدكم، وأجعلكم فوقهم في الدّنيا والآخرة.(6/84)
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... اليوم أكملت لكم دينكم وهو الإسلام، فأبنت لكم حلاله وحرامه وجميع الأحكام التي تحتاجون إليها، فصار كل شيء واضحا لا لبس فيه ولا غموض، كاملا غير منقوص.
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أي منّتي، فلم يحجّ معكم مشرك أبدا، وفتحت مكة، وتحقق الوعد، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتحقق لكم النصر.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً مرضيا هو محل احتكام ومحاكمة الخلائق عليه يوم القيامة: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85] .
هذه بشارات ثلاث تحققت بهذه الآية، مكث بعدها النّبي صلّى الله عليه وسلّم واحدا وثمانين ليلة ثم قبض وتوفّاه الله.
قرأ ابن عباس هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ... فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتّخذنا يومها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد ويوم جمعة. وروى مسلم والأئمة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال: وأي آية؟
قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرفة في يوم جمعة.
وليس المراد بإكمال الدّين أنه كان ناقصا قبل اليوم ثم أكمله، وإنما المراد أن الأحكام صارت غير قابلة للنسخ، وأصبحت مؤبدة صالحة لكل زمان ومكان، والمراد بالإكمال: إتمامه في نفسه وفي ظهوره، أما إتمامه في نفسه فباشتماله على الفرائض والحلال والحرام، والتنصيص على أصول العقائد وأسس التشريع وقوانين الاجتهاد، مثل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1] ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ(6/85)
شَيْءٌ
[الشورى 42/ 11] ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام 6/ 73 ومواضع أخرى] ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل 16/ 91] ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164 ومواضع أخرى] ، وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [المائدة 5/ 2] .
وأما إتمامه في ظهوره: فبإعلاء كلمته وتفوقه على كل الأديان، وتوافقه مع المصالح العامة، وانسجامه مع التطور، ووسطيته وتوازن المصالح الخاصة والعامة فيه.
ثم نصّ الله تعالى على حالة الضرورة التي هي استثناء من الأحكام العامة، فذكر أن المحرمات السابقة حرام على جميع المسلمين في كلّ الأحوال، إلا المضطر، الذي حمل قهرا على تناول شيء من الحرام، أو الضار، فمن اضطر في حال مجاعة إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات، غير متجانف لإثم أي غير مائل إلى حرام لذاته، ولا راغب في التمتع بما يوجب الإثم، فله أن يتناول شيئا منها ليدفع الضرورة والضرر وبقدر الضرورة، لا للتلذذ ولا لتجاوز الحدود التي يحتاج إليها لسدّ الرّمق، فإن الله غفور لمثله يغفر لمتناول الحرام، رحيم بخلقه حيث أباح لهم ما يدفع الضرر بما هو محرّم.
وقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ بمنزلة قوله في سورة البقرة: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [2/ 173] .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى الأحكام الآتية:
1- تحريم الميتة وما في حكمها (المنخنقة، والموقوذة، والمتردية،(6/86)
والنطيحة، وما أكل السبع منه، والمذبوحة على النصب: حجارة حول الكعبة، وما أهل لغير الله به: ذكر اسم غير الله عليه) .
2- حرمة الدّم ولحم الخنزير.
3- إباحة البهيمة المذكاة، والتي أدركت وفيها حياة مستقرة فذبحت وهي المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منه وما أهل لغير الله به.
4- إباحة المحرمات المذكورة عند الاضطرار إليها لدفع الضرر.
5- الضرورة مقيّدة بقيدين: الأول- أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط.
والثاني- ألا يتجاوز ما يسدّ الرّمق لأن الضرورة تقدر بقدرها. فإن قصد التّلذذ، أو تجاوز مقدار الضرورة وقع في الحرام.
والتذكية (الذبح الشرعي) تعمل في البهيمة الصحيحة والمريضة، فيجوز تذكية المريضة ولو أشرفت على الموت إذا كان فيها بقية حياة.
ويرى الجمهور أن ذكاة الأم تؤثر في الجنين لما
أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»
،
وفي رواية أخرى: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه، أشعر أو لم يشعر» .
ويرى أبو حنيفة: أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا، لم يحل أكله لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين.
وأجمعوا على أن الجنين إذا خرج حيّا أن ذكاة أمّه ليست بذكاة له.
وآلة الذكاة عند الجمهور: كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم، فهو من آلات الذكاة ما خلا السّنّ والعظم، وعلى هذا تواترت الآثار. والسّن والظفر المنهي عنهما في التذكية: هما غير المنزوعين لأن ذلك يصير خنقا فأما المنزوعان فإذا(6/87)
فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما. وحرم قوم (إبراهيم النخعي والحسن البصري والليث بن سعد والشافعي) السّن والظفر والعظم على كل حال منزوعة أو غير منزوعة.
أما المقطوع فمختلف فيه:
قال مالك: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين.
وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمري، ولا يحتاج إلى الودجين لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت.
ومالك وغيره كأبي حنيفة اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال- وهو اللحم- من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج، وعليه يدلّ
حديث رافع بن خديج في قوله المتفق على صحته فيما رواه الجماعة: «ما أنهر الدّم»
وهذا الرأي أوجه.
واختلفوا فيما إذا كان الذبح فوق الغلصمة (جوزة الحلق) وبقيت مع البدن، فقال الشافعي: تؤكل لأن المقصود قد حصل. وقال مالك: لا تؤكل.
واختلفوا أيضا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع على الفور، وأكمل الذكاة فقيل: يجزئه، وقيل: لا يجزئه، والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها.
والمستحب أن يكون الذابح ممن ترضي حاله ويطيق الذبح، سواء كان ذكرا أو أنثى، بالغا أو غير بالغ، مسلما أو كتابيّا، لكن ذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي.
وما استوحش من الإنسي أو وقع في البئر، لا تكون ذكاته إلا بين الحلق واللّبة، على سنة الذبح، في رأي المالكية. وأجاز أبو حنيفة والشافعي ذبحه أو طعنة في أي مكان من الجسم،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن رافع بن خديج:(6/88)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
«إن لهذه الإبل أوابد «1» كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا- وفي رواية- فكلوه» .
ويطلب الإحسان في الذّبح،
للحديث المتقدم عن أبي يعلى فيما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه: «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء»
قال المالكية: إحسان الذبح في البهائم: الرّفق بها فلا يصرعها بعنف ولا يجرّها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نيّة الإباحة، والقربة، وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز «2» ، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنّة، والشكر له بالنعمة، بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرّمه علينا.
والاستقسام بالأزلام بأنواعه المختلفة حرام، وإذا قصد به طلب القسم والنصيب فهو من أكل المال بالباطل. قال مجاهد: الأزلام: هي كعاب «3» فارس والرّوم التي يتقامرون بها.
المطعومات الحلال والزّواج بالكتابيّات
[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
__________
(1) الأوابد جمع آبدة: وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنسي.
(2) أجهزت على الجريح: إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه.
(3) الكعاب جمع كعب: وهو فصّ كفصّ النرد.(6/89)
الإعراب:
وَما عَلَّمْتُمْ مرفوع نائب فاعل عطفا على الطَّيِّباتُ لفعل أُحِلَّ.
مُكَلِّبِينَ منصوب على الحال من التاء والميم في عَلَّمْتُمْ.
مُحْصِنِينَ حال من ضمير آتَيْتُمُوهُنَّ المرفوع. ومثله غَيْرَ مُسافِحِينَ. ومثله:
وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وهو معطوف على غَيْرَ مُسافِحِينَ لا على مُحْصِنِينَ لدخول لا معه تأكيدا للنفي المتقدم، ولا نفي مع مُحْصِنِينَ. ويجوز أن يجعل غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وصفا لمحصنين أو حالا من الضمير فيه.
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي الْآخِرَةِ: يتعلق بفعل مقدر، دلّ عليه قوله تعالى: مِنَ الْخاسِرِينَ وتقديره: وهو خاسر في الآخرة. وإنما وجب هذا التقدير لأن الألف واللام في الْخاسِرِينَ بمعنى الذين، وما وقع في صلة الذين لا يعمل فيما قبلها، فإن جعلت الألف واللام لا بمعنى الذين جاز أن يكون الْخاسِرِينَ عاملا فيه.
البلاغة:
وَطَعامُ الَّذِينَ.. أطلق العام وأراد به الخاص وهو الذبائح.
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ بينهما طباق لأن الإحصان هنا العفّة، والسفاح: الزنى.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُونَكَ يا محمد ماذا أُحِلَّ لَهُمْ من الطعام. الطَّيِّباتُ المستلذات التي هي من غير الخبائث، وهي كلّ ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنّة أو قياس مجتهد. الْجَوارِحِ الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين، واحدها جارحة، من الجرح بمعنى الكسب، قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام 6/ 60] أي ما كسبتم. مُكَلِّبِينَ من التكليب، وهو تعليم الكلاب وإرسالها على الصيد، ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا، فالمكلّب: مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها بأنواع الحيل وطرق التأديب والتثقيف. تُعَلِّمُونَهُنَّ تؤدبونهن. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من آداب الصيد. فَكُلُوا(6/90)
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ
بأن قتلن، إن لم يأكلن منه، بخلاف غير المعلمة فلا يحلّ صيدها، وعلامة المعلّمة: أن تسترسل إذا أرسلت، وتنزجر إذا زجرت، وتمسك الصيد ولا تأكل منه، وأقلّ ما يعرف به ذلك ثلاث مرات، فإن أكلت منه، فليس مما أمسكن على صاحبها، فلا يحلّ أكله، كما في حديث الصحيحين، وفي هذا الحديث: أن صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلّم من الجوارح وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ عند إرساله.
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ذبائح اليهود والنصارى. أُحِلَّ حلال.
وَالْمُحْصَناتُ هنا الحرائر، وقيل: العفيفات عن الزنى. أُجُورَهُنَّ مهورهنّ. مُحْصِنِينَ أعفاء عن الزنى. غَيْرَ مُسافِحِينَ معلنين بالزنى بهنّ أو مجاهرين بالزنى. مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرّين بالزنى، والخدن: الصديق ذكرا أو أنثى. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي يرتدّ. فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الصالح قبل ذلك، فلا يعتدّ به ولا يثاب عليه، والمعنى: بطل ثواب عمله. مِنَ الْخاسِرِينَ إذا مات عليه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري من طريق الشعبي: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له حتى نزلت هذه الآية: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب في المدينة، جاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله الآية، فقرأها» .(6/91)
المناسبة:
لما ذكر تعالى ما حرّمه في الآية المتقدّمة من الخبائث الضارّة لمتناولها، إما في بدنه أو في دينه أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة، قال بعدها:
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وهي مثل الآية المذكورة في سورة الأعراف في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم: أنه وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ
[7/ 157] .
التفسير والبيان:
يسألك المؤمنون يا محمد، ماذا أحلّ الله لهم من الطعام واللحوم؟ قل: أحلّ لكم الطيبات، أي ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة، وهي غير الخبائث، وأحلّ لكم صيد الجوارح (الكواسب) المعلّمة.
أما الطيّبات: فهي ما عدا المنصوص على تحريمه في القرآن وهي المحرّمات العشر المتقدّمة، وما أضيف إليها في السّنة النّبوية،
روى أحمد ومسلم وأصحاب السّنن عن ابن عباس: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع، وكلّ ذي مخلب من الطّير» .
ورووا أيضا عن أبي ثعلبة الخشني: «كلّ ذي ناب من السّباع فأكله حرام» . فأصبح أن ما لم يرد به نص نوعان: حلال طيب، وحرام خبيث. والعبرة في الاستطابة والاستخباث: ذوق العرب في الحجاز.
والسبع عند أبي حنيفة: كل ما أكل اللحم. وعند الشافعي: ما يعدو على الناس والحيوان.
وبناء عليه: كلّ أنواع حيوان البحر حلال طيب، سواء أكل العشب أو أكل اللحم. وحيوان البرّ يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير. ولا يحلّ أكل ما يعيش في البرّ والبحر كالضفدع والتمساح والثعبان والسلحفاة، للاستخباث وسمّ الثعبان.(6/92)
ويحلّ لكم ما علمتم من الجوارح، أي يحلّ لكم اقتناء تلك الحيوانات المعلّمة وبيعها وهبتها، ويحلّ لكم صيودها، لقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وقوله: مُكَلِّبِينَ أي حال كونكم معلّمين ومؤدبين، فهو حال من فاعل عَلَّمْتُمْ، وقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال من فاعل علمتم أو من الضمير في مُكَلِّبِينَ أي حال كونكم تعلمونهن مما علمكم الله.
ويفهم منه أنه لا بدّ في التعليم من أمور ثلاثة:
1- أن تكون الجوارح معلّمة.
2- وأن يكون من يعلّمها ماهرا في التّعليم مدرّبا فيه.
3- وأن يعلم الجوارح مما علمه الله، بأن تقصد الصيد بإرسال صاحبها، وأن تنزجر بزجره، وأن تمسك الصيد ولا تأكل منه إذا كان المعلّم كلبا، وأن يعود الكلب إلى صاحبه متى دعاه إذا كان طيرا مثل البازي. ويعرف تعليم الكلب بترك الأكل ثلاثا، ويعرف تعليم البازي بالرجوع إلى صاحبه إذا دعاه، والفرق بينهما أن تعليم الكلب يكون بترك ما يألفه ويعتاده، وعادة الكلب السّلب والنّهب، فإذا ترك الأكل ثلاثا عرف أنه تعلّم، وعادة البازي النّفرة، فإذا دعاه صاحبه فعاد إليه، عرف أنه تعلّم.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم دون أن تأكل منه، فإن أكلت منه فلا يحلّ أكل الفاضل عنه في رأي الجمهور
لحديث عدي بن حاتم عند أحمد والشيخين أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أرسلت كلابك المعلّمة، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليك، إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه»
وفي رواية: «إذا أرسلت كلبك المعلّم فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك، فأدركته حيّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاة» .(6/93)
واذكروا اسم الله على الكلب عند إرساله، ويؤيده
حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك»
، والتّسمية: واجبة عند الجمهور، مستحبة عند الشافعي.
واتّقوا الله في هذه الحدود، أي احذروا مخالفة أمره فيما أرشدكم إليه، واتّخذوا وقاية من عذابه بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. إن الله سريع الحساب، أي يحاسبكم على أعمالكم من غير توان ولا تهاون، ولا يضيع شيئا من أعمالكم، بل تحاسبون عليها وتجازون في الدّنيا والآخرة، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد، فيكون حسابه سريعا. ومناسبة ذلك لما قبله أنه لما ذكر المحرّمات والمحللات وأبان الحلال والحرام، نبّه إلى أنه تعالى سيحاسب العاملين على أعمالهم من غير إمهال متى جاء يوم الحساب.
روي أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم.
اليوم أحل لكم تفضلا من الله الطّيبات: وهي ما يستطاب ويشتهي عند أهل النفوس الكريمة.
وأحل لكم طعام الكتابيين أي ذبائحهم عند الجمهور، لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات لأن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعلهم، وأما بقية المطعومات فهي مباحة لجميع الناس، فلا وجه لتخصيصها بهم. وأهل الكتاب:
هم اليهود والنصارى الذين أنزل الله على أنبيائهم التوراة والإنجيل.
فلا تحلّ ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان. روى ابن جرير عن أبي الدّرداء وابن زيد أنهما سئلا عمّا ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله، قال ابن زيد:
أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا. وقال أبو الدّرداء- وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها: جرجيس، أهدوه لنا، أنأكل منه؟ - «اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب، طعامهم حلّ لنا، وطعامنا حلّ لهم» وأمره بأكله.(6/94)
ولا تحلّ ذبائح المجوس ولا التّزوج بنسائهم، لما روي في السّنة. وطعامكم حلّ لهم أي وذبائحكم حلّ لأهل الكتاب، فلكم إطعامهم منه أو بيعهم منه. وإنما قال ذلك للتّنبيه على أن الحكم مختلف في الذّبائح والمناكحة، فإن إباحة الذّبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها من جانب واحد، والفرق واضح وهو أن إباحة الطعام من الجانبين لا تستلزم محظورا، أما لو أبيح لأهل الكتاب التّزوّج بالمسلمات، لكان لهم ولاية شرعية على زوجاتهنّ، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيّا.
وأحلّ لكم أيها المؤمنون التّزوّج بالحرائر المؤمنات والكتابيّات من اليهود والنصارى، سواء كنّ ذميّات أو حربيّات، إذا آتيتموهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ.
وتقييد الحلّ بإتيان المهور لتأكيد الوجوب، لا لاشتراطه في الحلّ، وتخصيص ذكر الحرائر للحثّ على ما هو الاولى منهنّ، لا لان من عداهنّ لا يحلّ، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتّفاق، وكذا يصح عند أبي حنيفة.
أحلّ لكم الزّواج بالحرائر حالة كونكم أعفاء عن الزّنى متعففين بالزّواج بهنّ غير مسافحين أي مرتكبين الفاحشة مجاهرين بها، وغير متخذي أخدان أي مسرّين إتيان الفاحشة، أي أن المباح هو الزّواج بالحرائر العفيفات عن الزّنى، بشرط إتيان مهورهنّ بقصد الإحصان والإعفاف، لا سفح الماء عن طريق الزّنى العلني، ولا عن طريق الزّنى السّرّي وهو اتّخاذ الأخدان.
ثم حذّر الله تعالى من المخالفات ورغب فيما تقدّم من أحكام الحلال، فقال:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي ومن ينكر شرائع الإسلام وتكاليفه، ويجحد أصول الإيمان وفروعه، فقد أبطل ثواب عمله وخاب في الدّنيا والآخرة، أما في الدّنيا فباعتبار ضياع أعماله وعدم الإفادة منها، وفي الآخرة بالخسارة والهلاك في نار جهنم.(6/95)
وقد أطلق الإيمان وأراد المؤمن به مجازا وهو الشرائع والتكاليف، وقيل: المراد:
ومن يكفر بربّ الإيمان، فهو مجاز بالحذف. والمقصود من هذه الآية: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ... تعظيم شأن ما أحلّ الله وما حرّمه، والتّشديد على المخالف.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ على ما يأتي:
1- إباحة الطيبات أي المطعومات التي تستطيبها الأنفس الكريمة دون الخبائث التي حرمتها الشريعة.
2- إباحة الصيد بالجوارح من سباع البهائم والطير، بشرط كونها معلّمة، وكون معلّمها مؤدّبا ماهرا، وكونه يعلمها مما علمه الله بأن ينشلى إذا أشلي (أغري) ، ويجيب إذا دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن لا يأكل من صيده الذي صاده. فإن انخرم شرط من هذه الشروط وقع الخلاف.
3- حل ما جرحته الجوارح وقتلته، وأدركه الصائد ميتا، لإطلاق قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي حبس عليكم، ولم يأكل مما صاد، فإن أكل الكلب ونحوه لم يؤكل عند الجمهور ما بقي، لأنه أمسك على نفسه، ولم يمسك على صاحبه. ولم يشترطوا ذلك في الطيور، بل يؤكل ما أكلت منه. وأباح المالكية أكل ما بقي من الصيد وإن كان بضعة، وإن أكل الجارح منه، سواء كان كلبا أو فهدا أو طيرا.
فلو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع (جرح) لم يؤكل، لأنه مات خنقا، فأشبه أن يذبح بسكين كالّة، فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه وجمهور العلماء على أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل.
وكره الشعبي والثوري أكل ذلك الصيد.
فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر، فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد(6/96)
آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، فلا يؤكل،
لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي بن حاتم عند أحمد والشيخين: «وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل»
وفي رواية: «فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» .
فإن اشترك صائدان بإرسال كلبين كان الصيد شركة بينهما.
وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم، فتردى من جبل أو غرق في ماء، أو غاب عن الصائد ثلاثة أيام، فمات وهو لا يراه،
لقوله صلّى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الحديث المتفق عليه عند أحمد والشيخين: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري، الماء قتله أو سهمك»
وروى أبو داود في حديث أبي ثعلبة الخشني: «فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل» وزاد: «فكله بعد ثلاث ما لم ينتن» .
وأجاز مالك وأبو حنيفة والشافعي الصيد بكلاب اليهودي والنصراني إذا كان الصائد مسلما. وجمهور الأمة غير مالك على جواز صيد الصائد من أهل الكتاب.
4- جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد بدليل قوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ، يؤيده
ما رواه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان» .
5- ودلت الآية: وَما عَلَّمْتُمْ.. أيضا على أن العالم أفضل من الجاهل، لأن الكلب إذا علّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب. ويزداد فضل العالم إذا عمل بما علم،
لقول علي رضي الله عنه «لكل شيء قيمة، وقيمة المرء ما يحسنه» .
6- وجوب تسمية الله عند الإرسال، لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو رأي الجمهور غير الشافعي، ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي المتقدم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل» .
أما عند إدراكه حيا فتجب(6/97)
التسمية عند ذكاته. وقال الشافعي: إنها مستحبة.
ويستفاد من آية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ما يأتي:
1- إباحة طيبات الرزق: وهي ما تستطيبه الأنفس الكريمة.
2- إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب (اليهود والنصارى) . ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالفاكهة والبرّ، يجوز أكله، إذ لا يضر فيه تملك أحد.
أما ما يحتاج إلى عمل أو صنع كخبز الدقيق وعصر الزيت ونحوه، والتذكية التي تحتاج إلى الدين والنية، فرخص الله تعالى فيه، تألفا لأهل الذمة، وترغيبا لهم في الإسلام، حتى وإن قال النصراني عند الذبح: باسم المسيح، واليهودي قال: باسم عزير، لأنهم يذبحون على الملّة.
والجمهور على أن الذكاة عاملة في حلّ الذبيحة، ماحل له منها وما حرم عليه، لأنه مذكّى. وقال جماعة من أهل العلم: إنما حلّ لنا من ذبيحتهم ما حلّ لهم، لأن ما لا يحلّ لهم لا تعمل فيه تذكيتهم، فلا تحل الشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب. وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحمله الجمهور على العموم في جميع ما يؤكل.
والعلماء مجمعون إلا من شذ منهم على أن ذبائح الكفار لا تؤكل ولا يتزوج منهم، لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء.
ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى، لأنهم لا يتوقّون النجاسات ويأكلون الميتات، فإذا طبخوا في تلك القدور تنجّست، فتغسل.
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله،(6/98)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
إنا بأرض قوم من أهل كتاب، نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلّم، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلّم، فأخبرني ما الذي يحلّ لنا من ذلك؟ قال: «أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها» .
3- إباحة إطعام أهل الكتاب من ذبائح المسلمين، فإذا اشتروا منا اللحم، يحل لهم اللحم، ويحل لنا ثمن المأخوذ منهم.
4- مشروعية نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات. والمحصنات:
الحرائر في قول مجاهد والجمهور، والعفيفات العاقلات في قول ابن عباس.
5- بطلان ثواب الأعمال إذا كان العامل جاحدا أحكام الله وشرائعه، كافرا بأصول الإيمان وفروعه، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بما أنزل على محمد، أو يجحد الإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي بطل ولغا ثواب عمله، ولم يعد لعمله فائدة أخروية.
فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم وذكر نعمة الله
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)(6/99)
الاعراب:
وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب عطف على أَيْدِيَكُمْ والتقدير: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. وقرئ بالجر عطفا على بِرُؤُسِكُمْ وقدّر ما يوجب الغسل كأنه قال: وأرجلكم غسلا.
قال أبو زيد الأنصاري من رواة الحديث الثقات ومن أهل اللغة، وكان من أهل العدل والتشيع توفي سنة 215 هـ: المسح خفيف الغسل، فبينت السنة أن المراد بالمسح في الرجل هو الغسل.
البلاغة:
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فعبّر عن إرادة الفعل بالفعل، وأقام المسبّب مقام السبب للملابسة بينهما كما ذكر الزمخشري.
وفي الآية إيجاز بالحذف أيضا، أي إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون.
المفردات اللغوية:
إِذا قُمْتُمْ أي أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون. وُجُوهَكُمْ جمع وجه: وهو ما تقع به المواجهة، وحده طولا: ما بين أعلى منبت شعر الرأس إلى منتهى اللحيين أو أسفل الذقن، وعرضا: ما بين الأذنين. الْمَرافِقِ جمع مرفق وهو مفصل الساعد أو الذراع من الأعلى والعضد من الأسفل. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ الباء للإلصاق، أي ألصقوا المسح بها من غير إسالة ماء، وهو اسم جنس فيكفي فيه عند الشافعي: أقل ما يصدق عليه وهو مسح بعض الشعر. الْكَعْبَيْنِ هما العظمان الناتئان عند اتصال الساق بالقدم من الجانبين. جُنُباً أصابتكم جنابة بجماع أو إنزال مني. فَاطَّهَّرُوا فاغتسلوا.
سبب النزول:
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون بالمدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقدا، وأقبل أبو بكر، فلكز فيّ لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة،(6/100)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء، فلم يوجد، فنزلت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وكان ذلك في غزوة المريسيع.
فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر.
وروى الطبراني عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، أخرجت مع رسول الله في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: بنيّة في كل سفر تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة.
ذكر السيوطي بعد هذا تنبيهين هما بإيجاز:
الأول- هل المراد بآية التيمم آية المائدة هذه (6) أو آية النساء ونصهما واحد:
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [الآية 43] ؟ الذي مال البخاري إليه: أنها آية المائدة، قال السيوطي: وهو الصواب للتصريح بها في الطريق المذكور في رواية البخاري عن عائشة. علما بأن الواحدي أورد هذا الحديث في أسباب النزول عند ذكر آية النساء أيضا.
الثاني- دل حديث البخاري على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول هذه الآية، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، والثابت في السيرة أنه صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء. قال ابن عبد البر: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به، ليكون فرضه متلوا بالتنزيل. وقال غيره:
يحتمل أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء، ثم نزلت بقيتها، وهو ذكر التيمم في هذه القصة. قال السيوطي: الأول أصوب فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة، والآية مدنية.(6/101)
المناسبة:
هناك عهدان بين العبد وربه: عهد الربوبية، وعهد الطاعة، وبعد أن وفي تعالى للعبد بالعهد الأول، فبين له الحلال والحرام في الطعام والزواج، طلب من العباد الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعة بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بالطهارة، فذكر فرائض الوضوء، ثم ذكّرنا بوجوب الوفاء بالعهد والميثاق وهو السمع والطاعة لله ولرسوله.
روى أبو داود الطيالسي وأحمد والبيهقي عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور» .
وبعبارة أخرى: للإنسان شهوات فطرية تنحصر في المطعومات والمناكحات، له الحق في التمتع بها بنظام، وعليه واجبات يلزمه أداؤها. وبعد أن بيّن تعالى للإنسان ما أحله له وما حرمه عليه من المطاعم والمناكح، شرع في بيان ما يجب عليه أداؤه لله تعالى، شكرا له على ما أنعم به عليه، فمضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة ومنها رخصة التيمم.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون- وهذا القيد ثبت في السنة النبوية- فعليكم بالوضوء، إذ لا يقبل الله صلاة بغير طهور، فإذا كان مريد الصلاة محدثا وجب عليه الوضوء، وإذا كان متوضئا فهو مندوب،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه رزين: «الوضوء على الوضوء نور على نور» .
روى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»
وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء(6/102)
واحد ما لم نحدث»
وفي مسند أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة غالبا، فلما كان يوم الفتح- فتح مكة- توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، أمام الناس، لبيان جواز ذلك.
وفرائض الوضوء في الآية أربعة هي غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والمسح بالرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين. والغسل: إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من الوسخ ونحوه. والمسح: إصابة الشيء الممسوح بالبلل.
الفرض الأول- غسل الوجه:
وهو من أعلى منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن، وما بين الأذنين عرضا.
ومن له لحية خفيفة يجب عليه غسل ظاهر الشعر والبشرة التي تحته، وصاحب اللحية الكثة يخللها، ولا يجب إيصال الماء إلى العين. أما المضمضة والاستنشاق فثبت حكمهما بالسنة.
والفرض الثاني- غسل اليدين إلى المرفقين:
واليد في الوضوء: من رؤوس الأصابع إلى المرفق: وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.
وإلى في قوله تعالى إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ تدل على أن ما بعدها غاية لما قبلها فقط. وأما دخول الغاية في الحكم أو خروجها عنه فيعرف بالدليل الخارجي، ففي قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 17/ 1] ما بعد إلى داخل في حكم ما قبلها، لأنه لا يتحقق معنى الإسراء إلا بدخول الأقصى والتعبد فيه، كبدء الإسراء من المسجد الحرام.
وفي قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة 2/ 280] وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة 2/ 187] ما بعد إِلَى غير داخل في حكم ما قبلها،(6/103)
لأن الإعسار في الآية الأولى علة الإنظار (التأخير) وبالميسرة تزول العلة، فيطالب بالدين، ولا داعي للإنظار معها، ولأنه في الآية الثانية لو دخل الليل في حكم الصيام للزم الوصال، وهو غير مشروع في حقنا.
وقوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فقال الجمهور بوجوب غسل المرافق والكعبين، احتياطا في العبادات، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والفرض الثالث- المسح بالرأس:
وفي مقدار المسح خلاف، فقال الشافعي: يكفي أقل ما يطلق عليه اسم المسح، ولو شعرة في حد الرأس. وقال مالك وأحمد: يجب مسح كل الرأس أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة: الواجب مسح ربع الرأس، لأن المسح إنما يكون باليد، ومحلها يقدر في الغالب بالربع، ولأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته.
لكن ثبت في السنة ما يؤيد أيضا مذاهب الأئمة الآخرين. والأظهر أن الباء للإلصاق، وقيل للتبعيض، والحق أن هذا مجمل يرجع في بيانه إلى السنة.
وقد قال المالكية والحنابلة: الباء هنا زائدة، لأن التركيب يدل على وجوب مسح كل الرأس، فيمسح الكل احتياطا. وقال الحنفية والشافعية: الباء هنا للتبعيض، كما في قولنا: مسحت يدي بالحائط أي مسحت اليد ببعض الحائط، فيحمل قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ على بعض الرأس عملا بدلالة حرف الباء، لكن الحنفية قدروا البعض بثلاث أصابع أو بربع الرأس. والشافعية قدروه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح.
والجمهور على أن المسحة الواحدة تجزئ. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثا، والأحاديث تدل على تكرار أفعال الوضوء ثلاثا، أما المسح فلم يذكروا فيه(6/104)
عددا. والمسح عند الجمهور يبدأ بمقدم الرأس ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه.
والفرض الرابع- غسل الرجلين إلى الكعبين:
والكعبان: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من الجانبين، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين. فالواجب غسل الرجلين بدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته والتابعين، وعليه انعقد إجماع الأمة.
ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ؟
فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» .
وروي عن علي ومعاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثله.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة: أنه توضأ فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى، حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ.
وروى مسلم عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا لم يغسل عقبه، فقال: «ويل للأعقاب من النار» .(6/105)
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلّف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة فأدركنا، وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا.
وصح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وجرى العمل على التثليث.
هذا كله على قراءة النصب: وَأَرْجُلَكُمْ. وأما قراءة الجر:
وَأَرْجُلَكُمْ فمحمولة على الجوار، كما في قوله تعالى في سورة هود: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود 11/ 26] بجر ميم أَلِيمٍ لمجاورة يَوْمٍ المجرور إذ كان حقه أن يقال: «أليما» . وفائدة الجر للجوار هنا في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ: التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة الإسراف لما يعلق بها من الأدران.
ويجوز المسح على الخفين بدلا عن غسل الرجلين بعد لبسهما على طهارة بدءا من الحديث الطارئ، للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام، وقد ثبتت مشروعيته بالسنة المتواترة،
قال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمسح على الخفين.
وقال الحافظ ابن حجر: قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير،
فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي: أنه- أي جرير- بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.
وأضاف الجمهور غير الحنفية لفرائض الوضوء فرض النية،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشيخين عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات» .
وأضاف الشافعية والحنابلة وجوب الترتيب لأنه يبدأ بغسل الوجه عند القيام إلى الصلاة لأنه مأمور به(6/106)
بفاء التعقيب المقتضية للترتيب، ويرتب ما بعده بحسب الآية وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني عن جابر: «ابدؤوا بما بدأ الله به» .
وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب.
وأضاف المالكية والحنابلة وجوب الموالاة
لمواظبته صلّى الله عليه وسلّم على الولاء في أفعال الوضوء، فإنه لم يتوضأ إلا متواليا، وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء.
وأوجب المالكية أيضا الدلك بباطن الكف، لا بظاهر اليد لأن الغسل المأمور به في آية الوضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لا يتحقق معناه إلا بالدلك، فإن مجرد إصابة الماء للعضو لا يعتبر غسلا، إلا إذا صاحبه الإمرار بشيء آخر على الجسم، وهو معنى الدلك.
وأوجب الحنابلة المضمضة والاستنشاق
لما روى أبو داود وغيره: «إذا توضأت فمضمض»
وروى الترمذي من حديث سلمة بن قيس: «إذا توضأت فانتثر»
وروى الشيخان عن أبي هريرة: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر» .
وأوجب الحنابلة كذلك التسمية في بدء الوضوء
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» .
وللوضوء سنن كثيرة معروفة في كتب الحديث والفقه.
وينتقض الوضوء بأسباب منها: خروج شيء من أحد السبيلين، والنوم على هيئة لا تتمكن مقعدته من الأرض، ولمس بشرة الرجل المرأة وبالعكس لدى الشافعية، وفي حال الشهوة فقط لدى المالكية والحنابلة، ولا ينقض التلامس عند الحنفية، ومسّ فرج الآدمي بباطن الكف في رأي الجمهور غير الحنفية
لحديث رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) : «من مس ذكره، فلا يصلي حتى يتوضأ» .
أما الحنفية فاستدلوا
بحديث آخر رواه الخمسة أيضا والدارقطني(6/107)
مرفوعا: «الرجل يمس ذكره، أعليه وضوء؟» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما هو بضعة منك، أو مضغة منك» .
فرضية الغسل: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا: أي فاغسلوا بالماء أبدانكم جميعا لأن الأمر بالتطهير لما لم يتعلق بعضو مخصوص، كان أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن. وإنما حملت الطهارة على التطهر بالماء لأن الماء هو الأصل فيها، كما يدل قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال 8/ 11] .
والجنب: لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. والجنابة:
معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب. وسبب الجنابة اثنان:
الأول- نزول المني:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إنما الماء من الماء»
أي إنما يجب استعمال الماء للغسل من أجل الماء الحادث باحتلام أو جماع أي المني.
الثاني- التقاء الختانين:
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن عائشة وابن عمرو: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» .
ويجب الاغتسال أيضا بعد انقطاع دم الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 222] وللإجماع على أن النفاس كالحيض.
وحكمة الوضوء والغسل: النظافة وبعث النشاط ليقف العبد بين يدي ربه حاضر القلب صافي الروح، والغسل من الجنابة لإزالة ما يعتري الجسم من استرخاء وفتور.
وبعد أن بيّن الله تعالى وجوب استعمال الماء في الوضوء والغسل عند إرادة(6/108)
الصلاة، والوضوء مرة أو أكثر في اليوم، والغسل مرة أو أكثر في الأسبوع، بيّن أن وجوب استعمال الماء مقيد بأمرين: الأول- وجود الماء، والثاني- القدرة على استعماله من غير ضرر. فإن كان مريد الصلاة مريضا أو مسافرا لم يجد الماء، فرخص الشرع له في التيمم من الحدث الأصغر والأكبر. وهذا ما أوضحته الآية:
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ....
أي إن كنتم مرضى بمرض يشق معه استعمال الماء أو يضر كالحمّى ونحوها، والمرض الجلدي كالجدريّ والجرب ونحوهما من القروح والجروح، أو كنتم في سفر طويل أو قصير، ولم تجدوا ماء، فتيمموا، والمراد بالسفر: السير خارج العمران، وهو غير سفر القصر. وعبر بالسفر عن عدم الماء لأن السفر يغلب فيه عدم وجود الماء. وكذا إن أحدثتم الحدث الأصغر المعبر عنه بالمجيء إلى الغائط، والغائط في الأصل: المكان المنخفض من الأرض، وهو كناية عن قضاء الحاجة من بول وغائط. وكل ما يخرج من السبيلين ملحق بقضاء الحاجة. وأو هذه بمعنى الواو.
وكذلك إن حدثت ملامسة أي مباشرة مشتركة بين الرجال والنساء، وهذا هو الحدث الأكبر، أي الجماع، كما تأول الآية علي وابن عباس وغيرهما، وكانوا لا يوجبون الوضوء على من مسّ امرأة باليد.
وتأول عمر وابن مسعود الآية بالمس باليد، وكانا يوجبان الوضوء على من مس امرأة باليد، والراجح هو القول الأول.
والخلاصة: إذا كنتم على حال من الأحوال الأربعة المتقدمة (المرض والسفر والحدث الأصغر والأكبر) ولم تجدوا ماء، أي فقدتم الماء، أو كنتم محتاجين له، فاقصدوا (تيمموا) ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة فيه، فاضربوا بأيديكم عليه وامسحوا وجوهكم وأيديكم، ومسح اليد يكون إلى المرفق في رأي(6/109)
الحنفية والشافعية، كما في الوضوء، والتيمم بدل عن الوضوء، ولما
روى الدارقطني عن ابن عمر، وهو موقوف أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» .
ولا بد من استيعاب الوجه واليدين بالتيمم لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولأن التيمم يدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل واجب، فيكون البدل كذلك، ما لم يقم دليل على خلافه.
وفقد الماء المانع من التيمم يتصور في رأي المالكية: بعدم وجود الماء وجودا حكميا، بمعنى أن الشخص لا يتمكن شرعا من استعماله من غير ضرر. ويتصور في رأي الحنفية بعدم الوجود الحسي، بمعنى أنه لا يتمكن تمكنا حسيا من استعماله من غير ضرر.
وينبني على هذا الخلاف: أن من وجد الماء وهو في الصلاة يكملها ولا يقطعها عند المالكية لأنه لا يتمكن شرعا من استعماله من غير إبطال الصلاة، وهو لا يجوز له إبطالها، وأما عند الحنفية فيبطل تيممه فتبطل الصلاة، ويجب استعمال الماء.
والمراد: لم تجدوا ماء كافيا للوضوء أو الغسل، فلو وجد الشخص ماء كافيا لبعض الوضوء أو الغسل، يتيمم عند الحنفية والمالكية، ولا يستعمل الماء في شيء من أعضائه، وعند الشافعية والحنابلة: يستعمل الماء في بعض الأعضاء، ثم يتيمم لأنه لا يعد فاقدا للماء مع وجود هذا القدر.
والمراد بالصعيد: هو التراب، على القول الظاهر المختار.
واختلف الفقهاء في لزوم إيصال التراب إلى الوجه واليدين وعدمه، فقال الحنفية والمالكية: لا يلزم، وقال الشافعية: يلزم. وسبب الاختلاف الاشتراك في معنى الباء، فإنها ترد للتبعيض، وترد للابتداء وتمييز الجنس، فرجح الشافعية(6/110)
حملها على التبعيض قياسا للتيمم على الوضوء، ويجب في الوضوء استعمال بعض الماء، فيجب استعمال بعض التراب في التيمم.
ورجح الحنفية والمالكية حملها على الابتداء وتمييز الجنس لأن المتيمم ينفض يديه ليتناثر التراب، فيمسح وجهه ويديه من غير تلويث، ولما
ورد من أنه عليه الصلاة والسلام تيمم على حائط بضربتين: للوجه واليدين
، والظاهر أنه لا يعلق على يديه شيء من التراب.
ثم ذكر تعالى حكمة مشروعية التيمم وهي التيسير على الناس ودفع الحرج عنهم، فأبان أنه تعالى ما يريد ليجعل عليكم فيما شرعه من أحكام الوضوء والغسل والتيمم في هذه الآية وغيرها حرجا أي أدنى ضيق وأقل مشقة لأنه تعالى غني عنكم، رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم، ولكن يريد ليطهركم من الدنس والرجس المادي بإزالة الأقذار، والرجس المعنوي بطرد الكسل والفتور الحاصل عقب الجنابة، وبعث النشاط، لتكون النفس صافية مرتاحة في مناجاة ربها، ويريد أيضا أن يتم نعمته عليكم بالجمع بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، وتبيان طريق العبادة الأفضل، لتؤدوا الشكر الواجب عليكم، ولتداوموا شكر النعم التي أنعمها الله عليكم.
ثم ذكّر تعالى بالمناسبة بالنعم الكثيرة التي أنعم بها علينا، فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله بتوفيقكم للإسلام وتشريع هذا الدين العظيم، وإرساله إليكم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليكم من العهد والميثاق الذي عاهدكم به حين بايعتموه عند إسلامكم على السمع والطاعة في المنشط والمكره (المحبة والكره) والعسر واليسر، وعلى متابعته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه، وتلك هي بيعة العقبة وبيعة الرضوان وغيرهما.
واذكروا أيضا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذر على الإيمان بالله(6/111)
والرسول، إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي سمعنا النداء للإيمان وأطعنا الداعي وقبلنا دعوته والتزمنا بالعمل بها، كما قال تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد 57/ 8] .
وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل شيء وفي كل حال، ولا تنقضوا العهد والميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفيات الأمور الكامنة في الصدور المستقرة فيها استقرارا، ويعلم أيضا جليات الأمور، فلا يخفى على الله شيء أظهره الإنسان أو أضمره من الوفاء بالميثاق أو عدم الوفاء، وما تنطوي عليه نفسه من الإخلاص أو الرياء.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من آية الوضوء والتيمم ما يأتي:
1- الطهارة شرط لصحة الصلاة لأنه تعالى أوجب الطهارة بالماء عند إرادة الصلاة، وأوجب التيمم عند فقدان الماء، فدل على أن المأمور به أداء الصلاة مع الطهارة، وأن أداء الصلاة بدون الطهارة لا يحقق المطلوب أو أداء المأمور به.
والأذنان من الرأس عند الجمهور غير الشافعي، لكن يمسحان مع الرأس بماء واحد في رأي الثوري وأبي حنيفة، ويجدد لهما الماء في رأي مالك والشافعي وأحمد.
ومذهب الجمهور على أن الفرض في الرّجلين الغسل دون المسح، وهو الثابت من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، واللازم من قوله في غير حديث.
ودلت الآية وَأَرْجُلَكُمْ على قراءة الجر أو الخفض على مشروعية المسح على الرّجلين إذا كان عليهما خفان. وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من(6/112)
الصحابة وغيرهم،
وقد قال الحسن البصري: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يمسح على الخفين.
2- التيمم بدل عن الوضوء في الحدث الأصغر باتفاق. وأما كونه بدلا عن الغسل في الحدث الأكبر فهو محل خلاف بين السلف، فقال علي وابن عباس وأكثر الفقهاء: إنه بدل عنه أيضا، فيجوز التيمم لرفع الحدث الأكبر. وقال عمر وابن مسعود: إنه ليس بدلا عن الغسل، فلا يجوز له التيمم لرفع الحدث الأكبر.
وإذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت، لم يتيمم عند أكثر العلماء، لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم، فلا يتيمم.
وأجاز مالك التيمم في مثل ذلك لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء.
3- الطهارة لا تجب إلا عند الحدث لأنها تضمنت أن التيمم بدل عن الوضوء والغسل، وقد أوجبه الله على مريد الصلاة متى جاء من الغائط أو لامس النساء، ولم يجد الماء.
ودلت الأحاديث على أن الريح والمذي والودي ينقض الوضوء كالبول والغائط.
4- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة لأنه قال: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ولم يذكر الاستنجاء، وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، ومالك في رواية أشهب عنه. وقال ابن وهب عن مالك: تجب إزالتها في التذكر والنسيان. وهو قول الشافعي، والصحيح رواية ابن وهب
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين أخبر في صاحبي القبرين: أن عذاب أحدهما «لأنه لا يستبرئ من(6/113)
بوله»
ولا يعذب إلا على ترك واجب. وقال أبو حنيفة: تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي «1» - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال- قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه.
ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلّدين وهو أحد قولي مالك. وأجاز جماعة من الصحابة (علي وأبو مسعود والبراء وأنس وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث) المسح على الجوربين.
ويؤخذ من آية وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ما يأتي:
1- وجوب تذكر نعم الله التي يتمتع بها الإنسان.
2- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق التي يؤدي تنفيذها إلى خير الجماعة.
3- وجوب تقوى الله فيما أمر به ونهى عنه.
والمراد من الآية: هو العهد والميثاق الذي جرى للصحابة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، إذ قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جرى في ليلة العقبة وتحت الشجرة.
4- الإسلام دين اليسر والسماحة لأنه قائم بنص القرآن على مبدأ رفع الحرج.
__________
(1) ذكر الدميري ضربا من النقود يقال لها البغلية.(6/114)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين ووعيد الكافرين والتذكير بنعمة الله
[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
الإعراب:
اعْدِلُوا هُوَ.. هو: كناية عن العدل وهو المصدر، لدلالة اعْدِلُوا عليه، كقول الشاعر: إذا نهي السفيه جرى عليه، أي إلى السفيه، وقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ [النور 24/ 28] .
والتقوى: مؤنثة، والألف فيها للتأنيث كالألف في سكرى وعطشى.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ.. وعد: يتعدى إلى مفعولين، يجوز الاقتصار على أحدهما. وهاهنا لم يذكر إلا مفعولا واحدا وهو الَّذِينَ وحذف المفعول الآخر، ثم فسّره بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.(6/115)
البلاغة:
أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ: بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك، وكف الأيدي كناية عن المنع والحبس.
المفردات اللغوية:
قَوَّامِينَ قائمين به حق القيام لِلَّهِ بحقوقه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ بالعدل وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم ويكسبنكم شَنَآنُ بغض وعداوة قَوْمٍ أي الكفار اعْدِلُوا في العدو والولي هُوَ أي العدل خَبِيرٌ عالم بالأشياء علما دقيقا مضبوطا مؤيدا بالاختبار بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم به وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة الْجَحِيمِ النار العظيمة وهي دار العذاب إِذْ هَمَّ قَوْمٌ قريش أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يمدوها إليكم بالبطش والفتك بكم فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ حجبهم وعصمكم مما أرادوا بكم وَاتَّقُوا اللَّهَ تجنبوا عقابه وسخطه بترك معاصيه.
سبب النزول:
نزول الآية (8) :
قيل:
نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوحى الله إليه بذلك، ونجا من كيدهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه، وحاصرهم ست ليال، اشتد الأمر فيها عليهم، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكتفي منهم بالجلاء، وأن يكف عن دمائهم، وأن يكون لهم ما حملت الإبل، وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم، ويكثر من الفتك فيهم، فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام من اليهود ما اقترحوه.
وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية، كأنه تعالى أعاد النهي هنا ليخفف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك(6/116)
بالمشركين بأي نوع من أنواع الفتك.
نزول الآية (11) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ:
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة ويزيد بن أبي زياد، واللفظ له: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ومعه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير يستعينهم في عقل (دية) أصابه، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس فقال حيي بن أخطب لأصحابه:
لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرا أبدا، فجاءوا إلى رحى عظيمة، ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل، فأقامه من ثمة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآية. وأخرج نحوه عن عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمير بن قتادة ومجاهد وعبد الله بن كثير وأبي مالك.
وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ببطن نخل، في الغزوة السابعة (غزوة ذات الرقاع) ، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوا إليه الأعرابي- يعني الذي جاءه وهو نائم- في بعض المنازل، فأخذ سلاحه وقال: من يحول بيني وبينك؟ فقال له: الله، فشام السيف (أغمده) ولم يعاقبه.
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد، أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم، فأخذه فاستله، وجعل يهزه ويهم به، فيكبته الله تعالى، فقال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: لا، قال: أما تخافني والسيف في(6/117)
يدي؟ قال: لا، يمنعني الله منك، ثم أغمد السيف ورده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله الآية.
قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادّكار ما سبق.
المناسبة:
لما ذكّر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بما يوجب عليهم الانقياد لأوامره ونواهيه، طالبهم هنا بالانقياد لتكاليفه المتعلقة به أو بعباده.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، أي بالإخلاص لله في كل ما تعملون من أمر دينكم ودنياكم.
شهداء بالحق والعدل بلا محاباة ولا جور، سواء للمشهود له أو عليه، أي أدوا الشهادة بالعدل لأن العدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور في أمة انتشرت المفاسد فيما بينها، كما قال تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء 4/ 135] والشهادة: الإخبار بالواقعة وإظهار الحق أمام الحاكم ليحكم به.
ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في معاملتكم مع كل أحد، صديقا كان أو عدوا.
وعدلكم أقرب للتقوى من تركه، أي العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء المعاصي على الوجه العام. وقوله: أَقْرَبُ لِلتَّقْوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، أي ليس للمفاضلة بين شيئين، فهو ليس على بابه، كما في قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان 25/ 24] .(6/118)
واتقوا الله، أي اتخذوا وقاية من عذابه، في جميع أعمالكم، فإن الله خبير بما تعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم أوضح جزاء الفريقين: الفريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات التي يصلح بها أمر الناس في أنفسهم ومع غيرهم، ومن أهمها العدل، وجزاؤهم مغفرة لذنوبهم أي ستر لها، وأجر عظيم وهو الجنة ومضاعفة الثواب على الإيمان والعمل الصالح، فضلا من الله ورحمة.
والفريق المقابل الآخر وهو الذين كفروا بالله ورسله، سواء كفروا بالجميع أو بالبعض، وكذبوا بآيات الله الكونية التي أقامها الله في الأنفس والأكوان للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته، وآياته المنزلة على رسله فيما يبلغون عنه، وجزاؤهم أنهم أصحاب النار العظيمة الملازمون لها، لفساد أنفسهم وسوء أعمالهم، وهذا من عدل الله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا جور فيه.
ثم ذكّر الله تعالى المؤمنين بنعمة الله عليهم، بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، ورد كيد الأعداء عنهم، على كثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، بعد أن هموا وعزموا على البطش بكم، ولكن الله أيد رسوله ونصر دينه وأتم نوره ولو كره الكافرون.
وحادثة المحاربي (من قبيلة محارب) المتقدمة مثيرة للانتباه والاهتمام، وقد رويت بروايات كثيرة عدا ما ذكر في سبب النزول. وهناك رواية أخرى يحسن ذكرها،
روى الحاكم عن جابر قال: «قام على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك؟ قال: الله، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فجاء إلى(6/119)
قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس» .
وقد حدثت حادثة الأعرابي هذا في غزوة ذات الرقاع، واسم الرجل: غورث بن الحارث.
والتذكير بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى يستتبع التزام التقوى، لذا أمر تعالى بالتقوى وبالتوكل على الله، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي اتخذوا من تقوى الله عدة تنفعكم وتحميكم من عذاب الله، وتوكلوا على الله حق التوكل، فمن توكل على الله- بعد اتخاذ الأسباب- كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- وجوب القيام لله تعالى بإخلاص بكل التكاليف التي كلفنا بها.
2- نفاذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى، ونفاذ شهادته عليه لأنه تعالى أمر بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له، لما كان لأمره بالعدل فيه وجه.
3- إن كفر الكافر لا يمنع من العدل في معاملته، وفي الآية الآمرة بالعدل والتقوى دلالة أيضا على أن يقتصر في المحاربة على المستحق للقتال، وأن المثلة بالأعداء غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وآذونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيقاع الغم والحزن بهم.
4- وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم. فهذه الآية وآية النساء المتقدمة [4/ 135] تعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة وشهادة الزور.
5- وجوب العدل في معاملة الناس قاطبة، سواء كانوا أعداء أو أصدقاء لقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ.. الآية.(6/120)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
6- عرفان الجميل ووجوب تذكر نعمة الله على المؤمنين في رد كيد الأعداء عنهم وعن نبيهم عليه الصلاة والسلام.
7- وجوب تقوى الله بنحو عام في كل أحوال الإنسان، ووجوب التوكل على الله بعد اتخاذ الأسباب، لإحراز السعادة الدنيوية والأخروية.
8- جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات والأفعال الخيرة لأنفسهم وإخوانهم: هو المغفرة لذنوبهم والظفر بالخلود في الجنان. وجزاء الكافرين بالله ورسله المكذبين بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته: هو ملازمة نار الجحيم، وهي بئس المأوى وبئس المصير.
وكل من الجزاءين مؤكد الحصول، لافتتاحه بوعد الله، ووعد الله أقوى لأن الإله قادر على جميع المقدورات، عالم بجميع المعلومات، غني عن كل الحاجات.
9- آية أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار لأن هذا القول يفيد الحصر، والمصاحبة تقتضي الملازمة، كما يقال:
أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها.
نقض اليهود والنصارى الميثاق
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)(6/121)
الإعراب:
لَئِنْ لام قسم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (أصحاب القلوب) .
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ: خائِنَةٍ: إما صفة لموصوف محذوف، وتقديره:
على فرقة خائنة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. أو تكون خائِنَةٍ بمعنى خيانة لأن فاعلة تأتي مصدرا، كالخالصة بمعنى الإخلاص: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ وكالطاغية بمعنى الطغيان:
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ والكاذبة بمعنى الكذب: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي كذب، والعافية والعاقبة وغير ذلك.
إِلَّا قَلِيلًا استثناء من الهاء والميم في مِنْهُمْ.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ: من تتعلق بأخذنا، كما في قوله: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ معناه: أخذنا ميثاقا من بني إسرائيل اليهود.
البلاغة:
وَبَعَثْنا مِنْهُمُ فيه التفات عن الغيبة: «وبعث» إلى المتكلم، اعتناء بشأنه.(6/122)
المفردات اللغوية:
وَبَعَثْنا أقمنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من كل سبط نقيب يكون كفيلا على قومه بالوفاء بالعهد توثقة عليهم، والنقيب: كبير القوم الذي يعنى بشؤونهم وهو الضامن إِنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصرة وَعَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بالإنفاق في سبيله ببذل المال فوق الواجب، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس بَعْدَ ذلِكَ بعد الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأ طريق الحق، والسواء في الأصل: الوسط، وسَواءَ السَّبِيلِ: وسطه.
لَعَنَّاهُمْ طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا قاسِيَةً شديدة جامدة لا تلين لقبول الحق والخير والإيمان يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ التحريف: إمالة الشيء عن موضعه إلى جانب آخر، فاليهود يحرفون الكلام الذي في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره عن مواضعه التي وضعه الله عليها، أي يبدلونه. وَنَسُوا تركوا حَظًّا نصيبا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أمروا به في التوراة من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتطلع: تظهر عَلى خائِنَةٍ أي خيانة مِنْهُمْ بنقض العهد وغيره إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ممن أسلم. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى:
متعلق بقوله: أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أي أخذنا الميثاق من النصارى، كما أخذناه من بني إسرائيل اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في الإنجيل من الإيمان وغيره، ونقضوا الميثاق فَأَغْرَيْنا أوقعنا بينهم العداوة والبغضاء بتفرقهم واختلاف أهوائهم، فكل فرقة تكفّر الأخرى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه.
المناسبة:
موضوع الآيات كالتي قبلها تذكير بالمواثيق، فبعد أن ذكّرنا الله بميثاقه على السمع والطاعة للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمرنا بالوفاء بالعهد، من إحلال الحلال وتحريم الحرام، وذكّرنا بنعمه الداعية للوفاء، بيّن لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، وعقابهم على ذلك في الدنيا والآخرة، ليتعظ المسلمون بمن تقدمهم من الأمم.
التفسير والبيان:
لقد أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن(6/123)
بالتوراة التي فيها شريعتهم التي اختارها لهم، وليقبلنها بجد ونشاط: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة 2/ 63 و93] ولا يزال هذا العهد في التوراة الحالية، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، يتولون أمور الأسباط (كالقبائل في العرب) ويرعونهم، والنقباء: زعماء أو عرفاء أسباطهم الاثني عشر، والنقيب: كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقّب عنها، وعن مصالحهم فيها، وبعثهم: إرسالهم لمقاتلة الجبارين في بيت المقدس.
وتاريخ ذلك كما روى ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس، التي كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني جعلتها لكم وطنا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم، ولما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، أمره الله أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، ويأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به ففعل، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يستطلعون الأخبار، فرأوا أجساما قوية، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك، فنقضوا العهد إلا نقيبين، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ «1» [المائدة 5/ 23] .
وَقالَ اللَّهُ: إِنِّي مَعَكُمْ أي وقال الله لموسى الذي بلغ الوحي إلى بني إسرائيل: إني معكم، أي ناصركم وحافظكم ومعينكم، ومطلع عليكم، ومجازيكم على أعمالكم.
وعاهدهم الله بالعهد الإلهي الشامل ومضمونه: لئن أقمتم الصلاة، وأديتموها على الوجه الأكمل، وأعطيتم زكاة أموالكم التي تزكو بها نفوسكم وتطهر، وآمنتم
__________
(1) التفسير الكبير للرازي: 11/ 184، تفسير ابن كثير: 2/ 32 [.....](6/124)
برسلي التي سترسل لكم بعد موسى، أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي، مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وعزرتموهم: أي نصرتموهم وآزرتموهم على الحق ومنعتموهم من الأعداء، وأقرضتم الله قرضا حسنا أي أنفقتم في سبيله وابتغاء مرضاته، زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة، لئن فعلتم كل هذا، لأكفرن عنكم سيئاتكم، أي أستر ذنوبكم وأمحوها ولا أؤاخذكم بها، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي أدفع عنكم المحذور واحصل لكم المقصود.
فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به، وخالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لكم، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
ثم بيّن تعالى أنهم نقضوا هذا العهد، فجازاهم على فعلهم فقال: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله، وأنزلنا عليهم المقت والغضب والسخط، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة، لا تقبل الحق، ولا تتعظ بموعظة: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة 2/ 7] .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي فسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وبدلوه وغيروه أي أن التحريف نوعان:
تحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص.
وتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.(6/125)
وقد أخبر الله عن تحريفهم وتأويلاتهم في مواضع كثيرة منها:
وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء 4/ 46] .
ومن المعروف تاريخيا وباعتراف اليهود والنصارى أنفسهم: أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكتبها وأمر بحفظها وكانت نسخة واحدة، قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبي البابليين لهم وإغارتهم عليهم، ولم يكن عندهم غيرها، ولم يحفظوها، بسبب إحراق البابليين هيكلهم وتخريب عاصمتهم وسبي أحيائهم.
أما الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى التي فيها أخبار عن موته وحياته، وأنه لم يقم بعده أحد مثله، فإنها كتبت بعده بزمن طويل، وبعد بضعة قرون، كتبها عزرا الكاهن بما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل، وبعد أن أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. وكذلك الإنجيل كتب باعتراف النصارى بعد عيسى بحوالي قرن فأكثر.
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي وتركوا العمل به، رغبة عنه، ونسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: نسوا الكتاب أي طائفة من أصل الكتاب، وتركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الحسن البصري: تركوا عرا دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها، وقال غيره: تركوا العمل، فصاروا إلى حال رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة.
وهذا كله لتظل معجزة القرآن الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم باقية دائمة، فقد أخبر عن ذلك بعد عدة قرون من موت موسى عليه السلام.
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ يعني مكرهم وغدرهم وخيانتهم لك(6/126)
ولأصحابك، قال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والخائنة: الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة. وقال بعضهم:
معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر، كقولهم: هو راوية للشعر، ورجل علامة «1» .
قال الطبري: والصواب من القول أن الله عنى بهذه الآية يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إذ أتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعينهم في دية العامريين، فأطلعه الله على ما قد هموا به» .
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي ما تزال تطلع على خياناتهم المتكررة الصادرة منهم إلا قليلا منهم وهو من آمن وحسن إيمانه، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا، فلا تخف منهم خيانة.
فاعف عما بدر منهم، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان، إن الله يحب المحسنين الذين أحسنوا العفو والصفح عن المسيء، ويثيبهم على إحسانهم، وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: «ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه» وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم «3» .
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عامل طوائف اليهود الثلاث حول المدينة (وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة) أحسن معاملة في بدء الأمر وأثنائه ونهايته، ففي البداية بعد الهجرة إلى المدينة عقد معهم صلحا معروفا هو وثيقة المدينة، ووادعهم وعاهدهم على المسالمة وألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوا له، وأنهم آمنون
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 101
(2) المرجع والمكان السابق.
(3) تفسير ابن كثير: 2/ 33(6/127)
على أنفسهم وأموالهم، ويتمتعون بالحرية الكاملة. وفي أثناء الحياة القائمة على التعايش السلمي نقضوا العهد وخانوا النبي وانضموا إلى معسكر قريش واشتركوا مع العرب في حرب المسلمين، فاكتفى النبي صلّى الله عليه وسلّم بطردهم من جواره. وفي نهاية الأمر لم يعاقب النبي اليهود على خيانتهم وغدرهم، ولكنه أوصى بإجلائهم من جزيرة العرب ومنها الحجاز.
ثم ذكر الله تعالى ميثاقه مع النصارى، فقال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى.. أي وكذلك أخذنا العهد والميثاق على النصارى على متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى الناس، ففعلوا كما فعل اليهود، بدلوا دينهم، وخالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، لهذا قال تعالى:
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَأَغْرَيْنا.. أي تركوا العمل بأصول دينهم رغبة عنه، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، فإن طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم، لا يزالون متباغضين متعادين، يكفّر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا. وسينبئهم الله يوم القيامة بما صنعوا في الدنيا، وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى ما نسبوه إلى الرب عز وجل من اتخاذ الصاحبة والولد والشريك، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون حتما في الآخرة.
والمعروف تاريخيا حتى عند النصارى أنفسهم كما أوضحت أن المسيح لم يكتب مواعظه وتعاليمه، ثم توفي، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب، وقد اضطهد اليهود أتباعه وشردوهم وقتلوا أكثرهم، وعلى التخصيص الحواريين الذين كانوا صيادين. وعند ما دخل قسطنطين الملك في الديانة المسيحية، وهدأت الحملة ضد النصارى، أخذوا يكتبون الأناجيل، وهي كثيرة ومختلفة ومتباينة، ولم تظهر(6/128)
الأناجيل الأربعة المتداولة إلى الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عند ما صار للنصارى دولة بتنصر الملك قسطنطين الروماني، والذي من عهده دخلت النصرانية في عهد جديد من الوثنية والفلسفة الإغريقية.
هذه الأناجيل المسماة (العهد الجديد) مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ وكونها متناقضة متعارضة، أقيم فيها الدين المسيحي على أساس كتب اليهود التي تسمى (العهد العتيق أو القديم) التي لا أصل ثابتا لها كما عرف.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- الإخبار عن نقض اليهود المواثيق، وأن جزاء النقض اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى.
2- الاعلام بأن اليهود يحرفون كلام الله المنزل في التوراة، إما تحريف ألفاظ وإما تحريف معان، كما أوضحت.
3- إيثار العفو والصفح على العقاب والمحاربة والقتل والإيذاء.
4- اتخاذ النقباء دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى معرفته من حاجاته الدينية والدنيوية. وتأيد ذلك بالسنة النبوية في الإسلام
قال صلّى الله عليه وسلّم لهوازن: «ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» .
5- ودل اتخاذ النقباء أيضا على جواز اتخاذ الجاسوس.
6- إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالله والرسل والإنفاق في سبيل الله سبب لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب ودخول الجنة. فمن انحرف عن ذلك(6/129)
فقد أخطأ طريق الحق والخير، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
7- الإخبار عن النصارى أيضا أنهم نقضوا العهد والميثاق، وأهملوا ما أمرهم به كتابهم ودينهم من أوامر، وما نهاهم عنه من نواه، ولم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بشر به الإنجيل والتوراة من قبله، وقد هددهم الله وأوعدهم بالجزاء السيء على ما صنعوا. والخلاصة: إن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله.
ويحسن في النهاية إيراد التساؤلات الثلاثة التي أوردها الرازي في الآية وهي «1» :
السؤال الأول- لم أخّر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليه؟
الجواب- أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل، فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.
والسؤال الثاني- ما معنى التعزير؟
الجواب- قال الزجاج: العزر في اللغة: الرد، وتأويل عزرت فلانا، أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه، ولهذا قال الأكثرون: معنى قوله وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم وذلك لأن من نصر إنسانا فقد ردّ عنه أعداءه.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/ 185 وما بعدها.(6/130)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
ولو كان التعزير هو التوقير، لكان قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح 48/ 9] تكرارا.
والسؤال الثالث- قوله: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دخل تحت إيتاء الزكاة، فما الفائدة في الإعادة؟
الجواب- المراد: بإيتاء الزكاة الواجبات، وبهذا الإقراض: الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها.
مقاصد القرآن
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
الإعراب:
يُبَيِّنُ لَكُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من رَسُولُنا. وتقديره: قد جاءكم رسولنا مبينا لكم.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لكتاب، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من الْكِتابِ لأنه قد وصف بمبين.
البلاغة:
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فيه استعارة، استعار الظلمات للكفر والنور للإيمان.(6/131)
المفردات اللغوية:
تُخْفُونَ تكتمون مِنَ الْكِتابِ التوراة والإنجيل، كإخفاء آية الرجم وصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من ذلك، فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة إلا افتضاحكم.
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ قرآن بيّن ظاهر يَهْدِي بِهِ أي بالكتاب سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة الظُّلُماتِ الكفر النُّورِ الإيمان بِإِذْنِهِ بإرادته صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: دين الإسلام.
سبب النزول:
يا أَهْلَ الْكِتابِ..:
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور، والمواثيق التي أخذت عليهم، حتى أخذه أفكل: رعدة من الخوف، فقال: لما كثر فينا جلدنا مائة، وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» .
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن اليهود والنصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وهو من معجزات القرآن المتعددة في نواحيه.
التفسير والبيان:
يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، ووحد الكتاب لأنه خرج مخرج الجنس، قد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ووصف الرسول هنا بصفتين:
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 103- 104(6/132)
الأولى- أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون، قال ابن عباس: «أخفوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأخفوا أمر الرجم، وعفا عن كثير مما أخفوه، فلم يفضحهم ببيانه» . ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بيّن ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم، كان ذلك إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا.
الصفة الثانية- ويعفو عن كثير، أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه أنتم، وإنما لم.
يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين. وهذا يدعوهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم.
فالصفة الأولى: أنه يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه، والصفة الثانية: أنه يسكت عن كثير مما غيروه، ولا فائدة في بيانه. روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فكان الرجم مما أخفوه. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه أي الشيخان: البخاري ومسلم.
ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم بأنه كتاب واضح، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نور، أو الإسلام نور، فالمراد بالنور محمد، وبالكتاب القرآن، وقيل: إن المراد بالنور الإسلام، وبالكتاب القرآن. والقرآن بيّن في نفسه، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.
ثم قال تعالى فيما معناه: يهدي بالكتاب من أراد اتباع الدين الذي يرضي الله تعالى، يهديهم طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، وينجيهم من المهالك بإذنه، أي بتوفيقه، فيخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ويرشدهم إلى أوضح الطرق، وهو الدين الحق لأن الحق واحد لذاته، وطريقه(6/133)
مستقيم واحد، أما الباطل فله شعاب كثيرة وكلها معوجة.
أي أنه تعالى ذكر للقرآن ثلاث فوائد أو مقاصد:
1- إن المتبع لما يرضي الله يهديه إلى الطريق المؤدي إلى النجاة والسلامة من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة باتباع الإسلام لأنه دين الحق والعدل والإخلاص والمساواة.
2- إنه يخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والشرك والوثنية والوهم والخرافة إلى نور التوحيد الخالص.
3- إنه يهدي إلى الطريق الموصل إلى الهدف الصحيح من الدين، وإلى خيري الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم نور كشف زيف أهل الأديان الأخرى، فهو يبين لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ما يخفونه من كتبهم، من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها. وهو يعفو عن كثير أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. فهو مترفع عما لا فائدة فيه.
والقرآن الكريم يبين الأحكام وما رضيه الله من طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمّنة من كل مخافة، وهي الجنة، ويخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات بتوفيقه وإرادته، ويرشد إلى الدين الحق.(6/134)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
الرد على معتقدات اليهود والنصارى
[سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 19]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
الإعراب:
أَنْ تَقُولُوا: أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع نصب على أنه مفعول لأجله.
البلاغة:
يَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ فيه طباق.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ حيث جعلوه إلها، وهم اليعقوبية:
فرقة من النصارى، وساد مذهبهم بعدئذ بين جميع المسيحيين فَمَنْ يَمْلِكُ أي يدفع ويمنع مِنَ اللَّهِ من عذاب الله شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي(6/135)
لا أحد يملك ذلك، ولو كان المسيح إلها لقدر عليه. ويهلك: يميت ويعدم فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ سكون وهدوء من الرسل، أي انقطاع الوحي وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن.
سبب نزول
الآية (18) :
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى..:
روى ابن إسحاق وابن جرير الطبري وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن أبيّ، ونعمان بن قصي، وبحريّ بن عمرو، وشاس بن عدي من اليهود، فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إلى آخر الآية «1» .
سبب نزول الآية (19) :
يا أَهْلَ الْكِتابِ:
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود إلى الإسلام، فرغّبهم فيه وحذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فو الله لتعلمن أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهودا: إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله الآية «2» .
المناسبة:
بعد أن أقام الله الحجة على أهل الكتاب عامة، وأوضح أنهم مقصرون
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 105، تفسير القرطبي: 6/ 120
(2) الطبري، المرجع السابق: 6/ 107(6/136)
معرضون عن الحق بعدم إيمانهم برسالة الإسلام، بيّن ما كفر به النصارى بنحو خاص.
التفسير والبيان:
كانت فرقة اليعقوبية من النصارى هي القائلة بألوهية المسيح عليه السلام، ثم ساد مذهبهم بين طوائف المسيحيين الثلاث المشهورة وهي الكاثوليك والأرثوذكس، والبروتستانت الذين نشأ مذهبهم منذ أربعة قرون على يد الراهب المصلح (مارتن لوثر) الذي خلص المسيحيين من كثير من التقاليد والخرافات، وانتشر مذهبه في أمريكا وإنجلترا وألمانيا، ولكنه ظل قائلا بالتثليث ويعد الموحد غير مسيحي، ولكن يؤول الأمر في النهاية إلى وصف المسيح بأنه الرب والإله، كما هو مكتوب على أول صفحة في الإنجيل: (كتاب العهد الجديد لربنا ومخلصنا يسوع المسيح) .
فجميع فرق النصارى اليوم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم وإن المسيح هو الله، وعمدتهم عبارة في إنجيل يوحنا وهي: (في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت عند الله، والله هو الكلمة) والكلمة في تفسيرهم هي المسيح.
وهذا ما وصفهم به القرآن بأنهم يؤلهون المسيح، لذا فقد كفر القائلون بأن الله هو المسيح، ورد الله هذا الزعم الباطل، فقال: يا أيها النبي قل لهؤلاء النصارى: من يقدر على رفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعا، إن أراد أن يهلكهم؟ لا أحد يقدر على هذا، فالله قادر على إهلاك الناس قاطبة، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه، ولا سلطان لأحد فوق مشيئته وإرادته. وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك، فكيف يكون هو الله؟! الله في الحقيقة هو صاحب الملك المطلق والتصرف الشامل في السموات(6/137)
والأرض وما بينهما من عالمي الإنس والجن، وجميع الموجودات ملكه وخلقه.
والله هو الذي يخلق الأشياء من العدم حسبما يشاء، وعلى وفق حكمته وإرادته، فقد يخلق من تراب من غير أب ولا أم مثل خلق أبينا آدم عليه السلام وخلق أصول أنواع الحيوان، وقد يخلق من أب فقط دون أم كخلق حواء، وقد يخلق من أم بلا أب مثل خلق عيسى عليه السلام. وهذا رد على شبهة النصارى الذين زعموا أن المسيح بشر وإله، له طبيعة بشرية وطبيعة ناسوتية إلهية وهي الغالبة، لكونه خلق على نحو غير معتاد من أم فقط، ولأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، وصدرت عنه أعمال عجيبة لا تصدر من بشر. وهي في الحقيقة معجزات خارقة للعادة يجريها الله على يد الأنبياء قاطبة، وهي تحدث بإذن الله ومحض إرادته، لتكون دليلا مؤيدا على صدق النبوات، وصدور تلك المزايا من عيسى وغيره لا تجعل المخلوق خالقا لأنها بمشيئة الخالق.
فقد أيد الله موسى عليه السلام بالعصا واليد البيضاء لأن السحر كان سائدا في عصره، وأيد الله عيسى عليه السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لأن الطب كان متقدما في زمنه، وأيد الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمعجزات كثيرة كانشقاق القمر، وكانت معجزته الخالدة القرآن في أرقى مستوى من البلاغة والفصاحة لأنه بعث بين العرب الذين امتازوا بفصاحة القول نثرا وخطابة وشعرا، فليس إحياء عيسى للموتى- وكان ذلك في حوادث فردية معدودة- سببا للتأليه، فقد أقر بأنه عبد الله ورسوله، وأنه يحيي الموتى بإذن الله، أي بتوفيقه وإرادته وحكمته.
والله هو القادر على كل شيء، وهو خالق كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم رد الله تعالى على ادعاء اليهود والنصارى القائلين: نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن منتسبون إلى أنبيائه، وهم بنوه، وله بهم عناية، وهو يحبنا، ونقلوا عن(6/138)
كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: (أنت ابني بكري) وقال عيسى في الإنجيل للنصارى: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) يعني ربي وربكم، وجاء في إنجيل متّى في وعظ المسيح على الجبل واصفا الملائكة والمؤمنين الصالحين: (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية: (لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله) فابن الله في كتبهم بمعنى حبيب الله، وحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، ورد عليهم عقلاؤهم الذين أسلموا بأن هذا يطلق على التشريف والإكرام.
ومن المعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما أدعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لدى الله، وحظوتهم عنده، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
فرد الله عليهم عن طريق نبيه: قل لهم: إذا كان الأمر كما زعمتم، فلم يعذبكم الله بذنوبكم في الدنيا، كتخريب الوثنيين مسجدكم الأكبر وبلدكم بيت المقدس، وإزالة ملككم من الأرض، وفي الآخرة التي أعد لكم فيها نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذن أبناء الله ولا أحباؤه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق، ولا يحابي أحدا من عباده، وإنما يغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة وهم أهل الطاعة، ويعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، وهم العصاة، وهو فعال لما يريد، لا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فهذا لا ينفعكم، وإنما الذي ينفعكم الإيمان الصحيح، ومنه الإيمان برسالة الإسلام، وصالح الأعمال.
والله المالك المطلق والمتصرف المطلق في السموات والأرض وما بينهما، وجميع المخلوقات عبيد له، وهم ملكه وتحت قهره وسلطانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ(6/139)
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً
[مريم 19/ 93] وإنما قال: وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات والأرض، ولم يقل: بينهن، إشارة إلى الصنفين والنوعين. وإليه المصير أي إلى الله تعالى المرجع والمآب، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور، وهذا إنذار لهم بأنه سيعذبهم في الآخرة على كفرهم ودعاويهم الباطلة.
وقد كرر تعالى جملة: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للرد على كل من النصارى الذين ادعوا ألوهية المسيح، والله مالكه وقادر على إهلاكه، وعلى اليهود والنصارى أيضا، لبيان قدرته على المغفرة لمن يشاء وتعذيب من يشاء وإبطال دعاويهم الزلفى والحظوة عند الله، فإن ميزان القربى من الله هو الإيمان والعمل الصالح، لا الوراثة ولا الامتياز العنصري أو الجنسي، فليس صحيحا أن اليهود شعب الله المختار، وليس لشعب مزية على آخر.
ثم خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول، بل هو المصدق لما معهم والمعقب لجميعهم، وهو الذي بشّرتم به في كتبكم، وأخبركم به أنبياؤكم، جاءكم يبين لكم على فترة من الرسل، أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحي، وبعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، يبين لكم ما أنتم بحاجة إليه من أحكام دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها الوثنية، وأخلاق أفسدها الإفراط في المادية، وعبادات أفرغتم محتواها وصارت مجرد طقوس لا معنى لها ولا روح فيها، ويبين لكم أيضا ما أشكل عليكم من أمر دينكم. ومن المعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة، وبين ميلاد عيسى والنبي صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة وتسع وستون سنة.(6/140)
أَنْ تَقُولُوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أي لئلا تحتجوا وتقولوا، يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه: ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير، يبشر من أطاعه بالجنة وهو من آمن بالله وعمل بما أمر به وانتهى عما نهى عنه. وينذر من عصاه وخالف أمر الله بالنار، يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال الطبري: معناه: إني قادر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني «1» . ومن دلائل قدرة الله نصر نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته في الدنيا، وعلو منزلته في الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآية الأولى: لَقَدْ كَفَرَ ... كفر النصارى بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم، أي يدينون له. وأعلمهم الله أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه، ولم يتمكن من دفع الموت عنها، فلو أهلكه هو أيضا، فمن يدفعه عن ذلك أو يرده؟! والمسيح وأمه مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للألوهية، وإنما الله هو مالك السموات والأرض وما بينهما من النوعين والصنفين، يخلق ما يشاء كخلق عيسى من أم بلا أب آية لعباده، والله قادر على كل شيء.
وأبطلت الآية الثانية: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى دعاوى اليهود والنصارى معزتهم وحظوتهم عند الله، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فإن صح ما يزعمون فلم أنزل العذاب بهم في الدنيا من هزيمة وتخريب وتدمير ديارهم وتشريدهم، وأعد لهم عذاب جهنم لكفرهم ومعاصيهم، فليسوا إذن أبناء الله وأحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرّون بعذاب العصاة منكم،
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 108(6/141)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
فذلك دليل على كذبكم. وإنما هم في الحقيقة كسائر البشر يحاسبهم على الطاعة والمعصية.
وأوضحت الآية الثالثة: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تبيان أمر النجاة والسعادة الأبدية، وإناطتها بالإيمان والعمل الصالح، فالجنة لمن أطاع الله ورسوله، والنار لمن عصى الله ورسوله، وفي تقرير أحكام الحياة وقوانين المجتمع لئلا أو كراهية أن تقولوا: ما جاءنا من مبشر ولا منذر.
وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة وتسع وستون سنة.
تذكير موسى قومه بنعمة الله ومطالبتهم بدخول الأرض المقدسة وموقفهم الرافض
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)(6/142)
الإعراب:
أَنْبِياءَ ممنوع من الصرف لأن فيه ألف التأنيث. خاسِرِينَ منصوب على الحال من واو فَتَنْقَلِبُوا وهو العامل في الحال. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ.. مِنَ الَّذِينَ: في موضع رفع صفة رَجُلانِ وكذلك قوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جملة فعلية في موضع رفع صفة رَجُلانِ.
أَبَداً ما دامُوا فِيها أبدا: منصوب ظرف زمان. وما في ما دامُوا ظرفية زمانية مصدرية، وتقديره: لن ندخلها أبدا مدة دوامهم فيها. وما دامُوا: في موضع نصب على البدل من قوله تعالى: أَبَداً وهو بدل بعض من كل.
إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي: أَخِي إما منصوب عطفا على نَفْسِي، أو عطفا على اسم رَجُلانِ ويحذف خبره لدلالة الأول عليه وتقديره: وإن أخي لا يملك إلا نفسه وإما مرفوع بالابتداء عطفا على موضع (إن وما عملت فيه) ويضمر الخبر كالأول أو معطوف على ضمير أَمْلِكُ وحسن العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل بين المتعاطفين. أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف منصوب، ويتعلق بيتيهون فيكون التحريم مؤبدا، أو يتعلق بمحرّمة فلا يكون التحريم مؤبدا، وجملة يَتِيهُونَ حالية من الهاء والميم في عَلَيْهِمْ.
البلاغة:
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً تشبيه بليغ، أي كالملوك في رغد العيش والطمأنينة، فحذف أداة الشبه ووجه الشبه.
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جملة اعتراضية لبيان مدى فضل الله على الصالحين.
المفردات اللغوية:
جَعَلَ فِيكُمْ منكم. مُلُوكاً أحرارا تملكون أنفسكم وأموالكم وأهلكم بعد أن كنتم في أيدي القبط، وصرتم أصحاب خدم وحشم.(6/143)
ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك. الْمُقَدَّسَةَ المطهرة. كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أمركم بدخولها وهي الشام. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ تتراجعوا وتنهزموا خوف العدو. خاسِرِينَ في سعيكم. جَبَّارِينَ جمع جبار: وهو الرجل الطويل القوي المتكبر.
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ قال لهم رجلان يخافون مخالفة أمر الله، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام لكشف أحوال الجبابرة. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالعصمة، فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى، بخلاف بقية النقباء، فأفشوا، فجبن القوم.
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب القرية، ولا تخشوهم، فإنهم أجساد بلا قلوب. فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قالا ذلك تيقنا بنصر الله وإنجاز وعده. قاعِدُونَ عن القتال. قالَ أي موسى حينئذ. رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وإلا أَخِي ولا أملك غيرهما، فأجبرهم على الطاعة.
فَافْرُقْ فافصل. فَإِنَّها أي الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أن يدخلوها.
يَتِيهُونَ يتحيرون. فَلا تَأْسَ تحزن.
المناسبة:
الواو في قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ واو عطف، وهو متصل بقوله:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى عليه السلام نعم الله تعالى، وأمرهم بمحاربة الجبارين، فخالفوا في القول في الميثاق، وخالفوه في محاربة الجبارين.
أي بعد أن أقام الله الدليل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وناقش أهل الكتاب في ذلك، ذكر موقفين من مواقف اليهود يدلان على عنادهم، أولهما: جحود نعم الله الكثيرة عليهم، وثانيهما: عصيانهم أوامر موسى بدخول أرض فلسطين ومحاربة الجبارين، ليكون ذلك مواساة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتعريفا له أن صدودهم عن الحق خلق متأصل فيهم.(6/144)
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن كليمه موسى بن عمران عليه السلام حينما ذكّر قومه بنعم الله عليهم في جمعه لهم بين خيري الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريق الاستقامة. فقال: واذكر يا محمد لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك حين قال موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه: تذكروا نعما ثلاثا:
1- تذكروا نعمة الله عليكم بتتابع الأنبياء فيكم من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، حتى ختموا بعيسى عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم النبيين من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وبنو إسرائيل من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بالتوراة.
ومن المعلوم: أن النبوة: هي الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل. والخلاصة: أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء.
2- وجعلكم ملوكا، أي أحرارا بعد أن كنتم مملوكين في أيدي القبط، فأنقذكم الله، فسمى إنقاذكم ملكا. وقيل: الملك: هو من له مسكن وخادم، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. والخلاصة:
أنهم أحرار عندهم ما يكفيهم من زوجة وخادم ودار، بدليل
ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا»
وروى أبو داود أيضا عن زيد بن أسلم: «من كان له بيت وخادم فهو ملك»
وعرف اليوم يؤيد هذا، فيقال للمخدوم المالك مسكنه الهانئ في معيشته: «ملك زمانه» .
3- وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين: عالمي زمانهم، من فلق البحر،(6/145)
وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الأمور العظام.
ثم أمرهم موسى بدخول فلسطين ومجاهدة الأعداء فقال لهم: يا قوم الأرض المقدسة (الطاهرة) : أرض بيت المقدس، أو فلسطين، للسكنى لا للملك لأن بيت المقدس مقر الأنبياء ومسكن المؤمنين الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قسمها لكم وسماها، فقد وعد الله إبراهيم بحق السكنى في تلك البلاد المقدسة، لا أنها ملك لهم لأن هذا مخالف للواقع، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح لأن الله قال بعدئذ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: كانت هبة، ثم حرمها عليهم بشؤمهم وعصيانهم. ولأن قوله:
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.
وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي لا تتراجعوا وتدبروا من خوف الجبابرة، ولا تنكلوا عن الجهاد، فتصبحوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.
وقيل: المراد لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وإلى الوثنية والفساد في الأرض.
قال النقباء الذين أرسلهم موسى عليه السلام للتجسس في الأرض المقدسة:
إن فيها قوما جبارين أي طوالا عتاة يجبرون الناس على ما أرادوا. وكانوا من الكنعانيين، وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها، فإن خرجوا منها فإنا داخلون فيها. وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف 7/ 40] .(6/146)
وهذا دليل آخر على امتناعهم عن الدخول، وعدم أحقيتهم بشيء من تراب فلسطين الطاهرة.
قال رجلان من النقباء الذين يخافون الله تعالى- وقد أنعم الله عليهما بالهداية والإيمان والطاعة والتوفيق لما يرضيه، والثقة بعون الله تعالى، والاعتماد على نصرة الله، وهما الرجلان الصالحان من قوم موسى: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا- قالا: ادخلوا عليهم باب المدينة، فإذا فعلتم ذلك نصركم الله، وأيدكم بجنده، وكنتم الغالبين.
وإن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم، والتوكل على الله صفة المؤمنين.
ومع هذا كرر اليهود الرفض وأصروا على العناد والتمرد، ولم تنفعهم عظة الرجلين الصالحين شيئا، وقالوا يا موسى: لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، وأبدا:
تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، وقولهم: ما دامُوا فِيها بيان للأبد، فاذهب أنت وربك الذي أمرك بالجهاد والخروج من مصر والإتيان إلى هنا، فقاتلا الجبارين، إنا هاهنا قاعدون عن الجهاد منتظرون.
وهذا قول في غاية التنكر لموسى عليه السلام، والبعد عن الأدب معه.
فقال موسى غاضبا حزينا باثا شكواه إلى الله وحسرته، معتذرا من عصيان قومه: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي لا يطيعني أحد منهم، فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون. وفي هذا إيماء إلى أنه لم يكن على ثقة من ثبات يوشع وكالب حال وجود العدد القليل، فاقض وافصل بيني وبين هؤلاء الفاسقين الخارجين عن طاعتك، فتحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون.(6/147)
وهذا في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ على وجه التسبيب.
ويصح أن يكون المعنى: فباعد بيننا وبينهم، وخلصنا من صحبتهم كقوله تعالى: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم 66/ 11] .
قال الله تعالى لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد:
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي إن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها قدر مدة أربعين سنة، فتاهوا في صحراء مقفرة أي ساروا فيها متحيرين لا يهتدون طريقا، والتيه: المفازة أو البيداء أو البرية التي يتاه فيها، لا يدرون أين مصيرهم. روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ (وقال ابن عباس: وهي تسعة فراسخ) يسيرون في كل يوم جادّين، حتى إذا سئموا وأمسوا، إذا هم في الموضع الذي ابتدؤوا منه، يسيرون ليلا، وقد يسيرون نهارا، وكان يطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم، ويظللهم الغمام من حر الشمس نهارا، وينزل عليهم المن والسلوى، حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين.
قيل: وكانوا ستمائة ألف، ومات هارون في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة، وكان رحمة لهما وعذابا لأولئك، وسأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فأدناه.
ونبئ يوشع بعد سن الأربعين، وأمر بقتال الجبارين، فسار بمن بقي، وقاتلهم، وكان يوم الجمعة، ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم.
روى أحمد في مسنده حديثا: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع، ليالي سار إلى بيت المقدس» .
وتتمة كلام الله تسلية لموسى عنهم: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي فلا تحزن على القوم المتمردين فيما حكمت عليهم به، فإنهم مستحقون لذلك.(6/148)
وتساءل الزمخشري وغيره: كيف يوفق بين قوله فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وبين قوله الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وأجابوا بوجهين:
أحدهما- أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد قيل:
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ.
والثاني- أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون، كان ما كتب «1» .
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت هذه القصة تقريع اليهود وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمر به كل منهما من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مقاتلة الأعداء، مع أن معهم موسى كليم الله يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، بالرغم مما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من إغراقه مع جنوده في اليم، وهم ينظرون، لتقر به أعينهم.
وإذا كان أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه، فكذلك أحفادهم تمردوا على محمد عليه السلام، وهو تسلية له.
وهذا يدل على قبح طبائع اليهود وإمعانهم في مخالفة أوامر الله، بالرغم من تذكير موسى لهم بنعم الله الكثيرة عليهم وأهمها ثلاث:
1- بعث كثير من الأنبياء في بني إسرائيل.
2- وجعلهم ملوكا: أي يملكون أمرهم لا يغلبهم فيه غالب، بعد أن كانوا مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذهم الله وأغرق عدوهم.
__________
(1) الكشاف: 1/ 454 وما بعدها، التفسير الكبير للرازي: 11/ 197- 199(6/149)
3- وإعطاؤهم ما لم يعط أحد من عالمي زمانهم.
وقد أمرهم موسى بمجاهدة الأعداء من الكنعانيين الجبارين في فلسطين، وبدخول الأرض المقدسة (المطهرة أو المباركة) فتمردوا وأبوا الدخول، بالرغم من تبشير الرجلين الصالحين من النقباء (يوشع وكالب) لهم بالنصر والغلبة والفتح، وقالا: ولا يهولنكم عظم أجسامهم، فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة.
وتمادوا بعناد وإفراط على الله، فرفضوا الدخول إلى الأرض المقدسة وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وهذا منهم كفر لأنهم شكّوا في رسالة موسى.
فدعا موسى عليه السلام عليهم، وطلب فصل القضاء بينه وبينهم.
فاستجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة، ومات هارون وموسى في التيه.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: «أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» قال: فرد الله إليه عينه وقال: «ارجع إليه، فقل له:
يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة» قال: «أي رب ثم مه» قال: «ثم الموت» قال: «فالآن» فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلو كنت ثمّ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» . وفعل موسى مع الملك لأنه لم يعرفه، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه، يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقأها.
وكان العقاب الإلهي لبني إسرائيل المتمردين عن الطاعة هو تصفيتهم وتجديد بنية الشعب، وظهور جيل جديد من الشباب يتحملون المسؤولية، وكانوا أهلا للجهاد ومقاومة الجبارين، وجعلهم أئمة وارثين.(6/150)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قصة قابيل وهابيل وأول جريمة قتل في الدنيا
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
الإعراب:
إِنِّي أُرِيدُ.. أصله: إنني بثلاث نونات، فحذفت الثانية لأنه أقل تغييرا من حذف الأولى والثالثة.
أَوْ فَسادٍ.. مجرور بالعطف على: نَفْسٍ. وقرئ: فسادا: بالنصب على المصدر.
البلاغة:
قَتَلَ.. وأَحْيَا بينهما طباق.(6/151)
وَمَنْ أَحْياها فيه استعارة، والمراد استبقاها لأن إحياء النفس حقيقة من مقدورات الله وحده.
لَئِنْ بَسَطْتَ.. ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ أي اقرأ يا محمد عَلَيْهِمْ على قومك نَبَأَ خبر ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل بِالْحَقِّ متعلق باتل إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وهو مصدر في الأصل، يستوي فيه الواحد وغيره، وقربانهما: كبش لهابيل وزرع لقابيل فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل، بأن نزلت نار من السماء فأكلت قربانه وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل، فغضب وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ اللام لام القسم، أي لئن مددت يدك إلي لتقتلني.
تَبُوءَ ترجع بعقاب يعادل الإثم، وباء بالنعمة وباء بالذنب: التزم وأقر فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ زينت وشجعت مِنَ الْخاسِرِينَ بقتله، ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويثيره على غراب ميت معه، حتى واراه يُوارِي يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ ما يسوء ظهوره وهو العورة والمراد الجثة. يا وَيْلَتى الويلة: الفضيحة والبلية، أي وا فضيحتاه، والويل: حلول الشر.
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك الذي فعله قابيل بِالْبَيِّناتِ الآيات الواضحة أَنَّهُ أي الشأن بِغَيْرِ ... فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي بغير فساد أتاه من كفر أو زنى أو قطع طريق أو نحوه أَحْياها امتنع عن قتلها لَمُسْرِفُونَ مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك، والإسراف البعد عن حد الاعتدال.
المناسبة:
أورد الله تعالى هذه القصة لبيان تأثير الحسد والحقد وحب الذات، وأن ذلك يؤدي إلى المخاطر والمهالك والقبائح، فقضى على رابطة الأخوة التي تجمع بين الأخوين، وأدى إلى سفك الدماء. وأمثلة ذلك كثيرة، فبعد أن ذكر تعالى حسد اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى هموا أن يقتلوه مع صحابته، ذكر هنا قصة ابني آدم، حسدا من الأخ على أخيه، فوجه اتصال الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى(6/152)
على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن سوء عاقبة الحسد في قصة ابني آدم وهما قابيل وهابيل، كيف قتل الأول أخاه، بغيا عليه، وحسدا له فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بالمغفرة ودخول الجنة، وخاب القاتل وخسر في الدارين، فقال:
اقرأ يا محمد، واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة حفدة القردة والخنازير، من اليهود وأمثالهم خبر ابني آدم، وهما قابيل وهابيل، في رأي جماعة من السلف والخلف، اقرأ واتل ذلك عليهم بالحق، أي بالبيان الصحيح الواقعي الواضح الذي لا كذب ولا وهم ولا زيادة ولا نقصان فيه، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران 3/ 62] وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف 18/ 13] وقال: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم 19/ 34] .
وسبب القصة: أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، فكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فيزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك، إلا بتقريب قربان، فمن تقبل منه فهي له، فتقبل من هابيل، ولم يتقبل من قابيل.
اتل عليهم حين قربا قربانا، فتقبل الله من هابيل قربانه وهو الكبش السمين لتقواه وإخلاصه، ولم يتقبل من قابيل قربانه وهو زرع قليل من سنبل القمح، لقلة التقوى والإخلاص. وكيف كان القبول؟
روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث(6/153)
وزرع، فقرّب شرّ ما عنده وأردأه، غير طيبة به نفسه، وكان الآخر صاحب غنم، وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبة به نفسه. وذكر بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار من السماء لتأكله، ولا تأكل غير المقبول.
فصعد الأخوان مع أبيهم آدم الجبل، فوضعا قربانهما، ثم جلس الثلاثة، وهم ينظرون إلى القربان، فبعث الله نارا، حتى إذا كانت فوقهما، دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل، وترك قربان قابيل. فقال قابيل: يا هابيل، تقبّل قربانك، وردّ علي قرباني، لأقتلنك، فقال هابيل: قربت أطيب مالي، وقربت أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، أي الذين يخافون عقاب الله باجتناب الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء، قال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 3/ 92]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا» .
فلما قالها غضب قابيل، فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل، أين أنت من الله، كيف يجزيك بعملك؟ فقتله وطرحه في حفرة من الأرض، وحثا عليه التراب.
وقال هابيل الرجل الصالح: إن مددت إلي يدك لتقتلني، لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنت وأنا سواء في الخطيئة، ثم بيّن علة امتناعه عن القتل: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي إني أخشى عقاب الله وعذابه من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب لأن الاعتداء على الأرواح من أكبر الجرائم. وفي هذا التصريح بعدم الإقدام على جريمة القتل، فلا ينطبق عليه الوضع الوارد في
الحديث الذي رواه أحمد والشيخان وغيرهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» .(6/154)
ثم تابع هابيل المقتول عظته البالغة المؤثرة المذكرة بعذاب الآخرة، لعلها تمنع أخاه من قتله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي إني أريد بالابتعاد عن مقابلة الجريمة بمثلها أن تتحمل إثمي وإثمك، وتلتزم بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، وهذا رأي أكثر العلماء.
وحينئذ تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة، والنار جزاء كل ظالم،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبي موسى الأشعري: «كن كخيري ابني آدم» .
يتبين من هذا أنه نفّره وحذره من القتل بثلاث مواعظ: الخوف من الله، تحمل الإثمين: إثم القتل وإثم نفسه، كونه من أصحاب النار ومن الظالمين.
ثم أخبر تعالى أن هذه المواعظ كلها لم ينزجر بها، فحسّنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه، فقتله، فأصبح من جملة الذين خسروا أنفسهم من الدنيا والآخرة، وأي خسارة أعظم من جريمة القتل هذه؟! ثم حار القاتل وضاقت به الدنيا ولم يدر كيف يفعل بجثة أخيه، فاستفاد من تجربة غيره وهو الغراب، مما دل على جهله وسذاجته وقلة معرفته.
فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له حفرة، ثم حثا عليه التراب، فلما رآه قال: وا فضيحتي، وهذا اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! أي هل بلغ عجزي وضعفي وقلة معرفتي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ فدفن أخاه، ووارى جثته، وأصبح نادما على ما فعل، وهذا شأن كل مخطئ، يرتكب المعصية، ثم يندم عليها.
إلا أنه لم تقبل توبته، بالرغم من المبدأ المعروف في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» «1»
لأنه لم يندم ولم يتب من المعصية، وإنما كان ندمه على قتل أخيه
__________
(1) رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.(6/155)
لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته «1» ، لذا كان من الذين سنوا سنة سيئة، عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة،
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل- نصيب- من دمها لأنه أول من سنّ القتل» .
ومن نتائج هذا القتل، وبسبب هذا الجرم الفظيع، والفعل القبيح الذي فعله أحد الأخوين بالآخر ظلما وعدوانا تقرر تشريع القصاص، وفرض حكمه على بني إسرائيل لأن التوراة أول كتاب حرّم فيه القتل، وذلك الحكم: أن من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه الله تعالى بقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها- أي في التوراة- أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. الآية [المائدة 5/ 45] ، أو قتل بغير سبب فساد في الأرض بالإخلال بالأمن والطمأنينة، كقطاع الطرق وعصابات اللصوص، فاستحل القتل بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا لأنه لا فرق عند الله بين نفس ونفس، والعدوان على نفس عدوان على المجتمع البشري كله، لذا قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء 4/ 93] .
ومن أحياها أي حرم قتلها، وامتنع من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعا، بتوفير الأمن والطمأنينة لهم، وإزالة القلق والهلع من نفوسهم.
وهذا دليل على أن نفس الإنسان ليست ملكه، وإنما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه، فمن اعتدى على نفس ولو بالانتحار، استحق العذاب الشديد يوم القيامة، ومن أحيا نفسا بأي سبب كان، فكأنما أحيا الخلق كلهم.
ثم وجه الله تعالى تقريعا وتوبيخا لبني إسرائيل على ارتكابهم المحارم بعد
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 210(6/156)
علمهم بها، وإسرافهم في القتل، وغلظة نفوسهم في الماضي وفي عهد النبوة، مثل فعل بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع من اليهود حول المدينة، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج في حروب الجاهلية، ويقاتلون مع المشركين في حروبهم ضد المسلمين بعد الهجرة.
ومضمون التوبيخ: أن رسل الله الكرام جاءوهم بالبينات، أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة الدالة على الأحكام المقررة عليهم، المستهدفة تهذيب نفوسهم وتطهير أخلاقهم، ومع ذلك كان الكثيرون منهم مسرفين في القتل وفي ارتكاب جرائم البغي والعدوان. وهذا وإن كان صادرا من أسلاف اليهود في الماضي، فهو منسوب أيضا إلى الأمة بكاملها لرضا الخلف عن فعل السلف، فكانت الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها كالجسد الواحد.
فقه الحياة أو الأحكام:
العبرة في قصة ابني آدم أن الحسد كان سبب أول جريمة قتل في البشر، وأنه هو أسّ المفاسد والمعايب والرذائل في المجتمع، فالأمة المتحاسدة متمزقة متعادية متباغضة، لا تجتمع على خير، ولا تلتقي على فضيلة، ولا تتعاون على برّ وصلاح وتقدم، مما يؤدي إلى الضعف والذل والهوان وعبودية أفرادها لمن سواهم.
والمستفاد من الآية أنه إن همّ اليهود بالفتك بمحمد، فليس ذلك جديدا عليهم، فقد قتلوا الأنبياء قبله، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم، والتذكير بهذه القصة مفيد لأنها قصة صدق، وليست حديثا موضوعا من نسج الخيال، وفيها تبكيت لمن خالف الإسلام، وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وجمهور المفسرين على أن ابني آدم هما ابناه لصلبه، وهما قابيل وهابيل وكان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنه كان صاحب زرع، واختارها من أردإ زرعه، بل إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها وكان قربان هابيل كبشا(6/157)
لأنه كان صاحب غنم، أخذه من أجود غنمه، فتقبّل قربانه، قال القرطبي:
فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام، قاله سعيد بن جبير وغيره.
وسبب القصة: التنازع على الزواج من أخت قابيل توأمته المولودة معه، فقد كان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت حواء مع قابيل أختا جميلة واسمها «إقليمياء» ومع هابيل أختا ليست كذلك، واسمها «ليوذا» فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على تقديم القربان «1» .
وكانت النتيجة قبول قربان هابيل لصلاحه بدليل قوله لأخيه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة فمن اتقاه وهو موحّد فأعماله المصدّقة لنيته مقبولة وأما المتقى الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة.
وكان استسلام هابيل لتهديد أخيه قابيل بالقتل معتمدا على أسس ثلاثة: الخوف الحقيقي من الله تعالى، والخشية من تحمل إثمين: إثم قتله وإثم فعل المقتول الذي عمله قبل القتل، والابتعاد عن أن يكون من أصحاب النار ومن الظالمين. وهذه المبادئ من أصول المواعظ التي تنفر من الإقدام على جريمة القتل وغيرها.
ودل قوله: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. واستدل بعضهم بهذا القول على أن قابيل كان كافرا لأن لفظ أَصْحابِ النَّارِ إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 134(6/158)
قال القرطبي: وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ مدة كونك فيها «1» .
وإقدام قابيل على القتل جعله من الخاسرين في الدنيا والآخرة، وتضمنت الآية بيان حال الحاسد، حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسّهم به رحما، وأولاهم بالحنو عليه.
ودلت الآية: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً على الاستفادة من تجارب الآخرين.
وبالرغم من أن قابيل أصبح من النادمين، فلم يكن ندمه جاعلا له من التائبين لأن ندمه لم يكن على القتل وإنما على حمل أخيه على ظهره سنة، أو لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه أبواه وإخوته، أو لأجل ترك أخيه بالعراء استخفافا به بعد قتله، فلما رأى فعل الغراب بدفن الغراب الآخر ندم على قساوة قلبه «2» .
ودلت آية: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ.. على تشريع القصاص في حق القاتل على بني إسرائيل. وقوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما ذكر في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهو القتل العمد العدوان، ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
وتخصيص بني إسرائيل بالذكر، وإن كان القتل حراما والقصاص عاما في جميع الأديان والملل لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، فهم مع علمهم بشناعة القتل أقدموا على قتل الأنبياء
__________
(1) المرجع السابق: 6/ 138
(2) تفسير الرازي: 11/ 210 [.....](6/159)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى.
وكان تخصيص بني إسرائيل مناسبا أيضا لما عزموا عليه من الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأكابر أصحابه «1» .
والقتل حرام في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس ظلما وتعديا. وقوله: أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ هو الشرك، وقيل: قطع طريق. وقتل نفس بمثابة قتل جميع الناس، وإحياؤها بمثابة إحياء جميع الناس.
ودلت الآية أيضا على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة لأنه تعالى قال:
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا أي أن تشريع تلك الأحكام معلل بتلك المعاني.
حد الحرابة أو حكم قطاع الطرق
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
__________
(1) المرجع السابق: 11/ 211، تفسير القرطبي: 6/ 146(6/160)
الإعراب:
إِنَّما جَزاءُ ... : ما: من إنما كافة. وجَزاءُ الَّذِينَ: مبتدأ مرفوع، وخبره: أَنْ يُقَتَّلُوا. فَساداً منصوب على المصدر في موضع الحال. وأَوْ في قوله: أَوْ يُصَلَّبُوا وما بعده للتخيير في رأي بعضهم أي أن الحكم فيه للإمام على اجتهاده، أو للتنويع في رأي آخر.
إِلَّا الَّذِينَ ... الَّذِينَ: مستثنى منصوب: لأنه استثناء من موجب، وهو الَّذِينَ يُحارِبُونَ وهم المعاقبون عقاب قطع الطريق خاصة.
البلاغة:
يُحارِبُونَ اللَّهَ مجاز على حذف مضاف أي يحاربون عباد الله لأن الله لا يحارب ولا يغالب.
المفردات اللغوية:
يُحارِبُونَ أي يحاربون المسلمين وغيرهم في دار الإسلام، من المحاربة، وهي مأخوذة من الحرب ضد السلم والأمن على النفس والمال. وأصل معنى كلمة الحرب: التعدي وسلب المال.
فَساداً الفساد: ضد الصلاح، والمراد بالفساد هنا قطع الطريق بتخويف المارّة والاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض أَنْ يُقَتَّلُوا التقتيل: المبالغة في القتل لإرهاب المفسدين أَوْ يُصَلَّبُوا التصليب: المبالغة في الصلب، والصلب في رأي الشافعي وأحمد: يكون بعد القتل ثلاثة أيام، بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ومعناه عند المالكية: أن ينقلوا إلى بلد آخر من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بلد إسلامي أو بلد من بلاد أهل الحرب. والنفي عند الحنابلة: أن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد. وعند الحنفية والشافعية معناه: الحبس. وحرف أَوْ للتنويع وترتيب الأحوال عند الجمهور، فالقتل لمن قتل فقط، والصلب لمن قتل وأخذ المال، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل، والنفي لمن أخاف فقط، كما قال ابن عباس. وأَوْ عند المالكية للتخيير، يتخير الإمام فيهم ما يناسب.
خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ذل وفضيحة عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب النار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من المحاربين وقطاع الطرق مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أي من قبل التمكن من عقابهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما أتوه رَحِيمٌ بهم. والتعبير بالمغفرة والرحمة للدلالة على أن التوبة لا تسقط(6/161)
إلا حقوق الله وحدوده، دون حقوق الآدميين، كما ذكر السيوطي، فإذا قتل قاطع الطريق أحدا، وأخذ المال وتاب، يقتل ويقطع ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا، وهو أصح قوليه أيضا.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في قطّاع الطرق، لا في المشركين ولا في المرتدين، كما قيل بكل فإن كلا منهما إذا تاب، قبلت توبته، سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها، أما قطاع الطريق فيسقط عنهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
روى البخاري ومسلم عن أنس: أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة «1» ، فأمر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بزود من الإبل «2» وراع، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة، كفروا بعد إسلام، وقتلوا الراعي- وفي رواية: مثّلوا به، واستاقوا الزود من الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث في طلبهم، فأتوا فأمر بهم، فسملوا أعينهم «3» ، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتركوا حتى ماتوا، فنزلت الآية.
وقيل:
نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد على أنه لا يعينه ولا يعين عليه، وأنه إن مرّ به أحد من المسلمين، أو مرّ عليه من يقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتعرض له بسوء، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم من بني هلال، وكان هلال غائبا، فقطعوا عليهم الطريق، وقتلوا منهم، وأخذوا أموالهم.
__________
(1) وجدوها رديئة المناخ.
(2) الزود: من ثلاثة إلى تسعة.
(3) كحلوها بمسامير الحديد المحماة.(6/162)
وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا الطريق على المسلمين.
ولا مانع من تعدد سبب النزول، وهي تتناول كل من اتصف بصفة المحاربة، سواء أكان كافرا أم مسلما، فإن كانت الآية قد نزلت في الكفار، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى خطورة جريمة القتل وأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وما رتب عليه من تشريع القصاص، ذكر هنا عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويرتكبون القتل غالبا، حتى لا يجرأ أحد على المحاربة.
التفسير والبيان:
هذه آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة الشاملة لجريمة الكفر وقطع الطريق وإخافة السبيل والإفساد في الأرض، وبما أن هذه الجريمة تمس أمن المجتمع كله وتهز كيانه وتنشر الرعب والقلق والخوف في أوساط الناس الآمنين، شدد الله تعالى في عقوبة المحاربين: وهم الذين لهم قوة ومنعة وشوكة، ويتعرضون للمارة من المسلمين أو أهل الذمة، ويعتدون على الأرواح والأموال والأعراض.
وعقابهم أو جزاؤهم على سبيل الترتيب والتوزيع على حسب جناياتهم، وتكون أَوْ للتنويع، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا، نفي من الأرض. وهذا رأي أكثر العلماء وأئمة المذاهب.
وقال المالكية: الآية تدل على التخيير بين الجزاءات، عملا بما تقتضيه أَوْ فيخير الإمام بين تطبيق إحدى هذه العقوبات حسبما يرى من المصلحة،(6/163)
وإن لم يأخذ المحاربون مالا ولم يقتلوا نفسا، أي أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم إما بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي، عملا بظاهر الآية.
وقصر الإمام أبو حنيفة التخيير على محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فيخير الإمام بين هذه العقوبات الأربع: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه فقط، وإن شاء قتله فقط، ولا يفرد القطع في هذه الحالة، بل لا بد من انضمام القتل أو الصلب إليه لأن الجناية قتل وأخذ مال، وقال الصاحبان في هذه الحالة: يصلب ويقتل ولا يقطع. واتفق الإمام مع صاحبيه على أن المحاربين إذا قتلوا فقط يقتلون، وإذا أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الطريق فقط ينفون من الأرض.
دليل المالكية: أن كلمة أَوْ موضوعة للتخيير، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، فيعمل بحقيقة هذا الحرف، ما لم يقم دليل على خلافه، ولم يوجد، فيبقى التخيير.
ودليل الجمهور: 1- أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية، زيادة ونقصا، بدليل إجماع الأمة على أن قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، لا يكون جزاؤهم النفي فقط.
2- أن التخيير يعمل به إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا اختلف السبب، فإنه لا يعمل بظاهر التخيير، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه.
وذلك مثل قوله تعالى: قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف 18/ 86] والمعنى: إما أن تعذب من جحد وظلم، وإما(6/164)
أن تحسن إلى من آمن وعمل صالحا، فليس المراد التخيير لأن اختلاف السبب يؤدي إلى اختلاف الحكم لكل نوع.
ودليل أبي حنيفة: أن الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات، وفيه إلغاء حرف التخيير، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الجزاءات الثلاثة، وذلك في محارب خاص لا في مطلق المحارب، والمحارب الخاص: هو الذي قتل وأخذ المال، وهذا هو الأقرب والأولى لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير وبما هو المعقول.
وسمي فعل المحاربين محاربة لله ورسوله للتهويل والتشنيع، وبيان خطورة هذه الجريمة على الحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله، كما قال تعالى في أكلة الربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة 2/ 279] فليست محاربة الله على سبيل الحقيقة لأن الله منزه عن الكون في جهة ومكان، والمحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين متواجهين، وإنما هذا مجاز عن المخالفة وإغضاب الله، أو المعنى يحاربون أولياء الله ورسوله، فيكون نظير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب 33/ 57] .
ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط:
1- أن يكون لهم قوة وشوكة ومنعة، ليمتازوا عن السرّاق، وأن يعتدوا على المارة بسلاح أو غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، سواء أكانوا جماعة أم واحدا، وسواء أخذوا المال من مسلم أم من ذمي.
2- أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، وأن يكون في رأي أبي حنيفة خارج المصر بين حدود البلاد أو في الصحراء لأنه يمكن للمعتدى عليه في داخل المصر الاستغاثة بالآخرين. ولم يفرق الجمهور بين داخل المصر وخارجه، فيمكن(6/165)
حدوث جريمة المحاربة فيهما على حد سواء، وقد أثبت الواقع صحة هذا الرأي لأن عصابات المجرمين يتعرضون للناس بعد منتصف الليل في الشوارع العامة، وفي الأحياء السكنية.
3- أن يأخذوا المال مجاهرة، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق، يعاقبون بحد السرقة وهو قطع اليد فقط. وإن اختطفوا شخصا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وإن استلبوا شيئا من قافلة أو اغتصبوه لا يحدون حد السرقة ولا حد الحرابة.
والسعي في الأرض بالفساد: هو إخافة الطريق بحمل السلاح وإزعاج الناس، سواء صحبه قتل وأخذ مال أو لا.
أما عقوبات المحاربين فهي في الآية دنيوية وأخروية.
والعقوبات الدنيوية أربعة:
1- التقتيل حدا من غير صلب إن قتلوا فقط، ولا يسقط القتل بعفو الأولياء، والتعبير بصيغة التفعيل لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط، ولو عفا الأولياء. فيجب على الحاكم إنزال هذه العقوبة بالمحاربين، ولا يملك العفو عنها أو إسقاطها، وعلى المسلمين التعاون معه على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين.
2- القتل مع الصلب: إن قتلوا وأخذوا المال.
3- قطع اليد والرجل من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال، لا غير.
4- النفي من الأرض إن أخافوا الطريق فقط، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.(6/166)
والصلب: يكون على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميع الشخص بها، بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وتربط يداه على خشبة عريضة من الأعلى. ويحدث في الأصح من مذهب الحنفية والراجح لدى المالكية في حال الحياة لمدة ثلاثة أيام، ثم يطعن بحربة ويقتل لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة، وليس صلبه من قبيل المثلة المنهي عنها لأن المثلة قطع بعض الأعضاء.
وقال الشافعية والحنابلة: الصلب يكون بعد القتل لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به،
وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان (أي ما له روح) فقال فيما رواه الجماعة عن شداد بن أوس: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة»
والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره.
وأما النفي: فمعناه عند الحنفية الحبس لأن فيه نفيا عن وجه الأرض التي يحيا فيها الناس عادة بحرية وطمأنينة. وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتعريض للكفر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب.
ورأى المالكية أن النفي هو إخراجه من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر بينهما مسافة القصر (89 كم) ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. فيكون رأي الجمهور بالنفي هو الحبس.
وذهب الحنابلة إلى أن النفي: أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد، عملا بما روي عن الحسن والزهري.
وأما عقوبة المحاربين الأخروية: فهي المذكورة في قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ذلك العقاب المذكور هو ذل لهم وفضيحة في الدنيا، لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وليكونوا عبرة لغيرهم، ولهم(6/167)
في الآخرة عذاب عظيم جدا بسبب ما ارتكبوا من جريمة هزت أركان المجتمع، وأدت إلى تعطيل التجارة.
ثم استثنى الله تعالى من العقاب التائبين فقال:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أي أن من تاب قبل أن يقع في قبضة السلطة، أو قبل أن يتمكن الحاكم من القبض عليه، فيسقط عنه العقاب، إذا كانت التوبة صادقة خالصة لله عز وجل، لا تحايلا وتهربا من العقوبة لأن الهدف قد تحقق وهو ترك الإفساد ومحاربة أولياء الله ورسوله، بدليل قوله تعالى:
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أن الله غفور لذنوبهم، رحيم بهم بإسقاط العقوبة عنهم لأنه لا تهمة حينئذ، وتكون التوبة نافعة.
وهذه التوبة تسقط ما هو من حقوق الله تعالى فقط وهو الحد، أما حقوق العباد من القصاص وضمان الأموال فتبقى، ويكون للأولياء الحق في المطالبة بالقصاص من القاتل، واسترداد المال المأخوذ، وولي القتيل مخير بين القصاص والدية والعفو، ولا تصح التوبة إلا برد الأموال المسلوبة إلى أصحابها، وإذا أعفاه الحاكم من حق مالي وجب ضمانه من بيت المال (خزانة الدولة) . ومن تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه لأنه متهم بالكذب في توبته والتصنع فيها إذا نالته يد الإمام.
أما الشرّاب والزناة والسرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.(6/168)
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت آية المحاربة حكمين: حكم عقاب المحاربين، وحكم التائبين.
أما عقوبتهم في الدنيا: فهي القتل، والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والنفي من الأرض أي الحبس أو الإبعاد من بلده إلى بلد آخر بينهما على الأقل مسافة قصر الصلاة المقدرة بحوالي 89 كم.
ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل.
ونصت الآية على عقوبة أخروية: وهي استحقاق العذاب في نار جهنم، لعظم الجريمة، واقتصر على وصف عقوبة الدنيا بالخزي أي الذل والفضيحة مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وعلى وصف عقوبة الآخرة بالعذاب العظيم مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها.
ويؤخذ من الجمع بين العقوبتين المذكورتين للمحاربين: أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، فالحدود زواجر لا جوابر كما هو صريح الآية، وهذا مذهب الحنفية. وقال الجمهور: الحدود جوابر أيضا، أي أنها تجبر الذنوب وتكفرها، لما رواه مسلم في صحيحة عن عبادة بن الصامت: «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك، فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» .
وأما حكم التائبين قبل القدرة عليهم: فهو حكم سائر المجرمين العاديين، فمن قتل يقتل أي يقتص منه، ومن جرح يجرح، أو يغرم الأرش (التعويض المالي المقدر شرعا) ومن سرق تقطع يده، ومن سلب مالا رده، ويجوز العفو حينئذ لأولياء الدم عنهم.(6/169)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
التقوى والجهاد أساس الفلاح في الآخرة والدنيا كلها لا تصلح فداء للكفار
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
البلاغة:
لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي ليجعلوه فدية لأنفسهم، قال الزمخشري: 1/ 458: وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟
فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» .
المفردات اللغوية:
اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوا أوامره وتجتنبوا نواهيه وَابْتَغُوا اطلبوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ما يتوسل به إلى رضوان الله أو يقربكم إليه من طاعته، فالوسيلة: القربة التي ينبغي أن يطلب بها، وتطلق أيضا على أعلى منزلة أو درجة في الجنة.
وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لإعلاء دينه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون لَوْ أَنَّ لَهُمْ لو ثبت يُرِيدُونَ يتمنون عَذابٌ مُقِيمٌ دائم.(6/170)
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى حسد اليهود ومكرهم وهمّهم الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقتلهم الأنبياء، وفند ادعاءهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، أمر المؤمنين بالتقوى والتقرب إليه بصالح الأعمال، ولا يتكلوا على مثل مزاعم أهل الكتاب، وهو المقصود الأصلي من مهام القرآن.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته، كان المراد بها الكف عن المحارم وترك المنهيات.
فيا أيها المؤمنون اتقوا سخط الله وعقابه بامتثال أمره واجتناب نهيه، واطلبوا إليه القربة التي ينبغي أن يطلب بها، وهي التي توصلكم إلى مرضاته والقرب منه والظفر بمثوبته في الجنة.
والوسيلة درجة في الجنة،
روى أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة»
فالوسيلة أعلى منزلة في الجنة: وهي منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
ولما أمر تعالى المؤمنين بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، والتاركين للدين القويم، فقال: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ والجهاد من الجهد: وهو المشقة والتعب، وسبيل الله: هي طريق الحق والخير والفضيلة والحرية للأمة، والجهاد في سبيل الله(6/171)
يشمل جهاد النفس بكفها عن أهوائها، وحملها على العدل في جميع الأحوال، وجهاد الأعداء الذين يقاومون دعوة الإسلام.
ورغبهم الله تعالى بما أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة، فقال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي إن جاهدتم وتقربتم إلى الله بطاعته، حققتم الفوز والفلاح وسعادة الدنيا والآخرة، والمسلم مطالب دائما بالجهاد بمختلف أنواعه لأن فعل الحسنات وترك السيئات شاق على النفس.
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالتقوى وتزكية النفس، أخبر بما أعده لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وجحدوا آياته الدالة على وجوده ووحدانيته، وكذبوا رسله، وعبدوا غيره من صنم أو وثن أو عجل أو بشر، وماتوا على هذه الحال من غير توبة، لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا، بل ومثله أو ضعفه معه، ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقن وصوله إليه، ما تقبّل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه، ولا محيص له ولا مناص، ولهذا قال:
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي موجع مؤلم لهم، بسبب ما جنته نفوسهم، كما أن الفلاح والسعادة بسبب الطاعة والاستقامة النابعة من النفس الإنسانية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] .
ثم وصف الله تعالى العذاب بأنه دائم وأن أهل النار مقيمون فيها على الدوام:
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ.. أي يتمنون الخروج مما هم فيه من شدة العذاب، وما هم بخارجين منها، ولهم عذاب دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج 22/ 22] فمعنى قوله: مُقِيمٌ أنه دائم ثابت لا يزول ولا يحول.
روى البخاري ومسلم والنسائي من حديث أنس بن مالك قال: قال(6/172)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال: فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك، فلم تفعل، فيؤمر به إلى النار» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى أن الناس صنفان: صنف المؤمنين الطائعين، وهؤلاء هم المفلحون الناجون في الدنيا والآخرة، وصنف الكافرين الجاحدين ألوهية الله وربوبيته ووحدانيته، والمكذبين رسله، وهؤلاء هم الخاسرون في الحقيقة في الدنيا والآخرة، وإقامتهم دائمة في نار جهنم.
وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان، فاليهود يعتمدون على أمنيات كاذبة ومزاعم باطلة أنهم أبناء الله وأحباؤه، وشعب الله المختار، والنصارى يعتقدون أن المسيح فداء لهم بنفسه من الخطيئة والمعصية. أما المسلمون فيعتمدون على أن أساس الفلاح والنجاة في الآخرة: هو تزكية النفس بالفضائل، والعمل الصالح.
والخلود ثابت للفريقين، فالمؤمنون مخلدون في الجنة، والكافرون مخلدون في النار. قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، إنكم يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم تقولون: إن قوما يخرجون من النار، والله تعالى يقول: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال جابر: إنكم تجعلون العامّ خاصا، والخاص عامّا، إنما هذا في الكفار خاصة فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها، فإذا هي في الكفار خاصة «1» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 159(6/173)
قال الرازي عن آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: هذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر.
والمقام الأول: هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله:
وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته.
والمقام الثاني: دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح: اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب «1» .
أما قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فقد استدل به بعض الناس على مشروعية الاستغاثة أو التوسل بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد.
وتحقيق القول في التوسل ما يأتي معتمدا على تفسير الألوسي «2» :
أولا- التوسل بمعنى التقرب إلى الله بطاعته وفعل ما يرضيه، وهو المراد بالآية: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: هو أساس الدين وفرض الإسلام.
وعلى هذا يحمل توسل أهل الصخرة الثلاثة، فإنهم توسلوا إلى الله عز وجل بصالح الأعمال، أي طلبوا الفرج بصلاح أعمالهم، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولم يتوسلوا بذوات الأشخاص.
ثانيا- التوسل بالمخلوق والاستغاثة به بمعنى طلب الدعاء منه، لا شك في
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 220، طبعة دار إحياء التراث العربي- بيروت.
(2) تفسير الألوسي: 6/ 124- 128(6/174)
جوازه إن كان المطلوب منه حيا، فقد صح
أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله عنه لما استأذنه في العمرة: «لا تنسانا يا أخي من دعائك» وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمه الله أن يستغفر له، وأمر أمته صلّى الله عليه وسلّم بطلب الوسيلة له كما تقدم: «فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة» .
وثبت أن عمر رضي الله عنه قال في الاستسقاء: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» أي بدعائه وشفاعته، لا بذاته وشخصه.
وأما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا أو غائبا فغير جائز، قال الألوسي:
فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة، فقد صح
أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» .
ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم- وهم أحرص الخلق على خير- أنه طلب من ميت شيئا.
ثالثا- القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك، أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي.
وقد أجاز العز بن عبد السلام ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه سيد ولد آدم، ولم يجز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء، والملائكة، والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، ودليله
ما رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله(6/175)
تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلّى الله عليه وسلّم نبي الرحمة، يا رسول الله، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفّعه فيّ» ونقل عن أحمد مثل ذلك.
والحق ألا دلالة في الحديث على التوسل بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم وشخصه، وإنما توسل بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته.
ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه، وهو رأي ابن تيمية رحمه الله. والحديث المذكور على حذف مضاف أي بدعاء وشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز، بل مندوب، والدليل على هذا التقدير
قوله في آخر الحديث: «اللهم فشفعه في»
بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك.
وليس في الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة، ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلّى الله عليه وسلّم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف، أو نحوه.
قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وكره العلماء الدعاء بحق خلقك لأنه لا حق للخلق على الخالق.
والخلاصة: إن الدعاء لله تعالى يكون مباشرة، وبلا واسطة إذ لا يحتاج الله إلى الوسطاء بالنص القرآني القطعي الدلالة وهو قوله تعالى:
وَقالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] وقوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186] . وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] .(6/176)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»
وهذا الحديث بعد الآيات نص واضح يعيّن أو يوجب الاستعانة بالله تعالى وحده، دون سواه.
وأما الآيتان (36- 37) فذكرتا نوعين من الوعيد:
الأول- استحالة قبول الفداء من الكفار يوم القيامة، وثبوت استحقاقهم العذاب الأليم.
والثاني- تمنيهم الخروج من عذاب النار، وإلزامهم بالعذاب المقيم أي الدائم الثابت الذي لا يزول ولا يحول. فكلما رفعهم لهب النار إلى أعلى جهنم، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد، فيردوهم إلى أسفلها.
واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال: «لا إله إلا الله» على سبيل الإخلاص لأنه تعالى جعل الإقامة الدائمة في النار من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد، ولولا أن هذا المعنى مختص بالكفار، وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى «1» .
حد السرقة
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 222(6/177)
الإعراب:
وَالسَّارِقُ مبتدأ، وفي خبره وجهان: أحدهما- أن يكون خبره مقدرا، وتقديره: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، هذا مذهب سيبويه. والثاني- مذهب الأخفش والمبرد والكوفيين: أن الخبر: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ودخلت الفاء في الخبر لأنه لم يرد سارقا بعينه، وإنما أراد: كل من سرق فاقطعوا: وهو يتضمن معنى الشرط والجزاء، فتدخل الفاء في خبر المبتدأ.
وإنما قال: أَيْدِيَهُما بالجمع لأنه يريد أيمانهما، وهي قراءة شاذة. وكل ما في البدن منه عضو واحد يثنى بلفظ الجمع، وليس للإنسان إلا يمين واحدة، فنزل منزلة ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد، مثل قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم 66/ 4] . ويجوز تثنيته بلفظ المثنى مثل: رأيت وجهيهما، ويجوز أيضا بلفظ المفرد مثل: رأيت وجههما.
جَزاءً بِما كَسَبا: جزاء: إما منصوب نصب المصادر والعامل فيه معنى الكلام المتقدم، فكأنه قال: جازوهما جزاء، وإما منصوب لأنه مفعول لأجله، والتقدير: فاقطعوا أيديهما لأجل الجزاء. نَكالًا بدل من قوله: جزاء.
المفردات اللغوية:
وَالسَّارِقُ من يأخذ المال خفية من حرز مثله فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما محل القطع من الرسغ، والذي يقطع به هو ربع دينار فصاعدا عند الجمهور غير الحنفية نَكالًا مِنَ اللَّهِ عقوبة لهما تمنع الناس من ارتكاب السرقة وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره حَكِيمٌ في خلقه.
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ رجع عن السرقة وَأَصْلَحَ عمله فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أن التوبة تسقط حق الله، ولا تسقط حق الآدمي العبد بالقطع ورد المال.
لكن بينت السنة أنه إن عفا عنه المسروق منه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي يوسف، وكذا يسقط الحد بهبة المسروق إلى السارق بعد الرفع إلى الإمام في رأي أبي حنيفة ومحمد.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له يدعى قتادة بن(6/178)
النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة، التمسها عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه، حتى وصل إلى بيت زيد فأخذوها منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
الآية المتقدمة، ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة «1» .
وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟
فأنزل الله في سورة المائدة: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» .
المناسبة:
هناك تناسب واضح بين حكم السرقة وحكم الحرابة، فالحرابة كما يقول الحنفية: سرقة كبري، والأخرى: سرقة صغرى، فبعد أن بيّن الله تعالى عقوبة المحاربين الذين يفسدون في الأرض، وأمر الناس بتقوى الله حتى يبتعدوا عن الحرام والمعاصي، ذكر عقوبة اللصوص الذين يأخذون المال خفية، ومن أنواع عقاب المحاربين في آية الحرابة: قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وعقاب السرقة: قطع اليد.
التفسير والبيان:
يأمر تعالى ولاة الأمور ويحكم بقطع يد السارق والسارقة، فمن سرق من
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص 111
(2) أسباب النزول للسيوطي.(6/179)
رجل أو امرأة، تقطع يده من الرسغ، ويبدأ بقطع اليد اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، ثم يعزر ويحبس
لما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى»
وهذا رأي المالكية والشافعية. وقال الحنفية والحنابلة: لا يقطع أصلا بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى.
وصرح القرآن بحكم السارقة لحدوث السرقة كثيرا من النساء كالرجال، مما يقتضي الزجر، وإن كان الغالب في تشريع الأحكام إدراج النساء في حكم الرجال.
والسرقة: أخذ المال خفية من حرز المثل، والحرز نوعان: حرز بنفسه:
وهو المكان كالدار والصندوق، وحرز بغيره وهو الحافظ: كالأماكن العامة المحروسة بحارس، والمتاع الذي يوجد صاحبه عنده. والحرز: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس.
ولا تقطع يد السارق إلا إذا كان بالغا عاقلا، كما هو الشأن في المطالبة بجميع التكاليف الشرعية ومنها عقوبات الحدود، لا فرق فيها بين الجماعة والفرد، وألا تكون هناك شبهة كالسرقة من المحارم والضيف من المضيف،
لحديث رواه ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»
وأن يؤخذ المال من الحرز إما بنفسه أو بالحافظ، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الثمر المعلّق فقال: «.. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» .
وأن يكون المسروق بالغا مقدار النصاب الشرعي.
وللفقهاء رأيان أو ثلاثة في تقدير نصاب السرقة، فقال الحسن البصري(6/180)
وداود الظاهري: يجب القطع بسرقة القليل والكثير لظاهر الآية، وللحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده» .
وقال الجمهور: تقطع يد السارق في ربع دينار أو ثلاثة دراهم فصاعدا لما رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن (الجماعة) من
حديث عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا»
ولما
في الصحيحين عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قطع في مجنّ- ترس- ثمنه ثلاثة دارهم»
وهذا قول الخلفاء الراشدين الأربعة.
ورأى الحنفية: أن نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، فلا قطع فيما دون عشرة دراهم،
لما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» .
ولولا أن هذا الحديث ضعيف لأمكن ترجيح مذهب الحنفية من قبيل الاحتياط، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولأن ثمن المجنّ الذي قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم بسرقته مختلف في تقديره، فقدر بثلاثة دراهم أو بأربعة أو بخمسة أو بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر في باب الحدود أولى، درءا للشبهة.
وتثبت السرقة إما بالإقرار أو بالبينة (شاهدين) ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام الحاكم، وبملك المسروق بالهبة وغيرها، ولو بعد رفع الأمر إلى الحاكم في مذهب أبي حنيفة ومحمد. وبشرط كون الملك قبل رفع الأمر إلى القضاء في مذهب الجمهور،
لما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس: أن لصا سرق رداء صفوان بن أمية من تحت رأسه، حينما كان متوسدا عليه حين نام في المسجد، فاستيقظ صفوان واستاق اللص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلا قبل أن تأتيني به» .(6/181)
ويجب رد المسروق بعينه إن كان قائما، وبقيمته إن كان مستهلكا عند الشافعية والحنفية
لما رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن سمرة: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» .
ولا يجب ردّ القيمة حال الاستهلاك عند الحنفية إذ لا يجتمع حد وضمان،
لما أخرجه النسائي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد»
لكنه حديث مرسل. وتوسط المالكية فقالوا: إن كان السارق موسرا عند الحد، وجب عليه القطع والغرم، تغليظا عليه، وإن كان معسرا لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم، تخفيفا عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة.
ثم علل سبحانه وتعالى حكم حد السرقة، فقال: جَزاءً بِما كَسَبا، نَكالًا مِنَ اللَّهِ أي أن قطع يد السارق والسارقة جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيء، نكالا أي إهانة وتحقيرا ومنعا من العودة للسرقة، وعبرة لغيرهما. وهذه العقوبة وإن نفر منها بعض الناس، لكنها العقوبة المناسبة التي هي الأشد تأثيرا ومنعا للسرقة، وتوفيرا لأمن الناس على أموالهم وأنفسهم، ولا يدرك أحد ما للسرقة من مخاطر نفسية وعصبية، وما لها من أثر في إحداث القلق والرعب في النفوس، لا سيما في الليالي الظلماء، إلا من تعرض للسرقة، فهي فضلا عن كونها خسارة ماحقة، تجعل الشخص معدوما يائسا بائسا يحتاج إلى الاقتراض ليؤمن قوته وقوت أسرته، ويتمنى أن يعثر على السارق ليقضي عليه، هي مثيرة للقلق والهلع، فيصبح الحي الذي تعرض لسرقة فأكثر مهددا كله بالأخطار، فلا يكاد ينام إنسان وهو مطمئن، وإذا اقتحم اللص منزلا في الليل أو في النهار، أوقع السكان في الذعر، وربما حدث القتل وإطلاق النار، وفي ذلك ضرر وأذى لا يمكن حصر حدوده أو التنبؤ بنتائجه، فكم من إنسان شاب شعره، وكم من امرأة وطفل فقدا أعصابهما، وكم من مخاوف أقضت مضاجع الناس في بيوتهم، حتى إن القتل لا يكاد في رأيي يعادل السرقة أحيانا لأنه حادث فردي ينتهي أثره(6/182)
فورا بالنسبة لغير أسرة القتيل، وهو ينحصر بما يكون من علاقة خاصة بين القاتل والمقتول، أما السرقة فإن تأثيرها جماعي ودائم، تبعد بنحو دائم أصحاب الأموال والمتاجر والمزارع والمصانع من الطمأنينة والثقة، وتهدد ثرواتهم بالضياع والخسارة.
ثم أكد الله تعالى ضرورة حد السارق فقال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء، قوي في انتقامه من السّراق، حكيم في صنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه المصلحة والحكمة، ويضع الحدود والعقوبات بما يراه الأنسب والأقطع لدابر الجريمة، واستئصال شأفة المجرمين، وزجر أمثالهم من التفكير في مثل جريمتهم، وكأنه يقول: لا تتساهلوا في شأن السراق واشتدوا في تطبيق حدهم، ففي ذلك الخير كله وعينه، وإن كره الحاقدون وانتقد الجاهلون.
ثم بيّن الله تعالى حكم التائبين الذين ندموا على ما فعلوا وأصلحوا أحوالهم فقال: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ.. أي فمن تاب من بعد سرقته، وأناب إلى الله، ورجع عن السرقة، ورد أموال الناس أو بدلها إليهم، وأصلح نفسه وزكاها بأعمال التقوى والبر، وكانت توبته بنية صادقة مع العزم على ترك العود، فإن الله يقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة.
وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند جمهور الفقهاء، وتسقطه في رأي الحنابلة، وهو الأولى لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة وهي القطع.
وأكد الله تعالى عدالة حد السرقة وأنه جاء على وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ.. أي ألم تعلم أيها الرسول وكل مبلّغ حكم الله أن الله هو المالك لجميع من في السموات والأرض، وهو المدبر له، والحاكم فيه الذي(6/183)
لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد، ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والعدل والرحمة، حتى يتوافر الأمن للفرد والجماعة، وتطمئن النفوس على أموالها، لتنصرف إلى أعمالها وهي آمنة على البيت والأهل وأماكن العمل، ومن حكمته:
أنه وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض واللصوص المهددين حرمة المال وحرية الإنسان، وأنه يغفر للتائبين من الفريقين، إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا أعمالهم لأن الهدف ليس هو العقاب لذاته، وإنما تحقيق الصلاح ونشر الأمن وإشاعة الطمأنينة، ومن حكمته وعدله أنه يعذب العصاة تربية وزجرا لهم ولأمثالهم وتأمينا لمصالح العباد، ومن رحمته: أنه يرحم التائبين ويسقط عنهم العقاب، وهو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة، والله أرحم بعباده من أنفسهم، وأشد من رحمة الأم بولدها، فهذا العقاب للحرابة والسرقة لمصلحتهم ومصلحة إخوانهم في المجتمع، فليس لأحد أن يتباكى على يد أثيم أو يشفق على يد عضو في المجتمع لأن هذا العضو فاسد ضار يهدم ويخرب وليس فيه أمل بخير إذا لم يصلح حاله.
فقه الحياة أو الأحكام:
العقاب دواء المنحرف الذي لا علاج له بغير التأديب، وليس من العدل ولا من الرحمة والحكمة والمصلحة أن تسود الجريمة في المجتمع، ويعيش الناس في فوضى واضطراب، وقلق واشمئزاز.
وتشريع الإله في كل الخير لمن أراد السعادة لنفسه ولأمته، وليس أدل على فشل التشريعات الجزائية الوضعية من أن الجريمة في بلادها تزداد وتكثر، ويتفنن المجرمون في أنواع الجريمة، لعدم توافر العقاب الزاجر الفعال الذي يستأصل الجريمة أو يقلل من وجودها.
والبلاد التي يطبق فيها التشريع الجنائي الإسلامي مثل واضح بارز في العالم(6/184)
لانتشار الأمن والطمأنينة على الأنفس والأموال، ولا يظنن أحد أن هذه البلاد ملأى بالمشوهين ومقطوعي الأيدي والأرجل، وإنما تطبيق الحدود نادر تقريبا، لأنه لا يطبق حد إلا إذا توافرت شروط كثيرة، تتجاوز العشرة، مما أدى إلى تضييق الحد بسبب الشبهة وانتفاء شرط من الشروط أو الضوابط، ولا تقطع أكثر من يد أو يدين في بلاد سكانها نحو عشرة ملايين. ففي السرقة مثلا لا يجب القطع إلا بجمع أوصاف في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته.
أما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف: وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا قطع بين السيد والعبد بأخذ أحدهما مال الآخر.
والسرقة من السارق توجب القطع عند المالكية، كالسرقة من الغاصب لأنّ حرمة المالك باقية عليه لم تنقطع عنه. وقال الشافعي: لا يقطع لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز.
وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف: وهي النصاب كما تقدم بيانه، وأن يكون مما يتموّل ويتملك ويحل بيعه. أما ما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع أحد بسرقته باتفاق حاشا الحر الصغير عند الإمام مالك وابن القاسم. وقيل: لا قطع بسرقته، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه ليس بمال. ورد المالكية: هو من أعظم المال ولم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد.
وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، فقال أشهب: يقطع سارق المأذون في اتخاذه، وكذا سارق لحم(6/185)
الأضحية أو جلدها إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم، وقال ابن القاسم: لا يقطع سارق الكلب، وهو مذهب المالكية، فلا يقطع من سرق كلبا ولو معلّما أو للحراسة
لأنه نهى صلّى الله عليه وسلّم عن بيعه.
وأما آلات الملاهي فيقطع إن كان يبقى منها بعد إفساد صورتها وإذهاب منفعتها المقصودة ربع دينار فأكثر.
وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها، يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة، وكذلك الصليب من الذهب أو الفضة.
والوصف الثالث: ألا يكون للسارق فيه ملك، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره، ولا شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال لأن للسارق فيه نصيبا، وتقطع يد السارق من بيت المال في رأي الإمام مالك لعموم لفظ السرقة.
والوصف الرابع: أن يكون مما تصح سرقته كالمال والعبد الصغير لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الكبير فلا قطع فيه.
وأما ما يعتبر في المسروق منه: فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق، وجملة القول فيه: أن كل شيء له مكان معروف، فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، في رأي المالكية.
ومن سرق من المغانم بعد تعين الحقوق بالقسمة فعليه القطع، ومن أخذ منها شيئا قبل القسمة فوق حقه قطع، وإلا لم يقطع.
والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الأكثر، وقال أبو حنيفة:(6/186)
لا قطع عليه لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له لأن الميت لا يملك.
وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع، سواء كان معه أهله، أم سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها والسيارات في الشوارع حرز لها، سواء كان معها أهلها أم لا. والسفينة حرز لما فيها، سواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كانت مربوطة فهي محرزة. وإن كان معها أحد فهي محرزة بالحافظ، كالدابة بباب المسجد أو في السوق ليست محرزة إلا أن يكون معها حافظ. ومن ربطها بفناء المسجد أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه، فإنه حرز لها.
ولا خلاف في أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ، وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يدخل بها بيته، ولا خرج بها من الدار.
ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن جابر: «أنت ومالك لأبيك»
ويقطع الولد في رأي جمهور المالكية في سرقة مال الأبوين لأنه لا شبهة له فيه. وقال الحنفية وابن وهب وأشهب من المالكية: لا يقطع لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة. وقال مالك:
لا يقطع الجد لأنه أب.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم.
وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من هؤلاء.(6/187)
وأما سارق المصحف فيقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد، وهو رأي الشافعي وأبي يوسف وأبي ثور وابن القاسم. وقال أبو حنيفة: لا يقطع من سرق مصحفا.
وأما الطرار (النشال) فقال مالك والأوزاعي والشافعي: يقطع. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمّه فطرّها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكمّ، فأدخل يده فسرقها قطع.
وأما إقامة الحدود في السفر وفي دار الحرب: فقال مالك والليث بن سعد:
تقام الحدود في أرض الحرب، ولا فرق بين دار الحرب والإسلام لعموم القرآن وهو الصحيح.
وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب، وعليهم أمير، فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه، فيقيم الحدود في عسكره،
لحديث جنادة بن أبي أمية عند الترمذي قال: «كنا مع بسر بن أرطاة في البحر، فأتي بسارق يقال له: مصدر قد سرق بختية «1» ، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» ولولا ذلك لقطعته.
واتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فحصل لكل واحد منهم نصاب، فيقطع الكل. أما إذا كان المسروق كله نصابا، فلا يقطع أحد في رأي أبي حنيفة والشافعي لأن كل واحد منهم لم يسرق نصابا. وقال المالكية: إن كان لكل واحد قدرة على حمله بانفراده، لا يقطع أحد، وإن احتاجوا في إخراجه إلى تعاون بعضهم، فيقطعون جميعا.
__________
(1) البختية: الأنثى من الجمال البخت، وهي جمال طوال الأعناق.(6/188)
وقال الحنابلة: يقطعون جميعا، لضرورة حفظ المال.
وإن اشترك اثنان في نقب وتعاونا فيه، قطعا عند المالكية والحنابلة، وإن انفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة، وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع وإلا فلا قطع. وقال الشافعي: لا قطع على من نقب ولم يسرق، وأما من سرق من نقب غيره، فإنه سرق من حرز مهتوك الحرمة.
ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز، فأدخل الآخر يده فأخذه، فعليه القطع عند الجمهور، ولا قطع عليه عند أبي حنيفة.
وإن أخطأ الحاكم فقطع يد السارق اليسرى بدل اليمنى، لا يزاد عليه، استحسانا، في قول أكثر العلماء.
وإذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا، فقال مالك يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ويقتل لأنهما حقان لمستحقين، فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح، كما اختار ابن العربي والقرطبي.
والحكمة في البدء بالسارق قبل السارقة في هذه الآية، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني: هو أن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، فبدأ بما تكون الدواعي منه أكثر على ارتكاب الجرم.
والمستفاد من قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:
هو أنه لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد أي يرتكب الجرم.
وقد سبق مثل هذه الجملة في الرد على مزاعم اليهود والنصارى.(6/189)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
الإعراب:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إما مبتدأ وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أو صفة لموصوف محذوف تقديره: فريق سماعون، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم سماعون للكذب. وقد تزاد اللام في المفعول، كقوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] . وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف 12/ 43] .(6/190)
لَمْ يَأْتُوكَ: جملة فعلية في موضع جر صفة لقوم. ويُحَرِّفُونَ: جملة فعلية حال من ضمير سَمَّاعُونَ. والتقدير: يسمعون مقدّرين للتحريف. ويجوز أن تكون الجملة في موضع رفع لأنه صفة لموصوف محذوف في موضع رفع بالابتداء وتقديره: وفريق يحرفون، وهو عطف على سَمَّاعُونَ وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا. وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ الواو للحال من التحكيم، والعامل ما في الاستفهام من التعجب فِيها حُكْمُ اللَّهِ فِيها: إما متعلق بخبر مقدم، وإما ألا يكون له محل، وتكون الجملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وإما أنه حال من التوراة.
البلاغة:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ خوطب بلفظ الرسالة للتشريف والتكريم.
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آثر فِي على كلمة «إلى» للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر.
سَمَّاعُونَ.. صيغة مبالغة، أي مبالغون مكثرون في سماع الكذب.
خِزْيٌ تنكيره لتفخيم الأمر. وكرر قوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لزيادة التقرير والتأكيد.
فِي الدُّنْيا.. والْآخِرَةِ بينهما طباق.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجب من تحكيمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.
وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ الإشارة بالبعيد لبعد درجتهم في العتو والمكابرة.
المفردات اللغوية:
لا يَحْزُنْكَ لا يؤلمك فعل هؤلاء الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه بسرعة، أي يظهرونه إذا وجدوا فرصة مِنَ الَّذِينَ للبيان بِأَفْواهِهِمْ قالوا بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وهم المنافقون سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي أقرته أحبارهم، سماع قبول لِقَوْمٍ لأجل قوم آخَرِينَ من اليهود لَمْ يَأْتُوكَ وهم أهل خيبر يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ الذي في التوراة كآية الرجم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ التي وضعه الله عليها أي يبدلونه إِنْ أُوتِيتُمْ هذا الحكم المحرف أي الجلد أي أفتاكم به محمد فاقبلوه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أفتاكم بخلافه فِتْنَتَهُ اختباره وإضلاله.
خِزْيٌ ذل بالفضيحة والصغار لِلسُّحْتِ للكسب الحرام كالرشوة وثمن الكلب والخمر والخنزير، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات أي يذهبها فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة 5/ 49](6/191)
فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا مع مسلم، وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب القضاء بينهم بِالْقِسْطِ بالعدل الْمُقْسِطِينَ العادلين في الحكم، أي يثيبهم.
فِيها حُكْمُ اللَّهِ بالرجم، والمراد من قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ استفهام تعجيب أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم.
سبب النزول:
نزول الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ..:
روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس قال: أنزلها الله في طائفتين من اليهود، قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا فاصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقا «1» ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة، فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك، حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان ذلك في حيين قط؟ دينهما واحد، ونسبتهما واحدة، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنا أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وخوفا وفرقا، فأما إذ قدم محمد، فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما، فأرسلوا إليه ناسا من المنافقين ليختبروا رأيه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ الآية.
أي
أن الآية نزلت في بني قريظة والنضير، فتحاكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري.
وقيل:
إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فخانه، حين أشار إليهم أنه الذّبح «2» .
__________
(1) الوسق: ستون صاعا، والصاع: 2751 غم.
(2) كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الأمر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح.(6/192)
وقيل: إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم قال القرطبي: وهذا أصح الأقوال «1» . والقصة ما يأتي:
روى الأئمة: مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن البراء بن عازب قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيهودي محمّما «2» مجلودا، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: اللهم لا، ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، وأمر به فرجم، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ.
وأخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عمر قال: «إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا:
نسخّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فجاءوا بالتوراة، وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا، فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك فرفع يده، فإذا هي تلوح (أي آية الرجم) فقالوا: يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجما، فلقد يجأ عليها (ينحني) يقيها الحجارة بنفسه» .
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 176 [.....]
(2) التحميم: وضع الحمة أي الفحمة في الوجه، وهو التسخيم الوارد في الرواية الأخرى من السخام: وهو سواد القدر.(6/193)
نزول الآية (42) :
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: نزلت هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة، سمع كلامه، وعول عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعون منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. وقيل: سماعون للكذب الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أكالون للربا، كما قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء 4/ 161] .
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى بعض التكاليف والشرائع، وأعرض عنها بعض الناس متسارعين إلى الكفر، صبّر الله رسوله على تحمل ذلك، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ ...
وقد خاطب تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضع كثيرة، وما خاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلا في موضعين:
أحدهما- هاهنا، والثاني- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة 5/ 67] وهذا خطاب تشريف وتعظيم.
التفسير والبيان:
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: وهم المنافقون واليهود.(6/194)
فقال: يا أيها الرسول: وهو خطاب تشريف وتعظيم وتعليم للمؤمنين أن يخاطبوه بوصفه، كما قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور 24/ 63] فأصبحوا ينادونه بقولهم: «يا رسول الله» بعد أن كانوا ينادونه «يا محمد» .
لا يحزنك أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في إظهار الكفر، والانحياز إلى جانب الأعداء، كلما سنحت لهم الفرصة، فإني ناصرك عليهم، وكافيك شرهم.
وليس المراد النهي عن الحزن ذاته لأنه أمر طبعي جبلّي لا اختيار للإنسان فيه ولا تكليف به، وإنما المراد النهي عن لوازمه من مقدمات ونتائج من تعظيم شأن الحزن، وتعاطي أسبابه.
ثم بين من هؤلاء، وهم الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون، واليهود أعداء الإسلام وأهله الذين يصغون لسماع الكذب من أحبارهم، سواء فيما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أو بأحكام دينهم، والكل سماعون لأقوام آخرين من اليهود الذين لا يأتون مجلسك يا محمد، فهم جواسيس ليبلغوهم ما سمعوا منه، ومعنى قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ.. أي لأجل قوم.
وأولئك اليهود يحرفون كلام التوراة من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه، أي يحرفونه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بالزيادة فيه والنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير معناه الحقيقي، وتأويله بمعنى آخر، وتبديله عن إصرار وعلم بالحقائق.
وهم يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليسألوه عن حكم الزانيين المحصنين: إن أفتاكم بالتسخيم (أو التحميم) والجلد، فاقبلوا منه وارضوا به، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبوله ولا ترضوا به.(6/195)
والحال أنه من يرد الله اختباره في دينه، فيظهر الاختبار كفره وضلالته، فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه، ولن تملك له أيها الرسول من الله شيئا يمنع ذلك، ولن تستطيع هدايته وإرشاده إلى الحق.
فهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهر الاختبار مقدار فسادهم لأنهم يقبلون الكذب، ويحرفون أحكام دينهم، اتباعا لأهوائهم، فلا تحزن عليهم، ولا تطمع بعد هذا بإيمانهم.
أولئك الذين اختبرهم الله هذا الاختبار لم يرد الله بعدئذ تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق لأن من دأب على الباطل، وأمعن في السوء والشر، لم يبق فيه أمل للخير، ولم يعد له سبيل للنور ورؤية الحق.
وجزاء الفريقين من اليهود والمنافقين الخزي في الدنيا، والعذاب العظيم الهول الشديد الوقع في الآخرة، أما خزي المنافقين في الدنيا فهو افتضاح أمرهم وظهور كذبهم للنبي وخوفهم من القتل، وأما خزي اليهود فهو أيضا فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص كتابهم في إيجاب الرجم على الزناة المحصنين.
ثم كرر تعالى وصفهم للتأكيد وتقرير المعنى، وهو كثرة سماعهم للكذب، وكثرة أكلهم للسحت، أي المال الحرام من أخذ الرشوة، واستباحة أجر البغي (الزانية) وعسب الفحل (أجرة ضرابه) وثمن الخمر والميتة وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعاصي، كما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد. ويرجع أصل ذلك إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة، ويعيّر به الإنسان «1» .
ثم خيّر الله تعالى رسوله بالحكم بين اليهود والإعراض عن الحكم، فقال فيما معناه: فإن جاؤوك متحاكمين إليك، فأنت بالخيار بين الحكم أو القضاء بينهم،
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 235(6/196)
والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم وعلمائهم. وهذا التخيير خاص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم دون أهل الذمة، فأهل الذمة يجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا لأن من عقد معهم عقد الذمة التزموا أحكام الإسلام في الجرائم والمعاملات، إلا في بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرون عليه، ولا يرجم الزناة المحصنون في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الإسلام من شروط الرجم، ويرجمون في رأي الشافعي وأحمد عملا بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان.
وبهذا يوفق بين هذه الآية وآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (الآية 49 الآتية) وهو رأي الشافعية. وقيل: نسخت الآية الأولى بالثانية، وهو قول ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وعكرمة.
وإن تعرض عن الحكم بينهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم، فالله حافظك وعاصمك من الناس. والغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين اللذين خير فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم اغتاظوا وربما حاولوا أذاه، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له.
وإن حكمت بينهم، فاحكم بالعدل الذي أمرت به، إن الله يحب العادلين، والعدل شرعة القرآن والإسلام، سواء بين المسلمين، أو مع الأعداء.
وكيف يحكّمونك في قضية مثل الزانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون.
هذه الآية تعجب من تحكيمهم، لعدولهم عن حكم كتابهم، ورجوعهم إلى حكم من يعتقدونه مبطلا، وإعراضهم عن حكمه بعد تحكيمه.(6/197)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن اليهود حكّمت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة، واستند في ذلك إلى قول ابن صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان.
فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام: فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب ونحوها من مسائل الجنايات، حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف.
وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي لقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وهو نص في التخيير. غير أن مالكا رأى أن الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة 5/ 49] .
ودلت الآية على أن التحكيم جائز، قال مالك: إذا حكّم رجل رجلا فحكمه ماض، وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكون جورا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه صوابا. قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان. والضابط أن كل حق اختصم الخصمان به جاز التحكيم فيه، ونفذ تحكيم المحكم به «1» .
وقال الشافعي: التحكيم جائز، وهو غير لازم، وإنما هو فتوى لأنه لا يقدم آحاد الناس على الولاة والحكام، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم.
وظاهر الآية دل على أن المحكّم ينفذ حكمه فيما حكم فيه، فإن اليهود حكموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفذ حكمه فيهم.
__________
(1) أحكام القرآن: 2/ 619(6/198)
وعقاب المحرّفين: خزي في الدنيا بفضيحتهم حين أنكروا الرجم، وإذلالهم وعذاب عظيم جدا في الآخرة.
ودلت الآية: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ على كثرة سماع اليهود الكذب وكثرة أكلهم المال الحرام، كالرشوة في الحكم وحلوان الكاهن (أي ما يعطى على الكهانة) ومهر البغي وغير ذلك مما ذكر.
والرشوة حرام في كل شيء، وهي قد تكون في الحكم أو التقاضي، وهي محرمة على الراشي والمرتشي،
قال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش الذي يمشي بينهما» «1»
لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه، كان فاسقا لقبوله الرشوة على أن يحكم له بما يريده، وإن حكم بالباطل، كان فاسقا لأخذه الرشوة وحكمه بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم أو القضاء، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما قال الحسن:
«لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه» . وحينما كان ابن مسعود بالحبشة رشا دينارين وقال: «إنما الإثم على القابض، دون الدافع» .
وأرشدت الآية: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ... إلى التخيير في الحكم بين المعاهدين أهل الموادعة، لا أهل الذمة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة وادع اليهود، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟.
قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي، واختلفوا في الذميين.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده عن ثوبان، وهو حديث صحيح.(6/199)
والنبي صلّى الله عليه وسلّم حكم بينهم بشريعة موسى عليه السلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية.
ويلاحظ أن أقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به.
والجمهور على رد شهادة الذمي لأنه ليس من أهلها، فلا تقبل على مسلم ولا كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم.
فإن قيل: فقد حكم عليه الصلاة والسلام بشهادتهم ورجم الزانيين، فالجواب: أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل، إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما.
وأوضحت الآية مثلما ذكر في آيات أخرى أن بعض اليهود لا كلهم يحرفون كلام التوراة على غير حقيقته، أي يتأولونه على غير تأويله، بعد أن فهموه وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل، وبيّن أحكامه، مثل جعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين، تغييرا لحكم الله عز وجل.
ودلت آية: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة، على أن الضلال بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، وأنه لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم، كما طهرت قلوب المؤمنين ثوابا لهم «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 233، تفسير القرطبي: 6/ 182(6/200)
فذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أن الآية محكمة وثابتة في سائر الأحكام غير منسوخة، وأن الحاكم مخير، وهي مخصوصة في المعاهدين الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة، فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك. أما أهل الذمة فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم إذا تحاكموا إليه، لكن في رأي مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن لا يحد الذميون حد الزنى. ورأى الشافعي وأبو يوسف: أنهم يحدون إن أتوا راضين بحكمنا.
وذهب أبو حنيفة والنخعي وعمر بن عبد العزيز إلى أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وأن على الحاكم أن يحكم بين أهل الذمة. وهو رأي ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة. قال مجاهد:
لم ينسخ من المائدة إلا آيتان: قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [المائدة 5/ 2] نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] .
قال الرازي: احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا، ما لم ينسخ، وهو ضعيف، ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه، لكن الشرع نهى عن النظر فيها، بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم» .
__________
(1) تفسير الرازي: 11/ 236(6/201)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
التوراة هدى ونور وتشريع القصاص فيها وإلزام النصارى بالحكم بها
[سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
الإعراب:
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا: لِلَّذِينَ صفة للنبيين على سبيل المدح، لا بمعنى الصفة التي تدخل للفرق بين الموصوف وغيره لأنه لا يحتمل أن يكون النَّبِيُّونَ غير مسلمين.(6/202)
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ منصوب بالعطف على اسم أَنَّ وهو النفس. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره بِالْعَيْنِ أو معطوف على الضمير المرفوع في قوله: بِالنَّفْسِ أي النفس مقتولة بالنفس.
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ منصوب عطفا على المنصوب بأن، كأنه قال: وأن الجروح قصاص.
وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره قِصاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ الضمير راجع إلى القصاص فَهُوَ أي التصدق.
مُصَدِّقاً الأول حال من عيسى، وَمُصَدِّقاً الثاني حال من الْإِنْجِيلَ.
فِيهِ هُدىً وَنُورٌ رفع بالظرف لأنه وقع حالا، فارتفع ما بعده ارتفاع الفاعل بفعله.
وَلْيَحْكُمْ اللام لام الأمر، ويجزم بها الفعل. ومن قرأ بكسر اللام وفتح الميم فاللام فيه لام كي، والفعل بعدها منصوب بتقدير (أن) .
البلاغة:
فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لعلماء اليهود بطريق الالتفات عن الغيبة: (فلا يخشوا) إلى الخطاب.
المفردات اللغوية:
التَّوْراةِ الكتاب الذي أنزل على موسى فِيها هُدىً من الضلالة ببيان الأحكام والتكاليف وَنُورٌ بيان لأصول توحيد الله وأمور النبوة والمعاد يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من بني إسرائيل. الَّذِينَ أَسْلَمُوا انقادوا لله لِلَّذِينَ هادُوا اليهود الرَّبَّانِيُّونَ هم العلماء الحكماء البصراء بأمور الناس والحياة، المنسوبون إلى الرب وهو الخالق المدبر لأمر الملك، الذي يربي الناس بالعلم. وَالْأَحْبارُ الفقهاء المتقون الصالحون، جمع حبر: وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه بِمَا اسْتُحْفِظُوا بما طلب إليهم حفظه من كتاب الله أن يبدلوه شُهَداءَ رقباء وحفاظ وشاهدون أنه حق.
فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم والرجم وغيرهما وَاخْشَوْنِ في كتمانه وَلا تَشْتَرُوا تستبدلوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا تأخذونه على كتمانها وَكَتَبْنا فرضنا عَلَيْهِمْ فِيها في التوراة وهو القصاص، وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص، بأن مكن من نفسه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ(6/203)
هُمُ الْكافِرُونَ
به، وهو القصاص وغيره الظَّالِمُونَ المبالغون في الظلم والجور لمخالفة شرع الله الْفاسِقُونَ الخارجون من الإيمان وطاعة الله، المتجاوزون أحكام الدين.
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم، كما قال: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة 2/ 87] .
سبب النزول:
نزلت آية: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ في اليهود الذين بدلوا حكم التوراة في الرجم، فجعلوا مكانه كما تقدم الجلد والتسخيم.
روى مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم يهوديا ويهودية، ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: نزلت كلها في الكفار «1» .
المناسبة:
بعد أن ندد تعالى باليهود الذين أعرضوا عن حكم التوراة بالرجم، وطلبهم الحكم الأخف والأسهل من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ذكر ما تضمنته التوراة من هداية بني إسرائيل وبيان أحكام الدين. ففي هذه الآية نبّه الله اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتابهم من رجم الزاني والقصاص من القاتل المعتدي، ووبخهم على مخالفة الأحبار المتقدمين والأنبياء المبعوثين إليهم.
التفسير والبيان:
إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم، مشتملة على الهدى: بيان الأحكام والتكاليف، والنور: أصول الاعتقاد من توحيد الله وأمور النبوة والآخرة،
__________
(1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 112(6/204)
أنزلناها شرعا وقانونا يحكم بها النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين، الذين بعثهم الله بعد موسى في بني إسرائيل حتى عيسى عليهم السلام.
قال ابن الأنباري: الذين أسلموا: صفة للنبيين على معنى المدح، لا على معنى الصفة التي تميز الموصوف عن غيره لأنه لا يحتمل أن يكون النَّبِيُّونَ غير مسلمين. وهذا رد على اليهود والنصارى وتقرير أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية ولا بالنصرانية كما زعموا، بل كانوا مسلمين لله منقادين لأحكامه.
للذين هادوا: أي يحكم النبيون بالتوراة لأجل اليهود وفيما بينهم، فهي شريعة خاصة بهم لا عامة، وكان داود وسليمان وعيسى يحكمون بها.
ويحكم بها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون، والمقصود بالأولين: العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ومصالحهم، والأحبار: هم العلماء المتقون الصالحون «1» ، يحكمون بالتوراة في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، أو مع وجودهم بإذنهم، بسبب ما استحفظوا من كتاب الله، أي بسبب ما استودعوا من علمه، وقد أخذ الله العهد على العلماء حفظ كتابه من جهتين: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، وألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.
قال الطبري: والربانيون: جمع ربّاني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم. والأحبار: هم العلماء جمع حبر: وهو العالم المحكم للشيء «2» .
وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي وكان العلماء الصالحون على كتاب الله شهودا
__________
(1) أطلق لقب الربّاني على علي رضي الله عنه،
لقوله: أنا رباني هذه الأمة
، وأطلق لقب: حبر الأمة على ابن عباس.
(2) تفسير الطبري: 6/ 161(6/205)
ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف، وشاهدون أنه الحق من ربهم، مثل عبد الله بن سلام الذي شهد بحكم الرجم في التوراة، وكتمان صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به.
ثم خاطب الله رؤساء اليهود المعاصرين لزمن الوحي القرآني الذين كتموا وبدلوا، بعد أن أقام عليهم شهودا من أنفسهم فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ أي وإذا الحال كما ذكر، فلا تخافوا الناس أيها الأحبار المعاصرون، فتكتموا الحق، من صفة النبي والبشارة به، طمعا في نفع دنيوي عاجل، وخافوا الله فلا تحرفوا كتابي، خوفا من الناس والرؤساء، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم. ولما كان الخوف أشد تأثيرا من الطمع قدم الله ذكره فقال:
فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ.
ثم ذكر أمر الطمع والرغبة في النفع، فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة عاجلة حقيرة تأخذونها من الناس من رشوة أو طمع في مال أو جاه أو رياسة كاذبة أو رضا الآخرين، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها سحت حرام لا بقاء لها، فلا تضيعوا بها الدين والثواب الدائم، إذ كيف تأخذون القليل الزائل بالكثير الدائم؟! وكل من لم يحكم بغير ما أنزل الله، مثل جعل الجلد والتحميم بدلا من الرجم، وكتمان صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتأويلها على غيره، وقضائهم في بعض القتلى بدية كاملة وفي بعضهم بنصف دية، وتركهم القصاص، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق، الظالمون الجائرون، الفاسقون الخارجون عن حدود الله، تلك أوصافهم، وصفهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة، وتمردوا بأن حكموا بغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب. فهذا وعيد شديد المقصود منه تهديد اليهود الذين(6/206)
حرفوا التوراة في الزاني المحصن والاقتصاص من القاتل المعتدي، فأصبحوا كافرين غير مؤمنين لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن.
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء، هي في الكفار «1» . قال الرازي: وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم نقل عن عكرمة: قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية. ثم قال الرازي: وهذا هو الجواب الصحيح، والله أعلم «2» .
والخلاصة: أن التكفير هو لمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله، وأنكر بالقلب حكم الله، وجحد باللسان، فهذا هو الكافر. أما من لم يحكم بما أنزل الله، وهو مخطئ ومذنب، فهو مقصر فاسق، مؤاخذ على رضاه الحكم بغير ما أنزل الله.
ولما جعل اليهود دية النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به أي يقتص منه، مخالفين حكم التوراة وحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سألوه، نزلت هذه الآية لبيان تشريع القصاص: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها ...
أي فرضنا في التوراة التماثل والمساواة في القصاص، فتقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، ويقلع السن بالسن، ويجري القصاص في الجروح، أي يعتبر فيها المساواة بقدر الاستطاعة.
فالآية تدل على جريان القصاص في كل ما ذكر، وقد أخذ أبو حنيفة: أن
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 163
(2) تفسير الرازي: 12/ 6(6/207)
المسلم يقتل بالذمي. وقال الجمهور: لا يقتل المسلم بالذمي، لأن الآية شرع من قبلنا، وهو ليس شرعا لنا في رأي الشافعية،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو: «لا يقتل مسلم بكافر» .
والمراد من قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، دون تعد عليه، فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى، وإن رضي المقتص منه. وذلك حال التعمد، أما في حال الخطأ ففي العين الواحدة نصف الدية، وفي العينين دية كاملة.
وإذا فقأ الأعور عين الصحيح، فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي أخذا بعموم قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ قال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنه أسلم عند الله تعالى. وقال مالك: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية كاملة (دية عين الأعور) لأن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه.
وقال أحمد: لا قود عليه وعليه الدية كاملة لأن في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة.
وكذلك يقتص من الأنف والأذن والسن إذا كانت الجناية عمدا، كالقصاص من سائر الأعضاء. أما اللسان: فقال أكثر أهل العلم: فيه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه من ثمانية وعشرين حرفا، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية.
ولسان الأخرس فيه حكومة عدل.
وأما الجروح فكل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا: وهي التي توضح العظم أي تكشفه، فإن لم يمكن القصاص كرض في لحم أو كسر في عظم كعظم الصدر ففيه حكومة عدل أي تعويض يقدره القاضي. بمعرفة الخبراء.(6/208)
هذا كله في حال التعدي والعمد، أما في حال الخطأ فتجب الدية أو بعضها أو التعويض المقدر قضاء.
ثم أشار الله تعالى إلى العامل الإنساني وهو العفو والصفح والتسامح، فقال:
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي تصدق بحقه في القصاص وعفا عن الجاني، فالتصدق كفارة له، يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] .
وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق بشيء من جسده أعطي بقدر ما تصدق»
وهو حديث حسن.
ومن أعرض عما أنزل الله من القصاص القائم على العدل والمساواة بين الأشخاص، فهو من الظالمين الجائرين الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم، ويتعدون حدود الله، ويضعون الشيء في غير موضعه.
وهنا تساؤل: أي فائدة في ذكر الظلم بعد الكفر، والكفر أعظم من الظلم، والظلم أخف منه؟ والجواب: أن الكفر تقصير في حق الخالق سبحانه، والظلم تقصير في حق النفس «1» .
ثم بين تعالى أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل، فقال: وأتبعنا على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فهو آخر نبي لليهود، مصدقا للتوراة التي تقدمته قولا وعملا أي مقرا بأنه كتاب من عند الله وأنه كان حقا واجب العمل به، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل، قال عيسى عليه السلام: «ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) ولكن لأكمل أو لأتمم» أي لأزيد عليها بعض الأحكام والمواعظ.
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 8(6/209)
لذا قال تعالى آمرا النصارى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة 5/ 47] وقال هنا: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ أي وأعطيناه الإنجيل فيه الهداية للأحكام العملية والضياء لأصول العقيدة، كالتوحيد ونبذ الشرك والوثنية، والإنجيل كالقرآن مصدق للتوراة، والله جعل الإنجيل هاديا وواعظا المتقين، لأنهم الذين ينتفعون به.
ويلاحظ أن تكرار جملة وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لمعنيين مختلفين، الأول: أن المسيح يصدق التوراة، والثاني: أن الإنجيل يصدق التوراة.
وأما تكرار كلمة هُدىً فالمراد بها أولا: بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور: بيان التوحيد والنبوة والمعاد، وأما المقصود بها ثانيا: فهو أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو سبب لاهتداء الناس إلى رسالة الإسلام لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم النبي الأخير «البارقليط» الأعظم.
وأما كون الإنجيل مختصا بعظة المتقين فلاشتماله على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله تعالى عن القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» [2 لبقرة 2/ 2] .
وبعد بيان خصائص الإنجيل أمر تعالى بالعمل به فقال: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أي وقلنا: ليعمل النصارى بالأحكام التي أنزلها الله فيه، كما قال تعالى في أهل التوراة: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها. والمقصود من الأمر بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن: هو زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثلما فعل اليهود بإخفاء أحكام التوراة.
__________
(1) المرجع السابق: 12/ 9(6/210)
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون أي المتمردون الخارجون عن حكم الله وشرعه.
وأوصاف الكافرون، الظالمون، الفاسقون هل هي واحدة أو متعددة؟ جعل بعضهم هذه الثلاثة صفات لموصوف واحد، وخصصها ابن عباس في أهل الكتاب (اليهود والنصارى) . والأولى أن يقال: من جحد حكم الله وأنكره فهو الكافر، ومن لم يحكم به وهو مقر تارك فهو الظالم الفاسق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- التوراة الأصلية فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون (أنبياء بني إسرائيل) والربانيون والأحبار، والربانيون: العلماء الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم. والأحبار: العلماء المتقنون الذين يحكمون الشيء فهما ودراية، ويبينونه للناس بيانا حسنا.
2- الإنجيل الأصلي فيه هدى ونور ومصدق للتوراة وهدى وموعظة للمتقين.
3- القصد من الإشارة بالتوراة والإنجيل هو زجر اليهود والنصارى عن التحريف والتبديل، والتحذير من التفريط بالأحكام المقررة فيهما، وبيان التقائهما مع القرآن في الأصول والأحكام الأساسية، مما يوجب الإيمان بالقرآن وبالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبرسالته التي ختمت بها الرسالات السماوية.
4- تشريع القصاص كما هو ثابت في شريعة موسى ثابت مقرر في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو حنيفة والشافعية: إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل، فعل به ذلك لأن الله تعالى قال: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ(6/211)
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال المالكية: إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته، قتل بالسيف.
5- احتج الجمهور غير الشافعية بآية: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ على أن شرع من قبلنا شرع لازم لنا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا لأن الله تعالى يقول: فِيها هُدىً وَنُورٌ والمراد بيان أصول الشرع وفروعه، ولو كان كتاب التوراة منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية، لما كان فيه هدى ونور.
6- استدل الخوارج بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ على قولهم: كل من عصى الله فهو كافر، فقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله.
ورد جمهور أهل السنة بأن هذه الآية إنما تتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له.
7- في قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ترغيب في العفو والصفح والتسامح لما فيه من كظم الغيظ، والحفاظ على النفس الإنسانية قدر الإمكان،
وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة.
8- من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. واختار ابن جرير الطبري أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 166 [.....](6/212)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
الحكم بشريعة القرآن
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
الإعراب:
مُصَدِّقاً ومُهَيْمِناً منصوبان على الحال من الْكِتابَ.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ معطوف على قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وتقديره: أنزلنا إليك بالحق وبأن احكم بينهم.
أَنْ يَفْتِنُوكَ في موضع نصب على البدل من الهاء والميم في وَاحْذَرْهُمْ وتقديره:
واحذر أن يفتنوك، وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عطف على قوله: فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. وإنما كسر أَنِ لدخول اللام في الخبر، كقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون 63/ 1] فكسر أَنِ في هذه المواضع لدخول اللام في الخبر لأنها في تقدير التقديم، فعلقت الفعل عن العمل.(6/213)
البلاغة:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا فعل الخيرات، وفيه استعارة حيث شبههم بالمتسابقين على ظهور الخيل لأن كل واحد ينافس صاحبه في السبق لبلوغ الغاية المقصودة. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ استفهام إنكاري.
المفردات اللغوية:
وَمُهَيْمِناً رقيبا وحافظا لما تقدمه من سائر الكتب وشاهدا عليها وشاهدا لها بالصحة والثبات مِنَ الْكِتابِ بمعنى الكتب فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك عَمَّا جاءَكَ حائدا عما جاءك مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً شريعة وهي ما شرعه الله لعباده من الدين ونظامه وأحكامه وَمِنْهاجاً طريقا واضحا مستمرا يسير عليه الناس في الدين، قيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ: ولكن أراد ليختبركم فيما ألزمكم به من الشرائع المختلفة بحسب كل عصر، ليرى هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرّطون في العمل؟! فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بادروا وسارعوا إليها إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، ويجزي كلا منكم بعمله.
أَنْ يَفْتِنُوكَ لئلا يضلوك عنه أو يميلوا بك من الحق إلى الباطل فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي يعاقبهم في الدنيا بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع بعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها. وهذا الإبهام لتعظيم التولي عن حكم الله وإسرافهم في ارتكابه.
لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه، يعني أن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر يَبْغُونَ يطلبون من المداهنة والميل إذا تولوا. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللام للبيان، أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.(6/214)
سبب النزول:
نزول الآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ.. [49] : روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسيد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فجاءوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ فيه كما قال الزمخشري وجهان:
أحدهما- أن بني قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى،
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: القتلى سواء، فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك، فنزلت.
والثاني- أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا تصدر عن كتاب، ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى.
وعن الحسن: هو عام في كل من يبغي غير حكم الله. والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم الله، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان.
وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، والإنجيل الذي أنزله على عيسى كلمته، وذكر ما فيهما من هدى ونور، وأمر باتباعهما حيث كانا(6/215)
سائغي الاتباع، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، وأبان منزلته من الكتب المتقدمة قبله، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر بحسب الأحوال والأزمان.
التفسير والبيان:
وأنزلنا إليك أيها النبي القرآن الكريم الذي أكملنا به الدين، مشتملا على الحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت 41/ 42] مصدقا ومؤيدا للكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن تلك الكتب من عند الله، وأن موسى وعيسى رسولان من عند الله، لم يفتريا على الله كذبا، وإنما أنتم وآباؤكم حرفتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم.
والقرآن جاء أيضا مهيمنا، أي حاكما على ما قبله من الكتب، وشاهدا عليها بما نزل فيها، وشاهدا لها بالصحة والثبات في أصلها، ومبينا حقيقة أمرها، وما طرأ عليها من نسيان وتحريف وتبديل.
قال ابن عباس وابن جريج وآخرون: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: القرآن أمين مؤتمن على ما تقدمه من الكتب، فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر: إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا «1» .
وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته، فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم، بين أهل الكتاب وبين الناس قاطبة، احكم بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام، دون ما أنزله إليهم إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم.
احكم بما في هذا الكتاب العظيم وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 172(6/216)
الأنبياء ولم ينسخ في شرعك، ولا تتبع أهواءهم أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولا تنصرف ولا تمل ولا تعدل عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء، وما أحدثوا من تحريف وتبديل لحكم الرجم والقصاص في القتلى والبشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيرها.
ثم استأنف الله تعالى الكلام، فقال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي لكل أمة من الأمم جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، ومنهاجا وطريقا واضحا فرضنا عليهم سلوكه، حسبما تقتضي أحوال المجتمعات وطبائع البشر واستعداداتهم وتطور الأزمان، وإن كانت تلك الشرائع متفقة في أصول الدين وهي توحيد الله وعبادته وحده، وفي أصول الأخلاق والفضائل.
قال الألوسي عن آية: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق، ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذي كلفوا العمل به: من مضى قبل النسخ. والخطاب- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة، الموجودين والماضين بطريق التغليب.
فلكل أمة من الأمم الباقية والخالية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة، لا تكاد أمة تتخطى شرعتها والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام، شرعتهم: ما في التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث أحمد عليهما السلام، شرعتهم: ما في الإنجيل وجميع أمم أهل الأرض من مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، شرعتهم الوحيدة المقبولة عند الله:
ما في القرآن، ليس إلا، فآمنوا به واعملوا بما فيه «1» لأن محمدا خاتم النبيين، وهو رسول إلى الناس كافة، وشريعته أكمل الشرائع وأوفاها، وقرآنه هو الكتاب
__________
(1) تفسير الألوسي: 6/ 153(6/217)
الوحيد الباقي للبشرية دون تغيير ولا تبديل، وثابت ثبوتا قطعيا يقينيا لا شك ولا ريب فيه. والشرعة أو الشريعة عرفا: هي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق. والدين: هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء.
ثم خاطب الله تعالى جميع الأمم، وأخبر عن قدرته الفائقة أنه لو شاء لجعل الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة إذ لا تصلح شريعة واحدة لكل الأزمان والشعوب، بسبب تفاوتهم في الرقي والنضج العقلي، فلما تقاربت البشرية شرع لها شريعة واحدة، وأن الهدف من تشريعه شرائع مختلفة: هو اختبار عباده فيما شرع لهم، لينظر الطائع فيثيبه، والعاصي بما فعله أو عزم عليه فيعاقبه.
ثم ندب الله تعالى الناس إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي ابتدروها وتسابقوا نحو الطاعات، وتنافسوا في طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، وصدقوا تصديقا يقينيا بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، وذلك كله لخيركم وصلاحكم، ولإحراز الفضل والرضا الإلهي، فإلى الله معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة، فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان.
ثم أكد الله تعالى ما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. أي ألزمناك الحكم بالمنزل عليك، ولا تتبع أهواء المعاندين، واحذر أعداءك اليهود أن يضلوك عن الحق، ويدلسوه عليك فيما يخبرونك من أمور، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة. ومعنى: عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ: عن كل ما أنزل الله إليك، والبعض يستعمل بمعنى الكل. وقال ابن(6/218)
العربي: والصحيح أن بَعْضِ على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم.
فإن أعرضوا عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله، فلا تبال بهم، واعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى، بسبب ما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ويريد الله أن يعذبهم في الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم، وهو التولي والإعراض عن حكم الله وشرعه، وعما تحكم به، وقد تحقق ذلك العذاب بسبب غدر اليهود،
فأجلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بني النضير عن المدينة، وقتل بني قريظة.
أما بقية ذنوبهم الكثيرة فيعاقبون عليها بعذاب أليم في الدار الآخرة، وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أي متمردون في الكفر، مخالفون للحق وحائدون عنه، وخارجون عن حدود الشرع والدين والعقل. وفي هذا مواساة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم على عدم قبولهم الحق الذي جاء به.
ثم ندد الله تعالى باليهود الذين يريدون التمييز بين القتلى بحسب نوع القبيلة، ويريدون تحكيم أهواء الجاهلية، مع أنهم أهل كتاب، فوجه هذا الاستفهام الإنكاري لهم ولأمثالهم بقوله: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله، وهو الحق والعدل والصواب، تم يطلبون حكم الجاهلية القائم على الجور والظلم والهوى، فهذا توبيخ وتعجب من حالهم، وإنكار على كل من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، إلى ما سواه من الآراء والأهواء، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات التي يضعونها بآرائهم المعوجة وأهوائهم الطائشة.
هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو موجه لقوم يوقنون بحقيقة الدين، ويذعنون لشرع الله، ويدركون أنه لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.(6/219)
وفسره القرطبي فقال: لا أحد أحسن من الله حكما (نصب على البيان والتمييز) عند قوم يوقنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- هناك جسور التقاء واضحة بين القرآن وما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل لأن هذه الكتب وصفت كلها بأنها هدى ونور، ونواحي الالتقاء هي في أصول الاعتقاد كتوحيد الإله وربوبيته وإثبات النبوة والمعاد، وفي أصول الأحكام التشريعيه كعبادة الله تعالى والصوم والصلاة والزكاة، وأصول الأخلاق والفضائل كالأمانة والصدق وتحريم الزنى والسرقة وجرائم العرض، وذلك كله في التوراة والإنجيل الأصليين المنزلين على موسى وعيسى.
إلا أن القرآن وإن جاء مصدقا ومؤيدا لتلك الكتب في أصول الشرع والدين المذكورة، إلا أنه حاكم عليها ومهيمن على ما جاء فيها، فلا يعمل بحكم فيهما عارض القرآن.
2- إذا ترافع أهل الذمة إلينا وجب الحكم بينهم بشريعة الإسلام، لا بشرع سابق، للآية: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قيل: هذا نسخ للتخيير السابق في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة 5/ 42] وهذا رأي الجمهور.
وقال الشافعية: لا تعارض بين الآيتين، ولا حاجة للنسخ لأن الآية الأولى في المعاهدين، والثانية في الذميين.
3- النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مسلم منهي ومحرم عليه أن يترك الحكم بما بيّن الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام.
4- الله قادر على توحيد الشعوب والأمم والجماعات وجعلهم على ملة(6/220)
واحدة، وعقيدة واحدة، وشريعة واحدة، فكانوا على الحق. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت جعل الشرائع مختلفة للاختبار.
5- المبادرة إلى الطاعات والتنافس في فعل الخيرات سمة الأتقياء الصالحين، ودل قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها، إلا في الصلاة في أول الوقت، فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه.
وفيه دليل أيضا على أن الصوم في السفر أولى من الفطر.
6- في قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ دليل على جواز النسيان على النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه قال: أَنْ يَفْتِنُوكَ وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد.
7- إن إباء حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم والإعراض عنه سبب للمصائب في الدنيا لأن الله تعالى قال في اليهود: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي يعذبهم بالجلاء والقتل وفرض الجزية. وإنما قال بِبَعْضِ لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم.
8- كان العرب في الجاهلية يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع، وكان اليهود يفعلون مثلهم، فيقيمون الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء، لذا أنكر الله عليهم بقوله: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
ومن أفعال الجاهلية تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة أو العطية، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وهو قول الحنابلة والظاهرية
لقوله عليه الصلاة والسلام لبشير في حديث النعمان الآتي تخريجه: «ألك ولد سوى هذا؟» قال: نعم، فقال: «أكلّهم وهبت له مثل هذا؟» فقال: لا، قال: «فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور»
وفي رواية: «وإني لا أشهد إلا على حق»
قالوا: وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز،
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث(6/221)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
آخر: «أشهد على هذا غيري»
ليس إذنا في الشهادة، وإنما هو زجر عنها لأنه عليه الصلاة والسلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه. وفعل أبي بكر لا يعارض قول النبي صلّى الله عليه وسلّم. أما القول بأن الأصل حرية الإنسان في التصرف في ماله مطلقا فلا يعارض الحديث، لذا
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن النعمان بن بشير: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» .
وأجاز ذلك مالك وأصحاب الرأي والشافعي والثوري والليث لفعل أبي بكر الصديق في نحلة عائشة دون سائر ولده،
وبقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي عن النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد جاء بابنه النعمان فقال: يا رسول الله، إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكل بنيك نحلت؟» قال: لا، قال: «فأرجعه»
وفي رواية: «فأشهد على هذا غيري» .
9- لا أحد أعدل من الله، ولا أحسن حكما من حكم الله تعالى.
موالاة اليهود والنصارى
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)(6/222)
الإعراب:
يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي: في إغوائهم وإفسادهم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
أَنْ يَأْتِيَ في موضع نصب لأنه خبر عسى. وفَيُصْبِحُوا عطف عليه.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا مرفوع على الاستئناف. ومن نصبه إما عطف على المعنى، كأنه قدّر تقديم أَنْ بعد فَعَسَى وعطف عليه، وتصير الجملة: «عسى أن يأتي الله بالفتح» وهي في معنى المذكور في الآية أو أنه معطوف على بِالْفَتْحِ وهو مصدر في تقدير «أن يفتح» ولما عطف على اسم، افتقر إلى تقدير (أن) أو معطوف على فَيُصْبِحُوا وهو وجه بعيد لكنه جائز.
فَعَسَى اللَّهُ: عسى من الله واجب لأن ذلك من الكريم بمنزلة الوعد، لتعلق النفس به.
المفردات اللغوية:
أَوْلِياءَ نصراء وحلفاء توالونهم وتوادونهم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لاتحادهم في الكفر فَإِنَّهُ مِنْهُمْ من جملتهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بموالاتهم الكفار فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي أن إيمانهم ضعيف معتل غير صحيح، بسبب الشك والنفاق يُسارِعُونَ في موالاتهم يَقُولُونَ معتذرين عنها دائِرَةٌ يدور بها الدهر علينا من مصيبة، كجدب أو هزيمة وغلبة بِالْفَتْحِ بالنصر لنبيه بإظهار دينه وفتح البلاد وغير ذلك أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يفتضح المنافقين فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الشك وموالاة الكفار نادمين.
حَبِطَتْ بطلت أعمالهم الصالحة فَأَصْبَحُوا صاروا خاسِرِينَ الدنيا بالفضيحة، والآخرة بالعقاب الأليم.
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف من الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فحالفهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتبرأ(6/223)
من حلف الكفار وولايتهم، قال: ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت القصة في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية.
وفي رواية أخرى عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولّى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من موالاة مواليّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبي: «يا أبا الحباب، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه» قال: إذن أقبل، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى.. إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وذكر في السيرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كان الكفار معه ثلاثة أقسام:
قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه وعادوه.
وقسم وقفوا محايدين، لم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، وكانوا في الحقيقة والباطن معادين له وهم (المنافقون) .
وقد عامل كل فريق بما أمره الله به، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمان، وكانوا طوائف ثلاثة حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربه بنو قينقاع بعد بدر، ونقض بنو النضير العهد بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو قريظة العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد حارب كل فئة ونصره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.(6/224)
التفسير والبيان:
مضمون الآيات أن الله تعالى ينهى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يواليهم.
أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا توالوا اليهود والنصارى أعداء الإسلام، أي لا تتخذوهم أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، ولا تسروا إليهم بأسراركم، ولا تطمئنوا إلى صداقتهم ومحبتهم أو مودتهم، إذ لن يخلصوا لكم، وبعضهم أولياء بعض، أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، وقد نقض اليهود عهودهم، والكل متفق على معاداتكم وبغضكم.
ثم توعد من يواليهم فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي ومن ينصرهم أو يعينهم أو يستنصر بهم، فإنه في الحقيقة منهم أي من جملتهم وكأنه مثلهم، وليس من صف المؤمنين الصادقين. وهذا تغليظ من الله وتشديد على المنافقين الذين يتصادقون مع اليهود والنصارى المخالفين في الدين لأن موالاتهم تستدعي الرضا بدينهم. وهذا يومئ إلى أن العلاقات والمحالفات بين المسلمين وغيرهم لمصالح دنيوية غير منهي عنها في الآية.
وسبب هذا الوعيد: أن من يوالي هؤلاء في شؤون الدين وقضاياه ومقتضيات الدعوة ونشاطها، فينصرهم أو يستنصرهم بهم، فهو ظالم لنفسه بوضعه الولاية في غير موضعها، والله لا يهديه إلى خير أو حق بسبب موالاة الكفر.
وواقع الأمر أن المنافقين الذين في قلوبهم شك وريب ونفاق يسارعون فيهم، أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، وهم عبد الله بن أبي وجماعته المنافقون.(6/225)
وسبب موالاة هؤلاء المنافقين لأعداء الإسلام: أنهم يتأولون في مودتهم أنهم يخشون انتصار الكافرين على المسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك. وهذا شأن المنافقين المستضعفين في كل زمان ومكان، يتخذون صداقات ومودات عند زعماء الكفر لتأييدهم ودعمهم أثناء الأزمات، وقد أثبت الواقع تخليهم عنهم وقت المحنة الشديدة وبيع صداقتهم بثمن بخس، وقد رأينا في عصرنا كيف تتخلى أمريكا مثلا عن رئيس دولة ما عاش كل عهده حليفا لها، ومنفذا لمآربها، وسائرا في مخططاتها، فهي التي تستخدمه وتستهلكه، ثم تتخلى عنه وقت المحنة والأزمة، فخاب كل من استعان بغير الله وبغير أهل دينه.
لذا رد الله على مزاعم وتأويلات هؤلاء: بأنه لعل الله يأتي بالفتح والنصر والفصل بين المؤمنين والكافرين كما حدث في فتح مكة وغيره، أو يأتي بأمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل في شأن هؤلاء الكافرين، كإلقاء الرعب في قلوب يهود بني النضير، ونحو ذلك من وقائع إدالة المؤمنين أي نصرهم على الكافرين، فيصبح المنافقون الذين والوا اليهود والنصارى نادمين على ما كان منهم، مما لم يفدهم شيئا، وإنما كان ذلك عين السوء والمفسدة، فإنهم فضحوا أمام المؤمنين بعد أن كانوا مستورين. قال المفسرون: فَعَسَى: من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله، فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له «1» .
وبه يتبين أن المقصود بالفتح: تحقيق الفتوح في مكة وغيرها من بلاد العرب وإجلاء اليهود من الحجاز وخيبر وغيرها. وأما الأمر من عند الله فهو تدبير شيء خفي للأعداء، كإجلاء اليهود من موطنهم، أو قهرهم مثل قهر بني قريظة، أو إلقاء الرعب في قلوبهم كما حدث لبني النضير، أو إخضاع اليهود والنصارى لأحكام الإسلام وسلطة الدولة الإسلامية بفرض الجزية عليهم.
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 16(6/226)
وحينئذ تتبدد تأويلات المنافقين، ويظهر كذبهم وافتراؤهم، لذا قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يقول بعض المؤمنين لبعض أو لليهود تعجبا واستهجانا وشماتة: أهؤلاء الذين أقسموا بالله: إنهم معكم وإنهم مناصروكم على أعدائكم اليهود، ثم انكشفوا على حقيقتهم، وتبينت عداوتهم، كما قال تعالى:
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة 9/ 56] أي أنهم جماعة خائفون يظهرون الإسلام تقيّة أو مناورة أو سياسة، لا حقيقة. وأردف المؤمنون القول: هؤلاء المنافقون بطلت أعمالهم التي يؤدونها نفاقا من صلاة وصيام وحج وجهاد، فخسروا بذلك الدنيا والأجر والثواب في الآخرة.
والمفسرون اختلفوا في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي:
أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي، فآوي إليه، وأتهود معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث، وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصر معه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيات.
وقال عكرمة فيما رواه ابن جرير: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فسألوه ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي إنه الذبح.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، كما قال ابن جرير، وكما ذكر في سبب النزول.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- قطع الموالاة والمودة شرعا بين المؤمنين وبين الكافرين في أمور الدين(6/227)
وقضاياه الكبرى الأساسية. ولا مانع من وجود علاقات لمصالح دنيوية تقتضيها الضرورة، بدليل ما قال الطبري في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: يعني ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وأسخطه، وصار حكمه حكمه «1» .
ودل قوله: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أن حكمه حكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد.
وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود 11/ 113] وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 28] وقال سبحانه:
لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران 3/ 118] .
وأعلن تعالى فصل الموالي للكفار عن جماعة المؤمنين، فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم، أي من أصحابهم.
2- إن مخاوف المنافقين التي أدت بهم إلى موالاة الكفار تتبدد أمام تدبير الله وتأييده ونصره، وتدمير الأعداء، وإحباط مخططاتهم، وإذلالهم.
3- ظهور حقيقة المنافقين في مرأى المؤمنين، فيتعجبون من شأنهم، قائلين لبعضهم: أهؤلاء الذين ادعوا نصرتنا بالأيمان المغلظة؟ أو قائلين لليهود على
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 179(6/228)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
جهة التوبيخ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد؟
فالآية تحتمل قول المؤمنين لبعضهم، أو لليهود.
المرتدون ومعاداتهم المسلمين
[سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
الإعراب:
مَنْ يَرْتَدَّ: من: شرطية، ويرتدّ: مجزوم بها.
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ في موضع جر صفة لقوم، وكذلك قوله تعالى أَذِلَّةٍ.. وأَعِزَّةٍ وكذلك يُجاهِدُونَ وصف لهم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال منهم.
وَهُمْ راكِعُونَ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير يُؤْتُونَ. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على الصَّلاةَ والواو ليست للحال، فلا يكون لها موضع من الإعراب.
البلاغة:
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ بينهما طباق.
لَوْمَةَ لائِمٍ التنكير في الكلمتين للمبالغة.
المفردات اللغوية:
مَنْ يَرْتَدَّ يرجع عن الإسلام، والردة: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر أو إلى غير دين،(6/229)
أو ترك ركن من أركان الإسلام كالزكاة جهارا وعنادا. يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يثيبهم، ويخلصون له العمل ويطيعونه في كل أمر ونهي. أَذِلَّةٍ جمع ذليل أي عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع، من الذل وهو الحنو والعطف. أَعِزَّةٍ أشداء متعالين عليهم. لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أي أنهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين كإنكار منكر، أو أمر بمعروف أو مجاهدة في سبيل الله، لا يأبهون لقول قائل ولا اعتراض معترض ولا لوم لائم يلومهم وينتقدهم، خلافا للمنافقين الذين يخافون لوم الكفار. ذلِكَ المذكور من الأوصاف فضل الله. وَاللَّهُ واسِعٌ كثير الفضل. عَلِيمٌ بمن هو أهله.
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ أي إنما ناصركم ومعينكم على طريق الأصالة والحقيقة هو الله. وأما ولاية من عداه فهي على سبيل التبع والظاهر. وَهُمْ راكِعُونَ خاشعون وخاضعون. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يعينهم وينصرهم. فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ الحزب: الجماعة المجتمعة على أمر واتجاه خاص، وحزب الله: أتباعه، والغالبون: المنتصرون لنصر الله إياهم.
سبب النزول:
نزلت هذه الآيات فيمن ارتد من القبائل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهم ثلاث:
1- بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي الذي تنبأ باليمن، وكان كاهنا، وقتل على يد فيروز الديلمي.
2- وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب الذي تنبأ في اليمامة، وأرسل كتابا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، يذكر فيه أنه شريك له، وأن الأرض قسمان
فكتب له النبي صلّى الله عليه وسلّم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
قاتله أبو بكر رضي الله عنه، وقتله وحشي الذي قتل حمزة، وكان يقول:
قتلت في جاهليتي خير الناس، وفي إسلامي شر الناس.
3- وبنو أسد بزعامة طليحة بن خويلد، ارتد أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقاتله أبو بكر في خلافته، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه.(6/230)
وارتدت سبع قبائل في عهد أبي بكر وهم:
1- غطفان بزعامة قرّة بن سلمة.
2- فزارة قوم عيينة بن حصن.
3- بنو سليم قوم الفجاءة عبد يا ليل.
4- بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.
5- بعض قبيلة بني تميم، بزعامة سجاح بنت المنذر، الكاهنة زوجة مسيلمة.
6- كندة قوم الأشعث بن قيس.
7- بنو بكر بن وائل الحطم بن زيد.
وارتد في عهد عمر جبلة بن الأيهم الغساني، الذي تنصر ولحق بالشام لأنه كان يطوف حول الكعبة، فوطئ إزاره رجل من فزارة، فلطمه جبلة، فهشم أنفه، فشكاه الفزاري إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فحكم إما بالعفو أو القصاص، فقال جبلة: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة، فقال عمر: الإسلام سوى بينكما، ثم استمهل إلى غد، فهرب.
فصار مجموع من ارتد إحدى عشرة فئة أو فرقة «1» .
وأما الذين أتى الله بقوم يحبهم ويحبونه: فهم أبو بكر وأصحابه، وقيل: هم قوم من أهل اليمن، وقيل: هم رهط أبي موسى الأشعري، ورجح الطبري أن الآية نزلت في قوم أبي موسى من أهل اليمن، لما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: هم قوم أبي موسى «2» .
__________
(1) الكشاف: ص 466، تفسير الرازي: 12/ 18 وما بعدها، سيرة ابن هشام: 2/ 576، 621، البداية والنهاية لابن كثير: 5/ 48- 52، تاريخ الخلفاء: ص 76، سيرة عمر بن الخطاب للطنطاويين: ص 360
(2) تفسير الطبري: 6/ 183(6/231)
سبب نزول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ:
ذكرت روايات يقوي بعضها بعضا أنها نزلت في علي بن أبي طالب الذي سأله سائل وهو راكع في تطوع، فتصدق عليه بخاتمه. وأثبت الرازي أن هذه الآية مختصة بأبي بكر «1» .
وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... إعلام من الله عباده جميعا الذين تبرؤوا من اليهود وحلفهم رضا بولاية الله ورسوله والمؤمنين «2» .
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى عن موالاة الكافرين، وبيّن أن الذين يبادرون إلى توليهم مرتدون، ذكر استغناءه عن أهل الردة، واعتماده على صادقي الإيمان الذين يحبهم ويؤثرون حبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وولد.
التفسير والبيان:
موضوع الآيات بيان قدرة الله العظيمة على استبداله بالمرتدين من هو خير لدينه وإقامة شريعته، وهو من كان أصلب دينا وأشد منعة وأقوم سبيلا، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد 47/ 38] وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء 4/ 133] وقال عز وجل: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع ولا صعب [إبراهيم 14/ 19- 20] .
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 186، أسباب النزول للسيوطي، تفسير القرطبي: 6/ 221، تفسير الرازي:
12/ 20- 23
(2) تفسير الطبري: 6/ 187(6/232)
يا أيها المؤمنون من يرجع عن الحق إلى الباطل، فيترك دينه في المستقبل فسوف يأتي الله بقوم بديل عنهم وصفهم القرآن بست صفات:
1- يحبهم الله تعالى: أي يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم، ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم.
2- ويحبون الله تعالى: باتباع أمره واجتناب نهيه، وإطاعته وابتغاء مرضاته، والبعد عما يوجب سخطه وعقابه.
3، 4- أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين: أي عاطفين على المؤمنين متواضعين لهم، أشداء متعالين على الكافرين المعادين لهم، وهما نحو قوله تعالى:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح 48/ 29] وقوله عز وجل في عزة الإيمان: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] .
5- يجاهدون في سبيل الله: أي يقاتلون من أجل رفعة كلمة الله ودينه، وسبيل الله: هو طريق الحق والخير والفضيلة والتوحيد المؤدي إلى مرضاة الله، والدفاع عن الوطن والأهل والديار.
6- لا يخافون لومة لائم: لا يخشون لوم أحد واعتراضه ونقده لصلابتهم في دينهم، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل، على نقيض المنافقين الذين يخافون لوم حلفائهم اليهود.
ثم قال تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك المذكور من الصفات التي وصف بها القوم: وهي المحبة والذلة للمؤمنين والعزة على الكافرين والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة، هو من فضل الله يعطيه من يشاء، ويوفق إليه من يريد، والله واسع، أي ذو سعة فيما يملك ويعطي كثير الأفضال، عليم بمن هو أهلها، فهو تعالى واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك، ممن يحرم منه.(6/233)
وبعد أن نهى الله عن موالاة الكافرين، أمر بموالاة الله ورسوله والمؤمنين، فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ليس اليهود بأوليائكم وأنصاركم، وإنما وليكم وناصركم بحق هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة، أي يؤدونها كاملة تامة الأركان والشروط، ويؤتون الزكاة أي يعطونها بإخلاص وطيب نفس لمن يستحقها، وهم خاضعون لأوامر الله، بلا تململ ولا تضجر ولا رياء.
ومن يناصر دين الله بالإيمان به والتوكل عليه، ويؤازر رسول الله والمؤمنين دون أعدائهم، فإنه هو الفائز الناجي، وهو الذي يحقق النصر والغلبة، وعندها يتحقق نصر حزب الله وغلبتهم أي جماعة المؤمنين، ويكون المؤمنون هم الغالبون لأنهم حزب الله، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ إلى قوله: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة 58/ 21- 22] فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور فيهما.
فقه الحياة أو الأحكام:
1- تضمنت الآيات وعيدا لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخبارا غيبيا أنه سيرتد قوم من الناس.
كما تضمنت أيضا وعدا من الله لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد.
فلما قبض الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم ارتد قوم من أهل القبائل، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 182(6/234)
روى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية، وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس.
قالوا: نصلي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلّم أبو بكر في ذلك، فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا، أعطوها وزادوها. فقال: لا والله، لا أفرّق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله، لقاتلناهم عليه، فبعث الله عصابة (جماعة) مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (وهي الزكاة) صغرة (أذلاء مهينين) أقمياء (ذليلين ضعفاء) .
فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم، أن يقروا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال، ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال «1» .
والخلاصة: إن هذا من إعجاز القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم إذ أخبر عن ارتداد العرب، ولم يكن ذلك في عهده، وكان ذلك غيبا، ووقع ما أخبر به بعد مدة، وأهل الردة- كما بينت- كانوا بعد موته صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثا «2» ، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها قالوا: نصوم ونصلي ولا
__________
(1) المرجع السابق: 6/ 183
(2) جؤاثا مهموز: اسم حصن بالبحرين، وفي
الحديث: «أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة بجؤاثا» .(6/235)
نزكي فقاتل الصدّيق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش، فقاتلهم وسباهم، على ما هو مشهور من أخبارهم.
2- أصح ما قيل في نزول قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: أنها نزلت في الأشعريين ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن «1» .
وروى الحاكم في المستدرك بإسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى أبي موسى الأشعري، لما نزلت هذه الآية فقال: «هم قوم هذا» .
3- المؤمنون أذلة على بعضهم، رحماء فيما بينهم، يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، أعزة على الكافرين أشداء عليهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته.
4- دل قوله: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ بخلاف المنافقين: على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو وليّ لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة.
5- الله ولي الذين آمنوا، وقال تعالى هنا: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه،
وقال في رواية أخرى وكما ذكر في سبب النزول عن مجاهد والسدي: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 220(6/236)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
والأصح أن الآية عامة في جميع المؤمنين لأن الَّذِينَ لجماعة، ومن عمومياتها ما يأتي:
قال جابر بن عبد الله: قال عبد الله بن سلام للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية
، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء.
وأولياء الله: هم الموصوفون بالآية لا غيرهم: الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويخشعون لله تعالى. والمراد: يأتون بصلاة الفرض في أوقاتها بجميع حقوقها، ويؤدون الزكاة المفروضة بطيب نفس.
6- من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله، وحزب الله: جند الله وأنصاره والمنفذون أوامره، والمجتنبون نواهيه. وإذا توافرت هذه الصفات كانوا هم الغالبين: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات 77/ 173] .
النهي عن موالاة الكفار وأسبابه
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)(6/237)
الإعراب:
وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ: الْكُفَّارَ معطوف بالنصب على الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ. وقرئ بالجر عطفا على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.
أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ في موضع نصب بتنقمون.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ.. ما في الموضعين بمعنى «الذي» في موضع جر بالعطف على اسم الله تعالى. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على بِاللَّهِ وتقديره: آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون.
مَثُوبَةً تمييز منصوب، والعامل فيه بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ.
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ: إما مجرور بدلا من بِشَرٍّ بدل الشيء من الشيء وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مع حذف مضاف وتقديره: «هو لعن من لعنه الله» فحذف المبتدأ وإما منصوب على الذم بتقدير فعل وتقديره: أذكر أو أذمّ من لعنه الله. وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ معطوف على لَعَنَهُ وكذلك وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ولم يأت بضمير جمع في عَبَدَ حملا على لفظ مِنْ.
مَكاناً منصوب على التمييز. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ في موضع نصب على الحال.
وكذلك خَرَجُوا بِهِ أي: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. والباء باء الحال كقولهم: خرج زيد بسلاحه، أي متسلحا.(6/238)
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للحث والإثارة.
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ هذا من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس فقد جعلوا التمسك بالإيمان موجبا للإنكار.
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من باب التهكم، حيث استعملت المثوبة في العقوبة.
شَرٌّ مَكاناً نسب الشر للمكان وهو لأهله مبالغة في الذم.
المفردات اللغوية:
هُزُواً مهزوءا به وسخرية. وَلَعِباً مِنَ لبيان الجنس، واللعب: ضد الجد.
وَالْكُفَّارَ المشركين. وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك موالاتهم. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صادقين في إيمانكم.
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي والذين إذا دعوتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة. اتَّخَذُوها الصلاة. هُزُواً وَلَعِباً بأن يستهزءوا بها ويتضاحكوا. ذلِكَ الاتخاذ. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم.
هَلْ تَنْقِمُونَ تنكرون وتعيبون بالقول أو بالفعل. المعنى ما تنكرون إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبوله، المعبر عنه بالفسق اللازم عنه، وليس هذا مما ينكر عقلا وعرفا.
مَثُوبَةً ثوابا وجزاء، من ثاب إليه إذا رجع، والجزاء يرجع إلى صاحبه.
الطَّاغُوتَ: كل ما عبد من دون الله، كالشيطان والأصنام، وعبادة الطاغوت مجاز عن طاعته. وروعي في قوله مِنْهُمُ معنى «من» وفيما قبله لفظها وهم اليهود. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً لأن مأواهم النار. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ طريق الحق، وأصل السواء: الوسط.
وذكر بِشَرٍّ ... وأَضَلُّ في مقابلة قول اليهود الذين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر عيسى: لا نعلم شرا من دينكم. وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على آمَنَّا.
وَإِذا جاؤُكُمْ منافقو اليهود. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي دخلوا إليكم متلبسين بالكفر.
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا من عندكم متلبسين به، ولم يؤمنوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي يكتمونه من النفاق.
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي اليهود. يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ يقعون في الكذب.
وَالْعُدْوانِ الظلم. وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ المال الحرام الدنيء كالرشوة في القضاء والربا وغير ذلك.
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ الكذب.(6/239)
لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أي يصنعونه من ترك النهي عن ذلك كله.
سبب النزول: نزول الآية (57) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري الأصفهاني (274 هـ) عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادهما، فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ إلى قوله: بِما كانُوا يَكْتُمُونَ.
وبه قال:
أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وغازي بن عمرو، فسألوه: فمن نؤمن به من الرسل؟ قال: أؤمن بالله: وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ الآية.
وفي رواية: فلما ذكر عيسى، قالوا: لا نعلم دينا شرا من دينكم.
وفي رواية عن ابن عباس: أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا.
المناسبة:
نهى الله تعالى في الآيات السابقة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء (حلفاء وأنصارا) من دونه لأن بعضهم أولياء بعض، ثم كرر النهي هنا للتأكيد عن اتخاذ الكفار عامة أولياء، لإيذائهم المؤمنين ومقاومتهم دينهم.(6/240)
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات التنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من أهل الكتاب والمشركين الذين يهزؤون بشرائع الإسلام المطهرة، ويتخذونها نوعا من اللعب.
يا أيها المؤمنون لا تتخذوا الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الذين يهزؤون بدينكم، ويتخذون شعائره وشرائعه لونا من اللعب، لا تتخذوهم أولياء أي حلفاء وأنصارا، فإن الهازئ بالشيء معاند له وساخر به وغير مؤمن به وعدوّ له ولأهله، وإن تظاهروا بالمودة، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ
[البقرة 2/ 14] .
واتقوا الله وخافوا عذابه ووعيده أيها المؤمنون إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده، أو كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا.
وكذلك إذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان، اتخذوها أيضا هزوا ولعبا لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر حتى لا يسمع التأذين.
ثم ناقشهم الحق تعالى فقال: قل يا محمد لهؤلاء أهل الكتاب الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا: هل تنكرون أو تعيبون علينا إلا إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب قبل على الرسل، وما هذا بعيب ولا مذمة؟ فيكون الاستثناء منقطعا، كما في قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 8] وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة 9/ 74] .(6/241)
ولأن أكثركم فاسقون، أي متمردون خارجون عن حقيقة الدين، وليس لكم من الدين إلا التعصب والمظاهر والتقاليد الجوفاء.
وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ معطوف على آمَنَّا بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين الحكم عليكم بتمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم، حيث دخلنا في دين الإسلام، وأنتم خارجون منه.
ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون.
ويمكن عطفه على المجرور، أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون.
وعبر بالأكثر لأن بعض أهل الكتاب ما يزالون متمسكين بأصول الدين من توحيد الإله وعبادته، والتزام الحق والعدل، وحب الخير.
ثم أجابهم تعالى عن استهزائهم بقوله: قل لهم يا محمد، هل أنبئكم أي أخبركم أيها المستهزئون بديننا الذين تقولون: «لا نعلم شرا من دينكم» وأعلمكم بما هو شر من أهل ذلك، أو من دين من لعنه الله، بتقدير مضاف محذوف قبل كلمة ذلِكَ. واستدعى ذلك سؤالا آخر منهم عن الذي هو شر: ما هو؟
فأجاب تعالى: والذي هو شر من ذلك: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي هل أخبركم بشر مما تقولون وتظنونه بنا هو جزاء من لعنه الله. كقوله تعالى: قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ: النَّارُ [الحج 22/ 772] . وفي هذا انتقال من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، وهو التذكير بسوء حال أسلافهم مع أنبيائهم، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم.(6/242)
ومن لعنه الله، أي أبعده وطرده من رحمته، واللعنة تلزم الغضب الإلهي، وهو يستلزم اللعنة إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه.
وغضب عليه، أي غضبا لا يرضى عنه أبدا.
وجعل منهم القردة والخنازير غضبا منه عليهم وسخطا، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى المتقدم: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة 2/ 65] وقوله فيما يأتي: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الأعراف 7/ 166] والجمهور على أنهم مسخوا حقيقة، فكانوا قردة وخنازير وانقرضوا، والقردة:
أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى، وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير.
والدليل على انقراضهم
ما رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: «إن الله لم يهلك قوما- أو قال: لم يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك» .
ونقل الطبري عن مجاهد وغيره في قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي أذلة صاغرين «1» .
وعبد الطاغوت، أي جعل منهم من صير الطاغوت معبودا من دون الله، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، كالأصنام والشيطان والعجل، فكانت عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فصارت عبادتهم له عبادة للشيطان.
أولئك المتصفون بما ذكر من المخازي والمعايب شر مكانا مما تظنون بنا إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار، وهم أضل عن قصد الطريق الوسط المعتدل وهو
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 264(6/243)
الحق الذي لا يعلوه شيء. والتعبير بكلمتي بِشَرٍّ ... وأَضَلُّ ليس للمفاضلة لأن هذا الدين خير محض وإنما هذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر، من قبيل المشاكلة للفظهم والمجاراة لهم في اعتقادهم، كقوله عز وجل: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان 25/ 24] .
ثم بيّن الله تعالى حال المنافقين، فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ.. أي إذا جاء منافقو اليهود قالوا: آمنا بالرسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم مستصحبون للكفر مقيمون عليه في قلوبهم، فإذا دخلوا عندك يا محمد أو عليكم أو خرجوا من عندكم فحالهم سواء، لم يتحولوا عن كفرهم، وهذه صفة معروفة للمنافقين منهم: أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ودأبهم الخداع والمكر، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ [البقرة 2/ 76] .
وهم جميعا أغبياء لأن الله أعلم بما كانوا يكتمون، أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن تظاهروا للناس بخلاف الحقيقة، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، ولم يختلف وضعهم من الكيد والمكر والخبث والكذب والخيانة حين دخولهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين وحين خروجهم: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة 5/ 41] .
فهم بهذا شذاذ لأن من كان يجالس الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوعي وأدب، سرعان ما يقذف الله في قلبه نور الإيمان، ولربما كان يقصد قتله إذا رآه وسمع كلامه.
ثم أضاف القرآن من أوصافهم شرا مما ذكر، فقال تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ ... أي وترى أيها النبي كثيرا من هؤلاء اليهود المستهزئين بدينك يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل،(6/244)
لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم، فما أقبح أعمالهم وأسوأ أفعالهم! ثم حض الله تعالى علماءهم على النهي عن قول الإثم وأكل السحت فقال:
يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ.. قال البيضاوي: هذا للحض، فإنإذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض، أي هلا كان ينهاهم الربانيون (وهم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم) والأحبار (هم العلماء فقط) «1» عن تعاطي ذلك؟ لبئس ما كانوا يصنعون من تركهم ذلك ورضاهم بالمنكر، كأنهم جعلوا أكثر إثما من مرتكبي المنكرات لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، كما قال الزمخشري «2» . وقال القرطبي: والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة «3» .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي أشد آية في القرآن، أي ليس في القرآن ما هو أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، أي أنها حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظام الحياة للفرد والمجتمع.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية تأكيد صريح لما سبق من قطع الموالاة مع الكفار عامة لأنهم يستهزءون بشرائع الإسلام وأحكامه، وبخاصة وقت النداء أي الأذان للصلاة.
قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن، وقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/ 74، البيضاوي: ص 156 [.....]
(2) الكشاف: 1/ 471
(3) تفسير القرطبي: 6/ 237(6/245)
قد قاموا لا قاموا، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا، وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر.
وعن مشروعية الأذان قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون: «الصلاة جامعة» فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي «الصلاة جامعة» للأمر يعرض كصلاة الجنازة وصلاة العيد وصلاة الكسوفين. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء.
ثم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح: «الصلاة خير من النوم» فأقرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والأذان من شعائر الإسلام، وهو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر،
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سرية قال لهم: «إذا سمعتم الأذان فأمسكوا وكفّوا، وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا- أو قال: فشنوا الغارة» .
لذا قال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. وقال مالك: إنما يجب الأذان في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، ثم اختلف أصحابه على قولين: أحدهما- سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر ونحوه من القرى. والثاني- هو فرض على الكفاية. وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين، أعادوا الصلاة.
واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة، أي فهما سنة مؤكدة.(6/246)
واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول، عملا بحديث أبي محذورة.
وكذلك اتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان، وذلك رجوع المؤذن إذا قال: «أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين» رجّع فمدّ من صوته جهده.
وقال الحنفية: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة: «الله أكبر» أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان، عملا بما رآه في المنام عبد الله بن زيد وفي حديثه: «فأذن مثنى وأقام مثنى» .
ورأى الإمام أحمد أنه يجوز تربيع التكبير أو تثنيته في أول الأذان، ويجوز الترجيع وعدمه، ويجوز تثنية الإقامة وإفرادها، إلا قوله: «قد قامت الصلاة» فإن ذلك مرتان على كل حال، كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع ذلك، وعمل به أصحابه.
واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح: وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، فقال المالكية والشافعية: يسن ذلك مرتين في أذان صلاة الفجر، لحديث أبي محذورة فيما رواه الخمسة (أحمد وأهل السنن) ، ولا يسن ذلك عند الحنفية والحنابلة.
وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد،
لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر وعائشة: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»
وقال الحنفية: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمالك بن الحويرث وصاحبه فيما(6/247)
أخرجه الجماعة السبعة عن مالك: «إذا حضرت الصلاة فأذّنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما»
وقياسا على سائر الصلوات.
وأجاز مالك وأبو حنيفة وأصحابهما أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره لأن بلالا أذن وأقام عبد الله بن زيد.
وقال الشافعي: من أذن فهو يقيم، لحديث زياد بن الحارث الصّدائي:
«إن أخا صداء أذّن ومن أذّن فهو يقيم» .
ويترسّل المؤذن في أذانه، ولا يطرّب به كما يفعله كثير من الجهال.
ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين، وإن أتمه جاز، وهذا مذهب المالكية
لحديث الجماعة عن أبي سعيد الخدري: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن» .
ويستحب عند الجمهور أن يقول السامع مثلما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» لحديث عمر في صحيح مسلم.
ودل قوله تعالى: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا على توبيخ أهل الكتاب على تعيير المسلمين بشيء لا محل لإنكاره أو ذمه أو تعييبه.
وأرشد قوله تعالى: يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ.. إلى النعي على العلماء توانيهم في القيام بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد وبخ الله علماء اليهود في تركهم النهي عن المنكر. ودلت الآية أيضا على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجاء في صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .(6/248)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
من أقبح أقوال اليهود وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم وجزاء إيمان أهل الكتاب
[سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
الإعراب:
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ.. ما أنزل: في موضع رفع فاعل: وَلَيَزِيدَنَّ وتقديره:
وليزيدن الذي أنزل إليك كثيرا منهم.
البلاغة:
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: غل اليد: كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود. وبين مَغْلُولَةٌ ... ومَبْسُوطَتانِ طباق من حيث اللفظ.
أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ استعارة لأن الحرب لا نار لها، وإنما شبهت بالنار لأنها تأكل أهلها، كما تأكل النار حطبها.(6/249)
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ استعارة أيضا، استعار ذلك لتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: عمّه الرزق من فوقه إلى قدمه.
المفردات اللغوية:
يَدُ اللَّهِ اليد: هي في الحقيقة العضو المعروف من الأصابع حتى الكتف، أو إلى الرسغ، وتطلق مجازا على النعمة، تقول: لفلان عندي يد أي معروف ونعمة، وعلى العطاء والنفقة، كما يقال: ما أبسط يده بالنوال، أي العطاء الجزيل، وعلى القدرة مثل قوله تعالى: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص 38/ 45] أي ذوي القوة والعقول. والمقصود بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي ممسكة عن العطاء والإنفاق وإدرار الرزق علينا، كنّوا به عن البخل، تعالى الله عن ذلك. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ أمسكت وانقبضت عن فعل الخير، وهو دعاء عليهم بالبخل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي كثير العطاء، مبالغة بالوصف بالجود، وثنّى اليد لإفادة الكثرة إذ غاية ما يبذله السخي من ماله: أن يعطي بيديه ونحن نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم. وإن كان قصدهم أثر اليد وهو الإنعام بقرينة الإنفاق. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ من توسيع وتضييق، لا اعتراض عليه. ما أنزل إليك من بالأمن والسلم، والسلب ولو بغير قتل، وإثارة الفتنة أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما أرادوه ردهم وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي مفسدين بالمعاصي وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يعاقبهم.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقَوْا الكفر وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بالعمل بما فيهما على أتم وجه، سواء الإيمان الصحيح، ومنه الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والعمل الصالح. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي لوسع عليهم الرزق وفاض من كل جهة مِنْهُمْ أُمَّةٌ جماعة مُقْتَصِدَةٌ معتدلة في أمر الدين، وهم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام وأصحابه وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي بئس ما يعمله الكثيرون منهم.
سبب النزول:
أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له: النباش بن قيس للنبي: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزلت: وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ في فنحاص رأس يهود بني قينقاع وهذا ما قاله عكرمة.(6/250)
المناسبة:
بعد أن ذكر تعالى بعض قبائح اليهود ومخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ونحو ذلك من جمع المال من حلال أو حرام، ذكر هنا أقبح مخازيهم وصفاتهم وسيئاتهم، بجرأتهم على ربهم، ووصفه بالبخل، مما لا يقول به عاقل، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
التفسير والبيان:
وصفوا الله تعالى بأنه فقير وهم أغنياء، ووصفوه بالبخل بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي قال بعض اليهود- لما أصيب بأزمة مالية بسبب تكذيبه النبي صلّى الله عليه وسلّم-، ونسب إلى الأمة لتكافلها فيما بينها-: إن الله بخيل. وغل اليد: مجاز عن البخل، ويد الله مغلولة: بخيلة وبسطها: كناية عن الجود والكرم.
فهم لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده من موارد الرزق بخلا، قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الإنفاق في غير محله.
ورد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه، ودعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته، فقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا وهو دعاء عليهم بالبخل والنكد والإمساك عن الخير، فكانوا أبخل خلق الله وأنكدهم.
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم.
وأثبت الله تعالى في رده عكس ما يقولون فقال: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «1» يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي بل هو الجواد الواسع الفضل، الجزيل العطاء الذي ما من
__________
(1) نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم، والظاهر هنا إرادة الإنعام على الجملة (تفسير ابن عطية 4/ 509، 512) .(6/251)
شيء إلا عنده خزائنه، وما من نعمة بخلقه فمنه وحده، لا شريك له، كما قال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم 14/ 34] .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار «1» ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه- قال: وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى الفيض- أو القبض- يرفع ويخفض. وقال: يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك» .
وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد يعطي بكلتا يديه.
والعقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى، وأنه ليس بجسم ولا جارحة، كما قال ابن عطية.
أما تقتير الرزق على بعض الناس فلا ينافي سعة الجود، فإن له حكمة وإرادة ومشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق كما قال سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26] .
ثم بيّن الله تعالى مدى تأثير القرآن فيهم فقال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً.. أي تالله ليزيدن ما أنزل إليك من الآيات البينات طغيانا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء، وكفرا أي تكذيبا، أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانا وكفرا، كما قال تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ،
__________
(1) قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما النصب على الظرف، والرفع على الفاعل، أي فاعل يغيضها. والسح: الصب الكثير، ويغيض: ينقص.(6/252)
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] وقال تعالى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] .
روى الطبري عن قتادة قال في آية: وَلَيَزِيدَنَّ..: حملهم حسد محمد صلّى الله عليه وسلّم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم «1» . وكان من جزاء الله لهم على نكدهم ما قاله: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ.. أي وألقينا بين فئات اليهود والنصارى العداوة والبغضاء، فكل فرقة منهم تخالف الأخرى كما قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر 59/ 14] والتاريخ القديم والحديث يثبت ذلك بوقائع الحروب العنصرية والدينية والاستعمارية الكثيرة الوقوع. ولا يغترن أحد بتوافق اليهود في فلسطين، فذلك أمر وقتي.
وكلما هموا بالكيد للرسول والمؤمنين الصادقين وإثارة الفتن والحروب بين الأمم في الداخل والخارج، خذلهم الله، ورد كيدهم عليهم، فإما أن يخيب مسعاهم، أو ينصر المؤمنين عليهم.
وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا، أي من سجيتهم أنهم دائما يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والله لا يحب من كانت هذه صفته، بل يبغضه ويعاقبه ويسخط عليه.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل والتوبة أمامهم فقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا.. أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم، لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها، ولأدخلناهم جنات النعيم التي ينعمون بها، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود.
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 195(6/253)
ولو أنهم عملوا من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير بما في التوراة والإنجيل المنزّلين من عند الله بأصل التوحيد، المبشّرين بالنبي من ولد إسماعيل، وعملوا بما أنزل على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن، لوسّع الله عليهم رزقهم، وأنزل عليهم من خيرات السماء، وأخرج لهم من بركات الأرض، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] قال ابن عباس: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني يخرج من الأرض بركاتها.
ثم ذكر تعالى أن أهل الكتاب ليسوا سواء في اعتقادهم وأفعالهم فقال:
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي جماعة معتدلة في أمر الدين كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأمثاله من النصارى، وكثير غالب منهم فاسقون خارجون عن أصول الدين، وبئس العمل عملهم.
وهناك نظائر لهذه الآية التي تشهد لبعض أهل الكتاب بالاعتدال مثل قوله تعالى عن بعض اليهود: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف 7/ 159] وقوله تعالى عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد 57/ 27] .
فقه الحياة أو الأحكام:
غريب أمر اليهود وطبعهم، فإنهم ما تركوا فعل فاحشة أو منكر إلا اقترفوه، ولم يسلم منهم الأنبياء فقتلوهم، بل امتد أذاهم وخزيهم إلى الله عز وجل، فقال بعضهم: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء.
لكن غلت أيديهم في الآخرة، وحجبهم الله عن الخير والبر ولعنهم وطردهم من رحمته في الدنيا بدعائه عليهم بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا.(6/254)
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا فهو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، على وفق الإرادة والحكمة كما يشاء، ونعم الله تعالى أكثر من أن تحصى.
ووالله ليزيدن اليهود بسبب فظائعهم ومخازيهم طغيانا وكفرا، أي تجاوزا للحد في بغض النبي صلّى الله عليه وسلّم وعداوته، وكفرا بما جاء به، وإذا نزل شيء من القرآن فكفروا، ازداد كفرهم.
وألقى الله بين طوائف اليهود العداوة والبغضاء، كما قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى فهم متباغضون غير متفقين فهم أبغض خلق الله إلى الناس.
وكلما أوقعوا الفتنة وجمّعوا وأعدّوا، شتت الله جمعهم وبدد شملهم. وأما تجمعهم في فلسطين فذلك أمر موقوت، وتنبيه لنا أن نعود إلى ديننا، ونوحد صفوفنا، وليتم تدبير الله في هزيمتهم هزيمة منكرة لا تقوم لهم بعدها قائمة، فهم إن عاجلا أو آجلا إلى زوال. قيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله:
التوراة، أرسل الله عليهم بختنصّر، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله، وكلما أوقدوا نارا، أي أهاجوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم أطفأها الله، وقهرهم ووهّن أمرهم، ويسعون في الأرض فسادا، أي في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد.
ومع كل هذه المخازي والمعايب فتح الله أمام أهل الكتاب باب التوبة، ليصلحوا ما أفسدوا، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وهذا دليل على عظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، ونفذوا ما فيهما من تعليمات وأحكام ودعوة إلى الإيمان برسالة الإسلام، لوسع الله عليهم الرزق وزادهم من النعم، وأفاض(6/255)
عليهم من أنواع الخيرات، ونظير هذه الآية. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] . وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن 72/ 16] . وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق، كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال:
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم 14/ 7] .
وفي هذا دلالة واضحة على أن ما أصابهم من ضنك وضيق إنما هو بسبب جناياتهم، لا من قصور في فيض الله تعالى.
وأخبر تعالى أن منهم أمة مقتصدة معتدلة مؤمنة بكل ما أنزل الله إليهم وإلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام، اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. والاقتصاد:
الاعتدال في العمل.
فالعبرة في الأديان: هو العمل بها والاهتداء بهديها، لا التعصب الجنسي لها أو ضدها، وإحداث صراع حاد بين أهلها، فمن آمن بحق بدين آمن تلقائيا ومباشرة بكل دين أنزله الله ورضيه لعباده، والدين دين الله، وليس حكرا على أحد، ولا دين بشر أحدثه للناس.
لذا كان واقع الناس غريبا عن حقيقة الدين، وأصبح الكثير منهم خارجا عن حدود الدين: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي بئس شيء عملوه، كذبوا الرسل، وحرّفوا الكتب، وأكلوا السحت.
وهكذا لا تخلو أمة أو زمن من المعتدلين، ولا يخفت صوت الحق مهما حاول الفسقة كبته وخنقه، وإذا كثر أهل السوء، وقل الصالحون هلكت الأمم.(6/256)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
أمر الرسول بتبليغ الوحي وعصمته من الناس ودعوة أهل الكتاب للإيمان برسالته
[سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 69]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
الإعراب:
وَالصَّابِئُونَ: مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك والنية به التأخير عما في حيّز: إن ومعمولها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك (الكشاف: 1/ 474) أو أنه مبتدأ وخبره: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (ابن الأنباري:
1/ 300) . وقيل: إنه معطوف على الضمير المرفوع في هادُوا وهو ضعيف لأن العطف على المضمر المرفوع المتصل لا يجوز من غير فصل ولا تأكيد.
البلاغة:
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ تعبير فيه غاية التحقير والتصغير.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أضاف كلمة الرب إليهم تلطفا معهم في الدعوة.
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وضع الظاهر الْكافِرِينَ موضع الضمير «عليهم» لإظهار مدى رسوخهم في الكفر.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ أي بلّغ جميع ما أنزل إليك، غير مراقب في تبليغه أحدا، ولا خائف(6/257)
أن ينالك مكروه. والتبليغ: إعلان الدعوة الإسلامية، وإعلام جميع ما تضمنته من أحكام وأخبار للناس. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أن يحفظك ويكلؤك ويضمن لك العصمة والصون من أعدائك أي من قتلك، فلا تأبه لهم ولا عذر لك في مراقبتهم. وهذا عدة من الله بالحفظ والكلاءة، ووعد الله منجز إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي من الدين الحقيقي معتد به، أو على دين يعتدّ به حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ بأن تعملوا بما فيه، ومنه الإيمان بالله تعالى وبرسوله خاتم النبيين وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن طُغْياناً وَكُفْراً لكفرهم بالقرآن فَلا تَأْسَ تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إن لم يؤمنوا بك، أي لا تهتم بهم.
وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالصَّابِئُونَ الخارجون عن الأديان كلها كما قال الزمخشري، وقال مجاهد: الصابئون: طائفة من النصارى والمجوس ليس لهم دين، وروي عن مجاهد والحسن البصري: هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح.
وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات «1» .
سبب النزول:
نزول الآية (67) :
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ:
أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن الحسن البصري:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله بعثني برسالة، فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغنّ أو ليعذبني، فنزلت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال: يا ربّ، كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي، فنزلت: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.
وأخرج الحاكم والترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس، حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رأسه من القبة، فقال:
__________
(1) تفسير الرازي: 3/ 105، تفسير ابن كثير: 2/ 80(6/258)
«يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.
قال السيوطي: في هذا الحديث دليل على أن الآية ليلية، نزلت ليلا، فراشية، والرسول في فراشه.
وأخرج ابن حبان في صحيحة عن أبي هريرة قال: كنا إذا أصبحنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه، وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله يمنعني منك، ضع السيف، فوضعه، فنزلت: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس (أي لا يعلم ممن هم) فنزل علي جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، فقمت عند العقبة فقلت: أيها الناس، من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي، ولكم الجنة؟.
أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا، ولكم الجنة، قال صلّى الله عليه وسلّم: فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقول: كذاب صابئ، فعرض علي عارض، فقال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه.
قال السيوطي: وهذا يقتضي أن الآية مكية، والظاهر خلافه.
وقال الرازي: واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت، إلا أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم «1» .
__________
(1) تفسير الرازي: 12/ 50(6/259)
نزول الآية (68) :
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ:
روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رافع بن حارثة، وسلام بن مسكين، ومالك بن الصيف، ورافع بن حرملة، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، وأنا بريء من أحداثكم، قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك، فأنزل الله: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ إلى قوله: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» .
وقال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ألست تقرّ أن التوراة حق من عند الله؟ قال: بلى، فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها، فنزلت الآية
، أي لستم على شيء من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما «2» .
المناسبة:
أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين المعتدلين وكثرة الفاسقين من أهل الكتاب، ولا يخشى مكروههم، فقال: بَلِّغْ أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم، فإن الله يعصمك من كيدهم، ويصونك من مكرهم.
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 200، أسباب النزول للسيوطي.
(2) تفسير القرطبي: 6/ 245(6/260)
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم مخاطبا له بصفة الرسالة بإبلاغ جميع ما أنزله الله عليه، فقام بالواجب أتم القيامة، وبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح للأمة، فجزاه الله خير الجزاء، قال البخاري عند تفسير هذه الآية من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي. وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: «لو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب 33/ 37] .
ومعنى الآية يا أيها الرسول المرسل من عند ربه برسالة إلى الناس كافة بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك، ولا تخشى في ذلك أحدا، ولا تخف أن ينالك مكروه.
وإن لم تبلغ فورا ما أنزل إليك ولم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به، بأن كتمته ولو إلى حين، فما قمت بواجب التبليغ إلى الناس، كما قال تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة 5/ 99] .
والحكمة في هذا الأمر بالتبليغ وتأكيده بقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ.. بجعل كتمان بعضه مثل كتمان كله، مع أن الرسل معصومون من كتمان شيء مما أنزله الله إليهم. هو إعلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن التبليغ حتم لا يجوز له الاجتهاد بتأجيل شيء عن وقته.
والحكمة بالنسبة للناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يختلفوا فيها.
وقد بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم فورا جميع ما أنزل إليه من القرآن، قال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وقد شهدت له(6/261)
أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا،
كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول:
«اللهم هل بلغت» .
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، قال: «أي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام، قال:
«فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» ثم أعادها مرارا، ثم رفع أصبعه إلى السماء، فقال: «اللهم هل بلغت» مرارا، قال أحمد: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل، ثم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» .
ثم أعلن الله لنبيه كفالته وضمانه بعصمته من الناس، أي أنه يحميه من الفتك والقتل ولا يمكن الأعداء مما يريدون، وقد حاول المشركون قتله وقرروا ذلك في دار الندوة بعد موت أبي طالب، فعصمه الله وهاجر إلى المدينة، وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة، والمراد العصمة من القتل، فلا يعترض عليه بأنه تعرض لأذى المشركين في مكة، وفي الطائف، وبعد الهجرة يوم أحد حيث شج في وجهه، وكسرت رباعيته صلوات الله عليه.
روى الترمذي وأبو الشيخ ابن حيان والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية،(6/262)
وكان العباس ممن يحرسه، فلما نزلت ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحرس» .
وروي «أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فذهب ليبعث معه، فقال: يا عم، إن الله حفظني، لا حاجة لي إلى من تبعث» .
وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرسه سعد وحذيفة، حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم، وقال: انصرفوا يا أيها الناس، فقد عصمني الله من الناس.
وهذه الآية المكية وضعت في سياق تبليغ أهل الكتاب المأمور به في المدينة، لتدل على تعرض النبي صلّى الله عليه وسلّم لإيذائهم، كما تعرض لإيذاء المشركين، والله عصمه من الفريقين.
وقيل: نزلت الآية بعد يوم أحد، بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ومعناه: أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.
وللآية معنى أعم في الواقع وهو: بلّغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء» كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] وقال: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] .
ثم كشف القرآن لكل الناس: أهل الكتاب والمسلمين عن حقيقة مهمة جدا هي أن النسبة إلى الدين لا تنفع إلا بالعمل به، فقال: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي قل يا محمد لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لستم على شيء من الدين يعتد به حتى تقيموا التوراة والإنجيل فيما أمرا به من التوحيد الخالص والعمل الصالح، ومما فيهما الإيمان بمحمد والأمر باتباعه والإيمان بمبعثه(6/263)
والاقتداء بشريعته، وتعملوا بما أنزل إليكم من ربكم، يعني القرآن العظيم، الذي أكمل الله به الدين وختم برسالة محمد رسالات الأنبياء.
ثم كرر تعالى ما ذكر في الآية السابقة (64) : وهو القسم من الله تعالى بأن كثيرا من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن إلا غلوا في تكذيبهم وكفرا على كفرهم، لتعصبهم الموروث وحقدهم وحسدهم حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة 2/ 109] ، وإهمالهم التفكير بإنصاف وتجرد، فلا تأس على القوم الكافرين، أي لا تحزن يا محمد ولا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم، لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
أما القليل منهم الذين آمنوا بالله وحده لا شريك له وبكتبه ورسله، فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وإسعادا.
وبعد الكشف عن تلك الحقيقة المهمة وضع القرآن قانونا عاما لكل الناس، وهو: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله وهم المسلمون، واليهود حملة التوراة أتباع موسى عليه السلام، والصابئون «1» كذلك الخارجون عن الأديان كلها «2» والنصارى أتباع المسيح عليه السلام، من آمن منهم «3» بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا صادقا، وعمل عملا صالحا، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة، ولا هم يحزنون أبدا على لذات الدنيا ونعيمها ولا على شيء يصيبهم في الآخرة، بل هم في جنات النعيم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية التبليغ على رد قول من قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من أمر الدين تقيّة، وعلى بطلان هذا القول من الرافضة. ودلت أيضا على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم
__________
(1) مبتدأ وخبره محذوف.
(2) ولم يعطف على ما قبله بالنصب لأن الصابئين أشد الفرق المذكورين في الآية ضلالا.
(3) بدل منصوب من اسم إن وما عطف عليه.(6/264)
يسرّ إلى أحد شيئا من أمر الدين لأن المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا.
قال ابن عباس: «المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته» وهذا تأديب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه.
ودلت آية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة، فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به.
ودلت آية: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يرشدهم على أن التوفيق إلى الخير والسعادة محجوب من الله عن الذين كفروا، فهم بسبب كفرهم حجبوا رحمة الله عنهم.
ودلت آية قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ.. على أن اليهود والنصارى ليسوا في الواقع على شيء من الدين حتى يعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن، فيؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ويعملوا بما يوجبه ذلك عليهم من الكتابين.
ومن كفر يزيده الله كفرا على كفره، ويزيده طغيانا أي تجاوزا الحد في الظلم والغلو فيه.
والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيم القرآن، فيهتدي بهديه، ويلتزم بحدوده.
وأومأت آية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا.. إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، فلا حفظوا نصوص الكتب المنزلة، ولا تركوا ما عندهم على ظواهرها بل أولوها تأويلا فاسدا، ولا آمنوا بالله واليوم الآخر، ولا عملوا الصالحات.(6/265)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
تكذيب اليهود رسلهم وقتلهم إياهم
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
الإعراب:
أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أن في حالة النصب هذه خفيفة ناصبة للفعل المستقبل. ويجوز الرفع في تَكُونَ على أن تجعل «أن» مخففة من الثقيلة، وتقديره: وحسبوا أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وجعلت أَلَّا عوضا عن تشديدها. وإنما جاز أن تقع «أن» خفيفة مخففة من الثقيلة لأن في «حسب» طرفا من اليقين والشك، والمخففة من الثقيلة إنما تقع بعد فعل اليقين كعلمت وعرفت، وأن الخفيفة تقع بعد فعل الشك كرجوت وطمعت. وتكون هاهنا تامة بمعنى تقع، فلا تفتقر إلى خبر.
كَثِيرٌ مِنْهُمْ إما مرفوع على البدل من واو عَمُوا وَصَمُّوا أو مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: العمي والصم كثير منهم أو مرفوع لأنه فاعل عَمُوا وَصَمُّوا وتجعل الواو للجمعية لا للفاعل، على لغة من قال: «أكلوني البراغيث» وهذا ضعيف لأنها لغة غير صحيحة.
البلاغة:
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ عبر بالمضارع عن حكاية الحال الماضية بما عملوا استحضارا لأوضاعهم القبيحة، ومراعاة لخواتيم الآيات.
فَعَمُوا وَصَمُّوا استعار العمى والصمم للإعراض عن الهداية والإيمان.(6/266)
المفردات اللغوية:
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على الإيمان بالله ورسله بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ من الحق كذبوه فَرِيقاً منهم كذبوه وَفَرِيقاً منهم يَقْتُلُونَ كزكريا ويحيى، والتعبير به دون:
قتلوا حكاية للحال الماضية، مراعاة لفواصل الآيات، والمراد: فريقا كذبوه وفريقا قتلوه.
وَحَسِبُوا ظنوا أَلَّا تَكُونَ ألا تقع فِتْنَةٌ عذاب بهم على تكذيب الرسل وقتلهم فَعَمُوا عن الحق، فلم يبصروه وَصَمُّوا عن استماعه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم به.
المناسبة:
الكلام مستمر في شأن أهل الكتاب وتعداد قبائحهم، فبعد أن أبان سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود، أعاد التذكير به مرة أخرى.
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل بالسمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا العهد والميثاق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه.
والميثاق: العهد المؤكد، وأخذ الله العهد على اليهود في التوراة بتوحيد الله واتباع أحكام شرع الله، فنقضوا الميثاق وعاملوا الرسل إما بالتكذيب المستلزم للإعراض، وإما بالقتل.
وظنوا أن لا يترتب على ما صنعوا شر لهم، وألا تقع بهم فتنة أي اختبار بما فعلوا من الفساد، لزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولكن ترتب على فسادهم سوء، وهو أنهم عموا عن الحق، وصموا آذانهم عن استماعه وعن تدبر آيات الله، فلا يسمعون حقا، ولا يهتدون إليه، فتسلط عليهم البابليون وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم، ثم تاب الله عليهم مما كانوا فيه حين تابوا(6/267)
وتركوا الفساد، وأعاد إليهم ملكهم على يد ملك من ملوك الفرس، وعمر لهم بيت المقدس، ورد من كان في أسر بختنصّر إلى وطنهم.
ثم عموا وصموا مرة أخرى، حيث طلبوا رؤية الله، وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى بن مريم، وعصوا أوامر الله والرسل، فسلط الله عليهم الفرس، ثم الرومان، فأزالوا ملكهم وسلبوا استقلالهم.
وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ يشير إلى أن أكثرهم عصاة، وأقلهم مؤمنون صالحون.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي مطلع عليهم، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم، وعالم بما يدبرونه من الكيد والمكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء والمرسلين.
فقه الحياة أو الأحكام:
تكررت المعاهدات والمواثيق مع بني إسرائيل ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به، وكل هذا يتناسب مع ما بدئت به سورة المائدة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
ولكن اليهود أعداء الله والإنسانية نقضوا العهود والمواثيق، وقابلوا الرسل إما بالتكذيب والصد والإعراض، وإما بالقتل، فقد كذبوا عيسى وغيره من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء.
وظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] .
وإنما اغتروا بطول الإمهال، فعموا عن الهدى، وصموا عن سماع الحق لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. ثم تاب الله عليهم بعد الاختبار، وكشف عنهم الغمة والكربة، وصيرهم أحرارا بعد أن كانوا أسرى مستعبدين.(6/268)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
ثم فسدوا وعصوا، وعمي كثير منهم وصمّ بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولم يتعظوا بشيء أبدا من المواعظ، وأعرضوا عن سماع الحجج والبينات، أي الآيات والبراهين الدالة على الحق والصواب.
وهكذا يترنح اليهود بين التوبة والعصيان، وبين الإنقاذ والتعرض للدمار والهلاك، وأكثرهم الفاسقون، والقليل منهم الطائعون. ولن يجد الإنسان في التاريخ شعبا أكثر تعقيدا، وأسوأ طبعا، وأكثر اضطرابا وقلقا من اليهود. لذا تجدهم دائما في مخاوف وحذر، ولن يهدأ لهم بال، ولن ينعموا على مدى الدهر بالاستقرار والاطمئنان، والمثال في فلسطين بالرغم من إقامة دولتهم واضح لكل إنسان.
تأليه المسيح عند المسيحيين مع أنه مجرد بشر رسول
[سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 75]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)(6/269)
البلاغة:
فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وغرس المهابة.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ استفهام توبيخ.
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ: تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجب. ولفظ ثُمَّ لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات في غاية الوضوح، وإعراضهم عنها أعجب.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ كَفَرَ الكفر: ضد الإيمان، والكفر أيضا: جحود النعمة، والكفر بالفتح: التغطية والستر، يقال كفرت الشيء: سترته، وكفر الفلاح البذر في الأرض: ستره. اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ العبادة: الخضوع والتذلل، ومفاد هذا الكلام: أني أنا المسيح عبد الله مثل سائر العباد، ولست بإله إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادة غير الله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ منعه أن يدخلها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يمنعونهم من عذاب الله.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي أحد آلهة ثلاثة، والآخران: عيسى وأمه، وهم النصارى وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من التثليث ويوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ثبتوا على الكفر مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم وهو النار. غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ به قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فهو يمضي مثلهم وليس بإله، كما زعموا، وإلا لما مضى وزال من الوجود.
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ مبالغة في الصدق كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كغيرهما من الناس، ومن كان كذلك لا يكون إلها لتركيبه وضعفه كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ على وحدانيتنا ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى كيف يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.
سبب النزول:
قال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة.(6/270)
المناسبة:
بعد أن استقصى الله تعالى الكلام مع اليهود وفنّد حججهم، وعدد قبائحهم، شرع هنا في الكلام عن النصارى، وبيّن فساد عقيدتهم في ادعاء ألوهية المسيح عليه السلام، وأنه ولد إلها، أي أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، وهذا في الأصل قول اليعقوبية، ثم ساد بين النصارى. ثم حكى تعالى قول المسيح، ليقيم الحجة القاطعة على فساد قول أتباعه.
التفسير والبيان:
يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنّسطورية القدامى، والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت الجدد: تالله لقد كفر الذين ادّعوا أن الله هو المسيح ابن مريم، وضلوا ضلالا بعيدا، فقالوا: إن الله مركب من ثلاثة أصول (أو أقانيم) وهي الأب والابن والروح القدس، فالله هو الأب، والمسيح هو الابن، وقد حل الله الأب في المسيح الابن واتحد به، فكوّن روح القدس، وكل واحد من هؤلاء عين الآخر، وخلاصة قولهم: الله هو المسيح.
مع أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو صغير في المهد هي: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ثم دعا الناس إلى رسالته فقال: يا بني إسرائيل، اعبدوا الله ربي وربكم، أي توجهوا بالعبادة إلى الله تعالى وحده. وفي قوله هذا دليل قاطع على فساد قول النصارى لأنه لم يفرق بين نفسه وغيره في أن دلائل حدوثه وخلقه مثل غيره من الناس.
وأتبع دعوته بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ.. أي إن كل من يتخذ شريكا لله من ملك أو بشر أو كوكب أو صنم أو غيره، فقد حرم الله عليه الجنة في علمه السابق القديم، وفي شرعه لرسله، أي حرمه دخولها، ومنعه منها، ومقره في الآخرة نار جهنم، وليس للظالمين أنفسهم(6/271)
باتخاذ الشركاء من نصير أو معين ينصرهم، أي لا ينصرهم أحد فيما تقوّلوا على عيسى ولا يساعدهم عليه، لاستحالته وبعده عن المعقول، ولا ينصرهم أيضا ناصر في الآخرة من عذاب الله.
وكذلك كفر القائلون: إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما ثالث آلهة ثلاثة، وهو قول النصارى: المسيح ابن الله، أو الله واحد من ثلاثة أقانيم: أب هو الله، وابن هو المسيح، وزوجة هي مريم، أي إن كل فرق النصارى كفار، سواء من قال: إن المسيح ثالث ثلاثة، أو إن المسيح ابن الله، أو إن الله هو المسيح ابن مريم. ومتأخرو النصارى يقولون بالتثليث، أي إن الآلهة ثلاثة، وبالتوحيد أي إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخر.
وردّ الله على الجميع بقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي ما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد أحد لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، فهو المتصف بالوحدانية، وليس فيه شيء من صفات البشر، فلا تركيب في ذاته ولا في صفاته، وليس هناك تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أنواع، ولا تعدد أجزاء: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 42/ 11] . وهذه الآية مثل قوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قالَ: سُبْحانَكَ [المائدة 5/ 116] يعني أن الآيتين لنفي تعدد الآلهة.
ثم توعدهم الله وأنذر على قولهم فقال: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ...
أي إن لم يتجنبوا ويتركوا ما يقولون من هذا الافتراء والكذب وادعاء التثليث، ويعودوا إلى القول بالتوحيد، ليصيبنهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب كفرهم. وفي هذا دلالة على أن إصابة العذاب للذين كفروا خاصة لا الذين تابوا من عقيدة التثليث.(6/272)
ثم كان من كرم الله تعالى وجوده ولطفه ورحمته مع هذا الكذب والافتراء أنه يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، بأن يتوبوا من شركهم، ويستغفروا الله من عقيدة التثليث، والله غفور للتائبين رحيم بهم.
أما المسيح في الحقيقة فهو مجرد رسول، كأمثاله من الرسل المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف 43/ 59] وهو كغيره من الرسل مؤيد بالمعجزات الخارقة للعادة: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 4/ 171] .
وأمه صدّيقة، أي مؤمنة به مصدقة له، لها مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين، وليست بنبية «1» ولا لها صفة الألوهية، كما قال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم 66/ 12] .
وكل من المسيح وأمه من جنس البشر ونوعهم، بدليل أنهما يأكلان الطعام للحفاظ على معيشتهما وحياتهما، ويقضيان حاجتهما من البول والغائط، ومن صدر منه مثل ذلك، واتصف بالتركيب والضعف والحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وقضاء الحاجة، لا يمكن أن يكون إلها، ولا أن يتصف بأي صفة من صفات الألوهية والربوبية.
فانظر أيها العاقل كيف نبين للنصارى الجهلة الدلائل القاطعة الواضحة على بطلان ما يدّعون، ثم انظر بعد هذا البيان والإيضاح كيف يصرفون عن التأمل بهذه الأدلة، وأين يذهبون، وبأي قول يتمسكون.
__________
(1) ليست مريم نبية، كما زعم ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استذلالا بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.(6/273)
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على كفر كل فرق وطوائف ومذاهب النصارى، سواء قالوا:
إن المسيح ثالث ثلاثة، أو إن المسيح ابن الله، أو إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم لأنهم في النتيجة يقولون: أب وابن وروح القدس إله واحد، ولا يقولون: ثلاثة آلهة، وهو معنى قولهم جميعا، وإنما يمتنعون من عبارة التثليث ولا يصرحون بها لفظا، وهي لازمة لقولهم لأنهم يقولون: إن الابن إله، والأب إله، وروح القدس إله.
فرد الله عليهم بأن الإله لا يتعدد، وإن لم يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فليتوبوا إليه، وليسألوه ستر ذنوبهم. والمراد الكفرة منهم لأنهم القائلون بالتعدد، دون المؤمنين.
وما المسيح في حقيقته، وإن ظهرت المعجزات أو الآيات على يديه، كما جاءت بها بقية الرسل، إلا عبد الله ورسول من عنده، فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها. وهذا رد قاطع لقولهم واحتجاج عليهم.
ومن تتمة الحجة أن المسيح وأمه الصديقة كانا يأكلان الطعام، أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء، وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين، فمتى يصلح المربوب أن يكون ربا؟! وفي هذا دلالة على أنهما بشران.
وقولهم: كان يأكل الطعام بناسوته «البشري» لا بلاهوته، أي أن له طبيعتين: بشرية وإلهية، فهذا منهم اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث، لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره، حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث.
وعقب الله تعالى على اعتقاد النصارى: انظر كيف نبين لهم الدلالات على(6/274)