آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله أن طردتهم) الآية. وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضاً بقوله: (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون. وما أنا بطارد المؤمنين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، الآية، أما والله لو استطاع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (جادلتنا) قال: ماريتنا.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فلا تبتئس) قال: لا تحزن.
قوله تعالى (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ... )
في هذه الآيات قصة نوح والسفينة وابنه وقد وردت في سورة الشعراء آية (118-120) ، وسورة القمر آية (9-17) .
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبراً عنه أنه قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (الفلك) ، السفينة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (ووحينا) ، قال: كما نأمرك.(3/52)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
قوله تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)
قال ابن كثير: هذه مواعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر، بل هو كما قال تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وفار التنور) ، قال: انبجس الماء منه، آية، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وفار التنور) ، قال: نبع.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أمر نبيه نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين، وبين في سورة قد أفلح المؤمنون: أنه أمره أن يسلكهم فيها أي يدخلهم فيها.
فدل ذلك على أن فيها بيوتا يدخل فيها الراكبون، وذلك في قوله: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) ومعنى (اسلك) أدخل فيها من كل زوجين اثنين؛ تقول العرب: سلكت الشئ في الشئ: أدخلته فيه.
وفيه لغة أخرى أسلكته فيه، رباعيا بوزن أفعل، والثلاثية لغة القرآن؛ كقوله: (فاسلك فيها من كل زوجين) الآية. وقوله: (اسلك يدك في جيبك) الآية. وقوله: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) الآية. وقوله: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) وقوله (ما سلككم في سقر) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين) ، قال: ذكر وأنثى، من كل صنف.(3/53)
قوله تعالى (وأهلك إلا من سبق عليه القول)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أمر نوحاً أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى، وأنه هالك مع الكافرين. ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته. قال في ابنه الذي سبق عليه القول: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) -إلى قوله- (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) وقال فيه أيضاً: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) الآية. وقال في امرأته: (وضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح -إلى قوله- مع الداخلين) .
قوله تعالى (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون.
قال ابن كثير: يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة (اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها) أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سرها وهو رسوّها ... وقال الله تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلاً مباركا وأنت خير المنزلين) ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور عند الركوب على السفينة وعلى الدابة كما قال تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره) الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه كما سيأتي في سورة الزخرف.(3/54)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم، أمواجه كالجبال، وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر كقوله: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) وقوله: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر) .
قوله تعالى (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا سماء أقعلي) يقول أمسكي (وغيض الماء) ، يقول: ذهب الماء.
قوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال (ونادى نوح ابنه) لعمر الله ما هو ابنه قال قلت: يا أبا سعيد، يقول: (ونادى نوح ابنه) وتقول: ليس بابنه قال: أفرأيت قوله: (إنه ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) يقول: ليس ممن وعدناه النجاة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنه عمل غير صالح) يقول: سؤالك عما ليس لك به علم.(3/55)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
قوله تعالى (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
قال الطبري حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، أخبرنا عبد الله بن شوذب قال سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن الحسن: أنه أتي على هذه الآية: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال. فكان ذلك حين بعث الله عادا، فأرسل إليهم هودا، فصدقه مصدقون، وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله، نجى الله هودا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحاً، فصدقه مصدقون، وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجى الله صالحاً والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيا نبيا، على نحو من هذا.
وسنده حسن.
قوله تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) القرآن، وما كان علم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقومه ما صنع نوح وقومه، لولا ما بين الله له في كتابه.
قوله تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(3/56)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)
في هذه الآيات قصة عاد مع قومه هود وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (65-72) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن أجري إلا على الذي فطرني) أي: خلقني.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (مدرارا) ، يقول: يتبع بعضها بعضاً.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، قال: شدة إلى شدتكم.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال: أصابك الأوثان بجنون.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (إن ربي على صراط مستقيم) ، الحق.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا أمره الذي جاء الذي نجا منه هودا والذين آمنوا معه عند مجيئه. ولكه بين في مواضع أخر: أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم. التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم؛ كقوله: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شئ إلا جعلته كالرميم) . وقوله: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) الآية، وقوله (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) .
وانظر للمزيد عن عاد وقومه هود في سورة الأعراف (65-71) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) المشرك.(3/57)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قوله تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صالحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ)
في هذه الآيات قصة صالح عليه السلام مع قومه ثمود وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (73-79) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (واستعمركم فيها) قال: أعمركم فيها.
انظر حديث أحمد عن جابر المتقدم عند الآية (73) من سورة الأعراف. لبيان آية (64-65) المذكورتين آنفاً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) قال: بقية آجالهم.
قال الشيخ الشنقيطي: بين هذا الأمر الذي جاء بقوله: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة لأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) ونحوها من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (برحمة منا ومن خزي يومئذ) ، قال: نجاه الله برحمة منه، ونجاه من خزي يومئذ.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، كان لم يعيشوا فيها.(3/58)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)
وفي هذه الآيات قصة إبراهيم وامرأته والملائكة المرسلة إلى لوط وقومه وقد تقدم طرف من قصة لوط وقومه في سورة الأعراف آية (80-84) ، وسيأتي تفسيرها مفصلا في سورة الحجر من الآية (51-75) .
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب، كما يدل لذلك قوله: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) ، وقوله: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) وقوله (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) وقيل: البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) الآية.(3/59)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفا من الآدميين، أسرع إليهم بالأتيان بالقرى وهو لحم عجل حنيذ -أي منضج بالنار- وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم. وبين في الذاريات: أنه راغ إلى أهله -أي مال إليهم- فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين، وأنه قربه إليهم وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم (ألا تأكلون) ، وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بعجل حنيذ) ، يقول: نضيج.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدث نفسه بشر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه، حدثوه عند ذلك مما جاءوا فيه، فضحكت امرأته، وعجبت من أن قوما أتاهم العذاب، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) .
قال ابن كثير: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسحاق إلهاً واحدا ونحن له مسلمون) .(3/60)
قال الطبري حدثنا عمرو بن علي، ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن أبي عدي قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) قال: ولد الولد هو الوراء.
وسنده صحيح.
قال الشيخ الشنقيطي: بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي عجوز، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك، ولكنه بين ما فعلت في الذاريات بقوله: (فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) وقوله: "في صرة" أي ضجة وصيحة. وقوله (فصكت وجهها) أي: لطمته.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)
يقول: ذهب عنه الخوف (وجاءته البشرى) بإسحاق.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (الروع) الفرق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) قال: ذهب عنه الخوف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وجاءته البشرى) قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون.
قوله تعالى (وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط، ولكنه أشار إليه في العنكبوت بقوله: (قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته) الآية. فحاصل جداله لهم أنه يقول: إن أهلكتم القرية وفيها أحدا من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم: (نحن أعلم بمن فيها) الآية. ونظير ذلك قوله: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)(3/61)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (يجادلنا) يخاصمنا.
قال الشيخ الشنقيطي: هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) وقوله في الحجر: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين) .
وقوله: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا ليفعلوا به الفاحشة المذكورة - فمن ذلك قوله هنا (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) وقوله في الحجر: (وجاء أهل المدينة يتبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا) يقول: ساء ظنا بقومه، وضاق ذرعا بأضيافه.(3/62)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وقال هذا يوم عصيب) أي: يوم شديد.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفتوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: (لو أن لي بكم قوة) الآية. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء. وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجاءه قوم يهرعون إليه) ، يقول: مسرعين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال: أمرهم لوط تزويج النساء، وقال: (هن أطهر لكم) .
قال ابن كثير: وقوله: (قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) يرشدهم إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة كما قال لهم في الآية الأخرى: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإنك لتعلم ما نريد) إنا نريد الرجال.
قوله تعالى (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ابن أخي جويرية، حدثنا جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري أن سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه عن(3/63)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته".
(صحيح البخاري 6/481-482- ك أحاديث الأنبياء، ب قول الله تعالى (لقد كان في يوسف وأخوته آيات للسائلين) ح/3387) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه- ك الأنبياء، ب زيادة طمأنينة القلب 1/133 ح 151) .
وانظر سورة يوسف آية (50) حديث الترمذي عن أبي هريرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) يقول: إلى جند شديد، لقاتلتكم.
قوله تعالى (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبيه لوطا يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) . ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في الحجر: (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تأمرون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بقطع من الليل) ، قال: بطائفة من الليل.
قوله تعالى (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) وزاد في الحجر أن صيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله: (فأخذتهم الصيحة مشرقين) .(3/64)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)
قال الشيخ الشنقيطي: اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافا كثيرا، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل: الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها: (لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين) وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
وانظر سورة الحجر من الآية (51) إلى الآية (77) في قصة قوم لوط.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (من سجيل) بالفارسية، أولها حجر، وآخرها طين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (منضود) ، يقول: مصفوفة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (مسوّمة) قال: معلمة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: يرهب بها من يشاء.
قوله تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا(3/65)
يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)
في هذه الآيات قصة شعيب مع قوم مدين وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (85-93) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (إني أراكم بخير) ، قال: يعني خير الدنيا وزينتها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) قال: لا تسيروا في الأرض.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (بقيت الله) ، قال: طاعة الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) حظكم من ربكم خير لكم.
قوله (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه: أنه إذا نهاهم عن شئ انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله. ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيا عما ينهى عنه غيره، مؤتمرا بما يأمر به غيره. وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر؛ كقوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) الآية.
وقوله (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.(3/66)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وإليه أنيب) قال: أرجع.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لا يجرمنكم شقاقي) يقول: لا يحملنكم فراقي (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد) قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب، بعد نوح وثمود.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، في قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله) ، قال: أعززتم قومكم، واغتررتم بربكم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال: قفا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال: هم رهط شعيب، بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم، ظهريا.
قوله تعالى (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)
انظر سورة الأنعام آية (135) تفسير ابن عباس.
قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)
قال ابن كثير: قال الله تعالى (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وقوله جاثمين أي هامدين لا حراك بهم. وذكر ههنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة وفي الشعراء عذاب يوم الظلة وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإِنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا) ناسب أن يذكر الرجفة(3/67)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها، وههنا لما أساءوا الأدب في ضالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي اسكتتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا (فأسقط علينا كسفا من السماء إِن كنت من الصادقين) قال (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، قال يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)
انظر سورة الأعراف آية (130-133) لبيان الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى عليه الصلاة والسلام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة) ، قال: فرعون، يقدم قومه يوم القيامة، يمضي بين أيديهم، حتى يهجم بهم على النار.
قوله تعالى (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) قال: زيدوا بلعنته لعنة أخرى، فتلك لعنتان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بئس الرفد المرفود) قال: لعنة الدنيا والآخرة.
قوله تعالى (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (منها قائم) ، يرى مكانه (وحصيد) ، لا يرى له أْثر.(3/68)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قوله تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (غير تبيب) قال: تخسير.
قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نصر، حدثنا أبو معاوية، حدثنا بريد ابن أبي بردة عن أبيه، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله عز وجل يُملى للظالم، فإذا أخذه لم يُفلته". ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) .
(صحيح مسلم 4/1997-1998- ك البر والصلة والآداب، ب تحريم الظلم ح/2583) ،
وأخرجه البخاري في (صحيحه في- ك التفسير- سورة هود (وكذلك أخذ ربك) ح 4686) .
قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)
قال ابن كثير: يقول تعالى إن في إِهلاكنا الكافرين ونصرة الأنبياء وإنجائنا المؤمنين (لآية) أي عظة واعتبارا على صدق موعودنا في الآخرة (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) وقال تعالى (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) الآية، وقوله: (ذلك يوم مجموع له الناس) فلا يبقى منهم أحد أي أولهم وآخرهم كقوله: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) ... (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله كقوله: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) وقال: (وخشعت الأصوات للرحمن) الآية. وفي الصحيحين من حديث الشفاعة "ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم" ... وقوله (فمنهم شقي وسعيد) أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد كما قال (فريق في الجنة وفريق في السعير) .(3/69)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
قال الترمذي: حدثنا بُندار، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سليمان ابن سُفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: لمّا نزلت هذه الآية: (فمنهم شقي وسعيد) سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت، يا نبي الله فعلى ما نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يُفرغ منه؟ قال: "بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام ياعمر، ولكن كل مُيسر لما خلق له".
هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر. (السنن 5/289 ح/3111- ك التفسير، في سورة هود) ، وصححه الألباني (صحيح سنن الترمذي) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) ، يقول: صوت شديد، وصوت ضعيف.
قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)
قال الشيخ الشنقيطي: قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة. فقال في كل منهما: (إلا ما شاء ربك) ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما، فقال في خلود أهل الجنة: (عطاء غير مجذوذ) وقال (إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ) وقال في خلود أهل النار: (كلما خبت زدناهم سعيرا) ، ومعلوم أن (كلما) تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها.
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُوتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة: خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة) وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون".
(الصحيح- التفسير، ب وأنذرهم يوم الحسرة ح 4730) .(3/70)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (عطاء غير مجذوذ) يقول: عطاء غير مقطوع.
قوله تعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) يعني الركون إلى الشرك.
قوله تعالى (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)
قال البخاري: حدثنا مسدّد، حدثنا يزيد بن زُريع، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلة، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له، فأنزلت عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل إن الحسنات يُذهبن السيئآت ذلك ذِكرى للذاكرين) ، قال الرجل: أَلِيَ هذه؟ قال: "لمن عملَ بها من أمتي".
(صحيح البخاري 8/206- ك التفسير- سورة هود، ب (الآية) ح/4687) ، (وصحيح مسلم 4/2115-2116- ك التوبة، ب قوله تعالى (الآية) .
وقال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثني ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا".
(صحيح البخاري 2/14-15- ك مواقيت الصلاة، ب الصلوات الخمس كفارة ح/528) ، (وصحيح مسلم 4/2115-2116 ح 2763- ك التوبة، في قوله تعالى (الآية) .(3/71)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قال البخاري: حدثنا هدبة بن خالد قال: حدثنا همام، حدثني أبو جمرة، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صلّى البردين دخل الجنة".
(صحيح البخاري 2/63- ك مواقيت الصلاة، ب فضل صلاة الفجر ح 574) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 1/440- ك المساجد، ب فضل صلاتي الصبح والعصر ... ح 635) من طريق البخاري نفسه، ولكن عنده: هداب بن خالد بدل: هدبة) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حُجر. كلهم عن إسماعيل. قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تغْش الكبائر".
(الصحيح 1/209 ح 233 ك الطهارة- في الصلوات الخمس.. مكفرات لما بينهن ... )
قال مسلم: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أصبتُ حداً فأقمه عليّ. قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله. قال: "هل حضرتَ الصلاة معنا؟ ". قال: نعم. قال: "قد غفر لك".
(الصحيح 4/2117 ح 2764- ك التوبة، ب قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات)) .
قال أحمد: ثنا علي بن إسحاق قال: أنا عبد الله -يعني ابن المبارك- قال: أنا ابن لهيعة قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: ثنا أبو الخير أنه سمع عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت حلقة أخرى حتى يخرج إلى الأرض".
(المسند 4/145) . وعزاه الهيثمي إلى أحمد والطبراني وقال: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10/201-202) . وقال الألباني: حسن (صحيح الجامع ح 2188) .(3/72)
قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا حيوة أنبأنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه، فجاء المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: "ومن توضأ وضوئي ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غُفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يُذهبن السيئات، قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
(المسند 1/382 ح 513) قال محققه: إسناده صحيح، وأخرجه ابن جرير (التفسير 15/511-512 ح 18662) . وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد 1/297) وقال: رجاله رجال الصحيح غير الحارث مولى عثمان، وهو ثقة. وصحح السيوطي إسناده في (الدر 4/353) ، وقال الشيخ محمود شاكر في حاشية الطبري: صحيح الإسناد، وحسنه محققو المسند بإشراف أ. د. عبد الله التركي 1/537 ح 513) .
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن رمح، أنبأنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سفيان بن عبد الله، (أظنه) عن عاصم بن سفيان الثقفي، أنهم غزوا غزوة السلاسل، ففاتهم الغزو. فرابطوا. ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب وعقبة ابن عامر. فقال عاصم: يا أبا أيوب! فاتنا الغزو العام. وقد أخبرنا أنه من صلّى في المساجد الأربعة، غفر له ذنبه. فقال: يا ابن أخي! أدُلّك على أيسر من ذلك. إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من توضأ كما أُمر، وصلى كما أمر، غُفر له ما تقدم من عمل". أكذلك يا عقبة؟ قال: نعم.
(السنن 1/447- إقامة الصلاة والسنة فيها، ب ما جاء أن الصلاة كفارة ح 1396) ، أخرجه أحمد (المسند 5/423) ، والنسائي (السنن 1/90-99) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 3/317 ح 1042) والدارمي. وقال الألباني: حسن، وانظر (تحفة الأشراف 3/90، 19) وانظر (صحيح الترغيب 1/85) .(3/73)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) ، يقول: صلاة الغداة، وصلاة المغرب.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وزلفا من الليل) ، قال: الساعات من الليل، صلاة العتمة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وزلفا من الليل) ، قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
قال الطبري: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، قول من قال في ذلك: "هن الصلوات الخمس"، لصحة الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتواترها عنه أنه قال: "مثل الصلوات الخمس مثل نهر جار على باب أحدكم، ينغمس فيه كل يوم خمس مرات، فماذا يبقين من درنه"، وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعد على إقامتها الجزيل من الثواب عقيبها، وأولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال، إذا خص بالقصد بذلك بعض دون بعض.
قوله تعالى (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قليلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)
قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) وقال: (وما ربك بظلام للعبيد) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) ، أي: لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض (إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) .(3/74)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) من دنياهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) قال: في ملكهم وتجبرهم، وتركوا الحق.
قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفران كما قال تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، فأهل رحمة الله أهل جماعة، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم. وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولذلك خلقهم) قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: (فمنهم شقي وسعيد) سورة هود: 105.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة خلقهم.
قوله تعالى (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(3/75)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
"اختصمتِ الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار يعني: أوثرت بالمتكبرين، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنتِ عذابي، أصيبُ بكِ من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها، قال فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول: هل من مزيد. ثلاثا، حتى يضع فيها قدمه فتمتليء، ويرد بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط".
(الصحيح 13/443-444 ح 7449- ك التوحيد، ب ما جاء في قول الله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين)) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الجنة، ب النار يدخلها الجبارون ... ) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: قوله (وجاءك في هذه الحق) وجاءك في هذه السورة.
وانظر سورة الفرقان آية (32) .
قوله تعالى (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون) انظر سورة الأنعام آية (135) .
قوله تعالى (وانتظروا إنا منتظرون)
انظر قول ابن كثير في تفسير سورة يونس آية (20) .(3/76)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
سورة يوسف
قوله تعالى (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الر تلك آيات الكتاب المبين) إي والله لمبين، بين الله هداه ورشده.
قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
انظر حديث واثلة بن الأسقع المتقدم عند الآية (3-4) من سورة آل عمران، وفيه: "أنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان".
انظر سورة فصلت آية (3) .
قوله تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أنبا عمرو بن محمد، ثنا خلاد بن مسلم الصفار، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قول الله عز وجل (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية، قال: أنزل القرآن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عز وجل (الر تلك آيات الكتاب المبين) تلا إلى قوله (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية فتلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمانا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) الآية، كل ذلك يؤمرون بالقرآن.
(اتحاف الخيرة 1/238 ح 162) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/345) ، وابن حبان (الإحسان 14/92 ح 6209) ، والضياء المقدسي في المختارة (3/265 ح 1069) كلهم من طريق إسحاق بن إبراهيم به. وقال محقق المختارة: إسناده حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر: حديث حسن كما في الإتحاف.(3/77)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قوله تعالى (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا، ولكنه بينه في هذه السورة الكريمة في قوله: (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) الآية. ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) ، قال: كانت رؤيا الأنبياء وحيا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا) إخوته، أحد عشر كوكبا (والشمس والقمر) يعني بذلك: أبويه.
قوله تعالى (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير -وأثنى عليه خيرا لقيته باليمامة- عن أبيه، حدثنا أبو سلمة، عن أبي قتادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم فليتعوذ منه وليبصق عن شماله فإنها لا تضره".
(الصحيح 12/389 ح 6986- ك التعبير، ب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/1771-1772 بعد رقم 2261- الرؤيا) .
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر، ثنا هشيم عن يعلي بن عطاء، عن وكيع بن عُدس العُقيلي، عن عمه أبي رَزين، أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الرُؤيا على رِجل طائر ما لم تعْبَر. فإذا عُبرت وقعت" قال: "والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" قال: وأحسبه قال: "لا يقصها إلا على واد أو ذي رأي".(3/78)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
(سنن ابن ماجة 3/1288- ك تعبير الرؤيا،- الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا يقصها إلا على واد ح/3914) ، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق يعلى بن عطاء به نحوه، وقال الترمذي حسن صحيح (المسند 4/10) ، (السنن- الأدب، ب ما جاء في الرؤيا 4/305) ، (السنن- الرؤيا، ب ما جاء في تعبير الرؤيا 4/536) . ووكيع بن عدس قال الحافظ: مقبول. ولكن للحديث شاهد عن أنس عند الحاكم وصححه وسكت الذهبي. وقد حسن الحافظ في (الفتح 12/432) . وقال الألباني: صحيح (انظر الصحيحة 120) ، (صحيح ابن ماجة 2/342) ، ذكره ابن كثير (4/299) . وله شواهد في الصحيحين كما جاء في جامع الأصول (2/518-520) .
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وإسحاق إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) فاجتباه واصطفاه وعلمه من عبر الأحاديث وهو (تأويل الأحاديث) .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الصمد، عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم".
(صحيح البخاري 8/212- ك التفسير- سورة يوسف، ب (الآية) ح/4688) .
قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
قال الشيخ الشنقيطي: الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفرا به أباهم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة- إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي. ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب. فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم: (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) وقوله تعالى في نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ووجدك(3/79)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
ضالا فهدى) أي لست عالما بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي، فهداك إليها وعلمكها بما أوحى إليك من هذا القرآن العظيم. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم
يعني: أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلا وهو لا يبغي بها بدلا.
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين، إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به، حيث آثر اثنين على عشرة، مع أن العشرة أكثر نفعا له، وأقدر على القيام بشؤونه وتدبيره أموره.
قوله تعالى (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (لا تقتلوا يوسف) قال: كان أكبر إخوته، وكان ابن خالة يوسف، فنهاهم عن قتله.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (غيابت الجب) قال: بئر بيت المقدس، بئر في بعض نواحيها.
قوله تعالى (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يرتع ويلعب) قال: يسعى ويلهو.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يرتع) ، قال: يحفظ بعضنا بعضاً، نتكالأ.
قوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه سينبئ إخوته بهذا الأمر الذي فعلوا به في حال كونهم لا يشعرون. ثم صرح في هذه السورة الكريمة بأنه جل وعلا أنجز(3/80)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
ذلك الوعد في قوله (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) وصرح بعدم شعورهم بأنه يوسف في قوله (وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وأوحينا إليه) ، إلى يوسف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) قال: أوحى الله إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا له، وهم لا يشعرون بذلك الوحي.
قوله تعالى (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (بدم كذب) ، قال: دم سخلة، يعني شاة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) قال يقول: بل زينت لكم أنفسكم أمرا.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (فصبر جميل) ، قال: ليس فيه جزع.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (والله المستعان على ما تصفون) أي: على ما تكذبون.
قوله تعالى (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فأرسلوا واردهم) يقال: أرسلوا رسولهم، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام (قال يا بشرى هذا غلام) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (قال يا بشرى هذا غلام) تباشروا به حين أخرجوه، وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها.(3/81)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يا بشرى هذا غلام) ، قال: بشرهم واردهم حين وجد يوسف.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (وأسروه بضاعة) ، قال: أسروا بيعه.
قوله تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وشروه بثمن بخس) ، وهم السيارة الذين باعوه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وشروه بثمن بخس) ، قال: (البخس) ، وهو الظلم. وكان بيع يوسف وثمنه حراما عليهم.
قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ والله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أكرمي مثواه) منزلته، وهي امرأة العزيز.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: أنطلِق بيوسف إلى مصر، فاشتراه العزيز ملك مصر، فانطلق به إلى بيته فقال لامرأته: (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) .
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (من تأويل الأحاديث) قال: عبارة الرؤيا.
قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وكذلك نجزي المحسنين) ، يقول: المهتدين.(3/82)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قوله تعالى (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
(الصحيح 2/168 ح 660- ك الأذان، ب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الزكاة، ب فضل إخفاء الصدقة) .
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (هيت لك) ، قال: هلم لك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: كان عكرمة يقول: تهيأت لك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (إنه ربي) ، قال: سيدي.
قوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هم بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه، ولكن القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته، وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به. أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود. أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله: (هي راودتني عن نفسي) وقوله: (قال رب السجن أحب إلي مما(3/83)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
يدعونني إليه) الآية. وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) وقولها: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) . وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله: (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) الآية. وأما شهادة الله عز وجل ببراءته ففي قوله: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) .
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقول الله: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة".
(الصحيح البخاري 13/473 ح 7501- ك التوحيد، ب قول الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/117 ح 128- ك الإيمان، ب إذا هم العبد بحسنة ... ) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (لولا أن رأى برهان ربه) قال: يعقوب.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن هم يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من الله زجرته عن ركوب ما هم به يوسف من الفاحشة، وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للحذر قاطعة بأي ذلك كان من أي. والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه.(3/84)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
قوله تعالى (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (واستبقا الباب) ، قال: استبق هو والمرأة الباب، (وقدت قميصه من دبر) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وألفيا سيدها لدى الباب) أي عند الباب.
قوله تعالى (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)
قال الشيخ الشنقيطي: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الإستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب، لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وشهد شاهد من أهلها) قال: رجل.
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة إذا ضمت، لها آية أخرى حصل بذلك بيان أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، والآية المذكورة هي قوله: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) ، لأن قوله في النساء: (إن كيدكن عظيم) وقوله في الشيطان: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) يدل على أن كيدهن أعظم من كيده.(3/85)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
أخرج الطَبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (قد شغفها حبا) قال: دخل حبه في شغافها.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قد شغفها حبا) ، قال: غلبها.
قوله تعالى (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فلما سمعت بمكرهن) أي بحديثهن (أرسلت إليهن) ، يقول: أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدثن بشأنها وشأن يوسف.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واعتدت لهن متكأ) قال: مجلسا.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (أكبرنه) ، أعظمنه.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (وقطعن أيديهن) ، قال: حزا حزا بالسكاكين.
قوله تعالى (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة ثناء هؤلاء النسوة على يوسف بهذه الصفات الحميدة فيما بينهن، ثم بين اعترافهن بذلك عند سؤال الملك لهن أمام الناس في قوله: (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه) الآية.(3/86)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
قال مسلم: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البنانى، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أتيت بالبراق ... " فذكر حديث الإسراء الطويل وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... فإذا أنا بيوسف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا هو قد أعطي شطر الحسن".
(الصحيح مسلم 1/145-146 ح 162- ك الإيمان، ب الإسراء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ) .
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (حاش لله) ، معاذ الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (إن هذا إلا ملك كريم) ، قال: قلن: ملك من الملائكة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فاستعصم) ، يقول: فامتنع.
قوله تعالى (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (أصبُ إليهن) ، يقول: أتابعهن.
قوله تعالى (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح، عن مجاهد: (من بعد ما رأوا الآيات) ، قال: قد القميص من دبر.
قوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ودخل معه السجن فتيان) قال: كان أحدهما خبازا للملك على طعامه، وكان الآخر ساقيه على شرابه.
قوله تعالى (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ذلك من فضل الله علينا) أن جعلنا أنبياء (وعلى الناس) يقول: أن بعثنا إليهم رسلا.(3/87)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
قوله تعالى (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون) إلى قوله: (لا يعلمون) ، لما عرف نبي الله يوسف أن أحدهما مقتول، دعاهما إلى حظهما من ربهما: وإلى نصيبهما من آخرتهما.
أخرج الطبري بسنده الجيد عن أبي العالية في قوله: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) ، قال: أسس الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له.
قوله تعالى (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (اذكرني عند ربك) ، قال: للذي نجا من صاحبي السجن، يوسف يقول: اذكرني عند الملك.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قال: قال له: (اذكرني عند ربك) ، قال: فلم يذكره حتى رأى الملك الرؤيا، وذلك أن يوسف أنساه الشيطان ذكر ربه، وأمره بذكر الملك وابتغاء الفرج من عنده فلبث في السجن بضع سنين بقوله: (اذكرني عند ربك) .
قوله تعالى (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أضغاث أحلام) ، يقول: مشتبهة.
قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)
قال الطبري: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: (وادكر بعد أمة) قال: بعد حين.
قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد (انظر الفتح 12/381) .(3/88)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
قال الطبري: حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ (بعد أمة) ويفسرها، بعد نسيان.
صحح إسناده الحافظ ابن حجر (انظر الفتح 12/382) .
قوله تعالى (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (أفتنا في سبع بقرات سمان)
فالسمان المخاصيب، والبقرات العجاف هي السنون المحول الجدوب.
قوله تعالى (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: قال لهم نبي الله يوسف: (تزرعون سبع سنين دأبا) الآية، فإنما أراد نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البقاء.
قوله تعالى (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قليلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ)
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله - رضي الله عنه -: إن قريشا لما أبطئوا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإسلام قال: "اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصَّت كل شيء، حتى أكلوا العظام، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها مثل الدخان، قال الله (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) ، قال الله (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون) . أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة وقد مضى الدخان ومضت البطشة"؟.
(الصحيح البخاري 8/214 ح 4693- ك التفسير سورة يوسف، ب (وراودته التى هو في بيتها عن نفسه ... )) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2155- ك صفات المنافقين، ب الدخان) .(3/89)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يأكلن ما قدمتم لهن) يقول: يأكلن ما كنتم اتخذتم فيهن من القوت، (إلا قليلاً مما تحصنون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد) وهن الجدوب، (يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون) ، مما تدخرون.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
(إلا قليلا مما تحصنون) ، يقول: تخزنون.
قوله تعالى (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) قال: فيه يغاثون بالمطر.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وفيه يعصرون) قال: الأعناب والدهن.
قوله تعالى (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعى لأجبته".
(الصحيح البخاري 12/397- ك التعبير، ب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك ح/6992) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب 1/133 ح 151) .
قال الترمذي: حدثنا الحسن بن حُريث الخزاعي المروزي، حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عَمْرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الكريم ابن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ولو لبثتُ في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبتُ ثم قرأ (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) قال ورحمة الله على لوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال(3/90)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
(لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذرْوة من قومه.
حَدثنا أبو كريب، حدثنا عبدة وعبد الرحيم عن محمد بن عمرو نحو حديث الفضل بن موسى إلا أنه قال: "ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه".
قال محمد بن عَمرو: الثروة: الكثرة والمنعة.
قال أبو عيسى: وهذا أصح من رواية الفضل بن موسى، وهذا حديث حسن. (سنن الترمذي 5/293- ك التفسير- سورة يوسف ح 3116) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 3/64) . والمستدرك (2/346-347) بنحوه. وصححه الذهبي.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة) ، أراد نبي الله عليه السلام أن لا يخرج حتى يكون له عذر.
قوله تعالى (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (الآن حصحص الحق) ، قال: تبين.
قوله تعالى (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) يوسف بقوله.
قوله تعالى (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أستخلصه لنفسي) ، يقول: أتخذه لنفسي.
قوله تعالى (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إني حفيظ عليم) ، يقول: حفيظ لما وليت، عليم بأمره.
قوله تعالى (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وهم له منكرون) ، قال: لا يعرفونه.(3/91)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
قوله تعالى (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) يعني بنيامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه.
قوله تعالى (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: وقال (لفتيانه) أي: لغلمانه.
(اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) يقول: اجعلوا أثمان الطعام التي أخذتموها منهم، (في رحالهم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) أي أوراقهم.
قوله تعالى (يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ما نبغي) ، يقول: ما نبغي وراء هذا، إن بضاعتنا ردت إلينا، وقد أوفى لنا الكيل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ونزداد كيل بعير) ، يقول: حمل بعير.
قوله تعالى (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (إلا أن يحاط بكم) ، قال: إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فلما آتوه موثقهم) ، قال: عهدهم.(3/92)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
قوله تعالى (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وادخلوا من أبواب متفرقة) قال: كانوا قد أتوا صورة وجمالا، فخشى عليهم أنفس الناس.
قوله تعالى (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) خيفة العين علي بنيه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإنه لذو علم لما علمناه) أي: مما علمناه.
قوله تعالى (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) ضمه إليه، وأنزله، وهو بنيامين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلا تبئس) يقول: فلا تحزن ولا تيأس.
قوله تعالى (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فلما جهزهم بجهازهم) يقول: لما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم.(3/93)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (السقاية في رحل أخيه) ، وهو إناء الملك الذي كان يشرب فيه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (في رحل أخيه) أي: في متاع أخيه.
قوله تعالى (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولمن جاء به حمل بعير) يقول: وقر بعير.
قال النسائي: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن وهب قال: أخبرني أبو هاني عن عمرو بن مالك الجنبي أنه سمع فضالة بن عبيد يقول سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أنا زعيم والزعيم الحميل لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلبا ولا من الشر مهربا يموت حيث شاء أن يموت".
(السنن 6/21- ك الجهاد، ب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/71 - ك الجهاد) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن ابن وهب به. وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير- سورة يوسف/72 ح 539) عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب مختصرا جداً، بلفظ: "أنا زعيم، والزعيم الحميل". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الذهبي على شرط البخاري ومسلم. وقال الألباني: صحيح (صحيح النسائي ح 2936) .
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وأنا به زعيم) ، يقول: كفيل.
قوله تعالى (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ)
أخرج الطبري بسنده الجيد عن الربيع بن أنس في قوله: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) ، نقول: ما جئنا لنعصي في الأرض.(3/94)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
قوله تعالى (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، إلا فعلة كادها الله له، فاعتل بها يوسف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) ، يقول: ما كان ذلك في قضاء الملك أن يستعبد رجلا بسرقة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وفوق كل ذي علم عليم) ، حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بدئ، وتعلمت العلماء، وإليه يعود.
قوله تعالى (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا والله أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، ليوسف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ، أما الذي أسر في نفسه فقوله: (أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون) .
قوله تعالى (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (خلصوا نجيا) ، خلصوا وحدهم نجيا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (قال كبيرهم) ، قال: هو شمعون الذي تخلف، وأكبر منه، أو: أكبر منهم، في الميلاد، روبيل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (قال كبيرهم) ، وهو روبيل، أخو يوسف، وهو ابن خالته، وهو الذي نهاهم عن قتله.(3/95)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عنى بقوله (قال كبيرهم) روبيل لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنا.
قوله تعالى (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (وما كنا للغيب حافظين) قال: لم نشعر أنه سيسرق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وما كنا للغيب حافظين) قال: ما كنا نرى أنه سيسرق.
قوله تعالى (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (واسأل القرية التي كنا فيها) وهي مصر.
قوله تعالى (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) يقول: زينت، وقوله: (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) يقول: بيوسف وأخيه وروبيل.
قوله تعالى (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أسفا على يوسف) أي: حزناه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فهو كظيم) قال: كظيم الحزن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) يقول: يردد حزنه في جوفه، ولم يتكلم بسوء.(3/96)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
قوله تعالى (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (تفتؤا) تفتر من حبه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (حتى تكون حرضا) حتى تبلى أو تهرم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (أو تكون من الهالكين) قال: أو تموت.
قوله تعالى (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا تيأسوا من روح الله) أي: من رحمة الله.
قوله تعالى (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (مزجاة) قال: قليلة.
قوله تعالى (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (تالله لقد آثرك الله علينا) وذلك بعد ما عرفهم أنفسهم. يقول: جعلك الله رجلا حليما.
قوله تعالى (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لا تثريب عليكم) لم يثرِب عليهم أعمالهم.
قوله تعالى (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لولا أن تفندون) يقول: تجهلون.(3/97)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
قوله تعالى (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنك لفي ضلالك القديم) يقول: خطائك القديم.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (البشير) ، قال: يهوذا بن يعقوب.
قوله تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حقاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (العرش) ، السرير.
قال ابن كثير: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) أي هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي يوم القيامة يأتيتهم ما وعدوا به من خير وشر.
قال الحافظ ابن حجر: أخرج الطبري والحاكم والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن سلمان الفارسي قال: كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاما.
(الفتح 12/3077) ، وانظر تفسير الطبري رقم (19917) ، والمستدرك (4/396) ، وشعب الإيمان رقم (4780) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وخروا له سجدا) وكانت تحية من قبلكم، كان بها يحيي بعضهم بعضاً، فأعطى الله هذه الأمة السلام، تحية أهل الجنة، كرامة من الله تبارك وتعالى، عجلها لهم، ونعمة منه.
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر (الفتح 12/376) .(3/98)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو) ، وكان يعقوب وبنوه بأرض كنعان، أهل مواش وبرية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن ربي لطيف لما يشاء) ، لطف بيوسف وصنع له حتى أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نزغ الشيطان، وتحريشه على إخوته.
قوله تعالى (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)
انظر سورة الأنعام آية (14) .
قال مسلم: حدثنا زهر بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال زهير -واللفظ له-: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه. ثم قال: "أذهب البأس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماًً". فلما مرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثقل، أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي، ثم قال: "اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى".
قالت: فذهبت أنظر، فإذا هو قد قضى.
(الصحيح 4/1721-1722 ح 2191- ك السلام، ب استحباب رقية المريض) ، وأخرجه أحمد (المسند 6/74) من طريق كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من نبي إلا قبض نفسه ثم يرى الثواب ... " فذكرت الحديث، وفي آخره قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مع الرفيق الأعلى في الجنة، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين".(3/99)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
قوله تعالى (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)
قال ابن كثير: يقول تعالى لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قص عليه نبأ إِخوة يوسف، وكيف رفعه الله عليهم، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام، هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة (نوحيه إِليك) ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك، والاتعاظ لمن خالفك (وما كنت لديهم) حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم (إِذ أجمعوا أمرهم) أي على إِلقائه في الجب (وهم يمكرون) به، ولكنا أعلمناك به وحيا إِليك وإنزالا عليك، كقوله: (وما كنت لديهم إِذ يلقون أقلامهم) الآية، وقال تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إِذ قضينا إِلى موسى الأمر) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وما كنت لديهم) ، يعني محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب، (وهم يمكرون) أي: بيوسف.
قوله تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا روح ابن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه".
(الصحيح 4/2289 ح 2985- ك الزهد والرقائق، ب من أشرك في عمله غير الله) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وما يؤمن أكثرهم بالله) الآية، قال: من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون.(3/100)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) ، فإيمانهم قولهم: الله خالقنا، ويرزقنا ويميتنا.
قوله تعالى (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) قال: تغشاهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) ، أي: عقوبة من عذاب الله.
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم عند الآية (31) من سورة الأنعام وهو حديث: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس ... ".
قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى) ، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود.
قال ابن كثير: وقوله: (من أهل القرى) المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً، وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعا وألطف من أهل سوادهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي، ولهذا قال تعالى: (الأعراب أشد كفراً ونفاقا) الآية ... وقوله: (أفلم يسيروا في الأرض) يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض (فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) أي من الأمم المكذبة للرسل، كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، كقوله: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) الآية، فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه.
وانظر سورة الأنعام آية (11) ، وانظر سورة غافر آية (82) .(3/101)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قوله تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى (حتى إذا استيأس الرسل) قال قلت أكذِبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة: كذّبوا. قلتُ: فقد استيقنوا أنّ قومهم كذبوهم، فما هو بالظن. قالت أجل لعَمري، لقد استيقنوا بذلك. فقلتُ لها: وظنوا أنهم قد كُذِبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسلُ تظنّ ذلك بربها.
قلتُ: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدّقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسلُ ممن كذبهم من قومهم، وظنّت الرسلُ أنّ أتباعهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك.
(صحيح البخاري 8/217-218- ك التفسير- سورة يوسف، ب (الآية) ح/4695) .
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، يعني: أيس الرسل من أن يتبعهم قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا، فينصر الله الرسل، ويبعث العذاب.
قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (لقد كان في قصصهم عبرة) ، ليوسف وإخوته.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ما كان حديثا يفترى) و"الفرية" الكذب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولكن تصديق الذي بين يديه) ، والفرقان تصديق الكتب التي قبله، ويشهد عليها.(3/102)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
سورة الرعد
قوله تعالى (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) ، الكتب التي كانت قبل القرآن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (والذي أنزل إليك من ربك الحق) أي: هذا القرآن.
قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)
قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمدٍ، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا تدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام ثم السماء الثالثة محيطة بالثانية، بما فيها، وبينها وبينها خمسمائة عام وسكمها خمسمائة عام وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) . وفي الحديث: "ما السموات السبع(3/103)
وما فيهن وما بينهى في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة".
وانظر سورة البقرة آية (29) وتفسيرها.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (بغير عمد ترونها) قال: رفعها بغير عمد.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) قال: الدنيا -أي فناء الدنيا-.
قال ابن كثير: وقوله (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى)
قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كقوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (يدبر الأمر) ، يقضيه وحده.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) ، وإن الله تبارك وتعالى إنما أنزل كتابه وأرسل رسله، لنؤمن بوعده، ونستيقن بلقائه.
قوله تعالى (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
انظر سورة فصلت آية (9-12) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يغشي الليل النهار) ، أي: يلبس الليل النهار.
وانظر سورة لقمان آية (10) لبيان رواسي أي: جبال.
قوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (قطع متجاورات) طيبها وعذبها، وخبيثها والسباخ.(3/104)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (وفي الأرض قطع متجاورات) قال، قرى متجاورات.
قال الطبري حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب: (صنوان وغير صنوان) ، قال: (الصنوان) ، النخلتان أصلهما واحد، (وغير صنوان) ، النخلة والنخلتان المتفرقتان.
وسنده صحيح. وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد، وأبو إسحاق هو السبيعي واسمه عمرو بن عبد الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (صنوان) ، يقول: مجتمع.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (يسقى بماء واحد) بماء السماء، كمثل صالح بني آدم وخبيثهم، أبوهم واحد.
قوله تعالى (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإن تعجب فعجب) ، إن عجبت، يا محمد (فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) ، عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت.
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وإن تعجب) من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد، مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء فكونها بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقاً جديداً، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به، فالعجب من قولهم (أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) ، وقد علم كل عالم وعاقل أن(3/105)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير) .
وانظر سورة سبأ آية (33) لبيان الأغلال، وكذا في سورة غافر آية (71) .
قوله تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) الآية. المراد بالسيئة هنا: العقوبة وإنزال العذاب قبل الحسنة أي قبل العافية، وقيل الإيمان، وقد بين تعالى في هذه الآية أن الكفار يطلبون منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعجل لهم العذاب الذي يخوفهم به إن تمادوا على الكفر، وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) ، وكقوله: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغته وهم لايشعرون) ، وكقوله (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، وقوله (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين) ، وقوله (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية.
وسبب طلبهم لتعجيل العذاب هو العناد، وزعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاذب فيما يخوفهم به من بأس الله وعقابه، كما قال تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) ، وكقوله: (يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) ، وقوله (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وقد خلت من قبلهم المثلات) وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم، وقوله: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) ، وهم مشركو العرب، استعجلوا بالشر قبل الخير، وقالوا: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) الأنفال: 32.(3/106)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (المثلات) قال: الأمثال.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وإن ربك لذو مغفرة للناس) ، يقول: ولكن ربك.
قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) ، هذا قول مشركي العرب، قال الله: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، لكل قوم داع يدعوهم إلى الله.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إنما أنت منذر) ، أي إنما عليك البلاغ والإنذار، أما هداهم وتوفيقهم فهو بيد الله تعالى، كما أن حسابهم عليه جل وعلا. وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) ، وقوله (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) .
قوله تعالى (ولكل قوم هاد)
قال الشيخ الشنقيطي: أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة، والمراد بالهادي الرسول، كما يدل قوله تعالى: (ولكل أمة رسول) الآية.
وقوله: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) ، وقوله: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولكل قوم هاد) ، قال: داع.
قوله تعالى (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد)
قال الشيخ الشنقيطي: لفظه في هذه الآية يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى وعلى هذا فالمعنى: يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة، وخداج، وحسن وقبح، وطول وقصر، وسعادة وشقاوة إلى غير ذلك من الأحوال. وقد دلت على هذا المعنى(3/107)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
آيات من كتاب الله كقوله: (ويعلم ما في الأرحام) ؛ لأن ما فيه موصولة بلا نزاع، وكقوله: (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) وقوله: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) الآية.
ويحتمل أيضاً: أن تكون لفظة ما في هذه الآية الكريمة مصدرية، أي يعلم حمل كل أنثى بالمعنى المصدري، وقد جاءت آيات تدل أيضاً على هذا المعنى كقوله (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) ، وقوله: (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) الآية.
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن قال: حدثني مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدرى نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله".
(الصحيح 8/225- ك التفسير- سورة الرعد ح/4697) .
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، حدثنا شعبة، أنبأني سليمان الأعمش قال: سمعت زيد بن وهب، عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الصادق المصدوق- قال: "إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. فوالله إن أحدكم -أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" قال آدم: إلا ذراع.
(الصحيح 11/486 ح 6594- ك القدر) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك القدر، ب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه) .(3/108)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال: المرأة ترى الدم، وتحمل أكثر من تسعة أشهر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد) ، قال: كان الحسن يقول: الغيضوضة، أن تضع المرأة لستة أشهر أو لسبعة أشهر، أو لما دون الحد، قال قتادة: وأما الزيادة فما زاد على تسعة أشهر.
قوله تعالى (وكل شيء عنده بمقدار)
قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أسامة قال: كنت عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رسول إحدى بناته -وعنده سعد وأبيُّ بن كعب ومعاذ- أن ابنها يجود بنفسه، فبعث إليها: "لله ما أخذ ولله ما أعطى، كل بأجل، فلتصبر ولتحتسب".
(الصحيح 11/503 ح 6602- ك القدر، ب (وكان أمر الله قدرا مقدورا) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 2/635-636 ح 923- ك الجنائز، في البكاء على الميت) .
ورواية الطبري الآتية تبين مناسبة إيراد حديث البخاري عند الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وكل شيء عنده بمقدار) ، إي والله، لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم، وجعل لهم أجلا معلوماً.
قوله تعالى (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) . بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن السر والجهر عنده سواء، وإن الاختفاء والظهور عنده أيضاً سواء؛ لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر، ويعلم الخفي كما يعلم الظاهر، وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: (وأسروا قولكم أو أجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) وقوله: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر(3/109)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
وأخفى) وقوله: (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) وقوله: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) الآية - إلى غير ذلك من الآيات. وأظهر القولين في المستخفى بالليل والسارب بالنهار: أن المستخفى هو المختفي المستتر عن الأعين، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث يشاء.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) كل ذلك عنده تبارك وتعالى سواء، السر عنده علانية قوله: (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) أي: في ظلمة الليل، و (سارب) أي: ظاهر بالنهار.
قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم فيقول كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يُصلون".
(الصحيح البخاري 13/426 ح 7429- ك التوحيد، في قول الله تعالى (تعرج الملائكة والروح إليه)) ، وأخرجه مسلم في صحيحه (1/439- ك المساجد، ب فضل صلاتي الصبح والعصر ح 632) .
قال مسلم: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا. وقال عثمان: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما منكم من أحد إلا وقد وُكّل به قرينه من الجن "قالوا: وإياك؟ يا رسول الله! قال: "وإياي، إلا أن الله أعانتي عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير".
وأخرجه بعده بمثله، لكن فيه: "وقد وكل له قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة".
(الصحيح 4/2167-2168 ح 2814 وما بعده- ك صفات المنافقين، ب تحريش الشيطان ... ) .(3/110)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قال الطبري: حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال: حدثنا ابن يمان قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) ، قال: ذلك ملك من ملوك الدنيا، له حرس من دونه حرس.
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر، انظر (الفتح 8/372) .
ويريد بملوك أي الملائكة والدليل الرواية التالية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يحفظونه من أمر الله) ، يقول: بإذن الله، فالمعقبات هي من أمر الله، وهي الملائكة.
قال الحافظ ابن حجر: وروى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) قال: الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدره خلوا عنه.
(الفتح 8/372) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دوله من وال) بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا. والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الآية.
وقوله (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) . وقد بين في هذه الآية أيضاً: أنه إذا أراد قوما بسوء فلا مرد له، وبين ذلك في مواضع أخر كقوله: (ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة (حتى يغيروا ما بأنفسهم) يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أحد بتغيير الرماة ما بأنفسهم فعمت البلية الجميع، وقد سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثير الخبث". ا. هـ.
وهذا الحديث صحيح.(3/111)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قوله تعالى (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (خوفاً وطمعا) ، خوفاً للمسافر، وطمعا للمقيم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (وينشئ السحاب الثقال) قال: الذي فيه الماء.
قوله تعالى (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)
انظر حديث ابن عباس عند الآية (19) من سورة البقرة.
قال أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر وغيره قالوا: حدثنا ديلم بن غزوان، حدثنا ثابت، عن أنس قال: أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من أصحابه إلى رأس من رؤوس المشركين يدعوه إلى الله. فقال: هذا الإله الذي تدعو إليه، أمن فضة هو أم من نحاس هو؟ فتعاظم مقالته في صدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فرجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فقال: "ارجع إليه فادعه إلى الله". فرجع فقال له مثل مقالته. فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره! فقال: "ارجع فادعه إلى الله". وأرسل الله عليه صاعقة". فرجع فقال له مثل مقالته، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فقال: "ارجع إليه فادعه إلى الله". ورسول الله في الطريق لا يعلم، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أن الله قد أهلك صاحبه. ونزلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله) .
(المسند 6/87-88 ح 3341) ، قال محققه: إسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي عاصم (السنة 1/304 ح 692) من محمد بن أبي بكر به. قال الألباني في ظلال الجنة: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير ديلم بن غزوان وهو ثقة، وأخرجه البزار من طريق ديلم به، وصححه الحافظ ابن حجر (مختصر زوائد البزار ح 1474) ، (وكشف الأستار ح 2221) قال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة (مجمع الزوائد 7/42) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وهو شديد المحال) أي القوة والحيلة.(3/112)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قوله تعالى (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (له دعوة الحق) ، قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (كباسط كفيه إلى الماء) يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه بيده، فلا يأتيه أبدا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه) فقال: هذا مثل المشرك مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد، فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) ، فأما المؤمن فيسجد طائعا، وأما الكافر فيسجد كارها.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه، الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين (وظلالهم بالغدوّ) أي البكر (والآصال) وهو جمع أصيل، وهو آخر النهار، كقوله تعالى (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله) الآية.
وانظر تفسير الغدو والأصال في سورة الأعراف آية (205) .(3/113)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) ، أما (الأعمى والبصير) ، فالكافر والمؤمن، وأما (الظلمات والنور) ، فالهدى والضلالة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) ، حملهمِ ذلك على أن شكوا في الأوثان.
قوله تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) ، فهذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: (فأما الزبد فيذهب جفاء) ، وهو الشك، (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، وهو اليقين، كما يجعل الحلى في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
قوله تعالى (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: (للذين استجابوا لربهم) أي أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم (الحسنى) وهو الجزاء الحسن، كقوله تعالى مخبرا عن(3/114)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
ذي القرنين أنه قال: (أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا. وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)
وقال تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) سورة يونس: 26.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (للذين استجابوا لربهم الحسنى) وهي الجنة.
وانظر سورة آل عمران آية (91) .
قوله تعالى (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)
قال ابن كثير: يقول تعالى لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي (أنزل إليك) يا محمد (من ربك) هو الحق أي: الذي لا شك فيه، ولا مرية، ولا لبس فيه، ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضاً، لا يضاد شيء منه شيئاً آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) .
قوله تعالى (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وأقاموا الصلاة) يعني الصلوات الخمس (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) ، يقول: الزكاة.
قال ابن كثير: (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي: يدفعون القبيح بالحسن، فإدا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، كقوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .(3/115)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)
قال ابن كثير: وقوله (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين، لتقر أعينهم بهم حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى من غير تنقيص لذلك الأعلى على درجته بل امتنانا من الله وإحسانا، كما قال تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) الآية، سورة الطور: 21.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (ومن صلح من آبائهم) قال: من آمن في الدنيا.
قوله تعالى (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)
قال ابن حبان: أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا المقريء، قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني معروف بن سُويد الجذامي، عن أبي عُشّانة المعافري، عن عبد الله بنَ عمرو، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "هل تدرون من أول من يدخل الجنة منَ خلْق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين يُسدّ بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدُهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ايتوهم فحيوهم، فيقول الملائكة: ربّنا نحنُ سكان سماواتك وخِيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء، فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبدوني لا يشركون بي شيئاً، وتسدّ بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم مِن كل باب: (سلام عليكم بما صبرتم فنِعم عُقبى الدار) .
(الإحسان 16/438-439- ك إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مناقب الصحابة، ب وصف الجنة وأهلها.
ح/7421 أخرجه أحمد من طريق أبي عشانه به (المسند 10/77 ح 6571) وصححه أحمد شاكر ومحققو المسند بإشراف أ. د. عبد الله التركي ح 6571) إسناده جيد وعزاه الهيثمي لأحمد والطبراني وقال: ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عثانة وهو ثقة (مجمع الزوائد 10/259 وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/71-72 من طريق عمرو بن الحارث عن أبي عشانة به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) .(3/116)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
قوله تعالى (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة تحت الآية رقم (77) من سورة التوبة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير) سورة الحج: 31، ونقض العهد، وقطيعة الرحم، لأن الله تعالى يقول: (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) ، يعني: سوء العاقبة.
قوله تعالى (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتره على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالا، كما قال تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة، فقال: (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) ، كما قال: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) وقال (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) سورة الأعلى: 16-17.
وانظر سورة الشورى (27) والزخرف (32) والفجر (15-16) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (إلا متاع) قال: قليلاً ذاهباً.
قوله تعالى (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإتيان بآية ينزلها عليه ربه وبين هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) إلى غير ذلك من الآيات وبين تعالى في موضع آخر أن في(3/117)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
القرآن العظيم كفاية عن جميع الآيات في قوله: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) وبين في موضع آخر حكمة عدم إنزال آية كناقة صالح ونحوها بقوله (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة) الآية كما تقدمت الإشارة إليه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ويهدي إليه من أناب) أي: من تاب وأقبل.
قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) يقول: سكنت إلى ذكر الله واستأنست به.
قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (طوبى لهم) ، يقول: فرح وقرة عين.
قوله تعالى (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)
قال ابن كثير: يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة (لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك) أي تبلغهم رسالة الله إليهم، كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله، وقد كذب الرسل من قبلك فلك فيهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين، قال الله تعالى: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) الآية، وقال تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين) سورة الأنعام: 34.(3/118)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قريباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) الآية جواب لو في هذه الآية محذوف قال بعض العلماء تقديره: لكان هذا القرآن. وقال بعضهم: تقديره لكفرتم بالرحمن ويدل لهذا الأخير قوله قبله (وهم يكفرون بالرحمن) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ، قول كفار قريش لمحمد: سير جبالنا تتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة، أو قرب لنا الشأم فإنا نتجر بها، أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم! فقال الله تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) .
وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بنحوه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أفلم ييأس الذين آمنوا) يقول: يعلم.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، تصاب منهم سرية، أو تصاب فيهم مصيبة، أو تحل يا محمد قريباً من دارهم، وقوله: (حتى يأتي وعد الله) ، قال: فتح مكة.
وأخرجه الطبري بسنده عن ابن عباس بنحوه وحسنه الحافظ ابن حجر (الفتح 8/373) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولايزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) أي: بأعمالهم أعمال السوء، وقوله (أو تحل قريباً من دارهم) أنت يا محمد، (حتى يأتي وعد الله) ، ووعد الله، فتح مكة.(3/119)
قال ابن كثير: وقوله (إن الله لا يخلف الميعاد) أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة (فلا تحسبن الله غلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام) .
قوله تعالى (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)
قال ابن كثير: يقول تعالى مسلياً لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تكذيب من كذبه من قومه: (ولقد استهزىء برسل من قبلك) أي فلك فيهم أسوة (فأمليت للذين كفروا) أي أنظرتهم وأجلتهم، (ثم أخذتهم) أخذة رابية، فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم؟ كما قال تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير) وفي الصحيحين (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) .
قوله تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ، ذلكم ربكم تبارك وتعالى، قام علي بني آدم بأرزاقهم وآجالهم، وحفظ عليهم والله أعمالهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) ، والله خلقهم.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (بظاهر من القول) ، بظن من القول.(3/120)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قوله تعالى (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)
قال ابن كثير: أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم) الآية ... (ومن يضلل الله فما له من هاد) كما قال (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (بل زين للذين كفروا مكرهم) ، قال: قولهم.
قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ)
قال ابن كثير: ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك (لهم عذاب في الحياة الدنيا) أي بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا، (ولعذاب الآخرة) أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا (أشق) أي من هذا بكثير، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمتلاعنين: "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة" وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فإن عذاب الدنيا له انقضاء، وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته، كما قال تعالى: (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد) .
والحديث في صحيح مسلم في كتاب اللعان وانظر سورة طه آية (127) وتفسيرها.
قوله تعالى (أكلها دائم وظلها)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "خَسَفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى. قالوا: يا رسول الله رأيناك تناول شيئاً في مقامك، ثم رأيناكَ تكعكعتَ. قال: إني أُريت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا".
(صحيح البخاري 2/271- ك الأذان، ب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة ح/748) وأخرجه مسلم (2/626- ك الكسوف، ب ما عرض على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الكسوف.. ح/907 بأطول منه) .(3/121)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قال مسلم: وحدثني الحسن بن علي الحلواني وحجاج بن الشاعر، كلاهما عن أبي عاصم قال حسن: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك يلهمون التسبيح والحمد، كما يلهمون النفس".
قال: وفي حديث حجاج "طعامهم ذلك".
(الصحيح 4/2181- بعد رقم 2835- ك الجنة وصفة نعيمها، ب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم) .
قال ابن كثير: وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنه ويحذر من النار، ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده: (تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار) . كما قال تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) .
قوله تعالى (وَالَّذِينَ آتيناهم الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) أولئك أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرحوا بكتاب الله وبرسوله وصدقوا به.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) ، قال: من أهل الكتاب.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (وإليه مآب) ، وإليه مصير كل عبد.
قال ابن كثير: يقول تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب) وهم قائمون بمقتضاه (يفرحون بما أنزل إليك) أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به، كما قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) الآية.(3/122)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ)
قال ابن كثير: وقوله: (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا، شرفناك به، وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) .
وانظر سورة فصلت آية (3) .
قوله تعالى (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) الآية بين في هذه الآية الكريمة أن الرسل قبله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنس البشر يتزوجون ويلدون وليسوا ملائكة وذلك أن الكفار استغربوا بعث آدمي من البشر كما قال تعالى (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) فأخبر أنه يرسل البشر الذين يتزوجون ويأكلون كقوله (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) وقوله (وما جعلناهم جسدا لايأكلون الطعام) الآية.
قال النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الله الخلنجي قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال: حدثنا حصين بن نافع المازني قال: حدثني الحسن عن سعد بن هشام أنه دخل على أم المؤمنين عائشة قال: قلت: إني أريد أن أسألك عن التبتل، فما ترين فيه؟ قالت: فلا تفعل، أما سمعت الله عز وجل يقول (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) ؟ فلا تتبتل.
(السنن 6/60- ك النكاح، في النهي عن التبتل) ، وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (6/97) عن أبي سعيد مولى بني هاشم بإسناده، فذكره في جزء من حديث، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي(3/123)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
(2/676-677) رقم (3015) : صحيح إن كان الحسن سمعه من سعد، موقوف. وأخرجه أحمد (6/125 و157) ، والترمذي في (العلل الكبير 1/424) ، والنسائي في (المجتبى 6/58-59) من طريق أشعث بن عبد الملك الحمراني، وأحمد (6/91 و113) من طريق المبارك بن فضالة كلاهما عن الحسن بهذا الإسناد، إلا أنه ليس عندهم ذكر آية الرعد ورواه قتادة عن الحسن فقال: عن سمرة بن جندب: أخرجه الترمذي (3/384- ح 1082) ، والنسائي (6/59) ، وابن ماجة (ح 1849) ، ولفظه: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التبتل"، زاد في روايه عند الترمذي وابن ماجة: وقرأ قتادة (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) وقال الترمذي حديث حسن غريب. وصححه الألباني لوجود شاهد له في الصحيح من رواية سعد بن أبي وقاص. (صحيح ابن ماجة 1/311 رقم 1499) وليس في رواية الصحيح ذكر الآية. وقد اختلف في المحفوظ عن الحسن: قال النسائي: قتادة أثبت وأحفظ من أشعث، وحديث أشعث أشبه بالصواب. وكأنه رجحه لمتابعة حصين بن نافع والمبارك لأشعث أما الترمذي فقال: ويقال كلا الحديثين صحيح (السنن 3/384) .
قوله تعالى (لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)
قال ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله ابن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء".
(السنن 1/35 ح 90) المقدمة. وأخرجه أحمد (المسند 5/277، 280، 282) عن وكيع به.
والطبراني (المعجم الكبير ح 1442) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 3/153 ح 872) ، والحاكم (المستدرك 1/493) من طرق عن سفيان به. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ونقل البوصيري في زوائده على ابن ماجة عن شيخه العراقي قوله: حديث حسن) . وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة رقم 73.
وانظر تفسير الآية (8) من السورة نفسها.
قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (يمحو الله ما يشاء) ، قال: من القرآن، يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، (وعنده أم الكتاب) ، يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب.(3/124)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) هي مثل قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقوله: (وعنده أم الكتاب) أي جملة الكتاب وأصله.
قوله تعالى (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)
انظر سورة يونس آية (46) ، وسورة البقرة آية (119) لبيان البلاغ.
قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ننقصها من أطرافها) ، يقول: نقصان أهلها وبركتها.
وانظر سورة الأنبياء آية (44) .
قوله تعالى (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)
قال ابن كثير: يقول تعالى (قد مكر الذين من قبلهم) برسلهم، وأرادوا إخراجهم من بلادهم، فمكر الله بهم، وجعل العاقبة للمتقين، كقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين) وقوله تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) الآية.
قال أحمد: حدثنا يحيى قال أملاه على سفيان إلى شعبة قال: سمعت عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن الحارث المعلم، حدثني طليق بن قيس الحنفي أخو أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو: "رب أعني ولا تعن علي،(3/125)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى إلي وانصرني على من بغى علي، رب اجعلنى لك شكارا لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، إليك مخبتا، لك أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتى وثبت حجتى واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي".
(المسند 3/309-310 ح 1997) ، وأخرجه أيضا أبو داوود (ك الصلاة، ب ما يقول الرجل إذا سلم، ح 1510 و1511) والترمذي (ك الدعوات، ب في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح 3551) والنسائي في عمل اليوم والليلة (ح 607) وابن ماجة (ك الدعاء، ب دعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح 3830) وابن حبان في صحيحه (3/227-228 و228 رقم 947 و948) والحاكم في المستدرك (1/519-520) من طرق عن سفيان به، إلا أن عند ابن ماجة "قيس بن طلق" وهو خطأ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وصحح إسناده أيضا أحمد شاكر في تحقيق المسند والألباني في ظلال الجنة (السنة لابن أبي عاصم رقم 384) وصحح إسناد أحمد محقفوه بإشراف أ. د. عبد الله التركي (المسند ح 1997) .
قوله تعالى (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علمُ الكتاب)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) قال: قول مشركي قريش، (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) ، أناس من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق ويقرون به، ويعلمون أن محمدا رسول الله، كما يُحَدث أن منهم عبد الله بن سلام.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الظاهر أن قوله ومن عنده علم الكتاب عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به أهل العلم بالتوراة والإنجيل ويدل له قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) الآية وقوله (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) الآية وقوله (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إلى غير ذلك من الآيات.(3/126)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
سورة إبراهيم
قوله تعالى (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)
انظر سورة البقرة آية (1-2) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) ، أي من الضلالة إلى الهدي.
قوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
انظر سورة البقرة آية (71) لبيان: الويل.
قوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)
انظر سورة الأعراف آية (86) .
قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) الآية بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لم يرسل رسولا إلا بلغة قومه لأنه لم يرسل رسولا إلا إلى قومه دون غيرهم ولكنه بين في مواضع أخر أن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل إلى جميع الخلائق دون اختصاص بقومه ولا بغيرهم كقوله (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) وقوله (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وقوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس) الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم رسالته لأهل كل لسان فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب عليه إبلاغ أهل كل لسان.(3/127)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) ، أي بلغة قومه ما كانت. قال الله عز وجل (ليبين لهم) الذي أرسل إليهم، ليتخذ بذلك الحجة. قال الله عز وجل (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) .
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) قال، بالبينات.
أخرج مسلم بسنده عن أُبي بن كعب قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إنه بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله. وأيام الله نعماؤه وبلاؤه.
(الصحيح- ك الفضائل 4/1850 ح 172) .
قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ ... )
انظر تفسير سورة البقرة آية (49) ، وفيها تفصيل لنجاة موسى من آل فرعون.
قوله تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ... )
انظر سورة سبأ آية (13) ، لبيان أن الشكر لا يقتصر على اللسان وإنما الشكر بالعمل أيضاً.
قوله تعالى (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)
قال ابن كثير: أي هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره كما قال: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) الآية. قال تعالى: (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد) . وفِى صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على(3/128)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر".
(انظر صحيح مسلم- ك البر، ب تحريم الظلم) .
قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)
قال الطبري: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قول الله عز وجل: (فردوا أيديهم في أفواههم) ، قال: عضوا على أصابعهم.
(وأخرجه الحاكم من طريق الثورى عن أبي إسحاق به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/350-351)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (فردوا أيديهم في أفواههم) قال: ردوا على الرسل ما جاءت به.
قوله تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)
قال ابن كثير: وقالت لهم رسلهم (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) أي في الدار الآخرة (ويؤخركم إلى أجل مسمى) أي في الدنيا كما قال تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) الآية.
وانظر سورة الأنعام آية (14) .
قوله تعالى (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي(3/129)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
وقد نص في آيات أخر أيضاً على بعض ذلك مفصلا كقوله من قوم شعيب (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم) الآية، وقوله عن قوم لوط (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) وقوله عن مشركي قريش (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً) وقوله (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى رسله أن العاقبة والنصر لهم على أعدائهم وأنه يسكنهم الأرض بعد إهلاك أعدائهم وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) وقوله (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز) وقوله (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولنسكننكم الأرض من بعدهم) قال: وعدهم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
قال الحاكم: أخبرني الشيخ أبو بكر بن إسحاق أنبأ محمد بن شاذان الجوهري ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، ثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أنزل الله عز وجل على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) تلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه ذات ليلة أو قال يوم فخر فتى مغشيا عليه فوضع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده على فؤاده فإذا هو يتحرك فقال يا فتى قل لا إله إلا الله فقالها(3/130)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
فبشره بالجنة فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما سمعتم قول الله عز وجل (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) ".
هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. (المستدرك 2/351- ك التفسير) . قال الذهبي: محمد ابن يزيد مكي، قال أبو حاتم: شيخ صالح في حديثه.
قوله تعالى (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إني وُكلتُ بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين".
(السنن 4/701 ح 2574- ك صفة جهنم، ب ما جاء في صفة النار) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه أحمد (المسند 2/336) عن عبد الصمد، عن عبد العزيز بن مسلم به. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 2083) . وقال مرة: إسناده على شرط الشيخين (الصحيحة ح 512) . وصحح سنده الحسين عبد المجيد هاشم في تكملة تحقيق المسند (16/184 ح 8411) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (واستفتحوا) ، قال: الرسل كلها. يقول: استنصروا على قومهم (عنيد) قال: معاند للحق مجانبه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (من ماء صديد) ، قال: قيح ودم.
قال ابن كثير: (ويسقى من ماء صديد) أي في النار ليس له شراب إلا من حميم أو غساق، فهذا في غاية الحرارة، وهذا غاية البرد والنتن، كما قال: (هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج) .(3/131)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
قوله تعالى (يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ)
قال الطبري: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي قوله: (ويأتيه الموت من كل مكان) ، قال: من تحت كل شعرة في جسده.
وسنده صحيح.
قال ابن كثير: وقوله (ومن ورائه عذاب غليظ) أي وله من بعد هذا الحال عذاب آخر غليظ، أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله، وأدهى وأمر، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم، وتارة في شرب حميم، وتارة يردون إلى جحيم، عياذا بالله من ذلك.
قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ)
قال ابن كثير: أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء فلم يجدو شيئاً، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة (في يوم عاصف) أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم، كقوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ، وقوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) ، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله(3/132)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) .
قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)
قالَ ابن كثير: وقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) وقال: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) وقال: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) .
وانظر سورة النساء آية (133) وتفسيرها، وسورة الأنعام آية (133) وتفسيرها.
قوله تعالى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه المحاجة التي ذكرها الله هنا عن الكفار بينها في مواضع أخر كقوله: (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) كما تقدم إيضاحه.
وانظر سورة البقرة آية (166-167) .
قوله تعالى (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية أن الله وعدهم وعد الحق وأن الشيطان وعدهم فأخلفهم ما وعدهم وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله في وعد الله (وعد الله حقاً) وقوله: (إن الله لا يخلف الميعاد) وقوله في وعد الشيطان (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) .(3/133)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
قوله تعالى (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم)
أخرج عبد الرزاق والطبري بسنديهما الصحيح عن قتادة قوله (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) ، ما أنا بمغيثكم، وما أنتم بمغيثي، قوله: (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) ، يقول: عصيت الله قبلكم.
قوله تعالى (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام وبين في مواضع أخر أن الملائكة تحييهم بذلك وأن بعضهم يحيى بعضاً بذلك فقال في تحية الملائكة لهم (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) الآية، وقال: (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم) الآية، وقال: (ويلقون فيها تحية وسلاما) وقال في تحية بعضهم بعضاً (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) الآية، كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)
قال البخاري: حدثني عُبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عُبيد الله عن نافع عن ابن عُمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أخبروني بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا، تؤتي أكلها كل حين. قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعُمَر لا يتكلمان، فكرِهت أن أتكلم. فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي النخلة. فلما قمنا قلتُ لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة.(3/134)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً. قال عمر: لأن تكون قلتَها أحبّ إليّ من كذا وكذا".
(صحيح البخاري 8/228- ك التفسير- سورة إبراهيم، ب (الآية) ح/4698) .
قال الطبري: حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب قال كنا عند أنس -أي ابن مالك - رضي الله عنه -- فأتينا بطبق، أو قنع، عليه رطب، فقال: كل يا أبا العالية فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله جل وعز في كتابه (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت) .
أخرجه الترمذي من طريق أبي بكر بن شعيب بن الحبحاب عن أبيه به، وأخرجه من طريق حماد بن سلمة مرفوعاً وقال: وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة. (السنن- التفسير- سورة إبراهيم ح 3119) وقال الألباني: صحيح موقوفا (صحيح سنن الترمذي ح 2494) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كلمة طيبة) ، شهادة أن لا إله إلا الله، (كشجرة طيبة) ، وهو المؤمن، (أصلها ثابت) ، يقول: لا إله إلا الله، ثابت في قلب المؤمن، (وفرعها في السماء) ، يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (كشجرة طيبة) قال: كنخلة.
أخرج الطبري من طرق يقوي بعضها بعضاً عن ابن عباس في قوله: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) ، قال: غدوة وعشية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) والحين ما بين السبعة والستة، وهي تؤكل شتاء وصيفا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (تؤتي أكلها كل حين) ، قال: هي تؤكل شتاء وصيفا.
أخرج الطبري من طرق يقوي بعضها بعضاً عن أنس بن مالك، قال: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) ، تلكم الحنظل.(3/135)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (ومثل كلمة خبيثة) ، وهي الشرك، (كشجرة خبيثة) ، يعني الكافر. قال: (اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) ، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (اجتثت من فوق الأرض) قال: استؤصلت من فوق الأرض.
قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة قال أخبرني علقمة بن مَرثد قال سمعت سعدَ بن عُبيدة عن البراء بن عازب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ".
(صحيح البخاري 8/229 ك التفسير- سورة إبراهيم، ب (الآية) ح/4699. م 4/2201 ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ... ) .
قال أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا عباد -يعني ابن راشد- عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جنازة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن فتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك في يده مطراق فأقعده، قال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: صدقت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا كان منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت فهذا منزلك فيفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه، فيقول له: اسكن ويفسح له في قبره. وإن كان كافراً أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك(3/136)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
لو آمنت بربك فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق يسمعها خلق الله كلهم غير الثقلين" فقال بعض القوم: يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هبل عند ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) .
(المسند 3/3-4) ، وأخرجه الطبري (التفسير 16/591 ح 20762) عن الحسين بن سلمة ومحمد بن معمر البحراني، كلاهما عن أبي عامر به. وعزاه الهيثمي لأحمد والبزار وقال: ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3/48) . وقال ابن كثير: إسناده لا بأس به (التفسير 4/417) وقال السيوطي: سنده صحيح (الدر المنثور 4/80) . وقال محمود شاكر في حاشية الطبري: حديث صحيح الإسناد. وقال الألباني: حديث صحيح (ظلال الجنة ح 865) .
قال الطبري: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال: حدثنا آدم قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: تلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، قال: ذاك إذ قيل في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جاء بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت.
فيقال له: صدقت، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث.
(التفسير 16/596 ح 20769) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 7/380-382 ح 3113) والحاكم في المستدرك (1/379-380) وصححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وذكره الهيثمي في المجمع (3/51-52) مطولاً وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن، قال محقق الطبري: خبر صحيح الإسناد. وقال محقق الإحسان. (إسناده حسن من أجل محمد بن عمرو) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) ، أما (الحياة الدنيا) فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وقوله (وفي الآخرة) ، أي في القبر.
قوله تعالى (ألم ترَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس (ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا) قال: هم كفار أهل مكة".
(صحيح البخاري 8/229- ك التفسير- سورة إبراهيم، ب (الآية) ح/4700) .(3/137)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
قال النسائي في التفسير: انا محمد بن بشار نا محمد نا شعبة عن قاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع عليا - رضي الله عنه - وسأله ابن الكواء عن هذه الآية (الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها) قال: هم كفار قريش يوم بدر.
(التفسير ح 287، وأخرجه أيضا الطبري (13/220-221) وابن أبي حاتم (كما في تفسير ابن كثير 4/427) من طرق عن شعبة به وقال محقق النسائي: إسناد صحيح ... رجاله ثقات رجال الشيخين. وأخرجه الطبري (13/221) وابن أبي حاتم كما تقدم في تفسير ابن كثير 4/427) والحاكم في المستدرك (2/352) من طرق عن بسام الصيرفي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن علي به إلا أن فيه: (منافقوا قريش) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عال ... ووافقه الذهبي. وأخرجه الضياء في المختارة (2/174-175 ح 554) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن أبي الطفيل عن علي بلفظ: (دعهم عنك فقد كفيتهم، ذاك يوم بدر) وقال محققه: إسناده حسن. قال ابن كثير: رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر. (التفسير 4/428) . وسنده صحيح.
قوله تعالى (وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، الأنداد: الشركاء.
قال الشيخ الشنقيطي: هذا تهديد منه تعالى لهم بأن مصيرهم إلى النار وذلك المتاع القليل في الدنيا لا يجدي من مصيره إلى النار وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: (قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار) وقوله: (نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) وقوله: (متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) وقوله (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم) الآية.
قوله تعالى (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلال)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالمبادرة إلى الطاعات كالصلوات والصدقات من قبل إتيان يوم القيامة الذي هو اليوم الذي لا بيع فيه(3/138)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
ولا مخالة بين خليلين فينتفع أحدهما بخلة الآخر فلا يمكن أحدا أن تباع له نفسه فيفديها ولا خليل ينفع خليله يومئذ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) وقوله: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) يعني الصلوات الخمس (وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) يقول: زكاة أموالهم.
قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)
انظر سورة البقرة آية (146) .
قوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)
قال ابن كثير: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) أي يسيران لا يفتران ليلا ولا نهارا (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتقارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار) .
قوله تعالى (وآتاكم من كل ما سألتموه)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (من كل ما سألتموه) كل ما رغبتم إليه فيه.(3/139)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هل أجاب دعاء نبيه إبراهيم هذا؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنه أجابه في بعض ذريته دون بعض كقوله (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) وقوله (وجعلها كلمة باقية في عقبه) الآية.
وانظر سورة البقرة آية (126) .
قال ابن كثير: يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: (رب اجعل هذا البلد آمنا) وقد استجاب الله له فقال تعالى: (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً) الآية، وقال تعالى: (إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً) .
قوله تعالى (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس....)
انظر حديث مسلم المتقدم تحت الآية رقم (118) من سورة المائدة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (إنهن أضللن كثيرا من الناس) يعني الأوثان.
قوله تعالى (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) وإنه بيت طهره الله من السوء، وجعله قبلة، وجعله حرمه، اختاره نبي الله إبراهيم لولده.(3/140)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (غير ذي زرع) قال: مكة لم يكن بها زرع يومئذ.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات) الآية. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لذريته الذين أسكنهم بمكة المكرمة أن يرزقهم الله من الثمرات وبين في سورة البقرة أن إبراهيم خص بهذا الدعاء المؤمنين منهم وأن الله أخبره أنه رازقهم جميعاً مؤمنهم وكافرهم ثم يوم القيامة يعذب الكافر وذلك بقوله (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) قال: لو كانت أفئدة الناس لازدحمت عليه الفرس والروم، ولكنه أفئدة من الناس.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: (تهوي إليهم) تنزع إليهم.
قال ابن كثير: وقوله: (وارزقهم من الثمرات) أي ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثمارا يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك كما قال: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) .
قوله تعالى (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء)
انظر سورة الأنعام آية (59) لبيان سعة علم الله تعالى وشموله.
قوله تعالى (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ربنا اغفر لي ولوالدي) الآية بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم طلب المغفرة لوالديه وبين في آيات أخر أن طلبه(3/141)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
الغفران لأبيه إنما كان قبل أن يعلم أنه عدو الله فلما علمَ ذلك تبرأ منه كقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) ونحو ذلك من الآيات. ا. هـ.
وهذا الاستغفار دعا به نوح كما في آخر سورة نوح.
قوله تعالى (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يؤخر عقاب الكفار إلى يوم تشخص فيه الأبصار من شدة الخوف وأوضح ذلك في قوله تعالى (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) الآية. ومعنى شخوص الأبصار أنها تبقى منفتحة لا تغمض من الهول وشدة الخوف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ليوم تشخص فيه الأبصار) خصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم.
قوله تعالى (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (مهطعين) يقول: منطلقين عامدين إلى الداعي.
قال ابن كثير: ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر، فقال: (مهطعين) أي مسرعين، كما قال تعالى: (مهطعين إلى الداع) الآية، وقال تعالى (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له) وقال تعالى (يوم يخرجون من الأجداث سراعا) الآية.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (مقنعي رءوسهم) قال: رافعي رؤوسهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (وأفئدتهم هواء) قال: هواء ليس فيها شئ خرجت من صدورهم، فنشبت في حلوقهم.(3/142)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
قوله تعالى (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب) يقول: أنذرهم في الدنيا قبل أن يأتيهم العذاب.
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب: (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) كقوله (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) الآية، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم) الآيتين.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (مالكم من زوال) قال: لا تموتون لقريش.
قوله تعالى (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) يقول: سكن الناس في مساكن قوم نوح وعاد وثمود، وقرون بين ذلك كثيرة ممن هلك من الأمم (وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) قد والله بعث رسله، وأنزل كتبه، ضرب لكم الأمثال فلا يصم فيها إلا أصم ولا يخيب فيها إلا خائب، فاعقلوا عن الله أمره.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (الأمثال) قال: الأشباه.
قوله تعالى (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) يقول: شركهم كقوله (تكاد السموات يتفطرن منه) . وتتمة الآية كما سيأتي في قول قتادة.(3/143)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، في قوله (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) . قال: ذلك حين دعوا لله ولدا، وقال في آية أخرى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا) .
قوله تعالى (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات..)
قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد قال: (سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى".
قال سهل -أو غيره-: ليس فيها مَعلم لأحد.
(صحيح البخاري- ك الرقاق، ب يقبض الله الأرض يوم القيامة، ح 6521) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عليّ بنُ مسهر، عن داود عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة. قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قوله عز وجل: (يومُ تبدل الأرض غير الأرض والسموات) فأين يكون الناس يومئذ؟ يا رسول الله! فقال: "على الصراط".
(صحيح مسلم 4/2150- ك صفات المنافقين وأحكامهم، ب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة ح/2891) .
قوله تعالى (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن المجرمين وهم الكفار يوم القيامة يقرنون في الأصفاد وبين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (مقرنين في الأصفاد) يقول: في وثاق.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (مقرنين في الأصفاد) قال: مقرنين في القيود والأغلال.(3/144)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قوله تعالى (سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار)
انظر حديث مسلم الآتي عن أبي موسى الأشعري عند الآية رقم (5) من سورة الأحزاب. وهو حديث: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية ... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (من قطران) قال: هو النحاس المذاب.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وتغشى وجوههم النار) بين في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة تغشى وجوه الكفار فتحرقها، وأوضح ذلك في مواضع أخر كقوله (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) وقوله (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) الآية.
قوله تعالى (ليجزي الله كل نفس ما كسبت)
سورة البقرة آية (134) .
قوله تعالى (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن بلاغ لجميع الناس وأوضح هذا المعنى في قوله (وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) ، وبين أن من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار كائنا من كان في قوله (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلاتك في مرية منه) الآية.(3/145)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
سورة الحجر
قوله تعالى (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ)
انظر سورة القصص آية (2) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وقرآن مبين) قال: تبين والله هداه ورشده وخيره.
قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)
قال الحاكم: أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أنبأ علي بن الحسين ابن علي بن الجنيد، ثنا أبو الشعثاء، ثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من أهل القبلة من شاء الله قالوا: ما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فسمع الله ما قالوا قال: فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فيقول الكفار يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا قال وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) مثقلة.
(المستدرك 2/242- ك التفسير) وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في (السنة ح 843) من طريق أبي الشعثاء به، وقال الألباني: حديث صحيح رجاله ثقات رجال مسلم غير خالد بن نافع، وهو الأشعري من أولاد أبي موسى - رضي الله عنه -، وفيه ضعف ثم ذكر شواهد تقوية (ظلال الجنة عقب ح 843 و844) وله شاهد في تفسير الطبري بسند حسن عن ابن عباس، وله شاهد آخر كما يلي:
قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن الحسين بن مُكرم، قال: حدثنا عبد الله ابن عمر بن أبان بن صالح، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي رَوق، قال: حدثنا صالح بن أبي طَريف، قال: قلتُ لأبي سعيد الخدري: أسمعتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذه الآية (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) الحجر: 2 فقال: نعم، سمعته يقول: "يُخرج الله أُناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته(3/146)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
منهم، قال: لمّا أدخلهم الله النارَ مع المشركين، قال المشركون: أليس كنتم تزعمون في الدنيا أنكم أولياء، فما لكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم، أذن في الشفاعة، فيتشفع لهم الملائكة والنبيون حتى يُخرجوا بإذن الله، فلما أخرجوا، قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم، فتدركنا الشفاعة فنخرَجُ من النار، فذلك قول الله جلّ وعلا: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) . قال: فيُسمّون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم، فيقولون: ربنا أذهب عنّا هذا الاسم، قال: فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة، فيذهب ذلك منهم".
(الإحسان 16/457-458 ح 7432 قال محققه: حديث صحيح. وله شواهد عدة منها: حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه الحاكم 2/242 وصححه ووافقه الذهبي. ومنها: حديث جابر أخرجه النسائي في التفسير (ح 291) وصحح إسناده السيوطي في الدر (4/92) وحسن إسناده محقق تفسير النسائي، عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط وقال. ورجاله رجال الصحيح غير بسام الصيرفي، وهو ثقة (مجمع البحرين 4820) وصحح إسناده الألباني (ظلال الجنة ح 844) . وينظر تخريجه وذكر شواهده مفصلا في حاشية الإحسان في الموضع المذكور) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين، وندموا على كفرهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) وقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) الآية، وقوله: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتركهم يأكلون ويتمتعون فسوف يعلمون حقيقة ما يئول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله: (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) وقوله: (كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون) .(3/147)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال: حدثني أبي، عن منذر، عن ربيع بن خثيم، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: خطّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن اخطأه هذا نهشه هذا".
(الصحيح 11/239-241 ح 6417) ك الرقاق، ب في الأمل وطوله) . وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/237) بعض الرسوم ثم قال: فالإشارة بقوله: "هذا الإنسان" إلى النقطة الداخلة، وبقوله: "أجله محيط به" إلى المربع، وبقوله: "وهذا الذي هو خارج أمله" إلى المستطيل المنفرد.
قوله تعالى (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)
قال ابن كثير: يقول تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم، وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم فيه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك. اهـ ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ... ) سورة الإسراء آية: 15-16. وانظر سورة يونس آية (49) .(3/148)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قوله تعالى (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)
انظر سورة الأعراف آية (63) قول الشيخ الشنقيطي.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم وعنادهم في قولهم (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) أي الذي تدعي ذلك (إنك لمجنون) أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا (لو ما) أي هلا (تأتينا بالملائكة) أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين، كما قال فرعون: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين) ، (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيراً) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) قال: بالرسالة والعذاب.
انظر سورة الإسراء آية (92) .
قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل القرآن العظيم وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شئ أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد) وقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه) إلى قوله: (ثم إن علينا بيانه) وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: (وإنا له لحافظون) راجع إلى الذكر الذي هو القرآن.(3/149)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وإنا له لحافظون) قال: عندنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) قال في آية أخرى: (لا يأتيه الباطل) والباطل: إبليس (من بين يديه ولا من خلفه) فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقاً، حفظه الله من ذلك.
قوله تعالى (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) يقول أمم الأولين.
قوله تعالى (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) لا يؤمنون به، قال: إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين) وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم.
قوله تعالى (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون) كان الحسن يقول: لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (سكرت أبصارنا) قال: سدت.(3/150)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
قوله تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله: (ولقد جعلنا في السماء بروجا) قال: كواكب.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وزيناها للناظرين) صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم، وأنها السماء الدنيا كقوله: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) الآية، وقوله: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) .
قوله تعالى (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (وحفظا من كل شيطان مارد) وقوله: (وجعلناها رجوما للشياطين) وقوله: (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) وقوله (إنهم عن السمع لمعزولون) وقوله (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) إلى غير ذلك من الآيات، والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله: (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) .
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عَمْرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضَرَبَت الملائكة بأجنحتها خُضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان، قال عليّ: وقال غيره: صفوان ينفذهم ذلك. فإذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر. ووصف سفيان بيده وفرّج بين أصابع يده اليمنى، نصبها(3/151)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
بعضها فوق بعض، فربما أدرك الشهابُ المستمع قبل أن يرمِي بها إلى صاحبه، فيُحرقه. وربما لم يُدركه حتي يرمى بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يُلقوها إلى الأرض -وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض- فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق، فيقولون: ألم يُخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً؟ للكلمة التي سُمعت من السماء".
(صحيح البخاري 8/231- ك التفسير- سورة الحجر، ب (الآية) ح/4701) .
قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا الليث، حدثنا ابن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كِذْبة من عند أنفسهم".
(صحيح البخاري 6/350-351- ك بدء الخلق، ب ذكر الملائكة ح/3210) وأخرجه مسلم في صحيحه -السلام- باب تحريم الكهانة 4/1750 ح 2228) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إلا من استرق السمع) وهو نحو قوله: (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) .
قوله تعالى (والأرض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتا فيها من كل شيء موزون)
انظر سورة النحل آية (15) وفيها رواية الطبري عن قتادة عن الحسن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) ، يقول: معلوم.
قوله تعالى (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ومن لستم له برازقين) الدواب والأنعام.(3/152)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأرسلنا الرياح لواقح) يقول: لواقح للسحاب، وإن من الريح عذاباً، وإن منها رحمة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه)
بين تعالى في هذه الآية الكريمة عظيم منته بإنزال الماء من السماء وجعله إياه عذبا صالحاً للسقيا وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) وقوله: (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) وقوله: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيراً) إلى غير ذلك من الآيات.
قال البخاري: حدثنا أحمد بن أبي بكر، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن يزيد عن سلمة قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اشتدت الريح يقول: "اللهم لاقحا لاعقيما".
(الأدب المفرد ح 718) . وأخرجه أيضاً أبو يعلى (كما في المطالب العالية المسندة ق 122أ) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (رقم 300) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 3/288 ح 1008) والطبراني في الكبير (7/37 رقم 6296) ، والحاكم في المستدرك (4/285-286) من طرق عن مغيرة ابن عبد الرحمن به، وقال الحاكم: إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي والمغيرة لم يروي له مسلم، كما ذكر الألباني في صحيحه (5/91) وليس عند البخاري سوى حديث قد توبع فيه (انظر هدى الساري ص 445) وقال الهيثمي في المجمع (10/135) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير مغيرة بن عبد الرحمن وهو ثقة. قلت: تقدم أن البخاري روى له متابعة، وقد اختلف فيه، وقال الحافظ: صدوق فقيه كان يهم (التقريب ص 543) ، قال الألباني: فحسب حديث مثله يكون حسنا أما الصحة فلا (الصحيحه 5/91 ح 2058) ومع ذلك فقد أورده في صحيح الأدب المفرد (553/718) وقال صحيح. وحكى محقق المطالب العالية (3/239) عن البوصيري أنه قال: رجاله ثقات) .(3/153)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما أنتم له بخازنين) فيه للعلماء وجهان من التفسير كلاهما يشهد له قرآن الأول: أن معنى (وما أنتم له بخازنين) أي ليست خزانته عندكم بل نحن الخازنون له ننزله متى شئنا وهذا الوجه تدل عليه آيات كقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) وقوله: (ولله خزائن السموات والأرض) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: أن معنى (وما أنتم له بخازنين) بعد أن أنزلناه عليكم أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والعيون والغدران بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) وقوله (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) وقوله (أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا) وقوله (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ... بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ولم يبين الشيء الذي يرثه وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله (إلا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) وقوله (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) ...
قوله تعالى (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) قال المستقدمون آدم ومن بعده، حتى نزلت هذه الآية.
والمستأخرون قال: كل من كان من ذريته.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: المستقدمين منكم، قال: القرون الأول، والمستأخرين: أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/154)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
قوله تعالى (وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإن ربك هو يحشرهم) قال: أي الأول والآخر.
قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون)
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير.
عن ابن عباس، قال: خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب، وأما اللازب: فالجيد، وأما الحمأ: فالحماة. وأما الصلصال: فالتراب المرقق، وإنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.
(وسنده صحيح على شرط مسلم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال) قال: والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (من حمأ مسنون) قال: منتن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (من حمأ مسنون) ، يقول: من طين رطب.
قوله تعالى (والجان خلقناه من قبل من نار السموم)
قال مسلم: حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد قال: عَبْد، أخبرنا، وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم".
(صحيح مسلم 4/2294- ك الزهد والرقائق، ب في أحاديث متفرقة ح/2996) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والجان خلقناه من قبل) وهو إبليس خلق قبل آدم وإنما خلق آدم آخر الخلق فحسده عدو الله إبليس على ما أعطاه الله من كرامة فقال: أنا نارى وهذا طينى فكانت السجدة لآدم والطاعة لله تعالى ذكره (قال فاخرج منها فإنك رجيم) .(3/155)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)
انظر سورة البقرة آية (30-34) وتفسيرها، وانظر آية (26) من السورة نفسها.
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبي أن يسجد لآدم وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه كقوله في سورة البقرة: (إلا إبليس أبى واستكبر) الآية، وقوله في سورة ص: (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) وأشار إلى ذلك هنا بقوله: (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) ، كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه جل وعلا وبين أيضاً في الأعراف وص أنه وبخه أيضاً بهذا السؤال قال في الأعراف (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) الآية، وقال في ص: (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) الآية، وناداه باسمه إبليس في الحجر وص ولم يناده به في الأعراف.
قوله تعالى (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)
انظر الآية (26) من السورة نفسها.
قال الشيخ الشنقيطي: هذا القول الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن إبليس لعنه الله أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين مقصوده به أنه خير من آدم لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار كما يوضحه قوله تعالى: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) .(3/156)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
قوله تعالى (قال فاخرج منها فإنك رجيم)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة مؤكدا أنه رجيم وبين في الأعراف أنه خروج هبوط وأنه يخرج متصفا بالصغار والذل والهوان بقوله: (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فإنك رجيم) ، الرجيم: الملعون.
قوله تعالى (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين)
انظر سورة الفاتحة آية (3) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين وصرح في ص بأن لعنته جل وعلا على إبليس إلى يوم الدين بقوله: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) . ا. هـ.
وانظر سورة الفاتحة لبيان يوم الدين: يوم الحساب.
قوله تعالى (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)
انظر سورة الأعراف وتفسيرها من الآية (14-17) وقول الشيخ الشنقيطي فيها.
قوله تعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بنى آدم حتى يضل أكثرهم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) وقوله: (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) الآية، وقوله: (قال أرأيتك هذا الذي(3/157)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظنا منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بنى آدم وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وكل آية ذكر فيها ذكر إضلال إبليس لبنى آدم بين فيها إبليس وجميع من تبعه جميعاً في النار كما قال هنا (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب) الآية، وقال في الأعراف (قال أخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) وقال في سورة بنى إسرائيل (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً) وقال في ص (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) .
قوله تعالى (إلا عبادك منهم المخلصين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم استثنى من ذلك عباد الله المخلصين معترفا بأنه لا قدرة له على إضلالهم ونظيره قوله في ص أيضاً (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل (لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) وقوله في سبأ (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وهم الذين احترز منهم بقوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الآية ...
قوله تعالى (قال هذا صراط علي مستقيم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (هذا صراط علي مستقيم)
قال: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرج على شيء.
قوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) انظر سورة النحل تفسير آية (99) وسورة الإسراء آية (65) .(3/158)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن قال: قال قتادة: سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة؛ أنه سمع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه. ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه".
(الصحيح 4/2185 ك الجنة وصفة نعيمها ... ، ب في شدة حر نار جهنم.... ح 2845) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) وهي والله منازل بأعمالهم.
قوله تعالى (إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون، ويقال لهم يوم القيامة: ادخلوها بسلام آمنين وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) وقوله في الدخان (إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم) .
قوله تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد: حدثنا يزيد بن زريع (ونزعنا ما في صدورهم من غل) قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقص لبعضهم من بعض مظالم كانت(3/159)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا".
(الصحيح 11/403 ح 6535- ك الرقاق، ب القصاص يوم القيامة..) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (على سرر متقابلين) بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع منها أنها منسوجة بقضبان من الذهب وهي الموضونة قال في الواقعة (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين) وقيل الموضونة المصفوفة كقوله: (على سرر مصفوفة) الآية، ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية (فيها سرر مرفوعة) الآية، وقوله في الواقعة (وفرش مرفوعة) وقوله: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) .
قوله تعالى (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لا يمسهم فيها نصب) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء وقوله نصب نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة وأكد هذا المعنى وقوله تعالى (الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضاً وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
وقوله تعالى (وما هم منها بمخرجين) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله: (بمخرجين) فهم دائمون في نعيمها أبدا بلا انقطاع. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) وقوله: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) وقوله: (عطاء غير مجذوذ) وقوله: (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) إلى غير ذلك من الآيات.(3/160)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
قوله تعالى (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم)
انظر الحديث المتقدم عند قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) في سورة الفاتحة.
وانظر سورة البقرة آية (10) وفيها أليم: موجع.
قوله تعالى (ونبئهم عن ضيف إبراهيم)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم الملائكة كقوله في هود (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) كما تقدم وقوله: (قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) .
قوله تعالى (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة لرد إبراهيم عليه السلام على الملائكة أولا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم: إنا منكم وجلون وبين في هود (قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) وقوله في الذاريات (قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود (وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف) وقوله في الذاريات (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف) .
قوله تعالى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلام موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضاً في الذاريات (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات (وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك أنه هو الحكيم العليم) لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحا تصريحه تعالى بشارتها هي بأنها تلده مصرحا باسمه واسم(3/161)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام إني أذبحك) الآية، فهو إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع.
قوله تعالى (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) قال: عجب من كبره، وكبر امرأته.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر وبين في هود بأن امرأته أيضا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها (وهذا بعلي شيخا) كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود (يا ويلتى أألد وأنا عجوز) الآية، وقوله في الذاريات (فصكت عن وجهها وقالت عجوز عقيم) وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضاً وذلك قوله تعالى: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء) .
قوله تعالى (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط) الآية أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط غير امرأته في قوله: (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته) الآية وصرح بأنهم قوم لوط(3/162)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
في هود في القصة بعينها (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) الآية وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله: (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين) وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ومنزلون عليهم رجزا من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى: (ولا جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها) الآية وقوله: (قالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) وقوله: (إلا آل لوطٍ إنا لمنجوهم أجمعين) بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) الآية وقوله في العنكبوت (وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك) الآية ...
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (إنها لمن الغابرين) قال: ممن غبر فهلك.
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون. وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعا بذلك كقوله في هود: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) وقوله في العنكبوت (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا)(3/163)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
الآية وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضا قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله: (قال سلام قوم منكرون) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (قال إنكم قوم منكرون) قال: أنكرهم لوط. وقوله (بما كانوا فيه يمترون) قال: بعذاب قوم لوط.
قوله تعالى (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تأمرون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (واتبع أدبارهم) قال: أمر أن يكون خلف أهله، يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا يلتفت منكم أحد) لا يلتفت وراءه أحد، ولا يعرج.
قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)
انظر سورة هود آية (80-83) لبيان تفصيل تدميرهم مصبحين وكذا في هذه السورة في الآيات التالية.
قوله تعالى (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وجاء أهل المدينة يستبشرون) سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شبابا من بني آدم فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط كما يشير لذلك قوله تعالى (إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون) وقوله تعالى (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم) الآية، وقوله (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وجاء أهل المدينة يستبشرون) استبشروا بأضياف نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوط، حين نزلوا لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.
قوله تعالى (قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أو لم ننهك عن العالمين) قال: ألم ننهك أن تضيف أحدا؟.(3/164)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
قوله تعالى (قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) : أمرهم نبي الله لوط أن يتزوجوا النساء.
قوله تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) ، وهي كلمة من كلمات العرب لفي سكرتهم: أي في ضلالهم يعمهون: أي يلعبون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لعمرك) يقول: لعيشك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: يتمادون.
قوله تعالى (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة عن عكرمة (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) أي من طين.
قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: للمتفرسين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) ، يقول: للناظرين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (للمتوسمين) قال: للمعتبرين.
قوله تعالى (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ)
قال الشيخ الشنقيطي، قوله تعالى (وإنها لبسبيل مقيم) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم لوط وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم لئلا ينزل الله لكم مثل ما أنزل بهم وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (وإنكم لترون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) وقوله (أفلم يسيروا(3/165)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة (وإنهما لبإمام مبين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإنها لبسبيل مقيم) يقول: بطريق واضح.
وانظر سورة هود من الآية (69) إلى الآية (83) في قصة قوم لوط.
قوله تعالى (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقما منهم وإنهما لبإمام مبين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم) ذكر جل وعلا في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه جل وعلا انتقم منهم بسبب ظلمهم وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء (كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيبهم رسولهم وتطفيفهم في الكيل وبخسهم الناس أشياءهم وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة وبين أنه عذاب يوم عظيم والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارا فأحرقتهم.
وانظر سورة الشعراء آية (176) رواية الطبري عن ابن عباس وسورة الأعراف (85-94) وسورة هود (84-95) وسورة ص آية (93) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإنهما لبإمام مبين) يقول: على الطريق.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وإنهما لبإمام مبين) قال: طريق واضح.(3/166)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
قوله تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)
قال ابن كثير: أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيهم عليهم السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، فلما عتوا وعقروها قال لهم: (تمنعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) .
قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن، قال: حدثني مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يُصيبكم مثلُ ما أصابهم".
(صحيح البخاري 8/232- ك التفسير- سورة الحجر، ب (الآية) ح/4702) أخرجه مسلم- الزهد والرقائق 4/2285 ح 2980)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (أصحاب الحجر) ، قال: أصحاب الوادي.
قوله تعالى (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين)
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح كانوا آمنين في أوطانهم، وكانوا ينحتون الجبال بيوتا. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى: (أتتركون فيما ها هنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) وقوله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله..) الآية، وقوله: (وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي) أي قطعوا الصخر بنحته بيوتا.(3/167)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
قوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وإنه يكلف الخلق ويجازيهم على أعمالهم. فدلت الآية على أنه لم يخلق الخلق عبثا ولا لعبا ولا باطلا. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) وقوله: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) وقوله: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ... ) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فاصفح الصفح الجميل) ثم نسخ ذلكم بعد، فأمره الله تعالى ذكره بقتالهم، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، لا يقبل منهم غيره.
قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)
قال ابن كثير: وقوله (إن ربك هو الخلاق العليم) تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء، وهو العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض، كقوله: (أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن ربك هو الخلاق العليم) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم والخلاق والعليم: كلاهما صيغة مبالغة.
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه. وأوضح هذه المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) .(3/168)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)
قال البخاري: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن حُبيب ابن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: "مَرَّ بي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي فدعاني، فلم آتهِ حتى صليت، ثم أتيتُ فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت: كنتُ أصلي. فقال: ألم يقل الله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) ؟ ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبلَ أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخرج فذكرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته".
(صحيح البخاري 8/232- ك التفسير- سورة الحجر، ب (الآية) ح/4703) .
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمّ القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم".
(صحيح البخاري 8/232- ك التفسير- سورة الحجر ح/4704) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (والقرآن العظيم) قال: سائره: يعني سائر القرآن مع السبع من المثاني.
قوله تعالى (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) : الأغنياء الأمثال الأشباه.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تحزن عليهم) الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام ويدل ذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم كقوله (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) وقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وقوله (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) وقوله (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) وقوله (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) .(3/169)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)
قوله تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين)
قوله تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين) فقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لين الجانب مع أصحابه رحيم بهم ورؤوف كما أخبر الله تعالى بذلك إذ قال (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) سورة التوبة: 128.
قوله تعالى (وقل إني أنا النذير المبين)
انظر سورة البقرة آية (120) .
قوله تعالى (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس (كما أنزلنا على المقتسمين) قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، اليهود والنصارى.
(التصحيح- التفسير- سورة الحجر، الآية ح 4706) .
قال ابن كثير: وقوله (المقتسمين) أي المتحالفين، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأداهم، كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح إنهم (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) الآية، أي نقتلهم ليلاً.
قوله تعالى (الذين جعلوا القرآن عضين)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس (الذين جعلوا القرآن عضين) قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
(الصحيح- التفسير- سورة الحجر، الآية ح 4705) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (الذين جعلوا القرآن عضين) قال: فرقا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الذين جعلوا القرآن عضين) عضهوا كتاب الله، زعم بعضهم أنه سحر، وزعم بعضهم أنه شعر، وزعم بعضهم أنه كهان. وعضين: جمع عِضة، من عَضيت الشيء إذا فرقته وجعلته أعضاء (النهاية لابن الأثير 3/255) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجامد قوله (جعلوا القرآن عضين) قال: سحر أعضاء الكتاب كلها وقريش، فرقوا القرآن، قالوا: هو سحر.
قوله تعالى (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قال (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه(3/170)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
إنس ولا جان) قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا.
قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس قوله (فاصدع بما تؤمر) يقول: فامضه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فاصدع بما تؤمر) قال: اجهر بالقرآن في الصلاة.
قوله تعالى (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلها آخر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
قال ابن كثير: وقوله (وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين) أي بلغ ما انزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله (ودوا لو تدهن فيدهنون) ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم، كقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم نفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) .
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إنا كفيناك المستهزئين) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المستهزئين الذين كانوا يستهزءون به وهم قوم من قريش. وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم؛ كقوله في أهل الكتاب: (فسيكفيكهم الله) الآية، وقوله: (أليس الله بكاف عبده..) الآية.
قوله تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضيق صدره بما يقوله الكفار فيه: من الطعن والتكذيب، والطعن في القرآن وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر؛ كقوله: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) وقوله: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) .
قوله تعالى (واعبد ربك حتى يآتيك اليقين)
انظر حديث البخاري عن أم العلاء الآتي عند الآية (9) من سورة الأحقاف.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (اليقين) : الموت.(3/171)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
سورة النحل
قوله تعالى (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
قال الشيح الشنقيطي: قوله تعالى (أتى أمر الله) أى قرب إتيان القيامة وعبر بصغية الماضى تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة. واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه جلا وعلا في مواضع أخر، كقوله (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) وقوله جلا وعلا (اقتربت الساعة وانشق القمر) وقوله (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) وقوله (وما يدريك لعل الساعة قريب) وقوله جلا وعلا (أزفت الآزقة ليس لها من دون الله كاشفة) إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى (فلا تستعجلوه) نهى الله جلا وعلا في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة، والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله جلا وعلا (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لايشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) وقوله (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها) وقوله (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) الآية، وقوله (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) وقوله (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (ينزل الملائكة بالروح) يقول: بالوحي.
قوله تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (ينزل الملائكة بالروح من أمره) يقول: ينزل بالرحمة والوحي من أمره (على من يشاء من عباده) فيصطفي منهم رسلاً.(3/172)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده، ويطاع أمره، ويجتنب سخطه.
قوله تعالى (خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون)
انظر سورة الحجر آية 85 وتفسيرها.
قوله تعالى (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أنبأنا حريز ابن عثمان، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، عن جبير بن نفير، عن بسر بن جحاش القرشي، قال: بزق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كفه، ثم وضع أصبعه السبابة وقال: "يقول الله عز وجل: أنّى تعجُزني، ابن آدم! وقد خلقتك من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك هذه (وأشار إلى حلقه) قلت: أتصدق. وأنى أوان الصدقة؟ ".
(السنن 2/903 ح 2707- ك الوصايا، ب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت) .
قال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات.. (مصباح الزجاجة 9/97) . وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/502) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الألباني: صحيح (صحيح الجامع ح 8000، وانظر (السلسلة الصحيحة ح 1099) .
قال الشنقيطي: قوله تعالى (خلق الإنسان من نطفة) . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة؛ بدليل قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) أي، خلاط من ماء الرجل وماء المرأة ... إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب. أي وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو ماء المرأة، وذلك في قوله جل وعلا (فلينظر الإنسان مما خلق. خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب) لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها.(3/173)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
قوله تعالى (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (والأنعام خلقها لكم فيها دفء) يقول: الثياب.
قال الشنقيطي: قوله تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلا منه عليهم. وقد قدمنا في (آل عمران) أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي الذكر والأنثى من الأبل، والبقر، والضأن، والمعز.
والمراد بالدفء على أظهر القولين: أنه اسم لما يدفأ به، كالملء اسم لما يملأ به، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها....
ومنافع الأنعام التي بين الله جل وعلا امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة، بينه لهم أيضاً في آيات كثيرة كقوله: (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون) وقوله: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون. ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون. ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون) .
قوله تعالى (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها، طوالا أسنمتها، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (إلا بشق الأنفس) قال: مشقة عليكم.(3/174)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
قوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (لتركبوها وزينة) قال: جعلها لتركبوها وجعلها زينة.
قوله تعالى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (وعلى الله قصد السبيل) يقول: البيان.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وعلى الله قصد السبيل) قال: طريق الحق على الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ومنها جائر) : أي من السبل، سبل الشيطان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله (ومنها جائر) يقول: الأهواء المختلفة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (فيه تسيمون) قال: ترعون.
قوله تعالى (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
قال ابن كثير: أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها، ولهذا قال: (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى (أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون) .(3/175)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
قوله تعالى (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول على أنه الواحد المستحق لأن يعبد وحده. والخمسة المذكورة هي: الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم، وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء، وأنها من أعظم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده، كقوله تعالى: (إن ربكم الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) وإغشاؤه الليل والنهار: هو تسخيرهما، وقوله: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار..) الآية، وقوله: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) وقوله: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين..) الآية، وقوله (وبالنجم هم يهتدون) .
قوله تعالى (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) . قوله: "وما" في محل نصب عطفا على قوله (وسخر لكم الليل والنهار) أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض، أي ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفا ألوانه.(3/176)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وما ذرأ لكم في الأرض) يقول: وما خلق لكم مختلفا ألوانه من الدواب، ومن الشجر والثمار، نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله.
قوله تعالى (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر البحر، أي الله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك.
فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله، كما بينه في مواضع أخر، كقوله (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) وقوله (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (لتأكلوا منه لحما طريا) يعني: حيتان البحر.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وترى الفلك مواخر فيه) قال: تمخر السفينة الرياح، ولا تمخر الريح من السفن، إلا الفلك العظام.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، (وترى الفلك مواخر فيه) قال تجرى مقبلة ومدبرة بريح واحدة.(3/177)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
قوله تعالى (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، عن الحسن، في قوله (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) قال: الجبال أن تميد بكم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، قوله (سبلا) أي: طرقا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) والعلامات: النجوم، وأن الله تبارك وتعالى إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصلات: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، فقد رأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)
قال ابن كثير: ثم أخبر أن الأصنام التَي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، كما قال الخليل (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) وهي هذه الأوثان التى تعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها، ولا تملك لأهلها ضرا لا نفعا.
قوله تعالى (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك (أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب) وقال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقوله: (وهم مستكبرون) أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) لهذا لحديث الذي مضى، وهم مستكبرون عنه.(3/178)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
قوله تعالى (لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)
انظر آية (62) من السورة نفسها، وفيها معنى لا جرم أي: بلى.
قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)
قال ابن كثير: يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين (ماذا أنزل ربكم قالوا) معرضين عن الجواب (أساطير الأوّلين) أي لم ينزل شيئاً، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين، أي مأخوذ من كتب المتقدمين، كما قال تعالى: (وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أساطير الأولين) يقول: أحاديث الأولين.
قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب. حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد وأبى الضحى، عن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير بن عبد الله. قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم الصوف. فرأى سُوء حالهم قد أصابتهم حاجة. فحثّ الناسَ على الصدقة.
فأبطأوا عنه. حتى رُؤي ذلك في وجهه. قال: ثم إن رجلا من الأنصار جاء بِصُرةٍ من ورق. ثم جاء آخر. ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن سن في الإسلام سُنة حسنة. فعُمل بها بعده، كُتب له مثل أجر من عمل بها. ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سُنة سيئة، فعُمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر مَن عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء".
(الصحيح 4/2059-2060- ك العلم، ب من سن سنة حسنة أو سيئة ... ح/1017) ، وأخرجه البخاري في (الصحيح 8/232- ك التفسير- سورة الحجر) .(3/179)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار من أضلوا احتمالهم ذنوب أنفسهم، وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئًا.
وانظر سورة العنكبوت آية (13) وتفسيرها.
قوله تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)
قال ابن كثير: هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره، كما قال نوح عليه السلام: (ومكروا مكراً كبارا) أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة (بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) الآية ... وقوله (فأتى الله بنيانهم من القواعد) أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم، كقوله تعالى (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بيانهم من القواعد) إي والله، لأتاها أمر الله من أصلها (فخر عليهم السقف من فوقهم) والسقف: أعالى البيوت، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم (وآتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) .
قوله تعالى (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) يقول: تخالفوني.
قال ابن كثير: ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا؟ (هل ينصرونكم أو ينتصرون) فما له من قوة ولا ناصر) فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة، وحقت عليهم(3/180)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار (قال الذين أوتوا العلم) وهم السادة في الدنيا والآخرة، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة، فيقولون حينئذ: (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.
وانظر سورة الكهف آية (52) .
قوله تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة (فألقوا السلم) أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين (ما كنا نعمل من سوء) كما يقولون يوم المعاد (والله ربنا ما كنا مشركين) (يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم) .
قوله تعالى (فادخلوا أبواب جهنم..) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا عدد أبوابها، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر في قوله جل وعلا (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) .
قوله تعالى (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) وهؤلاء مؤمنون، فيقال لهم (ماذا أنزل ربكم) فيقولون (خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه.
قال ابن كثير: ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) الآية، كقوله تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) أي: من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة.(3/181)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولايرهق وجوههم قتر ولاذلة) .
قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ)
قال ابن كثير: وقوله (جنات عدن) بدل من دار المتقين أي لهم في الآخرة جنات عدن، أي مقام يدخلونها (تجري من تحتها الأنهار) أي بين أشجارها وقصورها (لهم فيها ما يشاءون) كقوله تعالى: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) .
قوله تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (الذين تتوفاهم الملاكة طيبين) قال: أحياء وأمواتا، قدر الله ذلك لهم.
وانظر سورة البقرة آية رقم (2) وآية رقم (25) لبيان الجنة والمتقين.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) قال: أحياء وأمواتا، قدر الله ذلك لهم.
وانظر سورة فصلت (30-32) وسورة إبراهيم آية (37) .
قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) قال: بالموت، وقال في آية أخرى (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) وهو ملك الموت، وله رسل، قال الله تعالى (أو يأتي أمر ربك) ذاكم يوم القيامة.(3/182)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
قوله تعالى (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون)
انظر تفسير سورة الأنعام الآية رقم (10) قول السدي وفيه (فحاق) وقع ...
قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
انظر سورة الزخرف آية (20) .
قوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
انظر سورة البقرة آية (256) .
قوله تعالى (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)
قال ابن كثير: ثم أخبر الله تعالى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) وقال نوح لقومه: (ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) وقال في هذه الآية الكريمة: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) كما قال الله تعالى: (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون) وقال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) .
قوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ... )
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن أبي شيبة، عن أبي أحمد، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبُني وما ينبغي له. أما شتمه فقوله: إن لي ولدا. وأما تكذيبه فقوله: ليس يُعيدني كما بدأني) .
(الصحيح 6/313 ح 3193- ك بدء الخلق، ب ما جاء في قوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ... )) .(3/183)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) تكذيبا بأمر الله أو بأمرنا، فإن الناس صاروا في البعث فريقين: مكذب ومصدق.
قوله تعالى (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ)
قال ابن كثير: ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد، فقال: (ليبين لهم) أي للناس (الذي يختلفون فيه) أي من كل شيء (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) قال: للناس عامة.
قوله تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء، كقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وقال (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) .
وانظر سورة البقرة آية (117) .
قوله تعالى (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (لنبوئنهم) لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قال: قال الله (ولأجر الآخرة أكبر) أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر (لو كانوا يعلمون) .(3/184)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
انظر تفسير سورة الأنبياء آية (7) قول قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (بالبينات والزبر) قال: الآيات.
والزبر: الكتب.
انظر سورة النساء آية (174) .
قوله تعالى (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها، مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض أو يأتيهم العذاب (من حيث لا يشعرون) أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، كقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (أفأمن الذين مكروا السيئات) أي: الشرك.
قوله تعالى (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (أو يأخذهم في تقلبهم) يقول: في اختلافهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (أو يأخذهم في تقلبهم) في أسفارهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أو يأخذهم على تخوف) على تنقص.(3/185)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (يتفيأ ظلاله) يقول: تتميل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (يتفيأ ظلاله) قال: ظل كل شيء: سجوده.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وهم داخرون) أي صاغرون.
قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)
انظر سورة الأعراف آية (206) ، وسورة الرعد آية (15) .
قوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)
بيان لقوله تعالى (وهم لا يستكبرون) في الآية السابقة.
قوله تعالى (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون)
قال الشنقيطي: نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلها آخر معه، وأخبرهم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد، ثم أمرهم أن يرهبوه أي يخافوه وحده؛ لأنه هو الذي بيده الضر والنفع، لا نافع ولا ضار سواه. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين ... وبين جل وعلا في مواضع أخر: إستحالة تعدد الآلهة عقلا، كقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ، وقوله: (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون. عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ... ) .(3/186)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
قوله تعالى (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (واصبا) قال: دائماً، ألا ترى أنه يقول (ولهم عذاب واصب) : أي دائم.
قوله تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)
قال ابن كثير: (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به، كقوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال (الضر) : السقم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (فإليه تجأرون) قال: تضرعون دعاء.
قوله تعالى (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون)
قال الشنقيطي: قوله تعالى: (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن بني آدم إذا مسهم الضر دعوا الله وحده مخلصين له الدين؛ فإذا كشف عنهم الضر، وأزال عنهم الشدة: إذا فريق منهم وهم الكفار يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي. وقد كرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن، كقوله في (يونس) : (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين) -إلى قوله- (إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) ، وقوله (في الإسراء) : (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً) .(3/187)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم (وجعلوا للأوثان نصيبا مما رزقهم الله فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) أي جعلوا لآلهتهم نصيباً مع الله وفضلوها على جانبه، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ويجعلون لما لايعلمون نصيباً مما رزقناهم) وهم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم نصيباً مما رزقناهم، وجزءا من أموالهم يجعلونه لأوثانهم.
قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)
قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله فعبدوها معه، فأخطأوا خطأ كبيراً في كل مقام من هذه المقامات الثلاث، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، كما قال: (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى) . وقوله ههنا: (ويجعلون لله البنات سبحانه) أي عن قولهم وإفكهم (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون) .
قوله تعالى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)
قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن قهْزَاذ. حدثنا سلمة بن سليمان.
أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن ابن شهاب. حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم(3/188)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
عن عروة، عن عائشة. ح وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام وأبو بكر ابن إسحاق (واللفظ لهما) . قالا: أخبرنا أبو اليمان. أخبرنا شعيب عن الزهري.
حدثني عبد الله بن أبي بكر، أن عروة بن الزبير أخبره، أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: جاءتني امرأة، ومعها ابنتان لها. فسألتني فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة. فأعطيتها إياها. فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها. ولم تأكل منا شيئاً. ثم قامت فخرجت وابنتاها. فدخل عليّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحدثته حديثها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ابتُلِيَ من البنات بشيء، فأحسن إليهن، كن له سترا من النار".
(صحيح مسلم 4/2027- ك البر والصلة، ب فضل الإحسان إلى البنات ح/2629) ، وأخرجه البخاري في (الصحيح- الزكاة، ب اتقوا النار ولو بشق تمرة ح 1418) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) وهذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمرى ما يدري أنه خير، لرب جارية خير لأهلها من غلام. وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه، ويئد ابنته.
قوله تعالى (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) الإخلاص والتوحيد.
قوله تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)
انظر سورة الكهف (58) ، وسورة فاطر آية (45) .
قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ويجعلون لله ما يكرهون) أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه؛ لأنه عبر عنه ب (ما) الموصولة،(3/189)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وهي اسم مبهم، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه.
ولكنه بين في مواضع أخر: أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره، قال في البنات: (ويجعلون لله البنات) ثم بين كراهيتهم لها في آيات كثيرة، كقوله: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى) الآية. وقال في الشركاء: (وجعلوا لله شركاء) الآية، ونحوها من الآيات. وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيهم سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) أي إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكا له مثل نفسه في جميع ما عنده؛ فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التى هي حقه على عباده! وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) إلى قوله (ساء ما يحكمون) ، وقوله (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) كما تقدم.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) قال: قول قريش: لنا البنون، ولله البنات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (لا جرم) يقول: بلى.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وأنهم مفرطون) قال: منسيون في النار.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وأنهم مفرطون) قال قد أفرطوا في النار أي معجلون.
قوله تعالى (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
انظر سورة البقرة آية (212) وانظر سورة الأنعام آية (42-43) .
قوله تعالى (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
انظر سورة النحل آية (44 و89) .(3/190)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
قوله تعالى (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)
انظر سورة البقرة آية (164) .
قوله تعالى (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ)
انظر سورة المؤمنون آية (21) .
قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) قال: الرزق الحسن: ما أحل من ثمرتها، والسكر: ما حرم من ثمرتها.
(أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ح 1496) ، والحاكم (المستدرك 2/355) كلاهما من طريق عمرو ابن سفيان عن ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي، وعلقه البخاري بصيغة الجزم، وصححه الحافظ ابن حجر (الفتح 8/387) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (تتخذون منه سكرا) فحرم الله بعد ذلك، يعني بعد ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر، والميسر والأنصاب والأزلام، السكر مع تحريم الخمر لأنه منه، قال (ورزقا حسنا) فهو الحلال من الخل والنبيذ، وأشباه ذلك، فأقره الله، وجعله حلالا للمسلمين.
قوله تعالى (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)
قال البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الرحمن بن الغَسيل عن عاصم بن عُمر ابن قتادة قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن كان في شيء من أدويتِكم -أو يكون في شيء من أدويتكم- خير ففي شرطةِ محجم، أو شربة عسل، أو لَدْغة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي".
(الصحيح 10/146- ك الطب، ب الدواء بالعسل ح/5683) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح - السلام، ب لكل داء دواء 4/1729 ح 2205)(3/191)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قال البخاري: حدثنا عباس بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: "اسقِه عسلا". ثم أتاه الثانية فقال: "اسقه عسلا". ثم أتاه الثالثة فقال: "اسقه عسلا". ثم أتاه فقال: فعلت، فقال: "صدق الله وكذب بطنُ أخيك، اسقه عسلا"، فسقاه، فبرأ".
(الصحيح 10/146- ك الطب، ب الدواء بالعسل ح/5684) ، وأخرجه مسلم 4/1736-1737 ح 2217- ك السلام، ب التداوي بسقي العسل) .
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى (فاسلكى سبل ربك ذللا) قال: لا يتوعر عليها مكان سلكته.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، قوله (فاسلكى سبل ربك ذللا) أي: مطيعة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء، وقد كان ينهى عن تفريق النحل، وعن قتلها.
قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم وهو الضعف في الخلقة، كما قال الله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة) الآية.
قوله تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)
انظر سورة الإسراء آية (30) وتفسيرها.(3/192)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ماملكت أيمانهم) قال: هذا الذي فضل في المال والولد، لا يشرك عبده في ماله وزوجته، يقول: قد رضيت بذلك لله، ولم ترض به لنفسك، فجعلت لله شريكا في ملكه وخلقه.
قوله تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أي: والله خلق آدم، ثم خلق زوجته منه ثم جعل لكم بنين وحفدة.
قال الطبري حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قالا جميعاً: ثنا سفيان، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله، قال الحفدة: الأختان.
وسنده حسن. وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وأبو أحمد هو الزبيري، وعبد الله هو ابن مسعود - رضي الله عنه -.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى (بنين وحفدة) قال: أنصارا وأعوانا وخداما.
قوله تعالى (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)
قال ابن كثير: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهم الأنداد والأصنام (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره. وفي الحديث الصحيح: "إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ ".
وانظر (صحيح مسلم- ك الزهد والرقائق) .
قوله تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون) قال: هذه الأوثان(3/193)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا ولا ضر ولا نفعا، ولا حياة ولا نشورا وقوله (فلا تضربوا لله الأمثال) فإنه أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) يقول: والله أيها الناس يعلم خطأ ما تمثلون وتضربون من الأمثال وصوابه، وغير ذلك من سائر الأشياء، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه.
قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) هذا مثل ضربه الله للكافر، رزقه مالا فلم يقدم فيه خيرا، ولم يعمل فيه بطاعة الله، وأخذ بالشكر، ومعرفة حق الله، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة قال الله تعالى ذكره (هل يستويان مثلا) ، والله ما يستويان (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) .
قوله تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (لا يقدر على شيء) قال: هو الوثن (هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل) قال: الله يأمر بالعدل.
وانظر سورة الفاتحة تفسير (الصراط المستقيم) : الإسلام.
قوله تعالى (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السموات والأرض واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، كما قال: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) أي فيكون ما يريد كطرف العين.(3/194)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (إلا كلمح البصر أو هو أقرب) والساعة: كلمح البصر، أو أقرب. ا. هـ. والمراد بالساعة أي: أمر قيام الساعة.
قوله تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
انظر قوله تعالى (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) سورة الزمر آية (6) .
قوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
قال ابن كثير: ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء، ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك، كما قال تعالى في سورة الملك: (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) وقال ههنا: (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (مسخرات في جو السماء) أي في كبد السماء.
قوله تعالى (والله جَعَلَ لَكمْ مّن بُيُوتكُمْ سَكَنا)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى (من بيوتكم سكنا) قال: تسكنون فيها.
قوله تعالى ( ... وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)
انظر آية (5) من السورة نفسها.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى (أثاثا) قال: متاعا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ومتاعا إلى حين) قال: إلى الموت.(3/195)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
قوله تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) إي والله من الشجر ومن غيرها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وجعل لكم من الجبال أكنانا)
يقول: غيرانا من الجبال يسكن فيها (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) يعني: ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها.
قوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
انظر سورة البقرة آية (119) لبيان البلاغ أن عَليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون بشيراً ونذيراً.
قوله تعالى (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُون)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول: هذا كان لآبائنا، فورثناها منهم.
قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) وشاهدها نبيها، على أن قد بلغ رسالات ربه، قال الله تعالى (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) .
قوله تعالى (ثم لا يؤذن للذين كفروا ولاهم يستعتبون)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله (لا يؤذن) ولكنه بين في المرسلات أن متعلق الإذن الاعتذار؛ أي لا يؤذن لهم في الاعتذار، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله، وذلك في قوله: (هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون) .(3/196)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
قوله تعالى (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم يُنظرون)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم، ولا ينظرون أي لا يمهلون، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. وبين أنهم يرون النار، وأنها تراهم، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم؛ كقوله تعالى (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) ، وقوله (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا) .
قوله تعالى (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك! وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك فيقولون لهم: كذبتم! ما كنتم إيانا تعبدون! وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة؛ كقوله: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) وقوله: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فألقوا إليهم القول) قال: حدثوهم.
قوله تعالى (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) يقول: ذلوا واستسلموا يومئذ (وضل عنهم ما كانوا يفترون) .
وانظر سورة البقرة آية (208) .(3/197)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)
قال ابن كثير: أي عذاباً على كفرهم وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضاً (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى: (قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون) .
قال الحاكم: حدثني علي بن عيسى ثنا إبراهيم بن أبي طالب ثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله - رضي الله عنه - في قول الله عز وجل (زدناهم عذاباً فوق العذاب) قال: عقارب أنيابها كالنخل الطوال.
(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك 2/355-356- ك التفسير) ، ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني (9104 و9105) من طريق سفيان ويحيى بن عيسى عن الأعمش به، وأخرجه أيضاً (9103) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود ... وقال الهيثمي في المجمع (10/910) رواه بالطبراني ورجاله رجال الصحيح وكذا في (7/48) قال نحوه، وأخرجه الطبري قال حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله (زدناهم عذابا فوق العذاب) قال. عقارب لها أنياب كالنخل. وسنده صحيح على شرط مسلم.
قوله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهدا علينا. وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله:(3/198)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ... ) الآية، وكقوله: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) وكقوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (تبيانا لكل شيء) قال: ما أمر به، وما نهى عنه.
قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون)
قال الحاكم: أخبرنا الحسن بن حليم المروزي، أنبا أبو الموجه، أنبا عبدان، أنبا عبد الله، أنبا عيينة بن عبد الرحمن الغطفاني عن أبيه عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم.
صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/356- ك التفسير) وأقره الذهبي، وأخرجه أبو داود (ح 4902- ك الأدب، ب النهي عن البغي) ، والترمذي (ح 2511- ك صفة القيامة، ب 57) ، وابن ماجة (ح 4211- ك الزهد، ب البغي) ، وابن حبان (الإحسان ح 455 و456) ، والحاكم في (المستدرك 2/356) ، (ن 6/162 ل 636) من طرق عن عيينة بن عبد الرحمن به، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. قال الألباني: وهو كما قالا -يعني الترمذي والحاكم- فإن رجال إسناده ثقات كلهم. وصحح إسناده أيضا محقق الإحسان.
انظر حديث الحاكم تحت الآية رقم (23) من سورة يونس.
قال أحمد: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثنا عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفناء بيته بمكة جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون فكشر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا تجلس"؟ قال: بلى. قال: فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستقبله، فبينما هو يحدثه، إذ شخص رسول الله ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء،(3/199)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، وأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى في السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى قال: يا محمد فيم كنت أجالسك وآتيك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة، قال: "وما رأيتني فعلت؟ " قال: رأيتك تشخص ببصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك. قال: "وفطنت لذاك؟ " قال عثمان: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس"، قال: رسول الله؟ قال: "نعم". قال: فما قال لك؟ قال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً.
(المسند ح 2922) وقال محققه: إسناده صحيح. وقال ابن كثير: إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل (التفسير 4/516) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وشهر وثقه أحمد وجماعة وفيه ضعف لايضر، وبقية رجاله ثقات (مجمع الزوائد 7/48) ، وأخرجه الترمذي من طريق عبد الحميد ابن بهرام به، وحسنه (السنن ح 3215) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وقوله (والإحسان) ، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته: الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى، في الشدة والرخاء، والمكره والمنشط، وذلك هو أداء فرائضه، وقوله (إيتاء ذى القربى) يقول: الأرحام (وينهى عن الفحشاء) يقول: الزنا (والبغي) يقول: الكبر والظلم (يعظكم) يقول: يوصيكم (لعلكم تذكرون) .
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنه، ويندب إلى الإحسان، كقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن(3/200)
صبرتم لهو خير للصابرين) وقوله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وقال (والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) ...
وقوله: (وإيتاء ذي القربى) أي يأمر بصلة الأرحام، كما قال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً) وقوله: (وينهى عن الفحشاء والمنكر) فالفواحش المحرمات، والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها، ولهذا قال في الموضع الآخر (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى) الآية، إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه، إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
قوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
(الصحيح 4/1961 ح 2530- ك فضائل الصحابة، ب مؤاخاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه ... ) .
قال ابن كثير: ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. ا. هـ.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) . أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا. وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه. وفيما بينه وبين الناس. وكرر هذا في مواضع أخر؛ كقوله (في الأنعام) : (وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به..) الآية، وقوله (في الإسراء) : (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) . وقد(3/201)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قدمنا هذا (في الأنعام) . وبين في موضع آخر: أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك؛ وذلك في قوله: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) . وبين في موضع آخر: أن نقض الميثاق يستوجب اللعن؛ وذلك في قوله: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم..) الآية.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى: (ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها) قال: تغليظها في الحلف.
قوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أن تكون أمة هي أربى من أمة) يقول: أكثر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) يقول: خيانة وغدرا بينكم (أن تكون أمة هي أربى من أمة) أن يكون قوم أعز وأكثر من قوم.
قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
قال ابن كثير: يقول الله تعالى (ولو شاء الله لجعلكم) أيها الناس (أمة واحدة) كقوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) أي: لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء.(3/202)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قوله تعالى (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا النضر أخبرنا شعبة حدثنا فرّاس قال: سمعت الشعبي عن عبد الله بن عَمْرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتلُ النفس، واليمين الغموس".
(الصحيح 11/564- ك الأيمان والنذور، ب اليمين الغموس ح/6675) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (دخلا بينكم) قال: خيانة بينكم.
قوله تعالى (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
انظر سورة آل عمران آية (77) .
قوله تعالى (ما عندكم ينفذ وما عن الله باق)
قال الشيح الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ماعنده من نعيم الجنة باق لا يفنى. ووأضح هذا المعنى في مواضع أخر؛ كقوله (عطاء غير مجذوذ) وقوله: (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) .
قوله تعالى (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)
قال الشيخ الشنقيطي: أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم -أي جزاء عملهم- بأحسن ما كانوا يعملون. وبين في موضع آخر: أنه جزاء بلا حساب؛ كما في قوله: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) .
قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب (واللفظ لزهير) .
قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يُعطى بها في(3/203)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
الدنيا ويُجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة. لم تكن له حسنة يُجزى بها".
(الصحيح 4/2162 ح 2808- ك صفات المنافقين، ب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء، عن سعيد بن أبي أيوب. حدثني شرحبيل (وهو ابن شريك) عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه".
(الصحيح 2/730 ح 1054 - ك الزكاة، ب في الكفاف والقناعة) .
قال الحاكم: أخبرنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق أنبأ يعقوب بن يوسف القزويني ثنا محمد بن سعيد بن سابق ثنا عَمْرو بن أبي قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (فلنحيينه حياة طيبة) قال: القنوع، قال: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو يقول: "اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/356- ك التفسير) . وأقره الذهبي.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (فلنحيينه حياة طيبة) قال: السعادة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلحيينه حياة طيبة) فإن الله لايشاء عملا إلا في إخلاص، ويوجب من عمل ذلك في إيمان، قال الله تعالى (فلنحيينه حياة طيبة) وهي الجنة.
قوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
انظر الاستعاذة في مطلع التفسير.
قوله تعالى (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه(3/204)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
الذين يتولونه والذين هم به مشركون. وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) ، وقوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ، وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) ، وقوله (وماكان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك..) الآية، وقوله (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) .
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (إنما سلطانه) قال: حجته.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (إنما سلطانه على الذين يتولونه) يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (والذين هم بربهم مشركون) قال: يعدلون بالله عز وجل.
قوله تعالى (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (وإذا بدلنا آية مكان آية) قال: رفعناها فأنزلنا غيرها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وإذا بدلنا آية مكان آية) هو كقوله (ما ننسخ من آية أو ننسها) .
قوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قل نزله روح القدس من ربك بالحق)
الآية. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية - أنه نزله عليه روح القدس من ربه جل وعلا؛ فليس مفتريا له. وروح القدس: جبريل، ومعناه الروح المقدس؛ أي الطاهر من كل ما لا يليق. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) الآية، وقوله:(3/205)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
(وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) ، وقوله (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يلقى إليك وحيه) ، وقوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) قال: قول كفار قريش: إنما يعلم محمداً عبد لابن الحضرمى، وهو صاحب كتب بقول الله (لسان الذي يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) .
وأخرجه الطبري بسند حسن عن قتادة بنحوه.
قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله، وله عذاب عظيم، فأما من أكره وتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة قال: أتي علي - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من بدل دينه فاقتلوه".
(الصحيح 12/279- ك استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، ب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم ح 6922) .
قال ابن ماجة: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا يحيى بن أبي بُكيْر، ثنا زائدة بن قدامة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زِرِّ بن حُبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو بكر، وعمّار، وأمه سُمية، وصُهيب، وبلال، والمِقداد. فأما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم(3/206)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. فما منهم مِن أحد إلا وقد واتَاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحَد، أحَد.
(سنن ابن ماجة 1/53- المقدمة، ب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ح 150) ، وأخرجه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال في (تاريخ الإسلام قسم السيرة ص 218) : حديث صحيح، وأخرجه ابن أبي عاصم مختصرا من طريق زائدة به، (المسند 1/404 المستدرك 3/284، الأوائل ص 87) ، قال البوصيري: هذا إسناد رجاله ثقات رواه ابن حبان في صحيحه ... إلخ (مصباح الزجاجة 1/64) ، وقال الألباني. حسن (صحيح ابن ماجة 1/30) . وله شاهد من رواية مجامد مرسلاً عند ابن أبي شيبة في (المصنف (13/47-49) ، وقال الحافظ في الإصابة (4/327) : وهو مرسل صحيح السند.
قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)
انظر سورة البقرة آية (7) .
قوله تعالى (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
انظر آية (62) من السورة نفسها.
قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
انظر سورة البقرة آية (48) وتفسيرها.
قوله تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (قرية كانت آمنة مطمئنة) قال: مكة.
قال ابن كثير: هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف، كما قال تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) ، وهكذا قال ههنا: (يأتيها رزقها رغدا)(3/207)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
أي هنيئا سهلا (من كل مكان فكفرت بأنعم الله) أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار) .
وانظر سورة البقرة آية (58) .
قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولقد جاءهم رسول منهم) إي والله، يعرفون نسبه وأمره، (فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون) ، فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل.
قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)
انظر سورة البقرة آية (168) .
قوله تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (إنما حرم عليكم الميتة والدم) الآية، قال: وإن الإسلام دين يطهره الله من كل سوء، وجعل لك فيها يابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك. قوله (فمن اضطر غير باغ ولاعاد) غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة.
وانظر سورة البقرة آية (173) ، لبيان هذه المحرمات.
قوله تعالى (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله تعالى (لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) في البحيرة والسائبة.
وانظر سورة المائدة (103) وتفسيرها، لبيان ما حرم المشركون من أنعام أحلها الله تعالى.(3/208)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين يفترون عليه الكذب -أي يختلقونه عليه- كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه. ودعواهم له الشركاء والأولاد - لا يفلحون؛ لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعا قليلاً لا أهمية له، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم، الشديد المؤلم.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في يونس: (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) ، وقوله: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) ، وقوله: (قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) ، إلى غير ذلك من الآيات.
وانظر سورة يونس آية (26) ، لبيان المتاع: الذاهب.
قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) قال: ما قص الله تعالى في سورة الأنعام حيث يقول: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية.
وانظر سورة الأنعام آية (146) وتفسيرها، لبيان ما حرم الله تعالى على اليهود.
قال الشيخ الشنقيطي: وجملة المحرمات عليهم في هذه الآية الكريمة ظاهرة، وهو كل ذي ظفر: كالنعامة والبعير، والشحم الخالص من البقر والغنم (وهو الثروب) وشحم الكلى. أما الشحم الذي على الظهر، والذي في الحوايا وهي الأمعاء، والمختلط بعظم كلحم الذنب وغيره من الشحوم المختلطة بالعظام فهو حلال لهم؛ كما هو واضح من الآية الكريمة.
قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)
انظر سورة النساء آية (17) ، وسورة الأنعام آية (54) .(3/209)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
أخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق قال: قرأت عند ابن مسعود (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) فقال: إن معاذا كان أمة قانتا لله، قال: فأعاد عليه، قال: فأعاد عليهم، ثم قال: أتدرون ما الأمة؟ الذي يُعلم الناس الخير، والقانت: الذي يطيع الله ورسوله؟.
(التفسير ح 1514) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/358) من طريق عبد الرزاق وأبي نعيم كلاهما عن الثوري به ن وأخرجه أيضا الطبري في تفسيره (14/191) ، والطبراني في (الكبير 10/70-73 ح 9943-9950) من طريق عن ابن مسعود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في (المجمع 7/49) . رواه الطبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (إن إبراهيم كان أمة) على حدة (قانتا لله) قال: مطيعا.
ينظر تفسير سورة البقرة آية (135) لفظ (حنيفا) ، وسورة الفاتحة (الصراط المستقيم)
قوله تعالى (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وآتيناه في الدنيا حسنة) قال: لسان صدق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وآتيناه في الدنيا حسنة) فليس من أهل دين إلا يتولاه وبرضاه.
قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
قال ابن كثير: وقوله (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) أي: ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه، أنا أوحينا إليك ياخاتم الرسل وسيد الأنبياء (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) كقوله في الأنعام: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) .(3/210)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
قوله تعالى (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) اتبعوه وتركوا الجمعة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) استحله بعضهم، وحرمه بعضهم.
وانظر عن أهل السبت سورة البقرة آية (65) .
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة وحذيفة قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق.
(صحيح مسلم- ك الجمعة، ب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ح 856)
قوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (وجادلهم بالتي هي أحسن) أعرض عن أذاهم إياك.
قال ابن كثير، وقوله (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) الآية، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) .
قوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)
قال البخاري: حدثنا إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أفلان، حتى سمى اليهودى فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض رأسه بالحجارة. وقد قال همام: بحجرين.
(الصحيح 12/222 ح 6884- ك الديات، ب إذا اقر بالقتل مرة قتل به) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1299 ح 1672 ك القسامة، ب ثبوت القصاص في القتل بالحجر ... ) .(3/211)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قال الحاكم: أخبرنا أبو زكريا العنبري، ثنا محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن الفضل بن موسى، ثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: حدثني أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فمثلوا بهم وفيهم حمزة فقالت الأنصار: لئن أصبناهم يوما مثل هذا لنربين عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) فقال رجل: لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفوا عن القوم غير أربعة.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/358-359- ك التفسير- سورة النحل) وأقره الذهبي، وأخرج الترمذي (ح 3129/ك التفسير، ب ومن سورة النحل) ، والنسائي في (التفسير ح 299) من طريق الفضل بن موسى به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث أُبي بن كعب. وقال الألباني: حسن صحيح الإسناد (صحيح الترمذي 3/67) ، وقال محقق تفسير النسائي: إسناده حسن. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/239 ح 487) من طريق: عبد الله بن محمد الأزدي عن إسحاق به. قال محققه: إسناده حسن ... ، وأخرجه الضياء في (المختارة 3/350-352 ح 1143، 1144) من طريق: الحسين بن حريث، وهدية بن عبد الوهاب المروزي كلاهما عن الفضل بن موسى به. وحسن المحقق إسناديهما.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) لا تعتدوا.
وانظر سورة البقرة آية (194) .
قوله تعالى (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)
قال الشنقيطي: قوله تعالى (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه مع عباده المتقين المحسنين. وقد تقدم إيضاح معنى التقوى والإحسان. وهذه المعية خاصة بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: (إنني معكما أسمع وأرى) وقوله: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم) ، وقوله: (لا تحزن إن الله معنا) وقوله: (قال كلا إن معى ربي سيهدين) ، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المعية لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا؛ فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل.(3/212)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سورة الإسراء
فضلها
أخرج البخاري بسنده عن ابن مسعود قال: بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء هن من العِتاق الأوَل، وهن من تِلادي.
(الصحيح- التفسير- سورة الأنبياء 4739) . وتسمى سورة الإسراء سورة بني إسرائيل وسورة سبحان، والعتاق جمع عتيق وهو القديم، أو هو كل مابلغ الغاية في الجودة، وبالثاني جزم جماعة في هذا الحديث، وقوله: (وهن من تلادي) أي مما حفظ قديما، والتلاد قديم الملك وهو بخلاف الطارف، ومراد ابن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم. (انظر فتح الباري 8/388) .
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن مروان أبي لبابة قال سمعت عائشة تقول: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر.
(المسند 6/189) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم كلهم من طريق حماد بن زيد به، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وصححه الألباني وحسنه فاروق حمادة (سنن الترمذي- فضائل القرآن رقم 2920، وعمل اليوم والليلة رقم 712، والمستدرك 2/434، وصحيح الجامع الصغير 4/250، وصحيح سنن الترمذي رقم 2332) .
قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)
وردت أحاديث في ذكر صفة الإسراء والمعراج أصحها ما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان -وذكر يعني رجلا بين الرجلين- فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإيمانا، فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملىء حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق، فانطلقت مع جبريل، حتى أتينا السماء(3/213)
الدنيا، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، ولنعم المجى جاء، فأتيت على آدم فسلمت عليه فقال: مرحباً بك من ابن ونبي، فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: من معك قال: محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قيل أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، ولنعم المجى جاء، فأتيت على عيسى ويحيى، فقالا: مرحباً بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الثالثة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل من معك؟. قال: محمد قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل مرحباً به، ولنعم المجى جاء، فأتيت على يوسف فسلمت، فقال: مرحباً بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الرابعة، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل من معك؟ قيل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قيل وقد أرسل إليه؟ قال نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إدريس فسلمت عليه فقال: مرحباً بك من أخ ونبي فأتينا السماء الخامسة، قيل من هذا؟ قيل: جبريل، قيل ومن معك؟ قيل: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال نعم، قيل مرحباً به ولنعم المجى جاء، فأتينا على هارون، فسلمت عليه، فقال مرحباً بك من أخ ونبي، فأتينا على السماء السادسة، قيل من هذا؟ قيل جبريل، قيل من معك؟ قيل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قيل: وقد أرسل إليه؟ مرحباً به نعم المجىء جاء، فأتيت على موسى فسلمت عليه فقال: مرحباً بك من أخ ونبي فلما جاوزت بكى فقيل: ما أبكاك قال: يارب، هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي، فأتينا السماء السابعة، قيل من هذا: قيل: جبريل قيل: من معك؟ قيل: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ مرحباً به ولنعم الجيء جاء، فأتيت على إبراهيم فسلمت عليه فقال: مرحباً بك من ابن ونبي، فرفع في البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور، يصلى فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ماعليهم، ورفعت لي سدرة المنتهى، فاذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فسألت جبريل فقال: أما الباطنان ففي(3/214)
الجنة، وأما الظاهران النيل والفرات، ثم فرضت علي خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى فقال ما صنعت؟ قلت فرضت علي خمسون صلاة، قال أنا أعلم بالناس منك عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لاتطيق، فارجع إلى ربك فسله، فرجعت فسألته، فجعلها أربعين، ثم مثله ثم ثلاثين، ثم مثله فجعل عشرين، ثم مثله فجعل عشرا، فاتيت موسى فقال مثله فجعلها خمسا: فأتيت موسى فقال: ماصنعت؟ قلت جعلها خمسا، فقال مثله قلت فسلمت، فنودى: إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا.
(صحيح البخاري - بدء الخلق باب ذكر الملائكه رقم 3207) ، (وصحيح مسلم- الإيمان، ب الإسراء برسول الله رقم 462) . واللفظ للبخاري، وذكره الحافظ ابن حجر وقال: ليس في أحاديث المعراج أصح منه (انظر تفسير القاسمي 10/991) .
وأخرج مسلم بسنده عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أتيت البراق (وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس". قال: فربطه بالحلقة التي يربط به الأنبياء قال: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء ... ".
(الصحيح- الإيمان، ب الإسراء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رقم 261) .
قال البيهقي: وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسرى به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى البيت المقدس، ذكره كثير ثم أيده فقال: وهذا الذي قاله هو الحق الذي لاشك فيه ولامرية.
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد وحسن قالا: ثنا ثابت قال: حسن أبو زيد قال عبد الصمد: قال: ثنا هلال عن عكرمة عن ابن عباس قال: أسري بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيت المقدس ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم فقال ناس، قال حسن: نحن نصدق محمداً بما يقول: فارتدوا كفارا(3/215)
فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم هاتوا ثمرا وزبد تزقموا ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس رؤيا منام وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدجال فقال: أقمر هجانا قال: حسن قال: رأيته فيلما أقمر هجانا احدى عينيه قائمة كأنها كوكب درى كان شعر رأسه أغصان شجرة ورأيت عيسى شابا أبيض جعد الرأس حديد البصر مبطن الخلق ورأيت موسى أسحم آدم كثير الشعر قال: حسن الشعرة شديد الخلق ونظرت إلى إبراهيم فلا أنظر إلى إرب من آرابه إلا نظرت إليه مني كانه صاحبكم فقال جبريل عليه السلام: سلم على مالك فسلمت عليه.
(المسند 1/473) ، وأخرجه النسائي في التفسير من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد عن هلال -وهو ابن خباب- به وهو إسناد صحيح كما قال ابن كثير. وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن هلال بن خباب، قال يحيى القطان: إنه تغير قبل موته، وقال يحيى بن معين: لم يتغير ولم يختلط، ثقة.
مأمون (مجمع الزوائد 1/66-67) ، وصححه أحمد شاكر (المسند رقم 3546) .
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبراق به مسرحا ملجما يركبه فاستصعب عليه، فقال له جبريل ما يحملك على هذا؟ فوالله ما ركبك أحد قط أكرم على الله منه فارفض عرقا، فارفض: أي تصبب وسال عرقا وسكن.
(السنن- التفسير، ب من سورة بني إسرائيل رقم 3131) ، وأخرجه الترمذي والطبري من طريق عبد الرزاق به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ولا نعرفه إلا من حديث عبد الرزاق، وصححه الألباني (صحيح سنن الترمذي 3/67 رقم 2503) .
وقد تقدم فضل التسبيح في بداية سورة الفاتحة عند قوله تعالى: الحمد لله ... وفي سورة البقرة ونحن نسبح بحمدك.
قوله تعالى (لنريه من آياتنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لنريه من آياتنا) ما أراه الله من الآيات والعبر في طريق بيت المقدس.(3/216)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قوله تعالى (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل) جعله الله لهم هدى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعله رحمة لهم.
وأخرج الطبري وآدم بن أبي إياس بالإسناد الصحيح عن مجاهد: في قوله (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) شريكا.
قوله تعالى (ذرية من حملنا مع نوح)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من حملهم مع نوح تنبيها على النعمة التي نجاهم بها من الغرق ليكون في ذلك تهييج لذرياتهم على طاعة الله، أي ياذرية من حملنا مع نوح فنجيناهم من الغرق، تشبهو بأبيكم فاشكروا نعمنا وأشار إلى هذا المعنى في قوله: (أولئك من الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح) الآية، وبين الله في موضع آخر الذين حملهم مع نوح من هم؟ وبين الشيء الذي حملهم فيه وبين من بقي له نسل وعقب منهم ومن انقطع لم يبق منه نسل ولاعقب فبين أن الذين حملهم مع نوح: هم أهله ومن آمن معه من قومه في قوله (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن) ، وبين أن الذين آمنوا من قومه قليل بقوله (وما آمن معه إلا قليل) وبين أن ممن سبق عليه القول من أهله بالشقاء امرأته وابنه قال في امرأته: (وضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح) إلى قوله (وقيل ادخلا النار مع الداخلين) وقال في ابنه (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) .
قال الطبري: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح ولم تكن امرأته.
ورجاله ثقات، وإسناده صحيح.(3/217)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قوله تعالى (إنه كان عبدا شكورا)
الضمير يعود إلى نوح بدليل مارواه البخاري بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: وفيه أن الناس يأتون نوح فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً.
(صحيح البخاري- التفسير سورة بني إسرائيل رقم 4712) .
وقد وردت بعض الروايات في السبب الذي سماه الله تعالى من أجله شكوراً، فأخرج الطبري والحاكم من طريق سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: كان نوح إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما حمد الله فسمى عبداً شكوراً.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (المستدرك 2/630) ، وأخرجه الطبري أيضا من طريق أيوب عن أبي عثمان النهدي به نحوه. وبنحوه أخرجه بأسانيده عن مجاهد وقتادة، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة.
قوله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا)
أخرج الطبري بسنده الجيد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وقضينا إلى بني إسرائيل) يقول أعلمناهم.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: قضاء قضاه القوم كما تسمعون، وبسنده الصحيح عن مجاهد: أخبرنا بني إسرائيل.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولتعلن علوا كبيراً) قال: ولتعلن الناس علوا كبيرا.
قوله تعالى (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)(3/218)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (لتفسدن في الأرض مرتين) قال: أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت حين بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود، ثم ردت الكرة لبنى إسرائيل، ثم جاء وعد الآخرة من المرتين (ليسوؤا وجوهكم) قال: ليقبحوا وجوهكم، (وليتبروا ما علوا تتبيرا) قال: ليدمروا ماعلوا تدميرا، قال: هو بخت نصر، قال: وبعث عليهم في المرة الآخرة، ثم قال: (عسى ربكم أن يرحمكم وأن عدتم عدنا) ، فعادوا فبعث الله عليهم محمد، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
أخرج الطبري بسنده الجيد من طريق علي بن أبي طلحه عن ابن عباس: (فجاسوا خلال الديار) قال: مشوا.
وقد اختلف المفسرون في الذين عنى الله عليهم بقوله (أولى بأس شديد) في ماكان من فعلهم في المرة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم في المرة الآخرة: - القول الأول: إنه جالوت.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن محمد بن عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت حتى بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود.
(وبنحوه أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة كما تقدم في الرواية السابقة عنه) .
- القول الثاني: إنه سنحاريب.
قال الطبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: ثنا ابن عليه عن أبي المعلى قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: في قوله (بعثنا عليهم عبادا لنا أولى بأس شديد) قال: بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى فسألت سعيدا عنها، فزعم أنها الموصل. ا. هـ، وقوله فزعم أنها الموصل قول صحيح لأن نينوى جزء من المرصل تقع في شمالها.
(ورجاله ثقات وإسناده صحيح إلى سعيد بن جبير، وأبو المعلى هو يحي بن ميمون الضبي العطار الكوفي معروف بالرواية عن سعيد بن جبير وبرواية إسماعيل ابن عليه عنه، كما في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي المعلى، ويعقوب بن إبراهيم هو ابن كثير العبدي الدورقي معروف بالرواية عن ابن عليه كما هو في تهذيب التهذيب في ترجمته) .(3/219)
- القول الثالث: إنه بختنصر المجوسي البابلى: ومن معه من أهل فارس.
قال الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلى على كبا -أي كناسه- فسألهم ما هذا الدم؟ قالوا: أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم. فسكن.
(وذكره ابن كثير في التفسير ثم قال: وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب وهذا هو المشهور. ا. هـ. وقد ثبت نحوه عن ابن عباس لقد أخرجه الطبري عن أبي السائب قال ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وأبو السائب: سلم بن جنادة، وأبو معاوية محمد بن خازم الضرير ورجاله ثقات إلا المنهال وهو ابن عمرو صدوق فالإسناد حسن، وقد صحح ابن كثير رواية المنهال عن سعيد بن جبير في غير هذا الموضع. ولا مانع من الجمع بين الأقوال الثلاثة. (انظر البداية والنهاية 1/78) . وهذه الرواية تقوي سابقتها لكن في بعضها غرابة وهو مقتل يحيى بن زكريا، انظر (البحر المحيط 6/10-11) .
قوله تعالى (ثم رددنا لكم الكرة عليهم)
وأخرج الطبري بالإسناد الصحيح المتقدم عن قتادة (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) ثم رددت الكرة لبني إسرائيل.
قوله تعالى (وجعلناكم أكثر نفيرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وجعلناكم أكثر نفيرا) أي عددا وذلك في زمن داود.
قوله تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أحسن -أي بالإيمان والطاعة- فإنه إنما يحسن إلى نفسه لأن نفع ذلك لنفسه خاصة، وأن من أساء -أي بالكفر والمعاصي- فإنه إنما يسيء على نفسه لأن ضرر ذلك عائد إلى نفسه خاصة، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) الآية، وقوله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال(3/220)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
ذرة شرا يره) وقوله (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون)
إلى غير ذلك من الآيات، واللام في قوله (وإن أسأتم فلها) بمعنى على أي فعليها، بدليل قوله (ومن أساء فعليها) ومن إتيان اللام بمعنى على قوله تعالى: (ويخرون للأذقان) الآية أي عليها.
أخرج الطبري بالإسناد الصحيح المتقدم عن سعيد بن جبير قال بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب قال: فرد الله لهم الكرة عليهم كما قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر، فقتل المقاتلة، وسبي الذرية، وأخذ ماوجد من الأموال، ودخلوا بيت المقدس، كما قال الله عز وجل (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ماعلوا تتبيرا) دخلوه فتبروه وخربوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر، فقال الله (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا) فرحمهم فرد إليهم ملكهم وخلص من كان في أيديهم من ذرية بني إسرائيل، وقال لهم: إن عدتم عدنا.
قال الشيخ الشنقيطي: جواب إذا في هذه الآية الكريمة محذوف، وهو تتعلق به اللام في قوله: ليسوءوا وتقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوءوا وجوهكم بدليل قوله في الأولى (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا) الآية وخير ما يفسر به القرآن القرآن. ا. هـ.
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالإسناد الصحيح عن مجاهد قال: بعث الله ملك فارس ببابل جيشاً وأمر عليهم بختنصر، فأتوا بني إسرائيل فدمروهم فكانت هذه الآخره ووعدها.
قوله تعالى (وإن عدتم عدنا)
قال الشيخ الشنقيطي: لما بين جل وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عباداً له أولى بأس شديد فاحتلوا بلادهم وعذبوهم، وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة: بعث عليهم قوما ليسوءوا وجهوهم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا، وبين أيضاً: أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه(3/221)
جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم، وذلك في قوله: وإن عدتم عدنا ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أولا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكتم صفاته ونقض عهودة، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقا لقوله: وإن عدتم عدنا فسلط عليهم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين، فجرى علي بني قريضة والنضير، وبني قينقاع وخيبر ماجرى من القتل والسبي والإجلاء، وضرب الجزية على من بقى منهم، وضرب الذلة والمسكنة.
فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد، قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما شروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) وقوله: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم) الآية، وقوله: (ولاتزال تطلع على خائنة منهم..) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد للانتقام منهم قوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) . وقوله تعالى (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها..) الآية، ونحو ذلك من الآيات.(3/222)
قوله تعالى (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال (عسى ربكم أن يرحمكم) ، فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته (وإن عدتم عدنا) قال: عاد القوم بشر ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحى من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة، قال الله عز وجل في آية أخرى: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة ... ) الآية، فبعث الله عليهم هذا الحى من العرب.
قوله تعالى (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا)
أخرج الطبري بسنده الجيد عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (حصيرا) سجنا.
وكذا أخرجه بسنده الحسن عن قتادة، وأخرجه بإسناده الصحيح المتقدم عن قتاده بلفظ: محبسا حصورا، وأخرجه آدم بن أبي إياس، والطبري بالإسناد الصحيح عن مجاهد قال: يحصرون فيها.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة قال: محبسا حصروا فيها.
أخرج عن معمر عن الحسن: حصيرا: فراشا مهادا.
وهو إسناد صحيح أيضاً، وأخرجه الطبري ثم قال: وذلك أن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا، فوجهَ الحسنُ معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا كما قال (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) وهو وجه حسن وتأويل صحيح. وأما الآخرون فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس، وقد بينت ذلك بشواهده في سورة البقرة. ا. هـ.
قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الوجه يدل له قوله تعالى (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) .(3/223)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
قوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع مافي القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيرى الدنيا والآخرة ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار وطعنوا بسببها في دين الإسلام لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة فمن ذلك توحيد لله جل وعلا فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته وفي عبادته وفي أسمائه وصفاته وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله..) الآية، وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون.) .
الثاني: توحيده جلا وعلا في عبادته وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى (لا إله إلا الله) وهي متركبة من نفى وإثبات؛ فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع المعبودات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) .(3/224)
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد، قوله تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) الآية، وقوله: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) قوله: (ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . وقوله: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) . وقوله: (قل إنما يوحي إلي إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) . فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد لشمول كلمة (لا إله إلا الله) لجميع ماجاء في الكتب، لأنها تقتضى طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبي على أصلين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء) .
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله على الوجه اللائق
بكماله وجلاله؛ كما قال بعد قوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)
مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، قال تعالى: (يعلم مابين أيديهم وماخلفهم ولا يحيطون به علماً ... ) ، ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى(3/225)
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار) إلى قوله (فسيقولون الله) فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره بقوله (فقل أفلا تتقون) ... ومن هدى القرآن للتي هي أقوم جعله الطلاق بيد الرجل كما قال تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) الآية، ونحوها من الآيات لأن النساء مزارع وحقول، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض كما قال تعالى (نساؤكم حرث لكم) ... ومن هدى القرآن للتي هي أقوم تفضيله الذكر على الأنثى في الميراث كما قال تعالى (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) ...
ومن هدى القرآن للتي هي أقوم: القصاص فإن الإنسان إذا غضب وهم بأن يقتل إنساناً آخر فتذكر أنه إن قتله قتل به، خاف العاقبة فترك القتل فحي ذلك الذي كان يريد قتله، وحي هو لأنه لم يقتل ويقتل قصاصا، فقتل يحيا به مالا يعلمه إلا الله كثرة كما ذكرنا قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديما وحديثا قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم بكتاب الله لأن القصاص رادع عن جريمة القتل كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفا ... ومن هدى القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه بقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعو أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو سرقت فاطمة لقطعت يدها" ... ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: رجم الزاني المحصن ذكرا كان أو أنثى وجلد الزاني البكر مائة جلدة ذكرا كان أو أنثى ...
قوله تعالى (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير)
قال الشيخ الشنقيطي: أن معنى الآية (ويدع الإنسان بالشر) كأن يدعو على نفسه أو ولده بالهلاك عند الضجر من أمر يقول: اللهم أهلكني أو أهلك ولدي، فيدعوا بالشر دعاء لايحب أن يستجاب له وقوله (دعاءه بالخير) أي(3/226)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
يدعو بالشر كما يدعو بالخير فيقول عند الضجر: اللهم أهلك ولدي، كما يقول في غير وقت الضجر اللهم عافه، ونحو ذلك من الدعاء ولو استجاب الله دعاء بالشر لهلك، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم) أي لو عجل لهم الإجابة بالشر كما يعجل لهم الإجابة بالخير لقضى إليهم أجلهم، أي لهلكوا وماتوا فالاستعجال بمعنى التعجيل....ا. هـ.
وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدعاء على أنفسنا وأموالنا، فأخرج أبو داود عن هشام ابن عمار ويحيى بن الفضل وسليمان بن عبد الرحمن قالوا: ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا يعقوب بن مجاهد حَزْرَة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جابر ابن عبد الله مرفوعاً: قال: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم".
(سنن أبي داودح 1532- الصلاة، ب النهي أن يدعوا الإنسان على أهله وماله) ، وأخرجه مسلم من طريق حاتم به- الصحيح- الزهد، ب حديث جابر ح 3009) ، قال ابن كثير عند قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم) سورة يونس: 11. وهذا كقوله تعالى (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) .
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) قال: يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك، أو على خادمه أو على ماله.
قوله تعالى (وجعلنا الليل والنهار آيتين)
قال ابن كثير: يمن تعالى على خلقه بآياته العظام فمنها مخالفته بين اليل والنهار ليسكنوا في الليل وينتشروا في النار للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ويعرفوا مضى الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك ولهذا قال (لتبتغوا فضلا من ربكم) أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك (ولتعلموا عدد السنين والحساب) .(3/227)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الليل والنهار آيتين أي علامتين دالتين على أنه الرب المستحق أن يعبد وحده، ولا يشرك معه غيره، وكرر تعالى هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله تعالى (ومن آياته الليل والنهار) الآية، وقوله: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) . وقوله تعالى (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون) . وقوله: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب) .
قوله تعالى (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة)
قال ابن كثير: أخرج أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة: أن ابن الكواء سأل علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال ويحك أما تقرأ القرآن؟ (فمحونا آية الليل) فهذه محوه.
وأخرج بسنده الصحيح عن مجاهد قال: ليلاً ونهارا وكذلك جعلهم الله.
وأخرج بسنده الحسن عن قتادة قال: أي منيرة وخلق الشمس نور من القمر وأعظم.
قوله تعالى (لتبتغوا فضلا من ربكم)
قال الشيخ الشنقيطي: وقوله (ولتبتغوا من فضله) أي في النهار. قوله: (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (لتبتغوا فضلا من ربكم) قال: جعل لكم سبحا طويلا.
قوله تعالى (ولتعلموا عدد السنين والحساب)
قال الشيخ الشنقيطي: بين فيه نعمة أخرى على خلقه وهي معرفتهم عدد السنين والحساب لأنهم باختلاف الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والشهور والأعوام، ويعرفون بذلك يوم الجمعة ليصلوا فيه صلاة الجمعة ويعرفون شهر(3/228)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
الصوم، وأشهر الحج، ويعلمون مضى أشهر العدة لمن تعتد بالأشهر المشار إليها في قوله: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) ، وقوله: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) ، ويعرفون مضى الآجال المضروبة للديون والإجارات، ونحو ذلك، وبين جل وعلا هذه الحكمة في مواضع أخر، كقوله: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ماخلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) ، وقوله جل وعلا: (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) ، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وكل شيء فصلناه تفصيلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: أي بيناه تبييانا.
قال الشيخ الشنقيطي: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وكل شيء فصلناه تفصيلا) تقدم إيضاحه، والآيات الدالة عليه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ... ) الآية.
قوله تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)
القول الأول: المراد بالطائر ماسبق في علم الله من شقاوة أو سعادة.
قال الطبري: وإنما قوله (ألزمناه طائره) مثل لما كانت العرب تتفائل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها فأعلمهم جل ثناءه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر، وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن بشار قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنى أبي، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله أن نبي الله قال: "لا عدوى ولا طيرة، وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه".
(ورجاله ثقات إلا معاذ بن هشام صدوق له أوهام وإسناده حسن، وقد أخرجه عبد بن حميد من طريق آخر عن أبي الزبير عن جابر بلفط: "طائر كل إنسان في عنقه". كما ذكره ابن كثير وحسنه السيوطي في الدر المنثور) ،(3/229)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
أخرج أحمد عن علي بن إسحاق قائلا: ثنا عبد الله أخبرني ابن لهيعة قال: حدثني يزيد أن أبي الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يحدث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس من عمل يوم إلا هو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا عبدك فلان قد حبسته فيقول الرب عز وجل: اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت".
(المسند 4/641) . قال ابن كثير إسناد جيد قوي ولم يخرجوه، وهو كما قال لأن عبد الله هو ابن المبارك معروف بالرواية عن ابن لهيعة، وبرواية علي بن إسحاق المروزي عنه، وعبد الله بن المبارك من العبادلة الأربعة الذين رووا عن ابن لهيعة في احتراق كتبه، وقد أمنا تدليس ابن لهيعة لأنه صرح بالتحديث.
القول الثاني: المراد بالطائر العمل.
أخرج الطبري وآدم بن أبي إياس بالإسناد الصحيح عن مجاهد: (طائره) عمله.
وأخرجه عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة، وعن معمر عن الحسن بلفظ: عمله شقاوة أو سعادة.
وجمع الشيخ الشنقيطي بين القولين فقال: والقولان متلازمان لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يئول إليه من الشقاوة والسعادة.
قوله تعالى (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوبا في كتاب يلقاه منشورا أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره، وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشورا في آيات أخر، فبين أن من صفاته: أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لايترك صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ماعملوا حاضرا ليس منه شيء غائبا، وأن الله جل وعلا لايظلمهم في الجزاء عليه شيئاً وذلك في قوله جل وعلا: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجد ما عملوا(3/230)
حاضرا ولا يظلم ربك أحد) ، وبين في موضع آخر: أن بعض الناس يؤتي هذا الكتاب بيمينه - جعلنا الله وأخواننا المسلمين منهم، وإن من أوتيه بيمينه يحاسب حسابا يسيرا، ويرجع إلى أهله مسروراً، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية قال تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا) ، وقال تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية) ، وبين في موضع آخر: أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعا وذلك في قوله: (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدرى ماحسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) -أعاذنا الله وأخواننا المسلمين من النار، ومما قرب إليها من قول وعمل- وبين في موضع آخر: أن من أوتي كتابه وراء ظهره يصلى السعير، ويدعو الثبور وذلك في قوله: (وأما من أوتى كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) أي: عمله.
قوله تعالى (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)
روى معمر عن الحسن في هذه الآية قال: قد عدل -والله- عليك من جعلك حسيب نفسك، ذكره ابن كثير ثم قال: هذا من حسن كلام الحسن رحمه الله.
وانظر سورة فصلت آية (20) حديث مسلم عن أنس وانظر سورة النور آية (24) .
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.(3/231)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
قوله تعالى (من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من اهتدى فعمل بما يرضى الله جل وعلا أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة الاهتداء وثمرته في الدنيا والآخرة، وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جل وعلا، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه لأنه هو الذي يجنى ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة، فيخلد به في النار، وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ... ) الآية، وقوله: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون) وقوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) وقوله: (فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل) ، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولاتزر وازرة وزر أخرى) والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره، ولا يؤاخذ إلا بعمله.
قال ابن كثير: ولامنافاة بين هذا وبين قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) ، وقوله: (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك، ولا يحملوا عنهم شيئا، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده.
قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)
قال ابن كثير: إخبار عن عدله تعالى، وأنه لايعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى: (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) . ا. هـ.
واستدل بهذه الآية أن ولدان المشركين الذين ماتوا هم في الجنة، وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال:(3/232)
القول الأول: أنهم يمتحنون يوم القيامة:
والدليل ما رواه الإمام أحمد قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لايسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، أما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما.
(المسند 4/24) بدون كلمة "يحتجون" وقد أكملناها من نسخة الحافظ ابن كثير من مسند أحمد ثم قال ابن كثير: وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة، مثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره: "من دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها". وكذا رواه إسحاق بن راهوية، عن معاذ بن هشام، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد، من حديث حنبل بن إسحاق عن علي بن عبد الله المدينى به، وقال: هذا إسناد صحيح. ا. هـ، وذكره الهيثم ونسبه إلى أحمد والبزار وذكر أن رجاليهما رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/216) ، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة رقم 1434) ، وقال ابن حجر العسقلاني: وقد صحت مسألة الإمتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحه، وحكى البيهقي في كتاب الإعتقاد أنه المذهب الصحيح (فتح الباري 3/246 وانظر الاعتقاد ص 169) .
القول الثاني: أنهم في الجنة واستدلوا بهذه الآية وبالأحاديث التالية:
أولا: حديث سمرة بن جندب الطويل والشاهد فيه: وإذا بين ظهرى الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط ... وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين.
(الصحيح- التفسير، ب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح رقم 4047) . قال الحافظ ابن حجر في قوله (وأولاد المشركين) وظاهره أنه ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة ولا يعارض قوله: هم من آبائهم لأن ذلك حكم الدنيا. (فتح الباري 12/445) .(3/233)
ثانياً: حديث عم حسناء بنت معاوية الصريمية قال: قلت: يا رسول الله من في الجنة قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموؤدة في الجنة".
(رواه أحمد ومحمد بن سنجر من طريق عوف عن حسناء به، وحسنه ابن حجر (انظر مسند أحمد 5/58، انظر التذكرة في أحوال الموتى ص 515، وفتح الباري 3/246) ، قال ابن كثير: وهذا استدلال صحيح ولكن أحاديث الامتحان أخص منه فمن علم الله منه أن يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة، ومن علم أنه لا يجيب، فأمره إلى الله تعالى، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الإمتحان، ونقله الأشعرى عن أهل السنة. ا. هـ.
ثالثا: حديث أنس الذي رواه أبو يعلى مرفوعاً: "سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم".
(قال الهيثمي: رواه أبو يعلى من طرق ورجاله أحدها رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن المتوكل وهو ثقة (مجمع الزوائد 7/219) ، قال ابن حجر: إسناده حسن، وورد تفسير اللاهين بأنهم الأطفال، قال النووي: وهو المذهب الصحيح الذي صار إليه المحققون، وهو رأي البخاري كما نقل ابن حجر (فتح الباري 3/246، 247) .
القول الثالث: التوقف أنهم في مشيئة الله تعالى لحديث ابن عباس سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أولاد المشركين، فقال: "الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين".
رواه البخاري ورواه من حديث أبي هريرة بنحوه (الصحيح- الجنائز، ب ما قيل في أولاد المشركين رقم 3831 و4831) وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق ونقله البيهقي في (الإعتقاد) عن الشافعي.
القول الرابع: أنهم في النار مع آبائهم لحديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هم مع آبائهم، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله عز وجل أعلم بما كانوا عاملين.
(رواه أحمد عن أبي المغيرة ثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب قال ثني عبد الله بن أبي قيس عنها بهِ، ورواه أبو داود من طريق محمد بن حرب عن محمد بن زياد الالهاني عن عبد الله بن أبي قيس عنها نحوه (مسند أحمد 6/48) ، (سنن أبي داود- السنة، ب في ذراري المشركين رقم 2174، وصححه الألباني (صحيح سنن أبي داود ح 343) ، وقد أشار ابن حجر إلى هذا الحديث قال: فذاك ورد في حكم الحربي، وقال أيضاً أنه في حكم الدنيا كما تقدم (فتح الباري 3/642 و12/445) ، وأما أطفال المسلمين فهم في الجنة(3/234)
قال ابن كثير: وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلي بن الفراء الحنبلي، عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس، وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل.
قوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)
أخرج مسلم بسنده عن زينب بنت جحش أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه". وعقد سفيان بيده عشرة قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
(الصحيح- الفتن وأشراط الساعة، ب اقتراب الفتن- رقم 2880) .
قال الشيخ الشنقيطي: في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: أن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله (فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) يعني القرية ولم يستثن منها غير المترفين؟ والجواب من وجهين:
الأول: أن غير المترفين تبع لهم، وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم لأن غيرهم تبع لهم كما قال تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) وكقوله (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) الآية، وقوله: (حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا) الآية، وقوله تعالى: (وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) الآية.(3/235)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وقوله: (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار) ، إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: أن بعضهم من عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع كما قال تعالى: (واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ثم استشهد بحديث زينب المتقدم.
وأخرج الطبري بسنده الجيد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أمرنا مترفيها) يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب، وهو قوله (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) .
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالإسناد الصحيح عن مجاهد: (أمرنا مترفيها) بعثنا.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة بلفظ: أكثرنا.
وأخرج البخاري بسنده عن ابن مسعود قال: "كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: أمِرَ بنو فلان.
(الصحيح ح 4711- التفسير، ب (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها)) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول) يقول: أكثرنا مترفيها: أي جبابرتها، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله (فدمرناها تدميرا) وكان يقال: إذا أراد الله بقوم صلاحا، بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها.
قوله تعالى (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من عدة جهات:(3/236)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
الأولى: أن في الآية تهديدا لكفار مكة، وتخويفا لهم من أن ينزل بهم. ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها أي أهلكنا قرونا كثيرة من بعد نوح بسبب تكذييهم الرسل، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم، والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة كقوله في قوم لوط (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) ، وكقوله فيهم أيضاً: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم) .
الجهة الثانية: أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر فبينت كيفية إهلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه من قوم موسى، وذلك مذكور في مواقع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى، وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله: (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) .
الجهة الثالثة: أن قوله (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضى الله تعالى، والآيات موضحة لذلك كثيرة جداً كقوله: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، إنه عليم بذات الصدور) وقوله: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) الآية.
قوله تعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) يقول: من كانت الدنيا همه وسدمه وطلبته ونيته، عجل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطره إلى جهنم، قال (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) مذموما في نعمة الله مدحورا في نقمة الله.
وأخرج الطبري بسنده الجيد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (مذموما) ، يقول: ملوما.(3/237)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
قوله تعالى (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) شكر الله لهم حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم.
قوله تعالى (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)
قال الطبري: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سهل بن أبي الصلت السراج، قال: سمعت الحسن يقول: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) قال: كلا نعطى من الدنيا البر والفاجر. ا. هـ.
وإسناده حسن.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) : أي منقوصا وإن الله عز وجل قسم الدنيا بين البر والفاجر والآخرة خصوصا عند ربك للمتقين.
قوله تعالى (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) أي: في الدنيا (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) وإن للمؤمنين في الجنة منازل، وإن لهم فضائل بأعمالهم.
قوله تعالى (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا)
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من طريق بشير بن سلمان، عن سيار أبي حمزة، عن طارق، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصابته فاقة(3/238)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بالموت عاجل أو غنى عاجل".
(واللفظ لأبي داود، قال الترمذي: حسن صحيح غريب، ا. هـ، وصححه الألباني (مسند أحمد 1/407) ، وأبو داود (السنن- ك الزكاة رقم 1645، ب في الإستعفاف) ، والترمذي (السنن رقم 2326- أبواب الزهد، ب ما جاء في هم الدنيا وحبها) ، (صحيح سنن أبي داود رقم 1448) .
وقد استدل ابن كثير بهذا الحديث بعد أن قال: لأن الرب تعالى لاينصرك، بل يكلك إلى الذي عبدت معه، وهو لا يملك لك ضرا ولا نفعا، لأن مالك الضر هو الله وحده، لا شريك له) .
قوله تعالى (وقَضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)
وأخرج الطبري بسنده الجيد طريق علي بن أبي طلحه عن ابن عباس: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) ، يقول: أمر.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه) : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه، فهذا قضاء الله العاجل، وكان يقال في بعض الحكمة: من أرضى والديه: أرضى خالقه، ومن أسخط والديه، فقد أسخط ربه.
قال الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحي بن عيسى، قال: ثنا نصير بن الأشعث، قال: ثنى ابن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبيه. قال: أعطاني ابن عباس مصحفا، فقال: هذا على قراءة أُبي بن كعب قال أبو كريب: قال يحيى: رأيت المصحف عند نصر فيه (ووصى ربك) يعني: وقضى ربك.
ورجاله ثقات إلا يحيى بن عيسى صدوق، وابن حبيب هو عبد الله، وسنده حسن.
قال الشيخ الشنقيطي: وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة: (وبالوالدين إحسانا) بينه بقوله تعالى (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا) لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات ا. هـ.
وقد وردت عدة أحاديث ثابتة في بر الوالدين والإحسان إليهما:(3/239)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
أخرج البخاري بسنده أن ابن مسعود سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الصلاة على وقتها" قال: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".
(الصحيح- الأدب- باب البر والصلة رقم 5970)
وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك".
(الصحيح- كتاب البر والصلة والآداب، ب بر الوالدين رقم 2548) .
وأخرج مسلم بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والدك"؟ قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد".
المصدر السابق رقم 2549.
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رَغمَ أنفُ ثم رَغِمَ أنفُ ثم رَغِمَ أنفُ" قيل من؟ يا رسول الله! قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة".
(الصحيح الكتاب السابق رقم 2551) .
والإحسان إلى الوالدين مطلوب حتى ولو كانا مشركين، وقد عقد البخاري بابا بعنوان: باب صلة الوالد المسلم وساق حديثا بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آصلها قال: نعم.
(الصحيح- الأدب- رقم 5978) .
قوله تعالى (وقل لهما قولا كريما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وقل لهما قولا كريما) : أي قولا لينا سهلا.(3/240)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قوله تعالى (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)
أخرج آدم بن أبي إياس، عن حماد وسليمان بن حبان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: يطيعهما فيما أمره ولا يمتنع من شيء أراداه.
وأخرجه الطبري من طريق سفيان عن هشام به بلفظ: لا تمتنع في شيء يحبانه.
قوله تعالى (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)
أخرج الطبري بسنده الجيد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ثم أنزل الله عز وجل بعد هذا (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) . ا. هـ.
والمراد من قوله: ثم أنزل الله، أي النسخ.
كما ذكر السيوطي في الدر المنثور حيث نقله عن البخاري في الأدب المفرد وأبي داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس.
قوله تعالى (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا)
قال الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي وعمي عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير (ربكم أعلم بما في نفوسكم) قال: البادرة تكون من الرجل إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير، فقال (ربكم أعلم بما في نفوسكم) . ا. هـ.
ورجاله ثقات إلا عم عبد الله بن إدريس وهو داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي ضعيف ولا يضر لأنه مقرون بوالد عبد الله بن إدريس وهو إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي ثقة، والإسناد صحيح. وقد فسر القرطبي البادره بالزلة.
قال الطبري حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت قال: ثنا أبو كدينه وحدثني ابن سنان القزاز، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كدينه، عن عطاء عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (فإنه كان للأوابين غفورا) قال: المسبحين.
(وإسناده حسن وعطاء هو ابن السائب صدوق اختلط، ورواية أبي كدينه وهو يحيى بن المهلب كوفي وروايته عن عطاء قبل الإختلاط) .(3/241)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
أخرج الطبري بسنده الجيد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فإنه كان للأوابين غفورا) ، يقول: للمطيعين المحسنين.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة بلفظ: للمطيعين المصلين.
وأخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد بلفظ: هو الذي يتذكر ذنوبه فيتوب ويراجع.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأواب هو التائب من الذنب، الراجع من معصيه الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه، ا. هـ.
وأيده ابن كثير فقال: وهذا الذي قاله هو الصواب لأن الأواب مشتق من الأوب، وهو الرجوع، آب فلان إذا رجع، قال الله تعالى (إن إلينا إيابهم) سورة الغاشية: 25، وفي سورة الإسراء: 25-26، الحديث الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رجع من سفر قال: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون".
قوله تعالى (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا)
أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك مرفوعاً: "من سره أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه".
(صحيح البخاري- البيوع، ب من أحب البسط في الرزق رقم 2067) ، (وصحيح مسلم- البر والصلة، ب صلة الرحم رقم 2557) .
وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: "لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهر عليهم، ما دمت على ذلك".
المصدر السابق رقم 2558.
قال الإمام أحمد: ثنا هاشم بن القاسم، ثنا ليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من بنى تميم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذوا أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تخرج الزكاة من مالك(3/242)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال: يا رسول الله اقلل لي قال: "فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً" فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها فلك أجرها وإثمها على من بدّلها".
(المسند 3/136) . وسنده حسن وليث هو ابن سعد المصري معروف بالرواية عن خالد بن يزيد المصري، أخرجه الحاكم من طريق الليث به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/360) .
قال الطبري: حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا حبيب المعلم، قال: سأل رجل الحسن، قال: أعطي قرابتي زكاة مالي فقال: إن لهم في ذلك لحقا سوى الزكاة، ثم تلا هذه الآية (وآت ذا القربى حقه) . ا. هـ.
وسنده حسن.
انظر سورة البقرة آية (177) لبيان المسكين وابن السبيل.
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، قال: سئل عبد الله عن البذر، فقال: الإنفاق في غير حق. ا. هـ.
وسنده صحيح ورجاله ثقات. وابن بشار هو محمد، وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري، وسلمة ابن كهيل، وأبو العبيدين معاوية بن سبره، وعبد الله هو ابن مسعود، وأخرجه الحاكم في (المستدرك - كتاب التفسير) من طريق يحي بن الجزار عن أبي العبيدين به وأطول وصححه ووافقه الذهبي.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا تبذر تبذيراً) قال التبذير: النفقة في معصية الله، وفي غير الحق وفي الفساد.
قوله تعالى (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهما قولا ميسورا)
قال الطبري: حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عمارة عن عكرمة في قوله (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) قال: انتظار رزق من الله يأتيك. ا. هـ.
وسنده حسن وعمارة هو ابن أبي حفصة، وعبد الوارث هو ابن سعيد.(3/243)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (ابتغاء رحمة من ربك) ، قال: انتظار رزق الله.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة (فقل لهما قولا ميسورا) قال: عدهم خيرا.
قوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)
قال الطبري حدثنا محمد بن بشار، قال ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن في قوله (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) قال: لا تجعلها مغلولة عن النفقة (ولا تبسطها) : تذر بسرف.
وسنده حسن، وهوذة: ابن خليفة، وعوف هو الأعرابي.
وأخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) ، يعني بذلك البخل.
وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من البخل، والترغيب في النفقة، والصدقة منها:
أخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَت -أو وَفَرَت- على جلده حتى تخفى بنانه وتعفر أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسقها ولا تتسع".
واللفظ للبخاري، (الصحيح- الزكاة، ب مثل المتصدق والبخيل رقم 1443) ، ومسلم في (الصحيح - الزكاة، ب مثل المنفق والبخيل رقم 1021) ، والمعنى أن الصدقة تستر خطاياه كما يغطى الثوب الذي يجر على الأرض أثر صاحبه إذا مش بمرور الذيل عليه ... والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه (انظر فتح الباري 3/306) .
وأخرج مسلم والبخاري بسنديهما عن أسماء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أنفقي ولا تحصى فيحصى الله عليك ولا توعى فيوعى الله عليك".
واللفظ للبخاري. (الصحيح- كتاب الهبة، ب هبة المرأة لغير زوجها رقم 2591) ، ومسلم في (الصحيح- الزكاة، ب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء رقم 1029) ، والمعنى: لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازي بمثل ذلك (فتح الباري 5/218) .(3/244)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
وأخرج الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أُعط ممسكا تلفا".
واللفظ للبخاري. (صحيح البخاري- كتاب الزكاة، ب قول الله تعالى (فأما من أعطى واتقى) رقم 1442) ، ومسلم (الصحيح- الزكاة، ب في المنفق والممسك رقم 1010) ، قال ابن حجر: وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها (فتح الباري 3/305) .
أخرج مسلم بسنده الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك".
(الصحيح 993- الزكاة، ب الحث على النفقة) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) قال: في النفقة، يقول: لا تمسك عن النفقة (لا تبسطها كل البسط) يقول: لا تبذر تبذيراً (فتقعد ملوما) في عباد الله (محسورا) يقول: نادما على ما فرط منك.
وانظر سورة الفرقان آية (67) .
قوله تعالى (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا)
قال ابن كثير: وقوله (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) : إخبار أنه تعالى هو الرازق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغنى من يشاء ويفقر من يشاء، بما له في ذلك من الحكمة، ولهذا قال: (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) ، أي: خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر.(3/245)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
قوله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن مسعود قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قالا: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قلت إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: "وإن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك ... ".
(الصحيح رقم 4477- التفسير، ب قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (خشية إملاق) يقول: الفقر.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) : أي خشية الفاقة، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة، فوعظهم الله في ذلك، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله، فقال: (نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خِطأ كبيرا) .
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة قال: أخبرنا في قوله (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) قال: كانوا يقتلون البنات خشية الفاقة.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (خِطأ) ، أي: خطيئة.
قوله تعالى (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا)
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، ثنا جرير، ثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا مه مه فقال: إدنه، فدنا منه قريباً، فقال: اجلس فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، افتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال:(3/246)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر له ذنبه، وطهر قلبه وحصن فرجه" قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
(المسند 5/256، 257) . ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وقد وقع تصحيف باسم حريز فورد بلفظ جرير، وحريز هو ابن عثمان الرحبي معروف بالرواية عن سليم بن عامر الكلاعي وبرواية يزيد بن هارون عنه كما في ترجمته في تهذيب التهذيب وأخرجه الطبراني من طريق حريز به (المعجم الكبير 8/190 ح 7679) ، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (المجمع 1/129) ، وقال العراقي: رواه أحمد بإسناد جيد ورجاله رجال الصحيح (تخريج إحياء علوم الدين 3/1362 ح 2052) ، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة ح 370) .
قوله تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا)
أخرج البخاري ومسلم مرفوعاً: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه، والمفارق للجماعة".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) وإنا والله ما نعلم بحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث، إلا رجلاً قتل متعمدا، فعليه القود أو زاني بعد إحصانه فعليه الرجم أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل.
وبه قوله (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وهو القود الذي جعله الله تعالى.
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن طلق بن حبيب، في قوله (فلا يسرف في القتل) قال: لا تقتل غير قاتله، ولا تمثل به.
ورجاله ثقات وإسناده صحيح، وابن بشار هو محمد، وعبد الرحمن: بن مهدي، وسفيان الثوري، ومنصور: ابن المعتمر. وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه نهى عن المثلة (انظر صحيح سنن أبي داود ح 2322) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (فلا يسرف في القتل) يقول: لا تقتل غير قاتلك، ولا تمثل به (إنه كان منصورا) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (إنه كان منصورا) قال: هو دفع الإمام إليه، يعني إلى الولي، فإن شاء قتل، وإن شاء عفا.
وانظر حديث ابن ماجة عن البراء: "لزوال الدينا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ... "، في سورة النساء آية (93) .(3/247)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلع أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا)
قال ابن كثير: يقول تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) أي لا تتصرفوا له إلا بالغبطة (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) .
أخرج مسلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي ذر: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم".
وقد تحرج الصحابة رضي الله عنهم عندما نزلت هذه الآية فعزلوا طعامهم وشرابهم من طعام وشراب اليتامى وذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل قوله تعالى (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) سورة البقرة من آية: 220، وتقدم تفسيرها هناك.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) قال: كانوا لا يخالطونهم في المال ولا مأكل ولا مركب، حتى نزلت (وإن تخالطوهم فإخوانكم) .
ومن صفات المؤمنين الوفاء بالعهد حيث قال تعالى (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) سورة المؤمنون: 8، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد وبعهده فقال (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) آل عمران: 76، (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) سورة النحل: 91، وحث ورغب في ذلك فقال (ومن أوفى بما عاهد الله عليه فسيؤتيه أجرا عظيما) سورة الفتح: 10، وحذر من مغبة نقض عهده فقال (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) الرعد: 25، ووبخ وعاب على المخالفين من بني إسرائيل فقال (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) سورة البقرة: 100.(3/248)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
قوله تعالى (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قال (القسطاس) هو: الميزان العدل بالرومية.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ذلك خير وأحسن تأويلا) ، قال: عاقبة وثوابا.
قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)
قال الشيخ الشنقيطي: نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ماليس له به علم، ويشمل ذلك قوله: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم، ويدخل فيه كل قول بلا علم، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم، وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر كقوله: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقوله: (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقوله (يا أيها الذين آمنوا إن بعض الظن إثم) الآية، وقوله: (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) ، وقوله: (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وقوله: (وما لهم به من علم إلا اتباع الظن) وقال أيضاً: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ، فيه وجهان من التفسير:
الأول- إن معنى الآية: إن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله (ولتسألن عما كنتم تعملون) وقوله (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) ، ونحو ذلك من الآيات.(3/249)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
والوجه الثاني- أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل، قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي كما قال: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) وقوله (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأول أظهر عندي وهو قول الجمهور. ا. هـ.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن طريق علي بن أبي طلحة عن أبي عباس قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) يقول: لا تقل.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا تقف) ولا ترمِ.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) قال: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.
قال ابن كثير: ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى (اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) سورة الحجرات آية: 12. وفي الحديث: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث".
أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة (صحيح البخاري- النكاح، ب لايخطب على خطبة أخيه رقم 5143) ، (وصحيح مسلم- البر، ب تحريم الظن والتجسس رقم 2563) .
وفي الحديث الآخر: "من أفرى الفرى أن يُرِيَ عينه ما لم تر".
أخرجه البخاري من حديث ابن عمر (الصحيح- التفسير، ب من كذب في حلمه رقم 7042) .
وفي الصحيح: "من تحلم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، وليس بعاقد".
أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (المصدر السابق رقم 7043) .(3/250)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
قوله تعالى (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)
قال الشيخ الشنقيطي: وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله عن لقمان مقررا له (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك) الآية، وقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) الآية.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ولا تمش في الأرض مرحا) قال: لا تمش كبرا ولا فخرا فإن ذلك لا يبلغ بك أن تبلغ الجبال طولا ولا أن تخرق الأرض تكبرا وفخرا.
قال ابن كثير: وقوله (ولن تبلغ الجبال طولا) أي: بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح: "بينا رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".
(صحيح البخاري- ك اللباس، ب من جر ثوبه من الخيلاء 10/258 ح 5789) ، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (الصحيح- اللباس، ب تحريم التبختر في المشي رقم 2088 وما بعده) .
وقال ابن كثير: وكذلك أخبر الله عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وإن الله تعالى خسف به وبداره الأرض. ا. هـ.
قوله تعالى (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولاتجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا)
في بداية هذه الآية إشارة إلى ما تقدم من التنزيل الذي ورد فيه بعض الأحكام والأخلاق الحميدة والمراد بالحكمة ها هنا: القرآن بدليل آيات كثيرة منها قوله تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) سورة يوسف: 3، وقوله (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه) سورة فاطر: 31، وقوله (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا) سورة الشورى: 7، وقوله (وأوحي إلي هذا القرآن) سورة الأنعام: 19.(3/251)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (ملوما مدحورا) يقول: مطرودا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ملوما مدحورا) : ملوماً في عبادة الله مدحورا في النار.
قوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما)
قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ففد جعلوا له الأولاد ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها هو الإناث وهم لا يرضونها لأنفسهم وقد بين الله في هذا المعنى آيات كثيرة كقوله (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى) وقوله (أم له البنات ولكم البنون) وقوله (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء) . ا. هـ.
وقال أيضاً: وقوله في هذه الآية الكريمة (إنكم لتقولون قولا عظيما) . بين فيه أن ادعاء الأولاد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً، أمر عظيم جداً، وقد بين شدة عظمته بقوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) .
قوله تعالى (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا)
لقد زاد الله تعالى هذه الآية بيانا في قوله تعالى (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) آية: 98 من هذه السورة.
وانظر سورة الروم آية (58) لمزيد من البيان.
قوله تعالى (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً)
قال الشيخ الشنقيطي: وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير كلاهما حق ويشهد له قرآن:(3/252)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
الأول: أن معنى الآية الكريمة: لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا -أي الآلهة المزعومة- أي لطلبوا إلى ذي العرش -أي إلى الله سبيلا- أي إلى مغالبته وإزالة ملكه لأنهم إذا يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) وقوله (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) وهذا المعنى في الآية مروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي علي الفارسي والنقاش وأبي المنصور وغيره من المتكلمين.
الوجه الثاني: في معنى الآية الكريمة: أن معنى لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا أي طريقا ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله ويدل لهذا المعنى قوله تعالى (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) الآية، ويروى هذا القول عن قتادة، واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره، ولاشك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه بل تنازعه لو كانت موجودة ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. ا. هـ.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) قال: لا بتغوا التقرب إليه مع أنه ليس كما يقولون.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) يقول: لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم، فابتغوا ما يقربهم إليه.(3/253)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
قوله تعالى (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان وقال تعالى (عما يقولون علوا) ولم يقل: تعاليا كما قال (وتبتل إليه تبتيلا)
قوله تعالى (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا)
قال ابن كثير: وقوله (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس لأنها بخلاف لغتكم، وهذا عام في النبات والجماد والحيوانات وهذا أشهر القولين كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
(صحيح البخاري- المناقب، ب علامات النبوة ح 3579) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) قال كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة أو شيء فيه الروح.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (أنه كان حليما) عن خلقه فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض (غفورا) لهم إذا تابوا.
قال الإمام أحمد: ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت الصقعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج -أو مزررة بديباج- فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع ويضع كل رأس ابن رأس فقام إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مغضبا فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال: لا أرى عليك ثياب من لا يعقل ثم رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجلس فقال: إن نوحاً عليه السلام لما حضرته(3/254)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
الوفاة دعا ابنيه فقال إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك بالله والكبر وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما بينهما لوضعت كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضت لا إله إلا الله عليهما لفصمتهما أو لقصمتهما وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء.
(المسند 2/225) ، ورجاله ثقات إلا والد وهب وهو جرير بن حازم الأزدي ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه ولكنه توبع حيث رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن زيد عن الصقعب به وأطول (المسند 2/169، 170) ، فسنده صحيح وصححه ابن كثير (البداية 1/119) وقال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات (مجمع الزوائد 4/219-220) وصححه محققو مسند أحمد بإشراف أ. د. عبد الله التركي (11/150 ح 6583) . وأخرجه الحاكم من طريق الصقعب به، وصححه، ووافقه الذهبي (المستدرك 1/48-49) .
قوله تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)
قال الحافظ ابن حجر: روى البزار بإسناد حسن عن ابن عباس قال: لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب، فقال أبو بكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو تنحيت، قال إنه سيحال بيني وبينها، فأقبلت فقالت: يا أبا بكر هجاني صاحبك، قال: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يفوه به، قالت: إنك لمصدق، فلما ولت قال أبو بكر: ما رأتك، قال: ما زال ملك يسترني حتى ولت.
وأخرجه الحميدي وأبو يعلى وابن أبي حاتم من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه (فتح الباري 8/738) .
وهذا حديث أسماء: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو موسى الهروى إسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان، عن الوليد بن كثير، عن يزيد بن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: لما نزلت (تبت يدا أبي لهب) .
جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة والولولة: البلبلة والدعاء بالويل، وفي يدها فهر
وهي تقول: مذمما أتينا -أو: أبينا، قال أبو موسى: الشك مني- ودينه قلينا، وأمره عصينا، ورسول الله جالس، وأبو بكر إلى جنبه -أو قال: معه- قال:(3/255)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا خائف أن تراك، فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآنا اعتصم به منها: "وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجابا مستوراً". قال: فجاءت حتى قامت على أبي بكر، فلم تر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجانى، فقال أبو بكر: لاورب هذا البيت ماهجاك، قال: فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش إني بنت سيدها. ا. هـ.
ذكره ابن كثير، وأخرجه الحاكم من طريق بشر بن موسى الحميدي عن سفيان به، وصححه ووافقه الذهبي. (المستدرك 2/362) .
قال الشيخ الشنقيطي: في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير:
الأول: أن المعنى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا أي حائلا وستارا من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به وعلى هذا القول -فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة كقوله (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) وقوله (ختم الله على قلوبهم) الآية وقوله (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) الآية إلى غير ذلك من الآيات وممن قال بهذا القول في معنى الآية: قتادة والزجاج وغيرهما الوجه الثاني في الآية- أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه، ا. هـ. ثم استدل بحديث أسماء المتقدم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ححابا مستورا) قال: هي الأكنة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم.(3/256)
قوله تعالى (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة، -جمع كنان- وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، لئلا يفقهوا القرآن، أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن أي فهم معانيه فهماً ينتفع به صاحبه، وأنه جعل في آذانهم وقرا أي صمماً وثقلا لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع وبين في مواضع أخر سبب الحيولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم، فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) .. الآية، وقوله (بل طبع الله عليها بكفرهم ... ) .
قوله تعالى (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا) وإن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، فصافها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال: "لا إله إلا الله" ولى الكافرون على أدبارهم نفورا بغضا منهم لكلمة التوحيد ومحبة للإشراك به جل وعلا، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر مبينا أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار كقوله (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) ، وقوله (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير) وقوله (إنهم كانوا(3/257)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون آئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) ، وقوله (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) الآية، وقوله (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) وقوله (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) .
قوله تعالى (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتعبون إلا رجلاً مسحورا)
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد: (إذ يستمعون إليك) قال: هي مثل قيل الوليد بن المغيرة، ومن معه في دار الندوة.
وقد بين قتادة قيل الوليد بن المضرة فأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون) الآية ونجواهم أن زعموا أنه مجنون وأنه ساحر وقالوا (أساطير الأولين) .
قوله تعالى (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا)
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (فلا يستطيعون سبيلا) قال: مخرجا الوليد بن المضرة وأصحابه أيضاً.
قوله تعالى (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقاً جديدا)
قال ابن كثير: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أئنا لمبعوثون) أي يوم القيامة (خلقاً جديدا) أي بعدما بلينا وصرنا عدما لا يذكر كما أخبر عنهم في الموضع الآخر (يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذن كرة خاسرة) النازعات: 10-12. قال تعالى (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل شيء عليم) سورة يس: 78-79.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا) ، يقول: غبارا.
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري عن مجاهد يقول الله (رفاتا) قال: ترابا.(3/258)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
قوله تعالى (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا)
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (كونوا حجارة أو حديدا أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) قال: ما شئتم، فسيعيدكم الله كما كنتم.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) قال: من خلق الله، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقاً جديدا.
قال الطبري: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن أبي عمر (أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) قال: الموت، قال: لو كنتم موتى لأحييتكم.
ورجاله ثقات إلا زكريا وعطية صدوقان، وعطية هو ابن سعد العوفي يخطىء كثيرا معروف بالرواية عن ابن عمر وبرواية إدريس الأودي عنه ولكن روايته ليست من مظان خطئه، حيث أخرجه الطبري بأسانيده يقوى بعضها بعضا من قول ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبي صالح وقول ابن عباس أخرجه الحاكم في (المستدرك- كتاب التفسير، من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه به.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) قال: السماء والأرض والجبال.
وبه عن قتادة (قل الذي فطركم أول مرة) أي خلقكم (فسينغضون إليك رءوسهم) يقول: فإنك إذا قلت لهم ذلك فسيهزون إليك رءوسهم برفع وخفض، وفي رواية أخرى عنه بلفظ: يحركون به رءوسهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فسينغضون إليك رءوسهم) يقول يهزءون.
قال ابن كثير: وقوله (ويقولون متى هو) إخبار عنهم بالاستبعاد، منهم لوقوع ذلك، كما قال تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) سورة الملك: 25، وقال تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) سورة الشورى: 18.(3/259)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
قوله تعالى (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) يقول: بأمره.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) أي: بمعرفته وطاعته.
قال ابن كثير وقوله (يوم يدعوكم) أي: الرب تعالى (إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) سورة الروم: 25، أي: إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يخالف ولا يمانع، بل كما قال: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) سورة القمر: 50، (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) سورة النحل: 40، وقال (فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة) سورة النازعات: 13-14، أي: إنما أمر واحد بانتهار فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها كما قال: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) أي: تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً) : أي في الدنيا، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلت، حين عاينوا يوم القيامة.
قوله تعالى (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)
قال الطبري: حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر، قال: أخبرنا المبارك عن الحسن في هذه الآية (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) قال: التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله، يقول له يرحمك الله يغفر الله لك. ا. هـ.
وسنده حسن، والنضر بن شميل، والمبارك هو ابن فضالة، والحسن هو البصري.
وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الكلمة الطيبة صدقة".(3/260)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار".
(صحيح البخاري- الفتن، ب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من حمل السلاح فليس منا" رقم 2707) ، (وصحيح مسلم- البر، ب النهي عن الإشارة بالسلاح رقم 2617) .
وانظر سورة الأعراف آية (200) .
قوله تعالى (وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داوود زبورا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وآتى داوود زبورا كنا نحدث دعاء علمه داود، تحميد وتمجيد، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنب وما تأخر.
قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داود زبورا)
بينه الله تعالى بقوله (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) .
قال ابن كثير: وهذا لا ينافي ما في الصحيحين عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا بمقتضي الدليل فإذا دل الدليل على شيء وجه اتباعه ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولي العزم منهم أفضلهم وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) .
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خفف على داود عليه السلام القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه".
(الصحيح- الأنبياء، ب قوله تعالى (وآتينا داود زبورا) رقم 3417) .(3/261)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قوله تعالى (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا)
قال الشيخ الشنقيطي: وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عباده وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا - بينه أيضاً في مواضع أخر كقوله في سورة سبأ (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، وقوله في الزمر: (أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) .
قوله تعالى (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا)
أخرج البخاري بسنده عن ابن مسعود (إلى ربهم الوسيلة) قال: كان ناس من الأنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم.
(الصحيح- التفسير- سورة الإسراء رقم 4714) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (الوسيلة) قال: القربة والزلفة.
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قوله (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) يقول عيسى وعزير والملائكة يقول: إن هؤلاء يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
قوله تعالى (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا)
قال ابن كثير: هذا إخبار من الله بأنه قد حتم وقضى بما قد كتبه عنده في اللوح المحفوظ: أنه ما من قرية إلا سيهلكها، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم (عذاباً شديدا) ، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب(3/262)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
ذنوبهم وخطاياهم، كما قال عن الأمم الماضين: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) سورة هود: 101، وقال تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذاباً نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) سورة الطلاق: 7-8.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (إلا نحن مهلكوها) : مبيدوها (أو معذبوها) يعني بالقتل وبالبلاء ما كان يقول: فكل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا قبل يوم القيامة.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها) قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بد إما أن يهلكها بموت وأما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله.
قوله تعالى (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)
قال الإمام أحمد: ثنا عثمان بن محمد، ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر ابن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحى الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له إن شئت: تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم قال: لا بل استأن بهم وأنزل الله: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة) .
(المسند 1/258) وأخرجه النسائي والحاكم والبيهقي من طريق إسحاق بن راهويه عن جرير به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند، انظر (تفسير النسائي رقم 310) و (المستدرك 2/362) و (دلائل النبوة 2/271) و (مسند أحمد رقم 2333) وصححه محققو مسند أحمد بإشراف أ. د. عبد الله التركي (ح 2333) .
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحا لا لبس فيه، فظلموا بها، ولم يبين ظلمهم بها ها هنا ولكنه أوضحه في مواضع أخر كقوله(3/263)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
(فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم) الآية، وقوله (فكذبوه فعقروها) الآية، وقوله (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) .
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قول الله عز ذكره (الناقة مبصرة) ، قال: آية.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) وإن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون أو يذكرون أو يرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه.
وذكر ابن كثير قول قتادة ثم قال: وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر ابن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم والله لأن عادت لأفعلن ولأفعلن وكذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه. ا. هـ. ثم ذكر الحديث وهذا لفظ البخاري عن عائشة مرفوعا: "أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ثم قال: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا.
أخرجه الشيخان (صحيح البخاري- الكسوف، ب الصدقة في الكسوف رقم 1044) ، (وصحيح مسلم- الكسوف، ب صلاة الكسوف رقم 901) .
قوله تعالى (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخبر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أحاط بالناس أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم، قال بعض أهل العلم: ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة، قوله تعالى (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وقوله (قل للذين كفروا ستغلبون) الآية، وقوله (والله يعصمك من الناس) ، وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني، أما آية القمر وهي قوله: (سيهزم الجمع) الآية، فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية.(3/264)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قال الطبري: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول: أحاط بالناس، عصمك من الناس. ا. هـ.
ورجاله ثقات، وإسناده صحيح وعبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، وأبو رجاء محمد بن سيف الأزدي.
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) ، قال: منعك من الناس.
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (أحاط بالناس) قال: فهم في قبضته.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة أسري به، والشجرة الملعونة في القرآن قال: شجرة الزقوم.
(الصحيح- التفسير، ب (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) رقم 4716) .
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى والشجرة الملعونة في القرآن، قال: الزقوم. قال: وذلك أن المشركين قالوا: يخبرنا محمد أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر ولا تدع منه شيئاً، فذلك فتنة لهم. ا. هـ.
قال ابن حجر بعد أن ذكر قول قتادة: وقال السهيلي الزقوم فعول من الزقم وهو اللقم الشديد وفي لغة تميمة: كل طعام يتقيأ منه يقال له زقوم، وقيل: هو كل طعام ثقيل. (فتح الباري 8/399) .
قال الشيخ الشنقيطي: التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة: أن جل وعلا جعل ما أراه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس لأن عقول بعضهم ضاقت على قبول بعض ذلك معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقاً قالوا: كيف يصلي ببيت المقدس ويخترق السبع الطباق ويرى ما رأى في ليلة واحدة ويصبح في محله بمكة هذا محال فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به واعتقادهم أنه لا يمكن وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس لأنهم لما سمعوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) قالوا: ظهر كذبه لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار فصار ذلك فتنة وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة(3/265)
فتنة لهم في قوله (أذلك خيرا نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) الآية ... أشار في موضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم وهو قوله (أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى) .
وانظر سورة آل عمران آية (102) حديث الترمذي عن ابن عباس وفيه: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم ... ".
قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس (أأسجد لمن خلقت طينا) يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر فصرح بهما معا في سورة البقرة في قوله (إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين) وصرح بإبائه في سورة الحجر بقوله (إلا إبليس أبي أن يكون من الساجدين) وباستكباره في سورة ص، بقوله (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) وبين سبب استكباره بقوله (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) كما تقدم إيضاحه في سورة البقرة.
قوله تعالى (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) يقول لأستولين.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) يعني: لأحتوين.
قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله (لأحتنكن ذريته) الآية، بينه أيضاً في مواضع أخر من كتابه كقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ(3/266)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) وقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه في سورة النساء وغيرها، وقوله في هذه الآية (إلا قليلاً) بين المراد بهذه القليل في مواضع أخر كقوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجميعن إلا عبادك منهم المخلصين) كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) عذاب جهنم جزاؤهم ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد: (موفورا) قال وافرا.
قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة بينه أيضاً في مواضع أخر كقوله (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) وقوله: (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) .
قوله تعالى (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال صوته كل داع دعا إلى معصية الله.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال: بدعائك (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) قال: إن له خيلا ورجلاً من الجن والإنس هم الذين يطيعونه.(3/267)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) قال: خيله كل راكب في معصية الله ورجله كل راجل في معصية الله.
وبه عن ابن عباس (وشاركهم في الأموال والأولاد) قال كل مال في معصية الله.
وبه عن ابن عباس (وشاركهم في الأموال والأولاد) قال ما قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام.
أخرج آدم بن إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد قال: أما شركته في الأموال فأكلها بغير طاعة الله وأما في الأولاد فالزنا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله تعالى (وشاركهم في الأموال والأولاد) قال: قد فعل: أما في الأموال فأمرهم أن يجعلوها بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا، وأما في الأولاد فإنهم هودوهم ونصّروهم ومجسوهم.
أخرج مسلم بسنده عن عياض بن حمار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم".
(الصحيح ح 2865- الجنة، ب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار) .
أخرج الشيخان بسنديهما عن ابن عباس مرفوعاً: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فرزقا ولدا لم يضره الشيطان".
واللفظ للبخاري. (الصحيح- بدء الخلق ب صفة إبليس وجنوده رقم 3271) ، (وصحيح مسلم- النكاح، ب ما يستحب أن يقوله عند الجماع رقم 1434) .
قال الشيخ الشنقيطي: أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف منها ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له كالبحائر والسوائب ونحو ذلك وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعا كالربا والغصب وأنواع الخيانات لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له، وأما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضاً: منها: قتلهم بعض أولادهم طاعة له، ومنها: أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم(3/268)
طاعة له وموالاة، ومنها: تسمية أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيدا لغير الله طاعة له ومن ذلك أولاد الزنى لأنهم إنما تسببوا وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين آيات من كتابه بعض ما تضمنته هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد كقوله (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته، وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكورة في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضاً وكقوله (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) الآية، وكقوله (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لايطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لايذكرون اسم الله عليها إفتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) .
قال ابن كثير وقوله: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان في عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) الآية، سورة إبراهيم: 22.
قال الشيخ الشنقيطي: وقوله (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة، وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) وقوله (ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور) .(3/269)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
قوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) وعباده المؤمنون وقال الله في آية أخرى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) .
أخرج سفيان بن عيينه في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا على شرط الصحيح (فتح الباري 8/391) .
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً قال: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم -إذا هو نام- ثلاث عقد يضرب كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإذا صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.
(صحيح البخاري- بدء الخلق ب صفة إبليس وجنوده رقم 3269-3291) .
وأخرج أيضاً بسنده عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "إذا مر بين أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه فإن أبي فليمنعه فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان..".
وأخرج أيضاً بسنده عن جابر مرفوعاً قال: "إذا استجنح الليل -أو كان جُنحُ الليل- فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله واطفىء مصباحك واذكر اسم الله وأوك سقاؤك واذكر اسم الله وحمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئاً".
وأخرج أيضاً بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا نودى بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضى أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول: اذكر كذا وكذا، حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا، فإذا لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا سجد سجدتى السهو".(3/270)
وأخرج بسنده عن أبي هريُرْة مرفوعا قال: "التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردد ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال ها ضحك الشيطان".
وأخرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفات الرجل في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلس الشيطان من صلاة أحدكم".
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عباده الصالحين لاسلطان للشيطان عليهم فالظاهر أن في هذه الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضاً آيات أخر كقوله (إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) .
قوله تعالى (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) يقول: يجري الفلك.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) قال: يسيرها في البحر.
قوله تعالى (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لاتجدوا لكم وكيلا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لاخلاص لهم من ذلك - ضل عنهم أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا،(3/271)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده لعلمهم أنه لاينقذ من ذلك من الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر كما قال تعالى (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً) وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة كقوله (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذا لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبتغون في الأرض بغير الحق) وقوله (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) وقوله (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وقوله (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) وقوله (واذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا حوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) يقول: حجارة من السماء (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) أي: منعة ولا ناصرا.
قوله تعالى (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) يقول: عاصفا.
وبه عن ابن عباس قوله (ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا) يقول: نصيرا.(3/272)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
وأخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (تبيعا) يعني: ثائرا نصيرا.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك.
قوله تعالى (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) أي: يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه وغيره من الحيوانات يمشى على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية الدنيوية.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وحملناهم في البر والبحر) الآية، أي في البر على الأنعام وفي البحر على السفن، والآيات الموضحة على ذلك كثيرة جدا كقوله (وعليها وعلى الفلك تحملون) وقوله (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك ما تركبون) وقد قدمنا هذا مستوفي بإيضاح في سورة النحل.
قوله تعالى (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (بإمامهم) ، قال: نبيهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة بلفظ: أنبيائهم.
قال الشيخ الشنقيطي: ويدل لهذا القول قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وقوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) وقوله (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) الآية، وقوله (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء) الآية.(3/273)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) بكتابهم.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن الحسن بلفظ: بكتابهم الذي فيه أعمالهم.
قال الشيخ الشنقيطي: ويدل هذا قوله تعالى (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وقوله (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) وقوله (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) الآية، وقوله (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) . ا. هـ.
قال ابن كثير: وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) سورة يس آية: 12، وقال تعالى (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) سورة الكهف: 49، وقال تعالى (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) سورة الجاثية آية: 28-29، وهذا لاينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لابد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها كما قال (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيبن والشهداء) سورة الزمر آية: 69، وقال (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) سورة النساء آية: 41، ولكن المراد ها هنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولهذا قال تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم) أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويجب قراءته كما قال تعالى (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقروا كتابيه إني ظنت أني ملاق حسابيه) إلى أن قال (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدري ما حسابيه) سورة الحاقة الآيات 19-20.(3/274)
قال الشيخ الشنقيطي: وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرءونه ولا يظلمون فتيلا، وقد أوضح هذا في مواضع أخر كقوله (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه) إلى قوله (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) .
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (ولا يظلمون فتيلا) قال الذي في خلق النواة.
قوله تعالى (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)
قال الشيخ الشنقيطي: المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة عمى القلب لا عمى العين ويدل لهذا قوله تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) لأن عمى العين مع أبصار القلب لا يضر بخلاف العكس فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه قال تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى) .
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ومن كان في هذه أعمى) يقول من عمي من قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى.
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (في هذه أعمى) قال: الدنيا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) قال: في الدنيا أعمى عما أراه الله من آياته من خلق السموات والأرض والجبال والنجوم (فهو في الآخرة) الغائبة التي لم يرها (أعمى وأضل سبيلا) .
أخرج عبد الرزاق والطبري من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى (فهو في الآخرة أعمى) قال: أعمى عن حجته في الآخرة.
وإسناده صحيح.(3/275)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قوله تعالى (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا)
قال الشيخ الشنقيطي: ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار كادوا يفتنونه أي قاربوا ذلك ومعنى يفتنوك: يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك ... وبين في موضع آخر: أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحى إليه، وأنه امتنع أشد الامتناع وقال لهم: إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه بل يتبع ما أوحي إليه ربه، وذلك في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) .
قوله تعالى (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قول الله (ضعف الحياة) قال: عذابها (وضعف الممات) قال: عذاب الآخرة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى: (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وأخرجه أيضاً عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن أبي الشعثاء بنحوه، وسنده صحيح.
قال الشيخ الشنقيطي: وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه لو خالف نبيه في غير هذا الموضع كقوله (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) الآية.
قوله تعالى (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً)
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ليستفزونك من الأرض) قال: قد فعلوا بعد ذلك فأهلكهم الله يوم بدر فلم يلبثوا بعده إلا قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر كذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. ا. هـ،(3/276)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
وهذا القول مرسل لكن يتقوى بمرسل آخر أخرجه آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً) قال: لو أخرجت قريش محمداً لعذبوا بذلك. قال الطبري بعد أن ذكر هذا القول وقولا آخر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول قتادة ومجاهد وذلك أن قوله (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) في سياق خبر الله عز وجل عن قريش وذكره إياهم.
قوله تعالى (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم لم يناظروا أن الله أنزل عليهم عذابه.
قوله تعالى (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا)
أخرج الطبري بأسانيد يقوي بعضها بعضاً عن ابن عباس وابن مسعود (دلوك الشمس) غروبها.
وأخرجه الحاكم في المستدرك- كتاب التفسير- من قول ابن مسعود وصححه ووافقه الذهبي.
وأخرج الطبري أيضاً بأسانيد صحيحه عن ابن عباس وابن مسعود (دلوك الشمس) زوالها وميلها وأخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ: زوالها.
وسنده صحيح (موطأ مالك رواية الشيباني رقم 1006) .
قال الطبري وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني بقوله (أقم الصلاة لدلوك الشمس) صلاة الظهر وذلك أن الدلوك في كلام العرب الميل يقال منه دلك فلان إلى كذا: إذا مال إليه. ا. هـ.
ويؤيد هذا أنه ثبت عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يصلى الظهر عند دلوك الشمس ...
أخرجه أبو يعلى في (المسند 7/76 ح 4004) ، والضياء في (المختارة 4/405) ، وحسنه الهيثمي (المجمع 1/304) ، وصححه الألباني في (الإرواء 1/281) .
قال الشيخ الشنقيطي: قد بينا في سورة النساء أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي أشارت لأوقات الصلاة لأن قوله (لدلوك الشمس) أي لزوالها على التحقيق(3/277)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
فيتناول وقت الظهر والعصر بدليل الغاية إلى قوله (إلى غسق الليل) أي ظلامه وذلك يشمل وقت المغرب والعشاء وقوله (وقرآن الفجر) أي صلاة الصبح ...
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً قال: فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) .
(الصحيح- التفسير، ب إن قرآن الفجر كان مشهودا رقم 4717) .
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة باليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إلى الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟. فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون".
واللفظ للبخاري، (الصحيح- مواقيت الصلاة، ب فضل صلاة العصر رقم 555) ، (وصحيح مسلم- الصلاة، ب فضل صلاتي الصبح والعصر رقم 6323) .
قوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
(الصحيح- الصيام، ب فضل صوم المحرم رقم 1163) .
أخرج الطبري بأسانيد يقوي بعضها بعضاً عن الحسن البصري وعلقمة والأسود الكوفيين التهجد بعد نومه، وهو لفظ الكوفيَين.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (نافلة لك) تطوعا وفضيلة.
وأخرج البخاري بسنده عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
(وجثا جمع جثوة، وجاث: وهو الذي يجلس على ركبتيه)(3/278)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
أخرج البخاري بسنده عن أنس مرفوعا قال: يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيئ، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول لست هناكم -ويذكر ذنبه فيستحي- ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتونه فيقول: لست هناكم -ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحي فيقول- ائتوا خليل الرحمن. فيأتونه، فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة، فيأتونه فيقول: لست هناكم -ويذكر قتل النفس بغير نفس- فيستحي من ربه فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة. ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي -مثله- ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة. ثم أعود للثالثة، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود.
(الصحيح- التفسير سورة البقرة، ب وعلم آدم الأسماء كلها رقم 4476) .
وأخرج أيضاً بسنده عن جابر بن عبد الله مرفوعاً قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة".
(الصحيح- التفسير، ب (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) رقم 4718 و4719) .
قال الطبري حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة، قال: يجمع الناس في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما(3/279)
لا تكلم نفس إلا بإذنه ينادي: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدى من هديت، عبدك وابن عبدك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب هذا البيت، فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى. ا. هـ.
وأخرجه النسائي من حديث حذيفة وصححه ابن حجر (فتح الباري 8/399، 400) ، وأخرجه عبد الرزاق والحاكم من طريق أبي إسحاق به، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/363) .
وأخرج مسلم بسنده الصحيح عن أبي هريرة مرفوعاً: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع".
(الصحيح- الفضائل، ب تفضيل نبينا رقم 2278) .
وتقدم حديث أنس بن مالك في تفسير آية الكرسي وفيه الشفاعة والإذن بها.
قوله تعالى (وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد في قوله (وقل رب أدخلني مدخل صدق) يقول: فيما أرسلتني به من أمرك (وأخرجني مخرج صدق) فيما أرسلتني به من أمرك أيضاً (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) يعني حجة بينه.
وأخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن الحسن في قوله تعالى (مخرج صدق) من مكة إلى المدينة ومدخل صدق قال: الجنة.
قوله تعالى (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)
أخرج البخاري بسنده عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) . (جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد) .
(الصحيح- التفسير، ب جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا رقم 4720) .(3/280)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا أن الباطل كان زهوقا، أي مضمحلا غير ثابت في كل وقت، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع، وذكر أن الحق يزيل الباطل ويذهبه كقوله: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) وقوله (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (وقل جاء الحق) قال القرآن (وزهق الباطل) قال: هلك الباطل وهو الشيطان.
وأخرج أيضاً بسنده الجيد عن ابن عباس (إن الباطل كان زهوقا) يقول: ذاهبا.
قوله تعالى (وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)
قال الشيخ الشنقيطي: قد قدمنا في أول سورة البقرة الآيات المبينة لهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة كقوله: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) وقوله: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (ولا يزيد الظالمين) به (إلا خسارا) أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
قوله تعالى (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر كان يئوسا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا أنعم على الإنسان بالصحة والعافية والرزق أعرض عن ذكر الله وطاعته، ونأى بجانبه(3/281)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
أي تباعد عن طاعة ربه فلم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه ... وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله في سورة هود: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى انه لفرح فخور) وقوله في آخر فصلت (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) وقوله في سورة الروم (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) ، وقوله فيها أيضاً (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) ... وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله في سورة هود: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) . ا. هـ.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ونأى بجانبه) قال: تباعد منا.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذا مسه الشر كان يئوسا) يقول قنوطا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإذا مسه الشر كان يئوسا) يقول: إذا مسه الشر أيس وقنط.
قوله تعالى (قل كل يعمل على شاكلته فربكم هو أعلم بمن هو أهدى سبيلا)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (كل يعمل على شاكلته) يقول: على ناحيته.(3/282)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (قل كل يعمل على شاكلته) قال: على طبيعته على حدته.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قل كل يعمل على شاكلته) يقول: على ناحيته وعلى ما ينوي.
قوله تعالى (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)
أخرج الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث -وهو متكي على عسيب- إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح فقال: "مارابكم إليه" -وقال بعضهم لا يستقبلكم بشيء تكرهونه- فقالوا سلوه فسألوه عن الروح فأمسك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يرد عليهم شيئاً فعلمت أنه يوحي إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي" قال (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
واللفظ للبخاري، (صحيح البخاري- التفسير، ب ويسألونك عن الروح رقم 4721) ، (وصحيح مسلم- صفة القيامة والجنة والنار، ب سؤال اليهود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الروح رقم 2796) . قال ابن حجر بعد أن ذكر الحديث: وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) .
ورجاله رجال مسلم. ا. هـ، وأخرجه أحمد من الطريق المذكور وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني. (انظر فتح الباري 8/401، ومسند أحمد 1/255، ومن الترمذي التفسير رقم 3140، وصحيح سنن الترمذي رقم 2510) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (ويسئلونك عن الروح) قال: هو جبرئيل.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويسئلونك عن الروح) قال الروح: ملك.(3/283)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) يعني: اليهود.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلا بالنسبة إلى علمه جل وعلا، لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جداً، ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله تعالى (قل لو كان البحر مداد لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) وقوله (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) .
قوله تعالى (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لاتجد لك به علينا وكيلا)
قال الطبري حدثنا أبو كريب قال: ثنا أبو بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن شداد بن معقل قال: قلت لعبد الله وذكر أنه يُسرى على القرآن، كيف وقد أثبتناه في صدورنا ومصاحفنا؟ قال: يسرى عليه ليلا فلا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل، ثم قرأ عبد الله (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) .
في الأصل عن بندار عن وهو تصحيف والصواب كما هو مثبت أعلاه لأن بندار ليس من هذه الطبقة وكذلك شداد بن معقل معروف بالرواية عن ابن مسعود وبرواية عبد العزيز بن رفيع عنه كما في تهذيب التهذيب 4/318، 6/337، وكما سيأتي في التخريج. ورجاله ثقات إلا أبا بكر بن عياش حفظه وكتابه صحيح وقد توبع كما سيأتي، وشداد صدوق وقد روي من طريق عبد الله بن وهب كما في تفسير الطبري، وأبو كريب هو محمد بن العلاء، وسنده حسن. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة، (مجمع الزوائد 7/46) . وأخرجه ابن أبي شيبه عن أبي الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع عن شداد بلفظ. قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم، قال: قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء، ثم قرأ: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) . وقال القرطبي: وهذا إسناد صحيح، (الجامع لأحكام القرآن 10/326) ، وله شاهد أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث حذيفة مرفوعا وفيه: "وليسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية"، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه البوصيري، والألباني (صحيح سنن ابن ماجة رقم 3273) ، وسنن ابن ماجة- الفتن، ب ذهاب القرآن والعلم رقم 4049) ، وأخرجه الدارمي من طريق زر عن مسعود بنحوه وإسناده حسن (السنن- فضائل القرآن، ب في تعاهد القرآن رقم 3343، طبعة الريان) .(3/284)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
قوله تعالى (إن فضله كان عليك كبيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن فضله كان عليك كبيراً) بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فضله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبير، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) وقوله (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا) وقوله (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) .
قوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمود بن سيحان، وعمر بن أضا، وبحرى بن عمرو، وعزيز بن أبي عزيز، وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حق من عند الله عز وجل، فإنا لانراه متناسقا كما تناسق التوراة، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به". فقال عند ذلك وهم جميعاً فنحاص، وعبد الله بن صوريا، وكنانة بن أبي الحقيق، وأشيع، وكعب ابن أسد، وسموءل بن زيد، وجبل بن عمرو: يا محمد ما يعلمك هذا إنس ولا جان؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل"، فقالوا: يا محمد إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء ويقدر منه على ما أراد فأنزل علينا كتابا نقرؤه ونعرفه وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله عز وجل فيهم وفيما قالوا (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) .(3/285)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قوله تعالى (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً)
انظر تفسير سورة الكهف آية (54) وفيها قول الطبري وروايته عن عبد الرحمن بن زيد. وانظر سورة الروم آية (58) .
قوله تعالى (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) ، قال: عيونا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ينبوعا) قال: عيونا.
قوله تعالى (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن كقوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) وقوله (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) وقوله: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) وقوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) وقوله (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) والآيات بمثل هذا كثيرة، وقوله في هذه الآية (كتابا نقرؤه) أي كتابا من الله إلى كل رجل منا، ويوضح هذا قوله تعالى في المدثر: (بل يريد كل امرىء منهم أن يوتى صحفا منشرة) كما يشير إليه قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) الآية، وقوله في هذه الآية الكريمة (قل سبحان هل كنت إلا بشرا(3/286)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
رسولا) أي تنزيها لربي جل وعلا عن كل ما لا يليق به ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم فهو قادر على كل شيء لا يعجزه شيء وأنا بشر أتبع ما يوحيه إلي ربي، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إلها واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وقوله (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إلها واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كسفا) يقول: قطعا.
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالإسناد الصحيح عن مجاهد قوله (كسفا) قال: السماء جميعاً.
وبه قوله (والملائكة قبيلا) يعني: كل قبيلة على حده. وبه قوله (من زخرف) قال: من ذهب.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله تعالى (أو تأتى بالله والملائكة قبيلا) ، قال: عيانا.
ويؤيد تفسير قتادة قوله تعالى (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ... ) الفرقان: 21.
وبه قوله تعالى (أو يكون له بيت من زخرف) قال بيت من ذهب.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) أي: كتابا خاصا نؤمر فيه باتباعك.
قوله تعالى (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا)
قال ابن كثير: يقول تعالى (وما منع الناس) أي أكثرهم أن يؤمنوا ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلا كما قال تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا) وقال تعالى (ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله(3/287)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
والله غني حميد) وقال فرعون وملؤه (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) وكذلك قالت الأمم لرسلهم (إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين) .
قوله تعالى (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية: أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم، فلو كان مرسلاً رسولا إلى الملائكة لنزل عليهم ملكا مثلهم أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشرا مثلهم، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون) ، وقوله: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم) ، وقوله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) .
قوله تعالى (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا)
قال ابن كثير: يقول الله مخبراً عن تصرفه في خلقه، ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، بأنه من يهده فلا مضل له (ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه) أي يهدونهم كما قال (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) سورة الكهف آية: 17.
انظر سورة الأعراف آية (178) .
أخرج الشيخان بسنديهما عن قتادة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا نبي الله يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة، قال قتادة: بلى وعزة ربنا.
واللفظ للبخاري، (صحيح البخاري- التفسير- سورة الفرقان، ب الذين يحشرون على وجههم في جهنم رقم 4760) ، (وصحيح مسلم- صفة القيامة والجنة والنار، ب يحشر الكافر على وجهه رقم 2806) .(3/288)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) ثم قال (ورأى المجرمون النار فظنوا) وقال (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) وقال (دعوا هنالك ثبورا) أما قوله (عميا) فلا يرون شيئاً يسرهم، وقوله (بكما) لا ينطقون بحجة، وقوله (صما) لا يسمعون شيئاً يسرهم وقوله (مأواهم جهنم) يقول جل ثناؤه: ومصيرهم إلى جهنم وفيها مساكنهم وهم وقودها.
وبه عن ابن عباس في قوله (كلما خبت) قال: سكنت.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (كلما خبت زدناهم سعيرا) يقول: كلما أطفئت أوقدت.
وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وبكما) قال: الخرس (وصما) وهو جمع أصم، وبه عن قتادة قوله (كلما خبت زدناهم سعيرا) يقول: كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
قوله تعالى (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أءِذا كنا عظاما ورفاتا أءِنا لمبعوثون خلقاً جديدا)
قال ابن كثير: يقول تعالى هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمى والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه، لأنهم كذبوا بآياتنا أي بأدلتنا وحججنا واستبعدوا وقوع البعث (وقالوا إءذا كنا عظاما ورفاتا) بالية نخره (أئِنا لمبعوثون خلقاً جديدا) أي بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية، فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك كما قال (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) سورة غافر: 57.
وانظر آية (49) من السورة نفسها.(3/289)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قوله تعالى (أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفوراً)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من خلق السموات والأرض مع عظمهما قادر على بعث الإنسان بلا شك لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) الآية، أي من قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق أصغر، وقوله (أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) ، وقوله (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهم بقادر على أن يحيي الموتى) ، وقوله (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم) .
قوله تعالى (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (خشية الإنفاق) قال: الفاقة.
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وكان الإنسان قتورا) يقول: بخيلا.
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته -أي خزائن الأرزاق والنعم- لبخلوا بالرزق على غيرهم ولأمسكوا عن الإعطاء خوفا من الإنفاق لشدة بخلهم، وبين إن الإنسان قتور أي بخيل مضيق من قولهم قتر على عياله أي ضيق عليهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يأتون الناس نقيرا) وقوله (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الخير منوعا وإذا مسه الشر جزوعا إلا المصلين) الآية.(3/290)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
قوله تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن الحسن (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات) قال: هذه آية واحدة والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ويد موسى وعصى موسى إذا ألقاها فإذا هي ثعبان مبين واذ ألقاها فإذا هي تلقف ما يؤفكون.
قال الطبري: حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم عن مغيرة عن الشعبي في قوله (تسع آيات بينات) قال: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات وعصاه ويده.
ورجاله ثقات، وإسناده صحيح.
قال ابن كثير وهذا القول ظاهر جلي حسن قوى، وجعل الحسن البصري (السنين ونقص الثمرات) واحدة وعنده أن التاسعة هي: تلقف العصى ما يأفكون.
قال الشيخ الشنقيطي: وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر كقوله (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) وقوله (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات) الآية وقوله (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) وقوله (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا وجعل بعضهم الجبل بدل (السنين) وعليه فقد بين قوله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) ونحوها من الآيات.
قوله تعالى (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض: بصائر أي حججا واضحة ...(3/291)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبينا سبب جحوده لما علمه في سورة النمل بقوله (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه أنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) الآية.
وأخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (مثبورا) قال مهلكا.
وأخرجه عبد الرزاق بالسند الصحيح عن قتادة.
قوله تعالى (فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا)
قال ابن كثير: وقوله (فأراد أن يستفزهم من الأرض) أي يخليهم منها ويزيلهم عنها (فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا لمن بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) وفي هذا بشارة لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفتح مكة مع أن هذه السورة نزلت قبل الهجرة وكذلك وقع فان أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى: (وإن كانوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) ولهذا أورث الله رسوله مكة.... كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) .
أخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالإسناد الصحيح عن مجاهد (جئنا بكم لفيفا) يعني: جميعاً، وأخرجه عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة.
وقال الطبري: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان عن منصور عن ابن أبي رزين (جئنا بكم لفيفا) قال: من كل قوم.
ورجاله ثقات، وسنده صحيح، وابن أبي رزين: عاصم بن لقيط، ومنصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي.(3/292)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
قوله تعالى (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أنزل هذا القرآن بالحق أي متلبسا به متضمنا له فكل ما فيه حق فأخباره صدق وأحكامه عدل كما قال تعالى (وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا) وكيف لا وقد أنزله جل وعلا بعلمه كما قال تعالى (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) الآية، وقوله (وبالحق نزل) يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه أمين لا يغير ولا يبدل كما أشار إلى هذا بقوله (نزل به الروح الأمين على قلبك) الآية، وقوله (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين) الآية، وقوله في هذه الآية (لقول رسول) أي لتبليغه عن ربه بدلالة لفظ الرسول لأنه يدل على أنه مرسل به.
قوله تعالى (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)
قال الطبري: حدثنا ابن المثنى قال: ثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن من السماء جمله واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة قال: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) وقرآن فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا.
ورجاله ثقات، وإسناده صحيح. وابن المثنى هو محمد، وداود هو ابن أبي هند حيث صرح الحاكم فأخرجه من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن داود بن أبي هند به، وصححه الحاكم والذهبي (المستدرك 2/368) ، وصححه أيضاً الحافظ ابن حجر (فتح الباري 9/4) .
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وقرآن فرقناه) يقول: فصلناه.
وقال الطبري: حدثنا ابن المثنى قال: بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد، يعني ابن راشد، عن داود عن الحسن أنه قرأ (وقرآنا فرقناه) خففها: فرق الله بين الحق والباطل.
وسنده حسن، وابن المثنى هو محمد، وداود ابن أبي هند.
وأخرج آدم بن أبي إياس والطبري بالسند الصحيح عن مجاهد قوله (على مكث) قال: في ترتيل.(3/293)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وأخرجه عبد الرزاق بسنده الصحيح عن الثوري عن عبيد المكتسب عن مجاهد بلفظ: على تؤده، ولهذا لما سأل عبيد المكتب مجاهدا عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، وآخر قرأ البقرة وركوعها وسجودها واحد، أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة، وقرأ (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) .
أخرجه الطبري بسنده الصحيح عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري به.
قال الشيخ الشنقيطي: قرأ هذا الحرف عامة القراء (فرقناه) بالتخفيف، أي بيناه وأوضحناه وفصلناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل وقرأ بعض الصحابة (فرقّناه) بالتشديد، أي أنزلناه مفرقا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل، قوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) الآية، وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث أي: مهل وتؤدة وتثبت، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك، وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله (ورتل القرآن ترتيلا) ويدل لذلك أيضاً قوله (وقالوا لولا نزل هذا القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .
قوله تعالى (قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا) . (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)
أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يخرون للأذقان سجدا) يقول: للوجوه.
قال ابن كثير: وقوله (ويخرون للأذقان يبكون) أي: خضوعا لله عز وجل وإيمانا وتصديقا بكتبه ورسوله ويزيدهم الله خشوعا، أي: إيمانا وتسليما كما قال (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) .
قوله تعالى (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)
انظر سور الأعراف آية (180) وفيها حديث البخاري عن أبي هريرة.
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة أن يدعوه بما شاءوا من أسمائه إن شاءوا قالوا: يا الله، وإن شاءوا قالوا: يا رحمن. إلى غير(3/294)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
ذلك من أسمائه جل وعلا وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) وقوله (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) الآية وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) ولذا قال بعض العلماء: إن قوله (الرحمن علم القرآن) جواب لقولهم (قالوا وما الرحمن) الآية، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة الفرقان.
وانظر سورة الفرقان آية (60) .
أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) قال: نزلت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (ولا تخافت بها) عن أصحابك فلا تسمعهم (وابتغ بين ذلك سبيلا) .
واللفظ للبخاري، (الصحيح- التفسير، ب ولاتجهر بصلاتك ولا تخافت بها رقم 4722) ، (وصحيح مسلم- الصلاة، ب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار رقم 446) .
أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) في الدعاء.
(الصحيح- التوحيد، ب قول الله تعالى (وأسروا قولكم أو اجهروا به) رقم 7526) . قال ابن حجر بعد أن ذكر هذا الحديث هكذا أطلقت عائشة وهو أعلم من أن يكون ذلك داخل الصلاة أو خارجها.. وذكر أنه يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة، (فتح الباري 8/504، 406) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أياما تدعوا) يقول بشيء من أسماء الله يقول: بأي أسمائه تدعوا فله الأسماء الحسنى.(3/295)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قوله تعالى (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن أمر القدوة أمر لأتباعه -كما قدمنا- أن يقولوا: الحمد لله أي كل ثناء جميل لائق لكماله وجلاله، ثابت له مبينا أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا، فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة كقوله (قل هو الله أحد) إلى آخر السورة، وقوله (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) وقوله (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) وقوله (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئاً إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا) الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة، وبين في مواضع أخر: أنه لا شريك له في ملكه، أي ولا في عبادته كقوله (وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) وقوله (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) وقوله (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) وقوله (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعنى قوله تعالى في هذه الآية (ولم يكن له ولي من الذل) يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعزبه لأنه هو العزيز القهار الذي كل شيء تحت قهره وقدرته كما بينه في مواضع كثيرة كقوله (والله غالب على أمره) الآية، وقوله (إن الله عزيز حكيم) .
وأخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ولم يكن له ولي من الذل) يقول: لم يحالف أحدا، ولم يبتغ نصر أحد.(3/296)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
سورة الكهف
فضلها: عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال، ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نوراً يوم القيامة".
انظر (موسوعة فضائل سور وآيات القرآن القسم الصحيح 1/347) .
قوله تعالى (الحمد لله)
انظر بداية تفسير سورة الفاتحة.
قوله تعالى (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا) أنزل الكتاب عدلا قيما ولم يجعل له ملتبسا.
قوله تعالى (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (من لدنه) أي: من عنده.
قوله تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (فلعلك باخع نفسك) يقول: قاتل نفسك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) قال: غضبا.
قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ما على الأرض زينة لها) قال: ما عليها من شيء.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (صعيدا جرزا) قال: بلقعا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.(3/297)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
قوله تعالى (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) ، يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم) ، يقول: الكتاب.
أخرج البستي القاضي عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: أخبرنا أبو معاذ عن عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف فهو غار الوادي.
والرقيم اسم الوادي.
ورجاله ثقات إلا عبيد وهو ابن سليمان الباهلي لا بأس به وسنده حسن وأبو معاذ هو: الفضل بن خالد المروزي.
قوله تعالى (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف أنهم فتية، وأنهم أووا إلى الكهف وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم الشامل لكل خير وهو قوله عنهم (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا) . وبين في غير هذا الموضع أشياء أخر من صفاتهم وأقوالهم، كقوله (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى -إلى قوله- ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا) .
وانظر سورة البقرة آية (186) لبيان: رشدا.
قوله تعالى (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عددا. ولم يبين قدر هذا العدد هنا، ولكنه بينه في موضع آخر وهو قوله (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) .(3/298)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
قوله تعالى (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)
أخرج آدم بن أبي إياس عن مجاهد (أي الحزبين) من قوم الفتية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لما لبثوا أمدا) ، يقول: بعيدا.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (أمدا) ، قال: عددا.
قوله تعالى (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وربطنا على قلوبهم) يقول بالإيمان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لقد قلنا إذا شططا) يقول كذبا.
قوله تعالى (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن) ، يقول: بعذر بيّن، وعنَى بقوله عز ذكره (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) ومن أشد اعتداء وإشراكا بالله، ممن اختلق، فتخرص على الله كذبا، وأشرك مع الله في سلطانه شريكا يعبده دونه، ويتخذه إلهاً.
قوله تعالى (وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) وهي في مصحف عبد الله (وما يعبدون من دون الله) هذا تفسيرها.
قوله تعالى (تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (تزاور عن كهفهم ذات اليمين) ، يقول: تميل عنهم.(3/299)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (تزاور عن كهفهم ذات اليمين) ، قال: تميل عن كهفهم ذات اليمين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) ، يقول: تذرهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (تقرضهم ذات الشمال) قال: تدعهم ذات الشمال.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وهم في فجوة منه) ، يقول: في فضاء من الكهف، قال الله: (ذلك من آيات الله) .
قوله تعالى (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) وهذا التقليب في رقدتهم الأولى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بالوصيد) بالفناء.
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه بعث أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم: أي ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة، وأن بعضهم قال: أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا. ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية، وذلك في قوله تعالى (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) كما تقدم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (أزكى طعاما) قال: خير طعاما.(3/300)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وكذلك أعثرنا عليهم) يقول: أطلعنا عليهم ليعلم من كذب بهذا الحديث، أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها.
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن هلال -هو الوزّان- عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا".
قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً.
(الصحيح 3/238 ح 1330) ك الصلاة، ب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور. وأخرجه مسلم (الصحيح- ك المساجد، ب النهي عن بناء المساجد على القبور ... ح 531) .
قوله تعالى (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب) ، قال: قذفا بالظن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ما يعلمهم إلا قليل) ، يقول: قليل من الناس.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) أي حسبك ما قصصنا عليك من شأنهم.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) من يهود.(3/301)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) يقول: من أهل الكتاب، كنا نحدث أنهم كانوا بني الركنا، والركنا: ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتفردوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على أصمختهم، فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمتهم وجاءت أمة مسلمة بعدهم، وكان ملكهم مسلما.
قوله تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال سليمان بن داود: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله. فلم يقُل، ولم تحمل شيئاً إلا واحدا ساقطاً أحد شقيه.
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله". قال شعيب وابن أبي الزناد: "تسعين" وهو أصح.
(صحيح البخاري 6/458 ح 3424- ك أحاديث الأنبياء، ب قول الله تعالى (ووهبنا لداود سليمان ... )) وأخرجه مسلم (الصحيح- 3/1275 ح 1654) .
قال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن إسحاق: أنبأ الحسن بن علي، عن ابن زياد، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة، وإنما نزلت هذه الآية في هذا (واذكر ربك إذا نسيت) قال: إذا ذكر استثنى.
قال علي بن مسهر: وكان الأعمش يأخذ بها.
(المستدرك 4/303- ك الإيمان والنذور) . قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش به (السنن الكبرى 10/48) وسنده صحيح.(3/302)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قوله تعالى (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا) هذا قول أهل الكتاب، فرده الله عليهم فقال: (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادو تسعا) ، قال: عدد ما لبثوا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولبثوا في كهفهم) ، قال: بين جبلين.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ما لهم من دونه من ولي) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا، بل هو وليهم جل وعلا. وهذا المعنى مذكور في آيات أخر كقوله تعالى (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) ، وقوله تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فبين أنه ولي المؤمنين، وأن المؤمنين أولياؤه والولي: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به، فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة. وبين في مواضع أخر: أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) الآية، وقوله: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) الآية. وبين في مواضع أخر: أن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) . وبين في موضع آخر أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين، وهو قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) .(3/303)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
قوله تعالى (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولن تجد من دونه ملتحدا) أصل الملتحد: مكان الالتحاد وهو الافتعال: من اللحد بمعنى الميل، ومنه اللحد في القبر، لأنه ميل في الحفر، ومنه قوله تعالى (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا) وقوله (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) الآية فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك: الميل عن الحق. والملحد المائل عن دين الحق. وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا. فالملتحد بصيغة اسم المفعول، والمراد به مكان الالتحاد، أي المكان الذي يميل فيه إلى ملجأ أو منجى ينجيه مما يريد الله أن يفعله به. وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجد من دونه ملتحدا، أي مكانا يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه - جاء مبينا في مواضع أخر؛ كقوله (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً إلا بلاغا من الله ورسالاته) ، وقوله (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين) الآية.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ملتحداً) قال: ملجأ.
قوله تعالى (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي)
أخرج البستي القاضي في تفسيره عن محمد بن علي بن الحسن عن أبي معاذ عن عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: قوله (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) يعني: يعبدون وهو مثل قول الله (لا جرم أنما تدعونني) يعني تعبدون. وقال: (أولئك الذين يدعون) يعني: يعبدون (بالغداة والعشي) يعني الصلاة المفروضة.
وسنده حسن تقدم في بداية تفسير هذه السورة نفسها.(3/304)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قوله تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) نهى الله جل وعلا نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا. وقد كرر في القرآن نهى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه، كقوله تعالى (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفوراً) ، وقوله (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم) الآية، وقوله تعالى (ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم) إلى غير ذلك من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (وكان أمره فرطا) ضياعا.
قوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)
قال الشيخ الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي -التخيير بين الكفر والإيمان- ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير، وإنما المراد بها التخويف والتهديد. والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية. والدليل من القرآن العظيم على أن المراد من الآية التهديد والتخويف - أنه أتبع ذلك بقوله (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم.(3/305)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، يقول: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر، وهو قوله (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين) وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد.
قال الترمذي: حدثنا أبو كريب، حدثنا رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله (كالمهل) قال: كعكر الزيت، فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه.
(السنن 4/704 ح 2581- ك صفة جهنم، ب ما جاء في صفة شراب أهل النار. وأخرجه الطبري (التفسير 25/132) عن أبي كريب، عن رشدين به. ورشدين قد تكلم فيه -كما قال الترمذي عقب هذا الحديث-. لكن تابعه عبد الله بن وهب، أخرجه الحاكم (المستدرك 2/501) من طريق هارون بن معروف، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث به، وزاد فيه: (ولو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا) . قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وله طريق أخرى عن دراج، أخرجه الإمام أحمد (المسند 3/70-71) عن حسن عن ابن لهيعة، عن دراج بمثل لفظ الترمذي. والحديث بهذا الإسناد حسن إن شاء الله، حيث قال الحافظ ابن حجر من دراج: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم. (التقريب 1/235) . ويشاهد له ما يلي:
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (كالمهل) ، قال: يقول: أسود كهيئة الزيت.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (مرتفقا) : أي مجتمعا.
قوله تعالى (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا)
قال مسلم: حدثنا سعيد بن عَمْرو بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث ابن قيس قال: حدثنا سفيان بن عيينة. سمعته يذكره عن أبي فروة؛ أنه سمع عبد الله بن عُكَيم قال: كنا مع حذيفة بالمدائن، فاستسقى حذيفة، فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة، فرماه به. وقال: إني أخبركم إني قد أمرته أن(3/306)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
لا يسقيني فيه. فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تشربوا في إناء الذهب والفضة، ولا تلبسوا الديباج والحرير، فإنه لهم في الدنيا، وهو لكم في الآخرة، يوم القيامة".
(صحيح مسلم 3/1637- ك اللباس والزينة، ب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء ح 2067) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (على الأرائك) قال: هي الحجال.
وانظر الآية (29) من السورة نفسها لبيان مرتفقا: مجتمعا.
قوله تعالى (كلتما الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولم تظلم منه شيئاً) : أي لم تنقص منه شيئاً.
قوله تعالى (وكان له ثمر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وكان له ثمر) ، يقول: مال.
قوله تعالى (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة) كفور لنعم ربه، مكذب بلقائه، متمن على الله.
قوله تعالى (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (ويرسل عليها حسبانا من السماء) ، عذابا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فتصبح صعيدا زلقا) : أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء.(3/307)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
قوله تعالى (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فأصبح يقلب كفيه) : أي يصفق كفيه (على ما أنفق فيها) متلهفا على ما فاته، وهو (يقول يا ليتني لم أشرك لربي أحدا) ويقول: يا ليتني، يقول: يتمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدا، يعني بذلك: هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله، ود أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئاً.
قوله تعالى (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله) أي: جند ينصرونه، وقوله (ينصرونه من دون الله) يقول: يمنعونه من عقاب الله وعذاب الله إذا عاقبه وعذبه.
قوله تعالى (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً)
قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا حيوة أنبأنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جلس عثمان يوما وجلسنا معه، فجاء المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: "ومن توضأ وضوئي ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتؤضأ وصلى الصبح غُفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يُذهبن السيئات، قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
(المسند 1/382 ح 513) قال محققه: "إسناده صحيح، وأخرجه ابن جرير (التفسير 15/511-512 ح 18662) . وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) 1/297) وقال: رجاله رجال الصحيح غير الحارث مولى عثمان، وهو ثقة. وصحح السيوطي إسناده في (الدر 4/353) ، وقال الشيخ محمود شاكر في حاشية الطبري: صحيح الإسناد.(3/308)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (والباقيات الصالحات) ، قال: هي ذكر قول لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واستغفر الله، وصلى الله على رسول الله والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض.
قوله تعالى (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وترى الأرض بارزة) ، ليس عليها بناء ولا شجر.
قوله تعالى (وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) ، هذا الكلام مقول قول محذوف. وحذف القول مطرد في اللغة العربية، كثير جداً في القرآن العظيم. والمعنى: يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا، أي والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلا، أي غير مختونين، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد، ولا خدم ولا حشم. وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) وقوله (لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيمة فردا) وقوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا) الآية، وقوله: (كما بدأكم تعودون) تقدم.
وانظر سورة الأنبياء آية (104) .(3/309)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
قوله تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)
انظر حديث عائشة الآتي عند سورة القمر آية (53) وفيه: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب".
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكتاب يوضع يوم القيامة. والمراد بالكتاب: جنس الكتاب؛ فيشمل جميع الكتب التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا. وأن المجرمين يشفقون مما فيه؛ أي يخافون منه، وأنهم يقولون (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر) . أي لا يترك (صغيرة ولا كبيرة) من المعاصي التي عملنا (إلا أحصاها) أي ضبطها وحصرها. وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر؛ كقوله: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) . وبين أن بعضهم يؤتي كتابه بيمينه، وبعضهم يؤتاه بشماله، وبعضهم يؤتاه وراء ظهره. قال: (فأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتي لم أوتى كتابيه) الآية، وقال تعالى: (فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء، ولم يشتك أحد ظلما، فإياكم والمحقرات من الذنوب، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه.
قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) . قدمنا في سورة البقرة أن قوله(3/310)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
تعالى: (اسجدوا لآدم) محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرا معلقا على وجوده. ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزا بعد وجود آدم. وأنه جل وعلا بين في سورة الحجر وسورة ص أن أصل الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في الحجر (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وقال في ص: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدد لهم الأمر بالسجود تنجيزا. وقوله في هذه الآية الكريمة: (فسجدوا) محتمل لأن يكونوا سجدوا بعضهم أو كلهم ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ونحوها من الآيات.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (إلا إبليس كان من الجن) ، قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى: (ففسق عن أمر ربه) ، قال: في السجود لآدم.
انظر سورة البقرة آية (30) .
قوله تعالى (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) الآية، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم، وهم لكم عدو.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (بئس للظالمين بدلا) بئسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس.
قوله تعالى (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وما كنت متخذ المضلين عضدا) : أي أعوانا.(3/311)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
قوله تعالى (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا)
قال الشيخ الشنقيطي: أي واذكر يوم يقول الله جل وعلا للمشركين الذين كانوا يشركون معه الآلهة والأنداد من الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله توبيخا لهم وتقريعا: نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاء معي فالمفعولان محذوفان: أي زعمتموهم شركاء لي كذبا وافتراء. أي ادعوهم واستغيثوا بهم لينصروكم ويمنعوكم من عذابي، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من عدم استجابتهم لهم إذا دعوهم يوم القيامة جاء موضحا في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة القصص (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) وقوله تعالى (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) وقوله (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعلنا بينهم موبقا) ، قال: مهلكا.
قوله تعالى (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المجرمين يرون النار يوم القيامة، ويظنون أنهم مواقعوها، أي مخالطوها وواقعون فيها. والظن في هذه الآية بمعنى اليقين، لأنهم أبصروا الحقائق وشاهدوا الواقع وقد بين تعالى في(3/312)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
غير هذا الموضع أنهم موقنون بالواقع، كقوله عنهم (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون) وكقوله (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) وقوله تعالى (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) الآية.
قال ابن حبان: أخبرنا ابن سَلم، قال: حدثنا حرملة، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن أبا السمح حدثه، عن ابن حُجيرة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُنصب للكافر يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة".
(الإحسان 16/349 ح 7352. قال محققه: إسناده حسن، رجاله ثقات رجال مسلم غير أبي السمح.. فقد روى له أصحاب السنن وهو صدوق. وله شاهد من حديث أبي سعيد، وأخرجه أحمد (المسند 3/75) وأبو يعلى (المسند 2/524 ح 1385) ، والحاكم في المستدرك (4/597) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الهيثمي. إسناده حسن ... (مجمع الزوائد 10/336) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (فظنوا أنهم مواقعوها) قال: علموا.
قوله تعالى (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)
قال الطبري: ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، ووعظناهم فيه من كل موعظة واحتججنا عليم فيه بكل حجة. وانظر سورة الروم آية (58) .
قوله تعالى (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)
قال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث عن عقيل، عن الزهري، عن علي ابن حسين، أن الحسين بن علي حدثه عن علي بن أبي طالب؛ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَقهُ وفاطمةَ. فقال: "ألا تصلون؟ " فقلت: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله. فإذا شاء أن يبعثا بعثنا. فانصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قلت له ذلك. سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً".
(صحيح مسلم 1/537-538- ك صلاة المسافرين وقصرها، ب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح ح 775) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن عبد الرحمن بن زيد في قوله (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) قال: الجدل. الخصومة، خصومة القوم لأنبيائهم.(3/313)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
قوله تعالى (أو يأتيهم العذاب قبلا)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (أو يأتيهم العذاب قبلا) ، قال: فجأة.
قوله تعالى (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا)
انظر سورة الحج آية (3) لبيان جدال الكفار بالباطل.
قوله تعالى (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد أظلم: أي أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر، أي وعظ بآيات ربه، وهي هذا القرآن العظيم (فأعرض عنها) أي تولى وصد عنها. وإنما قلنا: إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله (أن يفقهوه) أي القرآن المعبر عنه بالآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ونسي ما قدمت يداه) أي نسي ما سلف من الذنوب.
قوله تعالى (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة أي أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم بما ذكروا به. وواحد الأكنة كنان وهو الغطاء، وأنه جعل في آذانهم وقرا، أي ثقلا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر كقوله (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) وقوله (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) الآية، وقوله تعالى (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا(3/314)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) وقوله (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وقوله (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدا، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى. وهذا المعنى الذي أشار له هنا من أن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبينا في مواضع أخر كقوله (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) وقوله تعالى (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لايؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) وقوله تعالى (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) وقوله تعالى (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) وقوله تعالى (إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل وما لهم من ناصرين) .
قوله تعالى (وربك الغفور ذو الرحمة)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه غفور، أي كثير المغفرة، وأنه يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة، ويرحم الخلائق في الدنيا.
وبين في مواضع أخر أن هذه المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته جل وعلا إلا الشرك كقوله (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقوله (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) . وبين في موضع آخر أن رحمته واسعة، وأنه سيكتبها للمتقين، وهو قوله (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ... ) الآية.(3/315)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قوله تعالى (لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلا عنهم ولا تاركا عذابهم بل هو تعالى جاعل لهم موعدا يعذبهم فيه لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم. وبين هذا في مواضع أخر كقوله في النحل: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أحلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وقوله في آخر سورة فاطر: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) وكقوله (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لن يجدوا من دونه موئلا) ، يقول: ملجأ.
قوله تعالى (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (لمهلكهم موعدا) قال: أجلا.
قوله تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً) إلى قوله (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا)
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عَمرو بن دينار، قال: أخبرنا سعيد بن جبير، قال: قلتُ لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذَب عدُوّ الله، حدثني أُبي بن كعب أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.(3/316)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قال موسى: يا ربّ فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حُوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدتَ الحوت فهو ثَمّ. فأخذ حوتا فجعله في مِكمل ثم انطلق، وانطلق معه بفتاه يُوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في اِلمكتل فخرج منه فسقط في البحر (فاتخذ سبيله في البحر سربا) وأمسك الله عن الحوت جِرْية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسيَ صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) قال: ولم يجد موسى النَصب حتى جاوزا المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا) قال: فكان للحوت سَرَبا، ولموسى ولفتاه عجبا. فقال موسى: (ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قَصَصَا) ، قال: رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى ثوبا، فسلّم عليه موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما عُلمت رشدا. (قال إنك لن تستطيع معي صبرا) يا موسى إني على علم من علم الله علمَنِيه لا تعلمه أنت، وأنتَ على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال موسى: (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا) فقال له الخضر: (فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضِرَ فحملوه بغير نَوْل. فلما ركبا في السفينة لم يَفَجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم. فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معيَ صبرا؟ قال: (لا تؤاخذني بما نسيت، ولا تُرهقني من أمري عُسرا) ". قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(3/317)
"وكانتِ الأولى من موسى نِسياناً". قال: وجاء عُصفور فوقع على حرفِ السفينة فنقر في البحر نَقرة، فقال له الخَضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثلُ ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة، فبينا هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله. فقال له موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) قال: وهذه أشد من الأولى. (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تُصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ) قال: مائل، فقام الخضر فأقامه بيده. فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا، (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) .
(قال: هذا فراق بيني وبينك) إلى قوله (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَدِدْنا أن موسى كان صر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما". قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة -صالحة- غصبا) وكان يقرأ (وأما الغلام فكان -كافراً وكان- أبواه مؤمنين) .
(الصحيح- التفسير- سورة الكهف ح 4725) وأخرجه مسلم في (صحيحه -ك الفضائل، ب فضائل الخضر 4/1847 ح 2380) .
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن مَسْلمة بن قَعْنب، حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن رقبة بن مسقلة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبِع كافراً. ولو عاش لأرهق أبويهُ طغيانا وكفرا".
(صحيح مسلم 4/2050- ك القدر، ب معنى كل مولود يولد على الفطرة.. ح 2661) .(3/318)
قال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما سُمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء".
(الصحيح 6/499 ح 3402- ك أحاديث الأنبياء، ب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام) قوله تعالى (أو أمضي حقبا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أو أمضى حقبا) ، قال: دهرا.
قوله تعالى (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلم بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وفتاه نسيا حوتهما لما بلغا مجمع البحرين ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت وهو الذي نسيه وإنما أسند النسيان إليهما لأن إطلاق المجموع مرادا بعضه -أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي (فإن قتلوكم فاقتلوهم) من القتل في الفعلين لا من القتال أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر والدليل على أن النسيان وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) الآية، لأن قول موسى (آتنا غداءنا) يعني به الحوت- فهو يظن أن فتاه لم ينسه كما قاله غير واحد وقد صرح فتاه بأنه نسيه في قوله: (فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان) الآية. وقوله في هذه الآية الكريمة: (وما أنسانيه إلا الشيطان) دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) وقوله تعالى (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) الآية.(3/319)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (مجمع بينهما) قال: بين البحرين.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (نسيا حوتهما) قال: أضلا حوتهما.
قوله تعالى (في البحر عجبا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (في البحر عجبا) ، قال: موسى يعجب من أثر الحوت في التفسير ودوراته التي غاب فيها، فوجدا عندها خضرا.
قوله (ذلك ما كنا نبغ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ذلك ما كنا نبغ) قال موسى: فذلك حين أخبرت أني واجد خضرا حيث يفوتني الحوت.
قوله تعالى (فارتدا على آثارهما قصصا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: رجعا عودهما على بدئهما (فارتدا على آثارهما قصصا) .
وانظر حديث البخاري عن ابن عباس في قصة موسى والخضر عليهما السلام المتقدم عند الآية (60-82) من السورة نفسها، وفيه: "رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة.
قوله تعالى (لقد جئت شيئا إمرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (لقد جئت شيئاً إمرا) : أي عجبا، إن قوما لججوا سفينتهم فخرقتها، كأحوج ما نكون إليها، ولكن علم من ذلك ما لم يعلم نبي الله موسى ذلك من علم الله الذي آتاه، وقد قال لنبي الله موسى عليه السلام (فإن اتبعني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (لقد جئت شيئاً إمرا) ، قال: منكرا.(3/320)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
قوله تعالى (قال أقتلت نفسا زكية)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قال أقتلت نفسا زكية) قال: الزكية: التائبة.
قوله تعالى (لقد جئت شيئاً نكرا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (لقد جئت شيئاً نكرا) والنكر أشد من الإمر.
قوله تعالى ( ... إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني..)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا يحيى بن معين، ثنا يحيى بن آدم، ثنا حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رحمة الله علينا وعلى موسى -فبدأ بنفسه- لو كان صبر لقص علينا من خبره ولكن قال (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا) .
(المستدرك 2/574 ك التاريخ) قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. ونحوه في الصحيحين كما في الحديث الطويل السابق عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -.
قوله تعالى (فأردت أن أعيبها)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل (فأردت أن أعيبها) ، قال: أخرقها.
قوله تعالى (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة صحيحة كانت أو معيبة ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة وهي قوله (فأردت أن أعيبها) أي لئلا يأخذها وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب لأن عيبها يزهده فيها ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالا عند علماء العربية لحذف النعت أي وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة بدليل ما ذكرنا.(3/321)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
قوله تعالى (وأقرب رحما)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وأقرب رحما) : أبر بوالديه.
قوله تعالى (وكان تحته كنز لهما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وكان تحته كنز لهما) قال: مال لهما.
قوله تعالى (وما فعلته عن أمري)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وما فعلته عن أمري) كان عبداً مأمورا، فمضى لأمر الله.
قوله تعالى (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا)
قال الضياء المقدسي: أخبرنا أبو المجد زاهر بن أحمد بن حامد بن أحمد الثقفي -بقراءتي عليه بأصبهان- قلت له: أخبركم أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك ابن الحسين الخلال -قراءة عليه وأنت تسمع- أنا الإمام أبو الفضل عبد الرحمن ابن أحمد بن الحسن بن بندار الرازي المقري، أنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم ابن أحمد بن علي بن فراس، ثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديلي، ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان ابن عيينة عن ابن أبي حسين، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن ذي القرنين فقال علي: لم يكن نبياً ولا ملك، كان عبداً صالحاً، أحبّ الله فأحبه، وناصح الله فناصحه الله، بُعث إلى قومه فضربوه على قرنه فمات فبعثه الله، فسمى ذي القرنين.
(المختارة 2/175 ح 555) وصححه الحافظ ابن حجر بعد عزوه للمختارة للحافظ الضياء (الفتح 6/383) . وأخرجه الطبري من طريق أبي الطفيل قال: سمعت عليا وسألوه.... فذكره (التفسير 16/9) وسنده صحيح.
قال الضياء المقدسي: أخبرنا عبد المعز بن محمد الهروي -قراءةً عليه بها- قلت له: أخبركم محمد بن إسماعيل بن الفضيل -قراءة عليه وأنت تسمع- أنا(3/322)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
محلم بن إسماعيل الضبي، أنا الخليل بن أحمد السِجْزي، أنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا أبو عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماز، قال: كنت عند علي بن أبي طالب، وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟ قال: سبحان الله، سُخر له السحاب، ومُدّت له الأسباب، وبسط له النور. فقال: أزيدك؟ قال: فسكت الرجل وسكت علي.
(المختارة 2/32 ح 409) وصححه المحقق ونقل توثيق العجلي لحبيب بن حماز (تعجيل المنفعة/84) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وآتيناه من كل شيء سببا) ، يقول: علما.
قوله تعالى (فأتبع سببا)
أخرج عبد الرزاق والطبري بسنديهما الصحيح عن قتادة (فأتبع سببا) : اتبع منازل الأرض ومعالمها.
قوله تعالى (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (تغرب في عين حمئة) والحمئة: الحمأة السوداء.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وجدها تغرب في عين حمئة) ، يقول في عين حارة.
قوله تعالى (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يُرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكراً وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)
أخرج عبد الرزاق والطبري بسنديهما الصحيح عن قتادة في قوله: (أما من ظلم فسوف نعذبه) ، قال: هو القتل. وقوله (ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) ، يقول: ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله، فيعذبه عذاباً عظيما وهو النكر، وذلك عذاب جهنم.
قوله تعالى (ثم أتبع سببا)
تقدم تفسيرها في الآية (85) من السورة نفسها.(3/323)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (من أمرنا يسرا) قال: معروفا.
قوله تعالى (كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (خبرا) قال: علما.
قوله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (بين السدين) ، قال: هما جبلان.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (فهل نجعل لك خرجا) ، قال: أجرا.
قوله تعالى (آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (زبر الحديد) ، يقول: قطع الحديد.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بين الصدفين) ، يقول: بين الجبلين.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: القطر النحاس.
قوله تعالى (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)
قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة عن زينب ابنة جحش رضي الله عنهن أنها قالت: استيقظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النوم محمرا وجهه وهو يقول: "لا إله إلا الله،(3/324)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وعقد سُفيان تسعين أو مائة- قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث".
(صحيح البخاري 13/13-14- ك الفتن، ب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الحديث) ح 7059) ، (صحيح مسلم 4/2207- ك الفتن وأشراط الساعة، ب اقتراب الفتن ... ) .
قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار وغير واحد واللفظ لابن بشار قالوا: حدثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أبي رافع من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السدّ قال: "يحفرونه كل يوم، حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدا، فيعيده الله كأشد ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس. قال للذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله واستثنى. قال: فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه، فيخرجون على الناس، فيستقون المياه، ويفرّ الناس منهم، فيرمون بسهامهم في السماء فترجع مخضّبة بالدماء، فيقولون: قهرنا مَن في الأرض وعلونا مَن في السماء قسرا وعلوا، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون؛ فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض تسمن وتبطر وتشكَر شَكَرا من لحومهم".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه مثل هذا. (السنن 5/313-314- ك التفسير، ب سورة الكهف ح 3153 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 15/242-243 ح 6829) من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي قتادة به.
وقال محققه: إسناده صحيح على شرط البخاري، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أحمد بن المقدام فمن رجال البخاري) وأخرجه الحاكم من طريق هشام ابن عبد الملك وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/488) .
نغفا: بالتحريك، دود يكون في أنوف الإبل والغنم، واحدتها: نَغَفَة (النهاية لابن الأثير 5/87) .
تشكر: أي تسمن وتمتلئ شحما. يقال شكرت الشاة بالكسر تشكَر شكَراَ بالتحريك إذا سمنت وامتلأ ضرعها لبنا، (النهاية 2/494) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه) قال: ما استطاعوا أن ينزعوه.(3/325)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
قوله تعالى (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفح في الصور فجمعناهم جمعا)
انظر حديث أبي داود عن عبد الله بن عمرو المتقدم عند الآية (73) من سورة الأنعام.
وانظر حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري الآتي عند الآية (68) من سورة الزمر.
قوله تعالى (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (لا يستطيعون سمعا) قال: لا يعقلون ولا يستطيعون أن يسمعوا خبراً.
قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا)
أخرج البخاري بسنده عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: سألت أبي (هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) هم الحرورية؟ قال: لا. هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب ...
(الصحيح- ك التفسير- الآية، ح 4728) .
وقد بين الله تعالى صفة الأخسرين أعمالا في الآية التالية بقوله تعالى: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ثم بين مصيرهم وجزاءهم كما في الآية التالية.
قوله تعالى (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا المغيرة قال: حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/326)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.
وقال: اقرءوا: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) .
(صحيح البخاري 8/279- ك التفسير- سورة الكهف، ب (الآية) ح 4729) ، (صحيح مسلم 4/2147- ك صفات المنافقين وأحكامهم..) .
قوله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا)
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام، حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجُر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس".
(السنن 4/675 ح 2531) ك صفة الجنة، ب ما جاء في صفة درجات الجنة. وأخرجه الحاكم في (المستدرك 1/80) من طريق عفان بن مسلم وأبي الوليد الطيالسي، كلاهما عن همام به، قال الحاكم: إسناده صحيح. وسكت الذهبي. وقال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي ح 2056) وأخرجه الحاكم في الموضع السابق نفسه من حديث أبي هريرة وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) وله شاهد في الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا (صحيح البخاري - كتاب الجهاد- باب درجات المجاهدين ح 2790) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: الفردوس: ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
قوله تعالى (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) أي خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولا أي تحولا إلى منزل آخر لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول ولا انتقال وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحا في مواضع أخر كقوله (الذي أحلنا دار المقامة) أي الإقامة أبدا، وقوله (وبشر المؤمنين الذين يعملون(3/327)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) وقوله (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) وقوله (عطاء غير مجذوذ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها، ودوام نعيمها لهم والحول اسم مصدر بمعنى التحول.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (لا يبغون عنها حولا) قال: متحولا.
قوله تعالى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) أمر جل وعلا نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية الكريمة أن يقول: (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) أي لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التي تكتبها كلمات الله (لنفد البحر) أي فرغ وانتهى قبل أن تنفد كلمات ربي (ولو جئنا بمثله مددا) أي ببحر آخر مثله مددا أي زيادة عليه. وقوله (مددا) منصوب على التمييز ويصح إعرابه حالا وقد زاد هذا المعنى إيضاحا في سورة لقمان في قوله تعالى (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) الآية وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، فقال: سلوه عن الروح، قال: فسألوه عن الروح، فأنزل الله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) قالوا: أوتينا علما كثيراً التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتي(3/328)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
خيرا كثيرا، فأنزلت: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر) إلى آخر الآية.
(السنن 5/304 ح 3140- ك التفسير، ب ومن سورة بنى إسرائيل) . وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وأخرجه النسائي (التفسير 2/28 ح 334) ، وأحمد (المسند ح 2309) كلاهما عن قتيبة به، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 1/301 ح 99) من طريق: مسروق بن المرزبان، والحاكم (المستدرك 2/531) من طريق: يحيى بن يحيى. كلاهما عن ابن أبي زائدة به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر: رجاله رجال مسلم (فتح الباري 8/401) وصححه كل من محقق المسند والنسائي، وقال الألباني: صحيح الإسناد (صحيح الترمذي ح 2510) . وقد تقدم مثله من حديث ابن مسعود عند البخاري تحت الآية (85) من سورة الإسراء، لكن بدود ذكر نزول آية الكهف.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (البحر مدادا لكلمات ربي) ، للقلم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) ، يقول: إذا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات الله وحكمه.
قوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا روح ابن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه".
(الصحيح 4/2289 ح 2985- ك الزهد والرقائق، ب من أشرك في عمله غير الله) .
قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثي سلمة بن كهيل ح. وحدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن سلمة قال سمعت جندبا يقول:(3/329)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ولم أسمع أحدا يقول: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيره، فدنوت منه فسمعته يقول: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --: "من سمع سمع الله به، ومن يُرائي يرائي الله به".
(الصحيح 11/343 ح 6499- ك الرقائق، ب الرياء والسمعة) . وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الزهد، ب من أشرك في عمله غير الله ح 2987) .
قال الحاكم: أخبرني إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني: ثنا جدي، ثنا نعيم بن حماد، ثنا ابن المبارك، أنبأ معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يرى موطني؟ فلم يرد عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً حتى نزلت (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) .
(المستدرك 2/111- ك الجهاد، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) .(3/330)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
سورة مريم
قوله تعالى (كهيعص)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (كهيعص) قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (كهيعص) قال: اسم من أسماء القرآن.
قوله تعالى (ذكر رحمت ربك عبده زكريا)
انظر لبيان قصة زكريا تفسير الآيات (1-11) من السورة نفسها، وسورة آل عمران من الآية (38-41) وسورة الأنبياء الآية (89-90) .
قال مسلم: حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كان زكريا نجارا".
(الصحيح 4/1847 ح 2379- ك الفضائل، ب من فضائل زكريا عيه السلام) .
قوله تعالى (إذ نادى ربه نداء خفيا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إذ نادى ربه نداء خفيا) أي سرا، وإن الله يعلم القلب النقي، ويسمع الصوت الخفي.
قوله تعالى (قال رب إني وهن العظم مني)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط عن السدي قال: رغب زكريا في الولد، فقام فصلى، ثم دعا ربه سرا فقال: (رب إني وهن العظم مني ... ) إلى (واجعله رب رضيا) وقوله (قال رب إني وهن العظم مني) يقول تعالى ذكره فكان نداؤه الخفي الذي نادى به ربه أن قال: (رب إني وهن العظم مني) يعنى بقوله (وهن) ضعف ورق من الكبر.
وسنده حسن(3/331)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قوله تعالى (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (خفت الموالي من ورائي) ، قال: العصبة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (فهب لي من لدنك وليا) يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء، بدليل قوله تعالى في القصة نفسها (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) الآية، وأشار إلى أنه الولد أيضاً بقوله (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) فقوله (لا تذرني فردا) أي واحدا بلا ولد. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا (وإني خفت الموالى من ورائي) أي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) الآية.
قوله تعالى (يرثني ويرث من آل يعقوب)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدَك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال". قال أبو بكر. والله لا أدع أمرا رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنعه فيه ألا صنعته، قال: فهجرتْه فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
(صحيح البخاري 12/7- ك الفرائض، ب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نورث ... " الحديث ح 6725، 6726) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (يرثني ويرث من آل يعقوب) قال: وكان وراثته غلاما، وكان زكريا من ذرية يعقوب.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة عن الحسن في قوله (يرثني ويرث من آل يعقوب) ، قال: نبوته وعلمه.(3/332)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
قوله تعالى (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه وتقديره فأجاب الله دعاءه فنودي (يا زكريا) الآية وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب وذلك قوله تعالى (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) عبد أحياه الله للإيمان.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (لم نجعل له من قبل سميا) ، قال: لم يسم أحد قبله يحيى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله ليحيى (لم نجعل له من قبل سميا) ، يقول: لم تلد العواقر مثله ولدا قط.
قوله تعالى (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (عتيا) قال: نحول العظم.
قوله تعالى (قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً)
قال الشنقيطي: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) أي ومن خلقك ولم تك شيئ فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى وهذا الذي قاله هنا لزكريا من أنه خلقه ولم يك شيئاً أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر كقوله (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً) الآية، وقوله تعالى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) .(3/333)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
قوله تعالى (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ثلات ليال سويا) ، يقول: من غير خرس.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ثلاث ليال سويا) قال: صحيحا لا يمنعك من الكلام مرض.
قوله تعالى (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فأوحى) فأشار زكريا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) ، قال: أومى إليهم أن صلوا بكرة وعشيا.
قوله تعالى (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (خذ الكتاب بقوة) ، قال: يجد في طاعة الله عز وجل.
قوله تعالى (وحنانا من لدنا وزكاة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وحنانا من لدنا) ، يقول: ورحمة من عندنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وزكاة) ، قال: الزكاة العمل الصالح.
انظر قصة مريم سورة آل عمران آية (42-48) .
قوله تعالى (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت) أي: انفردت من أهلها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (مكانا شرقيا) ، قال: من قبل المشرق.(3/334)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
قوله تعالى (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فاتخذت من دونهم حجابا) من الجدران.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فأرسلنا إليها روحنا) ، قال: أرسل إليها فيما ذكر لنا جبريل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فتمثل لها بشرا سويا) فلما رأته فزعت منه وقالت: (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) فقالت: إني أعوذ أيها الرجل بالرحمن منك تقول: استجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه وتجتنب معاصيه لأن من كان لله تقيا فإنه يجتنب ذلك ولو وجه ذلك إلى أنها عنت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تتقي الله في استجارتي واستعاذتي به منك كان وجها.
قوله تعالى (قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك كلاما زكيا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها: إنه رسول ربها ليهب لها أي ليعطيها غلاما أي ولدا زكيا أي طاهر من الذنوب والمعاصي كثير البركات وبين في غير هذا الموضع كثيراً من صفات هذا الغلام الموهوب لها وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كقوله (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) وقوله (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني جئتكم بآية من ربكم إني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) الآية.(3/335)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
قوله تعالى (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (ولم أك بغيا) ، يقول: زانية (قال كذلك قال ربك هو علي هين) يقول تعالى ذكره: قال لها جبريل: هكذا الأمر كما تصفين من أنك لم يمسسك بشر ولم تكوني بغيا، ولكن ربك قال: هو علي هين أي خلق الغلام الذي قلت أن أهبه لك على هين لا يتعذر علي خلقه وهبته لك ...
قال الشيخ الشنقيطي: قول جبريل لمريم في هذه الآية (كذلك قال ربك هو علي هين) أي: وستلدين ذلك الغلام المبشر به من غير أن يمسك بشر وقد أشار تعالى إلى معنى هذه الآية في سورة آل عمران في قوله (قالت أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) .
قوله تعالى (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)
انظر حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة المتقدم عند الآية (36) من سورة آل عمران، وهو حديث: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه ... إلا مريم وابنها".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: طرحت عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها فأخذ جبريل بكميها، فنفخ في جيب درعها....
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (مكانا قصيا) قال: قاصيا.(3/336)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) ، قال: اضطرها إلى جذع النخلة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وكنت نسيا منسيا) : أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر.
قوله تعالى (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فناداها من تحتها) : أي من تحت النخلة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (فناداها من تحتها) قال: الملك.
قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب في قوله تعالى (قد جعل ربك تحتك سريا) ، قال: هو الجدول، النهر الصغير.
(التفسير 2/8 ح 1758) وسنده صحيح. وأخرجه الحاكم من طريق الثوري وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/373) وأخرجه الطبري من طريق الثوري وفيه تصريح أبي إسحاق السبيعي عن البراء (التفسير 16/69) وأخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم، ووصله الحافظ ابن حجر (انظر الفتح 6/479) .
قوله تعالى (فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (إني نذرت للرحمن صوما) أما قوله (صوما) فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام.
قوله تعالى (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله تعالى (فريا) قال: شيئا عظيما.
قوله تعالى (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نصر وأبو سعيد الأشج ومحمد بن المثنى العَنَزي (واللفظ لابن نمير) قالوا: حدثنا ابن إدريس عن أبيه، عن سِماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة. قال:(3/337)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
لما قدمتُ نجران سألوني. فقالوا: إنكم تقرؤُن: يا أخت هارون. وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألته عن ذلك. فقال: "إنهم كانوا يُسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم".
(الصحيح مسلم 3/1685- ك الآداب، ب النهي عن التكني بأبي القاسم.. ح 2135) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (يا أخت هارون) قال: كان رجلاً في بني إسرائيل صالحاً يسمى هارون، فشبهوها به، فقالوا يا شبيهة هارون في الصلاح.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي قال: لما قالوا لها (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) قالت لهم: ما أمرها الله به، فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام أشارت إليه، إلى عيسى.
قوله تعالى (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (من كان في المهد صبيا) المهد. الحجر.
قوله تعالى (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: النبي وحده الذي يكلم وينزل عليه الوحي ولا يرسل.
قوله تعالى (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) امترت فيه اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذاب وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله، وثالث ثلاثة، وإله، وكذبوا كلهم، ولكنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه.
وانظر تفسير سورة النساء آية (171) حديث البخاري عن ابن عباس.
قوله تعالى (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)
انظر سورة البقرة آية (117) .(3/338)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
قوله تعالى (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
انظر سورة الفاتحة لبيان الصراط المستقيم: هو الإسلام.
قوله تعالى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فاختلف الأحزاب من بينهم) ، قال: أهل الكتاب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أسمع بهم وأبصر) ذاك والله يوم القيامة، سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.
قوله تعالى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
قال البخاري: حدثنا عُمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فيُنادى منادٍ: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلهم قد رآه. ثم يُنادى: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلهم قد رآه. فيُذبح. ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت. ويا أهل النار، خلود فلا موت. ثم قرأ (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة -وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا- وهم لا يؤمنون) .
(صحيح البخاري 8/282 ح 4730 ك التفسير- سورة مريم، ب (الآية)) . (صحيح مسلم 4/2188- ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وأنذرهم يوم الحسرة) من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحذره عباده.
وقوله (إذ قضي الأمر) يقول: إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها بذبح الموت. وقوله (وهم في غفلة) يقول:(3/339)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
وهؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم يأتونه خارجين من قبورهم، من تخليده إياهم في جهنم، وتوريثه مساكنهم من الجنة غيرهم (وهم لا يؤمنون) يقول تعالى ذكره وهم لا يصدقون بالقيامة والبعث، ومجازاة الله إياهم على سيء أعمالهم بما أخبر أنه مجازيهم به.
قوله تعالى (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون)
قال الشيخ الشنقيطي: معنى قوله جل وعلا في هذه الآية أنه يرث الأرض ومن عليها أنه يميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض، ويبقى هو جل وعلا لأنه هو الحي الذي لا يموت، ثم يرجعون إليه يوم القيامة، وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وقوله تعالى (وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك) ، قال: بالشتيمة والقول.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (مليا) قال: حينا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة عن الحسن (واهجرني مليا) قال: طويلا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (واهجرني مليا) يقول: اجتنبني سويا.(3/340)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
قوله تعالى (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا)
بين هذا أنه بسبب الموعد على ذلك ولكن لما أصر أبوه على الكفر تبرأ إبراهيم من أبيه كما ورد في قوله تعالى (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) سورة التوبة: 114.
وانظر عن قصة إبراهيم مع أبيه سورة الشعراء آية (69-70) وسورة الصافات آية (83-99) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنه كان بي حفيا) يقول: لطيفا.
قوله تعالى (وجعلنا لهم لسان صدق عليا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) يقول: الثناء الحسن.
قوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)
انظر عن موسى وقصته مع أخيه هارون سورة الأعراف (142-150) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (من جانب الطور الأيمن) قال: جانب الجبل الأيمن.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وقربناه نجيا) قال: نجا بصدقه.
انظر عن إسماعيل سورة الصافات الآيات (101-107) .(3/341)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
قوله تعالى (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعاه مكانا عليا)
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة في قوله: (ورفعناه مكان عليا) ، قال: حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة".
(السنن 5/316 ح 3157- ك التفسير، ب ومن سورة مريم وأخرجه الطبري (التفسير 16/97) بسنده إلى قتادة. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 2524) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (ورفعناه مكانا عليا) قال: حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله حدث أنه لما عرج به إلى السماء قال: أتيت على إدريس في السماء الرابعة.
وانظر حديث أنس عن أبي ذر في الصحيحين تقدم في بداية سورة الإسراء.
قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا، وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة للمؤمنين لاخصوص الأنبياء كقوله تعالى (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) وقوله (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) .
قوله تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا)
قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، أخبرني بشير بن أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس حدثه: أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول سمعت(3/342)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر".
قال بشير: فقلت للوليد ما هؤلاء الثلاثة؟ فقال المنافق: كافر به والفاجر يتأكل به والمؤمن يؤمن به.
(المسند 3/38) وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 3/32 ح 755) من طريق عبدة بن عبد الرحمن، والحاكم (المستدرك 2/374) من طريق زكريا بن أبي ميسرة، كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ به. قال الحاكم: حديث صحيح رواته حجازيون وشاميون أثبات ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وذكره ابن كثير وعزاه إلى الإمام أحمد ثم قال: إسناده جيد قوي على شرط السنن (البداية 6/259) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) ، قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ...
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فسوف يلقون غيا) ، يقول: خسرانا.
قوله تعالى (إلا من تاب وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا)
قال الشيخ الشنقيطي: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وعد عباده المؤمنين المطيعين جنات عدن ثم بين أن وعده مأتي بمعنى أنهم يأتونه وينالون ما وعدوا به لأنه جل وعلا لا يخلف الميعاد وأشار لهذا المعنى في مواضع أخر كقوله (وعد الله لايخلف الله وعده) الآية وقوله (إن الله لايخلف الميعاد) .
قوله تعالى (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا)
قال ابن حبان: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني الحارث بن فضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(3/343)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
"الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً".
(الإحسان 10/515 ح 4658، قال محققه: إسناده قوي) وأخرجه أحمد (المسند 1/266) عن يعقوب به، والحاكم (المستدرك 2/74) من طريق: يزيد بن هارون عن ابن إسحاق به، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير: إسناد جيد (التفسير 2/142) ونسبه الهيثمي لأحمد والطبراني، ثم قال: ورجال أحمد ثقات (مجمع الزوائد 5/298) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) ، قال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء عجب له، فأخبرهم الله أن لهم الجنة بكرة وعشيا، قدر ذلك الغداء والعشاء.
قوله تعالى (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) الإشارة في قوله (تلك) إلى ما تقدم من قوله (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) الآية وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين من عباده جنته وقد بين هذا المعنى أيضاً في مواضع أخر كقوله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) إلى قوله (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) وقوله (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) الآيات، وقوله تعالى (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) الآية وقوله (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) .
قوله تعالى (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا ... ) ".
(الصحيح- ك التفسير، (الآية) ح 4731) .(3/344)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا) ، قال: هذا قول جبرائيل، احتبس جبرائيل في بعض الوحي، فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرائيل: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا) ".
وأخرجه الطبري بسند صحيح عن مجاهد بمعناه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (له ما بين أيدينا) من أمر الآخرة (وما خلفنا) من أمر الدنيا (وما بين ذلك) ما بين الدنيا والآخرة.
قوله تعالى ( ... وما كان ربك نسيّا)
قال الحاكم: أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي الشيباني، ثنا أحمد بن حازم الغفاري، ثنا أبو نعيم، ثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - رفع الحديث قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فأقبلوا من الله العافية فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية (وما كان ربك نسيا) .
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 2/375) - ك التفسير. وصححه الذهبي.
وعزاه الحافظ ابن حجر إلى البزار ونقل عنه أن سنده صالح (الفتح 13/226) وعزاه الهيثمي إلى البزار والطبراني في الكبير وقال: إسناده حسن ورجاله موثقون (مجمع الزوائد 1/171) .
قوله تعالى (رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (هل تعلم له سميا) ، يقول: هل تعلم للرب مثلا أو شبيها.
قوله تعالى (ويقول الإنسان أءذا ما مت لسوف أخرج حيا أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً)
انظر سورة يس آية (77-79) .(3/345)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قوله تعالى (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا)
انظر الآية (72) من السورة نفسها لبيان جثيا: على ركبهم.
قوله تعالى (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا)
أخرج الطبري الصحيح عن مجاهد قوله (من كل شيعة) قال: أمة. وقوله (عتيا) ، قال: كفرا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أيهم أشد على الرحمن عتيا) ، يقول: عصيا.
قوله تعالى (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. فذكر حديث رؤية الرب في الآخرة، وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا يا رسول الله: وما الجسر؟ قال: "مدحضة مزلة عليع خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيقاء تكون بنجد يقال لها السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحباً فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه(3/346)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة ... ".
(الصحيح 13/431 ح 7439- ك التوحيد، ب قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة)) .
قال مسلم: حدثني هارون بن عبد الله، حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر، أنها سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عند حفصة: "لا يدخل النار، إن شاء الله، مِن أصحاب الشجرة، أحد. الذين بايعوا تحتها. قالت: بلى يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فانتهرها. فقالت حفصة: (وإن منكم إلا واردها) فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد قال الله عز وجل: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) .
(صحيح مسلم 4/1942 ح 2496- ك فضائل الصحابة، ب من فضائل أصحاب الشجرة) .
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عُبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي. قال: سألت مُرّة الهَمْداني عن قول الله عز وجل (وإن منكم إلا واردها) فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يرد الناس النار ثم يصدُرون منها بأعمالهم فأولهم كلَمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رِحله، ثم كشد الرّحل، ثم كمشيه".
قال: هذا حديث حسن ورواه شعبة عن السدي، فلم يرفعه. (السنن 5/317- ك التفسير، في سورة مريم ح 3159 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/375 ك التفسير مطولا وصححه الذهبي، وجعله البغوي في المصابيح من قسم الحسن (انظر المشكاة 3/1560 ح 5606) .
قال الحاكم: حدثني علي بن حمشاذ العدل، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي والحسين بن الفضل البجلي قالا: ثنا سليمان بن حرب، ثنا أبو صالح غالب بن سليمان بن حرب، عن كثير بن زياد أبي سهل، عن منية الأزدية، عن عبد الرحمن(3/347)
ابن شيبة قال: اختلفنا هاهنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا فقلت له: إنا اختلفنا فيها بالبصرة، فقال قوم: لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا؟ فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه فقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الورود: الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار -أو قال لجهنم- ضجيجا من نزفها" ثم قال: (ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا) .
(المستدرك 4/587 ك الأهوال وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي) . وأخرجه أحمد (المسند 3/328-329) والبيهقي (شعب الإيمان 2/259 ح 364) عن سليمان بن حرب به) وقال البيهقي: هذا إسناد حسن. وقال المنذري: رجاله ثقات (الترغيب 2/306) وقال الهيثمي رواه أحمد ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 7/55) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإن منكم إلا واردها) ، يعني: جهنم مر الناس عليها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (حتما) ، قال: قضاء.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (ونذر الظالمين فيها جثيا) على ركبهم.
قوله تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وأحسن نديا) ، يقول: مجلسا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أحسن أثاثا ورئيا) ، يقول: منظرا.
وانظر سورة الإسراء آية (17) .(3/348)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) أن صيغة الطلب في قوله (فليمدد) يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين وعليه فالمعنى أن الله أجرى العادة بأن يمهل الضال ويملي له فيستدرجه بذلك حتى يرى ما يوعده وهو في غفلة وكفر وضلال. وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) الآية، وقوله (فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة) الآية، كما قدمنا قريباً بعض الآيات الدالة عليه.
قوله تعالى (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) دليل على رجحان القول الثاني في الآية المتقدمة وأن المعنى أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة ومن اهتدى زاده الله هدى والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله في الضلال (فلما زاغو أزاغ الله قلوبهم) وقوله (بل طبع الله عليها بكفرهم) وقوله (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم) وقوله تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الآية. كما قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على هذا المعنى. وقال في الهدى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) وقال: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) وقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) الآية.(3/349)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
وانظر حديث أحمد عن عثمان المتقدم عند الآية (46) من سورة الكهف، وفيه تفسير الباقيات الصالحات.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (والباقيات الصالحات) ، قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله هن الباقيات الصالحات.
قوله تعالى (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا)
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: سمعت خبّاباً قال: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقلت: لا. حتى تموت ثم تبعث.
قال: وإني لميِّت ثم مبعوث؟ قلت: نعم. قال: إنّ لي هناك مالا وولدا فأقضيك، فنزلت هذه الآية (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا) .
رواه الثوري وشعبة وحفص وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش.
(صحيح البخاري 8/283- ك التفسير، سورة مريم، ب (الآية) ح 4732) ، (صحيح مسلم 4/2153- ك صفات المنافقين، وأحكامهم، ب سؤال اليهود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الروح.... ح 2795) .
قوله تعالى (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا)
قال الشيخ الشنقيطي: أظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) أن المعنى: أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة البقرة: (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) وخير ما يفسر به القرآن القرآن وقيل العهد المذكور: العمل الصالح. وقيل شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله تعالى (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا)
أخرج البستي في تفسيره بسنده الصحيح عن الضحاك يقول: (ويكونون عليهم ضدا) قال: أعداء.
قوله تعالى (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (تؤزهم أزاً) قال: تزعجهم إزعاجاً في معاصي الله.(3/350)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
قوله تعالى (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله (فلا تعجل عليهم) أي: لا تستعجل وقوع العذاب بهم فإن الله حدد له أجلا معينا معدودا فإذا انتهى ذلك الأجل جاءهم العذاب فقوله (إنما نعد لهم عدا) أي: نعد الأعوام والشهور والأيام التي دون وقت هلاكهم فإذا جاء الوقت المحدد لذلك أهلكناهم. والعرب تقول: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن هلاك الكفار حدد له أجل محدود ذكره في مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى (ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) وقوله تعالى (يستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) الآية، وقوله تعالى (وما نؤخره إلا لأجل معدود) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (إنما نعد لهم عدا) ، يقول: أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا، فهي معدودة كسنهم وآجالهم.
قوله تعالى (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) ، يقول: ركبانا.
قال البخاري: حدثنا معلي بن أسد، حدثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا: وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا".
(الصحيح 11/377 ح 6522- ك الرقاق، ب الحشر) وأخرجه مسلم (الصحيح 4/2195 ح 2861 - ك الجنة، ب فناء الدنيا وبيان الحشر..) وعنده: (راغبين راهبين) بدون واو بينهما.
قوله تعالى (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ونسوق المجرين إلى جهنم وردا) ، يقول: عطاشا.(3/351)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
قوله تعالى (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)
انظر حديث ابن خريمة عن أنس المتقدم عند الآية (31) من سورة النساء وهو حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) ، قال: العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجوا إلا الله.
قوله تعالى (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ... )
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية وأبو أسامة، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي موسى.
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا أحد أصبر على أذىً يسمعه من الله عز وجل، إنه يُشرك به، ويُجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم".
(الصحيح 4/2160 ح 2804- ك صفات المنافقين، ب لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل)
قوله تعالى (لقد جئتم شيئاً إدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (شيئاً إدا) يقول: قولا عظيما.
قوله تعالى (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا) ، قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول منه لعظمة الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وتخر الجبال هدا) يقول: هدما.(3/352)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قوله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)
قال البخاري: حدثني إسحاق، حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن عبد الله بن دينار- عن أبيه عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إن الله قد أحبّ فلانا فأحبه فيُحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض".
(صحيح البخاري 13/468 ح 7485- ك التوحيد، ب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه 4/2030 ح 2637- ك البر والصلة، ب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده) عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وزاد فيه: "وإذا أبغض عبدا دعا جبريل" وأخرجه الترمذي (السنن 5/317 ح 3161 وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (5/263) وفيهما زيادة في آخره: فذلك قول الله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) وقال الترمذي. حديث حسن صحيح. وأشار الحافظ إلى ثبوت هذه الزيادة عند الترمذي وابن أبي حاتم (الفتح 10/462) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (سيجعل لهم الرحمن ودا) قال: حبا.
قوله تعالى (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (لدا) قال: لايستقيمون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أو تسمع لهم ركزا) قال: صوتا.(3/353)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
سورة طه
قوله تعالى (طه)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة والحسن في قوله (طه) ، قالا: يا رجل.
قوله تعالى (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
لا والله ما جعله الله شقيا ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة.
قوله تعالى (إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى) قال الشيخ الشنقيطي: أظهر الأقوال فيه: أنه مفعول لأجله أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة أي إلا لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه والتذكرة الموعظة التي تلين لها القلوب فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم لأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) وقوله (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) وقوله (إنما أنت منذر من يخشاها) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (إلا تذكرة) وإن الله أنزل كتبه وبعت رسله رحمة رحم الله بها العباد، ليتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر له أنزل الله فيه حلاله وحرامه فقال: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات) .
قوله تعالى (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (يعلم السر وأخفى) قال: السر: ما أسر ابن آدم في نفسه. وأخفى: قال: ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه.(3/354)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قوله تعالى (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه المعبود وحده وأن له الأسماء الحسنى وبين أنه المعبود وحده في آيات لا يمكن حصرها لكثرتها كقوله (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقوله (فاعلم أنه لا إله إلا الله) الآية.
قوله تعالى (وهل آتاك حديث موسى) إلى قوله (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)
وفيها قصة تكليم الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام، وبعض الآيات وإرساله إلى فرعون مع هارون وقد ورد تفصيلها في سورة الأعراف (143-144) ، وسورة الشعراء (10-15) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أو أجد على النار هدى) ، يقول: من يدل على الطريق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنك بالواد المقدس) ، يقول: المبارك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (طوى) : اسم للوادي.
قوله تعالى (وأقم الصلاة لذكري)
قال مسلم: وحدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثني أبي، حدثنا المثنى عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: أقم الصلاة لذكري".
(صحيح مسلم 1/477 ح 316- ك المساجد ومواضع الصلاة، ب قضاء الصلاة الفائتة.
وأخرجه أيضا بنحوه من حديث أبي هريرة 1/471 ح 680. صحيح البخاري 2/84- ك مواقيت الصلاة، ب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ح 57) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (أقم الصلاة لذكرى) قال: إذا صلى ذكر ربه.(3/355)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أكاد أخفيها) ، يقول: لا أظهر عليها أحدا غيري.
أخرج البستي بسنده الصحيح عن عكرمة في قوله (وأهش بها على غنمي) قال: العصا أضرب بها الورق فيتساقط.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (ولي فيها مآرب أخرى) ، يقول: حاجة أخرى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (سيرتها الأولى) ، يقول: حالتها الأولى.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (إلى جناحك) ، قال: كفه تحت عضده.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (من غير سوء) ، قال: من غير برص.
قوله تعالى (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)
هذه الآيات في قصة موسى عليه السلام فترة أول حياته، انظر سورة القصص الآيات (7-13) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي في قوله (فاقذفيه في اليم) وهو البحر وهو النيل.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ولتصنع على عيني) قال: هو غذاؤه ولتغذى على عيني.(3/356)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
قال الشيخ الشنقيطي: هذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كون أخته مشت إليهم وقالت لهم: (هل أدلكم على من يكفله) أوضحه جل وعلا في سورة القصص فبين أن أخته المذكورة مرسلة من أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريما قدريا كونيا فقالت لهم أخته: (هل أدلكم على من يكفله) أي على مرضع يقبل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) فقوله تعالى في آية القصص هذه (وقالت لأخته) أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها (قصيه) أي: اتبعي أثره وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره.
قوله تعالى (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى)
قال مسلم: حدثنا عبد الله بن عُمر بن أبان وواصل بن عبد الأعلى وأحمد بن عمر الوكيعي -واللفظ لابن أبان- قالوا: حدثنا ابن فضيل عن أبيه. قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي، عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الفتنة تجيء من هاهنا" وأومأ بيده نحو المشرق مِن حيث يطلع قرنا الشيطان" وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض. وإنما قتل موسى الذي قتل، مِن آل فرعون، خطأ فقال الله عز وجل له (وقتلت نفسا فنجّيناك من الغم وفتنّاك فتونا) . قال أحمد بن عمر في روايته عن سالم: لم يقل: سمعت.
(صحيح مسلم 3/2229-2230- ك الفتن وأشراط الساعة، ب الفتنة في المشرق من حيث طلع قرنا الشيطان) .(3/357)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله لهذه النفس ولا ممن هي ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم ولا الفتون الذي فتنه ولكنه بين في سورة القصص خبر القتيل المذكور في قوله تعالى (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين. قال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) وأشار إلى القتيل المذكور في قوله (قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى (فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه (وفعلت فعلتك التي فعلت) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فنجيناك من الغم) قال: من غم قتل النفس.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وفتناك فتونا) ، يقول: اختبرناك اختبارا.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى) السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (على قدر يا موسى) قال: على موعد.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (على قدر يا موسى) قال: على قدر الرسالة والنبوة.(3/358)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قوله تعالى (واصطنعتك لنفسي)
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا محمد ابن سرين عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت الذي أشقيت الناسَ وأخرجتهم من الجنة؟ قال له آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم.
قال: فوجدتها كُتب عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم. فحجّ آدم موسى".
(صحيح البخاري 8/288- ك التفسير- سورة طه ح 4736) .
قوله تعالى (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكرى)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (ولا تنيا) قال: لا تضعفا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ولا تنيا) ، يقول: لا تبطئا.
قوله تعالى (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) أمر الله جل وعلا نبيه موسى وهرون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يقولا لفرعون حال تبليغ رسالة الله إليه (قولا لينا) أي كلاما لطيفا سهلا رقيقا ليس فيه ما يغضب وينفر وقد بين جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله (اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) وهذا والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أن يفرط علينا) قال: عقوبة منه.
قوله تعالى (إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أن العذاب على من كذب وتولى) كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله.(3/359)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
قوله تعالى (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) سؤال فرعون عن رب موسى وجواب موسى له جاء موضحا في سورة الشعراء بأبسط مما هنا وذلك في قوله (قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ، يقول: خلق لكل شيء زوجة، ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة والحسن في قوله (أعطى كل شيء خلقه) ، قال: أعطى كل شيء ما يصلحه، ثم هداه لذلك.
قوله تعالى (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) ، يقول: لا يخطيء ربي ولا ينسى.
قوله تعالى (الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وسلك لكم فيها سبلا) أي طرقا.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله في هذه الآية (أزواجا من نبات شتى) أي أصنافا مختلفة من أنواع النبات فالأزواج جمع زوج، وهو هنا الصنف من النبات كما قال تعالى في سورة الحج (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن من أصناف النبات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (من نبات شتى) ، يقول: مختلف.(3/360)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
قوله تعالى (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى)
انظر آية (128) من السورة نفسها لبيان النهى: التقى.
قوله تعالى (ومنها نخرجكم تارة أخرى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ومنها نخرجكم تارة أخرى) يقول: مرة أخرى.
قوله تعالى (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)
انظر بيان الآيات سورة الإسراء آية (101) وفيها بيان الآيات المعجزات التسع، وسورة الشعراء آية (32-33) .
قوله تعالى (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)
انظر سورة الشعراء آية (34-37) وفي هذه الآيات بيان أن فرعون هو الذي أخبر لقومه أن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بواسطة سحره، وأن جمع السحرة جاء بعد مشاورة بين فرعون وقومه، وانظر آية (63) من هذه السورة.
قوله تعالى (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (مكانا سوى) قال: منصفا بينهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (قال موعدكم يوم الزينة) يوم عيد كان لهم. وقوله (وأن يحشر الناس ضحى) يجتمعون لذلك الميعاد الذي وعدوه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (فيسحتكم بعذاب) يقول: فيهلككم.
انظر عن كيد فرعون في جمع السحرة وإبطال سحرهم على يد موسى عليه السلام في سورة الأعراف آية (113-119) .(3/361)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
قوله تعالى (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) من دون موسى وهارون، قالوا في نجواهم (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) قالوا: إن هذان لساحران يعنون بقولهم: إن هذان موسى وهارون، لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ويذهبا بطريقتكم المثلى) ، يقول: أمثلكم وهم بنو إسرائيل.
قوله تعالى (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) فأوحى الله إليه (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا) فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا و (قالوا آمنا برب العالمين رب هارون وموسى) .
وانظر تفصيل سبب سجودهم في سورة الأعراف الآية (107-120) .
قوله تعالى (قال آمنتم له قبل أن أذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصبنكم في جذوع النخل) أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولأصلبنكم في جذوع النخل) لما رأى السحرة ما جاء به عرفوا أنه من الله فخروا سجدا، وآمنوا عند ذلك، قال عدو الله (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) .. الآية.(3/362)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
قوله تعالى (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
انظر سورة الشعراء آية (50-51) .
قوله تعالى (إنه من يأت ربه مجرما فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى)
قال مسلم: وحدثي نصر بن علي الجهضمي، حدثنا بِشر -يعني ابن المفضل-، عن أبي مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون.
ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبُثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل" فقال رجل من القوم: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان بالبادية.
(الصحيح 1/172-173 ح 185- ك الإيمان، في إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار) .
وانظر تتمة قول السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وتحديهم لفرعون، في سورة الأعراف آية (125-126) .
قوله تعالى (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يسري بعباده، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلاً، وأن يضرب لهم طريق في البحر يبسا، أي يابسا لا ماء فيه ولا بلل، وأنه لا يخاف من فرعون وراءه أن يناله بسوء. ولا يخشى البحر أمامه أن يغرق قومه. وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع كقوله في سورة الشعراء (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا(3/363)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
لجميع حاذرون فأخرجنهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) .
قال البخاري: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا روح، حدثنا شعبة، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا؟ هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نحن أولى بموسى منهم فصوموه".
(صحيح البخاري 8/288- ك التفسير- سورة طه، ب (الآية) ح 4737) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (يبسا) ، قال: يابسا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (لا تخاف دركا ولا تخشى) يقول: (لا تخاف) من آل فرعون (دركا ولا تخشى) من البحر غرقا.
قوله تعالى (وأضل فرعون قومه وما هدى)
قال الشيخ الشنقيطي: يعني أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليها. وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيمة فأوردهم النار بئس الورد المورود) .
قوله تعالى (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى)
انظر سورة البقرة آية (57) وفيها بيان المن والسلوى، وانظر آية (51) لبيان المواعدة.(3/364)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
قوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ولا تطغوا فيه) ، يقول: ولا تظلموا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (فيحل عليكم غضبي) يقول: فينزل عليكم غضبي.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فقد هوى) ، يقول: فقد شقى.
قوله تعالى (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وإني لغفار لمن تاب) من الشرك (وآمن) ، يقول: وحد الله (وعمل صالحاً) ، يقول: أدى فرائضي.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ثم اهتدى) ، يقول: لم يشكك.
قوله تعالى (قال فإنا قد فتننا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي)
قال الحاكم: أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الحنظلي، ثنا جعفر بن محمد بن شاكر، ثنا عفان، ثنا أبو عوانة -وأخبرنا- أبو الحسين، ثنا جعفر، ثنا سعد بن عبد الحميد، ثنا هشام عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ورحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح".
(وصححه الحاكم في (المستدرك 2/380- ك التفسير- سورة طه. ووافقه الذهبي) .(3/365)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) : أي حزينا على ما صنع قومه من بعده.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (موعدي) قال: عهدي، وذلك العهد والموعد هو ما بيناه قبل.
قوله تعالى (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ما أخلفنا موعدك بملكنا) ، يقول: بأمرنا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (أوزارا) ، قال: أثقالا.
وقوله (من زينة القوم) ، قال: هي الحلي التي استعاروها من آل فرعون فهي الأثقال أو الأنفال.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فقذفناها) قال: فألقيناها (فكذلك ألقى السامري) : كذلك صنع.
قوله تعالى (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فنسي) يقول: قال السامري: موسى نسى ربه عندكم. وهو اختيار الطبري.
وانظر في الآيات التالية (95-97) من السورة نفسها لبيان صنيع السامري وبين في سورة الأعراف آية (148) أن العجل من حليم أي من الذهب.
قوله تعالى (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ألا يرجع إليهم قولا) ، العجل.
قوله تعالى (ولقد قال لهم هارون من قبل إنما فتنتم به)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (قال لهم هارون من قبل إنما فتنتم به) ، يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل.(3/366)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
قوله تعالى (قال فما خطبك يا سامري)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (قال فما خطبك يا سامري) قال: مالك يا سامري.
قوله تعالى (قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) ، قال: من تحت حافر فرس جبرئيل نبذه السامري على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدا له خوار، حفيف الريح فيه فهو خواره، والعجل: ولد البقرة.
قوله تعالى (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مِساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) ، قال: عقوبة له.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإن لك موعدا لن تخلفه) يقول: لن تغيب عنه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ظلت عليه عاكفا) الذي أقمت عليه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ثم لننسفنه في اليم نسفا) ، يقول: لنذرينه في البحر.
قوله تعالى (يوم القيامة وزرا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (يوم القيامة وزرا) قال: إثما.
قوله تعالى (وساء لهم يوم القيامة حملا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وساء لهم يوم القيامة حملا) ، يقول: بئسما حملوا.(3/367)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
قوله تعالى (يتخافتون بينهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (يتخافتون بينهم) ، يقول: يتسارون بينهم.
قوله تعالى (فيذرها قاعا صفصفا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (قاعا صفصفا) ، يقول: مستويا لانبات فيه.
قوله تعالى (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) ، يقول: واديا، ولا أمتا: يقول: رابية.
قوله تعالى (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وخشعت الأصوات للرحمن) ، يقول: سكنت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فلا تسمع إلا همسا) ، يقول: الصوت الخفي.
قوله تعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (يعلم ما بين أيديهم) من أمر الساعة (وما خلفهم) من أمر الدنيا.
قوله تعالى (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وعنت الوجوه للحي القيوم) ، يقول: ذلت.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وقد خاب من حمل ظلما) ، قال: من حمل شوكا.(3/368)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قوله تعالى (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه فلا يخاف ظلما ولا هضما. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) وقوله (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فلا يخاف ظلما ولا هضما) ، قال: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته ولا يظلم فيهضم في حسناته.
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ما حذروا به من أمر الله وعقابه، ووقائعه بالأمم قبلهم (أو يحدث لهم) القرآن (ذكرا) أي جداً وورعا.
وانظر سورة فصلت آية (3) .
قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) قال: لا تتله على أحد حتى نبينه لك.(3/369)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شدة حرصه على حفظ القرآن؛ فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي. فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي ثم يقرؤه هو بعد ذلك فإن الله ييسر له حفظه. وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع كقوله في القيامة (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرانه ثم إن علينا بيانه) .
قوله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله (ولقد عهدنا إلى آدم) أي أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة. وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع كقوله في البقرة (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فقوله (ولا تقربا هذه الشجرة) هو عهده إلى آدم المذكور هنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) ، يقول: فترك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولم نجد له عزما) أي: صبرا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (ولم نجد له عزما) ، يقول: لم نجعل له عزما.
قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى)
انظر سورة البقرة آية (34) وتفسيرها.
قوله تعالى (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)
انظر سورة البقرة آية (35) وتفسيرها.(3/370)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "حاجّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال: قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله على قبل أن يخلقني، أو قدّره عليّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فحجّ آدم موسى".
(صحيح البخاري 8/288 ح 4738- ك التفسير، سورة طه) ، (صحيح مسلم 4/2043 ح 15- ك القدر) .
قوله تعالى (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) يقول: لا يصيبك فيها عطش ولا حر.
قوله تعالى (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) إن أكلت منها كنت ملكا مثل الله (أو تكونا من الخالدين) فلا تموتان أبدا.
قال الشيخ الشنقيطي: الفاء في قوله (فأكلا) تدل على أن سبب أكلهما هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله (فوسوس إليه الشيطان) أي: فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة. وكذلك الفاء في قوله (فبدت لهما سوءاتهما) تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما من الشجرة المذكورة، فكانت وسوسة الشيطان سببا للأكل من تلك الشجرة، وكان الأكل منها سببا لبدو سوءاتهما.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) يقول: يوصلان عليهما من ورق الجنة.(3/371)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
قوله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة عند آية (117) سورة طه.
قوله تعالى (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى)
انظر تفسيرها في سورة البقرة آية (37) قوله تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) .
قوله تعالى ( ... فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)
أخرج ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس: ضمن الله لمن تبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) .
(المصنف 13/371 ح 1663) وأخرجه أبو الفضل عبد الرحمن الرازي في فضائل القرآن ح 84، من طريق ابن أبي شيبة وحسنه المحقق) وأخرجه الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بنحوه، وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/381) .
قوله تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)
قال ابن حبان: أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا حماد ابن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله جل وعلا: (فإن له معيشة ضنكا) ، قال: عذاب القبر.
(الإحسان 7/388-389 ح 3119) . وأخرجه الحاكم (المستدرك 1/381) من طريق أبي داود السجستاني عن أبي الوليد به. وسكت عنه هو والذهبي. وحسن الشيخ الأرنؤوط إسناده في حاشية الإحسان. وأخرج له الحاكم شاهدا من حديث أبي سعيد (المستدرك 2/381) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق حماد بن سلمة به، نقله ابن كثير وقال: إسناد جيد (التفسير 5/317) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (معيشة ضنكا) قال: الضنك الضيق، يقال: ضنكا في النار.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فإن له معيشة ضنكا) ، يقول: الشقاء.(3/372)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قوله تعالى (ونحشره يوم القيامة أعمى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ونحشره يوم القيامة أعمى) ، قال: عن الحجة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جل ثناؤه فعم ولم يخصص.
قوله تعالى (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وقد كنت بصيرا) في الدنيا بصيرا بحجتي.
قوله تعالى (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) ، قال: نسي من الخير ولم ينس من الشر.
قوله تعالى (وكذلك نجزي من أسرف)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وكذلك نجزي من أسرف) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار وذلك في قوله تعالى (وأن المسرفين هم أصحاب النار) وبين في موضع آخر أن محل ذلك إذا لم ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه وذلك في قوله (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) إلى قوله (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب) الآية.
قوله تعالى (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن عذاب الآخرة أشد وأبقى أي أشد ألما وأدوم من عذاب الدنيا، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى (ولعذاب الآخرة أشق ومالهم من الله من واق) .(3/373)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قوله تعالى (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم) لأن قريشا كانت تتجر إلى الشام، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لأولي النهي) ، بقول: التقى.
قوله تعالى (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) الأجل المسمى: الدنيا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (لكان لزاما) ، يقول: موتا.
قوله تعالى (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)
قال البخاري: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن إسماعيل، حدثنا قيس قال لي جرير بن عبد الله: كنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون -أو لا تضاهون- في رُؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قال (فسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) .
(صحيح البخاري 2/63- ك مواقيت الصلاة- ب فضل صلاة الفجر ح 573) .
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم، جميعاً عن وكيع. قال أبو كريب: حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد ومسعر والبختري بن المختار. سمعوه من أبي بكر بن عمارة بن رُؤيبة عن أبيه. قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل(3/374)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
غروبها" يعني الفجر والعصر. فقال له رجل من أهل البصرة: أنت سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم. قال الرجل: وأنا أشهد إني سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. سمعته أذناي ووعاه قلبي.
(الصحيح 1/440 ح 634 ك المساجد، ب فضل صلاة الصبح والعصر ... ) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) ، قال: هي صلاة الفجر (وقبل غروبها) ، قال: صلاة العصر (ومن آناء الليل) ، قال: صلاة المغرب والعشاء (وأطراف النهار) قال: صلاة الظهر.
قوله تعالى (زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم ليه ورزق ربك خير وأبقى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (زهرة الحياة الدنيا) : أي زينة الحياة الدنيا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لنفتنهم فيه) ، قال: لنبتليهم فيه (ورزق ربك خير وأبقى) مما متعنا به هؤلاء من هذه الدنيا.
قوله تعالى (نحن نرزقك والعاقبة للتقوى)
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن عُمر بن سليمان قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه؛ قال: خرج زيد بن ثابت من عند مَرْوان، بنصف النهار. قلتُ: ما بعث إليه، هذه الساعة، إلا لشيء سأل عنه. فسألته، فقال: سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومَن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
(السنن 2/1375 - ك الزهد، ب الهم بالدنيا ح 4105) قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة بنحوه ورواه الطبراني بإسناد لا بأس به ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه ورواه أبو يعلى الموصلي من طريق أبان بن عثمان عن زيد بن ثابت وله شاهد عن حديث أبي هريرة رواه الترمذي في الجامع وابن ماجة. (مصباح الزجاجة 2/321) . وقال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجة 2/393) . ذكره ابن كثير (5/322) . وقال الحافظ العراقي. إسناد جيد (تخريج الأحياء 6/2387 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في (الأوسط) ثم قال: ورجاله وثقوا (مجمع الزوائد 10/247) .(3/375)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
قوله تعالى (أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) ، قال: التوراة والأنجيل.
وقد بين الله تعالى إن الصحف الأولى هي صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام كما في نهاية سورة الأعلى، وقد فصل الله عز وجل بعض ما في صحف إبراهيم وموسى قال تعالى (أم لن ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفي ... ) الآيات: 36-54.
قوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى)
انظر حديث أحمد عن الأسود بن سريع المتقدم عند الآية (15) من سورة الإسراء وفيه: "وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول".
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) هذه الآية تشير إلى معناها آية القصص التي هي قوله تعالى (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) .
قوله تعالى (قل كل متربص فتربصوا)
قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله جل وعلا نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الآية الكريمة: أن يقول للكفار الدين يقترحون عليه الآيات عنادا وتعنتا: كل منا ومنكم متربص أي منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه والمسلمون كله خير؛ لعكس ما ينتظر ويتربص الكفار؛ كقوله تعالى (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) ، وقوله (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء) الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والتربص: الانتظار.(3/376)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
سورة الأنبياء
قوله تعالى (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)
قال النسائي: أنا أحمد بن نصر، أنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي، نا أبو معاوية، نا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (في غفلة معرضون) قال: في الدنيا.
(التفسير 2/71 ح 352- تفسير سورة الأنبياء، آية 1) . وأخرجه الطبري (التفسير 17/1) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة بمثله. وإسناده صحيح، ويشهد له ما أخرجه البخاري من حديث أبي صالح عن أبي سعيد -أيضا- في تفسير قوله تعالى (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة) قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا". وتقدم الحديث عند الآية (107-108) من سورة هود.
وانظر حديث البخاري ومسلم عن عائشة الآتي عند الآية رقم (8) من سورة الانشقاق وفيه: "بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى".
قوله تعالى (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) الآية، يقول: ما ينزل عليهم من شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون.
قوله تعالى (لاهية قلوبهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (لاهية قلوبهم) يقول: غافلة قلوبهم.
قوله تعالى (وأسروا النجوى)
انظر سورة النساء آية (114) وتفسير الشيخ الشنقيطي.
قوله تعالى (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (أضغاث أحلام) قال: مشتبهة.(3/377)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أضغاث أحلام) أي فعل حالم، إنما هي رؤية رآها (بل افتراه بل هو شاعر) كل هذا قد كان منهم. وقوله (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) يقول كما جاء عيسى بالبينات وموسى بالبينات، والرسل.
قوله تعالى (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أهلكناها أفهم يؤمنون) يصدقون بذلك.
قوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) يقول: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) قال: أهل القرآن.
قوله تعالى (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) يقول: ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وما كانوا خالدين) أي لا بد لهم من الموت أن يموتوا.
قوله تعالى (وأهلكنا المسرفين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وأهلكنا المسرفين) والمسرفون: هم المشركون.
قوله تعالى (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فيه ذكركم) قال: حديثكم.
قوله تعالى (وكم قصمنا من قرية)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (وكم قصمنا) قال: أهلكنا.(3/378)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
قوله تعالى (لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (لا تركضوا) لا تفروا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) يقول: ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (لعلكم تسئلون) قال: تفقهون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (لعلكم تسئلون) استهزاء بهم.
قوله تعالى (قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين لما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فما زالت تلك دعواهم) ...
الآية، فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم هجيرى إلا قولهم (يا ويلنا إنا كنا ظالمين) حتى دمر الله عليهم وأهلكهم.
قوله تعالى (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) يقول: ما خلقناهما عبثا ولا باطلا.
قوله تعالى (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (لاتخذناه من لدنا) من عندنا، وما خلقنا جنة ولا ناراً، ولا موتا ولا بعثاً
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (إن كنا فاعلين) يقول: ما كنا فاعلين.
قوله تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) والحق كتاب الله، والباطل إبليس، فيدمغه فإذا هو زاهق أي ذاهب.(3/379)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فإذا هو زاهق) قال ذاهب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ولكم الويل مما تصفون) أي تكذبون.
قوله تعالى (وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (ولا يستحسرون) لا يرجعون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) يقول: الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته، ولا يسأمون فيها.
قوله تعالى (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنشِرون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (يُنشِرون) يقول: يحيون.
قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) يسبح نفسه إذا قيل عليه البهتان.
قوله تعالى (لا يسئل عما يفعل وهم يُسئلون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (لا يسئل عما يفعل وهم يُسئلون) يقول: لا يشل عما يفعل بعباده، وهم يسئلون عن أعمالهم.
قوله تعالى (قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (قل هاتوا برهانكم) يقول: هاتوا بينتكم على ما تقولون.(3/380)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (هذا ذكر من معي) يقول: هذا القرآن فيه ذكر الحلال والحرام (وذكر من قبلي) يقول: ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم وإلى ما صاروا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) عن كتاب الله.
قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) قال: أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد، ولا يقبل منهم عمل حتى يقولوه ويقروا به.
قوله تعالى (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون)
انظر سورة مريم آية (88-89) وفيها حديث مسلم عن أبي موسى.
قوله تعالى (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قال: قال الله (لايسبقونه بالقول) يثنى عليهم (وهم بأمره يعملون) .
قوله تعالى ( ... ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)
قال الحاكم: حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر بن أحمد بن موسى المزكي ثنا محمد بن إبراهيم العبدي ثنا يعقوب بن كعب الحلبي، ثنا الوليد بن مسلم عن زهير ابن محمد العنبري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا قول الله عز وجل (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فقال: "إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك 2/382- ك التفسير) وصححه الذهبي. ويشهد له حديث أنس برواية ابن خزيمة في تفسير سورة النساء آية (31) .(3/381)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) يقول: الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة وقوله (وهم من خشيته مشفقون) يقول: وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحل بهم مشفقون: يقول: حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.
قوله تعالى (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) وإن كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيما، فقال (فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) .
قوله تعالى (أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حيّ أفلا يؤمنون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا) يقول: ملتصقين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) قال: كان الحسن وقتادة يقولان: كانتا جميعاً، ففصل الله بينهما بهذا الهواء.
قال ابن حبان: أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء، قال: "كل شيء خلق من الماء". فقلت: أخبرني بشيء(3/382)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
إذا عملت به، دخلت الجنة. قال: "أطعم الطعام، وأفش السلام، وصِلِ الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، تدخل الجنة بسلام".
(الإحسان 6/299 ح 2559. قال محققه: رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي ميمونة. وأخرجه الإمام أحمد (المسند 2/295) عن يزيد عن همام به. والحاكم (المستدرك 4/160) من طريق: الحارث بن أبي أسامة عن يزيد عن همام به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا أبا ميمونة وهو ثقة (مجمع الزوائد 5/16) . وصححه محقق المسند أيضا. وقال ابن كثير: هذا إسناد على شرط الشيخين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن اسمه (سليم) والترمذي يصحح له (التفسير 5/333) وصحح إسناده الألباني (إرواء الغليل 3/238) .
قوله تعالى (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وجعلنا في الأرض رواسى) أي جبالا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وجعلنا فيها فجاجا) أي أعلاما وقوله (سبلا) أي طرقا. وهي جمع السبيل.
قوله تعالى (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون)
قال الشيخ الشنقيطي: تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أن الله جل وعلا جعل السماء سقفا، أي لأنها للأرض كالسقف للبيت.
الثانية: أنه جعل ذلك السقف محفوظا.
الثالثة- أن الكفار معرضون عما فيها (أي السماء) من الآيات، لا يتعظون به ولا يتذكرون. وقد أوضح هذه المسائل الثلاث في غير هذا الموضع. أما كونه جعلها سقفا فقد ذكره في سورة الطور أنه مرفوع وذلك في قوله (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) الآية وأما كون ذلك السقف محفوظا فقد بينه في مواضع من كتابه، فبين أنه محفوظ من السقوط في قوله: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) وأما كون الكفار معرضين عما فيها من الآيات فقد بينه في مواضع من كتابه كقوله تعالى (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) وقوله (وإن يروا آية يعرضوا) الآية، وقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لايؤمنون ولو جاءتهم كل آية) .(3/383)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (سقفا محفوظا) قال: مرفوعا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وهم عن آياتنا معرضون) قال: الشمس والقمر والنجوم آيات السماء.
قوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (كل في فلك يسبحون) قال: فلك كهيئة حديدة الرحى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (كل في فلك يسبحون) : أي فلك في السماء
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (كل في فلك يسبحون) قال: يجرون.
قوله تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ونبلوكم بالخير والشر فتنة وإلينا ترجعون) المعنى ونختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا وبما يجب فيه الشكر من النعم وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسن ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر وقوله (فتنة) مصدر مؤكد لـ (نبلوكم) من غير لفظه وما ذكره جل وعلا من أنه يبتلي خلقه أي يختبرهم بالشر والخير قد بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) وقوله تعالى (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (ونبلوكم بالشر والخير) يقول: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، وقوله (وإلينا ترجعون) يقول: وإلينا يردون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها.(3/384)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
قوله تعالى (خلق الإنسان من عجل)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (خلق الإنسان من عجل) قال: خلق عجولا.
قوله تعالى (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار..)
انظر حديث عدي بن حاتم المتقدم تحت الآية (131) من سورة آل عمران وفيه: "ثم ينظر فلا يرى شيئاً قدامه، ثم ينظر بين يديه فتقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة".
قوله تعالى (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) قل من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن.
قوله تعالى (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم) يعني الآلهة (ولا هم منا يصحبون) يقول: لا يصحبون من الله بخير.
قوله تعالى (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن معمر عن قتادة في قوله تعالى (ننقصها من أطرافها) . قال الحسن: هو ظهور المسلمين على المشركين. وقال عكرمة: هو الموت.
انظر سورة الرعد آية (41) .
قوله تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون) يقول: إن الكافر قد صم عن كتاب الله لا يسمعه، ولا ينتفع به ولا يعقله، كما يسمعه المؤمن وأهل الإيمان.(3/385)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
قوله تعالى (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك) ... الآية يقول: لئن أصابتهم عقوبة.
قوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) قال: إنما هو مثل، كما يجوز الوزن كذلك يجوز الحق.
وانظر حديث ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو المتقدم عند الآية (8) من سورة الأعراف (وهو حديث البطاقة) .
أخرج البستي بسنده الصحيح عن مجاهد: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) قال: جازينا بها.
قوله تعالى (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) الفرقان: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله به بين الحق والباطل.
قوله تعالى (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)
وفي هذه الآية بيان لبعض صفات المتقين.
قوله تعالى (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وهذا ذكر مبارك) ... إلى قوله (أفأنتم له منكرون) : أي هذا القرآن.
قوله تعالى (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل) قال: هديناه صغيرا.(3/386)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قوله تعالى (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون)
قال الضياء المقدسي: أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر الحافظ -بغداد- أن محمد بن عبد الله بن نصر بن الزاغوني أخبرهم، أنا أبو نصر محمد بن محمد الزينبي، أنا محمد بن عمر بن علي بن خلف، ثنا محمد بن السري التمار، ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، ثنا وكيع، عن فضيل بن مرزوق، عن ميسرة النهدي قال: مرّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) .
(المختارة 2/361 ح 744) وصححه محققه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) قال: الأصنام.
قوله تعالى (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
انظر سورة الشعراء آية (69-82) .
قوله تعالى (وتالله لأكيدن أصنامكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (وتالله لأكيدن أصنامكم) قال: قول إبراهيم حين استتبعه قومه إلى عيدهم فأبى وقال: إني سقيم، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر، وهو الذي يقول (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) .
قوله تعالى (فجعلهم جذاذا إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (فجعلهم جذاذا) يقول: حطاما.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قال: جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدرهم الذي ترك.(3/387)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (لعلهم إليه يرجعون) قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون.
قوله (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) قال: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
قوله تعالى (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون)
قال البخاري: حدثنا محمد بن محبوب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله عز وجل: قوله (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) .
وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ها هُنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها فقال: مَن هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبّيني. فأرسل إليها، فلمّا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ: فقال: ادعي الله لي ولا أضرّك، فدعت الله فأُطلق. ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادْعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأُطلق. فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلى، فأومأ بيده: مَهيم؟ قالت: ردّ الله كيد الكافر -أو الفاجر- في نحره، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء.
(صحيح البخاري 6/447- ك أحاديث الأنبياء، ب قول الله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ح 3358. (صحيح مسلم 3/1840-1841 ح 2371- ك الفضائل، ب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (بل فعله كبيرهم هذا) ... الآية، وهي هذه الخصلة التي كادهم بها.(3/388)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
قوله تعالى (ثم نكسوا على رءوسهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال الله (ثم نكسوا على رءوسهم) أدركت الناس حيرة سوء.
قوله تعالى (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم)
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى -أو ابن سلام عنه- أخبرنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك رضي الله عنهما: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الوزغ. وقال: "كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام".
(الصحيح 6/448 ح 3359- ك الأنبياء، ب قوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) . وفي رواية لأحمد: "لم تكن دابة إلا تطفئ النار عنه غير الوزغ فإنه كان ينفخ عليه) . المسند (6/109) .
قوله تعالى (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) كانا بأرض العراق، فأنجيا إلى أرض الشام.
قوله تعالى (ووهبا له إسحاق ويعقوب نافلة)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (إسحاق ويعقوب نافلة) قال: عطاء.
قوله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) جعلهم الله أئمة يقتدى بهم في أمر الله وقوله (يهدون بأمرنا) يقول: يهدون الناس بأمر الله إياهم لذلك، ويدعونهم إلى الله وإلى عبادته.
قوله تعالى (ولوط آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين)
انظر عن قصة نجاة لوط وتدمير قومه في سورة الأعراف آية (80-88) وسورة هود آية (77-83) .(3/389)
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
قوله تعالى (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)
انظر قصة نوح ودعاءه وإغراق قومه في سورة هود آية (25-41) .
قوله تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم القوم وكنا لحكمهم شاهدين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (إذ نفشت فيه غنم القوم) قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث، وعليهم رعايتها على أهل الحرث، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل، ثم يدفعونه إلى أهله، ويأخذون غنمهم.
قوله تعالى (ففهمناها سليمان..)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشُقّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى". قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية.
(الصحيح 12/56 ح 6769- ك الفرائض، ب إذا ادعت المراة ابنا) ، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الأقضية، ب بيان اختلاف المجتهدين ح 1720) .
قوله تعالى (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر الجبال أي ذللها(3/390)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
وسخر الطير تسبح مع داود وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من تسخيره الطير والجبال تسبح مع نبيه داود بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبى معه والطير) الآية وقوله (أوبي معه) أي رجعي معه التسبيح وكقوله تعالى (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير) : أي يصلين مع داود إذا صلى.
قوله تعالى (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) الضمير في قوله (علمناه) راجع إلى داود والمراد بصنعة اللبوس صنعة الدروع ونسجها، والدليل على أن المراد باللبوس في الآية الدروع أنه أتبعه بقوله (لتحصنكم من بأسكم) أي لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض لأن الدرع تقيه ضرر الضرب بالسيف والرمي بالرمح والسهم كما هو معروف وقد أوضح هذا المعنى بقوله (وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد) فقوله (أن اعمل سابغات) أي أن اصنع دروعا سابغات من الحديد الذي ألناه لك.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، قوله (وعلمناه صنعة لبوس لكم) الآية، قال: كانت قبل داود صفائح، قال: وكان أول من صنع هذا الحلق والسرد داود.
قوله (ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولسليمان الريح عاصفة) إلى قوله (وكنا لهم حافظين) قال: ورث الله سليمان داود، فورثه نبوته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين.(3/391)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر لسليمان من يغوصون له من الشياطين أي يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان والغوص النزول تحت الماء والغواص الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللولؤ ونحوه. وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أيضاً أن الشياطين المسخرين له يعملون له عملاً دون ذلك أي سوى ذلك الغوص المذكور أي كبناء المدائن والقصور وعمل المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات وغير ذلك من الصنائع العجيبة وقوله في هذه الآية الكريمة (وكنا لهم حافظين) أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه وهذه المسائل الثلاث التي تضمنتها هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في غير هذا الموضع كقوله في الغوص والعمل سواء (والشياطين كل بناء وغواص) الآية وقوله في العمل غير الغوص (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) وقوله (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) وكقوله في حفظهم من أن يزيغوا عن أمره (ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) وقوله (وآخرين مقرنين في الأصفاد) .
قوله تعالى (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "بينما أيوب يغتسل عُريانا خرّ عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثى في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عمّا ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك".
(الصحيح 6/484 ح 3391) - ك أحاديث الأنبياء، ب قول الله تعالى (وأيوب إذ نادى ربه)) .
قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا(3/392)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة".
(السنن 4/601-602- ك الزهد، ب ما جاء في الصبر على البلاء ح 2398) وقال: حديث حسن صحيح) . وأخرجه الدارمي في سننه (2/320- ك الرقاق، ب أشد الناس بلاء) ، والحاكم في المستدرك (1/41) كلاهما من طريق: سفيان، عن عاصم به نحوه. وأخرجه ابن حبان (الإحسان 4/253 ح 2910) من طريق هدبة بن خالد، عن حماد به. وأخرجه الضياء المقدسي في (المختارة 3/252-255 ح 1056-1059) من طرق عن عاصم به. قال محققه في جميع هذه الروايات: إسناده صحيح، وعزاه العراقي للطبراني وصحح إسناده (تخريج الأحياء 5/2100 ح 3310) .
قوله تعالى (وآتيناه أهله ومثلهم معهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قال الحسن وقتادة: أحيا الله أهله بأعيانهم، وزاده إليهم مثلهم.
انظر سورة ص آية (41-44) للمزيد عن أيوب عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)
انظر سورة مريم آية (56-57) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (وذا الكفل) قال رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمه لهم، ويقضى بينهم بالعدل، ففعل ذلك فسمي ذا الكفل.
وقد رجح ابن كثير أن ذا الكفل نبي وتوقف الطبري في ذلك.
قوله تعالى (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)
قال الترمذى: حدثنا محمد بن يحيى. حدثنا محمد بن يوسف. حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه عن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له".
(السنن 5/528- ك الدعوات ح 3505) وأخرجه أحمد (المسند 1/170) والحاكم في (المستدرك 2/382-383- ك التفسير) من طريق محمد بن علي الرقي عن محمد بن يوسف به، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة (3/233-236 ح 1040-1042) من طرق عن يونس بن أبي إسحاق به مطولاً، وصحح محققه أسانيدها. وصححه أحمد شاكر في حاشيته على المسند (ح 1462) ، وصحح إسناده الألباني (صحيح سنن الترمذي ح 2785) .(3/393)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فظن أن لن نقدر عليه) يقول: ظن أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، قوله (فنادى في الظلمات) ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت.
قوله تعالى (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)
انظر تفاصيل قصة يونس في سورة الصافات آية (139-148) .
قوله تعالى (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يُسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)
انظر لبيان قصة زكريا عليه السلام سورة آل عمران الآيات (37-41) وسورة مريم الآيات (2-11) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (وأصلحنا له زوجه) كانت عاقرا، فجعلها ولودا، ووهب له منها يحيى.
أخرج البستي بسنده الحسن عن الحسن في قوله في قصة زكريا (ويدعوننا رغبا ورهبا) قال: ذلك لأمر الله - جل اسمه.
قوله تعالى (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين)
انظر سورة مريم الآيات (16-34) ، وسورة التحريم آية (12) .
قوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (أمتكم أمة واحدة) يقول: دينكم دين واحد.(3/394)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
قوله تعالى (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون)
قال البخاري: حدثنا أحمد: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم، عن الحجاج بن حجاج، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عتبة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليحجّن البيتُ وليعتمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" تابعه أبان وعمران عن قتادة. وقال عبد الرحمن عن شعبة قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يُحجّ البيتُ". والأول أكثر. سمع قتادة عبدَ الله وعبدُ الله أبا سعيد.
(الصحيح 3/531 ح 1593) - ك الحج- ب قول الله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ... )) .
قال ابن ماجة: حدثنا أبو كريب. ثنا يونس بن بكر، عن محمد بن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تفْتح يأجوج ومأجوج. فيخرجون كما قال الله تعالى (وهم من كل حدب ينسلون) . فيعمّون الأرض. وينحاز منهم المسلمون. حتى تصير بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمّون إليهم مواشيهم، حتى إنهم ليمرون بالنهر فيشربونه، حتى ما يذرون فيه شيئا. فيمر آخرهم على أثرهم. فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان، مرة، ماء. ويظهرون على الأرض. فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض، قد فرغنا منهم. ولننازلنّ أهل السماء. حتى إن أحدهم ليهز حربته إلى السماء، فترجع مخضّبة بالدم. فيقولون: قد قتلنا أهل السماء، فبينما هم كذلك. إذ بعث الله دواب كنغف الجراد. فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد. يركب بعضهم بعضاً. فيُصبح المسلمون لا يسمعون لهم حِسا. فيقولون: مَن رجل يشري نفسه، وينظر ما فعلوا؟ فينزل منهم رجل قد وطّن نفسه على أن يقتلوه. فيجدهم موتى. فيناديهم: ألا أبشروا. فقد هلك عدوكم فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم. فما يكون لهم رعي إلا لحومهم. فتشكَر عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط".(3/395)
(السنن- الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج- 2/1363 ح 4079) ، وأخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق به، نحوه (المسند 3/77) . وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد أيضا، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ثنا عقبة ثنا يونس فذكره بتمامه، ثم رواه من طريق محمود بن لبيد بن الأشهل. عن أبي سعيد مرفوعا فذكره. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 15/244-245 ح 6830) من طريق يعقوب بن إبراهيم ابن سَعْد عن أبيه عن ابن إسحاق به. ورواه الحاكم في المستدرك عن محمد بن يعقوب عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. (مصباح الزجاجة 2/311) وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح ابن ماجة 2/388) . ذكره ابن كثير (5/367) .
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن بشار. ثنا يزيد بن هارون. ثنا العوام بن حوشب. حدثني جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة، عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي إبراهيم وموسى وعيسى. فتذاكروا الساعة. فبدأوا بإبراهيم. فسألوه عنها. فلم يكن عنده منها علم. ثم سألوا موسى. فلم يكن عنده منها علم. فرد الحديث إلى عيسى بن مريم. فقال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها. فأما وجبتها. فلا يعلمها إلا الله. فذكر خروج الدجال. قال: فأنزل فأقتله. فيرجع الناس إلى بلادهم. فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. فلا يمرون بماء إلا شربوه. ولا بشيء إلا أفسدوه. فيجأرون إلى الله. فأدعو الله أن يميتهم. فتنتن الأرض من ريحهم. فيجأرون إلى الله. فأدعو الله. فيرسل السماء بالماء. فيحملهم فيلقيهم في البحر. ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم. فعهد إلي: متى كان ذلك، كانت الساعة من الناس. كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها.
قال العوَّام: وَوجد تصديق ذلك في كتاب الله (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) .
(السنن 2/1365 ح 4081- ك الفتن، ب فتنة الدجال ... ) وأخرجه أحمد (المسند ح 3556) عن هشيم. والطبري (التفسير 16/27-28) من طريق أحمد بن إبراهيم عن هشيم. والحاكم (المستدرك 4/488-489) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن العوام بن حوشب عن جبلة به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات، ومؤثر بن عفازة ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات (انظر سنن ابن ماجة) وقال محقق المسند: إسناده صحيح.(3/396)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (من كل حدب ينسلون) قال: جمع الناس من كل مكان جاءوا منه يوم القيامة، فهو حدب.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (من كل حدب ينسلون) يقول: من كل شرف يقبلون.
قوله تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لايسمعون إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس قاسم بن القاسم السياري ثنا محمد بن موسى ابن حاتم ثنا علي بن الحسن بن شقيق ثنا الحسين بن واقد عن يزيد النحوى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) فقال المشركون الملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله فقال: لو كان هؤلاء الذين يعبدون آلهة ما وردوها قال: فنزلت (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) عيسى وعزير والملائكة.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/384-385- ك التفسير) وصححه الذهبي، وفي سنده محمد بن موسى بن حاتم تكلم فيه ولكنه توبع فقد أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير 12/153 ح 12739) ، والطحاوي (شرح مشكل الآثار 3/15-16 ح 986) ، والواحدي (أسباب النزول ص 353) كلهم من طريق علي بن المديني عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن أبي رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس، وأخرجه الطبري (التفسير 17/97) ، وابن أبي حاتم (كما في تفسير ابن كثير 3/198) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (حصب جهنم) قال: حطبها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (أولئك عنها مبعدون) قال: عيسى، وعزير، والملائكة.(3/397)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
قوله تعالى ( ... لا يحزنهم الفزع الأكبر)
الفزع الأكبر هو عند النفخ في الصور كما في قوله تعالى (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله) سورة النمل آية (87) وانظر تفسيرها هناك
قوله تعالى (وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن عباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى (تتلقاهم الملائكة) أي تستقبلهم بالبشارة وتقول لهم (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) أي توعدون فيه أنواع الكرامة والنعيم قيل: تستقبلهم على أبواب الجنة بذلك وقيل عند الخروج من القبور كما تقدم. وما ذكره جل وعلا من استقبال الملائكة لهم بذلك بينة في غير هذا الموضع كقوله في فصلت (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) .
قوله (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين)
أخرج الطبري وعبد الرزاق بسنديهما الحسن عن ابن عباس، قوله (كطي السجل للكتب يقول: كطي الصحيفة على الكتاب.
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان -شيخ من النخَع- عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) ثم إن أول من يُكسى يوم القيامة إبراهيم، ثم يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقال: لا تدرى ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) إلى قوله (شهيد) فيقال: إن هؤلاء الذين لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".(3/398)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
(صحيح البخاري 8/292- ك التفسير، سور الأنبياء، ب (الآية) ح 4740) ، (وصحيح مسلم 4/2194 ح 58- ك الجنة وصفة نعيمها وأهللها، ب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ح 4740) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أول خلق نعيده) قال: حفاة عراة غلفا.
قوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (الزبور) قال: الكتاب (من بعد الذكر) قال: أم الكتاب عند الله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (أن الأرض) قال: الجنة (يرثها عبادي الصالحون) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن عبد الرحمن بن زيد، في قوله (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال: الجنة.
قوله تعالى (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) يقول: عاملين.
قوله تعالى (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله (فإن تولوا) أي أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه (فقل آذنتكم على سواء) أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي برئ منكم كما أنتم برآء مني وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية أشارت إليه آيات أخر كقوله (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء وقوله تعالى (فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون) وقوله (آذنتكم) الأذان الإعلام ومنه الأذان للصلاة وقوله تعالى (وأذان من الله) الآية، أي إعلام منه، وقوله (فأذنوا بحرب من الله) الآية، أي أعلموا.(3/399)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
سورة الحج
قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)
قال الشيخ الشنقيطي: وما بينه هنا من شدة أهوال الساعة، وعظم زلزلتها بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى (إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئُذ تحدث أخبارها) وقوله تعالى (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) وقوله تعالى (إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً) ...
قال ابن حبان: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عن أنس بن مالك، قال نزلت (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه، ثم قال: أتدرون أي يوم هذا؟ يوم يقول الله جل وعلا لآدم يا آدم، قم فابعث بعث النار مِن كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين. فكبُر ذلك على المسلمين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جَنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة، وإن معكم لخليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومَن هلك من كفرة الجن والإنس".
(الإحسان 16/352 ح 7354) وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الحاكم في (المستدرك 4/566 - ك الأهوال من طريق إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق به) . وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعزاه الهيثمي لأبي يعلى وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن مهدي وهو ثقة (مجمع الزوائد 10/394) .
قال الحاكم: أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي: ثنا سعيد ابن مسعود، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأ إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله(3/400)
قال: أول سورة نزلت فيها السجدة الحج، قرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسجد وسجد الناس إلا رجل أخذ التراب فسجد عليه، فرأيته قتل كافراً.
(المستدرك 1/220-221 - ك الصلاة) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
انظر حديث ابن عباس المتقدم عند الآية (117-118) من سورة المائدة
قوله تعالى (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين. فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشقّ ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد. ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا رُبع أهل الجنة، فكبّرنا. ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا. ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا". قال أبو أسامة عن الأعمش: (ترى الناس سكارى وما هم بسكارى) قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. وقال جرير وعيسى ابن يونس وأبو معاوية (سكرى وما هم بسكرى) .
(صحيح البخاري 8/295 ح 4741 -ك التفسير- سورة الحج، ب (وترى الناس سكارى))
قوله تعالى (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد يهب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) .
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في الله(3/401)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
بغير علم: أي يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع كقوله في هذه السورة الكريمة (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) الآية وقوله تعالى في لقمان (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) فقوله في آية لقمان هذه: أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، كقوله في الحج (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) . ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم قوله تعالى (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم) وقوله في أول النحل (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) ...
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (كتب عليه أنه من تولاه) قال: الشيطان اتبعه.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (ويهديه إلى عذاب السعير) يدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير، يستعمل أيضاً في الدلالة على الشر، لأنه قال (ويهديه إلي عذاب السعير) ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) وقوله تعالى (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) الآية، لأن الإمام هو من يُقتدى به في هديه وإرشاده.
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) يدخل فيه جدالهم(3/402)
في إنكار البعث، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيى العظام الرميم، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ...
انظر حديث ابن مسعود في سورة الرعد آية (8) .
وانظر سورة المؤمنون آية (12-14) لبيان خلق أطوار الإنسان.
وانظر حديث البخاري عن ابن عمر المتقدم عند الآية (8) من سورة الرعد. وهو حديث: "مفاتيح الغيب خمسة ... ".
قال الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة، مجتها الأرحام دماً وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة أذكر أم أنثى ما رزقها ما أجلها، أشقي أو سعيد؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة. قال: فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
(التفسير 17/117، وأخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/207) من طريق داود به، ورجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن أبا معاوية قد يهم في غير حديث الأعمش. والحديث له حكم الرفع لأنه لا مدخل للرأي فيه، وسيأتي بعضه في حديث الصحيحين من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود مرفوعاً عند الآية (12-14) من سورة المؤمنين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قول الله (مخلقة وغير مخلقة) قال: تامة وغير تامة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) قال: التمام.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (اهتزت وربت) قال: حسنت، وعرف الغيث في ربوها.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وأنبتت من كل زوج بهيج) قال: حسن.(3/403)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ)
انظر الآية رقم (3) من السورة نفسها لبيان الجدال بغير علم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله (ثاني عطفه) يقول: مستكبرا في نفسه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ثاني عطفه) قال: رقبته.
قوله تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه)
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن الحارث حدثنا يحيى بن أبي بُكير حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تُنتج خيله قال: هذا دين سوء.
(صحيح البخاري 8/296 -ك التفسير- سورة الحج - ب (الآية) ح 4742) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (على حرف) قال: على شك (فإن أصابه خير) رخاء وعافية (اطمأن به) : استقر (وإن أصابته فتنة) عذاب ومصيبة (انقلب) ارتد (على وجهه) كافراً.
قوله تعالى (ولبئس العشير)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (ولبئس العشير) قال: الوثن.(3/404)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قوله تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ)
قال الطبري: حدثنا أبو كريب، ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً، فليربط حبلاً في سقف، ثم ليختنق به حتى يموت.
(التفسير 17/126-127) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/386) من طريق سفيان، عن أبي إسحاق به مختصراً، ولفظه: (من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً) وصححه ووافقه الذهبي، وعلقه البخاري في صحيحه مختصراً بصيغة جزم، فقال: وقال ابن عباس (بسبب) : بحبل إلى سقف البيت) .
قال ابن حجر: وصله عبد بن حميد من طريق أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس ... ) فذكره بقريب من لفظ الطبري. (البخاري مع الفتح 8/438-441 -ك التفسير- سورة الحج) .
أخرج عبد الرزاق والطبري بسنديهما الصحيح عن قتادة (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والأخرة) قال: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فليمدد بسبب) يقول: بحبل إلى سماء البيت (ثم ليقطع) يقول: ثم ليختنق فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (أن لن ينصره الله) قال: يرزقه الله (فليمدد بسبب) قال: بحبل (إلى السماء) سماء ما فوقك (ثم ليقطع) ليختنق، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق.
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، في قوله (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) قال: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة ويصلون القبلة ويقرؤن الزبور، والمجوس: يعبدون الشمس(3/405)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
والقمر والنيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن.
وانظر سورة البقرة آية (62) قول قتادة ومجاهد وزياد بن أبيه.
قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)
انظر حديث مسلم المتقدم عند الآية (206) من سورة الأعراف. وهو حديث: "إذا قرأ ابن آدم السجدة ... ".
وانظر سورة الرعد آية (15) قول قتادة.
قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في ربهم)
قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا هُشيم أخبرنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر - رضي الله عنه -: (أنه كان يقسم فيها قَسَما: إن هذه الآية (هذان خصمان اختصموا في ربهم) نزلت في حمزة وصاحبيه وعُتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر) . رواه سفيان عن أبي هاشم. وقال عثمان عن جرير عن منصور عن أبي هاشم عن أبي مجلز ... قوله.
(صحيح البخاري 8/297-298 - ك التفسير، سورة الحج، ب (الآية) ح 4743) . (صحيح مسلم 4/2323 بنحوه -ك التفسير- ب في قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في ربهم)) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث.
قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا معتمر بن سليمان قال سمعت أبي قال حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عُباد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة) قال قيس: وفيهم نزلت (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال هم الذين بارزوا يوم بدر عليٌّ وحمزة وعُبيدة وشيبة بن ربيعة وعُتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
(صحيح البخاري 8/297-298- ك التفسير، سورة الحج، ب (الآية) ح 4744) . (صحيح مسلم 4/2323 بنحوه -ك التفسير- باب في قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في ربهم)) .(3/406)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
قوله تعالى (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد) ما ذكره جل علا في هذه الآية الكريمة، من أنواع عذاب أهل النار جاء مبيناً في آيات أخر من كتاب الله، فقوله هنا (قطعت لهم ثياب من نار) أي قطع الله لهم من النار ثياباً، وألبسهم إياها تتقد عليهم كقوله فيهم (سرابيلهم من قطران) والسرابيل: هي الثياب التي هي القمص، كما قدمنا إيضاحه، وكقوله (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) والغواشي: جمع غاشية: وهي غطاء كاللحاف، وذلك هو معنى قوله هنا (قطعت لهم ثياب من نار) وقوله تعالى هنا (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) ذكره أيضاً في غير هذا الموضع كقوله (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم) والحميم: الماء البالغ شدة الحرارة، وكقوله تعالى (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه) الآية. وقوله هنا (يصهر به ما في بطونهم) أي يذاب بذلك الحميم إذا سقوه فوصل إلى بطونهم كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك، كقوله تعالى (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ... ) .
قال الترمذي: حدثنا سويد أخبرنا عبد الله أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان) .
(السنن 4/705 ح 2582 - ك صفة جهنم) البستي في تفسيره ما جاء في صفة شراب أهل النار.
قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وأخرجه أحمد (المسند 2/374) من طريق إبراهيم. والحاكم في (المستدرك 2/387) من طريق عبدان، كلاهما عن عبد الله بن المبارك به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وحسنه الشيخ أحمد شاكر (حاشية المسند ح 8851) .(3/407)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قال: الكفار قطعت لهم ثياب من نار، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله (يصب من فوق رءوسهم الحميم) يقول: يصب على رءوسهم ماء مغلي.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (يصهر به) قال: يذاب به إذابة.
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)
انظر سورة البقرة آية (25) .
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال، سمعت أنس بن مالك، قال شعبة، فقلتُ أعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال شديداً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "مَن لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة".
(الصحيح 10/296 ح 5832 - ك اللباس - ب لبس الحرير للرجال ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1641، بعد حديث 2069 - ك اللباس والزينة، ب تحريم استعمال إناء الذهب.. والحرير على الرجل، من حديث عبد الله بن الزبير به) .
وانظر سورة الكهف آية (31) وفي سورة الإنسان أساور من فضة أيضاً.
قوله تعالى (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وهدوا إلى الطيب من القول) قال: ألهموا. وقوله (وهدوا إلى صراط الحميد) يقول جل ثناؤه: وهداهم ربهم في الدنيا إلى طريق الرب الحميد.
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (سواء العاكف فيه والباد) يقول: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.(3/408)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (سواء العاكف فيه) قال: الساكن، والباد الجانب سواء حق الله عليهما فيه.
قوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شُعيب عن عبد الله بن أبي حسين حدثنا نافع بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: مُلحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومُطلب دم امرىء بغير حق ليهريق دمه".
(صحيح البخاري 12/219 - ك الديات، ب من طلب دم امرىء بغير حق ح 6882) .
قال الحاكم: حدثناه أبو الحسن محمد بن موسى بن عمران الفقيه من أصل كتابه، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا أبو هاشم زياد بن أيوب، أنبأ بزيد بن هارون، أنبأ شعبة عن السدي، عن مرة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قول الله عز وجل (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (المستدرك 2/388 - ك التفسير) وصححه الذهبي) . وقال ابن كثير: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري (التفسير 5/407) ، وأخرجه أحمد من طريق يزيد بن هارون به (المسند 1/428) وعزاه الهيثمي إلى أحمد وأبي يعلى والبزار وقال رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/70) ، صححه أحمد شاكر في (حاشية المسند ح 4071) وحسنه محققو المسند بإشراف أ. د. عبد الله التركي (المسند 7/155 ح 4071) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) يقول: بشرك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) قال: يعمل فيه عملاً سيئاً.
قوله تعالى (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا حميد بن عياش الرملي، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب،(3/409)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
عن علي - رضي الله عنه - قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه فقال يا إبراهيم، ابن علي ظلي -أو على قدري- ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر وذلك حيث يقول الله عز وجل: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) .
(المستدرك 2/551 - ك التاريخ) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) .
انظر سورة آل عمران آية (96-97) حديث البخاري عن أبي ذر.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (طهرا بيتي) قال: من أهل الشرك وعبادة الأوثان.
وانظر سورة البقرة آية (125) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، و (القائمين) قال: القائمون: المصلون.
قوله تعالى (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)
قال الطبري: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: (أذن في الناس بالحج) قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال أذِّن وعليّ البلاغ. فنادى إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فحجوا. قال فسمعه ما بين السماء والأرض،، فلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون.
(التفسير (17/144) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/388) من طريق جرير به، وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) . وقال الأرناؤوط: حديث موقوف حسن (حاشية العواصم والقواصم 7/16) .(3/410)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
قال البخاري: حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركب راحلته بذي الحليفة ثم يهل حتى تستوي به قائمة.
(صحيح البخاري 3/443 ح 1514 - ك الحج، ب قول الله تعالى (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر)) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يأتوك رجالا) قال: على أرجلهم.
أخرج البستي بسنده الحسن عن سعيد بن جبير: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) قال: فوقرت في كل قلب، كل ذكر وأنثى.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (فج عميق) قال: مكان بعيد.
قوله تعالى (ليشهدوا منافع لهم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ليشهدوا منافع لهم) قال: التجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة.
قوله تعالى (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)
قال البخاري: حدثنا محمد بن عَرعَرة قال حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء".
(صحيح البخاري 2/530 -ك العيدين- ب فضل العمل في أيام التشريق ح 969) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (في أيام معلومات) قال: أيام العشر، والمعدودات أيام التشريق.
قوله تعالى ( ... فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم. جميعاً عن حاتم قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال:(3/411)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
دخلنا على جابر بن عبد الله ... فساق الحديث الطويل في صفة حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه قوله: ثم انصرف إلى المنحر. فنحر ثلاثا وستين بيده. ثم أعطى عليا. فنحر ما غبر. وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة. فجعلت في قدر. فطبخت. فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض إلى البيت. فصلى بمكة الظهر. فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم. فقال: "انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلواً فشرب منه.
(الصحيح 2/892 ح 1218 -ك الحج- ب حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان قال أخبرني ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رضي الله عنه - قال: بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقمت على البدن، فأمرني فقسمت لحومها، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها.
(الصحيح 3/649 - ك الحج، ب لا يعطى الجزار من الهدي شيئا) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 2/954 ح 1317 - ك الحج، ب في الصدقة بلحوم الهدي ... ) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (البائس الفقير) الذي يمد إليك يديه.
قوله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّوفوا بالبيت العتيق)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ثم ليقضوا تفثهم) قال: حلق الرأس، وحلق العانة، وقص الأظفار، وقص الشارب، ورمي الجمار، وقص اللحية.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (ثم ليقضوا تفثهم) قال: يعني بالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس ولبس الثياب، وقص الأظفار ونحو ذلك.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وليوفوا نذورهم) نذر الحج والهدى، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.(3/412)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
قال ابن خزيمة: ثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس قال: الحِجْر من البيت، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف بالبيت من ورائه، وقال الله (وليطوفوا بالبيت العتيق) .
(الصحيح 4/222 - ك الحج، ب الطواف من وراء الحِجر ح 2740) ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 1/460) ، وأخرجه البيهقي في (سننه 5/90) كلاهما من طريق سفيان به، قال محقق ابن خزيمة: إسناده صحيح. وله شواهد صحيحة (انظر إرواء الغليل 4/305-307 ح 1106) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (البيت العتيق) قال: أعتقه الله من الجبابرة يعني الكعبة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (وليطوفوا بالبيت العتيق) يعني: زيارة البيت.
قوله تعالى (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (ذلك ومن يعظم حرمات الله) : قال: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها.
قوله تعالى (وأُحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم) لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) وهذا الذي ذكرنا هو الصواب ...
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (إلا ما يتلى عليكم) قال: إلا الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه.(3/413)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
قوله تعالى (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا بِشر بن المفضل حدثنا الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين".
(صحيح البخاري 11/69 - ك الاستئذان، ب من اتكأ بين يدي أصحابه ح 6273) .
قال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا بشر مثله وكان متكئاً فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، فما زال يُكرّرها حتى قلنا ليته سكت".
(صحيح البخاري 11/69 - ك الاستئذان، ب من اتكأ بين يدي أصحابه ح 6274) .
قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". قال أحمد: أفهمني رجل إسناده.
(صحيح البخاري 10/488 ح 6057 - ك الأدب- ب قول الله تعالى (واجتنبوا قول الزور)) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (قول الزور) ، قال: الكذب.
قوله تعالى (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
انظر سورة البينة آية (5) وسورة البقرة آية (135) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فكأنما خر من السماء) قال: هذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بعده من الهدى وهلاكه (فتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (في مكان سحيق) قال: بعيد.(3/414)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
قوله تعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن بشار. ثنا يحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، وعبد الرحمن وأبو داود، وابن أبي عدي، وأبو الوليد، قالوا: ثنا شعبة، سمعت سليمان بن عبد الرحمن، قال: سمعت عُبيد بن فيروز، قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني بما كره أو نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأضاحي. فقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هكذا بيده. ويدي أقصر من يده: "أربع لا تجزئُ في الأضاحي: العوراء البين عورها. والمريضة البيّن مرضها. والعرجاء البيّن ظلعها. والكسيرة التي لا تنقى".
(السنن- الأضاحي، ب ما يكره أن يضحي به ح 3144) ، أخرجه أحمد (المسند 4/284) ، والنسائي (السنن 7/214) ، وأبو داود (السنن 3/235 ح 2802) ، والترمذي (السنن 4/85 ح 1493) ، والحاكم (المستدرك 1/467-468) من طرق عن عبيد بن فيروز به نحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الإمام أحمد: ما أحسنه من حديث (انظر خلاصة البدر المنير 2/379) وقال الألباني: إسناده صحيح (انظر الإرواء 4/361) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ومن يعظم شعائر الله) قال: استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها.
قوله تعالى (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) قال: في البدن لحومها وألبانها وأشعارها وأوبارها وأصوافها قبل أن تسمى هدياً.
قال مسلم: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم. أخبرنا محمد بن بكر. أخبرنا ابن جريج. أخبرني عطاء. قال: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حَل. قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق) قال: قلت: فإن ذلك بعد المعرَّف. فقال: كان ابن عباس يقول: هو بعد المعَرف وقبله. وكان يأخذ ذلك من أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أمرهم أن يَحِلوا في حجة الوداع.
(صحيح مسلم 2/913 -ك الحج- ب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام ح 1245) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ثم محلها إلى البيت العتيق) يعني محل البدن حين تسمى إلى البيت العتيق.(3/415)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)
قال البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس: حدثنا شعبة: حدثنا قتادة، عن أنس قال: ضحى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده.
(الصحيح 10/20 ح 5558 - ك الأضاحي، ب من ذبح الأضاحي بيده) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولكل أمة جعلنا منسكا) قال: إهراق الدماء (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (وبشر المخبتين) قال: المطمئنين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، في قوله (وبشر المخبتين) قال: المتواضعين.
وانظر الآية التالية لمعرفة صفات المخبتين.
قوله تعالى (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)
في هذه الآية بيان صفات المخبتين، وانظر سورة الأنفال الآية (2-4) .
قوله تعالى (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا يزيد بن زريع، عن يونس، عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح 3/646 ح 1713 - ك الحج- ب من نحر الإبل مقيدة) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الحج، ب نحر البدن قياماً مقيدة ح 1320) .(3/416)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
قال ابن ماجة: حدثنا ابن بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، ثنا عبد الله ابن عياش، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من كان له سعة، ولم يضحِّ، فلا يقربن مصلانا".
(السنن 2/1044 ح 3123 - ك الأضاحي- في الأضاحي واجبة هي أم لا؟) . وأخرجه أحمد (المسند 2/321) عن أبي عبد الرحمن، والحاكم (المستدرك 2/389) من طريق زيد بن الحباب، كلاهما عن عبد الله بن عياش به. قال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه. وقال الألباني: حسن (صحيح ابن ماجه ح 2532) . وقد ذكر بعض النقاد أنه موقوف (انظر نصب الراية 4/207) وقد روي موقوفا، وقال الطحاوي الموقوف أشبه بالصواب (نظر فتح الباري 10/3) .
أخرج البستي بسنده الصحيح عن مجاهد: ليست البدن إلا من الإبل.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (لكم فيها خير) قال: أجر ومنافع في البدن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله (صواف) قال: قائمة، قال: يقول: الله أكبر، ولا إله إلا الله اللهم منك ولك.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (صواف) قال: قيام صواف على ثلاث قوائم.
أخرج الطبري عن الحسن أنه قال: (صوافي) : خالصة لله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قال: من قرأها (صوافن) قال: معقولة. قال ومن قرأها (صواف) قال: تصف بين يديها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فإذا وجبت جنوبها) سقطت على الأرض.
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (القانع والمعتر) يقول: القانع المتعفف، والمعتر: يقول: السائل.
أخرج البستي بسنده الحسن عن مجاهد في قوله -جل ذكره- (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) قال: إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل هي بمنزلة: (وإذا حللتم فاصطادوا) .(3/417)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
قوله تعالى (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها..)
انظر حديث جابر المتقدم من رواية مسلم عند الآية (2) من سورة المائدة.
قوله تعالى (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)
قال الشيح الشنقيطي: قوله تعالى (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيماناً حقاً، ويكفيهم شر أهل السوء، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) الآية. وقوله (أليس الله بكاف عبده) وقوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) وقوله تعالى (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) الآية. وقوله (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) .
قوله تعالى (أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)
قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع. حدثنا أبي وإسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم، ليهلكن فأنزل الله (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) الآية، فقال أبو بكر لقد علمت أنه سيكون قتال.
قال: هذا حديث حسن.
وقد رواه عبد الرحمن بن مهدي، وغيره عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلاً ليس فيه عن ابن عباس.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلاً ليس فيه عن ابن عباس.
(السنن 5/325 - ك التفسير، ب سورة الحج ح 3171) . وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ، وأخرجه النسائي (السنن 6/2 ك الجهاد، ب وجوب الجهاد) من طريق محمد بن سلام، وأحمد من طريق الأعمش به وصححه أحمد شاكر ح 1865. وابن حبان في صحيحه (الإحسان 11/8 ح 4710) من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، والحاكم (المستدرك 2/66 - ك الجهاد) ، من طريق محمد بن سنان القزاز، كلهم عن إسحاق الأزرق به. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال محقق الإحسان: إسناده صحيح على شرط مسلم.(3/418)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) يقول: دفع بعضهم بعضاً في الشهادة، وفي الحق، وفيما يكون من قبل هذا، يقول: لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (لهدمت صوامع) قال: صوامع الرهبان.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قال (وبيع) قال: وكنائس.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (لهدمت صوامع) قال: هي للصابئين (وبيع) للنصارى (وصلوات) قال: كنائس اليهود (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) قال: المساجد: مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيراً.
قوله تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه وبامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله واتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه السفلى ثم إن الله جل وعلا بين صفات الذين وعدهم بنصره ليميزهم من غيرهم فقال مبينا من أقسم أنه ينصره، لأنه ينصر الله جل وعلا (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) الآية وما دلت عليه هذه الآية الكريمة: من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) وقوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) ...(3/419)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
قوله تعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية، في قوله (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) قال: كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده، ولا شريك له، ونهيهم عن المنكر، أنهم نهوا عن عبادة الأوثان، وعبادة الشيطان، قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر.
قوله تعالى (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (خاوية) قال: خربة ليس فيها أحد.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وبئر معطلة) قال: أعطلها أهلها، تركوها.
أخرج الطبري بالإسناد الثابت عن السدي ومجاهد (مشيد) مجصص.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وقصر مشيد) قال: كان أهله شيدوه وحصنوه، فهلكوا وتركوه.
قوله تعالى (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغياناً وعناداً. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن كقوله تعالى (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) وقوله (يستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) الآية.(3/420)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
قوله تعالى (وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون)
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. ثنا محمد بن بشر عن محمد ابن عَمْرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم. خمسمائة عام".
(سنن ابن ماجة 2/1380 - ك الزهد، ب منزلة الفقراء ح 4122) . ورواه الترمذي والنسائي من طريق الثوري عن محمد بن عمرو به، وقال الترمذي: حسن صحيح، (السنن- أبواب الزهد، ب ما جاء في فضل الفقر، وانظر تفسير ابن كثير 5/437) . وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح ابن ماجة 2/396) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وإن يوماً عند ربك كألف سنة) قال: من أيام الآخرة.
قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) انظر سورة الأعراف آية (4) .
قوله تعالى (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (في آياتنا معاجزين) قال: كذبوا بآيات الله، فظنوا أنهم يعجزون الله، ولن يعجزوه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (معجزين) قال: مبطئين يبطئون الناس عن اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
أي يسمع الكفار ما ألقى الشيطان ولا يسمعه المؤمنون لأنه ليس للشيطان على المؤمنين من سلطان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) فيبطل الله ما ألقى الشيطان.(3/421)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
قوله تعالى (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)
انظر سورة البقرة آية (10 و137) .
قوله تعالى (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)
انظر آخر آية (34) من السورة نفسها.
انظر سورة الفاتحة لبيان أن الصراط المستقيم: هو الإسلام.
قوله تعالى (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (عذاب يوم عقيم) قال: هذا يوم بدر. ذكره عن أبي بن كعب.
قوله تعالى (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله)
انظر حديث الحاكم المتقدم تحت الآية رقم (23) من سورة يونس.
وانظر سورة النحل الآية (126) وفيها حديث البخاري والحاكم.
وانظر سورة البقرة آية (194) .
قوله تعالى (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير)
انظر سورة آل عمران آية (27) .
قوله تعالى (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم)
انظر سورة فاطر آية (41) ، وسورة البقرة آية الكرسي آية (255) (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما) .
قوله تعالى (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور)
انظر سورة البقرة آية (28) وسورة غافر آية (11) وسورة الروم آية (40) وسورة الجاثية آية (26) .(3/422)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قوله تعالى (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) يقول: عيداً.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (هم ناسكوه) قال: إهراق دماء الهدي.
قوله تعالى (يكادون يسطون)
أخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (يكادون يسطون) يقول: يبطشون.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (يكادون يسطون) قال: يبطشون كفار قريش.
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: سعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعرة".
(الصحيح 13/537 ح 7559 - ك التوحيد، ب قول الله تعالى (والله خلقكم وما تعملون)) .
وأخرجه مسلم (الصحيح - ك اللباس والزينة، ب تحريم تصوير صورة الحيوان - ح 2111) .
قوله تعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(3/423)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، الحرج: الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف. وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الحنيفة السمحة التي جاء بها سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها مبنية على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج، وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا. وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع كقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وقوله (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً) .
قال النسائي: أنا هشام بن عمار، نا محمد بن شعيب، أنبأني معاوية بن سلام، أن أخاه زيد بن سلام أخبره، عن أبي سلام، أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم.
قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوى الله التي سمَّاكم الله بها: المسلمين المؤمنين، عباد الله".
(التفسير 2/94 ح 369) وهذا الإسناد حسن. وهذا الحديث جزء من حديث طويل أخرجه الطيالسي في مسنده (رقم 1161، 1162) ومن طريقه الترمذي (5/148 ح 2863) ، وابن خزيمة في صحيحه (3/195 ح 1895) ، والحاكم في المستدرك (1/421) ، وأخرجه أحمد في المسند (4/130) وأبو يعلى في مسنده (3/140 ح 1571) ، والطبراني في الكبير -مختصراً- (3/327 ح 3431) ، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 8/43 ح 6200) ، كلهم من طرق عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام به، وأول الحديث: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ... " فذكره مطولاً، وفي آخره قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ... " الحديث، وفيه "ومن دعا بدعوى الجاهلية ... " الخ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن كثير -وقد ساقه من رواية الإمام أحمد-: هذا حديث حسن (التفسير 1/58 - عند الآية (22) من سورة البقرة) . وصححه الشيخ الألباني (صحيح الترمذي رقم 2298) .(3/424)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (هو سماكم المسلمين) يقول: الله سماكم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (هو سماكم المسلمين) قال: الله سماكم المسلمين من قبل.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم) أنه قد بلغكم أنتم (وتكونوا) أنتم (شهداء على الناس) أن الرسل قد بلّغتهم.(3/425)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
سورة المؤمنون
قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
قال الحاكم: أخبرنا أحمد بن سهل الفقيه ببخاري، ثنا قيس بن أنيف، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين كيف كان خلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟. قالت: كان خلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنين اقرأ قد أفلح المؤمنون حتى بلغ العشر فقالت هكذا كان خلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/392 -ك التفسير- سورة المؤمنون) .
وأقره الذهبي وأخرجه البخاري في (الأدب المفرد 1/407 ح 308) ، وصححه الألباني في (صحيح الأدب المفرد ح 234) .
وما بعد هذه الآية بيان لها لمعرفة صفات المؤمنين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) يقول: خائفون ساكنون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (والذين هم عن اللغو معرضون) يقول: الباطل.
قوله تعالى (والذين هم على صلواتهم يحافظون)
انظر حديث البخاري عن ابن مسعود عند الآية رقم (36) من سورة النساء، وهو حديث: "أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها ... ".
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق (والذين هم على صلواتهم يحافظون) على وقتها.
ورجاله ثقات وسنده صحيح.(3/426)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
قوله تعالى (أولئك هم الوارثون)
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن سنان، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات، فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله. فذلك قوله تعالى (أولئك هم الوارثون) .
(سنن ابن ماجة 2/1453 - ك الزهد، ب صفة الجنة ح 4341) . قال البوصيرى: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين (مصباح الزجاجة 3/327) . وأخرجه الطبري من طريق أبي معاوية به، (التفسير 18/6،5) ، وصحح إسناده ابن حجر (الفتح 11/442) ، وصحح إسناده الألباني (السلسلة الصحيحة 5/348 ح 2279) .
قال الطبري: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، في قوله (أولئك هم الوارثون) قال: يرثون مساكنهم، ومساكن إخوانهم، التي أعدت لهم لو أطاعوا الله.
رجاله ثقات وسنده صحيح وأبي صالح هو ذكوان السمان.
قوله تعالى (الدين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا حسين بن محمد أبو أحمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك: أن أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة- أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة -وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ قال: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
(الصحيح 6/25-26 ح 2809 الفتح - ك الجهاد، ب من أتاه سهم غرب فقتله) .
قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)
انظر حديث ابن مسعود المتقدم عند الآية رقم (8) من سورة الرعد، وهو حديث: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ... ".(3/427)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
وانظر حديث أبي موسى الأشعري في سورة البقرة آية (30) وفيه: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ... ".
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (من سلالة) من مني آدم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (من طين) قال: استل آدم من طين.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ثم أنشأناه خلقاً آخر) قال: نفخ فيه الروح.
قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)
انظر مطلع سورة الإسراء، وحديث العروج إلى السموات السبع ففيها بيان سبع طرائق.
قوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل من السماء ماء معظماً نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم، وأن ذلك الماء أنزله من السماء، أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعاً وعطشاً وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل علا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.
الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) .(3/428)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) والينبوع: الماء الكثير وقوله (فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) على ما قدمنا في الحجر.
والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) .
قوله تعالى (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين) قوله: وشجرة: معطوف على: جنات من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مسوغه مراراً: أي فأنشأنا لكم به جنات، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، كما أشار له تعالى بقوله (يوقد من شجرة مباركة زيتونة) الآية، والدهن الذي تنبت به: هو زيتها المذكور في قوله (يكاد زيتها يضيء) ..
انظر حديث الحاكم عن أبي أسيد الآتي عند الآية (35) من سورة النور، وهو: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة".
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (طور سيناء) قال: المبارك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (تنبت بالدهن) يقول: هو الزيت يؤكل ويدهن به.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (تنبت بالدهن) قال: الزيتون.
قوله تعالى (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون)
انظر سورة النحل آية (66) إذ ذكر فيها اللبن وفي آية (5) من سورة النحل بينّ بعض منافعها وآية (80) ، وسورة الزمر آية (6) وفيها بيان أنواع الأنعام، وسورة غافر آيه (79) فيها بيان بعض المنافع وكذا في سورة الزخرف آية (12) .(3/429)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ... ) إلى قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)
هذه الآيات في قصة نوح وقومه والفلك وقد تقدم طرف منها في تفسير سورة هود (25-48) .
قوله تعالى (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (وفار التنور) قال: كانت آية لهم إذا رأوا التنور قد فار منها الماء أن يسلك فيها من كل زوجين اثنين.
وانظر سورة هود آية (40) لبيان فاسلك أي: احمل.
قوله تعالى (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) انظر سورة هود آية (45، 46)
قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)
وقد استجاب الله تعالى لنوح كما في سورة هود آية (48) : (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) .
قولَه تعالى (ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين)
قوله تعالى (ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) : هم قوم هود عليه السلام كما قرر الحافظ ابن كثير في (قصص الأنبياء 1/89، 91) واستشهد بهذه الآية.
قوله تعالى (فأرسلنا فيهم رسولاً)
أي: هود كما تقدم في الآية السابقة.
قوله تعالى (وقال الملأ من قومه)
أي: قوم عاد الذين أرسل الله تعالى إليهم رسولاً وهو هود عليه الصلاة والسلام.(3/430)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قوله تعالى (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون) إلى قوله (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فُبعداً للقوم الظالمين)
هذه الآيات كلها في قوم عاد مع رسولهم هود عليه الصلاة والسلام.
وانظر سورة الأعراف الآيات (65-72) وسورة هود الآيات (50-60) وسورة الشعراء الآيات (123-140) وسورة الأحقاف (21-26) . وفي هذه الآيات تفصيل يكمل بعضه بعضها لبيان قصة هود مع قومه.
قوله تعالى (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون) انظر سورة الرعد آية (5) وتفسيرها، وسورة الإسراء آية (49-50) وتفسيرها.
قوله تعالى (هيهات هيهات لما توعدون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله (هيهات هيهات) يقول: بعيد بعيد.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة ففي قوله (هيهات هيهات لما توعدون) قال: يعني البعث.
قوله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)
انظر سورة الإسراء آية (49-50) وتفسيرهما.
قوله تعالى (فجعلناهم غثاء)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (غثاء) كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل. يعني به ثمود.
قوله تعالى (ثم أرسلنا رسلنا تترى)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ثم أرسلنا رسلنا تترى) يقول: يتبع بعضها بعضاً.(3/431)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
قوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)
انظر قصة موسى وهارون مع فرعون سورة يونس آية (75-92) .
قوله تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وجعلنا ابن مريم وأمه) قال: ولدته من غير أب هو له. ولذلك وحدت الآية، وتد ذكر مريم وابنها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ربوة) مستوية.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح قتادة في قوله (إلى ربوة ذات قرار ومعين) قال: ذات ثمار وماء، وهي بيت المقدس.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (معين) قال: ماء جاري.
قوله تعالى (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (بينهم زبراً) قال: كتب الله فرقوها قطعاً.
قوله تعالى (فذرهم في غمرتهم حتى حين)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (فذرهم في غمرتهم حتى حين) قال: في ضلالتهم.
قوله تعالى (أيحسبون أنما نمدهم به)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أنما نمدهم) قال: نعطيهم، نسارع لهم، قال: نزيدهم في الخير، نملى لهم.
قال: هذا لقريش.(3/432)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
قوله تعالى (والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة ... )
قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر. ثنا وكيع عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن ابن سعيد الهمداني، عن عائشة، قالت: قلتُ: يا رسول الله! (والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة) أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: "لا. يا بنت أبي بكر (أو يا بنت الصديق) ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو يخاف أن لا يتقبل منه".
(سنن ابن ماجة 2/1404 -ك الزهد- ب التوقي على العمل ح 4198) . أخرجه الترمذي من طريق سفيان عن مالك بن مغول به وقال: روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة (الجامع الصحيح -التفسير- سورة المؤمنون ح 3175) وهو شاهد موصول ثابت لأن عبد الرحمن بن سعيد لم يدرك عائشة) . وأخرجه أحمد (المسند 6/159) عن يحيى بن آدم. والحاكم (المستدرك 2/393-394) من طريق محمد بن سابق، كلهم عن مالك بن مغول به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني: حسن (صحيح ابن ماجه 2/409) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والذين يؤتون ماءاتوا وقلوبهم وجلة) يقول يعملون خائفين.
قوله تعالى (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
وقد بين الله تعالي صفات الذين يسارعون في الخيرات (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (وهم لها سابقون) يقول سبقت لهم السعادة.
قوله تعالى (ولا نكلف نفساً إلا وسعها)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى: (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) . ما تضمنته هذه الآية من التخفيف في هذه الحنيفية السمحة، التي جاء بها نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ذكرنا طرفا من الآيات الدالة عليه في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . اهـ.
وانظر آخر تفسير سورة البقرة.(3/433)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
قوله تعالى (ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى: (ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) الحق أن المراد بهذا الكتب: كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه، كما يدل عليه قوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف، في الكلام على قوله (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) الآية، وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً) .
قوله تعالى (بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (في غمرة من هذا) قال: في عمى من هذا القرآن.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ولهم أعمال من دون ذلك) قال: الحق.
قوله تعالى (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) قال: نزلت في يوم بدر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إذا هم يجأرون) يقول: يستغيثون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (فكنتم على أعقابكم تنكصون) يقول: تدبرون.
قوله تعالى (مستكبرين به سامرا تهجرون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (مستكبرين به) قال: بمكة بالبلد.(3/434)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (سامراً) قال: مجلساً بالليل.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (تهجرون) قال: بالقول السيء في هذا القرآن.
قوله تعالى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (بل آتيناهم بذكرهم) يقول: بينا لهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (بل آتيناهم بذكرهم) قال: القرآن.
قوله تعالى (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين)
قال الطبري: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن الحسن: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير) قال: الأجر.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
انظر سورة الفاتحة لبيان الصراط المستقيم: الإسلام.
قوله تعالى (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) يقول: عن الحق عادلون.
قوله تعالى (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
انظر سورة البقرة آية (15) لبيان (في طغيانهم يعمهون)
قوله تعالى (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)
قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم، قال: حدثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدثني أبي،(3/435)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قال: حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء أبو سفيان ابن حرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العِلْهِز -يعني الوبر والدم- فأنزل الله (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) .
(الإحسان 3/247 ح 967) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 2/394 - ك التفسير) من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن الحسين بن واقد به وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) . وحسن ابن حجر إسناده (الفتح 6/510) .
قوله تعالى (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد) قد مضى كان يوم بدر.
قوله تعالى (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون) . ذرأكم معناه: خلقكم، ومنه قوله تعالى (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس) الآية وقوله في الأرض: أي خلقكم وبثكم في الأرض، عن طريق التناسل، كما قال تعالى (وبث منهما رجالا كثيراً ونساءاً) الآية وقال (فإذا أنتم بشر تنتشرون) وقوله (وإليه تحشرون) أي إليه وحده، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب. وما تضمنته هذه الآية من أنه خلقهم وبثهم في الأرض وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة جاء معناه في آيات كثيرة كقوله في أول هذه السورة (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) إلى قوله (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) وذكر جل وعلا أيضاً هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) .(3/436)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
قوله تعالى (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ)
أي: قوم هود كما سبق في الآيات السابقة رقم (35 و36 و37) .
قوله تعالى (قالوا أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعثون)
انظر سورة الرعد آية (5) وتفسيرها.
قوله تعالى (قل من بيده ملكوت كل شيء)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ملكوت كل شيء) قال: خزائن كل شيء.
قوله تعالى (فأنى تسحرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (فأنى تسحرون) يقول تكذبون.
قوله تعالى (قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) قال ابن كثير: يقول تعالى أمراً (نبيه محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم: (رب إما تريني ما يوعدون) أي: إن عاقبتهم -وإني شاهد ذلك- فلا تجعلني فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه: (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون) .
قوله تعالى (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ)
لقد منّ الله تعالى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يريه بعض ما يعد الكفار في غزوة كما في سورة الأنفال وفي فتح مكة المكرمة كما سورة الفتح.
قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون)
قال ابن كثير: ثم قال مرشداً له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى من يسيء، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) . وهذا كما قال في الآية الأخرى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا(3/437)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) ، أي: ما يلهم هذه الوصية أو الخصلة أو الصفة (إلا الذين صبروا) ، أي: على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل مع إسدانهم إليهم القبيح، (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) ، أي: في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)
انظر الاستعاذة في بداية التفسير، وسورة الأعراف آية (200) .
قوله تعالى (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، ولهذا قال: (رب، ارجعون. لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا) كما قال الله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: رب، لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون) وقال تعالى: (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا: ربنا، أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال) .
أخرج البستي في تفسيره بسنده الصحيح عن الضحاك يقول (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) يعني: أهل الشرك.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (برزخ إلى يوم يبعثون) قال: الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) قال: البرزخ بقية الدنيا.
أخرج البستي بسنده الصحيح عن الضحاك يقول: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة.(3/438)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
قوله تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور وقام الناس من القبور (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرثى والد لولده ولا يلوي عليه قال تعالى (ولا يسأل حميم حميماً. يبصرونهم) أي لا يسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة قال الله تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) الآية.
قال أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا عبد الله بن جعفر، حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن المسور أنه بعث إليه حسن بن حسن يخطب ابنته فقال له: قل له فليلقني في العتمة. قال: فلقيه، فحمد المسور الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، والله ما من نسب ولا سبب ولا صهر أحب إلي من سببكم وصهركم، ولكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (فاطمة مضغة مني يقبضني ما قبضها ويبسطني ما بسطها، وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسبي وصهري) . وعندك ابنتها ولو زوجتك لقبضها ذلك. قال: فانطلق عاذراً له.
(المسند 4/323 ومن طريق أحمد أخرجه الحاكم في المستدرك (3/158) ك معرفة الصحابة. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي) .
وانظر حديث عبد الله بن عمرو عند أصحاب السنن المتقدم تحت الآية رقم (73) من سورة الأنعام وفيه: "الصور قرن ينفخ فيه".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ، فذلك حين ينفخ في الصور، فلا حي يبقى إلا الله (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) فذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية.(3/439)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
قوله تعالى (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون)
انظر آخر سورة القارعة (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهية نار حامية) .
قوله تعالى (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار تلفح وجوههم النار: أي تحرقها إحراقاً شديداً، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى (يوم تقلب وجوههم في النار) الآية. وقوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة ابن عباس في قوله (وهم فيها كالحون) يقول: عابسون.
قوله تعالى (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون. قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضآلين)
قال ابن كثير: هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك فقال تعالى (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) أي قد أرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب وأزلت شبهكم ولم يبق لكم حجة كما قال تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقال تعالى (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير -إلى قوله- فسحقاً لأصحاب السعير) ولهذا قالوا (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين) أي قد قامت علينا الحجة ولكن كنا أشقى من أن ننقاد ونتبعها فضللنا عنها ولم نرزقها.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (غلبت علينا شقوتنا) التي كتبت علينا.(3/440)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
قوله تعالى (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسئوا فيها ولا تكلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها فإنا ظالمون وأن الله يجيبهم بقوله (اخسئوا فيها ولا تكلمون) أي امكثوا فيها خاسئين: أي أذلاء صاغرين حقيرين، لأن لفظة اخسأ إنما تقال للحقير الذليل، كالكلب ونحوه. فقوله (اخسئوا) أي ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان.
وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالوه كقوله تعالى (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) وقوله تعالى (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) وقوله تعالى (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) الآية.
وانظر الآية رقم (99، 100) من هذه السورة.
قوله تعالى (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون) . قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبة إنه مسيء: أي لأجل إساءته. وقوله في هذه الآية (إنه كان فريق من عبادي) الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة، على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم،(3/441)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول (ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون) .
قوله تعالى (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فاسأل العادين) قال: الملائكة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (فاسأل العادين) قال: فاسأل الحُسّاب.
قوله تعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)
قال ابن كثير: وقوله (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) أي: أفظننتم أنك مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا (وأنكم إلينا لا ترجعون) أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) ، يعني هملا.
قوله تعالى (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (لا برهان له به) قال: لا بينة له به.
قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)
انظر بداية التفسير (الرحمن الرحيم) .(3/442)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
سورة النور
قوله تعالى (سورة أنزلناها وفرضناها ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله (وفرضناها) يقول: بيناها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وفرضناها) قال: الأمر بالحلال والنهي عن الحرام.
قوله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن ابن شهاب عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال أحدهما اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر -وهو أفقههما-: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذنْ لي أن أتكلم. قال: تكلم، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -قال مالك: والعسيف الأجير- زنى بامرأته. فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائتي شاة وجارية لي. ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلدُ مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما غنمك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة وغربه عاماً، وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجَمَها، فاعترفت فرجمها".
(صحيح البخاري 11/532 - ك الأيمان والنذور، ب كيف كانت يمين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ح 6633، 6634) .
وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1324-1325 ح 1697، 1698) .
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة(3/443)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
أو كان الحمل أو الاعتراف. -قال سفيان: كذا حفظت- ألا وقد رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده.
(الصحيح 12/140 ح 6829 - ك الحدود، ب الاعتراف بالزنا) . وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الحدود، ب رجم الثيب في الزنا - ح 1691) .
قال مسلم: حدثني أبو غسان مالك بن عد الواحد المسمعي، حدثنا معاذ (يعني ابن هشام) ، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو قلابة؛ أن أبا المهلب حدثه عن عمران بن حصين، أن امرأة من جهينة أتت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي حبلى من الزنى. فقالت: يا نبي الله! أصبت حدا فأقمه عليّ. فدعا نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها. فقال: "أحسِن إليها، فإذا وضعت فائتني بها" ففعل. فأمر بها نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فشُكّت عليها ثيابها. ثم أمر بها فرُجمت ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها؟ يا نبي الله! وقد زنت. فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟ ".
(الصحيح 3/1324 ح 1696 ك الحدود، ب من اعترف على نفسه بالزنى) .
قال البخاري: حدثني زهير بن حرب، حدثنا يعقوب: حدثنا أبي، عن صالح قال: حدث ابن شهاب أن عبيد الله أخبره أن زيد بن خالد وأبا هريرة رضي الله عنهما أخبراه أنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن الأمة تزني ولم تحصن؟ قال: "اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها بعد الثالثة أو الرابعة".
(الصحيح 4/491 ح 2232، 2233، ك البيوع، ب بيع المدبر) .
قوله تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) قال: أن تقيم الحد.
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن كثير بن الصلت قال: كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف فمروا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" فقال عمر: لما أنزلت هذه أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: أكتبنيها.(3/444)
قال شعبة: فكأنه كره ذلك فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم.
(المسد 5/183) وأخرجه الدارمي (السنن 2/179 - ك الحدود، ب في حد المحصنين بالزنا) من طريق: العقدي، عن شعبة به. والحاكم (المستدرك 4/360 - ك الحدود) ، من طريق: محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ولفظ الدارمي مختصر ليس فيه قول عمر. وصححه الحافظ ابن حجر (الفتح 9/65) .
انظر حديث مسلم عن عبادة بن الصامت المتقدم عند الآية رقم (15) من سورة النساء، وهو حديث: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وقد صح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه لما أتى بشراحة وكانت قد زنت وهي محصنة فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ثم قال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الصحيح - ك الحدود ح 6812) ، وقد ذكر الجمهور حديث عبادة الذي نص على الجمع بين الرجم والجلد للمحصن الزاني أنه منسوج بما ثبت في قصة ماعز وهي متراخية عن حديث عبادة، وكذا قصة الغامدية والجهنية واليهوديين. انظر (فتح الباري 12/119، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ ص 370) .
قوله تعالى (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قال: الطائفة: رجل واحد فما فوقه.
قوله تعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)
قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا روح بن عبادة عن عُبيد الله بن الأخنس، أخبرني عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغيٌّ بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له، وإنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عَنَاق فأبصرتْ سواد ظلي بجنب(3/445)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الحائط فلما انتهتْ إلي عرفته فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحباً وأهلاً هلُمّ فبت عندنا الليلة، قال: قلتُ: يا عناق حرّم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، قال: فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فطل بولهم على رأسي وأعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر ففككت عنه كبْله فجعلت أحمله ويُعينني حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله أنكحُ عناقا؟ فأمسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحُرّم ذلك على المؤمنين) فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (السنن 5/328-329 -ك التفسير- ب سورة النور - ح 3177) . وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ح 3538.
وأخرجه الحاكم من طريق عبيد الله بن الأخنس به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/166) .
والخندمة جبل بمكة المكرمة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو معمر، قالا: ثنا عبد الوارث، عن حبيب، حدثني عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". وقال أبو معمر: حدثني حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب.
(السنن 2/221 ح 2052 - ك النكاح، ب قوله تعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية) . وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - سورة النور 3 ح 59) عن أبيه عن عبد الوارث به. وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/193- ك النكاح) من طريق يزيد بن زريع عن حبيب المعلم بنحوه، وفيه قصة. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح (صحيح أبي داود ح 1807) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) قال: الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا(3/446)
بزانية مثله أو مشركة. قال: والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزاني مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة. ثم قال (وحرم ذلك على المؤمنين) .
قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) قال: ليس هذا بالنكاح إنما هو جماع الزاني بها إلا زان أو مشرك.
وصحح إسناده ابن كثير.
قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون)
روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم فقال: وشاور علياً وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين. ا.هـ.
قال الحافظ ابن حجر: وأما قوله: فجلد الرامين. فلم يقع في شيء من طرق حديث الإفك في الصحيحين ولا في أحدهما، وهو عند أحمد وأصحاب السنن من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة، قالت: لما نزلت براءتي قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فدعا بهم وحدّهم.
وفي لفظ: فأمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم. وسموا في رواية أبي داود: مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش. قال الترمذي: حسن لا تعرفه إلا من حديث ابن إسحاق من هذا الوجه. قلت: ووقع التصريح بتحديثه في بعض طرقه. ا.هـ.
(فتح الباري - ك الاعتصام، ب قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) ، (وشاورهم في الأمر) 13/353 ط الريان) . وهو كما قال: فقد وجدت الرواية في (مسند أحمد 6/30، 35) وفي (سنن الترمذي - الحدود، ب في حد القذف 4/162) و (سنن أبي داود - الحدود، ب حد القذف 4/162) وفي (السنن الكبرى للبيهقي صرح ابن إسحاق بالحديث 8/250) ، وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة 2/84) .(3/447)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) ثم قال: فمن تاب وأصلح، فشهادته في كتاب الله تقبل.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) ، قال: كان الحسن يقول: لا تقبل شهادة القاذف أبداً وتوبته فيما بينه وبين الله.
قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم..)
إلى قوله تعالى (إن كان من الصادقين)
قال مسلم: وحدثني زهير بن حرب، حدثني إسحاق بن عيسى، حدثني مالك عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله! إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: "نعم".
(الصحيح 2/1135 بعد رقم 1498 - ك اللعان) .
قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا الأوزاعي قال: حدثني الزهري عن سهل بن سعد (أن عُويمراً أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سلْ لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك. فأتى عاصم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله. فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل، فسأله عويمر، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره المسائل وعابها قال عويمر: والله لا أنتهى حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك" فأمرهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالملاعنة بما سمّى الله في كتابه فلاعنها ثم قال: يا رسول الله، إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين. ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انظروا، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلّج الساقين فلا(3/448)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
أحسب عويمراً إلا قد صدق عليها، وإن جاءت أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمراً إلا قد كذب عليها". فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه.
(الصحيح 8/303 - ك التفسير، سورة النور ح 4745) .
قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم (واللفظ لزهير) قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا جرير عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. قال: إنا، ليلة الجمعة، في المسجد. إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ. والله! لأسألن عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلما كان من الغد أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله. فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ. فقال: "اللهم! افتح" وجعل يدعو. فنزلت آية اللعان: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) . هذه الآيات. فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس. فجاء هو وامرأته إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتلاعنا. فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. فذهبت لِتلعن. فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَهْ" فأبت فلعنت. فلما أدبرا قال: "لعلها أن تجيء به أسود جعداً"، فجاءت به أسود جعداً.
(صحيح مسلم 2/1133 ح 1495 - ك اللعان) .
قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا ابن بكر ابن أبي شيبة (واللفظ له) ، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير. قال: سئلت عن المتلاعنين في امرأة مصعب. أيُفرّق بينهما؟ قال: فما دريت ما أقول: فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة. فقلت للغلام: استأذن لي. قال: إنه قائل. فسمع صوتي. قال: ابن جبير؟ قلت:(3/449)
نعم. قال: ادخل. فوالله! ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة. فدخلت. فإذا هو مفترش برذعة. متوسد وسادة حشوها ليف. قلت: أبا عبد الرحمن! المتلاعنان، أيُفرّق بينهما؟ قال: سبحان الله! نعم. إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال: يا رسول الله! أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يجبه. فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: (والذين يرمون أزواجهم) (24/النور/6-9) فتلاهن عليه ووعظه وذكره. وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها وذكّرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قالت: لا، والذي بعثك بالحق! إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنّى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرق بينهما.
(صحيح مسلم 2/1130 ح 1493 - كتاب اللعان) .
قوله تعالى (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)
قال البخاري: حدثني سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح عن الزهري عن سهل بن سَعْد (أن رجلا أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً رأى مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فأنزل الله فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد قضى: فيك وفي امرأتك". قال فتلاعنا -وأنا شاهد عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- ففارقها، فكانت سنة أن يفرّق بين المتلاعنين. وكانت حاملاً فأنكر حملها وكان ابنها يدعى إليها. ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها) .
(صحيح البخاري 8/303 ح 4746 - ك التفسير، سورة النور الآية) .(3/450)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
قوله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات ... )
قال البخاري: حدثني محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام بن حسان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البينة أو حدّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "البينة وإلا حدّ في ظهرك". فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يُبرىء ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه (والذين يرمون أزواجهم) فقرأ حتى بلغ (إن كان من الصادقين) ، فانصرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب"؟ ثم قامت فشهدت؟ فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها مَوجبة. قال ابن عباس: فتلكّأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء"، فجاءت به كذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".
(صحيح البخاري 8/303-304 ح 4747 - ك التفسير، سورة النور الآية نفسها، ومعنى: سابغ: عظيم، ومعنى خدلج: ممتلئ) .
قوله تعالى (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين)
قال البخاري: حدثنا مقدم بن محمد بن يحيى، حدثنا عمي القاسم بن يحيى، عن عبيد الله وقد سمع منه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً رمى امرأته فانتفى من ولدها في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر بهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتلاعنا كما قال الله، ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين.
(صحيح البخاري 8/305 ح 4748 - ك التفسير، سورة النور الآية) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (والذين يرمون أزواجهم لم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) .. الآية والخامسة أن(3/451)
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
يقال له: إن عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين، وإن أقرت المرأة بقوله رُجمت، وإن أنكرت شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن يقال لها: غضب الله عليكِ إن كان من الصادقين، فيدرأ عنها العذاب ويفرق بينهما، فلا يجتمعان أبداً، ويُلحق الولد بأمه.
قوله تعالى (إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هم خيراً لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (والذي تولى كبره) قالت: عبد الله بن سلول.
(الصحيح 8/306 ح 4749 - ك التفسير، سورة النور) . وعبد الله هذا هو ابن أبي بن سلول.
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا -وكل حدثني طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدّق بعضاً، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض- الذي حدثني عروة عن عائشة رضي الله عنها أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت(3/452)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عِقْدّ لي من
جَزْع أظفار قد انقطع، فالتمستِ عقدي وحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين
كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنتُ ركبتُ وهم
يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما يأكلن العُلقة من
الطعام فلم يستنكر القوم خِفة الهودج حين رفعوه، وكنتُ جارية حديثة السن،
فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس
بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون
إلي فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم
الذكواني من وراء الجيش فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم،
فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين
عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير
استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطيء على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي
الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك،
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت
حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيء
من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللطف الذي
كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيُسلّم ثم يقول:
"كيف تِيكم"، ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشرّ، حتى خرجت
بعد ما نقهت، فخرجت معي أمّ مِسطحِ قبل المناصع، وهو متبرّزنا وكنا لا
نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريباً من بيوتنا. وأمرُنا أمر
العرب الأول في التبرز قبلَ الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا،
فانطلقت أنا وأم مسطح -وهي ابنة أبي رُهم بن عبد مناف، وأمها بنتُ صخر
بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة- فأقبلت أنا وأم مسطح(3/453)
قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلتِ، أتسبين رجلاً شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قالت قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعني سلم ثم قال: كيف تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ قالت: وحينئذ أريدُ أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجئت أبويّ، فقلتُ لأمي: يا أُمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكى. فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبثَ الوحي يستأمرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال: يا رسول الله، أهلك، وما نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدُقك. قالت: فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين، من يعذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله وأنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربتُ عنقه، وإن(3/454)
كان من أخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية- فقال لسعد: كذبتَ لعمر الله، لا تقتله ولا نقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتساور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: فمكثتُ يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم.
قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يَظنّان أن البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يُوحى إليه في شأني قالت: فتشهّد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جلس ثم قال: أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرؤكِ الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه.
قالت: فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالته قَلصَ دَمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: فقلت -وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن-: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلتُ لكم إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تُصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف، قال (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) قالت:(3/455)
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مُبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم رؤيا يبرِّؤني الله بها. قالت: فوالله ما رامَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سرى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: "يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برّأك". فقالت أمي: قومي إليه قالت فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل. وأنزل الله (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه ... ) العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مِسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أُنفق على مسطح شيئاً أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) قال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب، ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً. قالت - وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
(الصحيح 8/306-309 ح 4750 -ك التفسير- سورة النور، ب الآية) ، (صحيح مسلم 4/2129 ح 2770 - ك التوبة، ب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف) .(3/456)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
قوله تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم)
قال البخاري: حدثني يحيى، حدثنا وكيع، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها: كانت تقرأ (إذ تَلِقُونه بألسنتكم) وتقول: الوَلْقُ: الكذب. قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم من غيرها بذلك؛ لأنه نزل فيها.
(الصحيح 7/436) ح 4144 - ك المغازي، ب حديث الإفك) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (إذ تَلَقّونه) قال: ترونه بعضكم عن بعض.
قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (أن تشيع الفاحشة) قال: تظهر، يتحدث عن شأن عائشة [رضي الله عنها] .
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر)
انظر سورة البقرة آية (168-169) لبيان معنى خطوات الشيطان وبيان ما يأمر به.
قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن أبي عباس قوله (لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً) يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئاً من الشر يدفعه عن نفسه.
قوله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
انظر حديث البخاري عند الآية رقم (12) من نفس السورة، وهو حديث عائشة الطويل في قصة الإفك وفي آخره قول أبي بكر - رضي الله عنه -: والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد الذي قال.. فأنزل الله (ولا يأتل أولوا الفضل..)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) يقول: لا تقسموا أن لا تنفعوا أحداً.
وانظر سورة البقرة آية (224) حديث البخاري عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعاً: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير".(3/457)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قوله تعالى (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)
قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات".
قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
(الصحيح 12/188 ح 6857 - ك الحدود، ب رمي المحصنات) ، (صحيح مسلم 1/92 - ك الإيمان، ب بيان الكبائر وأكبرها) .
قوله تعالى (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)
قال مسلم: حدثنا محمد بن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً ... فذكر حديث رؤية الرب يوم القيامة، وفي آخره: قال: (ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيُختم على فيه. ويُقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله. وذلك ليُعذر من نفسه. وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه) .
(الصحيح 4/2279-2280 ح 2968 - ك الزهد والرقائق) .
قال الدارمي: أخبرنا إسحاق بن عيسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عَمْرو، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ "من صمت نجا".
(السنن 2/299 - ك الرقاق، ب في الصمت) . وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص 130) أنبأنا ابن لهيعة به. وعبد الله بن المبارك روى عن ابن لهيعة قبل الاختلاط. وأخرجه الطبراني من طريق عبد الله ابن وهب عن ابن لهيعة (المعجم الأوسط 2/556 ح 1954) ، وأخرجه ابن شاهين (فضائل الأعمال ص 327 ح 387) من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري به، وكذا الطبراني في (المعجم الكبير 13 ح 114) وفيهما متابعة لابن لهيعة. قال المنذري: رواة الطبراني ثقات (الترغيب 3/536) وقال العراقي: وهو عند الطبراني بسند جيد (تخريج الإحياء 4/1623 ح 2526) وقال ابن حجر بعد عزوه للترمذي رواته ثقات (الفتح 11/309) .
انظر حديث مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في سورة فصلت آية (20) .(3/458)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
قوله تعالى (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) . المراد بالدين هنا الجزاء، ويدل على ذلك قوله: يوفيهم، لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى: (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) وقوله تعالى (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) يقول: حسابهم.
قوله تعالى (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، وأخرجه بسند صحيح عن الضحاك وقتادة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (أولئك مبرءون مما يقولون) فمن كان طيباً فهو مبرأ من كل قول خبيث يقول يغفره الله ومن كان خبيثاً فهو مبرأ من كل قول صالح فإنه يرده الله إليه لا يقبله منه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن قتادة (لهم مغفرة ورزق كريم) مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في الجنة.
والرزق الكريم هو الجنة وقد تقدم في سورة الأنفال آية (4) .
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، حدثنا شعبة عن محمد ابن المنكدر قال: سمعت جابراً - رضي الله عنه - يقول: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دَين كان على أبي، فدققتُ الباب، فقال: مَنْ ذا؟ فقلتُ: أنا. فقال: أنا أنا. كأنه كرهها.
(الصحيح 1/37 ح 6250 - ك الاستئذان، ب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا) ، (صحيح مسلم 3/1697 - ك الأدب، ب كراهة قول المستئذن أنا إذا قيل من هذا) .(3/459)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رُمح. قالا: أخبرنا الليث (واللفظ ليحيى) . ح وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث عن ابن شهاب؛ أن سهل بن سعد الساعدي أخبره، أن رجلاً اطّلع في جحْر في باب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدْرى يحُك به رأسه. فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك". وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما جُعل الإذن من أجل البصر".
(صحيح مسلم 3/1698 - ك الآداب، ب تحريم النظر في بيت غيره ح 2156) ، وأخرجه البخاري (الصحيح - الديات، ب من اطلع في بيت قوم.. ح 6901) .
قال مسلم: حدثنا حسين بن حريث، أبو عمار، حدثنا الفضل بن موسى. أخبرنا طلحة بن يحيى عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم. هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له. فقال: السلام عليكم. هذا أبو موسى. السلام عليكم. هذا الأشعري. ثم انصرف. فقال: رُدّوا عليّ. رُدّوا عليّ. فجاء فقال: يا أبا موسى! ما ردّك؟ كنا في شغل. قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الاستئذان ثلاث. فإن أذن لك، وإلا فارجع". قال: لتأتيني على هذا ببينة. وإلا فعلت وفعلت. فذهب أبو موسى.
قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية. وإن لم يجد بينة فلم تجدوه. فلما أن جاء بالعشي وجدوه. قال. يا أبا موسى! ما تقول؟ أقد وجدتَ؟ قال: نعم. أُبي بن كعب. قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل! ما تقول هذا؟ قال: سعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ذلك يا ابن الخطاب فلا تكوننّ عذاباً على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئاً. فأحببت أن أتثبت.
(صحيح مسلم 3/1696 ح 2154 - ك الآداب، ب الاستئذان) ، وأخرجه البخاري من حديث أبي سعيد نحوه (الصحيح ح 6245 - الاستئذان، التسليم والاستئذان ثلاثاً) .
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان، حدثنا هشيم، حدثنا سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: قفلنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوةٍ، فتعجّلتُ على بعير لي قطوف، فلحقني راكب من خلفي، فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فإذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما يُعجلك؟ قلت: كنت حديث عهد بعُرس. قال: أبكراً أم ثيباً؟ قلتُ: ثيباً. قال: فهلا جارية(3/460)
تلاعبها وتلاعبك. قال: فلما ذهبنا لندخل قال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً -أي عشاء- لكي تمتشط الشعثة، وتستحدّ المغيبة.
(الصحيح 9/24 ح 5079 - ك النكاح، ب نكاح الأبكار، وأخرجه مسلم (الصحيح 3/1527 ح 715 - ك الأمارة، ب كراهة الطروق ... ) .
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن ربعي قال: ثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخادمه: "أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل السلام عليكم، أأدخل"؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخل.
(السنن 4/345 ح 5177 - ك الأدب، ب كيف الاستئذان) . وأخرجه أحمد (المسند 5/368-369) من طريق شعبة عن منصور به. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود ح 4312) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (حتى تستأنسوا) قال: حتى تستأذنوا وتسلموا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فإن لم تجدوا فيها أحداً) قال: إن لم يكن لكم فيها متاع فلا تدخلوها إلا إذن (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) .
قوله (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (بيوتاً غير مسكونة) قال: هي البيوت التي ينزلها السفر، لا يسكنها أحد.
قوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم)
قال مسلم: حدثني قتيبة بن سعيد، حدثنا يزيد بن زريع، ح وحدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عُليّة. كلاهما عن يونس، ح وحدثني زهير بن حرب، حدثنا هُشيم، أخبرنا يونس عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير بن عبد الله. قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نظر الفُجاءة. فأمرني أن أصرف بصري.
(صحيح مسلم 3/1699 ح 2159 - ك الآداب، ب نظر الفجأة) .(3/461)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب عن الضحاك ابن عثمان، قال: أخبرني زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل. ولا المرأة إلى عورة المرأة. ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد. ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد".
(صحيح مسلم 1/266 ح 338 - ك الحيض، ب تحريم النظر إلى العورات) .
قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا أبو عمر حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إياكم والجلوس على الطرقات". فقالوا: ما لنا بدّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: "فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها" قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر".
(الصحيح 5/134 ح 2465 - ك المظالم، ب أفنية الدور والجلوس فيها..) ، وأخرجه مسلم (الصحيح ح 2121 - ك اللباس، ب النهي عن الجلوس في الطرقات) .
قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا بهز ابن حكيم، حدثني أبي، عن جدي قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "إحفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك"، فقال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل" قلت: والرجل يكون خالياً؟، قال: "فالله أحق أن يستحيا منه".
(السنن 5/97 ح 2769 ك الأدب، ب ما جاء في حفظ العورة) قال الترمذي: هذا حديث حسن. وحسنه الألباني (صحيح الترمذي ح 2222) ، وأخرجه ابن ماجة (السنن 1/618 ح 1920 - ك النكاح، ب التستر عند الجماع) من طريق: يزيد بن هارون وأبي أسامة عن بهز به. والحاكم (المستدرك 4/179) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله ابن حجر من رواية ابن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون حدثنا بهز ... ثم قال ابن حجر: فالإسناد إلى بهز صحيح ولهذا جزم به البخاري (الفتح 1/385، 386) .(3/462)
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة الآتي عند الآية (32) من سورة
النجم: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة: فزنا
العين النظر ... ".
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقل للمؤمنات يغضضن من
أبصارهن ويحفظن فروجهن) قال: يغضوا أبصارهم عما يكره الله.
قوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)
قال الترمذي: حدثنا سويد، حدثنا عبد الله، أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن
شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، أنه حدثه أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وميمونة قالت: فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه
وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احتجبا منه"، فقلت:
يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟.
(السنن 5/102 ح 2778- ك الأدب، ب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال) ، قال
الترمذي: حديث حسن صحيح) ، وأخرجه أبو داود (السنن 4/63 ح 4112) ك اللباس، ب في
قوله عز وجل (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) من حديث محمد بن العلاء، وابن حبان في
صحيحه (الإحسان 12/387 ح 5575) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن ابن المبارك به.
وقال الحافظ ابن حجر: إسناده قوي. (فتح الباري 9/337) وكذا في (تحفة الأحوذي 8/63) .
قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)
أخرج الطبري بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (ولا يبدين
زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: هي الثياب.
وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/397) وأخرجه الطبراني (برقم 9116) ،
قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد مطولاً ومختصراً ورجال أحدها رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/82) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله:
(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل
العين، وخضاب الكف، والخاتم فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها. ا.هـ.(3/463)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
هكذا تمام كلام ابن عباس رضي الله عنهما ولكن كثيراً من العلماء ينقلون عنه الشق الأول فما نسب إلى ابن عباس بأن المراد من قوله تعالى (إلا ما ظهر منها) الوجه والكفان، ليس مطلقاً وإنما هو مقيد في بيتها لمن دخل من الناس عليها. ومما يؤكد هذا تفسيره لقوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) الأحزاب آية: 59.
فقد أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة. ا.هـ.
وانظر سورة الأحزاب آية (58) فقد صح مثله عن عبيدة السلماني. وانظر الرواية التالية لابن عباس وفيها أن الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها وقلادتها وسواراها، والخلخال والنحر والشعر فلا تبديه إلا لزوجها. ومع الأسف الشديد أن مسألة جواز كشف الوجه واليدين ينسبه العلماء لابن عباس على إطلاقه، فليحرر.
قوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة أنّ عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الآية (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) أخذن أزرهن فشققنها من قِبل الحواشي فاختمرن بها.
(الصحيح 8/347 ح 4759 -ك التفسير- سورة النور، ب الآية) .
قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال)
قال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان يدخل على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخنّث. فكانوا يعدّونه مِن غير أولي الإربة. قال فدخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً وهو عند بعض نسائه. وهو ينعت امرأة. قال: إذا أقبلتْ أقبلتْ بأربع. وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أرى هذا يعرف ما ههنا. لا يدخلَنَّ عليكن"، قالت: فحجبوه.
(صحيح مسلم 4/1716 ح 2981 - ك السلام، ب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب) .(3/464)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) فهذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله، لا يكترث للنساء، ولا يشتهيهن، فالزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها وقلادتها وسواراها، وأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها.
قوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولا يضربن بأرجلهن) فهو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال ويكون في رجليها خلاخل، فتحركهن عند الرجال، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك، لأنه من عمل الشيطان.
قوله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون)
قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، ثنا سفيان، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم، عن ابن معقل، قال: دخلت مع أبي على عبد الله، فسمعته يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الندم توبة" فقال له أبي: أنت سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الندم توبة"؟ قال: نعم.
(السنن 2/1420 ح 4252 - ك الزهد، ب ذكر التوبة) ، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة ح 3429) ، وأخرجه أحمد (المسند 1/433) من طريق وكيع وعبد الرحمن، والحاكم (المستدرك 4/243- ك التوبة) من طريق الحميدي كلهم عن سفيان به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ... ووافقه الذهبي. وصححه السيوطي (الجامع الصغير مع فيض القدير 6/298 ح 9315) ، وله شاهد من رواية أنس - رضي الله عنه - أخرجه ابن حبان (الإحسان 2/6 ح 612) ، وحسنه ابن حجر في الفتح، وصححه السيوطي والعامري في شرح الشهاب (انظر فتح القدير 6/298) .
انظر حديث مسلم المتقدم عند الآية رقم (3) من سورة هود، وهو حديث: "يا أيها الناس توبوا إلى الله ... ".
قوله تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم ... )
قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة حدثهم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت".
(الصحيح 9/98 ح 5136 ك النكاح، ب، لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 2/1036 ح 1419 - ك النكاح، ب استئذان الثيب بالنكاح بالنطق..) .(3/465)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش
قال: حدثني عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخلت مع علقمة
والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شباباً لا نجد شيئاً، فقال
لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".
(الصحيح 9/14 ح 5066 - ك النكاح، ب من لم يستطع الباءة فليصم) ، وأخرجه مسلم
(الصحيح ك النكاح، ب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، بعد رقم 1400) .
قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة حق على الله عونهم:
المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف".
(السنن 4/184 ح 1655 - ك فضائل الجهاد، ب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون الله
إياهم) ، قال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه النسائي (السنن 6/15-16 - ك الجهاد، ب فضل
الروحة في سبيل الله) من طريق عبد الله بن المبارك، وابن ماجة (السنن 2/841 ح 2518 - ك العتق،
ب المكاتب) من طريق: أبي خالد الأحمر، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 9/339 ح 4030) من
طريق يحيى بن سعيد، والحاكم (المستدرك 2/160 - ك النكاح من طريق يحيى أيضاً، كلهم عن ابن
عجلان به، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال البغوي: حديث
حسن (شرح السنة 9/7) . وحسنه الألباني (صحيح الترمذي ح 1352) . وصححه السيوطي (الجامع
الصغير مع فيض القدير 3/317 ح 3497 وصحح إسناده أحمد شاكر في حاشية المسند 13/49) .
قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد،
قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن حفص ابن أخي أنس بن مالك، عن أنس بن
مالك قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً،
ويقول: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر الأنبياء يوم القيامة".
(الإحسان 9/338 ح 4028) وأخرجه أحمد في (المسند 3/158-245) عن خلف به. وحسنه
الهيثمي (مجمع الزوائد 4/258) وأخرجه الضياء في (المختارة 5/260-262 ح 1888-1890) من
طرق، عن خلف بن خليفة به. وقال محققه: إسناده حسن. وقال محقق الإحسان: صحيح لغيره.. وله
شاهد من حديث معقل بن يسار ... وآخر من حديث عبد الله بن عَمرو، وحديث معقل أخرجه الحاكم
وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/162) وقال العراقي: إسناده صحيح (تخريج الإحياء 2/970)
وصححه الألباني بشواهد (الإرواء 6/195 ح 1784) .(3/466)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) قال: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغبهم فيه وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى، فقال (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) .
قوله تعالى (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ... )
قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله جئتُ أهب لك نفسي. قال. فنظر إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصعَّد النظر فيها وصوّبه، ثم طأطأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلستْ. فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوّجنيها. فقال: وهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله، فقال: "إذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً"، فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انظر ولو خاتماً من حديد". فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل ماله رداءٌ فلها نصفه- فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تصنع بإزارك، إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبستْه لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موليا فأمر به فدُعي، فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن"؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا -عدّدها- فقال: تقرؤهنّ عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: "اذهب فقد مَلّكتكها بما معك من القرآن".
(صحيح البخاري 9/34 - ك النكاح، ب تزويج المعسر. ح 5087) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - النكاح، ب الصداق ح 1425) .
قوله تعالى (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنهم الله من فضله)
انظر حديث البخاري عن عبد الله بن مسعود في الآية السابقة.(3/467)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قوله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ... )
قال البخاري: وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواقي نجّمت عليها في خمس سنين، فقالت لها عائشة -ونفِستْ فيها- أرأيت إن عددْت لهم عَدّة واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي؟ فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم، فقالوا. لا، إلا أن يكون لنا الولاء. قالت عائشة: فدخلتُ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرتُ ذلك له، فقال لها رسول الله: "اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق". ثم قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ مَن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، شرط الله أحق وأوثق".
(صحيح البخاري 5/219 ح 2560 - ك المكاتب، ب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) يقول: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (إن علمتم فيهم خيراً) قال لهم: مالا فكاتبوهم.
قوله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ... )
قال الحاكم. أخبرنا أبو زكريا العنبري، ثنا محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ عبد الرزاق، أنبأ ابن جريج، حدثني عطاء بن السائب أن عبد الله بن حبيب أخبره عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) قال: يترك للمكاتب الربع".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وعبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي وقد أوقفه أبو عبد الرحمن عن علي في رواية أخرى. (المستدرك 2/397 ك التفسير - سورة النور) (وأقره الذهبي على تصحيحه، وقال الذهبي: وروى موقوفاً. وأخرجه الضياء المقدسي في (المختارة 2/194-195 ح 576) من طريق: سليمان بن أحمد، عن إسحاق بن إبراهيم به. ومن طريق علي بن بحر، عن عبد الرزاق به مرفوعاً ح 577.
ونقل محققه عن البيهقي: أن الصحيح وقفه. وهو عند الضياء أيضاً برقم 575 من طريق: أسباط، عن عطاء به موقوفا على عليّ. قال محققه: رجاله ثقات، وهذا الموقوف له حكم الرفع) .(3/468)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) يقول: ضعوا عنهم من مكاتبتهم.
قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم)
قال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة عن محمد بن جُحادة عن أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كسب الإماء".
(صحيح البخاري 4/538 - ك الإجارة، ب كسب البغي والإماء ح 2283) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي مسعود الأنصاري، "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن".
(صحيح مسلم 3/1198 - المساقاة، ب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي والنهي عن بيع السنور ح 1567) ، وأخرجه البخاري (الصحيح- البيوع، ب ثمن الكلب ح 2237) .
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، جميعاً عن أبي معاوية (واللفظ لأبي كريب) ، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كان عبد الله بن أُبي بن سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً.
فأنزل الله عز وجل (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يُكرههن فإن الله من بعد إكراههن) لهن (غفور رحيم) .
(صحيح مسلم 4/2320 - ك التفسير، ب في قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً) يقول: ولا تكرهوا إماءكم على الزنا، فإن فعلتم فإن الله سبحانه لهن غفور رحيم، وإثمهن على من أكرههن.(3/469)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قوله تعالى (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (الله نور السموات والأرض) يقول: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض.
وهو اختيار الطبري، ويشهد له قوله تعالى (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) آية: 40 من السورة نفسها، وكذلك قوله تعالى في سورة الزمر آية: 22 (فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) .ا. هـ.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التفسير وأقره فقال: ثم قول من قال من السلف (هادي أهل السموات والأرض) لا يمنع أن يكون في نفسه نوراً، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقية الأنواع فيه ...
(تفسير سورة النور ص 220-221 تحقيق د. عبد العلي عبد الحميد حمد. وانظر مجموع الفتاوى 6/374) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قول الله (مثل نوره) قال: ذكر نور المؤمن فقال: مثل نوره، يقول: مثل نور المؤمن. قال: وكان أبي يقرؤها: كذلك مثل المؤمن، هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية، عن أبي بن كعب (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) قال: مثل المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة، قال: المشكاة: صدره (فيها مصباح) قال: مثل القرآن والإيمان الذي جعل في صدره (المصباح في زجاجة) قال: والزجاجة: قلبه (الزجاجة كأنها كوكب دري توقد) قال: فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب دري، يقول: مضيء (توقد من شجرة مباركة) والشجرة المباركة أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته، لا شريك له (لا شرقية ولا غربية) قال: فمثله مثل شجرة التف(3/470)
بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغير، وقد ابتلى بها فثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال، إن أعطى شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، قال (نور على نور) فهو يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (مثل نوره كمشكاة) قال: مثل هداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونورا على نور كما قال إبراهيم صلوات الله عليه قبل أن تجيئه المعرفة (قال هذا ربي) حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحد أن له رباً، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هدى على هدى.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (كمشكاة) قال: القنديل، ثم العمود الذي فيه القنديل.
قوله تعالى (شجرة مباركة زيتونة..)
قال الحاكم: أخبرنا أبو عبد الله الصفار، ثنا أحمد بن مهران، ثنا أبو نُعيم، ثنا سفيان عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن أبي أسيد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلوا الزيت وادهنوا بها فإنه من شجرة مباركة".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/397-398 - ك التفسير - سورة النور، وأقره الذهبي) ، وأخرجه الترمذي (السنن 4/285 ح 1851) ، والضياء (المختارة 1/174 ح 82 و83) كلاهما من حديث عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً بنحوه وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة ح 379) .
انظر حديث عمر المتقدم عند الآية رقم (20) من سورة المؤمنون لبيان مكان خروجها وهو طور سيناء ولبيان صفاتها.(3/471)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
قوله تعالى (في بيوت أذن الله أن ترفع)
قال مسلم: حدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى. قالا: حدثنا ابن وهب. أخبرني عَمْرو، أن بُكيرا حدثه، أن عاصم بن عُمر بن قتادة حدثه، أنه سمع عُبيد الله الخولاني يذكر، أنه سمع عثمان بن عفان، عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنكم قد أكثرتم وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن بنى مسجداً لله تعالى (قال بكير: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله) بنى الله له بيتاً في الجنة".
وقال ابن عيسى في روايته (مثله في الجنة) .
(صحيح مسلم 1/378 ح 533 - ك المساجد ومواضع الصلاة، ب فضل بناء المساجد) ، وأخرجه البخاري في (صحيحه 1/544 ح 450) .
قال مسلم: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد (يعني ابن الحارث) حدثنا شعبة قال: سألت قتادة عن التَّفْل في المسجد؟ فقال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "التفل في المسجد خطيئة. وكفارتها دفنها".
(صحيح مسلم 1/390 - ك المساجد ومواضع الصلاة، ب النهي عن البصاق في المسجد، في الصلاة وغيرها) ، وأخرجه البخاري في (صحيحه 1/511 ح 415) .
قال أحمد: ثنا يحيى بن غيلان قال: حدثنا رشدين، حدثني عمرو عن أبي السمح، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن".
(المسند 6/297) وأخرجه ابن خزيمة (الصحيح 3/92 ح 1683 - ك الصلاة، ب اختيار صلاة المرأة في بيتها..) والحاكم (المستدرك 1/209) كلاهما من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث به، وسكت الحاكم والذهبي. وصححه الألباني (صحيح الجامع 3327) وقال مرة: حسن (حاشية ابن خزيمة) ويشهد له حديث ابن عمر مرفوعاً: "لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن"، أخرجه أبو داود (السنن - ك الصلاة ح 567) ، وابن خزيمة (ح 1684) ، قال الألباني في التعليق على ابن خزيمة: صحيح بشواهده. قلت: ويشهد له حديث أم حميد الآتي. وحسنه السيوطي (فيض القدير مع الجامع الصغير 3/491 ح 4087) .(3/472)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) وهي المساجد تكرم، ونهى عن اللغو فيها.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (في بيوت أذن الله أن ترفع) قال: مساجد تبنى.
قوله تعالى (ويذكر فيها اسمه)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثم قال: (ويذكر فيها اسمه) يقول: يتلى فيها كتابه.
قوله تعالى (يسبح له فيها بالغدو والأصال)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثم قال: (يسبح له فيها بالغدو والأصال) يقول: يصلى له فيها بالغداة والعشي، يعني بالغدو: صلاة الغداة، ويعني الأصال: صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عبادته.
قال أحمد: ثنا هارون، ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني داود بن قيس، عن عبد الله بن سويد الأنصاري، عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي، أنها جاءت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي". قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.
(المسند 6/371) ، وأخرجه ابن خزيمة (الصحيح 3/95 ح 1689 - ك الصلاة، ب اختيار صلاة المرأة في حجرتها ... ) من طريق: عيسى بن إبراهيم الغافقي. وابن حبان في صحيحه (الإحسان 5/595-596 ح 2217) من طريق: هارون بن معروف، كلاهما عن عبد الله بن وهب به. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، وثقه ابن حبان (مجمع الزوائد 2/33-34) ، وقال ابن حجر وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود (الفتح 2/350) . وقال الألباني: حديث حسن (التعليق على ابن خزيمة) وقال محقق الإحسان: حديث قوي.(3/473)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قوله تعالى (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ... )
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) يقول: عن الصلاة المكتوبة.
قوله تعالى (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)
قال ابن كثير: وقوله (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) أي: يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، أي: من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كما قال تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) وقال تعالى: (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) .
قوله تعالى (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب)
قال ابن كثير: وقوله (ويزيدهم من فضله) ، أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم، كما قال تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً) وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وقال: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) وقال: (والله يضاعف لمن يشاء) كما قال ها هنا: (والله يرزق من يشاء بغير حساب) .
قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة".
(السنن 1/283 ح 1079 - ك الصلاة، ب التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة) ، وأخرجه الترمذي (السنن - ك الصلاة، ب ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد ح 322) ، والنسائي (السنن 2/47-48 - ك المساجد، ب النهي عن البيع والشراء في السجد) وأحمد (المسند 2/179) من طرق عن ابن عجلان به. قال الترمذي: حديث حسن، وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 265) وقال أحمد شاكر في حاشية سنن الترمذي. بل هو صحيح وصححه ابن خزيمة والقاضي أبو بكر بن العربي.(3/474)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
قوله تعالى (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: ثم ضرب مثلا آخر، فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة، وهو يحسب أن له عند الله خيرا فلا يجد، فيدخله النار. ويؤكد هذا ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: وفيه ... فيدعى اليهود فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ فقالوا: عطشنا ربنا فاسقنا، فيُشارُ: ألا ترون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار ... (صحيح البخاري -ك التفسير- سورة النساء، ب إن الله لا يظلم مثقال ذرة ح 4581) ، ومسلم (الصحيح - ك الإيمان، ب معرفة طريق الرؤية) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (أعمالهم كسراب بقيعة) يقول: الأرض المستوية.
قال تعالى (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج) ... الآية، قال: ضرب مثلا آخر للكافر فقال: (أو كظلمات في بحر لجي) ... الآية، قال: فهو يتقلب في خمس من الظلم، فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (بحر لجي) عميق.
قوله تعالى (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)
قال ابن كثير: وقوله (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) أي من لم يهده الله فهو هالك حائر بائر كافر، كما قال تعالى: (ومن يضلل الله فلا هادي له) ا. هـ.(3/475)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
قال تعالى (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافّات كل قد علم صلاته وتسبيحه)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) قال: والصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق.
وبيانه قوله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) سورة الإسراء آية: 44.
قوله تعالى (والطير صافّات)
انظر سورة الملك آية (19) لبيان صف أجنحة الطير.
قوله تعالى (فترى الودق)
أي المطر كما سيأتي في سورة الروم آية (48) .
قوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (يكاد سنا برقه) يقول: لمعان البرق يذهب بالأبصار.
وانظر سورة البقرة آية (20) قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) .
قوله تعالى (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) انظر سورة الفاتحة لبيان الصراط المستقيم: الإسلام.
قوله تعالى (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون)
انظر سورة البقرة آية (8-14) لبيان بعض أحوال المنافقين وصفاتهم.
قال ابن كثير: وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) أي: إذا طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنزل الله على رسوله،(3/476)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) .
قوله تعالى (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
انظر سورة البقرة آية (10) .
قوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة)
قال ابن كثير: وقوله (طاعة معروفة) ، قيل معناه طاعتكم طاعة معروفة، أي قد عُلمت طاعتكم، إنما هي قول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى: (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) ، وقال تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) .
قوله تعالى (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم)
قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعون حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس. وقال: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم".
(الصحيح 3/1474 ح 1846، وأخرجه بعده، وفيه: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فذكره مثله) .(3/477)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
قال أبو داود: حدثنا سوار بن عبد الله، ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن سعيد ابن جمهان، عن سفينة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك -أو ملكه- من يشاء" قال سعيد: قال لي سفينة: أمسك عليك: أبا بكر سنتين، وعمرا عشراً، وعثمان اثنتي عشرة، وعلى كذا، قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن علياً عليه السلام لم يكن بخليفة، قال: كذبتْ أستاه بني الزرقاء، يعني بني مروان.
(السنن 4/211 ح 4646 - ك السنة، ب في الخلفاء) ، وأخرجه الترمذي (السنن - ك الفتن، ب ما جاء في الخلافة ح 2226) ، وأحمد (المسند 5/220) ، وابن حبان (الإحسان 15/24-35 ح 6657) ، والحاكم (المستدرك 3/145) من طرق عن سعيد بن جمهان به، وصححه في (المستدرك 3/71) . قال الترمذي: حديث حسن، وقال الألباني: صحيح (صحيح الترمذي ح 1813) . وقال محقق الإحسان: إسناده حسن. ونقل الألباني عن ابن أبي عاصم قوله: حديث ثابت من جهة النقل، ونقل عن ابن تيمية تصحيحه له وموافقة الحافظ ابن حجر على تصحيح من صححه (السلسلة الصحيحة ح 460) وصححه السيوطي في (الجامع الصغير 3/509 ح 4147) .
وانظر حديث ثوبان المتقدم عند الآية (33) من سورة التوبة، وهو حديث: "إن الله زوى لي الأرض..".
قال الحاكم: حدثني محمد بن صالح بن هانئ، ثنا أبو سعيد محمد بن شاذان، حدثني أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات(3/478)
ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) إلى (ومن كفر بعد ذلك) يعني بالنعمة) (فأولئك هم الفاسقون) .
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 2/401 - ك التفسير، وصححه الذهبي) ، وأخرجه الضياء المقدسي في (المختارة 3/353-354 ح 1145، 1146) من طريق: أحمد بن سعيد الدارمي، ومحمد بن عبده المروزي، كلاهما عن علي بن الحسين بن واقد به. قال محققه فيهما: إسناده حسن. وقال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 8/83) . وطريق أبي العالية عن أبي بن كعب تقدم ثبوته في المقدمة.
وانظر حديث أبي بن كعب الآتي عند الآية (20) من سورة الشورى: "بشر هذه الأمة بالسناء ... ".
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) هذا الدين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) .
قوله تعالى (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير)
انظر سورة آل عمران آية (196، 197) وتفسيرهما السابق.
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
قال البخاري: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو وابن جريج، عن عطاء قال: سألت ابن عباس فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم. فأعدت فقلت: أختان في حجري، وأنا أمونهما وأنفق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟ ثم قرأ (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) إلى قوله (ثلاث عورات لكم) فلم(3/479)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العورات الثلاث، قال: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) الآية.
قال ابن عباس: فالإذن واجب. زاد ابن جريج: على الناس كلهم.
(الأدب المفرد 2/502 ح 1063، ب يستأذن على أخته) وأخرجه البيهقي في (سننه 7/97) من طريق: سعيد بن منصور، عن سفيان، عن عمرو بن دينار وحده، عن عطاء به. وصحح الحافظ ابن حجر إسناده في جملة من الآثار (فتح الباري 11/25) . وقال الألباني: صحيح الإسناد (صحيح الأدب المفرد رقم 811/1063) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء فلا يدخل عليه خادم ولا صبي إلا بإذن حتى يصلي الغداة فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر وبعد الظهر إلي صلاة العشاء، أنه رخص لخادم الرجل والصبي أن يدخل عليه منزله بغير إذن قال وهو قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) فأما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
قوله تعالى (ومن بعد صلاة العشاء ... )
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها، في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل".
(الصحيح 1/445 ح 644 وما بعده - ك المساجد ومواضع الصلاة، في وقت العشاء وتأخيرها.
وقد جاء عند الطبري إيضاح المقصود بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فإنها في كتاب الله: العشاء"، حيث قال: قال الله (ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم) التفسير 18/163) .
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد- عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة: أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس(3/480)
كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد، قول الله عز وجل (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم) قرأ القعبني إلى (عليم حكيم) - قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين، يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حِجَال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
(السنن 5/377 ح 5192) ، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عند تفسير الآية (ح رقم 787) ، والبيهقي في سننه (7/97) كلاهما من طريق: سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو به. وعندهما قول ابن عباس، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. قال ابن كثير عقبه: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس (التفسير 3/303) ، وقال القرطبي: هذا متن حسن (التفسير 12/303) ، وحسنه الألباني (صحيح سنن أبي داود رقم 4324) ، وقال محقق ابن أبي حاتم: إسناده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الجيد عن مقاتل بن حيان قوله (ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم) وهذا من المفروض يحق على الرجل أن يأمر بذلك من كان حراً أو عبداً أن لا يدخلوا تلك الساعات الثلاث إلا بإذن.
قوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله يعني من الصبيان الأحرار إلا بإذن على كل حال وهو قوله (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) .
قوله تعالى (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن أبي عباس قوله (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً) وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها(3/481)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
بدرع وخمار وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرج لما يكره الله وهو قوله (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة) ثم قال (وأن يستعففن خير لهن) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) قال: جلابيبهن.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وأن يستعففن خير لهن) قال: أن يلبسن جلابيبهن خير لهن.
قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، ثنا بكر بن خلف، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدفعون مفاتيحهم إلى ضمنائهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، وكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء فأنزل الله عز وجل (ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) إلى قوله (أو ما ملكتم مفاتحه ... ) .
(التفسير - سورة النور/61 - ح 894) وأخرجه الطبري (التفسير 18/129) بمثله، وعزاه الهيثمي للبزار، وقال: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/83-84) وحسن إسناده محقق ابن أبي حاتم. وصححه الحافظ ابن حجر وقال: وسماع سليمان من عطاء قديم (مختصر زوائد البزار 2/118) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم) إلي قوله (أو أشتاتا) وذلك لما أنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) فقال المسلمون: إن الله(3/482)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله بعد ذلك (ليس على الأعمى حرج) إلى قوله (أو ما ملكتم مفاتحه) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (أو ما ملكتم مفاتحه) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص الله لهم فقال (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتا) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن الزهري وقتادة في قوله (فسلموا على أنفسكم) قالا: بيتك إذا دخلته فقل: سلام عليكم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله (فسلموا على أنفسكم) أي ليسلم بعضكم على بعض كقوله (ولا تقتلوا أنفسكم) . وسنده صحيح.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا بشر -يعنيان ابن المفضل- عن ابن عجلان، عن المقري، قال مسدد: سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة".
(السنن 4/353 ح 5208 - ك الأدب، ب في السلام إذا قام من المجلس) ، وأخرجه الترمذي (السنن 5/62 ح 2706 - ك الاستئذان، ب ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود) من طريق: الليث وأحمد (المسند 2/230) عن بشر، كلاهما عن ابن عجلان به. قال الترمذي: حديث حسن.
وقال النووي وروينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الجيدة ... فذكره (الأذكار ص 220) وحسنه السيوطي (الجامع الصغير مع شرح فيض القدير 1/305 ح 497) . وقال الألباني: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات ... (السلسلة الصحيحة ح 183) .
أخرج البستي بسنده الصحيح عن الضحاك يقول قوله - جل جلاله: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) يقول: سلموا على أنفسكم إذا دخلتم بيوتكم وعلى غير أهلكم فسلموا إذا دخلتم بيوتهم.(3/483)
أخرج البستي بسنده الصحيح عن ابن عمر، قال: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين.
قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)
قال الطبري: حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله (وإذا كانوا معه على أمر جامع) قال: هو الجمعة إذا كانوا معه لم يذهبوا حتى يستأذنوه.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِوَاذا)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم..) قال: أمرهم الله أن يفخموه ويشرفوه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (كدعاء بعضكم بعضاً) قال: أمرهم أن يقولوا: يا رسول الله في لين وتواضع ولا يقولوا: يا محمد في تجهم.
وانظر سورة الحجرات آية (2) .
أخرج بن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (لِوَاذاً) عن نبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن كتابه.
قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)
قال مسلم: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه. قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها". قال: "فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها".
(الصحيح 4/1789 بعد رقم 2284 - ك الفضائل، ب شفقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أمته ... ) .(3/484)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ".
(الصحيح 5/355 ح 2697 - ك الصلح، ب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود) .
وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الأقضية، ب نقض الأحكام الباطلة ... ح 1718) .
قوله تعالى (ألا إن لله ما في السموات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم)
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه عالم (الغيب والشهادة) ، وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم، فقال: (قد يعلم ما أنتم عليه) (وقد) للتحقيق، كما قال قبلها: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) ، وقال تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم، والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) . وقال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها، وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير) وقال: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) . وقال: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد، كما يقول المؤذن تحقيقاً وثبوتاً: (قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة) . فقوله تعالى: (قد يعلم ما أنتم عليه) ، أي: هو عالم به، مشاهد له، لا يعزب عنه مثقال ذرة.(3/485)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
سورة الفرقان
قوله تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)
قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأنيها. فكدت أن أعجل عليه. ثم أمهلته حتى انصرف. ثم لببته بردائه. فجئتُ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أرسله". اقرأ "فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هكذا أنزلت". ثم قال لي: "اقرأ". فقرأتُ فقال: "هكذا أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرأوا ما تيسر منه".
(صحيح مسلم 1/560 - ك صلاة المسافرين وقصرها، ب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه ح 818) .
قال ابن كثير: يقول تعالى حامداً نفسه الكريمة علي ما نَزّله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) .
وانظر حديث البخاري عن جابر المتقدم عند الآية (151) من سورة آل عمران وهو حديث: "أعطيت خمساً ... ".
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) يقول: الفرقان فيه حلال الله وحرامه وشرائعه ودينه فرق بين الحق والباطل.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (ليكون للعالمين نذيرا) بعث الله محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نذيراً من النار. وينذر بأس الله ووقائعه بمن خلا قبلكم.(3/486)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
قوله تعالى (وخلق كل شيء فقدره تقديرا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) من خلقه وصلاحه وجعل ذاك بقدر معلوم.
قوله تعالى (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (واتخذوا من دونه آلهة) وهي هذه الأوثان التي تعبد من دون الله عز وجل.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) وهو الله الخالق والرازق وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تُخلَق ولا تَخلِق شيئاً.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (ولا يملكون موتا ولا حياة) وهي هذه الأوثان التي تعبد من دون الله ولا تضر ولا تنفع ولا تملك موتا ولا حياة. وفي قوله (ولا نشورا) أي ولا بعثا.
قوله تعالى (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه) والإفك هو الكذب.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (وأعانه عليه قوم آخرون) قال: اليهود تقوله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فقد جاءوا ظلما وزورا) قال: كذباً.
قوله تعالى (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وقالوا أساطير الأولين) أي: كذب الأولين وباطلهم.(3/487)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن أبي العالية في قوله (بكرة) قال: صلاة الفجر. وقوله (وأصيلا) قال: صلاة العصر.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يعلم السر) قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه.
قوله تعالى (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) عجب الكفار من ذلك أن يكون الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (لولا أُنزل إليه ملك) أي: فنراهم عياناً.
قوله تعالى (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا)
انظر سورة الإسراء آية (90-94) فيها تفصيل وزيادة كما قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)
ثم رد عليهم بقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء قوله (الظالمون) قال: اليهود.
وسنده صحيح.(3/488)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (فلا يستطيعون سبيلا) قال: مخرجا.
قوله تعالى (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً)
انظر قول ابن كثير بداية السورة لبيان معنى (تبارك) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ويجعل لك قصورا) قال: بيوتا مبنية مشيدة، كان ذلك في الدنيا، قال: كانت قريش ترى البيت من الحجارة قصرا كائنا ما كان.
قوله تعالى (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن النار يوم القيامة إذا رأت الكافر من مكان بعيد أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها، وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها وسمعوا زفيرها.
وما ذكره جلا وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها، وأنهم يسمعون لها أيضاً شهيقاً مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه وذلك في قوله تعالى (إذا ألقوا فيها سعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ) أي: يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله تعالى.
قوله تعالى (وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً)
انظر سورة إبراهيم آية (49) وفيها بيان ما يقرنون به: (وترى المجرمين يومئذ مقرنين بالأصفاد سرابيلهم من قطران..) .(3/489)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
أخرج البستي في تفسيره بسنده الصحيح عن الضحاك قال: قوله (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً) قال: الهلاك.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وادعوا ثبورا كثيرا) يقول: ويلا.
قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيراً لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعداً مسئولاً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (كانت لهم جزاء) أي جزاء من الله بأعمالهم (ومصيراً) أي منزلاً.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس (خالدين) يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.
قوله تعالى (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) قال: عيسى وعزير وملائكته.
قوله تعالى (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بوراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (من أولياء) قال: أما الولي فالذي يتولاه الله، ويقر له بالربوبية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وكانوا قوما بورا) يقول: هلكى.(3/490)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
قوله تعالى (فقد كذبوكم بما تقولون)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فقد كذبوكم بما تقولون) يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعزير وملائكته، يكذبون المشركين.
قوله تعالى (فما تستطيعون صرفاً ولا نصراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فما تستطيعون صرفاً ولا نصراً) قال: المشركون لا يستطيعونه.
قوله تعالى (ومن يظلم منكم)
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن في قوله (ومن يظلم منكم) قال: هو الشرك.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)
قال ابن كثير: ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى) سورة يوسف آية: 109.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) أي أن الرسل قبل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليهم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
قوله تعالى (وعتوا عتواً كبيراً)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحجاج بن حمزة، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، أنبأ الحسين بن الواقد، ثنا يزيد النحوي، عن عكرمة قال: العتو في كتاب الله التجبر.
وسنده حسن.
قوله تعالى (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار الذين طلبوا إنزال الملائكة عليهم، أنهم يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم: أي لا تسرهم(3/491)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
رؤيتهم ولا تكون لهم في ذلك الوقت بشارة بخير، ورؤيتهم للملائكة تكون عند احتضارهم، وتكون يوم القيامة ولا بشرى لهم في رؤيتهم في كلا الوقتين. أما رؤيتهم الملائكة عند حضور الموت فقد دلت آيات من كتاب الله أنهم لا بشارة لهم فيها لما يلاقون من العذاب من الملائكة عند الموت، كقوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) الآية وقوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (يوم يرون الملائكة) قال: يوم القيامة (ويقولون حجراً محجوراً) قال: عوذاً معاذاً. الملائكة تقوله.
أخرج البستي في تفسيره بسنده الصحيح عن مجاهد قال: قالت قريش: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً) إلى قوله: (للمجرمين..) تقول لهم الملائكة: لا بشرى لكم اليوم.. حجراً محجوراً.. أن تكون البشرى يومئذ إلا للمؤمنين.
قوله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجلناه هباءً منثوراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (وقدمنا) قال: عمدنا.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله (هباءً منثوراً) قال: ما رأيت شيئاً يدخل من البيت من الشمس تدخله من الكوة، فهو الهباء.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً)
انظر حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة المتقدم تحت الآية (25) من سورة البقرة. وهو حديث: "إن أول زمرة تلج الجنة على صورة القمر".
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلاً) أي مأواً ومنزلاً.(3/492)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
قوله تعالى (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً)
انظر سورة البقرة آية (210) وانظر سورة الانفطار آية (1) وسورة الانشقاق آية (1) .
قوله تعالى (الملك يومئذ الحق للرحمن ... )
انظر حديث البخاري عن أبي هريرة الآتي تحت الآية (67) من سورة الزمر وهو حديث: " ... أنا الملك، أين ملوك الأرض".
قوله تعالى (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) أي بطاعة الله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فلاناً خليلا) قال: الشيطان.
قوله تعالى (وكان الشيطان للإنسان خذولا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) خذله يوم القيامة وتبرأ منه.
قوله تعالى (اتخذوا هذا القرآن مهجورا)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (اتخذوا هذا القرآن مهجورا) قال: يهجرون فيه بالقول، يقولون: هو سحر.
قوله تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً)
قال ابن كثير: وقوله (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) ، أي: كما حصل لك -يا محمد- في قومك من الذين هجروا القرآن، كذلك كان في الأمم الماضين؛ لأن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه) .(3/493)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نُزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً)
قال الحاكم: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، ثنا أبو طاهر الزبيري، ثنا محمد بن عبد الله الأصبهاني، ثنا الحسن بن حفص، ثنا سفيان عن الأعمش عن حسان بن حريث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويرتله ترتيلا.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، (المستدرك 2/223 - ك التفسير، ووافقه الذهبي) وصحح نحوه الحافظ ابن حجر كما تقدم في سورة الإسراء آية (106) . وانظر تفسير بداية سورة القدر.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله (ورتلناه ترتيلا) قال: كان ينزل آية وآيتين وآيات جواباً لهم إذا سألوا عن شيء أنزله الله جواباً لهم، وردأ عن النبي فيما يتكلمون به، وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة.
وسنده صحيح.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة: (ورتلناه ترتيلا) أي: بيناه تبييناً.
قوله تعالى (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً)
انظر سورة الكهف آية (54) قوله تعالى (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) .
قوله تعالى (الذين يُحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكاناً وأضل سبيلا)
انظر حديث مسلم عن أنس المتقدم عند الآية (97) من سورة الإسراء.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم القيامة، وأنهم شر مكانا، وأضل سبيلا.
وبين في مواضع أخر تكب وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها، كقوله تعالى (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) الآية، وقوله تعالى:(3/494)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
(يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل أنهم يحشرون على وجوههم، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عمياً وبكماً وصماً، وذكر في سورة طه أن الكافر يحشر أعمى. قال في سورة بنى إسرائيل: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً) .
قوله تعالى (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (الكتاب) قال: التوراة، وفي قوله (وزيرا) أي: عوناً وعضداً.
قوله تعالى (فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (بآياتنا) بالبينات.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فدمرناهم تدميرا) يقول: أهلكناهم بالعذاب.
قوله تعالى (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذاباً أليماً)
انظر سورة هود آية (40-44) لبيان إغراق قوم نوح.
قوله تعالى (وعاداً وثمودا وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن مجاهد: (وأصحاب الرس) قال: الرس بئر.
انظر حديث الحاكم عن أبي أمامة المتقدم تحت الآية (31) من سورة البقرة وهو حديث: "نبي كان آدم؟ قال: نعم، نبي مكلم".
قال ابن كثير: والقرن: هو الأمة من الناس، كقوله: (ثم أنشأنا من بعدهم قَرْناً آخرين) . والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".(3/495)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
قوله تعالى (وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيراً)
قال عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة في قوله (وكلا ضربنا له الأمثال) قال: كل قد أعذر الله إليه، ثم انتقم منه.
وسنده صحيح.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله (وكلا تبرنا تتبيرا) قال: تبر الله كلا بعذاب تتبيرا.
وسنده صحيح.
وقوله تعالى (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا)
قال الشيخ الشنقيطي: أقسم عز وجل في هذه الآية، أن الكفار الذين كذبوا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء وهو أن الله أمطر عليها حجارة من سجيل، وهي سذوم قرية قوم لوط، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة وهما أن الله أمطر هذه القرية مطر سوء الذي هو حجارة السجيل، وأن الكفار أتوا عليها، ومروا بها جاء موضحا في آيات أخرى أما كون الله أمطر عليها الحجارة المذكورة، فقد ذكره جل وعلا في آيات كثيرة كقوله تعالى: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، وبين في سورة الذاريات أن السجيل المذكور نوع من طين، وذلك في قوله تعالى: (إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين) ، ولا شك هذا الطين وقعه أليم. شديد مهلك وكقوله تعالى (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) وقوله تعالى (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليم حجارة من سجيل) الآية. وأما كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة فقد جاء موضحا أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة: (لا يرجون نشورا) أي: بعثا ولا حساباً.(3/496)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
قوله تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: ذلك الكافر اتخذ إلهه بغي هدى من الله ولا برهان وأضله الله على علم يقول: أضله في سابق علمه.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله: (وكيلاً) قال: ناصراً.
قوله تعالى (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
قوله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) يقول: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولو شاء لجعله ساكنا) يقول: دائماً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) يقول: طلوع الشمس.
قوله تعالى (ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيراً) قال: حوى الشمس الظل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) يقول: سريعاً.
قوله تعالى (وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا) لمعايشهم ولحوائجهم ولتصرفهم.(3/497)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
قوله تعالى (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن السدي قوله (أرسل الرياح) قال: إن الله عز وجل يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرفا السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه من ثم، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء ليسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك.
قال ابن كثير: قوله تعالى (لنحيي به بلدة ميتا) أي أرضاً قد طال انتظارها للغيث فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء فلما جاءها الحياء عاشت واكتسبت رباها أنواع الأزاهير والألوان كما قال تعالى (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) الحج: 5، (ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيرا) أي: وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم كما قال تعالى (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد) الشورى: 28، وقال تعالى (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير) الروم: 50.
قوله تعالى (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ... )
قال الطبري: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: سمعت الحسن بن مسلم يحدث طاوساً، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه بين خلقه، قال: ثم قرأ (ولقد صرفناه بينهم) .
(التفسير (19/22) ، وأخرجه بعده من طريق ابن علية، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عند هذه الآية (رقم 1301) من طربق: معتمر، والحاكم في المستدرك (2/403) ، والبيهقي في سننه (3/363) كلاهما من طريق: يزيد بن هارون، ثلاثتهم عن سليمان التيمي به مثله. وهذا الأثر إسناده صحيح ورجاله ثقات، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وله شاهد من رواية ابن مسعود - رضي الله عنه -، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية (7/208) من طريق: علي بن حميد، والبيهقي في سننه (3/363) من طريق: سهل بن حماد كلاهما: عن شعبة، عن ابن إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه قال البيهقي عقبه. والصحيح موقوف، ثم ساقه بإسناده إلى الركين، عن أبيه، عن ابن مسعود موقوفاً. وكذا رجح العقيلي وقفه على ابن مسعود (الضعفاء 3/228) .(3/498)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
قوله تعالى (فأبى أكثر الناس إلا كفوراً)
قال ابن كثير: قوله تعالى (فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) قال عكرمة: يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأصحابه يوماً على إثر سماء أصابتهم من الليل: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب".
(انظر صحيح مسلم - ك الإيمان، ب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء 1/83 ح 125) .
قوله تعالى (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (في كل قرية نذيراً) قال: لها رسل.
قال ابن كثير: يقول تعالى (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً) يدعوهم إلى الله عز وجل، ولكنا خصصناك -يا محمد- بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغ الناس هذا القرآن، (لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام: 19، (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) هود: 17، (لتنذر أم القرى ومن حولها) الأنعام: 93.
قوله تعالى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً)
انظر سورة الكهف آية (28) .
قوله تعالى (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (مرج البحرين) قال: أفاض أحدهما في الآخر.(3/499)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (وهذا ملح أجاج) أي: مر.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وجعل بينهما برزخا) قال: محبسا، قوله (وحجرا محجورا) قال: لا يختلط البحر بالعذب.
قوله تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً)
قال أحمد: حدثنا عبد الله حدثني أبي، ثنا أبو عاصم أنا أبو عمر ومبارك الخياط جد ولد عباد بن كثير قال: سألت ثمامة بن عبد الله بن أنس عن العزل فقال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسأل عن العزل فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله عز وجل منها أو لخرج منها ولد -الشك منه- وليخلقن الله نفساً هو خالقها".
(المسند 3/140) . وأخرجه البزار (ح 2163) من طريق أبي عاصم به. وأخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - الفرقان/54 ح 1330) من طريق مبارك بن فضالة، عن ثمامة به. وحسن إسناده الهيثمي (مجمع الزوائد 4/296) . ونسب الحافظ ابن حجر تصحيحه لابن حبان، وقال: وله شاهدان في (الكبير للطبراني عن ابن عباس، وفي الأوسط له عن ابن مسعود. (فتح الباري 9/218) ، وصححه السيوطي في (الجامع الصغير مع فيض القدير 5/305 ح 7400) ، وحسن إسناده الألباني وذكر له شواهد تؤكد حسنه (السلسلة الصحيحة ح 1333) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) ذكر الله الصهر مع النسب وحرم أربعة عشرة امرأة سبعا من النسب وسبعا من الصهر واستوى تحريم الله في النسب والصهر.
قوله تعالى (وكان الكافر على ربه ظهيراً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (على ربه ظهيراً) قال: معيناً.
قوله تعالى (وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً)
انظر سورة البقرة آية (119) .(3/500)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
قوله تعالى (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن قتادة قوله (ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) أي: بطاعة الله.
قوله تعالى (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً)
انظر سورة البقرة آية (255) وانظر سورة الإسراء آية (17) .
قوله تعالى (الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش)
انظر سورة البقرة آية (29) وسورة فصلت آية (10) لبيان خلق السموات والأرض في ستة أيام.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن أبي العالية في قوله (ثم استوى) يقول: ارتفع.
قوله تعالى (فاسأل به خبيراً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (خبيراً) خبير بخلقه.
قوله تعالى (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً)
قال ابن كثير: ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) أي: لا نعرف الرحمن. وكانوا ينكرون أن يُسمى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم.
ولهذا أنزل الله (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) الإسراء: 110، أي: هو الله وهو الرحمن.(3/501)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
قوله تعالى (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً) وانظر بداية السورة لبيان معنى (تبارك) ، وانظر تفسير البسملة في بداية هذا التفسير.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله (بروجا) قال: البروج: النجوم.
وسنده صحيح.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) قال: السراج: الشمس.
وسنده صحيح.
قوله تعالى (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه في النهار، أو من النهار أدركه في الليل.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (أو أراد شكوراً) قال: بشكر نعمة ربه عليه.
وانظر سورة الإسراء آية (12) قوله تعالى (وجعلنا الليل والنهار آيتين) .
قوله تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن ابن عباس قوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) قال. هم المؤمنون يمشون على الأرض هونا بالطاعة والعفاف والتواضع.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (هوناً) قال: بالوقار والسكينة.
أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما الحسن عن مجاهد (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) قال: سدادا من القول.(3/502)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
قوله تعالى (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)
قال ابن كثير: وقوله (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً) أي: في عبادته وطاعته، كما قال تعالى: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون) الذاريات: 17-18. وقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) السجدة: 16.
قوله تعالى (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله ولا يقترون فيمنعون من حقوق الله.
قال ابن كثير: وقوله (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدْلا خياراً، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وكان بين ذلك قواما) كما قال (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) الإسراء: 29.
وانظر تفسير سورة الإسراء آية (29) المذكورة آنفاً.
قوله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما) إلى قوله (إلا من تاب وآمن ... )
قال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان، قال: حدثني منصور وسليمان عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سألت -أو سئل- رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك". قلت ثم أيّ؟ قال: "ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني بحليلة جارك". قال: ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) .
(صحيح البخاري 8/350-351 ح 4761 -ك التفسير- سورة الفرقان، ب الآية) .(3/503)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني القاسم بن أبي بزّة أنه سأل سعيد بن جبير: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ فقرأت عليه (ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق) فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها عليَّ فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء.
(صحيح البخاري 8/350-351 ح 4761 -ك التفسير- سورة الفرقان، ب الآية) .
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا منصور عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى (فجزاؤه جهنم) قال: لا توبة له. وعن قوله جلّ ذكره (لا يدعون مع الله إلها آخر) قال: كانت هذه في الجاهلية.
(صحيح البخاري 8/350-351 ح 4764 -ك التفسير- سورة الفرقان، ب الآية) .
قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، وإبراهيم بن دينار (واللفظ لإبراهيم) . قالا: حدثنا حجاج (وهو ابن محمد) عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلي بن مسلم، أنه سمع سعيد بن جبير يُحدث عن ابن عباس، أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا. وزنوا فأكثروا. ثم أتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالوا: إن الذي تقول وتدعو لحسن. ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة! فنزل (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً) ونزل (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) .
(صحيح مسلم 1/113 ح 193 - ك الإيمان، ب كون الإسلام يهدم ما قبله..) .
قال مسلم: حدثني هارون بن عبد الله، حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم الليثى، حدثنا ابن معاوية (يعني شيبان) عن منصور بن المعتمر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية بمكة (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) إلى قوله (مُهانا) . فقال المشركون: وما يغني عنّا الإسلام وقد(3/504)
عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله عز وجل: (إلا مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً) إلى آخر الآية. قال: فأما مَن دخل في الإسلام وعَقَلَه. ثم قتل، فلا توبة له.
(صحيح مسلم 4/2318 - ك التفسير) .
قال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا أبي، عن شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين (ومن يقتل مؤمنا متعمداً) فسألته فقال: لم ينسخها شيء. وعن (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) قال: نزلت في أهل الشرك.
(صحيح البخاري 8/354 ح 4766 -ك التفسير- سورة الفرقان، ب (إلا من تاب وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ... )) .
قال النسائي: أخبرني محمد بن بشار عن عبد الوهاب قال: حدثنا محمد ابن عمرو عن موسى بن عقبة عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن زيد في قوله (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) قال: نزلت هذه الآية بعد التي في تبارك الفرقان بثمانية أشهر (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) .
(السنن 7/87 ح 695 - ك تحريم الدم، ب تعظيم الدم) ، والطبري (التفسير 5/220) ، والطبراني (المعجم الكبير 5/136) من طرق عن محمد بن عمرو به، وعند جميعهم: (بستة أشهر) ، بدل (الثمانية) . وقد أخرج النسائي رواية (الستة أشهر) أيضا، لكن وقع في سندها: محمد بن عمرو عن أبي الزناد، بإسقاط (موسى بن عقبة) . قال الألباني في الروايتين: حسن صحيح ... ولفظ (بستة أشهر) أصح. (صحيح سنن النسائي ح 3742) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (يلق أثاما) قال: واديا في جهنم.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وسنده صحيح، وأخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن عن عكرمة.(3/505)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
قوله تعالى (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)
قال البخاري: حدثنا سعد بن حفص، حدثنا شيبان عن منصور عن سعيد ابن جبير قال: قال ابن أبزى سُئل ابن عباس عن قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) وقوله (ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق -حتى بلغ- إلا من تاب وآمن) فسألته فقال: لما نزلت قال أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وآتينا الفواحش. فأنزل الله (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحا -إلى قوله- غفوراً رحيماً) .
(صحيح البخاري 8/353 ح 4765 -ك التفسير- سورة الفرقان، الآية) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) قال: هم المؤمنون كانو قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحولهم إلى حسنات، وأبدلهم مكان السيئات حسنات.
قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة. وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة. فيُقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيُقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. فيقول: نعم. لا يستطع أن يُنكر. وهو مُشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيُقال له: فإنّ لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب! قد عملت أشياء لا أراها ههنا، فلقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحك حتى بدت نواجذه.
(الصحيح 1/177 ح 190 - ك الإيمان، ب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) .
قوله تعالى (ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً)
قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده، وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان، جميل أو حقير، كبير أو صغير، فقال:(3/506)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
(ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا) أي: فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) النساء: 110، وقال: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) التوبة: 104، وقال: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) الزمر: 53، أي: لمن تاب إليه.
قوله تعالى (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير سمع وهب بن جرير وعبد الملك ابن إبراهيم قالا: حدثنا شعبة عن عُبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس - رضي الله عنه - قال: سُئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكبائر قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور".
تابعه غندر وأبو عامر وبهز وعبد الصمد عن شعبة. (صحيح البخاري 5/309 ح 2653 - ك الشهادات، ب ما قيل في شهادة الزور ... ) .
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (لا يشهدون الزور) قال: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ولا يمالؤنهم فيه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (وإذا مررا باللغو مروا كراماً) قال: صفحوا.
قوله تعالى (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً) يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، هم والله قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتاب الله.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (لم يخروا عليها صماً وعمياناً) فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يفقهون حقاً.(3/507)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً)
قال ابن حبان: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا حِبان بن موسى، أخبرنا عبد الله، عن صفوان بن عَمْرو، قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرّ به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله لوددنا أنّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب، فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا، ثم أقبل إليه، فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقوام أكبّهم الله على مناخرهم في جهنم لم يُجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم تعرفون ربكم، مصدقين لِما جاء به نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ والله لق بُعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أشد حال بُعث عليها نبي من الأنبياء وفترة وجاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرّق بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إذ كان الرجل ليرى ولَدَه أو والده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها التي قال الله: (الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) الآية.
(الإحسان 14/489-490 - ك التاريخ، ب تبليغه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرسالة وما لقي من قومه) ، وأخرجه أحمد في (مسنده 6/2-3) . وقال ابن كثير عن رواية أحمد. هذا إسناد صحيح ولم يخرجوه. وقال محقق الإحسان: إسناده صحيح على شرط مسلم) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/169 ح 87) من طريق عبد الله بن المبارك به، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ح 64) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) يعنون: من يعمل لك بالطاعة، فتقر بهم أعيننا في الدنيا والآخرة.(3/508)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله (واجعلنا للمتقين إماما) يقول: أئمة الهدى ليهتدى بنا ولا تجعلنا ضلالة لأنه قال لأهل السعادة (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) ولأهل الشقاوة (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) .
قوله تعالى (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً)
انظر سورة العنكبوت آية (58) وفيها رواية الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري لبيان صفة الغرفة في الجنة، وانظر سورة يونس آية (10) لبيان التحية.
قوله تعالى (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاما)
انظر آية (24) من سورة الفرقان نفسها.
قوله تعالى (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (قل ما يعبأ بكم ربي) قال: يعبأ: يفعل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له حاجة بهم لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (لولا دعاؤكم) قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.
قوله تعالى (فسوف يكون لزاماً)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (فسوف يكون لزاماً) قال: يوم بدر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فسوف يكون لزاما) قال: موتاً.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (فسوف يكون لزاماً) قال: كان الحسن يقول ذلك يوم القيامة.(3/509)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
سورة الشعراء
قوله تعالى (طسم)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (طسم) قال: اسم من أسماء القرآن.
قوله تعالى (تلك آيات الكتاب المبين)
انظر سورة القصص آية (2) .
قوله تعالى (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، في قوله (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين) قال: لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك قال: ذلك البخع.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (لعلك باخع نفسك) قال: قاتل نفسك.
وانظر سورة الكهف آية (6) .
قوله تعالى (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، في قوله (خاضعين) قال: لو شاء الله لنزل عليه آية يذلون بها، فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله.
قوله تعالى (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) يقول: ما يأتيهم من شيء من كتاب الله (إلا كانوا عنه معرضين) يقول: إلا أعرضوا عنه وفي قوله (فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء) ، يعني: يوم القيامة (ما كانوا به يستهزؤن) يقول: أنباء ما استهزؤا به من كتاب الله عز وجل.(4/3)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)
أخرج أدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (أنبتنا فيها من كل زوجٍ كريم) قال: من نبات الأرض، مما يأكل الناس والأنعام.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (من كل زوج كريم) قال: حسن.
قوله تعالى (إن في ذلك لآية ... )
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس (آية) : علامة.
قوله تعالى ( ... وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن أبي العالية (العزيز) قال: عزيز في نقمته إذا انتقم.
قوله تعالى (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ)
انظر سورة طه الآيات (24-36) وفيها بيان استجابة الله تعالى لطلب موسى من المؤازرة بأخيه هارون.
قوله تعالى (ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى عن نبيه موسى (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) لم يبين هنا هذا الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه وقد بين في غير هذا الموضع أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم القبطي، فقد صرح تعالى بالقتل المذكور في قوله تعالى (قال ربي إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) ، فقوله (قتلت منهم نفسا) مفسر لقوله (ولهم علي ذنب) ، ولذا رتب بالفاء على كل واحد منهما. قوله (فأخاف أن يقتلون) وقد أوضح تعالى قصة قتل موسى له لقوله في القصص (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلان يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه(4/4)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه) ، وقوله (فقضى عليه) أي قتله وذلك هو الذنب المذكور في آية الشعراء هذه. وقد بين تعالى أنه غفر لنبيه موسى ذلك الذنب المذكور، وذلك في قوله تعالى (قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له) الآية.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون) قال: قتل النفس التي قتل منهم.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الحسن عن ابن عباس قوله (فأخاف أن يقتلون) قال: شكى موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل.
قوله تعالى (قال ألم نربك فينا وليداً)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ألم نربك فينا وليدًا) قال: التقطه آل فرعون فربوه حتى كان رجلاً.
قوله تعالى (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى في كلام فرعون لموسى (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) أبهم جل وعلا هذه الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله تعالى التي فعلت، وقد أوضحها في آيات أخر، وبين أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسا منهم كقوله تعالى (فوكزه موسى فقضى عليه) . وقوله تعالى (قال ربي إني قتلت منهم نفسا) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) قال: قتل نفس.
قوله تعالى (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين)
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وأنا من الضالين) ، قال: من الجاهلين.(4/5)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قوله تعالى (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى عن نبيه موسى (ففررت منكم لما خفتكم) خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم، قد أوضحه تعالى وبين سببه في قوله (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين، فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) وبين خوفه المذكور بقوله تعالى (فأصبح في المدينة خائفا يترقب) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فوهب لي ربي حكما) والحكم: النبوة.
قوله تعالى (وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبَّدت بني إسرائيل)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (تمنها عليَّ أن عبَّدتَّ بني إسرائيل) قال: قهرتهم واستعملتهم.
قوله تعالى (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)
الآية الأولى بيانها في الآية التي تليها، وفي آية (28) التالية قوله تعالى (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) . وانظر سورة طه آية (49-50) وفيها (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .
قوله تعالى (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن ابن عباس في قوله (ونزع يده) ، قال: فأخرج يده من جيبه.(4/6)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
قوله تعالى (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)
بيانها في سورة طه آية (59) وفيها (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) .
قوله تعالى (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن جاهد قوله (يأفكون) يكذبون ... قوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن ابن عباس قال: فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ سحرنا كل هذا ولكن هذا أمر من الله آمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله مما كنا عليه.
وانظر قصة موسى مع السحرة في سورة الأعراف (109-132) ، وسورة طه (57-72) .
قوله تعالى (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين)
هذه قصة إيمان السحرة بما حاء به موسى عليه السلام وقد تقدمت في سورة الأعراف (112-122) ، وسورة طه (58-70) ، وفيها أنه صلبهم في جذوع شجر النخل، وفيها تفصيل الحوار بين فرعون والسحرة الذين تابوا وآمنوا بالله تعالى.
قوله تعالى (وَأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَن أَسْرِ بِعِبَادِي إِنكم مّتّبِعُون)
بيانه في قوله تعالى (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) سورة طه: 77-78.(4/7)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
قوله تعالى (إن هؤلاء لشرذمة قليلون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي في قوله (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) يعني: بني إسرائيل.
قوله تعالى (وإنا لجميع حاذرون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي، في قوله (وإنا لجميع حاذرون) يقول: حذرنا، قال: جمعنا أمرنا.
أخرج البستي في تفسيره بسنده الصحيح عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي يقول: (وإنا لجميع حذرون) قال: مقوون مؤدون.
قوله تعالى (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن قتادة قوله (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز) أي: في الدنيا فأخرجهم الله من جناتهم.
قوله تعالى (فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إلا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فلما تراءا الجمعان) ، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رمقهم قالوا (إنا لمدركون) . (قالوا) يا موسى (أوذنينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا، إنا لمدركون، البحر بين أيدينا، وفرعون من خلفنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (قال كلا إن معي ربي سيهدين) يقول: سيكفيني وقال: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) ، وقوله (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) ذكر أن الله كان قد أمر البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بعصاه.(4/8)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقاً، في كل طريق سبط، وكان الطريق كما إذا انفلقت الجدران، فقال: كل سبط قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها قناطر كهيئة الطيقان، فنظر آخرهم إلى أولهم حتى خرجوا جميعًا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (فكان كل فرق كالطود العظيم) يقول: كالجبل.
قوله تعالى (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وأزلفنا ثم الآخرين) قال: هم قوم فرعون قربهم الله حتى أغرقهم في البحر.
قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)
انظر قصة إبراهيم مع أبيه وقومه في سورة مريم الآيات (41-48) ، وسورة الأنبياء آية (52-70) ، وسورة الصافات (83-99) .
وانظر حديث البخاري عن أبي هريرة المتقدم تحت الآية (62-63) من سورة الأنبياء، وهو حديث: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ... ".(4/9)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
أخرج أدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) قال: قوله (إني سقيم) وقوله (فعله كبيرهم هذا) وقوله لسارة: إنها أختي حين أراد فرعون من الفراعنة أن يأخذها.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب وعدتني
أن لا تخزني يوم يبعثون. فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين".
(صحيح البخاري 8/357 - ك التفسير - سورة الشعراء، ب (الآية) ح4769) .
قوله تعالى (إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سلِيمٍ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (بقلب سليم) قال: سليم من الشرك.
انظر سورة الصافات آية (84) لبيان القلب السليم: أي سليم من الشرك.
قوله تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ)
انظر سورة ق آية (31) لبيان أزلفت: أدنيت.
قوله تعالى (وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)
انظر الآية (94) التالية لبيان الغاوين: الشياطين.
قوله تعالى (فكبكبوا فيها هم والغاوون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فكبكبوا فيها) بقول: فجمعوا فيها.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة: قوله (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قال: الغاوون: الشياطين.(4/10)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
قوله تعالى (قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم لرب العالمين)
قال الشيخ الشنقيطي: ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون فيها جاء موضحًا في موضع آخر من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى (هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) إلى قوله تعالى (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) .
قوله تعالى (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين)
انظر سورة البقرة آية (166) (إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) .
قوله تعالى (كذبت قوم نوح المرسلين)
انظر حديث مسلم عن أنس المتقدم عند الآية (59) من سورة الأعراف، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله ... ".
قوله تعالى (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)
انظر سورة هود آية (27) وفيها تفسير الشيخ الشنقيطي.
قوله تعالى (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ)
انظر سورة هود آية (29، 30) .
قوله تعالى (قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقا بعد الباقين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى هنا عن نوح (قال رب إن قوم كذبون) أوضحه في غير هذا الموضع كقوله (قال نوح رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذنهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) ، وقوله هنا (فافتح بيني وبينهم فتحا) أي احكم بيني وبينهم حكما، وهذا الحكم الذي سأل ربه إياه هو إهلاك(4/11)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الكفر، وإنجاؤه هو ومن آمن معه، كما أوضحه تعالى في آيات أخر كقوله تعالى (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) وقوله تعالى (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) إلى غير ذلك هن الآيات وقوله هنا عن نوح (ونجني ومن معي من المؤمنين) قد بين في آيات كثرة أنه أجاب دعاءه هذا كقوله هنا (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) وقوله تعالى (فأنجيناه وأصحاب السفينة) الآية، وقوله تعالى (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) .
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قول الله (فافتح بيني وبينهم فتحا) قال: فاقض بيني وبينهم قضاء.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قول الله (الفلك المشحون) قال: هو المحمل.
قال الشيخ الشنقيطي: وقوله هنا (ثم أغرقنا بعد الباقين) جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) ... والمراد بالفلك هنا
السفينة، وكما صرح تعالى بذلك في قوله (فأنجيناه وأصحاب السفينة) الآية.
قوله تعالى (كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)
وفيها قصة هود مع قوم عاد.
انظر سورة الأعراف (65-72) ، وسورة هود (50-60) ، وسورة المؤمنون (31-41) ، وسورة الأحقاف (21-26) .(4/12)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) يقول: بكل شرف.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (بكل ريع آية) قال: بكل طريق.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (بكل ريع آية) قال: آية: بنيان.
أخرج البستي بسنده الحسن عن الضحاك يقول (تعبثون) تلعبون.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (وتتخذون مصانع) قال: قصور مشيدة، وبنيان مخلد.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (وتتخذون مصانع) قال: مآخذ للماء.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال (مصانع) يقول: حصون وقصور.
أخرج البستي بسنده الحسن عن مجاهد قال (إذا بطشتم بطشتم جبارين) قال: بالسيف والسوط.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن هذا إلا خلق الأولين) يقول: دين الأولين.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (إلا خلق الأولين) قال: كذبهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (إن هذا إلا خلق الأولين) قال: يقول: هكذا خلقت الأولون، وهكذا كانوا يحيون ويموتون.
قوله تعالى (فكذبوه فأهلكناهم)
انظر حديث البخاري عن ابن عباس الآتي عند الآية (9) من سورة الأحزاب، وهو حديث: "نصرت بالصبا ... ".(4/13)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
قوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)
وفيهن قصة ثمود مع رسولهم صالح، وقد وردت في سورة هود آية (61-68) ، وسورة الأعراف آية (73-79) ، وسورة النمل (45-53) .
أخرج أدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (ونخل طلعها هضيم) قال: يتهشم تهشماً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فارهين) يقول: حاذقين.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (بيوتا فارهين) قال: شرهين.
أخرج أدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (إنما أنت من المسحرين) قال: من المسحورين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (المسحرين) قال: الساحرين.
قوله تعالى (ما أنت إلا بشر مثلنا فائت بآية إن كنت من الصادقين)
أخرج البستي بسنده الصحيح عن أبي الطفيلي -هو عامر بن واثلة- قال: قالت ثمود لصالح: ائتنا (بآية إن كنت من الصادقين) قال: اخرجوا، فخرجوا إلى هضبة من الأرض، فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها فقال لهم صالح: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ... ) الآية.(4/14)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
انظر حديث الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله المتقدم عند الآية (73) من سورة الأعراف، وهو حديث: "لما مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجر قال: لا تسألوا الآيات ... قوله تعالى (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)
انظر حديث الإمام أحمد عن جابر المتقدم عند الآية (73) من سورة الأعراف.
قوله تعالى (فعقروها فأصبحوا نادمين)
انظر حديث البخاري عن عبد الله بن زمعة الآتي عند الآية (12) من سورة الشمس، وفيه: انبعث لها رجل عزيز عارم ...
قوله تعالى (فأخذهم العذاب)
انظر حديث الإمام أحمد عن جابر المتقدم عند الآية (73) من سورة الأعراف.
قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174))
وفيها قصة لوط مع قومه، وقد وردت في سورة الأعراف (80-84) ، وسورة هود (77-83) ، وسورة الحجر (57-77) ، وسورة الأنبياء (71-75) ، وسورة النمل (54-58) ، وسورة العنكبوت (26-35) .
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) قال: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء.(4/15)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
قوله تعالى (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِين (190))
وفيها قصة شعيب وأصحاب الأيكة.
انظر سورة الأعراف (85-94) ، وسورة هود (84-95) ، وانظر سورة الحجر الآية (78-79) ، وسورة العنكبوت آية (36-37) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين) يقول: أصحاب الغيضة.
قوله تعالى (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين)
قال الشيخ الشنقيطى: الجبلة الخلق ومنه قوله تعالى (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين) يقول: خلق الأولين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كسفا) يقول: قطعا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (يوم الظلة) قال: إظلال العذاب إياهم.
أخرج البستي بسنده الصحيح عن الضحاك يقول: (فأخذهم عذاب يوم الظلة) قوم شعيب، حبس الله عنهم الظل والريح فأصابهم حر شديد ثم بعث الله لهم سحابة فيها العذاب فلما رأوا سحابة انطلقوا يرمونها، زعموا يستظلون بها، فاضطرمت عليهم فأهلكتهم.(4/16)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
قوله تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (لتنزيل رب العالمين) قال: هذا القرآن.
قوله تعالى (نزل به الروح الأمين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (نزل به الروح الأمين) قال: جبريل.
قوله تعالى (وإنه لفي زبر الأولين)
قال ابن كثير: يقول تعالى: وإن ذِكرَ هذا القرآن والتنويه به لموجودٌ في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، كما أخذ الله عيهم الميثاق بذلك، حتى قام آخرهم خطيبا في مَلَئِه بالبشارة بأحمد (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) والزبر ها هنا هي: الكتب وهى جمع زبور، وكذلك الزبور، وهو كتاب داود. وقال تعالى: (وكل شيء فعلوه في الزبر) أي: مكتوب عليهم في صحف الملائكة.
قوله تعالى (أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بني إسرائيل)
أخرج ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (علماء بني إسرائيل) قال: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم من أسلم منهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) قال: أولم يكن لهم النبي آية، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم.
قوله تعالى (وَلَوْ نَزّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) قال: لو أنزله الله أعجميا لكانوا أخسر الناس به لأنهم لا يعرفون العجمية.(4/17)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
قوله تعالى (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون)
قال ابن كثير: يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد، أي أدخلناه في قلوب المجرمين، (لا يؤمنون به) أي بالحق (حتى يروا العذاب الأليم) أي: حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
(فيأتيهم العذاب بغتة) أي: عذاب الله بغتة، (وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون) أي: يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلا ليعملوا بطاعة الله، كما قال تعالى (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) .
قوله تعالى (فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون)
انظر حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم عند الآية (201) من سورة البقرة، وهو: حديث الرجل الذي دعا الله أن يعجل له العقوبة في الدنيا.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (أفبعذابنا يستعجلون) قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) الآية.
قوله تعالى (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)
قال ابن كثير: قوله تعالى (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) أي: لو أخرناهم وأنظرناهم، وأملينا لهم برهة من الزمان وحينا من الدهر وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أيّ شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم، (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) وقال تعالى (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من(4/18)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
العذاب أن يعمر) وقال تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى) ولهذا قال: (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) .
قوله تعالى (وما أهلكنا من قرية إلا ولها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين) انظر سورة الإسراء (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) آية: 15.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ذكرى وما كنا ظالمين) قد قدمنا الآيات
الدالة عليه كقوله تعالى (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) وقوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) .
قوله تعالى (وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون)
قال الشيخ الشنقيطي: قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها) الآية.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، في قوله (وما تنزلت به الشياطين) قال: هذا القرآن. وفي قوله (إنهم عن السمع لمعزولون) قال: عن سمع السماء.
قوله تعالى (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين)
قال الشيخ الشنقيطي: قد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد ملوما مخذولا) ، بالدليل القرآني أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بمثل هذا الخطاب والمراد التشريع لأمته مع بعض الشواهد العربية، وقوله هنا (فلا تدع مع الله إلها آخر) الآية. جاء معناه في آيات كثيرة كقوله (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد ملوما مخذولا) وقوله تعالى (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) وقوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) إلى غير ذلك من الآيات.(4/19)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين)
قال الشيخ الشنقيطي: هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين، لا ينافي الأمر بالإنذار العام، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية كقوله تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وقوله تعالى (وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) وقوله تعالى (وتنذر به قوما لدا) .
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني عَمرو بن مرّة عن سيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصفا فجعل ينادي: يا بني فِهر، يا بني عديّ -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب) .
(صحيح البخاري 8/360 -ك التفسير- سورة الشعراء، ب (الآية) ح4770) ، (صحيح مسلم الإيمان، ب في قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) رقم 207) .
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أنزل الله (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أُغنى عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف، لا أُغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا.
ويا صفية عمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا أغنى عنكِ من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا.
تابعه أصبغ عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب.
(صحيح البخاري 8/360 -ك التفسير- سورة الشعراء ح 4771) ، (صحيح مسلم - الإيمان، ب في قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) رقم 207) .(4/20)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
قوله تعالى (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم)
انظر سورة التوبة آية (128-129) ، وسورة الحجر آية (88) .
قوله تعالى (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "هل ترون قِبلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفى علىّ خشوعكم ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري".
(الصحيح 1/612 ح418 -ك الصلاة، ب عظة الإمام الناس لي إتمام الصلاة ... ) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/319 ح424) .
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر قال عكرمة في قوله (وتقلبك في الساجدين) قال: قائما وساجدا وراكعا وجالسا.
وسنده صحيح.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله: (وتقلبك في الساجدين) قال: في المصلين.
قوله تعالى (إنه هو السميع العليم)
قال ابن كثير: قوله (إنه هو السميع العليم) أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن. ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) .
قوله تعالى (هل أنبكم على من تنزل الشياطين نزل على كل أفاك أثيم يُلقون السمع وأكثرهم كاذبون)
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر عن الزهري، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن عروة، عن عائشة(4/21)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
-رضي الله عنها- قالت: سأل ناس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكهان؟ فقال (ليس بشيء) . قالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وَليّه، فيخلطون معها مائة كذبة".
(الصحيح 10/216 ح5762 -ك الطب، ب الكهانة) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 4/1750 ح2228/122-123، بنحوه.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله (كل أفاك أثيم) قال: كل كذاب من لناس.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (كل أفاك أثيم) قال: هم الكهنة تسترق الجن السمع ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس.
أخرج آدم ابن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (يلقون السمع) قال: الشياطين ما سمعته ألقته على كل أفاك كذاب.
قوله تعالى (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (والشعراء يتبعهم الغاوون) قال: هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) يقول: في كل لغو يخوضون.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (في كل واد يهيمون) قال: يمدحون قوما بباطل، ويشتمون قوما بباطل.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يقول: أكثر قولهم يكذبون، وعنى بذلك شعراء المشركين.(4/22)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن، أن مَروان بن الحكم أخبره، أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن من الشعر حِكمة".
(صحيح البخاري 10/553-554- ك الأدب، ب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه ح6145) .
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحسان؟ "اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك".
(الصحيح 6/351 ح3213 -ك بدء الخلق، ب ذكر الملائكة) ، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك فضائل الصحابة، ب فضائل حسان بن ثابت ح2486)
قال أحمد: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما أنزل". فقال: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل".
(المسند 6/387) ، وأخرجه الطبراني (المعجم الكبير ح153) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، وابن حبان في صحيحه (الإحسان 11/5 -6 ح4707) من طريق يونس، والبيهقي (السنن 10/239) من طريق شعيب، كلهم عن الزهري به. قال الهيثمي: رواه أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 8/123) . وصححه الأرناؤوط على شرط الشيخين (حاشية الإحسان) ، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة 4/172-173 ح1631) .
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثم استثنى المؤمنين منهم، يعني الشعراء فقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) .(4/23)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثير وانتصروا من بعد ما ظلموا) قال: هم الأنصار الذين هاجروا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) في كلامهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وانتصروا من بعد ما ظلموا) قال: يردون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين.
قوله تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)
قال الشيخ الشنقيطي: والمعنى: وسيعلم الذين ظلموا أي مرجع يرجعون.
وأي مصير يصيرون، وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون: أي يعلمون العاقبة السيئة التي هي مآلهم، ومصيرهم ومرجعهم، جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) .(4/24)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
سورة النمل
قوله تعالى (طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (طس) قال: اسم من أسماء القرآن.
انظر تفسير سورة القصص آية (2) وفيه قول قتادة.
قوله تعالى (هدى وبشرى للمؤمنين)
قال ابن كثير: (هدى وبشرى للمؤمنين) ، أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة، وآتى الزكاة المفروضة، وآمن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال، خيرها، وشرها، والجنة والنار، كما قال تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) .
وانظر سورة الإسراء آية (8) قوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) .
قوله تعالى (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون)
قال ابن كثير: (زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) أي: حسنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة، كما قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) .
انظر سورة البقرة آية (15) لبيان يعمهون أي: يترددون ويتمادون.(4/25)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
قوله تعالى (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13))
وفيها تكليم الله لموسى والآيات التسع وقد ورد هذا التكليم والآيات التسع بالتفصيل في سورة الأعراف (143-144) ، وسورة طه (9-24) ، وسورة الشعراء (10-15) . أما الآيات التسع فقد فصلت في سورة الأعراف آية (133) ، وسورة البقرة آية (60) .
قوله تعالى (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)
انظر سورة طه آية (10-12) وفيها: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) .
قوله تعالى (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها ... )
انظر حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم المتقدم عند الآية (255) من سورة البقرة. إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ... حجابه النور (وفي رواية أبي بكر النار) لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وأخرجه الإمام أحمد بسنده إلى أبي موسى، وفي آخره: ثم قرأ أبو عبيدة -هو ابن عبد الله بن مسعود- (نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) .
(المسند 4/401) من طريق: المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى به. وتابع المسعودي شعبة، أخرجه ابن أبي حاتم (التفسير - سورة النمل /8 ح40) فذكر نحوه، وهو إسناد صحيح - كما قال محقق ابن أبي حاتم.(4/26)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (نودي أن بورك من في النار) يقول: قدس.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (نودي أن بورك من في النار) قال: نور الله بورك.
قوله تعالى (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ) أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (ولم يعقب) قال: لم يرجع.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة، في قوله (ولم يعقب) قال: لم يلتفت.
قوله تعالى (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) ثم تاب من بعد إساءته (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
قوله تعالى (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)
انظر سورة الإسراء آية (101) لبيان تفصيل الآيات المعجزات التسع.
قوله تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)
قال الشيخ الشنقيطي: قد قدمنا أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال في سورة مريم في الكلام على قوله (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) الآية، وبينا هناك الأدلة على أن الأنبياء لا يورث عنهم المال. وفيها الثناء على الله تعالى من سليمان وداود بسبب تفضل الله لهم على كثير من المؤمنين، وقد ورد بيان هذا الفضل في الآية التي تليها (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا(4/27)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
من كل شىء إن هذا لهو الفضل المبين) ثم ذكر من هذه الأشياء في الآيات التالية من آية (17-44) . من السورة نفسها، وبين أشياء أخر في سور أخرى كما في سورة سبأ آية (12) فيها تسخير الريح، وإسالة النحاس له، وفي سورة الأنبياء آية (82) تسخير الجن له.
أخرج البستي بسنده الحسن عن السدي في قول الله جل وعز: (وورث سليمان داودَ) قال: نبوته.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (منطق الطير) قال: النملة من الطير.
قوله تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24))
فيها بعض الأشياء التي تفضل الله تعالى بها على سليمان عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن الحسن (يوزعون) أي: يتقدمونه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: (قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك) يقول: اجعلني.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (لأعذبنه عذاباً شديداً) قال: أنتف ريشه كله.(4/28)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (أو ليأتيني بسلطان مبين) قال: بعذر مبين.
أخرج البستي بسنده الحسن عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (يخرج الخبء) قال: الغيث.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (يخرج الخبء) قال: هو السر.
قوله تعالى (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)
انظر بداية التفسير بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله تعالى (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (أيكم يأتيني بعرشها) قال: سرير في أريكة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (قبل أن يأتوني مسلمين) قال: طائعين.
قوله تعالى (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (قبل أن تقوم من مقامك) قال: يعني مجلسه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: (وإني عليه لقوي أمين) يقول: قوي على حمله، أمين على فرج هذه.
قوله تعالى (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ…)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (قبل أن يرتد إليك طرفك) قال: إذا مد البصر حتى يرد الطرف خاسئاً.(4/29)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
قوله تعالى (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)
قال الشيخ الشنقيطي: جاء معناه موضحا في آيات متعددة، كقوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه) ، وقوله (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) ، وقوله تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ) أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَ) قال: غيروه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله (ننظر أتهتدي) قال: أتعرفه؟.
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (كأنه هو) قال: شبهته به وكانت قد تركته خلفها.
قوله تعالى (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً…)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (حسبته لجة) قال: كان من قوارير، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة أي الماء.
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53))
وفي هذه قصة صالح مع قومه وقد وردت في سورة هود (61-68) ، وسورة الأعراف (73-79) .(4/30)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيه صالحا إلى ثمود، فإذا هم فريقان يختصمون، ولم يبين هنا خصومة الفريقين، ولكنه بين ذلك في سورة الأعراف في قوله تعالى (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) فهذه خصومتهم، وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قول الله (فريقان يختصمون) قال: مؤمن وكافر، وقولهم صالح مرسل، وقولهم صالح ليس بمرسل. ويعني (يختصمون) : يختلفون.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) قال: السيئة: العذاب، قبل الحسنة: قبل الرحمة.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (طائركم عند الله) ، قال: علم عملكم عند الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (قال طائركم عند الله) يقول: مصائبكم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (تسعة رهط) قال: من قوم صالح.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (تقاسموا بالله) قال: تحالفوا على إهلاكه، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعون.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) قد دلت هذه الآية الكريمة على أن نبي الله صالحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام نفعه الله بنصرة وليه: أي أوليائه لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له أن التسعة المذكورين في قوله تعالى (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا) أي:(4/31)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
تحالفوا بالله، لنبيتنه: أي لنباغتنه بياتا: أي ليلا فنقتله ونقتل أهله معه (ثم لنقولن لوليه) أي أوليائه وعصبته (ما شهدنا مهلك أهله) أي: ولا مهلكه هو، وهذا يدل على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه.
قوله تعالى (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58))
وفيها قصة لوط وقد تقدمت في سورة الأعراف (80-84) ، وسورة هود (77-83) وسورة الحجر (57-77) ، وسورة الأنبياء (71-75) .
قال ابن كثير: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ، أي: لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا، كما قال في الآية الأخرى:
(أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) .
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (إنهم أناس يتطهرون) قال: من أدبار الرجل وأدبار النساء استهزاء بهم.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة أنه تلا (إنهم أناس يتطهرون) فقال: عابوهم والله بغير عيب أي إنهم يتطهرون من أعمال السوء.
وانظر سورة الأعراف آية (83) لبيان قوله تعالى (فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي من الباقين في عذاب الله تعالى.
قوله تعالى (وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ... ) أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله (حدائق ذات بهجة) قال: النخل الحسان.(4/32)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
قوله تعالى (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون)
قال ابن كثير: (وجعل بين البحرين حاجزا) ، أي: جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا، أي: مانعاً يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس. والمقصود منها أن تكون عذبة زلالا تسقي الحيوان والنبات والثمار منها. والبحار المالحة المحيطة بالأرجاء والأقطار والأرجاء، من كل جانب، والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحا أجاجا لئلا يفسد الهواء بريحها، كما قال تعالى (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) .
وانظر سورة لقمان آية (10) لبيان رواسي أي: جبال.
قوله تعالى (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون)
قال ابن كثير: وقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الأرض) ، أي: يخلف قرناً لقرن قبلهم خلفا لسلف، كما قال تعالى (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) ، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات) .
قوله تعالى (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون)
قال ابن كثير: يقول (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) أي: بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) وقال تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ... ) الآية.(4/33)